نسائم الخيرات، وبشائر البركات
عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُخرج صاحبها من الظلمات إلى النور، وتُنقذه من عبادة المخلوقات، والتعلِّق بالأموات والقبور، وتزحزحه عن النار، وتدخله الجنة يوم البعث والنشور.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، هدى الله ببركة دعوته، وبما جاء به من البينات والهدى هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارِفين، حتى حصل لأمَّته عمومًا، ولأهل العلم منهم خصوصًا من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسَُِّنن(1) المستقيمة، ما لم يحصل لأمة من الأمم.
فصلى الله عليه صلاة دائمة باقية عدد ما خلق ربنا وذرى، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
نسائم الخيرات، وبشائر البركات.
فهذي نسائم الخيرات قد انتشرت، وبشائر البركات قد أقبلت، ومواسم العطايا والمنح قد أظلت.
قد دخل الشهر الذي تَشبَعُ فيه الأرواح، وإن جاعت البُطون، وتقوى فيه القلوب وإن ضعُفت الأجسام، وتسمو فيه النفوس وتعلو الهمم، وتهبِط اللذائذ، وتموت الشهوات.
قد جاء شهرُ المنافسةِ في الخيرات، والتسابق إلى الأعمالِ الصالحات، والتقربِ من رب الأرض والسموات، يشتري فيه المؤمنون أنفس ما يجدون، ويختارون لأنفسهم أرفع الأعمال وأزكاها، ويبادرون في مرضاة ربهم، ويبيعون الدنيا وحظوظَها بالفوزِ برحمة ربهم.
أُثامِنُ بالنفسِ النفيسةِ ربَّها وليس لها مِن الخلْقِ كُلِّهم ثمنُ
بها تُدرَكُ الأُخرى؛ فإن أنا بعتُهُا بشيءٍ من الدُّنيا فذاكَ هو الغبنُ
لئن ذهَبَتْ نفسي بدُنْيا أصبْتُهُا لقد ذَهبَتْ نفسي، وقدَ ذهَبَ الثمنُ(1/1)
هذا الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفَّدُ الشياطين(2)، ترغيبًا لفعل الخيرات، وإعانةً للنفس على امتثال الأوامر، والمبادرة إلى فعل الطاعات، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصِر.
هذا شهر الصوم، الذي يُقسم الحبيبُ ' على محبةِ ربه لآثاره فيقول: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده لَخُلُوف فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))(3).
هذه الرائحة المنبعثة من الفم، عندما تخلو المعدةُ من الأكل، ينفُرُ الناس منها، ولا يُحِبُّون رائحتها، ولكنها عند الملكِ الكريم، البرِّ الرحيم أطيبُ من أطيب الطيب؛ لأنها ناشئةٌ عن طاعته، واتباع مرضاته.
والله إن الإنسان ليحتقر نفسه، أمام هذا الكرم والعطاء، وفتْحِ أبواب الخير، وغلْقِ أبواب الشر.
أنا العبدُ المسكين، الحقيرُ الضعيف، يحب الله أثر العبادة مني، حتى تكون أطيب من ريح المسك، وهو الذي فرضها علي، ويسَّرها لي، ثم يثيبني عليها أعظم الجزاء وأجزله؟؟!!
نعم يا أخي؛ إن الله يحب من عبده أن يتقرب إليه بما افترض عليه، وقد جاء في حديث الأولياء، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ' ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))(4).(1/2)
مسكينٌ والله! هذا الذي يظنُّ أنَّ أهلَ الدنيا بما يقيمونَ في الأعوام من مهرجاناتٍ ومسابقاتٍ واحتفالاتٍ، ومتاجرات ومرابحات، يُعطون أكثرَ وأفضلَ مما يمنَحُ اللهُ.
هل يستوي عطاءُ من لا تنفدُ خزائنُهُ ولا تفنى، بمن قال خالقُهُ فيه {قلْ لو أنتُم تملِكُونَ خزائنَ رحمةِ ربي إذاً لأمسكتُم خشيةَ الإنفاقِ وكانَ الإنسانُ قَتُوراً}، ثم هو معَ ذلك تنفدُ خزائنُهُ وتبلى؟!
كأني بذلكَ المحرومِ؛ الذي طوتُه الأيامُ والليالي، وأسلمتْهُ إلى أجلِهِ المحتومِ، وقد رأى المتاجِرِين قد وزِّعتْ بينهم أرباحُهُم، ورُفِعتْ درجاتُهُم، يصيح بأعلى صوته: رب ارجعون؛ لعلِّي أعملُ صالحاً فيما تركت.
فيرتدُّ عليه الجوابُ أشدَّ مِن وقْعِ العذابِ: كلا؛ إنها كلمة هو قائلُهُا، ومن ورائهم برزخٌ إلى يومِ يُبعثون.
ليس للميتِ في قبرِه فِطْرٌ ولا أَضْحى ولا عَشْرُ
ناءٍ عن الأهلِ على قُربِهِ كذاكَ مَن مسْكَنُهُ القبرُ
إليك يا أخي هذه الوقفات في بركات هذا الشهر وخيراته ونفحاته، لتشمر عن ساعد الجد في استثمار أوقاته وساعاته، ولتفوز فيه برضوان الله ومغفرته وجناته.
1- الصوم لي، وأنا أجزي به.
في الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة أن النبي ' قال: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي)).
أوليست العبادات كلها لله؟ فلماذا اختص الله هذا العمل بالإضافة إليه؟
أوليس الله هو الذي يُجازي على الأعمال الصالحة؟ فلماذا أضاف الله جزاء الصوم له؟(1/3)
إن الصوم عبادةُ السرِّ بين العبد وربه، لا يعلم أحدٌ من الناس بإمساكِكَ عن الطعام والشراب لأجلِ الله، إلا أن تُخبرهم بذلك، ومن يحولُ بينك وبين الأكل والشرب حين تُغلق الأبواب، وتُرخى الستور، وتخلُو بنفسك، حيث لا يراك أحد من الإنس؟
إنما الخوف من الله، والطمعُ في ثوابه، والرَّجَا بحسن لقائه هو الذي يحول بينك وبين الأكل والشرب.
الإخلاص؛ لُبُّ الأعمالِ وروحها، ومحرِّكُ الجوارحِ ومثيرها، ومقوي العزائمِ وممضيها، وله ثمراتٌ عظيمة في تيسير الأمور، وتذليل الصعاب، وإزاحة العقبات عن كثير من المشروعات التي يفعلها المسلم.
بالإخلاص تطمئن القلوب، وتهدأ النفوس، لأنها تعامل علام الغيوب، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم السر وأخفى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً (9)} [سورة الإنسان 76/9].
قال أشعب بن جبير: لقيني رجل في بعض سِكَكِ المدينة، فقال لي: كم عيالُك؟ فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أُجْرِيَ عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيًا. فقلت: من أَمَرَك؟ قال: لا أُخبرك. قلت: إن هذا معروفٌ يُشكر. قال: الذي أمرني لم يُرِدْ شُكرك.
قال أشعب: فكنت آخُذُ ذلك المال، إلى أن توفي خالدُ بنُ عبدِ الله بنِ عمر بنِ عُثمان بن عفان، فحفلَ لهُ الناسُ، وشهِدُّت جنازته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب! هذا والله صاحبك الذي كان يُجري عليك ما كنت أعطِيك.
وإذا أخلص العبد لله اجتباه ربه وهداه، وأحيى قلبه، وبارك في وقته، وصرَفَ عنه السوء والفحشاء، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف 12/24].(1/4)
أما الذين لم يُخلِصوا ففي قلوبهم وجلٌ واضطراب، وفي نفوسهم حيرةٌ وارتياب؛ لأنهم لا يُأمِّلون إلا عطاءَ مخلوقٍ مثلهم، في دنيا حقيرةٍ فانية، فيهوون كل ما يَسنَحُ لهم، ويتشبثونَ بكلِّ ما يهوون، كالغُصنِ الرَّطيب؛ أيُّ نسيم مرَّ به عطفَهُ وأماله.
هذا سر من أسرار الإضافة.
ومن جزاء الصوم ما رواه البخاري عَنْ سَهْلٍ _ عَنْ النَّبِيِّ ' قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)).
هذا جزاءُ حبسِ النفس عن الماء وسائر الملاذِّ في الدنيا، طاعةً لله، بابُ الريان لمن عطِشوا في الدنيا قليلاً، ونهوا النفس عن أهوائها؛ فكان جزاؤهم من جنس عملهم، رِيٌّ يوم القيامة لا يعْطَشون بعده أبدًا.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ عَنْ النَّبِيِّ ' قَالَ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))(5).
كم من الذنوب التي أثقلت الكواهل، وأصدأت القلوب، وحالت بين النفوس وبين الرغبة في الخير، وصومُ رمضان يغفر الذنوب، ويصفي القلوب، ويزكي النفوس.
وليس هذا فحسب؛ بل الخير والبركة، والثواب والجزاء أعظم مما تتصور، وأكبر مما تتخيل، إنه من الله، عطاءٌ لا يعلمه أحد، ولا يستطيع أن يحيط بحقيقته أحد.
2- الصبر العطاء الواسع العظيم.
الصبرُ مِن أعظم الأخلاق وأنفعِها، فبِه تنفتِح وجوهُ الآراء، وتُستدْفَعُ مكائدُ الأعداء؛ فإن من قلَّ صبرُه عزَبَ رأيُه، واشتدَّ جزَعُه، فصارَ صريعَ همومِه، وفريسةَ غُمومه.(1/5)
وإنما يُطيقه أصحابُ الهممِ العالية، والنُّفوسِ الأبية الكريمة، الذين تربَّوا على سمو النفس، وشَرَف الْخُلُق.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ _ إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ' فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: ((مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ))(6).
قال عمر بن الخطاب: )أفضلُ عيشٍ أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا(.
وقل من جَدَّ في أمرٍ يحاوله…واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
وفي الصوم صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على قضاء الله وقدره، من الجوع والتعب والنصب.
فعبادةٌ واحدة تجتمع فيها أنواع الصبر الثلاثة، إنها والله عبادة عظيمة.
وما أحوج المسلم إلى الصبر في زمان تلونت فيه الشبهات، وتزينت فيه المنكرات، وتزخرفت الدنيا، وظن أهلها أنهم قادرون عليها.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمنٍ تُسمَّى فيه الفواحش بغير أسمائها، وتُبرَزُ فيه الرذيلة بأبهى الصور وأجملها، ويُجلِبُ شياطينُ الجن والإنس بخيلهم ورجِلِهم في صدِّ الناس عن دين الله، وشَغْلِهم بما يصرفهم عن طاعة الله وعبادته.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمنٍ تتقاذفُ أهلَهُ الشُّبهاتُ المضلة، والعقائدُ المنحرفة، وتُتبع فيه الآراءُ المجردةُ عن الأدلة، بغير سلطان من الله، ولا كتاب منير.(1/6)
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمن يُتخذ فيه الهوى الإلهَ المعبود، والمالَ الهدف المنشود، واللذةَ الفانية الغايةَ المطلوبة، فتنتهك الحرمات، وتغتال الحريات، وتنسف المبادئ الشريفة، وتباع الأخلاق الفاضلة الكريمة، لأجل عرض من الدنيا زائل.
والصائم يصبر على الأذى من إخوانه؛ لأنه لا يقابل السيئة بمثلها، ولكنه يعفو ويصفح.
ويصبر على الأذى في سبيل الله، حين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبذل جهده لينقذ أمته مما هي فيه من ظلمات الجهل والمعاصي.
وكم في سبيل الدعوة إلى الله من الأذى، وكم في طريق الخير من الوصب والتعب، وكم يلقى الداعية المصلح من العنت والمشقة، وكل ذلك يهون في سبيل الله، ولطلب مرضاة الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [سورة التوبة 9/120].
3- صوم القلب.
القلب هو محلُّ السعادة والشقاء، والإيمانِ والكُفر، واليقينِ والشك، وإنما فُرضَ الصيامُ لأسرارٍ وحكم لا يُدركها من كان أكبرَ همه أن يمتلأ بطنُه بعد طولِ فراغ، وأن يُطفئ حرارة الجوع، وشدةَ العطش، عند مغيب الشمس، وذلك آخرُ عهده بالصوم.
إنما فُرض الصوم ليسُلَّ من الصدورِ سخائمها، وليرفع عن القلوب أوضارها، وليؤت النفوس زكاتها وتقواها.(1/7)
بالصوم تنسدُّ مسالِكُ الأكل والشرب، ويفرَغُ القلب للتذكر والتدبر، والنظر والتأمل، فيرى حقيقة الدنيا، وحقارتَها، وقِلة شأنِها وهوانَها، وأنها مهما طالت فهي قصيرة، ومهما اتسعت فهي ضيقة، ومهما أعطت فهي عما قليل آخذة، وأنها تأخذ أكثر مما تعطي، وأن الله قد قسَّم فيها الأرزاق بحكمة وعدل، وبسط فيها من الخيرات ما يعين على الطاعة، ويباعد عن المعصية.
ويرى أن ما قُسِم له لم يكن ليخطئه، وما مُنِع عنه لم يكن ليصيبه.
ويرى أن الحسد إنما يأكل قلبه قبل أن يصيب المحسودين، وأن الغِلَّ يُفرِّق بين الإخوان، ويمزق الجسد الواحد، أشد مما يمزق الذئب الجائع بدن فريسته.
في الحديث الصحيح المتفق عليه عن النبي ' أنه قال: ((الصيام جنة)).
والجنة هي الوقاية والستر؛ فالصائم الصادق قد ستر قلبه عن الأحقاد والضغائن، وحال الصومُ بينه وبين ما يُفسده من أمراض القلوب، التي تقتل صاحبها في الدنيا، قبل أن تقتله أمراض البدن؛ فصار يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وينصح لهم.
ألا يكفي ذمًا للملاحاة والتباغُضِ، والتقاطُعِ والتدابُر أنها قاطعةٌ للبر والصلة، ماحقةٌ للخير والبركة، مانعةٌ من وصولِ العمل إلى الله، ورفعه إليه؟! حتى حيل بيننا وبين معرفة ليلة القدر بسبب ملاحاة رجلين(7)!
كيف يصوم من أفطر قلبه على سيء الأعمال، وكريه الأخلاق، وانطوى صدره على الغش لإخوانه، وإلقاء العداوة بينهم، وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم؟
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
4- صوم اللسان.
إذا صام القلب عن الهموم والإرادات الفاسدة، صامت الجوارح عن الآثام والأعمال الباطلة، وأعظمُ الجوارح اللسان، فقلَّ أن تجد أحدًا من الناس يطيق أن يمسك لسانه، بل ما أكثر المتهاونين به، الخائضين به في كل حديث، والوالغين به في كل عِرض، المجادلين به في كل باطل.(1/8)
في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَله، فليقُل: إني امرؤ صائم)).
وفي تعويد اللسان على الإمساك عن اللغو والرفث، والصخب والجهل، والجدال(8)، خيرٌ عظيم، فإن مقْتَلَ الرجلِ بين فكيه، وكم جر اللسانُ صاحبَه إلى عورته وهو لا يشعر، وكم أكب من الناس على مناخرهم في نار جهنم.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ' فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ؟
قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)) قَالَ: ثُمَّ تَلَا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يَعْمَلُونَ}
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟))
قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟))
قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)).(1/9)
فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!
فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))(9).
قال بعض السلف: الغيبةُ تَخْرِقُ الصيام، والاستغفارُ يرقَعُه، فمن استطاع منكم أن لا يأتِيَ بصومٍ مُخَرَّقٍ فليفعل.
بل إنه ليُخشى على الصائم الذي أمسك عن الطعام والشراب، ولم يُمسك لسانه عما حرم الله أن يَمْقُته الله؛ فيُحبِطَ عمله، فيذهبُ جهده هباءً، ولا يكونُ حظُّه من الصوم إلا الجوعَ والعطش.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ': ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))(10).
والزور في هذا الحديث هو الكذب، وفيه بيان لأولي النهى، وأصحاب العقول أن الله لم يشرع الصيام لنُحرم من الأكل والشرب ساعاتَ النهار، ولكنَّ المقصودَ أن نكسِر شهوات النفس، ونمسك عِنان اللسان عن تتبع العورات، والخوضِ بالباطل، ونحفظَ الجوارح عن ارتكاب ما حرم الله، {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [سورة الحج 22/37].
5- السحور بركة!
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ': ((تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً))(11).
البركة هي نزول الخير الإلهي في الشيء، وثبوته فيه، والزيادةُ في الخير والأجر، وفي كل ما يحتاجه العبد من منافع الدنيا والآخرة.
والسَّحور إنما يكون وقت السحر، قبيل أذان الفجر.
وإن من أعظم بركات السَّحور الاستجابةَ لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)} [سورة الأحزاب 33/71].(1/10)
ومن بركاته أنه شعارُ المسلمين؛ فإن أهل الكتاب لا يتسحرون، وقد صح عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((فصْلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتاب أَكْلةُ السَّحَرِ)).
ومن بركاته حصولُ الخيريةِ، والمحافظةُ عليها، فعن سهلِ بنِ سعْدٍ الساعديِّ _ أن النبي ' قال: ((لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر، وأخَّروا السَّحُورَ))(12).
ومن بركاته التقويةُ على طاعة الله، والإعانةُ على العبادةِ، والزيادةُ في النشاط، والرغبةُ في فعل الطاعة مرةً أخرى.
ومن بركاته أن الله وملائكته يُصلُّون على المتسحرين(13).
ومن بركاته أنه في وقتٍ تتنزلُ فيه الرحمات، وينزِلُ الربُّ جلَّ وعلا فيه، مناديًا عباده هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له؟
فما أسعدكَ يا عبدَ الله، يا من أطعت الله واستجبت لأمره، تأكل الأكلة، تكون لك فيها كل هذه البركة!!
6- القيام بين يدي الملك.
الصلاة هي قُرَّةُ عُيونِ المتقِينَ، وراحةُ قُلوبِ الموحِّدينَ، بِهَا تُزال الهموم، وتُبعثرُ الغُمومُ، وتُحطُّ الذنوبُ، حينَ يقِفُ العبدُ الحقيرُ بين يدي ربِّه وقْفةِ الذُّلِّ والانكسارِ والخُضوع، ساكنَ الجوارِح، حاضِرَ القلبِ، خاشِعَ البصرِ، يرجو رحمةَ ربِّه، ويحذرُ الآخرة.
قال بكْرُ الْمُزَنِي: مَنْ مِثْلُكَ يا ابنَ آدم؟! خُلِّيَ بينكَ وبين المحرابِ والماءِ، كُلَّما شِئت دخلْتَ على الله عزَّ وجل، ليس بينك وبينه تُرجُمَان(14).
ما أجملها من لحظات، وما أطيبها من نفحات، وما أبركها من ساعات، تلك الساعة التي يُرفع فيها الحجابُ بينك أيها العبدُ الحقيرُ الفقيرُ، وبين الملك العظيم الغني الحميد.(1/11)
ما أعظم تلكَ الساعةَ التي تُخاطِبُ فيها ربَّكَ، فيجيبُك، تقول: الحمد لله رب العالمين؛ فيقول الله: حَمِدَني عبدي، ثم تقول: الرحمنِ الرحيم، فيقول الله تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، ثم تقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فيقول الله تعالى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، أو فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، ثم تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فيقول الله تعالى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، ثم تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فيقول الله تعالى: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ(15).
لا والله الذي لا إله غيره، ما في الدنيا لحظةٌ أعظمَ من هذه اللحظة، ولا ساعةٌ أطيبَ من هذه الساعة، حين يُناجِي العبدُ ربَّه، فيجيبُه ربه ويُكلِّمه، ويردُّ عليه، ويستجيبُ دعاءه.
أخرج أبو نعيم في الحِلية(16) عن ثورِ بن يزيدٍ قال: قرأتُ في بعضِ الكتب أنَّ عيسى عليه الصلاةُ والسلامُ قال: يا معْشَرَ الحواريين، كَلِّمُوا الله كثيرًا، وكلِّمُوا الناس قليلاً. قالوا: كيف نُكلِّمُ الله كثيرًا؟ قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدعائه.
وصومُ رمضان قد قُرِن بالقيام، ولهذا شُرع فيه الاجتماع للصلاة النافلة، ما لم يُشرع في غيره؛ لتتقوى النفوسُ الضعيفةُ، ويسمعَ القرآنَ من لا يستطيع قراءتَهُ لوحْدِه.
صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه))(17)، أي تصديقًا بوعْدِ الله بالثوابِ عليه، وطلبًا للأجرِ، لا لقَصْدٍ آخرَ مِنْ رياءٍ ونحوِه.
فأيُّ نِعْمةٍ أجلُّ، وأيُّ عَطاءٍ أعظمُ من غُفرانِ الذُّنوب، وسَتْرِ العيوب؟!
7- ليلةٌ خير من ألف شهر!(1/12)
عطاءُ ربِّنا لا ينفَدْ، وخزائنُه لا تَفنى، وجودُه لا ينقَطِعْ، ومن جودِه وكرمِه، هذه الليلةُ التي نَزلَ فيها القرآن، وتتنزلُ فيها الملائكة الكرام، وفيها يُفرَقُ كُلُّ أمرٍ حكيم، سلامٌ هي حتى مَطْلعِ الفجر، من فاز بها فقد حاز الخير كله، العملُ فيها خيرٌ من ألف شهر.
وقد صح عن النبي ' من حديث أبي هريرة أنه قال ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)).
ألا يكون محرومًا من حُرِم هذا الخير؟!
أيُّ غَبْنٍ أعظمُ من أن يُدرك أحدَنَا رمضانُ ثم يخرج ولا يُغفرُ له؟!
أيُّ خيبةٍ أعظمُ من تلك الخيبة؟!
الصوم يَغفِرُ ما تَقدَّمَ من الذُّنوبِ، والقيامُ يغفِرُ ما تقدَّم من الذنوبِ، وقيامُ ليلةٍ واحدةٍ يغفِر ما تقدَّم من الذُّنوب، فهل بعد هذا الخير من خير؟!
وهل بعدَ فتح هذا البابِ العظيمِ من أبوابِ الغُفْران وتكفيرِ السيئات من عُذْرٍ لمعتذر؟!
8- للصائم فرحتان؟!
بالصومِ يفرحُ المؤمنون حين تحينُ ساعةُ الإفطار، فيضعُ المؤمنُ التمرةَ في فيه لتُسكِتَ تلك الجوعةَ الثائرةَ في البطن، إنها لحظةٌ من لحظات التلذذ بالأكلِ، بعد مدةٍ من الامتناع عنه، والله يثيبُنا على ذلك، بل يعدُّه نبينا ' من الفرحِ المحمود، الذي يفرحُ به المؤمن، فما أعظم مِنَّة الله وفضلَه، حتى الأكلةُ التي ينتهي بها الصوم، وتختم بها العبادة، هي محبوبةٌ عند الله!!
نعم؛ لأن الصائم قد ترك شهواتِه في النهار تقربًا إلى الله، وطاعة له، وبادرَ إليها بالليل تقرُّبًا إلى الله، وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر به، فهو مطيعٌ في الحالين، مطيعٌ حين يُمسك، ومطيعٌ حين يأكل، ولهذا جاء في الأثر ((إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد))(18)، حيث تلتقي الطاعتان طاعةُ الإمساك وطاعةُ الأكل.(1/13)
ثم الفرحةُ الثانيةُ العظيمة، حين يلقَى العبدُ ربَّه، في ذلك اليومِ العصيبِ، الذي تشيبُ لهوله الولدان؛ فيرى آثارَ الصيامِ ظاهرةً، وبركاتِه منتشرةً، فيُدخلُه الصيام من باب الريان، ويشفعُ له عند المليك الديان، فيفرح المؤمن بلقاءِ الله حين يرى عظيمَ الثواب، ووافر الجزاء، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [سورة يونس 10/58].
9- لعلكم تتقون.
التقوى خيرُ الزادِ، وخيرُ اللباس، وصيةُ الله للأولين والآخرين، وهي العُدَّةُ في الشدائد، والعون في الملمات، ومهبطُ الروح والطمأنينة، ومتنزل الصبرِ والسكينة.
ورمضانُ شهرُ التقوى، وقد صرَّح الله بالحكمة من فرض الصيامِ بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [سورة البقرة 2/183].
والتقوى هي: أن تعملَ بطاعةِ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله، وإنما تكون بالعلم النافع، والعمل والصالح.
فإذا خرجت من رمضان، وقد فزت بالتقوى، فبالله عليك ماذا بقي من الخير ما حُزته؟! ومن البركات ما حصلتها؟! ولن يهلك من كانت التقوى زادَه، والله جل وعلا يقول {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)} [سورة مريم 19/72]، ويقول {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17)} [سورة الليل 92/14-17].(1/14)
أيها الإخوة، أما والله لو جلست أتحدث عن فضائل هذا الشهر وخيراته، وأسراره وبركاته، إلى بزوغ الفجر، ثم إلى مغيب شمسِ يومٍ آخر، ما وفيت فضائلَ الصومِ وشهرِه حقَّه، وكيف أوفي فضائلَ عملٍ أضافه الكريم إلى نفسه؟! وبركاتِ شهر نزل فيه أعظم حجج الله على خلقه؟ وفيه ليلة لا يماثلها ألف شهر؟!
والمحروم من حرم خيره، والسعيد من كفته الإشارة إلى فضله، ورضي بإضافة الجزاء إلى ربه، وشمر عن ساعد الجد لينجو بنفسه، ويزرع في يومه ما يلقاه غدًا في قبره، وبين يدي ربه.
اللهم إن في قلوبنا تفرقًا وشعثًا لا يَلمُّه إلا الإقبال عليك، وفي قلوبنا وحشةً لا يزيلها إلا الأنسُ بك في الخلوات، وفي قلوبنا حزَنًا لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفتك، وصدقُ معاملتك، وفي قلوبنا قلقًا لا يُسكِنُه إلا الاجتماعُ عليك، والفرارُ منك إليك، وفي قلوبنا نيرانَ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمرك ونهيك وقضائك، ومعانقةُ الصبر على ذلك إلى وقت لقائك، وفي قلوبنا فاقةً لا يسدُّها إلا محبتُك والإنابةُ إليك، ودوامُ ذكرك، وصدقُ الإخلاصِ لك، فاللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، حتى نلقاك بقلوب سليمة منيبة.
اللهم يا من عم جوده البر والفاجر، وفاض عطاؤه على المؤمن والكافر، ووسعت رحمته كل شيء، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، وقيوم السموات والأرض ومن فيهن، نسألك رحمة ترفع بها درجتنا، ومغفرة تمحو بها ذنوبنا، اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من عتقائك من النيران، فقد أسرتنا الذنوب، واستوحشت منا القلوب، واستولت علينا زخارف الدنيا، فشغلتنا عن الدار الآخرة.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد أن تنصر المستضعفين، وأن تدفع الكرب والضيق عن إخواننا المظلومين، وأن تشدد وطأتك على المعتدين الباغين، إنك أنت القوي العزيز.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم...
وكتبه عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصين(1/15)
(1) قال في القاموس: سنن الطريق: مثلثة، وبضمتين: نهجه وجهته.
(2) كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه البخاري.
(6) متفق عليه.
(7) كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت.
(8) ورد عند سعيد بن منصور من طريق سهيل ابن أبي صالح عن أبيه ((فلا يرفث، ولا يجادل)).
(9) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد وابن ماجه،
(10) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور في الصوم.
(11) متفق عليه.
(12) متفق عليه.
(13) رواه ابن حبان، والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني.
(14) جامع العلوم والحكم (83).
(15) ثبت ذلك في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة.
(16) (2/229).
(17) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(18) رواه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والطبراني في الدعاء، قال في الزوائد: إسناده صحيح، وقال الحافظ ابن حجر: هذا حديث حسن، أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير، وأخرجه الحاكم في المستدرك.
??
??
??
??(1/16)
استقبال المسلمين لرمضان
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
بسم الله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وارض اللهم عن أتباعهم الأئمة لهداة وعنا معهم ووفقنا اللهم إلى ما تحبه وترضاه. وبعد:
فقد كان المسلمون يستقبلون شهر رمضان بفائق العناية ويولونه أشد الاهتمام ويستعدون لمقدمه فرحا بقدومه، واستبشارا بفضله.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا ببلوغه رمضان. فإذا دخل شهر رجب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
وكان المسلمون يستقبلونه بقولهم: اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه. وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن. وذلك لما يعلمون من فضل رمضان وسعة فضل الله عليهم فيه، وما ينزله تعالى على عباده من الرحمات، ويفيضه عليهم من النفحات ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات. حيث يفتح لهم أبواب الجنان، ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان. فهو للأمة ربيعها، وللعبادات موسمها، وللخيرات سوقها. فلا شهر أفضل للمؤمن منه ولا عمل يفضل عما فيه. فهو بحق غنيمة للمؤمنين.(2/1)
قال صلى الله عليه وسلم: "أظلكم شهركم هذا. بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه. ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه. بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله. ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله وذلك أن المؤمن يعد فيه القوت والنفقة للعبادة. ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم فغنم يغنمه المؤمن". إنه غنم له في العبادة تضاعف له فيها أجر الصلاة وأجر الصدقة ويتاح له القيام مع الصيام، ويتجه فيه إلى تلاوة القرآن. ومجالس الإيمان فيتزود منه إلى عامه كله. ولهذا كان السلف يسألون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا بلغوه سألوه أن يوفقهم فيه، ويرزقهم الجد والنشاط فإذا أكملوه سألوا الله بقية السنة أن يتقبله منهم.(2/2)
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من حرم الفضل من رمضان لا يناله في غيره، ومن لم يغفر له في رمضان باعده الله في النار. وذلك لما صعد المنبر فقال: "آمين. آمين. آمين..". فسألوه عن ذلك فقال:"أتاني جبريل فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل آمين فقلت آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما ولم يغفر له باعده الله في النار فقل آمين فقلت آمين، ومن ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل آمين فقلت آمين". ومن عجب أن جبريل عليه السلام وهو ملك الوحي والرحمة يقول عن مسلم أدرك شهر رمضان ولم يغفر له باعده الله في النار ولكن ينتفي العجب إذا تأملنا فضائل رمضان وتعرفنا خصائصه فوجدناه شهر الرحمة والمغفرة وأن وسائل المغفرة والرحمة من الطاعة والقربة متوفرة، ودواعيها ميسرة والأعوان عليها كثيرون. وفي الوقت نفسه عوامل الشر محدودة ومردة الشياطين موصدة ورحمة الله تعالى منزلة، ولله فيه عتقاء من النار في كل ليلة. وأبواب الجنة مفتحة كلها وأبواب النيران مغلقة كلها. فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذاً، ومن لم يكن أهلا للمغفرة في هذا الشهر ففي أي وقت سيكون أهلا لها، كمن حضر موسم ربح فخفق ولم يربح فمتى يحصل على الربح. ومن خاض البحر ولم يطهر، فما الذي سيطهره.
وهكذا فمن لم ينل المغفرة في رمضان بالتوبة والإقلاع والعودة إلى الله والالتجاء وعمل الطاعات والدعاء فمتى ينالها وإذا حرم ليلة فيه خير من ألف شهر فماذا يرجى بعدها إن هذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا". أي إذا كان وقوفه بين يدي ربه سبحانه ومناجاته إياه خمس مرات كل يوم لم تؤثر فيه ولم يجد لها أثرا في نفسه فأي مواقف بعدها ستنهاه.(2/3)
وكذلك هنا، وأيضا الذي يأبى أو يتوانى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماعه ذكره مع كبير حقه عليه وعظم قدره عند الله. وعظيم ما أجراه الله من الخيرات للأمة وللإنسانية كلها على يديه صلى الله عليه وسلم فما من خير يقربنا إلى الله إلا دلنا عليه ولا من شر يباعدنا عن الله إلا حذرنا منه وقد أمرنا بالصلاة والسلام عليه ووعدنا رب العزة بالصلاة علينا عشر مرات إذا نحن صلينا عليه مرة واحدة فمن يتأبى بعد ذلك يكون جاحدا للفضل كافرا للنعمة محروما من صلوات الله ورحماته عليه فباعده الله في النار.
وكذلك من يدرك أبويه اللذين هما سبب وجوده في الدنيا ولم يجعلهما سببا لوجوده في الجنة مع أن الجنة تحت أقدام الأمهات فإنه يكون عاقا لوالديه غير بار بهما فباعده الله في النار، ومن عجب أن نجد اقتران هذه الأمور الثلاثة : شهر رمضان بر الوالدين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم موجبات للجنة مبعدات في النار. لأن حق الوالدين مقرون ومرتبط بحق الله تعالى:(2/4)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون ومرتبط بذكر الله تعالى. فقرن بهما رمضان لعظم حقه، ومزيد فضله وما خصت به هذه الأمة فيه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم؛ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل كل يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة ويصيروا إليك. وتصفد فيه مردة الشياطين فلن يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون فيه من غيره. ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال : لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب. وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".
نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى الخير ويرزقنا الإقبال عليه، وأن يجنبنا الشر ويقصر خطانا عنه، وأن يجعلنا من عتاقائه من النار إنه سميع مجيب.
مشروعية الصيام
فيعتبر الصيام كعبادة دينية متقدم التشريع لدى الأمم الماضية، والأساس في هذا المبحث قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهو مشروع لمن قبلنا. ومفروض عليهم ومؤكد بالكتابة علينا وعليهم سواء اتفقت الكيفية أو اختلفت فلكل أمة في فروعها وكيفيات عباداتها شرعة ومنهاج.
وقد جاءت صور متنوعة لصيام من قبلنا نورد بعضا منها لا للحصر وللاستقصاء ولكن على سبيل النماذج والأمثلة.(2/5)
فمن ذلك ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصيام صيام أخي داود كان يصوم يوما ويفطر يوما". وعنه أنه قال: "أما اليوم الذي أصوم فيه فأتذكر الفقراء، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشكر نعمة الله".
ومن ذلك ما جاء في نوع صيام مريم عليها السلام في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}. فكان صياما عن الكلام لا إمساكا عن الطعام.
ومن ذلك صيام نبي الله موسى عليه السلام في المواعدة كما قال العلماء عند قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فقالوا قضى أيامها صائما تهيؤا للملاقاة واستعدادا للمناجاة. وعن نبي الله موسى أيضا صيام يوم عاشوراء شكرا لله أن أنجاه الله من فرعون في ذلك اليوم وتوارث اليهود صيامه عنه إلى أن قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وكانوا في الجاهلية يصومونه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكانوا يعظمون الكعبة فيه ويجددون كسوتها.
أما أول مشروعية الصيام في الإسلام فكان هو صيام يوم عاشوراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه سألهم عن السبب في صيامه فقالوا له: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكرا لله فصمناه وها نحن نصومه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم" فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بصيامه, وأرسل إلى ضواحي المدينة مناديه من كان صائما فليتم صيامه، ومن لم يكن صائما فليمسك بقية يومه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر". أي ليغاير صيامه صيام اليهود بضم التاسع إلى العاشر، وهنا وقفة وتأمل في كلا الأمرين، صيامه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء كصيام اليهود إياه، وصيامه التاسع مع العاشر مغايرة لهم. ففي الأول موافقة لهم في صومهم وفي الثاني مخالفة لهم بالزيادة عليهم.(2/6)
والواقع أن صيامه صلى الله عليه وسلم لم يكن لمجرد موافقة اليهود بدليل مخالفته لهم بضم التاسع إليه ولتصريحه صلى الله عليه وسلم بأن السبب في صيامه هو السبب الذي دعا موسى عليه السلام إلى صومه وهو امتنان الله تعالى عليه بطريق في البحر يبسا ونجاته من فرعون وقومه فصامه شكرا لله وهذا السبب له أهميته وعظيم مدلوله في جميع الأديان وتاريخ الرسل مع الأمم لأنه إعلان وإثبات لانتصار الحق على الباطل في الصراع الدائم على البقاء وإلى الصلاح والإصلاح بصرف النظر عن الأطراف والأشخاص وعن الزمان والمكان، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم". كما بين صلى الله عليه وسلم رابطة النبوة بقوله: "نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد". وأبناء العلات هم الإخوة لأب ووحدة الدين في الأصول وفي العقائد فنجاة موسى من عدوه انتصار لدين الله ونبيه. وسواء في المبدأ زمن موسى أو زمن محمد صلى الله عليه وسلم لأنها قضية حق وإظهار عدل. وهذه مبادئ الإسلام والمسلمين.
وإن مما يلفت النظر ويستوقف الباحث هو تعظيم هذا اليوم بصيامه لما أجرى الله فيه من الخير وأن للأمة الاحتفاظ بذكرياتها الجليلة والتعبير عنها بما شرع فيها كالصوم في يوم عاشوراء.
ثم جاء فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة وقد أشارت نصوص مشروعيته إلى ارتباطه بأعظم مناسبة في هذا الوجود كله هي انبثاق فجر الهداية وإشراقة شمس الرشاد التي بددت ظلمات الجهالة، ومهدت سبل السعادة يقول جبريل عليه السلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.(2/7)
فكانت فاتحة الرسالة المحمدية وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} . فكان جديرا بزمن إنزاله تعظيمه بصيامه وإحياءه بقيامه. لتُجَدِدَ الأمة روابطها بربها، وتوثق عهودها بمبادئ دينها ويبقى على جدته لا تبليه الأعوام ولا توهنه الأيام.
وقد جرت حكمة العليم الخبير في مشروعية هذا الركن العظيم فبدأ بالتدرج، أولاً يوم عاشوراء ثم فرض مطلقاً من غير تحديد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} . وإن كانت لم تقيد بعدد إلا أنها مقيدة بجمع القلة أياما معدودات. شبيه بما في قوله تعالى في مبيع يوسف عليه السلام: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} . وكذلك الأيام المعدودات ليهون على النفوس تقبلها، وقد شرع بادئ ذي بدء على التخيير: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . ثم ألزموا به بعد أن توطنت نفوسهم عليه واطمأنت قلوبهم إليه. فحددت لهم أيامه وانتفى عنهم التخيير في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وبقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وبجانب ذلك نوافل وسنن من الصيام في مناسبات وملابسات أخرى انفرد بها الصيام عن سائر العبادات ما كان منها عاما وما كان منها خاصا.
فمن ذلك صيام يوم عاشوراء وإنه ليكفر سنة كاملة.
ومنها صيام يوم عرفة لمن ليس بعرفات وإنه ليكفر سنة قبله وسنة بعده ومنها صيام الست من شوال وإنها مع رمضان بمثابة صيام الدهر.
ومنها صوم يوم الاثنين؛ يوم ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه فيه.(2/8)
وغير ذلك - الأيام المطلقة - كالأيام البيض كل شهر ويوم الخميس...إلى غير ذلك.
كما شرع الصوم جبرانا لنقص أو تفاديا لخطأ، أو خروجا من مأزق؛ فمن صيام الجبران الصيام عن دم التمتع. ومن التفادي للخطأ عدل دم الصيد وجزائه. ومن الخروج من المأزق الكفارة عن الظهار واليمين وغير ذلك.
وهكذا تطور مشروعيته وينفسح تشريعه مما خص به الصيام دون غيره من العبادات.
وإن للقرآن الكريم منهجا خاصا في سبيل تشريع الصيام جملة وتفصيلا وللصيام خصائص وحكم.
لكل عبادة في الإسلام خصائصها وحكمتها، وكلها أنواعُ غذاءٍ للروح تتنوع كأنواع غذاء البدن.
فالصلاة : تنهى عن الفحشاء، وتغسل الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنهر جار أمام بيت أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات"، وتأتي يوم القيامة نورا على الصراط: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وكما في الحديث: "والصلاة نور والصدقة برهان".
والزكاة : طهرة للمال وتزكية لصاحبها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي طهرة للمال من شوائب الحقوق وتعلق عيون المساكين، وزيادة له وحصن. "ما نقص مال من صدقة". "حصنوا أموالكم بالزكاة".
والحج: منافع للناس عاجلا وآجلا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . وفي الحديث: "من أفاض من عرفات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وأيضا: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". هذه هي آثار الصلاة والزكاة والحج فما هي آثار الصيام.(2/9)
الواقع أنها كلها عبادة لله تعالى تعبدنا بها وأوجبها علينا ولا يستطيع إنسان الإحاطة بحكم العبادات لأنها حق لله ولا يعلمها إلا هو غير أننا أشرنا إلى بعض ما جاءت به النصوص فيما تقدم.
أما الصوم فقد تناولته أقلام عديدة وحاولت أن تنسب إليه حِكماً شتى في أكثر من جانب إلا أن البعض قد يذهب إلى جوانب مادية كالعلاج وصحة البدن أو إنسانية كالعطف على المساكين والشفقة وهذه وإن كان الصوم يفيدها إلا أنه لا يختص بها فقد تحصل بغيره. والبعض قد يذهب إلى جانب خلقي تربوي يتعلق بالقوى النفسية من بهمية وسبعية. وروحانية ملكية وأن الصوم إضعاف للأولى بتقليل الطعام، فتتقوى الثانية. وقد يستأنس لذلك بحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه". وهذه أيضاً تابعة للأولى لم تخرج عن الماديات ونطاق الحواشي.
ولكن القرآن نص صراحة على أهم خصائص الصيام وحكمته وأبان بأنها الحكمة والغاية من الأديان كلها. وأنها أخص خصائص الشريعة الإسلامية وهي "التقوى"وذلك في معرض التشريع الأول للصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
و"لعل" أداة نص على العلة والحكمة التي هي التقوى وحقيقة التقوى الوقاية والستر كما قال الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد(2/10)
وهي صيانة المرء من نوازع النفس، وهي جماع الأمر كله في عامة الأديان السماوية ودعوة الأمم السابقين وهذا باب واسع. وقد نص القرآن على أن الغاية من عبادة الناس أولهم وآخرهم من جميع الأمم هي التقوى كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا عبادته كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس.
ثم جاء النص في حق كل أمة ابتداء من قوم نوح عليه السلام في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وكذلك عاد لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وكذلك ثمود لقوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وقوم لوط لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وأصحاب الأيكة لقوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.(2/11)
فكل نبي يدعوا قومه إلى التقوى. وجاء القرآن كله دعوة إلى التقوى. وهداية المتقين كما في مطلع القرآن الكريم: { ألم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، وبيَّن نوع هدايتهم وطريقة عبادتهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
فبين أن الكتاب الكريم كله إنما هو هداية للمتقين وبيان أعمالهم في العقائد والعبادات. وأنها مرتبطة بالتقوى وارتبطت بها نتائج عظام عاجلا وآجلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} حتى طريق العلم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ولو وقع في مأزق جاءته التقوى فأخرجته: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} . ولأن التقوى تمنح معية نصر الله للمتقين: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
وعلى هذا تكون التقوى مصاحبة لهم في الدنيا تصونهم وتحفظهم وتكون لهم وقاية وسترا وكلما جاء الصوم جددها وقواها واكتسبت حصانة ووقاية إلى عام قادم وهكذا كل عام في رمضان.(2/12)
فإذ انتقل من الدنيا لازمته التقوى وساقته إلى أقصى غايته وأمانيه ابتداء من المحشر فيساق إلى الجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وبعد دخولهم الجنة تأتي التقوى فتحلهم مقاما أمينا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ثم تنزلهم منزلة عزٍ لا يتطلعون إلى غيره: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.
وصدق الشاعر في قوله:
ولست أرى السعادة جمع مال
ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا
وعند الله للأتقى مزيد
ومن نعم الله على هذه الأمة أن يجعل ذلك لنا في الصوم. وجعله جُنة نتقي بها كل ما نخشاه وننال بها كل ما نتمناه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصوم جُنة" كما في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين..." إلى آخر الحديث. وعند النسائي: "الصوم جنة ما لم يخرقها". زاد في الأوسط: قيل بم يخرقها؟ قال: "بكذب أو غيبة" . ولعل هذا إشارة إلى الكف عن جميع المعاصي كما نبه عليه حديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".(2/13)
وهنا في جُنة الصائم لم يطالب بترك الزور والعمل به فحسب لأن ذلك مطالب به في كل وقت. ولكنه طولب بترك ما هو له من حق الرد على المعتدي وإسكاته والانتصار لنفسه فإن شاتمه أحد يترك حق الرد عليه وإن كان حقا له ومباحا له إلا أن حق الصيام مقدم وأثر الصوم له فعاليته فكما ترك الطعام والشراب وغيرهما المباحين ومحض حلال له فكذلك يترك حق الرد على من سبه أو شتمه أو قاتله ويرد عليه بقوله: "إني صائم"أن ممسك عن ذلك وفيه وقاية من مجاراة السفهاء والمعتدين لأن الصائم إنسان مثالي ومسلم مسالم بجميع جوارحه لأن التقوى تملأ قلبه فيفيض إخلاصا ومحبة وخشية وخشوعا، ويطهر من الحقد والحسد، والتقوى ستظهر في منطوق لسانه فيكف عن الكذب والغيبة وعن المسابة والمشاتمة بل وعن الرد على من يسبه أو يشتمه..و يقابل الإساءة بالإحسان: "إني صائم". ومثله العين تجللها الوقاية وتحجبها عن النظر المحرم وكذلك الأذن في سماعها وتسمعها. وهكذا بقية الجوارح تصبح في وقاية تامة عن كل منهي عنه. على ما سيأتي بيانه فيما ينبغي على الصائم فعله أو تركه.
وكفى بالصوم خصاصية أن اختصه تعالى لنفسه دون بقية الأعمال كما في الحديث القدسي: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
وللصيام منزلة خاصة بين الأعمال؛ ومما أجمع عليه المسلمون أن الصيام أفضل العبادات. وتقدم بيان عظم نتائجه من تقوى الله تعالى.. ومما يدل على علو منزلته وعظم مكانته أن الله تعالى اختصه لنفسه دون سائر الأعمال وتولى الجزاء عليه لعظيم أجره كما في الحديث القدسي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".(2/14)
ويعد هذا الحديث أعظم مبرز ومظهر لفضل الصيام وبيان منزلته عند الله وهذا الجزء من الحديث يشتمل مسألتين، الأولى بيان أجر الأعمال ومضاعفتها. والثانية منزلة الصوم عند الله تعالى؛ أما مضاعفة الأعمال فقد نص هنا عن الحسنة بعشر أمثالها. وهذا مبدأ عام تقرر ليلة الإسراء والمعراج لما فرض الله على الأمة خمسين صلاة. وراجع النبي ربه في التخفيف حتى استقرت إلى خمس وقال الحسنة بعشر أمثالها فكانت الصلوات الخمس بدلاً من الخمسين صلاة الأولى وتقرر مبدأ في الإسلام وحداً أدنى لمضاعفة الأجر عند الله.
أما الحد الأقصى فلا حد له. فقد يضاعف الأجر بحسب الأعمال أو باعتبار حال أهلها. فمنها ما يضاعف إلى مائة ومنها إلى سبعمائة. بل وأضعاف كثيرة وإلى ما لا يعلم قدره إلا الله.(2/15)
فمن الأعمال التي تضاف إلى سبعمائة وأكثر الإنفاق في سبيل الله لعظم منزلة الجهاد لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}. وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال عند الله عز وجل سبع: عملان موجبان، وعملان بأمثالهما, وعمل بعشر أمثاله, وعمل بسبعمائة, وعمل لا يعلم ثوابه إلا الله عز وجل؛ فأما الموجبان فمن لقي الله يعبده لا يشرك به شيئا وجبت له الجنة. ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار. ومن عمل سيئة جزي بها. ومن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها جزي مثلها، ومن عمل حسنة جزي عشرا. ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم بسبعمائة والدينار بسبعمائة، والصيام لله لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل". ففي هذا الحديث تفاوت الأعمال موجبان للجنة أو النار كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة". وعملان بمثلهما السيئة بواحدة ما لم يتب منها والعزم على الحسنة ما لم يتمكن من فعلها له حسنة فإن فعلها فله عشر حسنات؛ وفي الحديث: "من هم بسيئة ولم يعملها وكان تركه إياها لوجه الله فإن له بهذا الترك حسنة". أما الإنفاق في سبيل الله فإنه يضاعف مئات المرات بحسب إخلاص العبادة وقوة رغباتهم وطواعيتهم وإيثارهم لما عند الله تعالى وتقديم غيرهم على أنفسهم ثقة منهم بما عند الله عز وجل. ولو كانوا في حاجة ماسة لأن الإنفاق وقت الحاجة والفقر أعظم منه عند السعة والغنى كما قال صلى الله عليه وسلم في فضل الإنفاق أنه جهد المقل وفي الصحة والشباب وهو يرجو الغنى ويخشى الفقر لأنه يغالب شح النفس ومصداق ذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ(2/16)
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
لأن مقياس الإنفاق بحسب دوافع النفس وأحاسيسها لا بكثرة المال وتعداده كما قال صلى الله عليه وسلم: "درهم سبق مائة ألف درهم". فقال رجل: كيف يا رسول الله؟ قال: "رجل له مال كثير فأخذ من عرضه - أي من جانبه - مائة ألف تصدق بها ورجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به". فلم يسبق الدرهم الواحد هنا مائة ألف لتميزه عنها في جنسه ولا لغلاء سعره فهو وإن كان نسبته واحدا من مائة ألف بالنسبة للإنفاق إلا أنه من جهة أخرى نسبة واحد من اثنين أي نصف مال صاحبه فكأنه تصدق بنصف ما يملك في هذا الدرهم الواحد أما صاحب المائة ألف فإن نسبة ما تصدق به نسبة جزء من كل وقد لا يؤثر عليه ولا يشعر به. فهذه منزلة الأعمال عمومها وخصوصها من حسنة إلى سبعمائة إلى مائة ألف بحسب الدوافع ونوازع النفس.
أما بالنسبة إلى الصوم لأنه فوق هذا كله وهو داخل في خصوص قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: "الصوم نصف الصبر".(2/17)
أما المنزلة العظمى للصوم فهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". مع أن جميع الأعمال لله وجميع الجزاء عليها من الله تعالى ولكنه خص الصوم بهذه الإضافة. فقيل في ذلك إنها إضافة تشريف كالإضافة في "بيت الله". وقيل لأن الصائم ليس عليه رقيب إلا الله كما في الحديث: "يدع طعامه وشرابه من أجلي". وقيل لأن الله يحفظه لصاحبه يوم القيامة إذا تقاضى الناس بالحسنات وأخذ ممن عليه الحق من حسناته توفية لصاحب الحق حتى تنفذ فلم يبق إلا حسنات الصوم فيقول الله: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" إلى غير ذلك مما يعظم جوانبها كلها من مراقبة الله تعالى وإخلاص العمل إليه واستشعاره طيلة صومه أنه في عمل اختصه الله لنفسه قيل أيضا إن الله اختصه لنفسه لأن الصائم يتصف بصفة من صفات الله تعالى وهي عدم الطعام والشراب وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخل الجنة فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به. قال: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له". وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة بابا يدعى الريان يدعى له الصائمون فمن كان من الصائمين دخله ومن دخله لم يظمأ أبدا".
وإذا كانت هذه منزلة الصوم عند الله تعالى فإنها لمن صان صومه وحفظه كما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم: "والصوم جُنة ما لم يخرقها" أي بكذب أو غيبة.(2/18)
ولأن الصوم يتفاوت أيضاً بحسب الأشخاص وشدة المراقبة والإخلاص وليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب فحسب بل عن كل ما نهى عنه ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"أي إذا لم يصم لسانه أو بصره أو سمعه بل ولا قلبه وعموم جوارحه لأن الصوم في حقيقته عبادة البدن كله طيلة اليوم كله. فالصائم في مجاهدة النفس من الفجر إلى الليل شهرا كاملا وقد جمعت له الصلاة في قيام الليل والزكاة في منتهاه فخص هذا الشهر المبارك بثلاثة أركان الإسلام. ولذا فإن المسلم فيه ينعم في رحاب الجَنَّة نهاره صائم وليله قائم ومنتهاه إنفاق في سبيل الله.
وهنا نسوق حديث ابن عباس مرفوعا روي عنه: "إن الجنة لتزين من السنة إلى السنة لشهر رمضان فإذا دخل شهر رمضان قالت الجنة: اللهم اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك سكانا. وتقول الحور العين: الله اجعل لنا من عبادك أزواجا من صان نفسه في شهر رمضان فلم يشرب فيه مسكرا ولم يرم فيه مؤمنا بالبهتان ولم يعمل خطيئة زوجه الله كل ليلة مائة حوراء. ... إلى قوله : فاتقوا شهر رمضان فإنه شهر الله أن تفرِّطوا فيه فقد جعل الله لكم أحد عشر شهرا تتنعمون فيها وتتلذذون وجعل لنفسه شهر رمضان فاحذروا شهر رمضان". وفقنا الله جميعا لحفظه والوفاء بحقه وأسكننا فسيح جنانه.
ولعظم منزلة هذا الشهر فإن له آدابا وأحكاما.
آداب الصيام وأحكامه.
كل عمل جليل له آدابه وأحكامه أداء لحقه وحفاظا عليه ورجاء لفضله ومن ذلك الصيام وقد تقدم لنا من آدابه صوم جميع الجوارح في النطق والعمل بل وفي التفكير.. يصوم المسلم عن جميع ما نهى الله بل وعن بعض ما أباحه الله له.
أما أحكامه فمحلها كتب ودروس الفقه وتأتي حسب السؤال والاستفتاء بحسب ما يعرض للإنسان. إلا أن هناك أحكاما عامة تتصل بالآداب من جهة مراعاتها مما ينبغي تذكير الصائم بها.. وهي تتعلق بمأكله ومشربه وأفعاله وأقواله.(2/19)
من ذلك التحري للمأكل الحلال ليكون عونا على طاعة الله. وليكون ذلك تعويدا على كسب الحلال والتحري عن الشبه طيلة العام فيرجح إذا وزن ويوفي إذا كال ولا يطفف إذا اكتال ولا يغش ولا يدلس ولا يختلس إلى غير ذلك من أنواع النقص في المعاملات التي تُدخل عليه مالا حراما. إذ الواجب عليه المطعم الحلال دائما وفي رمضان بالأخص لأنه لا يليق به الصوم عن الحلال وإباحته لنفسه الكسب الحرام.
ثم يأتي بعد ذلك آداب وأحكام المطعم والمشرب وهما وجبتا السحور والإفطار.
يعتبر السحور في رمضان خصوصية من خصوصيات هذه الأمة لأنه لم يكن للأمم الماضية في صيامهم سحور ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "فرق ما بيننا وبينهم أكلة السحر".(2/20)
إذا كان الصيام عند من قبلنا وفي أول الإسلام يحرم على الصائم الأكل والشرب والوطأ من حين ينام أو يصلي العشاء فأيهما حصل أولا حصل به التحريم، فيمسكون من صلاة العشاء إلى الغد حتى تغرب الشمس، وتكون مدة الإفطار هي مدة ما بين المغرب والعشاء فقط. وإذا نام بعد المغرب وقبل العشاء حرم عليه الأكل، إلى أن جاء رجل من مزرعته بعد المغرب فذهبت زوجته تحضر له الطعام، فغلبته عينه فنام فلم يستطع أن يأكل ولا يشرب، وأمسك لليوم الثاني وأصبح صائما فأغمي عليه في النهار فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.. ووقع من رجل أن جاء إلى أهله فقالت إني قد نمت فظنها تمنع عليه فواقعها ثم تبين له أنه اختان نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . ونسخ المنع السابق وأبيح لنا الأكل والشرب والنساء، ومع إباحة الأكل والشرب طيلة الليل إلا أنه عمل عادي لكن أكلة السحر هي الرئيسية المرتبطة بالصوم ولذا أكدها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها رخصة من الله امتن بها علينا ومن هنا يستحب تأخيرها لتحقق معنى امتداد الإباحة إلى آخر الليل فجاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بها: "تسحروا فإن في السحور بركة". والأمر بتأخيرها لتكون عونا على صيام النهار كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها بركة أعطاكم الله فلا تدعوها". وقال: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار والقيلولة على قيام الليل". ونهى صلى الله عليه وسلم عن تقديمه في قوله: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر(2/21)
وأخروا السحور". وإن ذلك يحصل ولو بالقليل من الطعام أو الشراب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين".
وكان سحور السلف قبل الآذان بما يتسع لقراءة خمسين آية. مع أنه يجوز إلى قبيل الفجر بلحظات.
أما الإفطار فينبغي تعجيله عند أول لحظة من الليل أي عند تحقق دخول الوقت كما تقدم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". رواه البخاري ومسلم. فلا يصح لإنسان بعد ذلك أن يؤخر الفطر إمعانا في التأكد فقد حذر صلى الله عليه وسلم من التأخير إلى طلوع النجوم في حديث سهل ابن سعد عند ابن حبان: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم".
وفي حديث أنس أيضا: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط صلى المغرب حتى يفطر ولو على شربة ماء". أما على أي شيء يكون إفطاره فجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور". وجاء أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار.
ووردت أدعية وأذكار عند الفطر لأنه جاءت نصوص في أن للصائم دعوة عند فطره ومن الأذكار: "اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
وفي المبادرة إلى الفطر سر لطيف هو الإشعار بأن العبد ضعيف وكان ممنوعا من رزق الله وقد جاء له الإذن بتناوله فلا يجمل به التأخر بل يبادر فرحا بنعمة الله عليه كما جاء في الحديث: "للصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره. وإذا لقي ربه فرح بصومه".
ويستحب له أن يفطر غيره معه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من فطَّر صائما كان له كأجر صيامه لا ينقص من أجورهما شيئا ويحصل ذلك ولو بمزقة لبن أو نحوه".(2/22)
أما ما بين السحور والإفطار فيجتنب شبهات الإفطار أو ما يؤدي إليه ومن ذلك المبالغة في الاستنشاق خشية أن يسبقه الماء إلى حلقه. ومنها الحجامة سواء الحاجم أو المحجوم أما الحاجم فخشية أن يتسرب الدم إلى فمه والمحجوم فخشية أن يضعف ويحتاج إلى الفطر وهذا ما عليه الجمهور وعند الحنابلة رواية أنها تفطر لما ورد من الأحاديث المتعددة فحملها الجمهور على الكراهية وحملها الحنابلة على التحريم ولهذا بحث مستقل إن شاء الله.
كما عليه أن يتجنب مثيرات القيء لأن إثارته مفطرة أما إذا جاءه عفوا وغلبه فإنه لا يفطر.
كما عليه أن يتجنب مداعبة أهله إذا خشي من نفسه كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل نسائه وهو صائم وأيكم أملك لأربه". أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نهى صلى الله عليه وسلم الشباب عن التعرض لما يخشى وقوعه. كما أن عليه أن يكثر من تلاوة القرآن كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن في رمضان كل سنة مرة وفي السنة الأخيرة دارسه القرآن مرتين إحياء لبدء نزوله في رمضان.
وأن يكثر من الصدقات كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أجود ما يكون في رمضان حينما يدارسه جبريل القرآن.
وللقرآن منهج خاص في تشريع الصيام آمل أن ييسر الله تقديمه والاستفادة منه.
والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/23)
نداء القرآن
إلى
عباد الرحمن
تأليف :
الفقير إلى عفو ربه ومولاه
ناصر بن يحيى الحنيني
(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض(
الفصل الأول
حياة الإيمان الصحيح
نداء من رب العالمين من الرب الرحيم الرحمن .....
نداء من قلب محب مشفق ناصح .........
نداء إلى كل طالب للحق مريد للسعادة في الدنيا والآخرة....
نداء إليك يا أخي يا من تعظم أمر مولاك ويا من امتلأ قلبه محبة وتعظيماً وخضوعاً وعبوديةً لله الواحد القهار ...
إن الذي أقدمه بين يديك في هذه الرسالة هو في الأصل نداء من رب العالمين حيث قال سبحانه :(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (البقرة آية :[21]
نداء من الله إلى كل مخلوق على هذه البسيطة بأن يتدبر في الكون حوله وسوف يصل إلى نتيجة واحدة وهي الإيمان الصحيح بأن الله سبحانه وحده الخالق الرازق المدبر لهذا الكون وعليه فهو وحده الذي يستحق العبادة دون ما سواه (1) .
وهذا النداء هو واجب أوجبه الله على المسلمين حيث أمر بالنصيحة ومحبة الخير لكل مسلم فقد قال ( : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
وإن أعظم نصيحة وأعظم أمر يحبه المرء لنفسه و لإخوانه المسلمين :النجاة والفوز يوم القيامة يوم تتطاير الصحف ويعرض الخلق على الله ؛يوم ينقسم فيه الخلق إلى أشقياء وسعداء -جعلنا الله وإياك من أهل السعادة في الدنيا والآخرة-وهي السعادة الأبدية التي لا توازيها سعادة والفوز الذي لا يدانيه؟ فوز .
*السبب الرئيسي في السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة :(3/1)
إن أعظم سبب للسعادة والنجاة يوم القيامة إخلاص العبادة لله تعالى وحده دون ما سواه كما قال جل وعلا :( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (الأنعام-[82].
أي أن هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئاً وحققوا الإيمان الصحيح الذي يريده الله منهم هم الآمنون يوم القيامة ، وهم المهتدون في الدنيا والآخرة.(2)
الحقيقة الكبرى :
وأنت أخي المسلم تؤمن بكتاب الله وسنة رسول الله ( فاسمع وتدبر قول ربنا جل وعلا إذ يقول عن هذه الحقيقة الكبرى :(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات -آية :[ 56].
فما خُلقنا إلا لنوحد الله في العبادة ولا نصرف منها شيئاً لغير الله ؛فإذا عرفت هذه الحقيقة حق المعرفة كانت بداية الخير وعلامة توفيق ورشاد من ربك لك فاحمد الله على هذه النعمة التي حرمها كثير من البشر في هذه الدنيا .
الإيمان الصحيح :
أخي المسلم .... أختي المسلمة :
كم هو جميل أن يعيش الإنسان حياة الإيمان الصحيح حياة النقاء والصفاء والإخلاص ،الحياة التي يعلق الإنسان قلبه وحياته كلها بالله فلا يلتفت إلى غيره في حال نعمته أو عند حاجته وفاقته .
هذه الحياة هي التي يشعر معها بأحلى وألذ وأسعد وأبهى المشاعر والأحاسيس التي يعجز القلم عن تسطيرها ويعجز اللسان عن وصفها فهذه الحياة تعطيك الشعور بأمور كثيرة منها :
-حياة الإيمان الصحيح :حياة الحرية الحقيقية :(3/2)
من الأمور التي فطر الله الخلق كلهم عليها حتى البهائم محبة الحرية وبغض وكره العبودية للبشر والمخلوقين ، إن من يكون عبداً لله وحده وينعم بهذه العبودية يأبى أن يكون عبداً لغير الله ويشعر ويتلذذ بطعم الحرية فلا يدعوا ويرجوا ويخاف ويستعين بأحدٍ من البشر كائناً من كان ؛ لأنه يعلم أنه لاحق لأحد بهذه العبادات كلها إلا الله سبحانه وتعالى ، ومن عبد غير الله وذل لغير الله عاش أتعس حياة وأذلها كما قال جل وعلا :( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( الزمر -آية [29].
فالله سبحانه ضرب لنا هذا المثل الواضح الذي تدركه عقولنا وفطرنا ولا يمكن لأحدٍ أن يتجاوزه وخلاصته : أن الله ضرب مثلاً يبين حال المؤمن الإيمان الصحيح الموحد لربه الذي لا يعبد غير الله ولا يرجوا غير الله ولا يدعوا غير الله وحال المشرك الذي شتت نفسه وصار عبداً لهواه وشهوته وعادات اقتبسها من آبائه وأجداده وللأولياء والقبور والأضرحة فهذا الأخير مثله مثل عبدٍ أسياده كثير يتنازعونه في العبودية فهو ذليل مشتت بخلاف الأول المخلص الخالص لربه وسيده ومولاه وهو المؤمن الذي يعيش حراً عزيزاً بين الناس لا تسجد جبهته إلا لله ولا يمد يده إلا لله فهل يستوون ؟ الجواب : لا والله ...
-حياة الإيمان الصحيح حياة العز والرفعة والشجاعة والكرامة:
إن من يعيش على معنى الإيمان الصحيح الذي أمره الله به فهو يعيش حياة العزة فلا يذل ولا يخضع لغير ربه ولا يدعوا ولا يرجوا ولا يخاف إلا من الله يعيش قوي القلب رابط الجأش يعلم أن من ابتغى العزة بغير هذا الطريق طريق الإيمان الصحيح أذله الله كما قال جل وعلا عن المنافقين : (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً( النساء [139]، والله سبحانه قد أخبر بهذه الحقيقة فقال :( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون(المنافقون -آية [8].(3/3)
وقال سبحانه مبيناً طريق العزة بأوضح عبارة :(من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعاً( فاطر [10].
قال مجاهد في تفسير هذه الآية :" ( من كان يريد العزة ( بعبادة الأوثان ،( فإن العزة لله جميعاً("أ.هـ(3)
-حياة الإيمان الصحيح حياة الأمن والاستقرار والهداية :
إن من علق قلبه بربه وعلم أن ربه رحيماً بعباده وأحسن الظن به لا يدعوا إلا الله و لا يخاف إلا من الله أمن وشعر بلذة الراحة في قلبه وبدنه كما قال جل وعل:( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (الأنعام-[82].
-التمسك بالإيمان السليم والتوحيد الخالص علامة الهداية والتوفيق :
لقد بين الله في كتابه في ندائه لعباده أن علامة رضا الله عن العبد وعلامة هدايته أن يشرح صدره للهدى والإيمان الصحيح وعلامة الضلال والبعد عن الصراط المستقيم والمنهج القويم الضيق والحرج في الصدر فقد قال سبحانه وهو أحكم الحاكمين:
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيِّقاً حرجاً كأنما يصعَّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون(الأنعام [125].
قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى :( فمن يرد الله أن يهديه ...( قال : "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به "أ.هـ(4)
وقال أيضاً عن قوله تعالى :( ومن يرد أن يضله ...(قال :"فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء ، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه "أ.هـ(5)
وقال ابن جريج في قوله تعالى :(ضيقاً حرجاً ( قال : "بلا إله إلا الله حتى لا تستطيع أن تدخله ، كأنما يصعّد في السماء من شدة ذلك عليه "أ.هـ(6)(3/4)
أخي المؤمن لا أظنك تريد أن تكون ممن ضاق صدرهم بلا إله إلا الله بل عليك أن تكون ممن ينشرح صدره حينما يعلم معناها وما تدل عليه حتى تسابق المؤمنين في العمل بمقتضاها فيشرح الله صدرك للإيمان الصحيح والتوحيد الذي يريده الله منا كما قال جل وعلا في محكم التنزيل :(ولكنّ الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون( الحجرات
[7]،جعلنا الله وإياك من عباده الراشدين ومن عباده المؤمنين الموحدين وثبتنا وإياك على الإيمان إلى قيام الساعة.
-حياة الإيمان الصحيح حياة النصر والتمكين للأمة كلها :
إن مما تعانيه الأمة اليوم تسلط الأعداء عليها في كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها ؛فالسؤال الكبير الذي لابد لكل مسلم مؤمن بالله يغار على هذه الأمة وحرماتها أن يسأل : ما المخرج وما الملاذ ؟؟وما طريق النصر على الأعداء؟
الجواب : في نداء القرآن لعباد الرحمن ....اسمع وتدبر وتفكر في قوله سبحانه وتعالى -الذي لايخلف وعده -إذ يقول :(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون(النور-آية [55].
فهذه الآية العظيمة تضمنت أموراً عدة :
أولاً : أن هذا وعد حق وصدق من ربنا جل وعلا إن نحن طبقنا الشرط الذي طلبه منا ، والوعد : أن يستخلف على الأرض المؤمنين الصادقين ، ويمكن لهم دينهم ، ويجعلهم آمنين مطمئنين .
ثانياً : الشرط الذي به يتحقق للأمة النصر والتمكين والأمن في ربوعها هو تحقيق الإيمان الصحيح : عبادة الله وحده دون ما سواه ( يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ( .(3/5)
ثالثاً :كيف تنصر الأمة وفي ربوعها يعبد غير الله من الأولياء والقبور والأضرحة ، كيف تنصر الأمة وهي تعلق قلبها بغير الله لكي ينصرونها ، بل العجب أنها تعلق قلبها بأعداء الله الذين أمرنا الله أن نتخذهم أعداء وهم اليهود والنصارى كما قال جل وعلا في نداء إلى أصحاب الإيمان الصحيح :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين (المائدة [51].
كيف تنصر الأمة وهي تُحْكم غير شرع الله وتتحاكم إلى غير دين الله ، لابد أن يطبق الشرط حتى يحصل المشروط كيف نريد الأمن والنصر والتمكين و لم نحقق هذه الأمور نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين.
رابعاً : أن من حقق هذه الشروط في نفسه وحقق الإيمان الصحيح فلم يعبد غير الله ولم يلتفت إلى ما انتشر بين الناس من دعاء غير الله ؛؟؟؟حتى ولو كانوا ممن ينسبون إلى العلم والدين (لأن الذين يدعونهم من دون الله كلهم من خلق الله) لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن يملكوا لغيرهم ذلك ؛ فإذا وحّد الله ولم يشرك به شيئاً نال من التمكين والأمن بقدر ما وحد ربه ولم يشرك به أحداً، ولو عاش وحده على هذا الإيمان الصحيح يعمل به ويدعوا الناس إليه .
-الإيمان الصحيح وتوحيد رب العالمين سبب مغفرة الذنوب واستحقاق شفاعة النبي ( ودخول جنة رب العالمين:
جاء في الحديث الصحيح أن أبا هريرة قال للنبي (: (من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال ( :من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)(7)
وجاء عنه ( أنه قال : (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )(8)
وجاء كذلك في الحديث الصحيح أن الله عز وجل قال : (..ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة )(9)(3/6)
فهذه من أعظم ثمار الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص أنه يكفر الذنوب والخطايا ،ومن لم يكن مخلصاً في إيمانه وتوحيده لله لا يدخل الجنة ولا تغفر ذنوبه ؛ فيا عبد الله يا من توجهت للقبور وأهلها وتوجهت للمخلوقين وعلقت قلبك بغير الله أعلم أن أعظم الحرمان والخسارة أن تحرم مغفرة الذنوب ودخول جنة رب العالمين .
س:كيف يصبح الإنسان مؤمناً إيماناً صحيحاً تقبل به أعماله الصالحة عند الله؟
إن المؤمن إذا أراد أن يحيا حياة الإيمان الصحيح :
لابد أن يحقق معنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله وذلك بمعرفة معناها والعمل بما تدل عليه واستكمال شروطها والبعد عن ما يناقضها.
الفصل الثاني :
المعنى الصحيح
لشهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله
*المعنى الصحيح لشهادة أن لا إله إلا الله :
أي لا معبود بحق إلا الله : أي أن كل ما يعبد من دون الله باطل سواءً من الأنداد والأصنام والأولياء والجن والملائكة والأنبياء وحتى نبينا محمد ( .
فإن هذه العبادات كلها باطلة ولا يجوز صرفها للمخلوقين بل المستحق أن تصرف له هذه العبادات هو الله سبحانه وعلى سبيل المثال فإن المؤمن الصحيح الإيمان الذي :
-لا يدعوا إلا الله : ممتثلاً ومطبقاً ومستجيباً لنداء ربه في القرآن :( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً( الجن [18] , فإذا احتاج مالاً رفع كفه إلى مولاه مخلصاً بقلبه يرجوا الخير منه لأن الذي بيده خزائن السموات والأرض هو الله وحده دون ما سواه .
إذا وقع في مشكلة أو مأزق علم أن له رباً رحيماً رؤوفاً يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء كما قال سبحانه :( أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء( النمل [62].
ولماذا يدعوا غيره وربه ومولاه الغني عن عباده يقول له : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم( غافر[60].(3/7)
-ولا يتوكل إلا على الله وحده :مستجيباً لنداء ربه في القرآن :( فاعبده وتوكل عليه( هود[123]وهي من أعظم صفات المؤمنين حيث قال الله :(وعلى الله فليتوكل المؤمنون(آل عمران[122].
ويتوكل على الله لأنه هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ( الفرقان [58].
-ولا يخاف إلا من الله : لأنه يعلم أن الذي ينفع ويضر هو الله ، وأن الذي يعطي ويمنع هو الله سبحانه ، وأن الذي يسعد ويشقى هو الله ، وأن الذي بيده الحياة والموت وبيده آجال العباد وأرزاقهم هو الله سبحانه وحده دون ما سواه موقناً مؤمناً بنداء القرآن :
( وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ( الأنعام [17]،ولهذا فهو مستجيب لنداء القرآن :(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (آل عمران [175].
وهو على يقين بأن ما سوى الله عاجز ضعيف حقير لا يستطيع دفع الضر عن نفسه فضلاً عن أن يدفع عن غيره أو ينفع غيره .
والله سبحانه قد أخبر في كتابه عن هذه الحقيقة فقال جل شأنه:(قل هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون( الشعراء[72-73].
وقال سبحانه :( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون( النحل [20-21].
فيا عبد الله يا من أنعم عليك بنعمة العقل كيف تلغي عقلك وتفكيرك وتدعوا أمواتاً لا يسمعون دعاءك وتفعل فعل الذين سُلِبت عقولهم ، إني أظن بك خيراً وأنك تربأ بنفسك عن هذه الأعمال التي تنقص من قدرك في الدنيا وتخسر فيها آخرتك عند لقاء المولى .
وبين الله عجز من يُدعى من دون الله بأوضح عبارة فقال :( قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون( الزمر[38].(3/8)
مقارنة عجيبة وتحدٍ أعجب يبهر العقول ويوقظ الألباب التي تريد الحق والهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال .
وبين سبحانه مؤكداً ومقرراً بدون أدنى شك ولا ريب أن من تدعونهم من دونه لا يملكون كشف الضر بل هم عاجزون أتم العجز فقال سبحانه :( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً( الإسراء[56].
-الآية التي قطعت الشرك من أصوله وعروقه :
إن من يتدبر كتاب الله ويقرأ كلامه المعجز البليغ ليعجب من أساليبه البليغة في بيان وتوضيح فساد طريق الباطل والضلال بحجج يعترف بها كل عاقل ولا يمكن معها أن يكابر ، ومن هذه الأساليب ما عبر الله به عن فساد مسالك من أشرك مع الله ورجا النفع والضر من غيره من الأولياء والصالحين وأصحاب القبور وغيرهم من الأنداد فقال سبحانه :(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ( سبأ [22-23].
ولابن القيم تعليق نفيس في موضعين من كتبه يبين ويوضح المقصد من هذه الآية :
الموضع الأول:
*قال -رحمه الله -:"فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه ، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجوا من نفعه ؛وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به ، وحينئذٍ فلا بد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده ، أو شريكاً لمالكها أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده ؛فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت ؛انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده فنفى سبحانه عن ألهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات ...."أ.هـ(10).
الموضع الثاني :(3/9)
*وقال في موضع آخر -رحمه الله -:" فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً ، متنقلاً من الأعلى إلى ما دونه ، فنفى الملك ، والشركة ، والمظاهرة ، والشفاعة التي يظنها المشرك ، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك ، وهي الشفاعة بإذنه .
فكفى بهذه الآية نوراً ، وبرهاناً ونجاةً ، وتجريداً للتوحيد ، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها .
والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته ، وتضمنه له ، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً ..." أ.هـ(11) .
فذكر سبحانه في هذه الآية أصول الشرك الأربعة وهدمها وهي:
-الأصل الأول :إثبات أن آلهتهم لا تملك من الأمر شيئاً فكيف تكون معبودة من دون الله المالك لكل شيء ، وهذا الأصل يقر به المشركون إذا رجعوا إلى أنفسهم (أعني إثبات الملك لله ).
-الأصل الثاني: إثبات أنه لا شريك مع الله سبحانه في هذا الملك -والمشركون مقرون بتفرده في الملك-فإذا كان ليس له شريك ومن ضمن ما نفى أن يكونوا شركاء لله في هذا الملك هو : معبوداتهم ،فإذا لم تكن ولا حتى شريكة لله في ملكه بطل أن تكون آلهةً تستحق العبادة.
-الأصل الثالث: إثبات أنه لا معاون ولا ظهير مع الله لأنه سبحانه القوي القاهر المستغني عن كل أحد-وهذا مما هو مستقر في الفطر ويقر به المشركون- وآلهتهم ليست كذلك معاونة ولا ظهيرة فكيف تصح عبادتها من دون الله القوي القاهر الغني عما سواه .
-الأصل الرابع: نفي أن تكون هناك أي شفاعة من دون إذنه ، وأول من تنفى عنهم الشفاعة هو من أشرك مع الله ، وكل من دعا أحداً من دون الله وعبد غير الله فلا شفاعة له لعدم تحقق الشروط في شفاعته وهي : الإذن للشافع ، والرضى عن المشفوع .
شهادة أن لا إله إلا الله تشتمل على ركنين أساسيين :
الركن الأول : الإثبات : أي إثبات الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وصرف كل العبادات له سبحانه وهو قولنا (إلا الله ).(3/10)
الركن الثاني : النفي وهو قولنا (لا إله ) أي لا يعبد مع الله أحد وتعني الكفر بكل ما يعبد من دون الله والبراءة منه ومن أهله.
الأدلة على هذين الركنين من كتاب الله وسنة رسول الله (:
قال الله جل وعلا :( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لانفصام لها والله سميع عليم( البقرة [256] ، والعروة الوثقى هي شهادة أن لا إله إلا الله .
وقال ( : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل )(12)
فدلت هذه النصوص الشرعية على أن إيمان العبد وإسلامه لا يكون صحيحاً إلا بأمرين : الأول : أن يفرد الله بعبادته فلا يعبد مع الله أحداً .
الثاني : أنه لابد أن يكفر ويتبرأ من الطاغوت وهو( كل ما عبد من دون الله) و يتبرأ من كل ملة ودين غير دين الإسلام ويتبرأ منه ومن أهله ولا يكون في قلبه إلا حب الله ورسوله وحب ما يحبه الله ورسوله.
فلا يجوز أن يكون في قلبك حب لمن أبغضهم الله وأبعدهم كاليهود والنصارى والكفار على اختلاف مللهم ودياناتهم ومذاهبهم ممتثلاً ومستجيباً لنداء ربك في القرآن لأولياء الرحمن حيث قال : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ..( الممتحنة [1].
وقال أيضاً :(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ( المائدة [51] ولا أظنك تريد أن تكون من هؤلاء الذين كفرهم الله وأبعدهم وطردهم من رحمته .
واعلم أيها المبارك أنه يجب عليك أن تكفر بأديانهم وتعتقد بطلانها وعدم قبولها عند الله ولا يجوز لك أن تعتقد صحتها أو أن يسوغ لأحدٍ أن يتدين بها لله عز وجل لأن ربك ومولاك يقول :( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ((3/11)
آل عمران [85] ,والله سبحانه قد بين أن الدين الذي يقبل هو دين الإسلام لا غير فقال سبحانه :(إن الدين عند الله الإسلام ( آل عمران [19].
السؤال الكبير :(أإله مع الله ( النمل [60].
لقد وجه الله في القرآن نداءات للناس تهز الوجدان والضمير وهي أسئلة يجيب عليها كل عقل سليم وكل فطرة مستقيمة ، ولا يمكن لأحد أن ينكرها إلا من طمس الله بصيرته واتبع هواه ولا يريد الحق ولا النور الذي جاء به رسول الله (، ومن فتح عقله وفكره واستجاب لنداء ربه سوف يوفق ويسدد لمعرفة الخير والحق من ربه كما قال جل وعلا :( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد( ق[37] , واسمع إلى هذه النداءات والأسئلة مِنْ ربك ومولاك حيث يقول :
السؤال الأول :
(أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون ( النمل [60].
والمعنى : أن الله الذي خلق السماء والأرض وأنزل من السماء الماء وفيه الرزق والخير لنا فأنبت به البساتين التي تبهج العيون والنفوس من جمال منظرها وطيب رائحتها ولا يستطيع أحد أن ينبتها سوى الله سبحانه وكل هذا نقر به ونعترف فلماذا نجعل مع الله إلهاً آخر ندعوه ونرجوه ونخافه ؟إن هذا هو الظلم العظيم والذنب الكبير (إن الشرك لظلم عظيم ( لقمان[13].
السؤال الثاني :
(أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاُ أ إله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ( النمل [61].
والمعنى : من الذي جعل الأرض قارّةً ساكنة لا تميد ولا تضطرب ولا تتحرك بأهلها فإنها لو كانت غير مستقرة لما طاب فيها العيش فكان من رحمة الله بنا أن جعلها على هذه الهيئة والصفة وزيادة على ذلك يسر لنا الماء العذب الذي به تستقيم مصالح العباد من خلال جري الأنهار وجعل في هذه الأرض الجبال رواسي تثبت الأرض حتى لا تتزلزل بنا.(3/12)
ومن نعمته علينا أنه لم يجعل المياه تختلط مالحها بحلوها بل جعل بينهما حاجزاً حتى يستفيد منها الخلق في مشربهم ومأكلهم ولا تفسد عليهم حياتهم .
بعد هذا كله أيصح أو يعقل أيها الناس أن يعبد غير الله صاحب هذه النعم والأفضال الكبيرة علينا إن هذا لأمر عجيب .
السؤال الثالث :
(أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أ إله مع الله قليلاً ما تذكرون (النمل [62].
الله سبحانه المدعو عند الشدائد والمرجو عند النوازل ، فمن الذي لا يلجأ إليه عند الشدائد ومن الذي لا يرجوه عند النوازل ؟ الجواب لا أحد ؛ بل جميعنا في حاجة إلى الله ولا نستغني عنه فلماذا يُدعى غيره ويُرجى غيره أوَ يقدر على كشف الضر والبأس غيره ؟ لا والله .
السؤال الرابع :
(أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أ إله مع الله تعالى الله عما يشركون( النمل [63].
الله عز وجل من رحمته بالخلق جعل لهم دلائل في السماء والأرض تدلهم وتهديهم في سيرهم وسفرهم حتى لا يضلوا ,كالشمس والقمر والنجوم كما قال سبحانه ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون( النحل[16]،وكما قال:( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ( الأنعام [97] , ويرسل الرياح لتسوق السحاب بالمطر ليبشر بها عباده المحتاجين للمطر والماء , أفيُدعى غير الله سبحان الله وتعالى عما يشركون .
السؤال الخامس :
(أمّن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أ إله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (النمل [64].
الله سبحانه القوي القادر الذي يستطيع أن يبدأ الخلق من العدم ويعيدهم بعد ما يميتهم وكله هين عليه ولا يعجزه شيء كما قال سبحانه :( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ( الروم [27].فهل بعد هذا يُلتفت إلى غير الله ويُعبد غير الله ؟ فهاتوا برهاناً ودليلاً وحجةً على شرككم بالله وعبادتكم غيره ، ولن تستطيعوا إلى ذلك سبيلاًً.(3/13)
المعنى الصحيح لشهادة أن محمداً رسول الله (:
معنى شهادة أن محمداً ( رسول الله الذي إذا فهمها العبد وعمل بها أصبح محققاً لهذه الشهادة والتي لا يقبل إسلامه وإيمانه إلا بها .
وشهادة أن محمداً رسول الله تتضمن أموراً عدة :
1. الإيمان برسالته وأنها من عند الله حقاً وصدقاً :
كما قال جل وعلا :( يا أيها الذين أمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذين أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً( النساء [136].
2. الإيمان بعموم رسالته للجن والإنس وللعرب والعجم :
كما قال سبحانه :( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ( الأعراف [158].
وكما قال جل وعلا :( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ( سبأ [28].
3. الاعتقاد بختم رسالته ونبوته :
فهو خاتم الأنبياء والمرسلين ورسالته خاتمة الرسالات وهي الناسخة والمهيمنة على ما قبلها من الرسالات ولا يقبل من أحد ديناً إلا الدين الذي جاء به محمد وببعثته ورسالته بطلت كل الرسالات فلا شرع إلا شرعه ولا دين إلا دينه .
قال سبحانه :( ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين (الأحزاب [40].
4. طاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر :
كما قال جل وعلا :( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(الحشر[7].
وكما قال سبحانه :( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( النساء [59].
وكما قال جل وعلا : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ( النساء [80].
وطاعته ( مستقلة فلو جاء أمر عن رسول الله ( ولم يرد في كتاب الله لو جب الإيمان به وطاعته في ذلك ، فقد جاء في الحديث الصحيح عنه ( : ( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ..
فالرسول طاعته إيمان وحق واجب ومن أنكر ذلك لم يكن مسلماً ولا مؤمناً .
5. تصديقه فيما أخبر :(3/14)
لأنه ( لا ينطق عن الهوى بل هو وحي من الله ولا يقول إلا حقاً وصدقاً كما قال جل وعلا :( وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى( النجم[3-4].
6. اتباعه والعمل بسنته في كل ما شرع الله عز وجل :
لا يقبل أي عمل لأي إنسان إلا بشرطين :
الأول : أن يكون خالصاً لوجه الله كما قال سبحانه :( وما أمروا ألا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( البينة[5]، وكما قال( : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى) (13)
الثاني : أن يكون على وفق ما شرع رسول الله ( فلا يقبل العمل إلا إذا كان على هدي النبي (فلا طريق إلى عبادة الله إلا من طريقه ومن تعبد بغير ما شرع الله فهو مردود عليه كما قال ( : (من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد) وفي رواية: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) (14)
فمن ظن أنه إذا زاد في العبادة أو في السنن الثابتة عن رسول الله أنه مأجور فهو على خطر عظيم لأن الله أكمل به الدين وأتم به النعم فالذي يتعبد الله بعمل لم يسنه الرسول كأنه يستدرك على الله ورسوله, أو يتهم رسول الله ( بأنه لم يبلغ الدين حق البلاغ .
فيا عبد الله يا من رضيت بالله رباً مشرعاً وبرسول الله نبياً وهادياً وبالإسلام ديناً ومنهجاً إياك أن تعبد الله بأي طاعة لم يأذن بها الله ورسوله فإنك إن فعلت وقعت في البدعة جاءت نصوص الشرع بذمها والتحذير منها.
7. محبته ( وتقديمها على محبة النفس والأهل والولد والمال والناس أجمعين:
إن المحبة الحقيقية لا تكون باللسان فقط بل لا بد أن تكون مستقرة في القلوب وتصدقها الأعمال وليعلم أن محبته واجبة ومن لم يحبه فهو منافق غير مؤمن الإيمان الصحيح .
قال (: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ((15)
وأبرز علامة وأصدقها هو اتباعه ( في كل شؤون الحياة كما قال جل وعلا :( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ( آل عمران[31].(3/15)
ومن علامة محبته التفقه في سنته ونشرها وتعليمها وتربية الناس عليها , بدأً من أهل بيتك ومن حولك , ودراسة سيرته ومنهج دعوته واتخاذها القدوة والنبراس في حياتنا ودعوتنا ، إن هذا هو البرهان الحقيقي على صدق محبة النبي ( .
8. تقديم قوله (ورأيه على كل قول ورأي :
كما قال الله سبحانه :(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله (الحجرات [1].
والواجب على كل مؤمن إذا بلغه عن رسول الله ( أمراً وحكماً أن يعمل به ويقدمه على كل أمراً وحكم فيقدمه على رأي الناس وهواه وشهوته وكذلك على قول البشر وحتى من ينسب للعلم إن كان ممن يميز بين المسائل والأحكام فإنه لا يجوز لأحد إذا استبانت له سنة رسول الله ( أن يعدل عنها لقول أحدٍ كائناً من كان .
9. تحكيم سنته في كل شؤون الحياة :
كما قال جل وعلا :( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً( النساء[65].
وهذه آية عظيمة توضح للمؤمن عظم منزلة تحكيم سنته وشرعه ( والله سبحانه أقسم بنفسه بأن الإيمان منفي عمن لم يحكم سنته ( وكفى به واعظاً .
-أساس التوحيد وأصل الإيمان الصحيح: ( تعظيم الله وتعظيم رسوله ):
أيها المؤمن الموفق اعلم رحمني الله وإياك أن الأساس الذي يجب أن يتربى عليه المؤمنون والصفة التي تحلى بها صفوة الخلق وهم رسل الله و النبيون إنها صفة تعظيم الله ورسوله وتعظيم أمرهما وتقديمهما على كل أحد لم يكن في قلوب الأنبياء ولا الصحابة الكرام- الذين تربوا على يد محمد ( -أعظم من الله ولا من رسوله ؛ ولهذا استطاعوا أن يسودوا العالم كله في أقل من ربع قرن من الزمان -رضي الله عنهم وأرضاهم -.
أيها الموفق : لقد نعت الله المؤمنين بأخص صفاتهم فقال سبحانه :( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا( النور [51].(3/16)
لقد حصر وصفهم بهذه الصفة المبادرة في الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله وهو دليل تعظيم الآمر في قلوبهم وهو الله ورسوله.
وقال سبحانه مبينا بصيغة الحصر والقصر كذلك أن هذا هو قول المؤمنين و ديدنهم فقال :( وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( الأحزاب [36].
أي لا مشورة ولا اختيار ولا رأي إذا حكم وقضى رب العباد ، فلا رأي للقبيلة ولا للعشيرة ولا للزوجة ولا للأقارب ولا للعادات ولا للناس أجمعين مع حكم الله وشرعه وأمره .
فيا من تستحي من الناس أو تخاف منهم أن يلمزوك بالألقاب لأنك تركت الشرك ووسائله من تعظيم للقبور وتمسحٍ بها أو دعاء غير الله من الأولياء والأنبياء أو لأنك تركت دعاء آل بيت النبي ( الكرام كعلي ( أو فاطمة رضي الله عنها أو زينب ابنته رضي الله عنها أو الحسن ( أو الحسين ( -المقتول ظلماً- كل هؤلاء مع محبتنا لهم وأنهم مكرمون مرضي عنهم مبشرون بالجنة لكن لا يجوز لنا أن ندعوهم من دون الله فهذا هو الشرك الذي حذرنا الله ورسوله منه وأنه هو الذي يحبط الأعمال ويخلد فاعله في نار جهنم .
والله سبحانه قد وجه النداء لأوليائه في القرآن أن يقدموا قول الله وقول رسوله على كل أحد من العلماء وغيرهم فلن ينجيك أمام الله أن تقول قد أفتاني العالم الفلاني أو فلان وفلان بل عليك أن تعمل بما جاءك عن الله وعن رسوله خاصةً أمور الإيمان والتوحيد الذي جاءت الآيات والأحاديث فيها صريحة واضحة يفهمها كل أحد منا فالله سبحانه يقول :( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( الحجرات [1].
فكيف بمن يتوجه بأخص العبادات كالدعاء والذبح والنذر وغيرها لغيره سبحانه .
فهذه حجة الله عليك قد قامت فالبدار البدار بالتوبة وترك كل ما يغضب مولاك .(3/17)
ولا يشفع لك عند الله أن كان منتشراً في بلدك وعامة الناس عليه فعليك بطريق المؤمنين الموحدين الذين يعظمون الله ورسوله ويعظمون أمرهما ويقدمونهما على كل أحد .
وكيف بمن يقدم القانون الوضعي وحكم القبيلة ورأي الناس ويعرض عن شرع الله ودينه وما حكم الله به .
أيها المبارك إن الأمر جد خطير ولا تقل الناس كلهم على هذا أنج بنفسك فالله سبحانه قد أخبر وهو أعلم بخلقة :( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( يوسف[106].
الفصل الثالث :
الأضرار الخطيرة لمن ترك حياة الإيمان الصحيح
أيها الأخ المبارك : لا أريد أن أسبب لك الضيق والحرج ولكن من محبتي لك وحرصي على أن يجنبك الله كل سوء : اعلم أن من لم يحيا حياة الإيمان الصحيح ولم ينعم بنعمة التوحيد وإفراد الله بالعبادة فهو معرض لمخاطر عظيمة من أبرزها :
1-الذي يشرك مع الله أحداً ولم يحقق التوحيد والإيمان الصحيح فإن الجنة عليه حرام :
إن هذا الحكم حكم به جبار السموات والأرض وإله العالمين وخالق الجن والإنس أجمعين حيث يقول في محكم التنزيل وهو أصدق القائلين :
( إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (المائدة [72].
فيا خسارة من عاند وأصر ولم يغير واقعه وحاله واتبع ما كان عليه الآباء والأجداد وما تهواه نفسه ولم يعظم أمر مولاه سبحانه .
2-المشرك خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين :
والله سبحانه قد أخبر بهذه الحقيقة في غير ما آية فقد قال سبحانه :
( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أبداً ( البينة [6].
وقال سبحانه :( فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين( الشعراء [113].
وقال ( : (من مات وهو يدعوا لله نداً دخل النار ) وفي رواية: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)(16)
3-الذي يشرك مع الله أحداً ولم يحقق التوحيد والإيمان الصحيح لا يقبل الله من أي عمل:(3/18)
سواءً كان صلاةً أو صياماً أو زكاةً أو حجاً أو جهاداً أو أي عمل مادام أنه لم يترك عبادة ودعاء ورجاء غير الله من الأولياء والجن والصالحين وحتى نبينا محمداً ( لا يجوز أن يدعى أو يستغاث به من دون الله ومن أراد التقرب إلى الله فعليه باتباع أمره وأمر رسوله (.
إن هذا الحكم هو نداء من الله وتنبيه لأشرف الخلق محمد ( -وهو إمام المؤمنين وقائد الموحدين - حيث قال الله له في كتابه الكريم :( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين ( الزمر [65].
وقال سبحانه :(ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (الأنعام [88].
فمن أشرك مع الله ولو كان شيئاً يسيراً فعمله غير مقبول وهو عليه مردود .
4-الذنب الذي لا يغفر وهو الظلم العظيم أن تشرك بالله عز وجل :
أيها المؤمن المبارك احذر كل الحذر من الشرك ووسائله المؤدية إليه فالشرك ذنب كبير وظلم عظيم .
تصور أن من أشرك مع الله بأي أنواع الشرك كأن يتقرب إلى غير الله من الأولياء والصالحين والجن وغيرهم بالذبح أو بالدعاء وطلب تفريج الكربات أو طلب المغفرة منهم أو غيرها مما هو من خصائص الله ومما لا يجوز صرفه لغير الله فذنبه لا يغفر إلا بأن يتوب ويقلع عن الشرك ويجدد توحيده وإيمانه.
قال الله عز وجل عن هذه الحقيقة العظيمة :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (النساء[48].
والله عز وجل قد وصف هذا الشرك ونعته بالظلم العظيم فقال جل وعلا : (إن الشرك لظلم عظيم ( لقمان [13].
وسئل النبي ( : (أي الذنب أعظم ؟ فقال : (أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) (17)
فهل ترضى لنفسك أن تقابل سيدك ومولاك وأنت متلبس بهذا الذنب العظيم والجرم الخطير .
5-الشرك هو الإثم العظيم والضلال البعيد :(3/19)
لقد وصف الله هذا الشرك الذي وقع فيه فئام من هذه الأمة أمة محمدٍ ( بأنه إثم عظيم وضلال بعيد ، وكفى به من وصف تنفر منه القلوب المؤمنة الصادقة التي تعظم ربها وتخاف من سوء العاقبة ؛ فقد قال سبحانه :( ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً( النساء [48].فهذا الإثم العظيم .
وقال سبحانه :( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً( النساء [116].وهذا الضلال البعيد .
وقال سبحانه -مبينا سوء حال من دعا غيره -:( يدعوا من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (الحج[13-14].
6-إلقاء الرعب والخوف في قلب المشرك :
إن من التفت لغير الله وطلب الأمن والسعادة من غير مولاه عاش في رعب وخوف وعدم استقرار كما تقدم ، وقد أخبر الله بهذا الأمر صريحاً فقال سبحانه :
(سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ( آل عمران [151].
الله أكبر لقد وضح السبب وبانت العلة في إلقاء الرعب في قلوبهم لأنهم أشركوا بالله فيا خسارة من تعامل مع غير الله و يا بؤس من التفت إلى غيره سبحانه .
وبين في موضع آخر سبحانه أن من دعا غير الله ليحصل له الأمن يحصل له ضد ذلك ويتسلط عليه من دعاه ويعيش في رعب وخوف.
قال سبحانه :( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً( الجن[6].قال ابن كثير في تفسير قوله (فزادوهم رهقاً ( :" أي خوفاً وإرهاباً وذعراً حتى تبقوا أشد منهم مخافةً وأكثر تعوّذاً بهم ..."أ.هـ(18)
7-براءة الله ورسوله من الشرك والمشركين :
إن من العقوبات الخطيرة التي تلحق من دعا غير الله أو ذبح لغيره أو استغاث بغيره أو صرف أي نوع من أنواع العبادات لغيره سبحانه أن الله سبحانه يتبرأ منه ولا يبالي في أي وادٍ هلك والعياذ بالله .
يقول سبحانه :( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ( التوبة [3].(3/20)
8-الأنبياء جميعاً تبرءوا من الشرك وأهله :
فهل تريد أن تلحق بركبهم وتحشر في زمرتهم فالزم طريقهم -حشرنا الله وإياك معهم-
قال سبحانه آمراً نبيه بأن يتبرأ من الشرك ويعلنها صريحة بأنه على ملة إبراهيم وهي ملة التوحيد الخالص :( قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ( البقرة [135].
وقال أيضاً آمراً الأمة كلها :( قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين( آل عمران [95].
وقال سبحانه :( قل إنما هو إله واحد وإنني بريء من المشركين (الأنعام[19].
وقال إبراهيم-عليه السلام - لقومه :( فلمّا أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( الأنعام [78].
وقال هود-عليه السلام- لقومه :( قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون( هود[54].
ولا عجب في ذلك فإن الأنبياء دينهم وعقيدتهم واحدة ،وإن اختلفت شرائعهم .(19)
9-الشيطان يتسلط على المشرك وليس على الموحد:
الله سبحانه بيّن في كتابه أن المؤمن الإيمان الصحيح الموحد لربه الذي صرف كل عباداته لربه سبحانه وتعالى فإن الشيطان لا يستطيع أن يتسلط عليه ولا أن يهيمن عليه ، وبالمقابل فإن المشرك الذي التفت إلى غير الله وحقق ما يريده عدو الله منه فإن الله يتركه لعدوه يتسلط عليه وهذا أحد عواقب الشرك في الدنيا .
قال الله تعالى عن هذه الحقيقة مع المؤمن :( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( النحل [99].
وقال تعالى عن موقف الشيطان من المشرك :( إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون( النحل [100].
10- الشرك نجاسة لا يطهرها إلا الإيمان الصحيح:
قال سبحانه عن المشركين :( ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ( التوبة [28].
فقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك ، وأن المؤمن طاهر كما صح عن النبي ( قال : (إن المؤمن لا ينجس) (20)(3/21)
11-العقوبات الربانية على الأمم من أعظم أسبابها الشرك بالله :
الله سبحانه بين أن سبب تدمير الأمم السابقة بالعقوبات هو أنهم مشركين .
والشرك بكل أنواعه : شرك العبادة والتقرب لغيره أو شرك دعاء أصحاب القبور أو شرك الطاعة والاتباع والتعبد لله -في الحلال والحرام وسائر نواحي الحياة- بغير ما أذن الله فيه من الشرائع الأرضية والقوانين الوضعية.
قال سبحانه :(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (الروم[42].
12-المشرك تجتمع عليه خسارتان في الدنيا والآخرة :
بين الله في كتابه العظيم عظم الغبن والخسارة لمن أشرك وكفر بالله ودعا غير الله وذلك أنه لا يحقق له مطلوبه وفي الآخرة يكفر من دعاهم به وبشركه الذي فعله .
قال سبحانه :(والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ( فاطر[13-14].
فالله سبحانه صور حال من يدعى من دون الله بأنه لضعفه وعجزه أنهم لا يملكون من السموات والأرض شيئاً إلا بمقدار هذا القطمير (والقطمير هو اللفافة التي تكون على نواة التمر )(21)فخسارته أنه يدعوا من لا يستطيع أن يحقق له مطلوبه لأنه فقير ضعيف هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فيتبرءون منكم فجمع الله للمشرك بين خسارتين في الدنيا والآخرة.
وقال سبحانه :( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين ( الأحقاف[6-7].
وقال أيضاً :( واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً( مريم [81-82].
13-ضرب الله الأمثال الشنيعة لمن أشرك مع الله ودعا غيره :
لقد صور القرآن بشاعة من دعا غير الله بأبشع وأشنع الصور من خلال ضرب الله الأمثال لذلك وعلى سبيل المثال :(3/22)
أ - ضرب الله مثلاً لمن أشرك بالله ودعا غيره كمن يسير في طريق مهلكة وهو في حيرة لا يعرف طريق الخلاص والنجاة :
قال سبحانه :( قل اندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (الأنعام[71].(22)
ب - ضرب الله مثلاً بأن من يدعوا غير الله ويشرك به لا ينال شيئاً ممن دعاه لا في الدنيا ولا في الآخرة كمن يريد أن يقبض الماء بيده فلا يستطيع فكيف يبلغ فاه؟
قال سبحانه :( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ( الرعد[14].
قال علي بن أبي طالب :"كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبداً بيده فكيف يبلغ فاه "أ.هـ(23)
ت - ضرب الله مثال الإيمان بالسماء التي تحفظ الإنسان فإذا ترك الإيمان ووقع في الشرك سقط وخر فتتخطفه الطيور والآفات فتمزقه وتصيبه بالأذى والضرر في دينه ودنياه :
قال سبحانه:( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (الحج [31].
قال الشيخ السعدي -رحمه الله -:"...فالإيمان بمنزلة السماء محفوظة مرفوعة .
ومن ترك الإيمان بمنزلة الساقط من السماء عرضة للآفات والبليات فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء ، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطتفه الشياطين من كل جانب ، ومزقوه ، وأذهبوا عليه دينه ودنياه ، وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلو به في طبقات الجو فتقذفه بعد أن تتقطع أعضاؤه في مكان بعيد جداً"أ.هـ(24)
والأمثلة التي ضربها الله للموحدين والمشركين كثيرة ولكن المقام لا يكفي لبسط كل ما يتعلق بهذا الأمر .
الفصل الرابع :
الشرك ومظاهره في العالم الإسلامي(3/23)
ثبت عن النبي ( أن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ومن مظاهر الغربة عودة بعض مظاهر الجاهلية التي كان النبي (فيها غريباً .
ولعلي أذكر أبرز مظاهر الشرك المعاصرة وهي على سبيل الإجمال :
1. أظهرها وأشهرها دعاء الأموات والغائبين والاستغاثة بهم لكشف الضر أو طلب النفع وقضاء الحاجات كطلبهم شفاء المرضى والتوسعة في الرزق ونحو ذلك ، والله سبحانه قد عد هذا من أجلى صور الشرك والكفر والخروج من ملة الإسلام فقال سبحانه:( ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك من الظالمين ( يونس [106] وبين الظلم في الآية الأخرى فقال :( إن الشرك لظلم عظيم (ق [13].
2. التبرك والتمسح على عتبات القبور والأضرحة وبعض الأحجار والأشجار وهذا شرك لأنه يعتقد النفع بهذه الجمادات التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن تملك لغيرها ذلك ، والرسول ( أنكر على أصحابه الذين كانوا حديثي العهد بالكفر وفي بداية إسلامهم لما قالواله: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وهي شجرة كان المشركون يعلقون عليها أسلحتهم رجاء بركتها فظن من جهل خطورة هذا الفعل أنه جائز فقال لهم النبي( مبيناً حكم هذا الفعل: (سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم) (25) فعد هذا الفعل كمن يعبد غير الله وهو كفر لاشك فيه.
3. الذبح لغير الله للجن والأولياء وعلى عتبات القبور والله عز وجل قد أمر أن تكون كل العبادات له ومنها الذبائح والنسك فقال :( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( الأنعام [163] والرسول ( قال: (لعن الله من ذبح لغير الله ).(3/24)
4. الحكم بغير ما أنزل الله وهو نوع من أنواع الشرك لأن التحاكم نوع من العبادات التي لا تصرف إلا لله كما قال جل وعلا :( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ( يوسف[40] فعدّ الحكم عبادة ، وقال في الآية الأخرى :( ولا يشرك في حكمه أحداً( الكهف [26] ، والتشريع حق خالص لله فمن شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله فهو مشرك في الربوبية والألوهية وهو من أغلظ أنواع الشرك والعياذ بالله .
5. الغلو في الصالحين أو في الأئمة المتبوعين واعتقاد العصمة لهم وإعطاؤهم بعض خصائص الرب كمن يعتقد في بعض الأولياء أنه يتصرف في الكون كما يقول بعضهم: ( يا عبد القادر يا جيلاني يا مصرف في الأكواني( وكما يعتقد بعض الجهلة في آل بيت النبي ( أنهم يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون وهذا كله كفر بالله ومشاركة للمخلوق في خصائص الخالق .
6. الغلو في النبي ( وقد قال ( : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله ) (26) ومن مظاهر الغلو فيه :
أ - دعاؤه والاستغاثة به كمن يقول :( يارسول الله اغثني واكشف كربتي ونحو ذلك ) كما يفعل بعض الجهلة عند قبر النبي ( بالمدينة النبوية .
ب - اعتقاد أنه يتصرف في الكون وأنه يعلم الغيب بعد موته كما يقول صاحب البردة :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذبه سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ت - رواية الأحاديث الموضوعة المكذوبة في حقه لتبرير وتجويز الغلو فيه كالتوسل به وبجاهه وهي بدعة منكرة ويروون في ذلك قوله :
( توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم ) وغيرها من المكذوبات عليه (.(3/25)
ث - إقامة بدعة ما يسمى بالمولد النبوى بمناسبة مولده الشريف كل سنة والصلاة عليه وذكر سيرته ولاشك أن الصلاة عليه وذكر سيرته مشروعة طول السنة وليست مقصورة في يوم واحد ، والمولد باطل شرعاً وعقلاً وفطرةً وهو مصادمة للشرع واتهام لله ولرسوله أنه لم يكمل الدين ولم يبلغ حق البلاغ وهذا العمل لم يعمل به أكثر الخلق حباً لله ولرسوله وهم الصحابة الكرام ولم يفعله التابعون ولا تابعوهم ولا أصحاب القرون الثلاثة الأولى وإنما ظهرت على أيدي الدولة العبيدية الباطنية الفاطمية وباركها المستعمرون ودعوا إليها وأحيوها وشاركوا فيها وبالمقابل حاربوا العلماء ومن يحيى سنة الرسول ( كل هذا يدل على أنهم يعلمون أن مثل هذه البدع تبعد الناس عن حقيقة هذا الدين وجوهره ولبه ويجعلهم يتعلقون بمثل هذه الخرافات التي تحرف وتشوه محبة النبي ( الحقيقية القائمة على اتباعه وإقامة شرعه في الأرض كلها والدفاع عن حرمات المسلمين .(27)
7. فصل الدين عن سائر شؤون الحياة وهي ما يعرف بالعلمنة والعلمانية والتي تدعوا إلى إقامة حياة لا علاقة لها بالدين ولا تعترف بحلال ولا حرام ويعيش الناس في ظل هذا النظام كالبهائم ، والله عز وجل قال :( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ( النساء [65]، وهنا يجب أن أنبه إلى أن بعض المسلمين يصلون ويؤدون الفرائض وعند معاملاتهم الاقتصادية وحياتهم الاجتماعيه لا يراعون لشرع الله حرمة ويقولون العبارة المشهورة (الدين في المسجد ) وهذه حقيقة العلمانية والتي هي ومن اعتقد أن شرع الله لا يحكم في معاملات الناس كفر بالله وبشرعه وبنبيه الكريم .
هذه بعض المظاهر على وجه الاختصار نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يوفقنا وإياهم لسلوك الطريق المستقيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين .
……………………كتبه
ناصر بن يحيى بن ناصر الحنيني(3/26)
1/11/1423هـ
Honini48@hotmail.com
(1) انظر تفسير ابن كثير (1/209)ط.دار ابن حزم بتحقيق البنا .
(2) المرجع السابق (3/1328).
(3)تفسير ابن كثير (6/2906).
(4) تفسير ابن كثير (3/1361).
(5)المصدر السابق (3/1363).
(6)المصدر السابق .
(7) أخرجه البخاري في كتاب العلم -باب الحرص على الحديث برقم (99).
(8)أخرجه البخاري في الأطعمة -باب الخزيرة برقم (5401)،و مسلم في كتاب المساجد -باب الرخصة في التخلف عن الجماعة برقم (263).
(9) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2687).
(10) الصواعق المرسلة (2/461).
(11) مدارج السالكين (1/372).
(12) أخرجه مسلم في الإيمان برقم (23).
(13) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي الحديث الأول من صحيحه .
(14) أخرجه البخاري في كتاب الصلح - باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم (2697 ) ومسلم في كتاب الأقضية برقم (1718)
(15) أخرجه البخاري في الإيمان -باب حب الرسول ( من الإيمان برقم (15)،ومسلم في الإيمان برقم(44)
(16)البخاري في كتاب التفسير -باب (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً( برقم: (4497)ومسلم في كتاب الإيمان برقم (92).
(17)البخاري في كتاب التفسير -باب قوله تعالى :( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون(برقم :(4477) وبرقم: (6861) ،ومسلم في الإيمان برقم (86).
(18)تفسيرابن كثير (8/3633).
(19)كما جاء بذلك الحديث الصحيح عنه ( عن أبي هريرة كما جاء في البخاري برقم (3442) ، ومسلم برقم (2365).
(20) أخرجه البخاري في كتاب الغسل -باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس برقم (283).
(21) انظر : تفسير ابن كثير (6/2910) ، مفردات الراغب ص678 .
(22)انظر كلام ابن عباس في تفسير هذه الآية في تفسير ابن كثير (3/1316-1317).
(23)تفسير ابن كثير(4/1887).
(24) تفسير السعدي (5/292)ط.الإفتاء .(3/27)
(25) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن -باب ماجاء لتركبن سنن من كان قبلكم برقم (2180) وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (76) وحسنه الألباني .
(26) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء -باب قول الله :(واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها( برقم (3445).
(27) لي رسالة مفردة في المولد النبوي وتاريخه وحكمه نشرت في الانترنت عام 1422هـ،وسوف أنشرها لاحقاً إ ن شاء الله .
??
??
??
??
17(3/28)
مصارحات رمضانية
صارحك بها
خالد بن سعود الحليبي
موقع صيد الفوائد
www.saaid.net
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي المصارحات
أخي الصائم ..
أحمد الله تعالى إليك , الذي بلغنا بفضله ومنته شهره العظيم ,وأسأله تعالى أن يبلغنا صيامه وقيامه , وأن يتقبل ذلك كله منا .. إنه سميع مجيب .
وإني لأهنئك كما أهنئ نفسي وجميع أحبابي المسلمين بهذه المنة العظيمة , ولم لا وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه كان رجلان من بلي من قضاعة , أسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة . قال طلحة بن عبيد الله : فأُريتُ الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد , فعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم _ أو ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم _ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السَّنَةِ *
فكم أنا سعيد _ أخي الحبيب _ وأنا أتحدث إليك في هذا الشهر الكريم , أتعلم لماذا ؟
لأنه نوع من التواصل بين المسلمين في شهرهم المعظم بين الشهور , نتناصح فيه ونتغافر , ويذكر أحدنا نفسه بحديثه قبل أن يصل الذكر إلى مستمعه ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) الذاريات :55
أخي الصائم ..
للحديث معك نكهة خاصة , ولندائك في خاطري رائحة تذكرني بعطر الحقول حين يتدفق في جوانبها الماء وأكاد أحس بنسمات الربيع الفتي فوق الروابي الخضر حين أقول لك : أخي الصائم .
فأنت أخي وإن لم أعرف لك أسما أو رسما , وأخي وإن جهلت إليك الطريق فما أعظم هذا النداء الإيماني , الذي يلغي بيني وبينك كل المسافات , ويهدم كل الحواجز , ويوحد بيننا الأهداف والآمال ولآلام . ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات:10
وما أجل هذا الوصف الندي الذي ارتبط بك في الشهر الكريم ( الصائم ) بكل ما تحمل هذه الكلمة من أحاسيس وإيحاءات .(4/1)
صائم : طاعة لله تعالى , وليس رياء ولا سمعة , فما أبعد الصوم عن الرياء ,ألم يقل المولى جل وعلا في الحديث القدسي : "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " رواه الشيخان وغيرهما .
صائم : تعبداً لله تعالى , وأي عز أعظم من ذلك :
ومما زادني شرفاً وتيها ** وكدت بأخمصي أطا الثريا
دخولي تحت قولك ياعبادي ** وأن صيرت أحمد لي نبيا
صائم : تستشعر بها أنك داخل في عبادة تستمر ساعات طوالا , لا تعيقك عن نشاط , ولا تمنعك من راحة , بل تضفي على جوارحك خشوعاً , وعلى شخصك وقاراً , وعلى فؤادك راحة كم كنت تنشدها وأنت تشق بحر الحياة المتلاطم .
فهل تسمح لي يا أخي الصائم أن أرافقك خلال شهر الصوم والرحمة والمغفرة والعتق من النيران , لنقف بعض الوقفات نستعرض فيها شيئاً مما قد يبدو لنا من صور اجتماعية , وممارسات يومية خلال هذا الشهر الكريم , وأمور قابلة للنقاش , وإبداء وجهة النظر حولها , ولعل منها ما نتفق على استحسانه , أو على استهجانه ونبذه , وقد نختلف حول بعضها , ولا بأس , فالخلاف لا يفسد للود قضية , كما يقال .
فإلى المصارحة الأولى ..
المصارحة الأولى :(صوت الإرادة يدوي )
أخي الصائم ..
الصيام مدرسة روحية لتهذيب النفس , وتوجيه السلوك , وتدريب الجسد والروح على العزائم , لا يكون ذلك بقوة الأمر والنهي ولكن بالحب والطاعة المختارة , بل بالشوق الذي لا حدود له , فقبل أن يفد الشهر الكريم بأشهر , تتطلع النفوس المؤمنة بلهف شديد إلى هلال رمضان , فإذا هل بالبركة والأمان تبادل المسلمون التهاني بينهم , وكأن العيد قد حل قبل أوانه , فيا طيب روائح تلك التباريك الفرحة وهي تعطر الأفواه الصائمة , والمجالس العامرة , مصحوبة بابتسامة الرضا والقبول والتسليم .(4/2)
عندها ترسخ في نفس المسلم عزيمة ثابتة لا يتطرق إليها أدنى تردد :أن تستقيم على هدي الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شؤون هذه العبادة , مهما تعارضت مع الهوى الشخصي , والرغبة الخاصة , وهذا هو ميدان ترويض مهرة النفس الشموس , على خلق الإرادة , وتحقيق المراد دون ضعف أو تخاذل , وهو درس لا تقتصر حاجتنا إليه في رمضان فقط , بل في جميع لحظات حياتنا حتى نلقي ربنا تعالى
فما أحوجنا إلى الإرادة الراسخة حين تعرض علينا رشوة مغرية لأبطال حق أو إحقاق باطل , وما أحوجنا إلى الإرادة القوية حين ندعى إلى مجلس فحش , أو مصاحبة رفقة سوء , وما أحوجنا إلى وقفة شامخة حين تستذلنا إيماءة من شهوة دنيئة !!
وإذا كنا أعزة حقا في داخل نفوسنا , فلماذا نخجل من إعلان إرادتنا العليا تلك , وتأبينا على كل المراودات السلوكية الهابطة , بصوت مسموع ؟!
لماذا لا نصرخ بكل شجاعة في وجه مفاتيح الشر :
لا.. لن نسمح لكم أن تقتربوا من سياج مروءاتنا ..
لا.. لن نسمح لأنفسنا أن تكون فرائس سهلة لأنيابكم الشرسه ..
لا.. لن نسمح لأعصابنا وبطوننا أن تسجرنا إلى الهاوية بعد أن أعلا الله قدرنا ..
إننا حين نرفض كل دعوة إلى انحراف , فإننا نرتفع بمستوى إنسانيتنا إلى السمو الذي أراده الله تعالى لها , وهو ما نستشفه من قول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) محمد :12 . فتساوي القدر بين الإنسان والبهيمة في هذه الآية ليس لأنهما يشتركان في الحاجة إلى الطعام ولكن لفقدان ضابط الإرادة عند الإنسان , فالكافر حين عرض عليه الإيمان اختار غيره , وحين عرض عليه ضبط سلوكه بما يصلح شأنه , وليس غير خالقه يقدر أن يختار له , ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك 14 . ولكنه أبى إلا أن يكون كالبهيمة لا حدود لحرية إرادته .(4/3)
فلله الحمد كله أن جعلنا مسلمين , وله الحمد حين من علينا أن نثني ركبنا بين يدي رمضان نتعلم منه شيئا مما يعيننا على كسب إرادة تحررنا من قيود شهواتنا , مختارين حامدين شاكرين .
وإلى المصارحة الثانية
* * *
المصارحة الثانية :( الصيام والوظيفة )
أخي الصائم ..
لعلك تشاركني العجب من قوم جعلوا صيامهم حجة لهم وعذرا عن تقصيرهم في أداء واجباتهم على الوجه الحسن , فعللوا تأخرهم في قدومهم إلى وظائفهم بأنهم كانوا نائمين , ونوم الصائم عبادة !! وعللوا تراخيهم عن إتقان أعمالهم بأنهم مرهقون بسبب الجوع أو العطش , وللصائم الحق في أن يخفف عنه من جهد العمل ومشقته , وعللوا خروجهم المبكر قبل أن يستوفي وقت العمل حقه , بأنهم محتاجون لقضاء بعض اللوازم للإفطار !! وعللوا تذمرهم من المراجعين ,وسلاطة ألسنتهم على الناس بأنهم .. أستغفر الله .. صائمون !!
فياليت شعري كيف يفسر هؤلاء أثر الصيام على أنفسهم ,وكيف يفصلونه على قدود مشتهياتهم ؟!(4/4)
رمضان شهر العمل والبذل والعطاء لا شهر الكسل والخور والضعف , شهر وقت فيه أكبر الانتصارات في الإسلام في القديم والحديث , فلم يكن عائقاً عن أداء مهمة , ولا داعياً للتقاعس عن إتقان عمل . " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " . حديث جليل لا يتخلف مراده بتغير الأزمان , وقاعدة عظيمة لا تختل بظرف طارئ كيف والصوم عبادة تؤدى لله , هدفها الأول تربية التقوى في النفس المؤمنة يقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) . والتقوى وازع إيماني عميق الجذور , إذا تغلغل في النفس كان حاجزاً مانعاً لها عن كل ما يسخط الله ودافعاً قوياً لها إلى كل ما يحب الله , والإتقان مما يحب الله , وهو من صفات الكمال التي اتصف بها عز وجل قال تعالى ( الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88) فأول ثمرة متوخاة من تقوى تعالى في العمل , مراقبته غز وجل في كل الساعات التي تمضيها _ أخي الموظف الصائم - وأنت تمارس عملك , بأن تكون في مرضاة الله وألا تضيع منها دقيقة واحدة في غير ما يخص وظيفتك , وأن تنشط لمهامك بوعي تام , وأن تكون في موقعك ينبوع أخلاق ونهر عطاء تتدفق بكل خير على مراجعيك دون تذمر منهم أو مشقة عليهم , فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليه فاشقق عليه , ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به " .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : " والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ". تخيل معي لو أن كل صائم منا حمل هذه الراية البيضاء , إذن لبكى الشيطان بكاء مرّاً !! لأننا أفشلنا أكبر مؤامرة خطط لها من أجل إفساد عبادتنا , وذات بيننا .(4/5)
فما رأيك - أخي الصائم - أن تحمل الراية معي لنكون في كوكبة الصابرين , ونواجه كل متحد لمشاعرنا , أو مستفز لأعصابنا بهذا الهتاف الإيماني : " إني امرؤ صائم " بل فلنحاول أن نناصح زملاءنا في العمل ونذكّرهم إذا رأينا منهم بعض ظواهر هذه الممارسات الخاطئة .. فلعلنا نفوز باستجابة ... ودعوة ... ومثوبة .
وإلى المصارحة الثالثة
*****
المصارحة الثالثة : ( الإفطار العشري )
أخي الصائم
كثيرا ما يدور الحديث بين الناس حول بعض الممارسات الاجتماعية الخاطئة في رمضان , والتي فشت في المجتمع فشو الغبار , حتى لم تدع بيتا إلا داهمته , أو على الأقل تركت عليه مسحة من التقليد , هذا إذا استطاع هذا البيت العتيد الصمود أمام طغيان العادة على التدبير والعقل والاستقلالية .
وكثير من هذه العادات مستهجنة عند جميع الناس قولا أو على أقل تقدير عند كثير منهم ولكنهم ينهزمون أمامها عملا فهم يتحدثون عنها حديث المنكر المتبرم , ويقعون في شباكها كالعصافير الجائعة .
ولعل من أبرز هذه الظواهر المريضة الإسراف في إعداد مائدة الإفطار, فقبيل شهر رمضان المبارك تشهد أسواق المواد الغذائية تدفقا بشريا هائلا ، يحدث إرباكا كبيرا في التسوق كما يحدث اختناقات خطيرة في المرور ويجعل المجتمع كله في هيئة استعداد ضخم لموسم غذائي , وليس لموسم عبادي , فتزداد التكاليف وتتضاعف على كاهل راعي الأسرة وعائلها , وتتراكم المواد الغذائية في المنازل وتبدأ رحلة العذاب لراعية المنزل في إعداد الإفطار العشري ( الذي لا يقل عن عشرة أصناف )
فلا وقت لديها لتلتفت إلى تربية أولادها ولا تملك الزمن الذي تقرأ فيه وردها ولا تخشع في صلاتها ولا تسل عن مفاصلها ولا عن نفسيتها حين تنتهي المهمة مع الأذان أو بعده بقليل وقد اشتعلت أعصابها وهي تصارع الوقت مخافة أن يصرعها فلا يبقى لها جسد ولا تهدأ لها روح .
فهل حقا نحن نحتاج إلى كل هذا الإمدادات الغذائية الشرهة إذا صمنا ؟(4/6)
لا أظن ذلك
فبطن الإنسان لا يتوسع إذا صام بل يضيق .
ولكن الذي يتسع هو عينه فقط ولا سيما حين يتسوق بعد العصر , وقد بدأت أسرة الجهاز الهضمي تتناوب في إرسال الاستغاثات إلى الدماغ لطلب الغذاء فيذهب صاحبنا يلبي رغبة كل فرد في هذه الأسرة الهضمية على حدة , كما يحرص أن يلبي جميع رغبات أسرته الكريمة , وهنيئاً مريئاً لمحلات بيع المواد الغذائية !! ويا عون الله للعائلين .
أخي الصائم
لماذا نواصل السير في الدروب التي خبرنا آفاتها وتكسرت في أقدامنا أشواكها لماذا لا نتفق الآن على اتخاذ قرار ثنائي بيني وبينك أن نوقف تسلط هذه العادة على حياتنا , ولتكن وجبة الإفطار كغيرها من الوجبات التي كنا نتناولها قبل رمضان , تتنوع موادها الغذائية وتتكامل ولا تتضخم فتشبعنا وتمتعنا ولا تتخمنا وتغذينا ولا ترهقنا.
فإذا كان للصيام أثر طبي رائع على الجسد من صحة وحيوية وتقوية لجهاز المناعة , ووقاية من العلل والأمراض والسموم المتراكمة في خلاياه كما يجزم بذلك الأطباء . فإن الإفراط في الطعام يهدم هذا الأثر ويحرم الصائم من منفعة عظيمة كانت بين يديه ولنتذكر دائما وصية خالقنا الحنان المنان لنا في محكم التنزيل ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) (لأعراف: 31) . وما أجمل أن يرحل رمضان عنا وقد تحسن وزننا وصحت أجسادنا كما تصح فيه أرواحنا , إذن لاستقبلنا عيدنا ونحن في غاية السعادة والعافية .
ترى هل ستعقد هذا القرار الآن ياصاحبي ..آمل ذلك .
وإلى المصارحة الرابعة..
المصارحة الرابعة : ( رمضان والضيافة )
أخي .. رمضان شهر كريم , ومن شأنه أنه يضفي على صوامه بجوه الروحاني الشفاف سماته الجميلة الجليلة , ومنها صفة إكرام الضيف وهي عادة أصيلة من عادات مجتمعنا الطيب , تتوافق مع روح الإسلام الذي جعل الضيافة حقا للضيف على المضيف , ففي الحديث الصحيح : " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "(4/7)
إن إكرام الضيوف من مكارم الأخلاق التي يدعو لها دين جاء ليعزز شأنها وينشرها في البشرية , ويوثق علائقها , فأي غربة ستبقي للغريب حين حين يشعر وهو في طريقه إلى هذه البلاد أن له بيوتاً سوف يأوي إليها وكأنها ملك له , وأن له أهلاً سوف يأنس بهم وكأنهم أهله , فيشعر حينئذ بالأمن والاطمئنان .
وازدهت صور الكرم العربي حين جاء رسول الإسلام والأخلاق فكان أجود الناس بأبي هو وأمي ولاسيما في رمضان,فما عرف عنه أن رد سائلاً ولا عبس في وجه ضيف , بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر . وإذا أعياه المال والطعام ولم يجد منهما شيئاً التفت إلى أصحابه يطلب منهم أن يستضيفوا ضيفه , حتى رسم الصحابة بكرمهم لوحات إنسانية كريمة تتضاءل أمامها كثير من لوحات الكرم الحاتمي , فماذا بعد أن يؤثر المرء ضيفه على نفسه وعلى أطفاله حتى يبيتوا جائعين ليشبع ضيفهم , بل يوهموه أنهم يأكلون معه فيطفئوا السراج حتى لا يكتشف هذا النبل والكرم العظيم .
أخي الصائم .. إن مما ينبغي أن يستقر في نفوس المؤمنين أن علاقة المضيف بضيفه هي علاقة عبادة , ولاسيما حينما يكون تفطير صائم أو تسحيره فليست استضافته تطبيقاً لعرف من الأعراف ولا جرياً لعادة اجتماعية سائدة وإنما هي عبادة من العبادات العظيمة يؤديها ليؤجر عليها . ولذلك ينبغي أن يرعى فيها حقوق الله تعالى , وأن يجتهد في إكرام ضيفه قدر طاقته ويتجمل معه حسب استطاعته , فلا داعي أن يستدين ويرهق نفسه وأولاده من أجل أن يظهر أمام الضيف بغير حقيقته ,أومن أجل ألا يعاب من عشيرته فإن مثل هذا البلاء قد استشرى , وإن جريرة الديون على المعسرين أعظم خطراً من حديث الناس الوقتي الذي يذهب مع الزمن وعلى الضيف أن يعذر صاحبه وألا يحمله أكثر من طاقته , فلا يحقرن كل منهما شيئاً مهما قل ولو كان مذقة لبن أو كأس عصير , فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها :
إذا الضيف جاءك فابسم له *** وقرب إليه وشيك القرى(4/8)
ولاتحقر المزدرى في العيون *** فكم نفع الهين المزدرى
وأما الأثرياء فلهم أن يقدموا ما يشاءون من أصناف الطعام القادرين عليها , دون أن يصلوا إلى حد الإسراف فمن أسرف فقد وقع تحت طائلة قوله تعالى :( وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً )(الاسراء: 26،27) والآية في معرض الإنفاق على الآخرين . وعليه بعد ذلك أن يحفظ نعمة الله التي تبقت فيأكلها أو يؤكلها أهله أو المحتاجين .
ولعلنا نجد ذلك الإسراف الوبيل يتضاعف في ولائم شهر رمضان الكريم , حيث تعرض عشرات الأصناف بكميات كبيرة وربما انتقل إلى طبع دائم في البيوت , فيستأصل كالمرض الذي لا يجدون فكاكا منه .
وليست الضيافة بالطعام والشراب فقط , بل إن من أجمل القرى وأكمله الحديث مع الضيف والترحيب به وإزالة الوحشة عنه :
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله *** ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف كثرة القرى *** ولكنما وجه الكريم خصيب
إنه الكريم حقا ذاك الذي يتناسى كل همومه أمام ضيفه ,ويشعره بالراحة معه وحب لقياه , مهما كانت ظروفه وعسرها , حتى لاينكد عليه حلاوة اللقاء .
وإلى المصارحة الخامسة ..
المصارحة الخامسة :( ما أشد قبحها في رمضان )
أخي الصائم ..
ما أجمل ليالي رمضان وما أندى أحاديثها إذا تجالس الأحباب ونثروا بينهم ورود الود وتهادوا رياحين الكلام ينتقون أطايبه كما ينتقى أطايب التمر كما يقول الفاروق , صفت أرواحهم بالصيام وطهرت ألسنتهم بالذكر والسلام , واغتسلت جوارحهم بطول القيام , تلاقوا كما تتلاقى الغصون في موسم الربيع ليس بينهم صخاب ولا سباب ولا تشوى بينهم أعراض الخلائق , بل تتجاذبهم مشاعر الأشقاء فينصح بعضهم بعضاً ويدل أحدهم أخاه على ما يصلح آخرته ودنياه , فإذا بالمنافع تجني كما تجنى الثمرات , وإذا المحبة تطفح على الوجوه بالضحكات والبسمات .(4/9)
هذه هي الصورة المثلى التي يجب أن تكون عليها مجالسنا في كل حين ولا سيما في رمضان شهر الطهارة من فحش القول وآفات اللسان .
ولكن هل هذا واقع كل الناس ؟
لعل الجواب سيكون : لا وإنما هو حال ثلة منهم رأوا أن من تمام صيامهم عن المفطرات الصوم عن أعراض الناس والتفكه بها منصتين إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :" من لم يع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري .
ومن أشد الزور في القول نقيصة الغيبة , التي لم تدع _ إلا ما رحم ربي _ مجلساً إلا دنسته , ولا لساناً إلا زلت به , ولا طالحاً ولا صالحاً إلا راودته , فلم يسلم إلا قليل .
الغيبة ذلك الوحش الضاري , والعدو الصائل , ينقض على الحسنات فينهشها وعلى اللحوم البشرية فيأكلها , وعلى المجتمعات الإسلامية فيفرقها .
ألا ترى - أخي الصائم - كيف تساهل كثيرون في أمرها , حتى أصبحت كأنها عادة اجتماعية متعارف عليها لا تكاد تنكر فبينما كان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر , ويحفظون أعراض بعضهم عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الأعمال , ويرون خلافه من عادة المنافقين , فقد انتشر خلاف ذلك اليوم , فها نحن أولاء نرى كيف يلقى أهل المجلس زائرهم بالترحاب ويأخذون معه أطراف الأحاديث التي تفوح بالمجاملات وما إن يودعهم حتى تبدأ وجبتهم الدسمة بلحمة متناسين مثل قول الله تعالى :( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) ( الحجرات: 12 )(4/10)
إن من العجب حقاً أن يصوم أحدنا عن الحلال , ويفطر على الحرام والأعجب من ذلك أن نتظاهر بنزاهتنا عن أبواب الغيبة فندخلها من أسوارها , فالغيبة قد تكون بالإشارة والغمز والكتابة والحركة والتمثيل ,بل هو أشد غيبة كأن يمشي المغتاب مثل مشية أخيه يعيبه فرسولنا صلى الله عليه وسلم حين حكت له عائشة رضي الله عنها إنساناً قال:" ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا "رواه أبو داود بل من أعجب الغيبة : أن يذكر عنده أحد الناس , فيقول : الحمد لله الذي لم يبتلينا بذنبه نسأل الله أن يعصمنا من مثل عمله وإنما قصد أن يعيبه بصيغة الدعاء وربما قدم بمدحه ثم يشير إلى تقصيره فيكون مغتاباً ومرائياً ومزكياً نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش أو أن يصغي إلى الغيبة على سبيل التعجب فيزيد من نشاط المغتاب .
أخي الصائم .. ليكن صومنا فرصة لنا لنعالج أنفسنا من هذا الدء فننكرها على الآخرين باللسان أو بالقلب عند عدم القدرة حتى لا نقع في الإثم العظيم .
وليضع أحدنا نفسه موضع رجل جعل أهل مجلس موقع تندرهم وضحكهم , فهل يطيق ذلك ؟! ألا تكره نفوسنا أن نسمع كلمة قيلت فينا تعيبنا سواء أكانت حقاً أم باطلاً ؟ فكذلك الناس - أخي الصائم القائم - لا يرضونه لأنفسهم ..
وأخيرا هاك هذه الحادثة القصيرة قبل أن أودعك , روي عن الحسن أن رجلاً قال له : إن فلاناً قد اغتابك فبعث إليه رطباً على طبق وقال : قد بلغني أنك قد أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام .
الغيبة - يا أخي - نار فلا تقربها من حسناتك لاسيما وأنت تظمئ نهارك وتحيي ليلك وترخص مالك لتثقل بها ميزانك ..
وإلى المصارحة السادسة ..
المصارحة السادسة : ( هل ستغلبه أم سيغلبك ؟ )
أخي الصائم ...(4/11)
لاتزال نداوة رمضان ترطب القلوب المؤمنة , ولا يزال أرج العبادة فيه ينعش الأرواح الصائمة , ولا تزال نفحاته العطرة تبعث الهمم العالية لمواصلة المسيرة الخيرة في اغتنام أوقاته لا جتناء الطيبات من الأعمال والأقوال .
رمضان شهر يعود فيه الإنسان إلى أطيب عناصره وأرقاها وهو الروح , فيزكيها ويلبي رغباتها حتى يشف عن إيمات رفيع يستجيب معه لأوامر الله طائعاً مختاراً راغباً في المزيد مستمتعاً بالعبادة ولذائذها ويعيش الجسد فيه حالة من التراجع في البحث عن مشتهياته فالهم الأول للمسلم في هذا الشهر هو الحصول على هدف التشريع الإلهي للصوم في مثل قول الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)
والتقوى شرط القبول : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27) .
وهل يحصل الإنسان على شيء قيم إلا بثمن مماثل , ولذلك كان على استعداد تام للتضحية بكل ثمين يمكن أن يقدم لله تعالى من أجل القبول هذا الذي ركب الصالحين بالهم بعد العمل ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)(المؤمنون:60). هذا الشعور يجعل النفس تتحرر من كثير من قيودها التي ترهقها وهي مشدودة إلى الدنيا أكثر من الآخرة خلال ممارسات الحياة المعاصرة وتعقيداتها ولذلك فإنها تستريح في رمضان وتستجيب إلى كثير من نداءات الخير التي كانت مشغولة عنها في غيره ملبية مشتاقة وهنا فرصة أخذها بما كانت تأباه من السلوكيات الحسنة والأخذ بزمامها عن الممارسات الخاطئة .(4/12)
ولعل من أبرز الأمراض العصية التي انهار أمام سلطانها كثيرون ، هي عادة التدخين ، فعلى الرغم من أن المدخن أعلم الناس بمضار التدخين ، لما يراه من اثرها على نفسه وصحته وماله وعياله ومجتمعه ، حتى إنك لو طلبت منه أن يسردها عليك لسدِّ عليك الأفق ، ولكنه لا يملك الإرادة الكافية للإقلاع عنه . يمنعه من ذلك وهمٌ غرير بأنه أصبح يجري في دمه ، ولا يمكن أن يستغني عنه ، وأنه أصبح جزءاً من شخصيته ، وأنه .. والواقع يقول غير ذلك .. الواقع يقول : إن آلاف المدخنين قد أقلعوا عن هذه العادة السيئة بكل المقاييس ، والبداية دائما تنبع من الذات ، حين يقتنع المدخن بهذا القرار الصائب ، وبعمل على تحقيقه . والفرصة في شهر رمضان مواتية أكثر من غيره ، فالنفس تكون قريبة من الخير ، حريصة على ما يرضي الله ، ولا شك أن ترك التدخين هو إقلاع عن ذنب تجب التوبة منه ، وفي رمضان يمضي الصائم أكثر من نصف اليوم ممتنعاً عن ممارسة هذه العادة ، مما يضع المدخن أمام اختبار يومي ، يرى أنه ينجح فيه بامتياز ، فما الذي يجعله يتردد عن إكمال بقية اليوم ، وإن وجود عيادة خاصة لمساعدة المدخنين على ترك الدخان فرصة ثمينة يجب استغلالها ، وقد قمت بزيارة ميدانية لها فوجدتها عيادة هادئة ، قد هيئت للنجاح في أداء مهمتها ، ولكن أيضاً مع أهل الإرادة القوية ، والعزيمة التي تكتسح التردد منذ أن يطرأ .
أخي الصائم .. كن عوناً لأخيك على نفسه ، ولا تكن عوناً للشيطان عليه ، فانصحه برفق ، وقوِّ عزيمته بدلاً من تخجيله ، واحمل لواء مكافحة التدخين في هذا الشهر الكريم .
وأنت يا أخي العزيز ، يا من ابتليت بهذه العادة : أرجوك من أجل الله تعالى أقلع عن شيء يضرك اليوم ، ويضر أولادك في المستقبل ، ويضر بمجتمعك ما دامت سيجارتك تنفث سمَّها في أجوائه . فهيا انتزع نفسك من قائمة المدخنين ، واندرج في قائمة الأصحاء المعافين ..
وهيا معي إلى المصارحة السابعة ..(4/13)
المصارحة السابعة : ( بين الغطيط والسهر ضياع !)
أخي الصائم ..
دعنا نتساءل هل الصيام يدعونا إلى الحركة والإنتاج أم إلى السكون والدعة ؟
لو تأملنا حياة عدد من أفراد المجتمع لوجدنا الإجابة تقول بلسان الحال : إن الصيام تسبب في الخمول والتراخي فقلة الأكل تؤدي إلى نقص الطاقة الجسدية مما يؤدي بالتالي إلى البحث عن وسائل الراحة وزيادة حصة النوم من ساعات اليوم .
هكذا يعتذر الخاملون لأنفسهم ولو تأملت حياتهم في غير رمضان لما وجدت فرقاً كبيراً في قدر الإنتاج ذلك لأنهم مرضى نفوس يتعللون لكل زمان بما يلائمه ليستمروا في سلبيتهم .
وإلا فأين الضعف الذي يتحدثون عنه حينما ينظمون أوقاتهم ليحفظوا طاقاتهم ويوظفوها فيما يفيدهم ؟
إن أول العلاج _ أخي الصائم الكريم _ أن نحس بقيمة الوقت وأن نوقن أنه يمثل الحياة , والحياة أغلى مما ينبغي أن نحافظ عليه من أماناتنا , والفراغ جوهرة نفيسة قد لا يكتشف الإنسان ثمنها الحقيقي إلا حين تنزع منه وكما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى كما قيل :
فالوقت أنفس ماعنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع
إن أمتنا خسرت كثيرا من الطاقات الشابة سخروا ما أوتوا من مواهب في خدمة شهواتهم وتلبية غرائزهم وحسب إنهم يعيشون ليأكلوا ويشربوا ثم ليموتوا , دون أن يتركوا أي أثر إيجابي لهم على هذه الأرض التي كانت تنتظر محراثهم وبذرهم وسقيهم .
والسؤال الآن : هل الوقت في رمضان أقل أهمية منه في غيره ؟
على العكس تماماً , فالوقت في رمضان يزداد قيمة وأهمية بسبب الفضل العظيم الذي خصه الله به . والوقت يتضاعف حينما نستطيع أن نتجاوز الظغوط الاجتماعية علينا التي تحاول أن تلزمنا السهر الطويل ليلاً بحجة أن أجواء رمضان الاجتماعية هذه هي طبيعتها عندنا منذ عقود من الزمان وبطبيعة الحال حين يسهر الإنسان كل الليل , فلا بد أن يعوضه نوماً طوال النهار(4/14)
وهنا المعضلة .. فالليل الرمضاني الذي كان يقضى أوله في عصر السلف في صلاة التراويح ثم النوم حتى ثلث الليل الأول ليكمل مع صلاة التهجد أصبح في برنامج هؤلاء مدينة للألعاب يتنقلون فيها بين المراجيح والمسابح وفطائر الوجبات السريعة .
والنهار الذي كان لكسب الرزق , والسعي في الأرض لإعمارها كما أراد كما أراد خالقها وخالقنا أصبح غطيطاً يذهب بالقلوب حتى عن واجباتها العبادية والاجتماعية .
لقد كنا نقرأ عن السلف من يقول :" والله أنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل فإن الوقت والزمان عزيز " , وقرأنا ما أذهلنا عن النووي رحمه الله أنه يقول :" إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة ثم أنتبه " .
نهار رمضان يتبارك ويزداد حينما يأخذ الجسم راحته في الليل / الموطن الأصلي للنوم وحينما يعمل المسلم بالسنة فيتسحر متأخراً ويفطر مبكراً فإن الامتناع عن الأكل نهاراً يوفر له الزمن الذي كان يقضيه في تناوله ويزيد من نشاطه ذلك لأن الأكل في وسط النهار سبيل للخمول وهو ما نشاهده من الرغبة في النوم ظهراً بعد الغداء مباشرة ومن ثم الكسل عن أعمالنا التي ربما كنا ننوي القيام بها قبل أن نتخم بطوننا
أخي الصائم ..
أليس هدراً أن نضيع شهراً مباركاً كهذا الشهر في سهر عقيم وتبديد لأجل نعمة بعد نعمة الإيمان هي نعمة الوقت الغالية ؟
حتماً سيكون جوابك ..لا.
فهيا إلى المصارحة الثامنة ..
* * *
المصارحة الثامنة : ( معاً .. ضد التسول )
أخي الصائم ..
إن صيانة المجتمع مما يعكر صفاء ينابيعه مسؤولية مشتركة بين الدولة والمواطن , فاسمح لي أن أناقش معك اليوم دوري ودورك في القضاء على ظاهرة خطيرة تنمو أشواكها في رمضان أكثر من غيره فتشوه صفاء روحانيته الصافية , إنها ظاهرة التسول .(4/15)
فبينما أنت تسبح في عالم الصفاء في بيت من بيوت الله تتلذذ بالصلاة والمناجاة مع رب العزة والجلال , قد خشعت الأصوات وانسكبت العبرات ورقت القلوب بسماع كلام علام الغيوب إذا برجل يحمل طفلاً أو عكازاً يشق الصفوف ليقف أمام المصلين صائحاً بأعلى صوته يتصنع البكاء والمسكنة ويهتف بالمصلين أن يعينوه على بلواه ويسترسل في شرح حال غير موثقة فيقطع بذلك أسباب الخشوع ويصرف القلوب عن الذكر والتسبيح ثم يجلس ليتلقى الأموال التي ربما كانت عليه حراماً لكونه كذاباً غير مستحق . وللأسف الشديد تجد التعاطف معه كبيراً مما يشجعه على الاستمرار .
إننا - أخي الصائم - قد نتساهل في مثل هذه القضية متناسين أن لها أضراراً كبيرة على الفرد وعلى المجتمع , فالتسول من الأبواب التي تعطل اليد العاملة القادرة على الإنتاج والكسب , حين يجد المتسول أنه يكسب من مهمته هذه أكثر بكثير من لو أنه عمل بنفسه فيمتهن هذه المهنة الذليلة ويتعود على دلق ماء وجهه أمام الناس ، حتى يفقد إحساسه بوخزات نظرات الآخرين وانتقادهم , ويظل يتسكع في كل طريق منتهكاً حق إنسانيته وحق كرامته وحق مجتمعه ومن الطبيعي بعد ذلك أن تراه لايأبه بأن يستمر في هذه المهنة حتى بعد ان يغنيه الله . وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم :ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس " , ولذلك كان الجزاء من جنس العمل إذ " يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم " كما في الصحيحين .(4/16)
إن من حق الفقير الذي يعمل ولا يكفيه مردود عمله المالي أو إذا كان عاجزاً عن العمل بسبب مرض أو سجن أو نحوهما أن يطلب من إخوانه المسلمين ما يسد حاجته ولكن الأمور قد أخذت أنظمتها فأصبحت هناك دائرة للضمان الاجتماعي ومراكز لجمعيات البر فعلى المحتاج أن يقصدها ويأخذ حقه منها مرفوع الرأس غير ذليل . وهي مسؤلة عن إيصال الصدقة والزكاة الشرعية إلى مستحقيها فهي تتعرف الفقر الحقيقي من خلال دراسة ضافية بأساليب رسمية موثقة وأخرى اجتماعية خاصة كي تؤدي الصدقة دورها في خدمة المجتمع ومحو شرور الفقر عنه .
إننا - أخي الصائم - حين نعطي غير المستحق فقد حرمنا المستحق وشجعنا المحتالين على دروب الغش والخديعة بل وأسهمنا في نشر البطالة وتحطيم الإنسانية في نفس من نعطيه :
كل من أعطاه قرشا *** حطم الإنسان فيه
إنه مسخ شباب *** راعش لا روح فيه
حقا إننا نحتار حين تعرض امرإة حالها علينا وقد أضجعت إلى جانبها طفلها وبدت في حالة من البؤس ترقق القلوب فليس لنا أن نكذبها فقد تكون ولا نستطيع أن نصدقها لأننا لا نملك الزمن الكافي لاستقصاء حالتها ولا يجوز أن ننهرها وقد قال تعالى : ( وأما السائل فلا تنهر ) الضحى 10 ) فليس أمامنا إذن إلا أن نتعاون مع إدارة مكافحة التسول ونسلمها لها لتتعرف حالها ويكفينا درساً ما حدث في إحدى المحافظات حين اكتشفت الإدارة رجلاً يتلبس بلبوس المرأة يرتدي العباءة والحجاب ويجلس عند بوابة المسجد ليستعطف القلوب الطيبة .(4/17)
ومن التسول المقنع ما يسمى أخذ العادة أو ما نسميه في عاميتنا ( العويّدة ) ويقصد بها الزكاة السنوية التي تعودت بعض الأسر أخذها من بعض الأغنياء ، فيستحلوا أخذها حتى بعد أن تصلح حالهم ويغنيهم الله من فضله وقد بلغت هذه الظاهرة في رمضان أن يتجمهر الفقراء والمحتالون سواء على بوابة هذا الغني ويربكوا حركة السير ويؤذوا أهل الحي بتجمعهم أمام بيوتهم وذلك كل يوم من رمضان يشجعهم على ذلك التوزيع العشوائي للزكاة وهي ظاهرة بيد الأغنياء أن يحسموها بإرسال زكاتهم إلى جمعيات البر والمؤسسات الخيرية ويرتاحوا ويريحوا وتبرأ ذمتهم مما عليهم
وقاني الله وإياك - أخي الصائم - غوائل الفقر وذل المسألة .
وإلى المصارحة التاسعة
* * *
المصارحة التاسعة :( فضائيات )
أخي الصائم
إن المسلم الحق يفرح فرحاً شديداً بإدراك رمضان ليستثمروه في طاعة الله ولكن بعض العادات الاجتماعية تستطيع - بقوة سلطانها على الناس - أن تغتصب من رمضان حقه في خلوص أوقاته فيما يرضي الله تعالى
ومن ذلك صرف كثير من الناس أوقات طائلة في الجلوس بين يدي الشاشة الصغيرة التي أصبحت بعد البث الفضائي تضع العالم بين يدي جليسها من شرقه إلى غربه .(4/18)
لقد أصبح فضاؤنا العربي والإسلامي ميداناً لتنافس شرس بين عشرات القنوات الفضائية المتزايدة يوماً بعد يوم بينما مضامينها - إلا ما رحم ربي _ لا تزال تنهار من الناحية الفكرية والأخلاقية فجل ما يبث دعايات فجة ومواد خليعة تتاجر بغرائز المشاهدين وتحتقر ذواتهم وعقولهم ، وأي احتقار أشد وأنكى من أن تعرض الرذيلة دون حياء وتلغى كل الرغابة الشرعية عن تلك البرامج بحجة أن المشاهد العربي المسلم لا يريد غير هذا المستوى الدنيء من البرامج ولا تتدخل رقابة هذه الفضائيات إلا عندما تشاهد من الفاحشة ما يقام عليه الحد مع أن هذه القنوات تدرك يقيناً أن المقبلات الجنسية التي تسمح بها تكون عادة أقوى تأثيراً ونفاذاً لاستثارة الغرائز الجنسية من الممارسة نفسها .
وتزداد صولة هذه الفضائيات في شهر رمضان حيث تستعد ببرامج خاصة تحت مسميات كثيرة مثل الفوازير والمسابقات والمسلسلات وكلها تشترك في هتك حرمة شهر الله المعظم وفيما يسميه أحد كتابنا : (( العهر الإعلامي وكأنما اختار منفذوها هذا الشهر المبارك ليصرفوا الناس عن العبادات بما يقدمونه خلال برامجهم من رقص وعري وفجور يندى له جبين المسلم الغيور على دينه .
يقول الكاتب الغيور : (( ولو انصرف المشاهدون عن مشاهدة مثل هذه البرامج لما وجدت هذه البضاهة الفاسدة من يروجها ولوجدت محطات التلفزة المعنية حالها مضطرة إلى تقديم البرامج النافعة التي تحترم وعي المشاهد وتراعي حرمة الشهر الكريم وتحسن إلى المسلم بدلاً من أن تسيء إليه ))(4/19)
ويقول كاتب آخر : (( من مجمل مشاهداتي هذه السنة خرجت بانطباع جازم : أن غالبية هذه القنوات لاتحترم عقول مشاهديها ولا وقتهم ولا تذوقهم البسيط ولا المعنى العميق لوظيفة هذا الشهر الكريم في حياتنا فلدى القائمين على إدارة وبرمجة هذه المحطات شعور مستحكم أن جمهرة المشاهدين هم أناس أقرب إلى الجهل وبسطاء لا يحتملون قدراًً من التركيز والجهد وفارغون نفسياً ووجدانياً ينتظرون الأغاني والرقصات الموشاة بأجساد فرحة متمايلة لكي تشبع أفئدتهم الفارغة والقائمون أيضاً يعانون أنفسهم من الثقافة والمعرفة والهدف الذي ينطوي على هذه المحطات وهم ضمن وعيهم الهزيل هذا لا يعترفون بأن عقل المشاهد أسمى قليلاً من هذه الفوضى من الألوان والأزياء والحركات ))
أخي الصائم : لن أزيدك على قول هؤلاء الغيورين عليك وأنت أغير منهم على نفسك وأهلك وذريتك فاحم أسرتك من هذا الاستخفاف بدينهم ومشاعرهم وعقولهم وقيمتهم واتق الله أن تطيعه في النهار صائماً , ويعود البعيد في الليل عاصياً .
حماني الله وإياك من كل فتنة.
وإلى المصارحة العاشرة ..
* * *
المصارحة العاشرة : ( ماذا عن الخدم في رمضان ؟)
أخي الصائم ..
ها أنت ذا تقضي أياماً تفيض بالبهاء كما يهوي القلب التقي وتتقلب في نعيم العبادة كما يتمنى العبد المحب لمولاه , وتحرص على التخفف من أعمال الدنيا ليفرغ فؤادك لما هو أعز وأجل . فأهنئك بكل هذا الثراء الرباني وأذكرك - أخي الصائم بأن هناك من يتمنى منك أن تلحظه بعين رعايتك وشيء من اهتمامك ويود لو يذكرك بنفسه أنه مسلم يتمنى منك أن يحظى بخصوصية في المعاملة تتناسب مع خصوصية رمضان .(4/20)
إنهم تحت يديك أجراء يترقبون إشارتك وينظرون مواضع نظرك ليلبوا لك كل طلباتك , خدم كانوا بين أهلهم أسياداً فأذلتهم الحاجة والمسكنة حتى ساقوا نساءهم للخدمة في بيتك وبيوت بني ديارك خارج ديارهم مرغمين وساقوا شبابهم سائقين وعاملين يرضون بأدنى المهن ويتغربون من أجل رواتب زهيدة لا ترفعهم من حال الفقر إلى الغنى غالباً ولكنها تقيم أودهم وتشبع جوعة أطفالهم وتحفظ ماء وجوههم عن دنس الاستجداء وذل المسألة .
أفلا تستحق هذه الفئة منك لفئة حانية تؤجر عليها في رمضان ؟
إنهم مثلك مسلمون يصومون كما تصوم ويتمنون أن يقوموا من الأعمال الصالحة في هذا الشهر بمثل ما تقوم فهلا خففت عنهم بعض الأعمال وفرغتهم جزءاً من الوقت ليفرغوا لقراءة القرآن أو صلاة القيام ؟!
هذا هو أملي فيك فكما أنك تسعى إلى فقير لتعطيه وإلى محتاج لتعينه وإلى ملهوف لتغيثه فلن تنسى إن شاء من هم في بيتك أو مؤسستك .(4/21)
ودعني - أخي الصائم - ألتفت إلى صنف آخر من الناس لا يزالون قلة ولله الحمد أعيذك أن تكون واحداً منهم أولئك الذين تولوا على هؤلاء الفقراء فظلموهم كثرت أموالهم ولكنهم ماطلوهم في إعطائهم حقوقهم وأخروا رواتبهم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجة , وأمنوا هم في ديارهم ولكنهم خوفوا هؤلاء الغرباء بقطع أرزاقهم وإرجاعهم إلى ديارهم مقهورين مفلسين وأراحوا هم أجسامهم وأرهقوا هؤلاء البؤساء بالأعمال المضنية ولم يفرقوا حتى بين رمضان وغيره فبينما هم زادوا لأنفسهم ساعات النوم والراحة تركوا هؤلاء المساكين يشقون ليل نهار بعد أن خلط الناس بين الأوقات في رمضان فلا يكادون يجدون وقتاً يلتقطون فيه أنفاسهم مع هؤلاء الأسياد عفواً الظلمة لأنفسهم ولغيرهم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : نعم هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه " رواه البخاري . ولا أدري كيف أمن هؤلاء من عاقبة الظلم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة رواه مسلم وكيف لم يقلقلوا بعد ظلمهم خوفاً من دعوة ليس بينها وبين الله حجاب .
أخي الصائم ..
كما ترجو الأجر في صيامك وقيامك فاطلبه في التخفيف عن خدمك وعمالك في هذا الشهر وإسداء المعروف لهم والسماح لهم بأداء العبادات والطاعات حتى لو كانت تستدعي سفراً إلى مكة لأداء العمرة فلتحتسب ذلك عند الله فإنما هي فرصة ثمينة لهم ماداموا بين ظهرانينا قريبين من الحرم ولك في ذلك الأجر إن شاء الله .
وإلى المصارحة الحادية عشرة ..
* * *
المصارحة الحادية عشرة : ( أفضل الجود )
أخي الصائم ..(4/22)
إن الرحمة تنشأ عن الألم فإذا ذاق الغني طعم الجوع الذي يذوقه الفقير تحركت أحاسيسه تجاهه وإن غرغرة المعدة في نهار رمضان لخطبة بليغة اللسان تعظ الغني أن ينسى أخاه الفقير فتزكو نفسه وتتربى على خلال الجود والرحمة والشعور الرفيع الذي يزهق أنفاس الأنانية ويرتفع إلى مستوى الإيثار ورد أن يوسف عليه السلام كان يكثر الصيام وهو على خزائن الأرض فسئل في ذلك فقال : " أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقير "
أخي الصائم
إن من الغلظة حقاً أن تجد أقواماً لا تهزهم دمعة محروم ولا تحرك أعصابهم تأوهات مبتلى , ران على قلوبهم ما يكسبون من الأموال الطائلة فعاشوا لأنفسهم يهرقون الذهب والفضة بين يدي شهواتهم وسفراتهم بل وأطفالهم ويضنون بها عن أسرة محتاجة فقدت عائلها أو يتيم يتجرع مرارة اليتم كل يوم مرات ومرات وكأنهم ضمنوا النعمة التي بين أيديهم والله تعالى يقول :{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} (النساء: 9 )
إن رمضان - كما يقول أحد العلماء - : شهر نزلت فيه هداية السماء إلى الأرض فناسب أن يكون زمن عبادة ترتفع بها النفوس من شهوات الأرض إلى روحانية السماء وتتخلص من جوانب المادية ودوافع الغرائز إلى صفاء ونقاء يضفي على النفوس البشرية نوعاً من الشفافية والرقة "
فما أقسى قلبه !! ذاك الذي دخل رمضان فلم يغير في موقفه من الفقراء شيئاً وما أرق قلبه !! ذاك الذي لم تطب نفسه حين أراد أن يستعد لشهر الصوم ببعض الاحتياجات إلا أن يتكفل بعدد من الأسر ليفرحهم كما فرح ويؤنس نفوسهم التي أوحشها الفقر ولوعتها الفاقة .(4/23)
لقد اعتاد الناس في رمضان صوراً اجتماعية رائعة يتبادلون فيها هدايا الأطعمة فيما بينهم ويتداعون إلى الولائم , وكان لابد أيضاً أن يكون لفئة الفقراء منهم نصيب فبئست الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويطرد عنها الفقراء .
إن رمضان هو شهر الجود وأفضل الجود وأكرمه هو الجود على المحتاجين لأنه خالص من نوايا تبادل المصالح والرد بالمثل كما يقع بين الأغنياء وفيه روح التكافل الاجتماعي الذي حث عليه ديننا الحنيف والذي هو سفينة المجتمع في بحار الدنيا المتلاطمة الأمواج .
أخي الصائم ..
رمضان كريم .. وكريم .. وكريم .. كم يتمنى الفقير قربة مع علمه بأن فيه زيادة في المصاريف , مما يخصه أو يخص كسوة العيد بعده ولكنه يعلم مع ذلك أنك تجود فيه أكثر من سائر العام فهو يؤمل أن يجمع فيه أجرة منزله ونفقات كسوته وكسوة عياله طوال العام ويقضي ديونه ليستأنف رحلة جديدة مع نصب الحياة وكدحها .
فلا تخيب رجاءه مما أفاض الله عليك من صدقة أو زكاة أو هبة فإنه لا يضيع عند الله مثقال حبة من خردل من عمل صالح . تقبل الله مني ومنك ومن سائر إخواننا المسلمين .
وإلى المصارحة الثانية عشرة ..
* * *
المصارحة الثانية عشرة : ( رمضان وشباب الشوارع )
أخي الصائم ..
إن النعم كلما ازدادت قيمة في نفوسنا كلما ازددنا حرصاً عليها نشفق عليها أن تنزع من أيدينا أو تنال منها مصيبة أو جائحة لا قدر الله .
هذا المجتمع الآمن الذي ترفرف على ربوعه راية التوحيد هو من أعظم المكاسب التي يجب علينا أن نحافظ عليها ولا نسمح لأحد أن يخدش جمالها وإن وجود بعض الظواهر الاجتماعية المؤثرة على صبغته الهادئة والوادعة لتمثل تشويهاً حقيقياً كأنه بثور متقيحة في وجه حسناء وهي ظواهر تمثل إفرازاً سيئاً لتلاقح المجتمعات المفتوح دون حدود عبر الفضاء والشبكة العنكبوتية وتقليداً محضاً لما يشاهد هنا وهناك .(4/24)
صورة محزنة شاهدتها في شهر رمضان بالقرب من منزلي حيث يحلو السهر الشبابي الطائش ..
أحد كبار السن في حينا على عتبات الثمانين من عمره خرج يريد قضاء حاجة له من أحد المحلات التجارية القريبة من منزله وفي الطريق رأى جمهرة من الشباب قد اصطفت على جنبات الطريق لاتألو جهداً في إثارة الفوضى تتفنن في إزعاج الحي والمارة بوسائل لا تنقصها الهمجية تخجل العائلات المحترمة حين تضطر للخروج لحاجتها , وتلجئ السيارات العابرة للحوادث المرورية وترعب المارة , وتعرض عشرات الأطفال المغرر بهم للخطر الداهم كل ذلك من أجل استعراض سمج للمهارات الخارقة التي يتمتع بها أحد الشباب المتهور وهو يرقص سيارته أو يدور بها في غطرسة , والتي قد تنتهي بانقلاب السيارة , أو الاصطدام في سيارات , أو ربما الدخول في أحد جدران المنازل القريبة كما حدث ذلك ورأيته .
لن أنسى شيخنا الوقور وهو يراقب هذه المهزلة مرغماً غير مختار , لأنه يقف محتاراً على حافة الشارع ينتظر الفرج ولو للحظات ليقطع الشارع إلى مكان حاجته , وفجأة انزلقت سيارة مجنونة إلى موقع الشيخ لترديه قتيلاً في لحظات , ليكون واحداً من ضحايا التجمعات الشبابية المشبوهة في الطرق العامة .
وإذا كان سرد الحادثة كافياً لتكون عبرة للشباب , فإن الكلمة التي يجب أن تقال يجب أن توجه لأولياء الأمور , الذي منحوا هذه السيارات لمن لا يستحقها , ومن لا يعرف كيف ينتفع بها , ولا يقدر مدى خطرها ويبقون هم غافلين عن فلذات أكبادهم لاهين عنهم بشؤن الحياة التي لا تنتهي , حتى إذا وقعت الكارثة واستدعي أحدهم إلى دائرة الأمن بدأ يتلفت يميناً وشمالاً يبحث عن مخرج لولده من ورطته ويذهب أمثال هذا الشيخ القتيل يشكو إلى ربه من قتله ومن تسبب في قتله .
أخي الصائم ..(4/25)
أليس أولادنا من أعظم الأمانات عندنا ؟ أو ليسوا مسؤولين أمام الله عن شبابهم فيم يبلونه , فلماذا.. لماذا نرخصهم فنسلمهم لرفقاء السوء في مثل هذه التجمعات الموبوءة , التي لا تخلو من مواعيد مشبوهة ومد الجسور في علاقات تبدأ في الشارع , وتنتهي في مغارة من مغارات الفساد وعصابة من عصابات المخدرات , لا قدر الله ..
ومهما يكن من شيء فإن هذه التجمعات لا تمثل الوجه النقي الطاهر لشهر رمضان المبارك , الذي ينبغي أن نصطبح به ونتمسى وقد اغتسلنا من أدراننا وخطايانا .
أخي الصائم .. ترفق بابنك , وانتشله من هذه الوهدة التي لا يدري قاع هاويتها حين يطل عليها بعين المتعة فيراها بركة زرقاء توج بلآليء الضوء المتوهج , فتغريه بالعومة التي قد لا ينجو من فكيها .
أعتذر لك أخي الصائم إن كنت قد جرحت مشاعرك بمدية الحقيقة , ولكن عذري أنني أحبك , وأحب لك الخير الذي أحبه لنفسي .
وإلى المصارحة الثالثة عشرة ..
* * *
المصارحة الثالثة عشرة : ( نظرات موبوءة )
أخي الصائم ..
من الظواهر الاجتماعية التي تبدو غير مرغوبة من فئات كثيرة من المجتمع وجود الشباب دون صحبة أحد من نساء بيوتهم في أسواق النساء العامة في شكل فردي أو ثنائي أو أكثر دون أن يكون لديهم حاجة في الشراء لأنفسهم أو لأهلهم .
فهم في موطن تهمة مهما برأوا ساحتهم أمام المجتمع بحجج شتى , ولاسيما إذا بدوا في نوع من الزينة والتجمل المبالغ فيهما , ووقفوا في مواطن مريبة , وراحوا يطلقون سهامهم دون وعي لحرمات الله ومحارم خلقه . وربما صحبوا ذلك بتعاطي الدخان , أو تناول بعض المرطبات والوجبات الخفيفة مما يشير بوضوح إلى أنهم جاءوا لهدف آخر غير التسوق .
إن هذه الظاهرة ليست خاصة برمضان ولكنها تكثر فيه بسبب فراغ الشباب في زمن التسوق المفضل لدى النساء بعد العشاء إلى قريب من الفجر .
فيا أخي الصائم ..(4/26)
لو تأملت معي هذه الظاهرة لرأيتها خروجاً ظاهراً على المألوف من عادات هذا البلد الطيب , وخرقاً لأعز مكاسبه من الفضيلة وانتهاكاً صارخاً لحرمات الله في شهر الطاعة والإنابة .
وإذا كانت نعم الله تعالى على الإنسان أجل من أن تحصى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) إبراهيم : 34 فإن من أجلها نعمة البصر التي ليس لفضلها ساحل وليس لامتداد أثرها على الإنسان أفق مشهود , أفيكون شكرها إلا بصرفها فيما خلقت له من طاعة الله وتلاوة كتابه , أو النظر في ملكوته من مشاهد الخلق العظيمة أو المنافع البشرية .
ولكن هذه النعمة تتحول إلى حسرة وألم , وندامة وأي ندامة حين يطلق الشاب العنان لكل نظرة أن تصل إلى ما تريد وإلى كل ما تشتهي متناسياً أن للناس _ مثله _ حرمات يغارون عليها ولهم عورات يأبون أن تصل العيون إليها , وكم من الحوادث العظيمة التي جرها النظر الموبوء إلى صاحبه :
كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على خطر
وللصوم مع هذه النعمة شأن عجيب , فهو يهذبه ويوجهه :
يا معشر الشباب , من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج , ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه وجاء " رواه الشيخان .
فالصوم إذن سلاح قوي في أيدي الشباب , يمنحهم قوة الإرادة , مقابل إضعاف دواعي الشهوة فيتحكمون في أهوائهم وشهواتهم , قال لقمان الحكيم :" يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة ", ويقول آخر :" إذا شبعت النفس من الشهوات جاعت إلى الخبائث "
معشر الشباب .. اقرءوا قول الإمام الغزالي وتأملوه : : أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق ".(4/27)
واعلموا أن النظرة سهم مسموم كما قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم , ومعنى ذلك أنه يرتد على نفس صاحبه في مقتل من مقاتل الفضيلة والحشمة كما يصنع السم في البدن .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} النور : 30
ولا شك أن من يمنعه الصيام من تحقيق شهوته من أجل الله تعالى وحده فإنه لن يخسر بل هو الربح العظيم , فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة فيقول :" أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه " فيشفع فيه .
وإلى المصارحة الرابعة عشرة ..
* * *
المصارحة الرابعة عشرة : ( خصوصيات زوجية )
أخي الصائم ..
ما أجمل أن يكون لرمضان ظلاله الجميلة على الحياة الزوجية فيضيف إليها من نفحاته ما يجعلها تزداد صلة وحميمية ولا شك أن مما يزيد هذه الصلة حرارة ويبقيها حية متواصلة استمرار ما أحل الله من المتعة بين الزوجين والعجيب أنك تقرأ ذلك في كتاب الله بعد المقطع الخاص بفرضية الصوم في رمضان مباشرة حين يقول الله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ } البقرة : 187 هكذا صريحة مباشرة , كي لا يتردد متزهد ولا يخاف متورع ولا يماري متأول , أمر إلهي كريم يبيح العلاقة الجنسية بين الزوجين بكل تفاصيلها المباحة ليحافظ البيت المسلم على أمنه النفسي وعفته الجسدية وتواصله العاطفي .(4/28)
إن ما استدعى مثل الحديث ما يشبع عند بعض الأسر المسلمة من مقاطعة لكل المداعبات بين الزوجين إلى درجة الانفصال التام في المنام والبعد الجسدي المتعمد ليل نهار فالليل سهر مشترك مع الأقارب والأولاد والنهار لا يليق كما يزعمون أن يجتمع الزوجان في فراش واحد ويبقى الإنسان معرضاً للفتنة بالآخر أو بغيره خلال الصوم أو ظامئاً لشقه الآخر وهو بين يديه مما يؤدي أحياناً إلى جفاف العلاقة بينهما , وربما يتولد الجفاء بطول المدة وشهر كامل مدة طويلة جداً ربما أمرضت وشقت دون داع من دين أو خلق رفيع .
وإذا رجعنا إلى حياة نبينا صلى الله عليه وسلم لوجدنا الأمر مختلفاً تماماً فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم : كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم رمضان " وأنه كما روى الجماعة كان يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملك لإربه " وفي مسلم كان يقبل في رمضان وهو صائم " وحتى حين يعتكف في مسجده العشر الأواخر ويشد مئزره , فإنه لا ينقطع عن أهله انقطاعاً تاماً بل جاء عن عائشة رضي الله عنها " أنه كان صلى الله عليه وسلم معتكفاً فكانت ترجله ( أي تمشطه ) وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه " فلم يحمله اعتكافه وهو العبادة الملزمة بمكان معين أن يقاطع أهله أو يلاطفهم .(4/29)
وما ورد من قول عائشة " كان أملككم لإربه " أي أن من كان عنده القدرة على ملك نفسه عما هو أكثر من القبلة والمداعبة فلا بأس بذلك سواء أكان شيخاً كبيراً أم شاباً يعرف من نفسه أنه قادر على التحكم في تصرفاته وذلك في نهار رمضان وأما من لا يستطيع فأمامه ليل طويل لا توجد فيه حدود سوى ما شرعه الله في سوى رمضان , وإن بعد الزوجين في الليل عن فراش الآخر هو الذي جعل الأسئلة تتعدد ممن تورطوا في الجماع في نهار رمضان فوقعوا في إثم عظيم , ومعصية يجب عليهم بسببها التوبة والقضاء والكفارة المغلظة وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ومن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً
أخي الصائم ...
لماذا نفرط في المباح لنقع في الحرام ؟ ! لماذا ننساق مع العادات والفوضى الاجتماعية , ونعطي ظهورنا للنظام , لنتجرع بعد ذلك مرارة الندم .. لا قدر الله ؟! .
وإلى المصارحة الخامسة عشرة ..
المصارحة الخامسة عشرة : ( ما هكذا تكون العمرة )
أخي الصائم ..
إن المسلمين في هذا الشهر الكريم يحرصون أن يكون لهم من كل عمل صالح نصيب , وإن قل . وإن من هذه الأعمال الصالحة المضاعفة الأجر زيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة , أملاً في الحصول على ثواب حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم , كما ورد في حديث صحيح عنه وهو عمل جليل يتحمل المسلم في سبيله مشاق كثيرة فهو يبذل ماله ويتغرب عن دياره ويؤجل أعماله ويضحي بوقته واستقراره كل ذلك طمعاً فيما عند الله تعالى . ولا شك أن من خلصت نيته , وصح اتباعه فقد ربح الصفقة .
ولكن - أخي الصائم - هل لي أن أتساءل - معتذراً لكل عباد الرحمن , ووفود الخير المتجهة إلى بيت الله الحرام - ماذا يريد بعض هؤلاء من سفرهم هذا ؟
سؤال قد يواجه بانتقاد شديد من كثير من الناس , ولكني أعتذر عن فضولي الواضح بما أرى من سلوكيات غير مرضية من بعض الزوار بدأت تأخذ حجم الظواهر التي تتطلب الحل السريع , والسريع جداً(4/30)
فإن بعض الزوار- لو صدقوا مع أنفسهم - أصبح ذهابهم إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة مجرد سياحة , وتغييراً للجو كما يقال وليس للعبادة المحضة ومنهم من تكون لديه أهداف سلوكية محرمة يستغل فيها مجامع النساء في الأسواق والمنتزهات فيسمح لطرفه بما حرم الله وربما جر النظر إلى الخطر .
وآخرون بخلوا بما يجب عليهم من زكاة شرعية أو أداء للديون التي عليهم للناس واستأثروا بالمال في صورة نساك يقصدون الأماكن المقدسة بحجة العبادة , وما دروا أنهم آثمون غير مأجورين حين حرموا الفقراء من حقهم وضيقوا على من وسعوا عليهم دون حق ولا إذن منهم .
وظاهرة أخرى تتبدى في أن الوالدين إذا ذهبا إلى مكة مع أولادهم بنين وبنات حرصاً على اغتنام الأوقات كلها في الحرم لينهلوا من أصناف الأجر ما قسم الله لهم , ولكنهم يتشاغلون عن واجب كبير وهو مسؤوليتهم أولادهم فتراهم يرتلون آيات الله وهم في حرم الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم : 6 , وأولادهم خلال ذلك يغطون نهاراً في نوم وبيل , فتضيع الصلوات عن وقتها وفي الليل يظلون يذرعون الأسواق ذهاباً وإياباً وكأنهم موكلون بالتفتيش فيها , فتهدر الأوقات الفاضلة , والأموال الطائلة في غير فائدة ويتعرضون للفتن والمغريات وربما كانوا هم من أسبابها ولا سيما الفتيات .
فنصيحتي لمن عزم على الذهاب أن ينظر في أمره قبل المسير فإن كان قادراً على ضبط أفراد أسرته وإلا فلا يضيعهم فكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول " كما في الحديث الشريف فليختصر زيارته , وليقتصر على أداء العمرة ثم ليعد من حيث أتى مغفوراً له إن شاء الله .
وإلى المصارحة السادسة عشرة ..
* * *
المصارحة السادسة عشرة : ( أوقفوهم عند حدهم )(4/31)
أخي الصائم ..
إن مما يميز هذا العصر الذي نعيش فيه , أن الترويح أصبح جزءاً مهماً من حياة الأسر والأفراد يخصص له جزء كبير من الوقت والمال والتفكير والمشروعات ويبدو أن رمضان لم يستثن عند الناس اليوم من هذا العنصر الحياتي لا سيما أن جزءاً منه إجازة عن العمل الرسمي , ولا شك أن وجود الترويح بهذه الكثافة يشير إلى ترفه المجتمع , وارتفاع مستوى المعيشة فيه .
ولعل وجود الدوام الرسمي الذي يرغم الإنسان منذ طفولته حتى يبلغ الستين من عمره على عمل مجهد للفكر والجسد جعل من الترويح قضية لا يمكن أن تغفل أو يستهان بها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :" ولكن يا حنظله ساعة وساعة " , مما نقل الترويح في شرع الله من أمر مباح إلى أمر مطلوب , ولكن في إطاره الشرعي المحدد ودون أن يأخذ مساحة أكبر من حجمه الطبيعي .
ولهذا الشهر الكريم خصوصية ينبغي ألا نهضمها حقها , كما أن لهذا المجتمع خصوصية يجب ألا نتنازل عنها ومن ذلك المحافظة على أوقات الفرائض ومراعاة فصل الجنسين خلال اللعب مراعاة للحكم الشرعي ومناسبة اللعبة لطبيعة كل منهما ، وإبعاد الأولاد عن أصحاب السوء حتى لايكون اللعب مجالاً للتأثر السلبي وعدم اختلاط الترويح بالمحرمات كالغناء والموسيقى والكذب والسخرية بالآخرين .
وإذا كنت - أخي الصائم - قد أجملت في الحديث عن أصناف الألعاب فإني لا استطيع أن أقفز على صنفين من الألعاب ينتشر تداولهما بين الناس اليوم هي ألعاب الكمبيوتر , والمفرقعات .(4/32)
فأما ألعاب الكمبيوتر فإن اللعب بها أصبح هوساً عند بعض الأطفال بل والكبار أحياناً , حتى إن الساعات تتوالى عليهم وهم يسبحون في عجائبها , منساقين وراء فتنتها مما يتسبب في مضار صحية من كثرة الجلوس وتركيز النظر على الشاشة المشعة إلى الآثار النفسية بسبب التوتر الشديد في حلبات السباق الموهوم كما ثبت علمياً أنها تصيب ممارسها بالملل وهو عكس هدف اللعب بها إلى الآثار الاجتماعية حين يتحول اللاعب إلى عضو أشل في المنزل لا نفع له فينتج عن ذلك مشكلات أسرية عديدة .
وأما المفرقعات أو ما يسمى بالشراقيات .. وما أكثرها في رمضان والعيدين - فإنها لعبة المآسي والسادية , فهي إيذاء للآخرين وتلذذ بهذا الإيذاء , فكم روعت من إنسان , وكم أثخنت من جرح وكم أتلفت من ممتلكات ولا أستطيع أن أتناسى جمرة الأسى في قلبي حين رأيت صورة طفلة بريئة فقدت نور عينها بسبب طلقة مفرقعة صبيانية من طفل آخر لتبقى طول حياتها مشوهة حسيرة .
إن مسؤولية حصار هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة تتوزع بين التاجر الذي يخالف الأنظمة ببيعها ويروج بضاعة ضارة وبين من يقوم بشرائها فهل من حل حاسم لنقضي على هذه الظاهرة الضارة ؟!
ومن الممارسات الاجتماعية الخاطئة التي نتمنى - أخي الصائم - أن تختفي خلال ممارسة الترويح على الشواطئ أو في المنتزهات العامة عدم المبالاة بالنظافة أو سلامة المنشآت المعدة للترويح , فبينما تترك صناديق النفايات نظيفة يقوم السياح من مكانهم وكأنه مهجور منذ أيام فأين أثر الدين الذي يتعبد بالطهارة , وأين أثر التحضر والتمدن في زمن تكثر فيه ادعاءات الناس بأثرهما على جميع أنماط حياتهم وأين الحس الوطني الذي يجعل المحافظة على مكتسبات الوطن مضاهية للمحافظة على المكتسبات الفردية , والتي لا يمكن أن نتنازل عن شيء منها أبداً بداع من فطرة التملك وحب الذات
أخي الصائم : لنكن سوياً في صف واحد دعاة إلى شعار واحد(4/33)
يقول : اترك المكان أفضل مما كان , وليس فقط مثلما كان
وإلى المصارحة السابعة عشرة ..
* * *
المصارحة السابعة عشرة :( رمضان والجمعيات الخيرية )
أخي الصائم ..
من أبرز ما يميزنا مجتمعنا الطيب من سمات عليا خلق الإيثار هذه السمة الرفيعة التي تعز على صغار النفوس ومن تملكتهم الأنانية وعشق الذات , الذين يبيعون كل شيء حتى مبادئهم من أجل مصالح زهيدة لا تفطن إليها عيون الكبار .
الإيثار هو الذي جعل كل إنسان في هذا الوطن يرى أن من واجبه أن يقتسم رزقه مع أصناف من إخوانه المسلمين المحتاجين وأن يغرس له في كل بلد من بلدانهم نخلة من البر والإحسان تدر عليه من الدعاء والثواب ما لا يحصيه إلا الله جل في علاه .
ولذلك .. فقد وجدت أفكار الغيورين مرتعاً خصيباً في أرضنا فانطلقت مشروعات النماء والعطاء تنبثق ثم تشب ثم تبلغ أشدها طاوية مرحلة الطفولة بين حنايا أيامها الأولى .
جمعيات تحفيظ القرآن الكريم , جمعيات البر الخيرية , لجان تيسير الزواج , هيئة الإغاثة العالمية , الندوة العالمية للشباب الإسلامي , مكاتب توعية الجاليات , مكاتب الدعوة التعاونية , مؤسسة الحرمين , الإدارة العامة للمساجد , وأمثالها , تتضافر ولا تتنافر , ويخدم كل منها جانباً من جوانب الخير لا يغني عنه الجانب الآخر .
وهي جميعاً تعتمد في مواردها بتوفيق من الله على أمثالك - أخي الصائم - من أهل البر والإحسان , وتعد موسمها الكبير شهر رمضان حيث الجود فيه أكثر من سواه , فما دورك معها ؟(4/34)
إن مما يحز في الخاطر حقا - يا أخي العزيز - أن يتنصل أحدنا من القيام بأي دور كان ليخدم هذه المؤسسات , والتي كثيراً ما تعتمد في أعمالها على محتسبين لا راتب لهم . ولا يكون حظها منه - بدل أن يكون أحد منابرها الإعلامية ورجالها المخلصين - إلا الإعراض , بل وربما تعدى الأمر إلى إثارة الغبار حول المؤسسة ورجالاتها وأساليب عملها , والحديث عنها في المجالس والأسواق , وليس ذلك من ناصح محب يدخل البيوت من أبوابها فيقدم النصيحة بهدف الإصلاح , ولكن من جاهل أو حاسد أو حاقد , صار كالبعوض يمتص من دم المصابين أقذر الأمراض وينقلها إلى الأصحاء فيصد أهل البر عن بذل الإحسان بالتشكيك في هذه الجمعيات وإثارة الشبهات والشهوات حولها والاتهامات غير الموثقة وإنما اجتلبت من سوق : يقولون .
أما علم هؤلاء المرجفون أنهم يحاربون الله بغيبة هؤلاء المحتسبين , الذين يقومون بعمل ربما كان خيراً من اعتكاف المصلين وصيام المتقين وقيام الخاشعين , فالسعيد من وفقه الله لقضاء حاجات الملهوفين , وبذل المعروف للمعوزين وتخفيف عبء الحياة عن البائسين وما يوفق لذلك إلا ذو حظ عظيم .
الناس للناس ما دام الحياء بهم *** والعسر واليسر ساعات وأوقات
وأسعد الناس من بين الورى رجل *** تقضي على يده للناس حاجات
قد مات قوم وماتت فضائلهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات
ويكفي هؤلاء المحتسبين نصرة الله لهم , وأولئك المرجفين خذلان الجبار لهم يقول , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من مشى في حاجة أخيه مشى الله في حاجته " و" من عادى لي ولياً آذنته بالحرب "
أتراك أخي الصائم ستذهب اليوم إلى واحدة أو أكثر من هذه المؤسسات لتعرض عليها طاقاتك وخدمتك واختصاصك , فلعلها تنتظرك منذ أمد , لتبدأ معك مشروعاً من مشروعات الخير .
وإلى المصارحة الثامنة عشرة ..
المصارحة الثامنة عشرة : ( أنت بطل التغيير )
أخي الصائم ..(4/35)
أعجبتني كلمة أحدهم : ( الإنسان هو بطل التغيير الاجتماعي في الإسلام ) ومصدر إعجابي بهذه المقولة هو إسباغ صفة البطولة على الإنسان القادر على التغيير , فما أكثر ما نفكر في التغيير الإيجابي ونتمناه , ولكننا نجبن حتى عن تغيير ما نكرهه في ذواتنا فضلاً عن محاولة تغيير ما حولنا مما نعتقد خطأه مهما كان ذلك في إمكاننا .
منذ أن يهل رمضان ومنادي الله ينادي : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر . إنه نداء خاص بشهر رمضان ، يخاطب كل من شهده خطاباً منفرداً وكأنه موجه له ، وهو خطاب مزدوج الطلب ، ينادي في المرء جانب الخير أن أقبل فهذا موسمك الذهبي ، كل بذرة تضعها اليوم ستحصدها سبعين ضعفاً ويزيد ، وينادي جانب الشر فيه أن أقصر فكل أعوانك قد صفدوا ، ولن يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل .
إن هذا التغيير مطلوب في كل الشهور , ولكنه ميزة هذا الشهر الذي يمثل لمن يدخل جامعته المبجلة دورة تدريبية متخصصة في قضية من أهم قضاياه وهي التعامل مع حياته بشجاعة تؤهله أن يحدث فيها التغيير المناسب لتطويرها في الوقت المناسب ، فالنمطية والرتابة تجمد الشخصية , وتفتك بخلايا المخ وتعيقه عن التفكير التطويري .
كل ابن آدم خطاء وليس من الشجاعة بمكان الثبات على الخطاء والإصرار على التشبث به فإن ذلك ليس علامة رجولة ولا ذكاء ولا أريحية بل هو عكس ذلك كله تماماً إنه زيادة طغيان واسترسال في الطريق المهلك .
لقد هبت نفحات رمضان على قلوبنا كالنسائم الطرية فأنعشتها وأحدثت فيها تغييراً سريعاً لم نستطع أن نتعرف سره ولكننا نعيش نعيمه أحسسنا بقربنا من الله أكثر من ذي قبل بمجرد أن هل الهلال وشعرنا بالنداء الحبيب يحرك قلوبنا الساكنة , يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر .(4/36)
وتلفتنا من حولنا فوجدنا مجتمع الخير يستقبل ضيفه بكل حفاوة وإكرام في كل المظاهر العبادية والاجتماعية والدراسية والوظيفية , كل شيء تغير من أجل رمضان ولكن السؤال يصارحنا : هل هذا التغيير يمثل استجابة الحياء المؤقتة للظرف الطارئ الماضي عن قريب أم استجابة المخبت الذي دخل الشهر أجواء روحه فاكتسح ما في داخلها من لغط الأيام وسفه الشباب وعناد الشيوخ وبدلها كما تبدل الثياب للصلاة ؟!
إن التغيير قضية هائلة بعيدة الغور , واسعة الأفق ولكنها تبدأ من الإنسان ذاته يقول الله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الرعد 11
ففي رمضان فرصة ففي رمضان فرصة لإخضاع سلطة العادة لسلطة الإرادة فالتغيير فيه شامل لكل المظاهر الحياتيه ويشترك فيه كل المجتمع وسريع يقع بين عشية وضحاها , وواقعي يكشف للنفس التي كانت تتمسك بمحبوباتها السيئة متعللة بأنها لا تستطيع الاستغناء عنها بأنها أقوى من ذلك وأنها قادرة حقاً على هجرها مدة من الزمن ليست يسيرة فإذا كانت جادة في التغيير الإيجابي نجحت في الاستمرار على هذا الهجر الجميل .
أخي الصائم .. هل عرضت عدداً من عاداتك التي كنت تتمنى التخلص منها على آلة التغيير العجيبة في شهر رمضان .. جرب فقد تكون نهايتها التي تترقبها منذ أمد طويل ، ولكن وصيتي لك أن تكون قوياً في وجه العادة هادئاً في التعامل مع عنادها لتضمن بإذن الله - دوام الإقلاع عنها .. لا أريد أن أحدد لك عادة معينة بل يكفيني أن تمتلك الشجاعة الكافية على امتلاك آلية التغيير التي يمنحها لك رمضان .. يا صائم رمضان .
وإلى المصارحة التاسعة عشرة ..
المصارحة التاسعة عشرة :( قيادة السيارات في رمضان )
أخي الصائم ..
إن مما يثير النظر حقاً في قيادة السيارة في شهر رمضان المبارك أمران :(4/37)
أولهما : السرعة الخاطفة التي تصل حد التهور والانفعال الشديد قبل أذان المغرب , في الوقت الذي يكون الإنسان وصل حد الإجهاد وقلة التركيز , مما كان يستدعي منه التأني لتفادي مفاجآت الطريق , بل وأخطاء الآخرين الذين يعيشون النفسية نفسها .
والأمر الثاني: كثرة الحوادث المرورية القاتلة منذ بداية الإجازة الرمضانية إلى نهايتها بعد عيد الفطر المبارك , نظراً لكثرة السفر خلال هذه الفترة , بين الأهالي في المدن , أو إلى الأماكن المقدسة لأداء العمرة وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم . ففي كل عام تذبح آلام الحوادث طيور أفراح العيد عند جمهرة من الناس , وينتقل الناس بين البيوتات في عبارات مزدوجة متناقضة العواطف فتباريك العيد تجاور عبارات العزاء , فلماذا كل هذا ؟
إننا صائمون طاعة لله تعالى فلماذا لا نمشي كما يحب الله تعالى أيمكن أن يحدث ذلك ؟ نعم إننا متعبدون بكل خطرات نفوسنا وحركات جوارحنا وهذا كتاب الله ينطق بيننا {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} الفرقان : 63. إنه هدي قرآني ومديح إلهي لفئة من الناس تمشي بسكينة ووقار وتواضع فلا كبر ولا خيلاء في مشيتهم , ولا تعالي ولا افتخار بملبس أو مركب , ممتثلين قوله تعالى { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} الإسراء 37 , كما أنهم يتحملون أذى غيرهم ويلينون في معاملتهم مع الناس وإذا خاطبهم الحمقى بما يسوؤهم ردوا عليهم بسلام بعيد عن الجهل .
وإذا كانت السيارة اليوم من أجل النعم فإن علينا شكر الله عليها ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ( إبراهيم : 7 ) ومن شكره عملياً تسخيرها فيما ينفع وقيادتها بتعقل وهدوء وذوق .(4/38)
إن مخالفة هذا الهدي عند بعض المتهورين نتجت عنه حوادث مروعة وخسائر هائلة انعكست سلباً على الإنسان والاقتصاد وعلى الحياة الاجتماعية ونمائها ، فإن معظم المتضررين من حوادث المرور من الفئة العمرية المنتجة ومن المتزوجين ومن المتعلمين كل ذلك بسبب غياب الوعي عن فئة من المجتمع نسأل الله تعالى لهم الهداية .
لقد اعتاد كثير من الناس أن يسمي مثل ذلك مجرد حادث سير ! وربما علق أحدهم محوقلاً مسترجعاً : إيه قضاء وقدر ...!
نعم كل شيء بقضاء وقدر , ولكن الأمور بأسبابها :
* فالذي يتعدى السرعة القانونية المحددة من الجهات المختصة يكون آثماً شبيهاً بالقاتل المتعمد لنفسه أو لغيره ولو كان مسافراً لأداء العمرة .
* والذي يهمل أسباب النجاة في سيارته كتغيير العجلات المستهلكة أو الفرامل الهزيلة يكون مخطئاً في حق نفسه وفي حق البشرية من حوله .
* والذي يقطع إشارة المرور دون سبب شرعي كاف - ولو كان للإفطار أو إدراك صلاة - يكون عاصياً لله تعالى قبل أن يكون مخالفاً لأنظمة المرور لأنه خالف ولي الأمر أو من وكلهم بذلك , والالتزام بالأنظمة عبادة خفية أجرها مذخور عند الله كما أن المتهاون بها عمداً آثم ولا شك , قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} النساء : 59
أخي الصائم .. الرحمن الرحيم ينادينا : فيقول {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } البقرة 195 . فلماذا نتناسى نداء الله حينما نمتطي هذه النعمة التي حولها بعضنا إلى نقمة ؟
إذا هانت على المستهترين أرواحهم فإن الآخرين لا تهون عليه أرواحهم !
وإلى المصارحة العشرين ..
المصارحة العشرون :( مرحباً بالرمضانيين )
أخي الصائم ..(4/39)
في بيوت الله , حيث يأنس الناس في رمضان بجيرة المساجد ويحسون فيها بروحانية خاصة , بعد أن خففوا عن قلوبهم من أثقال الأرض وتبعات الدنيا فتعلقت بالمسجد فإذا دخلوه ثقل عليهم الخروج منه إلا لحاجاتهم , وإذا خرجوا فإن قلوبهم تبقى معلقة به كقناديله التي لا تكف عن الإضاءة في هذا الشهر الكريم يستشرفون لداعي الخير : حي على الصلاة حي على الفلاح , حتى ليصدق في هؤلاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكر من يظلهم الله في ظله يوم القيامة :" ورجل قلبه معلق بالمساجد "
ولذلك فإن المساجد تشكل ركيزة اجتماعية في غاية الأهمية في هذا الشهر الكريم فهي التجمع الوحيد الذي يلتقي فيه أهل الحي خمس مرات يومياً ويتذاكرون فيه توجيهات الشريعة وينطلقون منه إلى نشاطهم الاجتماعي اليومي من زيارات التهاني والتعازي وربما اتفقوا على وليمة مشتركة تشيع بينهم روح الألفة والمحبة أو على استضافة العمالة التي بقرب المسجد في إفطار يومي يجلس فيه الغني التاجر مع الفقير العامل على مائدة واحدة ليحققوا معنى الأخوة الإسلامية والمساواة والتكافل بين المسلمين .(4/40)
وحسنة أخرى لرمضان أنه يجتذب إلى المسجد كل أفراد الحي تقريباً حتى من كانوا يتكاسلون عن حضور الجماعة فيما سواه وهنا يأتي دور الأئمة والمؤذنين والمصلين الدائمين بأن يحاولوا أن يؤلفوا قلوبهم ويحببوهم إلى المسجد بدلاً من التثريب عليهم وتأنيبهم ووصمهم في وجوههم بالرمضانيين الذين لايعرفون الله إلا في رمضان فلكل نفس جانب طيب ينبغي أن يخاطب في لحظة تفتحه ورمضان ربيع النفوس وموسم تفتح ورود القلوب ولو لم يكن في قلوب هؤلاء حب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولدينه لما قدموا حتى في رمضان , فمرحباً بالرمضانيين في بيوت الله في رمضان وأشد على أيديهم أن يعاهدوا الله تعالى أن يظلوا مرتبطين ببيته بعد وداع الشهر العظيم , فقد تذوقوا حلاوة العبادة في جماعة فمن التقصير الشديد التفريط فيها ( واركعوا مع الراكعين ) البقرة : 43
ومما ينبغي أن يذكر فيشكر الجهود التي يبذلها أئمة المساجد في هذا الشهر ومرابطتهم في مساجدهم أوقاتاً أطول تاركين كثيراً من أعمالهم من أجل إجابة المستفتين وإلقاء الدروس والتعاون مع المؤسسات الخيرية وما يتطلبه من متابعة دقيقة والإشراف على حلقات القرآن الكريم ونحو ذلك وهو ما يتطلب تعاوناً بناء من قبل المصلين وإسهاماً فاعلاً مادياً ومعنوياً بدلاً من أن يبقى أحدهم يحسب الدقائق التي قد تزيد في صلاة ما ليوافي بتقريره بعد الصلاة مباشرة , أو يعد على الإمام أخطاءه وتقصيره في أي أمر من الأمور , ناسياً أنه بشر يصيب ويخطئ وأن من يكثر العمل فلابد أن يخطئ .(4/41)
ولعل مما يلزم به أئمة المساجد في رمضان عدم السفر وترك المسجد في ظرف يحتاج إلى وجودهم وهذا لا شك مما ينبغي أن يشجعوا عليه ويذكروا بفضيلته وأجره ولكن ذلك لا يعني أن يحرموا نهائياً من أداء العمرة مثلاً في رمضان فما على الأمام من حرج إن شاء الله - إذا ذهب خلال يوم أو يومين فأدى مناسك العمرة وعاد إلى جماعة مسجده ليكمل أداء واجبه وليس للمصلين أن يبدوا تذمرهم من ذلك , بل عليهم أن يقدروا جهده معهم وتضحيته من أجل أداء واجبه معهم .
وإلى المصارحة الحادية والعشرين ..
المصارحة الحادية والعشرون :( همسات في أذن مصلية )
أخي الصائم ..
من خصوصيات شهر رمضان المبارك أنه يتيح المجال أمام المرأة المسلمة أن تصلي كل ليلة في المسجد مع جماعة الرجال في المكان المخصص لمثلها وهو ما كان يحدث في كل الشهور والأوقات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحضور السنوي يمثل للمرأة في مجتمعنا فرصة ثمينة تجتمع فيها عدد من الفوائد والمصالح , فإلى جانب المصالح الشرعية حيث تجد جواً ملائماً للعبادة بعيداً عن صخب الأطفال ومشاغل الدار التي لا تنتهي , وتستمع المرأة إلى التلاوة الصحيحة لكتاب الله , وتجد الفرصة لتسأل عما يصلح دينها ودنياها , وتستمع إلى الدروس النافعة فإنها تكسب مصالح اجتماعية , حين تتعرف على نساء الحي الذي تعيش فيه , ولا سيما في هذا الزمن الذي قلت فيه الصلات بين الجيران بحيث لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً إلا قليلاً . والتعارف مطلب شرعي واجتماعي ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) الحجرات: 13 , ينبني عليه تلاحم المجتمع وتكافله وشيوع روح التعاون بين أفراده حينما تمتد هذه الصلات بعد رمضان , وتحقق أهدافها النبيلة .(4/42)
أختي الصائمة .. إن حسن نيتك في الحضور إلى المسجد لا يخفي الواقع المشهود , والذي ينضح بعدد من السلوكيات والمخالفات التي تقع فيها بعض النساء في قدومهن إلى المسجد , فهناك من تأتي وقد كشفت وجه ابنتها بحجة أنها صغيرة في نظرها وقد تجاوزت العاشرة من عمرها , وهي تتمتع بما يلفت إليها نظر الرجال وهم يدخلون المسجد بالقرب منها , أو أحياناً تسمح بذلك لخادمتها متساهلة بذلك , ومنهن من يلبس النقاب دون غطاء فيقعن في فتنة الرجال وهناك من تأتي وقد بالغت في زينتها ولباسها وأصباغ الوجه وكأنها قادمة على عرس تختال فيه بين النساء بجمالياتها وهناك من تأتي ورائحة العطور تفوح منها بحجة محاولة إطفاء رائحة المطبخ في جسدها وملابسها , حتى لا تؤذي المصليات معها وهي نية حسنة فالحضور برائحة الطعام إلى المسجد خطأ ولا شك يقع فيه بعض النسوة فيؤذين المصلين والمصليات والملائكة الذين يتأذون مما يتأذى منه ابن آدم ولكن لا ينبغي أن يعالج بخطأ آخر فالمرأة إذا تطيبت وشم الرجال طيبها فهي زانية كما في الحديث الشريف , والحل الذي يمكن أن تفعله هو أن تغتسل جيداً وتبدل ملابسها , فخير الطيب الغسل كما ورد .
ومن العجيب جداً أنك ترى المكان المخصص للنساء في المسجد أقل نظافة وترتيباً من مكان الرجال فالمناديل تنتشر فيه انتشار الجراد ، والسجادات مرمية فيه دون تنظيم , والمصاحف لا توضع في أماكنها الطبيعية , وكان المتوقع العكس تماماً فالتنظيف والترتيب من خصوصيات المرأة أكثر من الرجل في المنزل فلماذا يقل هذا الشعور في المسجد مع أن المفترض أن يكون الحرص على النظافة في المسجد بدافع شرعي , حرصاً على نزاهة المكان المعد للصلاة والعبادة من القذر , ولتترك المرأة أثر طيباً في البيت الذي استضافها شهراً كاملاً ولكي تحظى بالأجر الذي جاءت وتركت بيتها من أجله .(4/43)
ولا أخفيك - أختي الصائمة - أن أصوات أطفالك في المسجد من ضوضاء وبكاء تصل إلى مصلى الرجال فكيف بمن معك من النساء فلا تؤذي أحد - بارك الله فيك - بأولادك ، فإن استطعت أن تضعيهم في أيد أمينة في المنزل وإلا فاجلسي معهم وصلي في دارك فواجبك نحوهم مقدم على رغبتك في حضور الجماعة وهي ليست واجباً عليك .
وإلى المصارحة الثانية والعشرين ..
المصارحة الثانية والعشرون : ( مهازل تسويقية )
أخي الصائم ..
من أبرز الظواهر التي تصاحب شهر رمضان المبارك حتى نهايته ظاهرة التسوق الشره التي تبدأ قبيل مطلع الشهر بالمواد الغذائية وتنتهي بملابس العيد , أو الأعراس التي تعقبه مباشرة ولا شك أنها حالات تستدعي التسوق لا محالة , ولكن المشكلة تكمن في قضية كبرى وقع فيها كثير من الناس اليوم وهي وهم التساوي بينهم في قدر الدخل الذي يجعل متوسط الحال ينفق ويشتري بقدر الثري في جميع مظاهر الحياة اليومية ويظل بعد ذلك يعاني من سداد ديونه التي لا ترحم حاله , فلا يهنأ بنوم ولا يسعد بلقاء أحد فكل من حوله قد أصبح مديناً لهم , يده هي السفلى وأيديهم هي العليا والهدف من وراء ذلك ترف يمكنه أن يستغني عنه حتى يغنيه الله من فضله .(4/44)
وقد ساعد في تفاقم ذلك ما تقوم به المحلات التجارية من عمليات تسويقية قادرة على إقناع المستهلك بأن إقدامه على الشراء منها سيوفر له كثيراً من أمواله , فالتخفيض يصل إلى ستين في المائة والتقسيط مريح جداً لا يتعدى ثلاث تسعات متجاورة , ولا يحتاج إلى كفيل ومثل هذه التصفية لن تتكرر مرة أخرى , وإذا اشتريت ثلاث قطع فالرابعة مجاناً , ولنا في كل يوم متسوق لا يدفع ثمن مشترواته , والمسابقات تستعر والسيارات قد شمرت عن عجلاتها أمام المحل في زهو , تدغدغ مشاعر المساكين , الذين يجذبهم الإغراء ويخدعهم البريق ويظل أحدهم يجري وراء كل نور من أشعة الليزر التي تشق عنان السماء , لعله يحظى بصفقة العمر , فيشتري أضعاف ما كان ينوي شراءه , فتصبح التخفيضات ترفيعات , وتعود أغنية التوفير رجع نواح .
أما النساء فيا لها من رحلة يومية مريرة , تقضي فيها المرأة ساعات طوالاً , ركضاً وراء الموديلات الجديدة , لا يقر لها قرار حتى تذرع السوق كله , كي لا تصف إحدى الصديقات محلاً فتخجل أنها لم تقم بزيارته , أما محرمها إذا كان معها فهو مجرد حمال جاء معها ليخفف عنها عبء الأثقال , ليس له رأي ذو بال , بل إن المرأة هي التي تقوم بمفاصلة البائع وهو أخرس ينتظر الأمر بدفع النقود !!
ويقضي الأمر حين تغيب تيم *** ولا يستأمرون وهم حضور
وهي لا تأبه به ولا بحالته المادية ولا بأس عندها إذا استدان , فالمهم ألا تعود إلا بما غلا سعره وندر وجوده لتكتمل لها كل عناصر المباهاة أمام الأخريات هذا غير الذي تكذب فيه وتتباهى بما ليس عندها حتى لا تغلبها واحدة منهن ," والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " كما روى الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولفتة أخيرة في قضية التسوق تسألك - أخي الصائم - هذا السؤال : لماذا لا يحمي وطيس تسوقنا إلا في العشر الأواخر التي كان ينبغي فيها أن نتفرغ للعبادة , ألم نكن نعلم بقدوم العيد من أول الشهر بل قبل هلاله ؟(4/45)
لقد تعودنا أن نلوم أنفسنا على تأجيلنا شراء اللوازم المدرسية إلى أن تفتح المدارس وعلى تأجيلنا المذاكرة إلى قرب الامتحان وعلى تأجيلنا الاستعداد للمناسبات الشرعية والاجتماعية إلى حين قدومها وفي كل مرة نعزم على تلافي ذلك مستقبلاً , ولكننا نعود إلى التأجيل مرة أخرى .. فمتى نأخذ بالحزم والعزم ؟
وإلى المصارحة الثالثة والعشرين ..
المصارحة الثالثة والعشرون :( لا تشوه ابتسامتك )
أخي الصائم ..
إننا مهما قلنا في الصيام من أثر صحي وأثر اجتماعي بالغ النفع فإن ذلك لا يعني أبداً أن ننسى أنه عبادة محضة لله تعالى , جاء لتربية النفوس على التقوى ومراقبة الخالق سبحانه في جميع السلوكيات , لأن حقيقة الصيام خفية لا يعلمها إلا الله وحده .
عزيزي القارئ . إن مما قد يفهمه بعض الصائمين خطأ , حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " الذي رواه الشيخان . ظانين أن وجود هذه الرائحة في فم الصائم مما يطلب ويحافظ على وجوده , وهو غير مراد في الحقيقة , ولكنها بشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم للصائمين بأن ما يحصل لهم من جراء الصوم من آثار تبدو كريهة للناس هي عند الله عظيمة الشأن , لأنها وقعت في مرضاته وبسبب طاعته , وهذا مثل دم الشهيد , الذي يأتي به يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك مع أن مرأى الدم كريه للنفس الإنسانية .
والذي ينبغي التنبه له أن رائحة الخلوف في فم الصائم هي ليست من فمه وإنما هي من جوفه , ولذلك فإن تنظيف الأسنان لا يؤثر في وجودها أصلاً وإنما قد يثير السواك الطيب رائحة حسنة تغالب شيئاً من تلك الرائحة .(4/46)
وإن عزوف بعض الصائمين عن السواك من أجل إبقاء رائحة الخلوف أمر مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم , الذي رآه الصحابة رضي الله عنهم يستاك ما لا يحصى وهو صائم , دون تحديد بقبل الزوال أو بعده , فالسواك سنة محببة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقي متمسكاً بها حتى آخر رمق من حياته , وهو مطهرة للفم مرضاة للرب , ولا يؤثر في الصيام حتى وإن كان له طعم طبيعي في الفم وأثر يسير في الريق والأولى أن يتخلص من أثر تنظيفه , حتى لا يبتلع وسخه .
بل لا بأس باستخدام فرشاة الأسنان والمعجون إذا ضمن عدم ابتلاعه , ولا يؤثر الدم اليسير الذي قد يخرج من اللثة , وإن كان الأولى أن يجعل استخدامه لهما بعد الإفطار وبعد السحور قبل أذان الفجر احتياطاً .
أخي الصائم .. لست فقيهاً يريد بيان الأحكام لك , ولكني مثلك أحب النظافة وإن ابتسامتنا للآخرين مهما كانت صادقة شفافة المشاعر تظل مشوهة إذا كانت أسناننا غير نظيفة . وبدل أن تكون الابتسامة في وجوه إخواننا صدقات نرجو ثوابها فإنها ربما تكون مثار اشمئزاز وسخرية .
ومثل ذلك يقال في الغسل فإن السلف رحمهم الله كانوا يغتسلون كل ليلة استعداداً منهم للاجتماع في المساجد للصلاة في رمضان خصوصاً , حباً منهم أن يقفوا أمام مولاهم وهم في خير حال , قد طهرت قلوبهم وأجسادهم وملابسهم . فالمسلم صاحب ذوق رفيع , تعلم من دينه أن يكون طاهراً نظيفاً , للغسل والوضوء والطهارة عموماً في دينه آيات وسنن وأبواب وفصول .(4/47)
وكما أننا نتضايق حين يقف إلى جوارنا أحد المصلين في المسجد ما يقرب من ساعة أو أكثر ورائحته تفوح بدخان السجائر أو بدخان التدفئة , أو برائحة العرق أو الطبخ , فإننا يجب علينا أن نراعي ذلك مع غيرنا , بل مع ملائكة الرحمن الذين يتأذون مما يتأذى منه ابن آدم , وقد منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أكل بصلاً أو ثوماً وظهرت فيهما رائحتهما من حضور صلاة الجماعة حرصاً على أذواق الآخرين ونفسياتهم , وصدق الله العظيم القائل :( وإنك لعلى خلق عظيم ) القلم : 4 .
وإلى المصارحة الرابعة والعشرين ..
المصارحة الرابعة والعشرون :( أطفالنا في رمضان)
أخي الصائم ..
إن من الظواهر الاجتماعية التي تنتشر في رمضان انشغال الآباء والأمهات عن تربية أطفالهم بالتسوق أو الزيارات اليومية في الديوانيات أو إعداد موائد الطعام أو حتى بقراءة القرآن الكريم في المساجد وإهمالهم في الشوارع أو أمام الشاشات المفتوحة على كل محطات الدنيا دون رقابة أو اهتمام كل ذلك من أجل التخلص من ضوضائهم ومشكلاتهم التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد .
وينتج ذلك نشوء سلوكيات جديدة غالباً ما تكون ضارة تبقى آثارها عليهم بعد ذلك في حياتهم العلمية والعملية .
فأما الشوارع والأرصفة فهي بيئة غير مضمونة في سلامة الخلق أو العلاقات , بل قد تقود إلى ما لا تحمد عقباه من الجرائم الخلقية والجنائية لا قدر الله , وقد يستغل هؤلاء الأطفال من أصحاب السوء في تحقيق رغبات خطيرة من الناحية الأمنية ولا سيما ترويج المخدرات أو التدريب على السرقات من أجل الحصول على المال .(4/48)
وأما الشاشة التلفازية المفتوحة على جميع القنوات فهي كبيرة الخطر على الطفل خصوصاً فلقد لاحظ الخبراء على الأطفال خاصة أنهم مغرمون بمشاهدة التلفاز , (( فقد كشفت بعض الدراسات أن أغلب الأطفال وكثيراً من الكبار يميلون إلى أن يقبلوا -بدون تساؤل - جميع المعلومات التي تظهر في الأفلام وتبدو واقعية , ويتذكروا تلك المواد بشكل أفضل )) كما يقول الباحث بلومري ( عن أبناؤنا بين وسائل الإعلام وأخلاق الإسلام لمنى يكن )
كما أثبتت دراسات أخرى أن التلفاز غير كثيراً من ترتيباتنا الاجتماعية والتربوية , وأن الأطفال بالذات يحبون أن يتصفوا بصفات البطل الذي يشاهدونه ولو كان غير سوي في خلقه وسمته .
يقول الدكتور سبوك في التلفاز : (( أكاد أحطم جهاز التلفاز أحيانا لأعبر عن ثورتي وضيقي عندما أرى طفلي يحملق مشدوهاً أمام مشهد غرامي حاد يعتدي على بكارة طفولته , أو عندما يعرض سلسلة مثيرة عن الجريمة وكيفية القيام بها وأسلوب تنفيذها وابتكارها ))
ويقول : (( لا يمكن أن تجتمع الأمهات في حديث عن الأطفال دون أن يعلو وجه أكثر من أم حالة الحزن والغضب , لأن التلفاز يسرق من الأبناء وقت المذاكرة ويمنع المراهقين من القراءة المفيدة ))
ويقول : هناك عدد من رجال القضاء والمحللين النفسيين يؤكدون أنه عندما يتم سؤال أحد الشباب المنحرف عن فكرة الجريمة فإن الإجابة تكون من رواية بوليسية أو من برنامج في التلفزيون أو من فيلم في السينما))
وفي دراسة جادة شملت ألفي طالب تتفاوت أعمارهم بين التاسعة والثامنة عشر , , تبين أن الذين يمضون وقتاً طويلاً في مشاهدة التلفاز يعانون انخفاضاً حاداً في اللياقة البدنية بسبب تناول المواد الغذائية مع الاسترخاء أثناء المشاهدة , كما تزيد اضطرابات النوم لدى الأطفال مثل الكوابيس , والأرق , والتوتر النفسي والخوف من الظلمة والأشباح .(4/49)
وكان ينبغي - أخي الصائم - أن نستغل شهر رمضان في تربية أطفالنا , ونمنحهم جزءا من أوقاتنا فنصحبهم إلى المساجد وإلى حضور دروس العلم فيها ونقيم لهم ما يتناسب مع أعمارهم من برامج داخل المنزل , ونوجههم إلى القراءة النافعة , أو ممارسة الهوايات المفضلة لديهم , والتي تسهم في بنائهم التربوي والسلوكي .
ومن العجيب حقاً أن ترى من يمنع أولاده عن الصيام بحجة أنهم صغار السن في هذا الجو اللطيف حتى بلغ ببعضهم أن يوهم أطفاله الحريصين على الصيام أسوة الكبار أنه يكفيهم ليكونوا صائمين أن يمتنعوا عن الوجبات الرئيسة مثلاً , وأما الأكلات الخفيفة وشرب الماء القليل فإنه لا يؤثر على الصيام , ونحو ذلك من أكاذيب لا تليق بنا في تربية أطفالنا , ولا أدري ما الحال إذا اكتشفوا الأكذوبة بعد حين ؟!
وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يعللون أطفالهم بالألعاب إذا طلبوا الأكل حتى يحين موعد الإفطار , فهل لنا فيهم أسوة حسنة.. ؟! هذا ما أرجوه من نفسي ومنك أخي الصائم .
وإلى المصارحة الخامسة والعشرين ..
المصارحة الخامسة والعشرون : ( بوح إلى زوج شرود )
أخي الصائم ..
أرجو أن تدعني أن أصارحك بحديث ظل يعتلج في صدري أكثر من سنتين أو ثلاث , وكنت أؤجل الحديث عنه , حتى عزمت اليوم على البوح .
إنه ليس بوحي أنا بل بوح زوجتك وأطفالك حديث كل فرد منهم إذا خلا بنفسه , ونجيهم إذا تجالسوا , إنهم يحسون بأنهم وقعوا بين فكي كماشة , ترفعت أخلاقهم عن غيبة الناس فكيف بأبيهم وأحبوك فكرهوا كل كلمة تخدش شخصيتك في نفوسهم وهابوك فتيبست الكلمات على أطراف ألسنتهم فجئت أنوب عنهم فهل ستهبني بعض وقتك ؟(4/50)
إنهم يقولون إنك لا تقصر معهم في مطعم ولا ملبس , أسكنته ما يليق بمثلهم , وحرصت على تسجيلهم في التعليم كغيرهم , ولكنهم لا يزالون يبحثون عنك في البيت منذ أمد , فلا يجدونك إلا لماماً , فأنت لا تسألهم عن صحتهم ولا تعرف أصدقاءهم , وتجهل مستواهم في دراستهم فقدوا فيك الأنس والحنان الذي لا يظنون أن أحد من الناس يمكنه أن يعوضهم عنه مثلك . وحين دخل شهر رمضان المبارك , أملوا أن يحظوا بمجالستك فخاب ظنهم فلولا جلسة الإفطار السريعة , والتي يعقبها سكوت متواصل لمشاهدة التلفاز لما رأوك وهي جلسة ليست محسوبة لك عندهم لأنهم يعلمون أن جلوسك ليس لهم .
لقد كادت أعصابي تتمزق حين سمعت أحدهم بعد أن رأى أباً يجلس مع أولاده يحكي لهم قصة , سمعته يقول لأمه : لماذا كل الأولاد يجلس معهم أبوهم إلا نحن ؟!
بل لقد ذرفت عيني حين قرأت حادثة تقول : إن أحد الأبناء وقف على باب المنزل ينتظر والده وحينما عاد بادره بالسؤال : والدي كم تعطيك المؤسسة على عملك في اليوم الواحد , فانتهره الأب وعبس في وجهه , ووبخه على مثل هذا السؤال الفضولي , فانكفأ الطفل على نفسه يبكي وانسحب يبكي ذليلاً إلى غرفته .
وبعد أن وعى الأب لخطئه , جلس إلى ولده وقال له : لماذا يا ولدي بادرتني بهذا السؤال قبل أن أرتاح من تعبي , وأنا للتو قد حضرت ولكن قل لي لماذا تسأل هذا السؤال فقال له : أجبني أولا , فقال له : مائة ريال , فأطرق الطفل ثم قال : هل يمكن أن تقرضني خمسين ريالاً فقال الأب ولماذا ؟ فأجاب الطفل : لأني جمعت من مصروفي خمسين ريالاً فأريد أن أكمل لك المائة لأشتري من المؤسسة يوماً واحداً تجلسه معنا .
فاستعبر الأب وبكى , وعلم مدى تقصيره الشديد مع أطفاله بل وزوجته الصبور .(4/51)
أخي الصائم : إن بعض الآباء يقسمون أخلاقهم نصفين بين أصدقائهم وأفراد عائلتهم فالابتسامة الفرحة والطلاقة في الوجه والتسامح في الخطأ ودماثة الخلق ولطف المعاشرة وطول المجالسة كل ذلك يكون للأصدقاء في الديوانيات والمنتزهات والعبوس والغضب والتوتر الشديد والمحاسبة الدقيقة والشكوى من ضيق الوقت والتبرم بكل شيء للزوجة والأولاد !! فهل هذا من الإنصاف في شيء ؟!!
أخي الصائم : كأني بزوجة مثل صاحبنا تود أن تنفجر يوماً فتقول :
دعني أبح بالذي كتمت من حرق *** ولا تلمني إذا نالتك أشقاها
كم دافعتني إلى بوح لتعتقني *** لكنني خوف هجر منك أنهاها
لا تستطيع فساتيني وأسورتي *** وما تلألأ في كفي وما تاها
أن تشتري من خيالي لحظة خطرت *** فيها رؤاك ولو عزت مزاياها
ولا ألذ بضحكات الصغار وكم *** وددت والله لو أسقيك أحلاها
متى تؤوب إلى دنياي يا حلمي *** وتتقي في بقايا عبرتي الله
وكفكفت بيمين الحب مدمعها *** وسافرت في عروقي نار شكواها
فهل سافرت في عروقك أنت أيضاً - أيها الزوج الشرود - شكراً لك على إنصاتك لبوحي , وبقي أن تصغي لبوح كل فرد من أفراد أسرتك منفرداً , ومجتمعاً .
وإلى المصارحة السادسة والعشرين .
المصارحة السادسة والعشرون :( ماذا بعد العيد ؟)
اقتضت دورة الفصول أن يستضيفنا رمضان ونحن نعيش الأيام الأخيرة من دراسة الفصل الأول , وهي أيام تحصيل وتركيز لجميع المعلومات التي اشترك في حمل هم استيعابها المدرسة والمنزل مع الطالب .
والذي يخشى من حدوثه أن يكون جو العشر الأواخر من رمضان والعيد من أسباب نكوص الطلاب عن التحصيل والمذاكرة الجادة لما يجري فيهما من برامج عبادية أو اجتماعية وخاصة متعددة وشيقة .(4/52)
والأمر جد وليس بالهزل فليس بعد العيد إلا الاختبار , وبه يتعلق مستقبل أبنائنا وبناتنا , فإذا رققنا قلوبنا أمام تضرعاتهم المصطنعة بأنها إجازة لا ينبغي أن تشغل بالعمل أو المذاكرة فقد ندفع معهم الثمن باهظاً بعد ذلك وقدم نندم ولات ساعة مندم .فالحزم هو سيد الأخلاق في هذا الموضع على حد قول بعضهم :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحيانا على من يرحم
أخي الصائم .. ليس أمامك إلا أن تقوم بالخطوات الآتية من أجل إنقاذ فصل دراسي كامل من الانهيار وضياع الثمرة وذلك بتهيئة الجو المناسب للمذاكرة والتحصيل في بيتمك بالوسائل الآتية :
أولاً : إشاعة روح الإيجابية بين الأولاد والتفاؤل ، والامتناع عن التهديد بالرسوب والفشل ومحاولة معالجة الخوف بالاستعداد الجيد للامتحان والتشاؤم بالتوكل على الله .
ثانياً : استخدام الحوافز المؤقتة على الإنجاز المرحلي في المذاكرة ، والوعد بالنهائية والوفاء بها , حتى يتم التغلب على دواعي الاسترخاء والتأجيل
ثالثاً : توزيع أوقات المذاكرة , وجعل وقت راحة تقدم فيه الأم - مثلاً - طبقاً لذيذاً تجلس فيه الأسرة كلها لتناوله , ووقت للزيارة , ووقت للعب .
رابعاً : إبعاد الطلاب عن جو المشاحنات المنزلية , وعدم تكليفهم بأية أعمال خلال الاختبارات .
خامساً : المشاركة معهم في المذاكرة أحياناً فيما يصعب عليهم ، ولكن دون إشعارهم بالاتكالية الدائمة على الوالدين أو أحدهما .
سادساً : تعليمهم التنظيم في حياتهم كلها , فالنوم والأكل والمذاكرة واللعب لكل منها وقت خاص لا يطغى به على الآخر ولا ننسى أن السهر المتهور عدو التفوق .(4/53)
سابعاً : الرسالة العقلية , فالإنسان يعطي الاهتمام لما يشاهده يومياً أكثر مما يشاهده أسبوعياً وهكذا , ويكون ذلك من خلال وضع رسالة معينة أمام عيني الطالب لمدة أسبوع لقضية ينساها أو يتساهل فيها , وهي سبب تأخره الدراسي . ويمكن هنا أن نعالج قضية كراهية بعض المواد بمثل عبارة ( ما أسهل الرياضيات ) .
أخي الصائم .. اغرس في نفوس أولادك حب التفوق لا النجاح فقط , إذ لا مكان في عصرنا للضعفاء ومن أبرز وسائل الوصول إلى قمته التوكل على الله ثم إتقان العمل ( إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه ) ودليل حصولنا عليه أننا حققنا ما يتناسب مع إمكاناتنا من الهدف المحدد .
أخي الصائم .. أتمنى لأولادك كما أتمنى لأولادي التوفيق والتفوق في جميع تجارتهم في الحياة .
وإلى المصارحة السابعة والعشرين ..
المصارحة السابعة والعشرون : ( أجمل النسيان )
أخي الصائم ..
حديثي إليك هنا قديم متجدد , قد يرى المتفائلون أنه قتل بحثاً كما يقال ولكني أراه من أهم ما ينبغي أن يعالج ولا سيما في رمضان بل بالقرب من أجواء عيد الفطر المبارك .
إنها ظاهرة غير صحية تلك التي فشت في بعض الأسر وأدت إلى غير قليل من التدابر والتشاحن المتوارث حتى أصبح بعض الأبناء يرثون عداوات سلفت لا يعرفون لها سبباً .
ولقد عجبت حين رأيت أحدهم يتوقف أمام رجلين ويطيل فيهما النظر ثم يقول لهما : أأنتما أخوان فأجاب أحدهما : نعم بل شقيقان فأخذ يحملق بشراهة ويقول : عجباً !! فسألاه عن مصدر عجبه فأجاب : يظهر عليكم أنكما متفقان ومتماسكان وأنا اليوم لا أكاد أرى أخوين على قلب واحد .
لتقل : إنها مبالغة من هذا الرجل , ولكنها حتماً تشي بغير قليل من وجود هذه الظاهرة في المجتمع .(4/54)
ولعل من أبرز الأسباب المؤدية إلى فشو القطيعة : فشل الآباء في الربط بين قلوب الأولاد وجعل بعضهم يرى أن الآخر هو شخصه الثاني , الذي يحرص على مصلحته ومستقبله ومثل هذا ينبغي أن يبدأ في فترات حياتهم الأولى ثم تتدرج معهم كلما تقدمت بهم الأعمار وهمهم واحد وفرحهم واحد .
وأما على مستوى الأسر الكبيرة فإنه يجب أن يكون هناك عنصر قيادي بينها يكون هو كبير الأسرة وعميدها ترى فيه من الخصال الكريمة ما يستحق به أن يطاع ويستشار فيجمع شتاتها وترجع إليه في فرحها وترحها ويكون نجدة المستغيث وملاذ المحتاج منهم . وإن غياب مثل هذا العنصر يعد من أبرز أسباب ضعف البناء الداخلي لكل أسرة ومن ثم تصدعها وفشو الخلافات بينها .
إن المرء منا قد يغفر للغريب الذنب الذي لا يغفره للقريب فلماذا ؟
ألأنه يبحث عن مصلحة يجدها عند البعيد ولا يراها عند ذي الرحم ؟
أم لأن القريب بحكم طول الصحبة وسقوط الكلفة سقط حقه من الاحترام والتقدير بل حتى من المجاملة ؟!
أم لأننا لانجد الفرصة لكي نشبع طمع نفوسنا في إرضاخ الآخرين لآرائنا إلا على أقربائنا ، لأننا نأمن العواقب معهم ؟!
إن علينا أن نقبل العذر ممن يعتذر وأن نقابل القطيعة بالوصل , ف " ليس المواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها "
إن أسرة الإنسان وأرحامه هم عدته وسنده وهم قوته ومفزعه . فمهما كانت أصالة الأصدقاء ونبلهم فإنهم لن يصلوا - في النوائب - في مستوى تحنن الأرحام واستعدادهم , ومهما تجذرت العداوات والخلافات بين الأرحام فلا بد من العود - ولو بعد أمد - إلى لأم الجراح , وإعادة العلائق , بينما قد تدوم القطيعة بين الغرباء أبد الدهر لأنه لا يوجد عنصر - كالدم - يستطيع أن يشد المتقاطعين ولو بعد أجيال(4/55)
إن صلة الرحم - أخي الصائم - عظيمة البركة فهي : طاعة للرحمن وبركة في الأرزاق والأعمار , ومن أسباب التوفيق في الحياة ودفع الأذى , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه "
إن رمضان والقرب من العيد تعد فرصة عظيمة لأجمل نسيان في الوجود , وهو نسيان أخطاء أرحامك في حقك , لتعود القلوب صافية نقية كما كانت .
فهلا عزمت - أخي الصائم - أن تطوي كل ما قد تراكم في قلبك عبر السنين بينك وبين أرحامك وأن تبدأ حياة جديدة غير منغصة بالحقد على أحد , فما أشقى الحساد وما أشد مرض الحاقدين !
عافاني الله وإياك من أمراض القلب وآفاته , حتى نستقبل عيدنا المبارك إن شاء الله , ونحن في أحسن حال وأطهر قلب وأكرم نفس .
وإلى المصارحة الثامنة والعشرين ..
المصارحة الثامنة والعشرون : ( قبل الوداع )
أخي الصائم ..
هل لي - أخي الصائم - بعد أن أكثرت عليك من الحديث أن تسمح لي بأن أخاطب شهرنا الكريم ..
لله أنت يا شهر الصوم والخير , ما أخف ظلك ! وما أسرع خطاك ! حللت كالضيف الحبيب , وسرعان ما تحزم حقائبك لتتركنا مع ذكريات جميلة وكأن آخر يوم منك أول يوم استقبلناك فيه , حينها التفتت القلوب قبل الأنظار وأشعلنا مشاعرنا حباً وشوقاً إليك لا لأننا نثق في أعمالنا , ولكن لأننا نرجو فيك رحمة ربنا .
نعنو وجوها للإله وتستحي *** في صومنا الأقوال والأفعال
حتى إذا أزف الوداع وأوشكت *** نذر الفراق على الربا تنهال
عشناك شوقاً لا يزول وفرحة *** لا تنتهي وإن انتهت آجال
من لنا بمثل شهرنا يوقظ فينا ما غفا ويستحث ما ركد فيا أيها الراحل العزيز تمهل .. فلا تزال همهمات الوداع تئن في قلوبنا .. تقول :
يا أنس المصلين , ترى هل سنبقى على هذه الصلة الحميمة ببيوت الله بعدك ؟
يا كهف المساكين , وقد وجدوا فيك النفوس سمحة معطية ترى هل ستستمر تلك النفوس في نداها وجودها ؟(4/56)
يا مدرسة النابهين , ترى هل ستبقى دروسك المثلى نابضة في حياتهم حتى تعود إليهم بإذن الله ؟
يا روح العباد , ومزرعة الطائعين وروضة التائبين وجنة المتقين .. ها أنت ذا تستدبرنا وتمضي , فنعود بعدك نراجع حساباتنا ..فمن الناس من لم يذق لذة صيامك وإن امتنع عن المفطرات , يبيت على المحرمات المخزيات , وينام عن الواجبات الصالحات فرغم أنفه إن رحلت ولم يغفر له ..
رمضان رب فم تمنع عن شراب أو طعام
ظن الصيام عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهو على الأعراض ينهشها ويقطع كالحمام
يا ليته إذ صام صام عن النمائم والحرام
فلمثل هذا أن يسكب على نفسه دموع الحسرات وأن يعزي أكثر من لو أن حبيباً له مات .
ومن الناس من كنت له واحة خضراء , زرع فجنى وأخذ واستزاد تعلم من صومه أن النفس تصبر عما اعتادته إذا أرادت , وأن الجسد الذي صبر عن الشهوة المباحة في زمن محدود لديه الاستطاعة أن يصبر عن الشهوة المحرمة في كل وقت , وتعلم أن روح الصيام هي التقوى التي تعيد إلى الإنسان إنسانيته التي يفتقدها أحيانا إذا أطلت رغبة أو رهبة فعزم على أن يعيشك في سائر أيامه :
إذا ما المرء صام عن الدنايا *** فكل شهوره شهر الصيام
هكذا ينبغي أن يكون المسلم فكل خير تلقاه من شهر الصيام يجب أن يحظى منه بالديمومة والاستمرار وكل عادة سيئة أقلع عنها يجب ألا يعود إليها مروءة وشيمة وعزيمة وقبل كل ذلك ديناً وتقوى .
فإلى اللقاء يا شهر الصوم .. إلى اللقاء إن شاء الله في عام مقبل
لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفان
وإلى المصارحة الأخيرة ..
المصارحة الأخيرة : ( العيد وآثاره على إصلاح ذات البين )
أخي القارئ ..(4/57)
أي البشائر أزفها إليك , وقد بلغك الله صيام شهر الخير كله أفضل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه الشيخان . وها قد بلغت الفرحة الأولى وتهيأت للفرحة الأخرى بعد عمر مديد إن شاء الله :" للصائم فرحتان فرحة عند فطره , وفرحة عند لقاء ربه ", فجمعت بفضل الله وكرمه بين سعادتي الدنيا والآخرة .
وكما عشنا في شهر الصوم سعادة العبادة , فها قد تلألأت أنوار العيد الذي يهل علينا بسعادة أخرى , تنشأ من تبادل التهاني الصافية والحب الصادق الحب الذي يجعل النفس المتعنتة شهوراً طوالاً تنصاع .. فتسامح , تسامح حتى من ظلمها ورفض الاعتراف بظلمه والاعتذار منها فضلاً عمن أخطأ وثاب إلى الحق واعتذر .
وما أجمل التسامح يوم العيد , ما أجمل أن يكون غُسل القلوب وغُسل الأبدان بماء واحد فلا يخرج المرء من داره إلا وقد خلا قلبه من كدر الأحقاد قد تتابعت على قلبه آيات العفو كالبرد على الظمأ ( وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) الشورى : 37 , ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) الشورى : 43 , فيهتف قد صبرت وغفرت . فارتاحت نفسه من إلحاح الثأر الجهول , وهدأت أعصابه بعد أن انطفأت النار , وترمد الجمر وانطوت صفحة سوداء - بإذن الله - إلى الأبد . لترتفع راية العز بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم :" ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا , وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .
وعيد الفطر له خصوصية اجتماعية عجيبة , هي زكاة الفطر التي شرعت على كل فرد يملك ثمنها في المجتمع بدون استثناء , لتؤدي في صبيحة العيد قبل الصلاة أو قبله بيوم أو يومين لتكون طهرة للصائم زكاة عن بدنه ، وطعمة للمسكين في يوم يتمنى فيه أن يكفي عن مدِّ يده , وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم : " اغنوهم بها عن السؤال في ذلك اليوم " .(4/58)
دين عظيم هذا الذي يراعي مشاعر جميع أفراده في يوم فرحهم ويشيع بينهم نوعاً من التكافل الإنساني الفريد هدفه أن يكون إحساسهم بالعيد واحداً , فالفقير يزداد حبه لأخيه الغني ويتمنى له المزيد من الخير لأنه عطف عليه ولم يتجاهل مشاعره , والغني ستختفي عن عينيه مظاهر البؤس والفاقة التي ربما تكدر عليه هناءته ليعيش المجتمع كله شعوراً متآلفاً متناغماً .
أخي الصائم .. ها قد بلغنا نهاية مشوارنا الدافئ كنت فيه حريصاً على أن أمسك بزمام قلمي عن الزلل وأنا أناجيك خشية أن تجد في نفسك علي شيئاً فسامحني فإن من كثر كلامه لا بد أن يزل لسانه , وقد تحدثت إليك كثيراً فكن ممن مدحهم الله بقوله : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) الزمر 18 .
وإني كما حزنت على فراق شهر رمضان , فأني حزين على فراقك ولكنها الدنيا لا تجمع إلا لتفرق وإني قد استودعتك خطرات من نفسي , سمها هدايا , أو نصائح أو تجارب , سمها ما شئت , ولكني أرجوك لا تنسها ولا تنسني من دعوة صالحة في ظهر الغيب .
أستودعك الله تعالى في آخر هذه المصارحات راجياً من الله تعالى أن نكون ممن صلحت أعمالهم وقبلت دعواتهم وكتبوا من عتقاء الله في هذا الشهر الكريم من النار وتقبل تحيات .
أخيك / خالد بن سعود الحليبي
الأحساء 31982
ص. ب : 8876
رمضان 1421
??
??
??
??
18(4/59)
بسم الله الرحمن الرحيم
" غربة صائم "
الشيخ خالد الراشد
كنا في العام الماضي في مثل هذه الأيام ..
نرقب شهر الصوم ونتحراه ثم ماذا !!..
عام كامل بأيامه ولياليه قد ..
قوَّض خيامه ..
وطوى بساطه ..
وشدَّ رحاله ..
بما قدمنا فيه من خير أو شر ..
وصدق الله ..
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } ..
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً } ..
{ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } ..
قال ابن كثير رحمه الله :
تمر بنا الأيام تترى ..
وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر ..
إنَّ الدقائق والثواني التي ذهبت من أعمارنا لن تعود ..
ولو أنفقنا جبال الأرض ذهباً وفضة ..
واعلم أنَّ ..
الأنفاس معدودة ..
والآجال محدودة ..
واعلم أنّّ ..
من أعظم نعم الله عليك أن مدّ في عمرك وجعلك تدرك هذا الشهر العظيم ..
فكم غيَّب الموت من صاحب ..
ووارى الثرى من حبيب ..
تذكر من ..
صام معنا العام الماضي ..
وصلى العيد ..
ثم أين هو الآن بعد أن غيبه الموت ؟! ..
اجعل لك من هذا الحديث نصيب ..
قال صلى الله عليه وسلم :
( اغتنم خمساً قبل خمس :
حياتك قبل موتك ..
وصحتك قبل سقمك ..
وفراغك قبل شغلك ..
وشبابك قبل هرمك ..
وغناك قبل فقرك ) رواه الحاكم ..
احرص رعاك الله ..
أن تكون من خيار الناس كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم حين سُئل :
أي الناس خير ؟! ..
قال :
( من طال عمره وحسن عمله ) ..
إلهي :
ثكلت خواطرٌ أنست بغيرك عدمتُ قلباً يحب سواك
قال سبحانه :(5/1)
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ..
عند أحمد والنسائي من حديث أبو هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان فكان يقول لهم :
( قد جاءكم شهر رمضان ..
شهر مبارك ..
افترض الله عليكم صيامه ..
يفتح فيه أبواب الجنة ..
ويغلق فيه أبواب الجحيم ..
وتُغل فيه الشيطان ..
فيه ليلة خير من ألف شهر ..
من حُرم خيرها فقد حُرم ) ..
قال ابن رجب : هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان ..
كيف لا يُبشّر المؤمن ..
بفتح أبواب الجنان !.
كيف لا يُبشّر المذنب ..
بغلق أبواب النيران !.
كيف لا يُبشّر العاقل ..
بوقت يُغلّ فيه الشيطان !.
من أين يشبه هذا الزمان زمان ؟!
قال معلى ابن الفضل :
كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ..
ثم يدعونه ستة أشهر أن يتتقبل منهم رمضان ..
وقال يحيى بن كثير كان من دعائهم :
اللهم سلمني إلى رمضان ، وسلم لي رمضان ، وتسلم مني رمضان متقبلاًً ..
فمرحى بشهر طيب مبارك كريم ..
في رمضان ..
أُنزل القرآن والكتب السماوية ..
في رمضان ..
الشفاعة بالصيام والقرآن..
في رمضان ..
التراويح والتهجد ..
في رمضان ..
التوبة وتكفير الذنوب ..
في رمضان ..
تصفد الشياطين ..
في رمضان ..
تغلق أبواب الجحيم وتفتح أبواب الجنان ..
في رمضان ..
الجود والإحسان والعتق من النيران ..
في رمضان ..
الصبر والشكر والدعاء ..
في رمضان ..
مضاعفة الحسنات وليلة القدر ..
في رمضان ..
الجهاد والانتصار ..(5/2)
فكيف لا يفرح المؤمن بشهر هذا بعض ما فيه ..
بين الجوانح في الأعماق سكناه
ولم أزل في هواه ما نقضت له
قد شاخ جسمي ولكن في محبته
في كل عام لنا لقيا محببة
بالعين والقلب بالآذان أرقبه
والليل تحلو به اللقيا وإن
فنوره يجعل الليل البهيم ضحىً
ألقاه شهراً ولكن في نهايته
في موسم الطهر في رمضان الخير
من كل ذي خشية لله ذي ولعٍ
فكيف أنسى ومن في الناس ينساهُ!
عهداً ولا محت الأيام ذكراهُ
ما زال قلبي فتىً في عشق معناهُ
يهتز كلُ كياني حين ألقاهُ
وكيف لا ! وأنا بالروح أحياهُ
قصرت ساعاتها أُحيى لها وأحلاهُ
فما أجلَّ وما أجلى محياهُ
يمضي كطيف خيال قد لمحناهُ
تجمعنا محبة الله لا مالٌ ولا جاهُ
بالخير تعرفه دوماً بسيماهُ
قال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } _ يعني فرض عليكم الصيام _ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}...
قال ابن عثيمين رحمه الله :
الحمكة من الصيام ..
ليس أن يمنع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب والنكاح ..
ولكن كما قال الله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ..
وما أشار إليه النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه في قوله :
( من لم يدع ..
قول الزور ..
والعمل به ..
والجهل ..
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ..
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام
( من لم يدع قول الزور ) : هو كل قول محرَّم ...
وقوله :
( العمل به ) - أي بالزور- : أي كل فعل محرَّم ..
و ( الجهل ) : أي العدوان على الناس وعدم الحلم ..
فالمطلوب منكَ ومنكِ ومني ..
تحقيق تقوى الله جلَّ في علاه ..
تقوى الله هي ..
الغاية المنشوده ..
والدره المفقوده ..
{ والآخرة عند ربك للمتقين } ..
وإليك بعضاً من أخبارهم ..
( قال البخاري : ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت ..(5/3)
( وقال الشافعي : ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً ، ولو أعلم أنَّ الماء يفسد علي مروءتي ما شربته ..
( وقالوا لمحمد بن واسع : لمَ لا تتكأ ؟! قال : إنما يتكأ الآمن وأنا لا زلت خائفاً ..
( وقُرأ على عبد الله بن وهب : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } فسقط مغشياً عليه .
( وحج مسروق فما نام إلا ساجداً ..
( وقال أحدهم : ما كذبت منذ علمت أنَّ الكذب يضر أهله ..
( وقال أبو سليمان الداراني : كل يوم أنا أنظر في المرآة هل اسودَّ وجهي من الذنوب ..
هذا حالهم ..
فكيف حالي وحالك ؟؟!!..
لبسنا الجديد ..
وأكلنا الثريد ..
ونسينا والوعيد ..
وأمّلنا الأمل البعيد ..
رحماك يا رب ..
لماذا تريد الحياة ؟! ..
لماذا تعشق العيش ؟! ..
إذا لم تدمع عينك من خشية الله جل في علاه !!..
إذا لم تمدحه في السحر !!..
إذا لم تزاحم بالركب في حلق الذكر !!..
إذا لم تصم الهواجر ، وتخفي الصدقة !!..
هل العيش إلا هذا ؟؟!!..
هل العيش والسعادة إلا هذا ؟؟!!..
إذا لم تستطع ..
قيام الليل ..
وصيام النهار ..
فاعلم أنك محروم ..
قال سبحانه :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ..
هذه أخبارهم { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}..
قال صلى الله عليه وسلم :
( بدأ الدين غريباً ..
وسيعود غريباً ..
فطوبى للغرباء ) ..
إنّّ الذي يقرأ ويسمع عن أخبار السلف ، وقلة من الخلف ..
يعلم أنَّ الدين يعيش غربة بين أهله ..
من سمع عن ..
صيامهم ..
وقيامهم ..
وجهادهم ..
أيقن أنَّ الواقع اليوم يحتاج إلى مراجعة وتصحيح ..
فتعالوا أحبتي ننظر في بعض صور الغرباء في رمضان ..الغرباء مع الصيام ..
( عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما مات عمر حتى سرد الصيام ..
( أما أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان .. قال أبو نُعيم عنه :
حظه من النهار الجود والصيام ..
ومن الليل السجود والقيام ..(5/4)
مبشر بالبلوى ..
ومنعَّمٌ بالنجوى ..
وعن الزبير بن عبد الله عن جده عن جدةٍ له يقال لها هيمه : كان عثمان يصوم الدهر ، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله رضي الله عنه ..
قتلوه وقد كان صائماً والمصحف بين يديه والدموع على لحيته وخديه .. حبيب محمد ووزير صدقٍ ورابع خير من وطأ التراب ..
( أما أبو طلحة الأنصاري الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم :
( لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل ) ..عن أنس رضي الله عنه قال : كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو .. فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره يفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر ..
( أما حكيم الأمة وسيد القراء أبا الدرداء فقد قال :
لقد كنت تاجراً قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما بُعث محمد زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا فأخذت بالعبادة وتركت التجارة..
تقول عنه زوجه : لم تكن له حاجة في الدنيا ، يقوم الليل ويصوم النهار ما يفتر..
لله درهم..
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
( أما من خبر الإمام القدوة المتعبد المتهجد عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين يكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه :
( نعمَ العبد عبد الله ) ..
قال عنه نافع : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ، ولا يكاد يفطر في الحضر ..
وعن سعيد بن جابر قال : لما اُحتضر ابن عمر قال : ما آسى على شيء من الدنيا _ يعني ما أحزن على شيء من الدنيا _ إلا على ثلاث :
ظمأ الهواجر ..
ومكابدة الليل ..
وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا - يعني الحجاج - ..
وإليكَ المزيد ..
( عن رجاء بن حيوه عن أبي أمامة
أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فأتيته فقلت يا رسول الله :ادعو الله لي بالشهادة ، فقال :
( اللهم سلمهم وغنمهم ) ..
فغزونا فسلمنا وغنمنا ..(5/5)
حتى ذكر ذلك ثلاثة مرات ، قال ثم أتيته فقلت : يا رسول الله : إني أتيتك تترى ثلاث مرات أسألك أن تدعو لي بالشهادة فقلت :
( اللهم سلمهم وغنمهم ) ..
فسلمنا وغنمنا .. يا رسول الله فمرني بعمل أدخل به الجنة .. فقال :
(عليك بالصوم فإنه لامثل له ) ..
قال فكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف ، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرفوا أنهم قد اعتراهم الضيوف ..
( عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة رضي عنه ..
( أما مسروق بن عبد الرحمن الذي كان في العلم معروق ، وبالضمان موثوق ، ولعباد الله معشوق.. قال عنه الشعبي : غشيته يوماً _ يعني زرته يوماً _ غشيت مسروق في يوم صائف ..وكانت عائشة قد تبنته ، فسمى بنته عائشة .. فكان لا يعصى ابنته شيئاً .. لا يخالف ابنته من محبته إياها .. قال فنزلت إليه ، فقالت : يا ابتاه أفطر واشرب .. قال : ما أردت يا بنيه ؟ قالت : الرفق ..
قال : يا بنيه إني طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ..(5/6)
قال الله عنهم : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً ، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ، قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ، وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ، عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً }..
سعيكم مشكوراً ..
إن صبرتم على طاعتي ..
سعيكم مشكوراً ..
إن صبرتم عن معصيتي..
سعيكم مشكوراً ..
إن صبرتم على الأذى في سبيلي ..
( وهذا خبر أخير عن المُبشر المحزون ، المستتر المخزون ، تجرد من التلاد وشمر للجهاد وقدم العتاد للمعاد : العلاء بن زياد ..
كان ربانياً تقياً قانتاً لله بكّاءً من خشية الله ..
عن هشام بن حسان أن العلاء بن زياد كان قوّت نفسه رغيفاً كل يوم .. كان يصوم حتى يخضر ، و يصلي حتى يسقط ..
فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له : إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله ..
فقال : إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته بها..
قال له رجل : رأيت كأنك في الجنة ..
فقال : ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك ..(5/7)
قال سلمة بن سعيد : رُؤي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة فمكث ثلاثاً لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يتذوق طعاماً ، فأتاه الحسن فقال : أي أخي أتقتل نفسك أن بُشرت بالجنة !! ..
فازداد بكاءه ، فلم يفارقه حتى أمسى وكان صائماً فطعم شيئا من الطعام..
قال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ، لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }.
دعوه لا تلوموه دعوه
رأى علم الهدى فمشى إليه
أجاب دعاءه لما دعاه
بنفس ذاك من فطنٍ لبيبٍ
فقد علم الذي لم تعلموه
وطالب مطلباً لم تطلبوه
وقام بأمره وأضعتموه
تذوّق مطعماً لم تطعموه
{و تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ، وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }..
للهِ دَرُهمْ كمْ علتْ بهم هممهم ، وأي كلام يترجم فعلهم ..
ولكِ من أخبار النساء:
( عن عبد الرحمن بن قاسم أن عائشة كانت تصوم الدهر ..
وعن عروة : إنَّ عائشة كانت تسرد الصيام ..(5/8)
قال القاسم : كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر ..
بعث لها معاوية مرة بمائة ألف درهم فقسّمتها ولم تترك منها شيئاً ، فقالت بريدة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً ، فقالت : لا تعنفيني ، لو كنت أذكرتني لفعلت ..
إنها الصديقة بنت الصديق ، العتيقة بنت العتيق ، حبيبة الحبيب ، وأليفة القريب ، المبرأة من العيوب رضي الله عنها وأرضاها ...
( أما القوَّامة الصوّامة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وعن أبيها وعن أخوتها وآل عمر .. وارثة الصحيفة ، الجامعة للكتاب ..
فعن قيس بن زيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون ، فبكت وقالت : والله ما طلقتني عن شبع .. والله ما طلقني عن شبع ..
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتجلببت ، فقال : قال لي جبريل عيه السلام:
( راجع حفصة فإنها صوّامة قوَّامه ، وإنها زوجتك في الجنة ) ..
أي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل .. أي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لحفصة رضي الله عنها وأرضاها ..
وأنعم بها من عبادة كانت سبباً لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم لتبقى له زوجة في الجنة ..
قال نافع : ماتت حفصة حتى ما تفطر ..
وإليكِ مزيد ..
( عن سعيد بن عبد العزيز قال : ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحمة العابدة مولاة معاوية ..
دخل عليها نفر من القرّاء فكلموها لترفق بنفسها ..
فقالت: ما لي وللرفق بها فإنما هي أيام مبادرة فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً ..
والله يا أخوتاه ..
لأصلينَّ ما أقلتني جوارحي ..
ولأصومنَّ له أيام حياتي ..
ولأبكينَّ له ما حملت الماء عيناي ..
ثم قالت : أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر فيه !!..
ولقد قامت رحمها الله حتى أخضلت ..
وصامت اسودت ..
وبكيت حتى فقدت بصرها ..
وكانت تقول : علمي بنفسي قرّح فؤادي وكقطَّع قلبي .. والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أكُ شيئاً مذكوراً.(5/9)
كانت رحمها الله تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله ..
قال الله عنهم : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }..
قال عنهم : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ } ..
فلو كان النساء كما ذكرنَّ
فما التأنيث لاسم الشمس عيب
لفُضلّت النساء على الرجال
وما التذكير فخرٌ للهلال
أنواع الصائمين :
أخي .. أخية ..
( من صام عن الطعام والشراب ..
فصومه عادة ..
( ومن صام عن الربا والحرام ، وأفطر على الحلال من الطعام فصومه ..
عدة وعبادة ..
( ومن صام عن الذنوب والعصيان ، وأفطر على طاعة الرحمن فإنه ..
صائم رضا ..
( ومن صام عن القبائح ، وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو ..
صائم تقى ..
( ومن صام عن الغيبة والبهتان ، وأفطر على تلاوة القرآن فهو ..
صائم رشيد..
( ومن صام المنكر والأغيار ، وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو ..
صائم سعيد ..
( ومن صام عن الرياء والانتقاص ، وأفطر على التواضع والإخلاص فهو ..
صائم سالم..
( ومن صام عن خلاف النفس والهوى ، وأفطر على الشكر والرضا فهو ..
صائم غانم ..
( ومن صام عن قبيح أفعاله ، وأفطر على تقصير آماله فهو ..
صائم مشاهد ..
( ومن صام عن طول أمله ، وأفطر على تقريب أجله فهو ..
صائم زاهد..
قال ابن القيم :الصوم لجام المتقين ، وجنة المحاربين ، ورياضة الأبرار المقربين لرب العالمين ..
يكفيك قوله : ( الصوم لي ) .. يكفيك قوله : ( الصوم لي وأنا أجزي به )
يا قادماً بالتقى في عينك الحب
صبرت عاماً أمنّي قرب عودتكم(5/10)
قل هلَّ طيفكم فاخضر عامرنا
ففيكم يرتقي الأبرار منزلةً
طال اشتياقي فكم يهفو لكم قلب
نفسي فهل يدنو لكم سرب
والله أكرمنا إذ جاءنا الخصب
والخاملون كسالى زرعهم جدب
قالوا :
الصوم : لذة المحرومين .
وقالوا : الصوم رجولة مستعلنة ، وإرادة مستعلية ..
وقالوا : رمضان شهر الحرية عما سوى الله ، وفي الحرية تمام العبودية ، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية ..
و قالوا : رمضان شهر القوة ..
( فليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) ..
قالوا : الصوم صبر وطاعة ونظام ..
أترون أمة من الأمم تتحلى بهذه الصفات ثم تجد سبيلها إلى الانهيار ؟؟!!..
أترون جيشاً يتحلى بهذه الأخلاق القوية ثم يجد نفسه على عتبة الهزيمة ؟؟!!..
فلا تنسى وأنت تصوم رمضان أنَّ الله يريد أن يجعلك بالصيام مثال القوي الأمين ..
فحذار حذار أن ينسلخ عنك رمضان وأنت الضعيف الخائن ..
أحبتي لن يتسع المقام حتى نذكر حال الغرباء مع القيام ومع تلاوة القرآن ..
لن يتسع المقام لذكر أخبار الغرباء مع التضرع والدعاء والبذل والعطاء ..
ولن يتسع المقام لذكر بطولات الغرباء وصولاتهم وجولاتهم في ساحات الجهاد في رمضان..
لكن حسبنا ما سمعنا وذكرنا من أخبارهم واللبيب بالإشارة يفهم ..
لقد كان رمضان شهر عبادة واجتهاد .. هكذا كان حالهم قبل وبعد رمضان ..
فما هو حالنا !!!..
اسمع شيئاً من أخبارنا ..
في بحث واستفتاء وأسئلة طرحت على فئات من المجتمع ..
رجالاً ونساء ..
موظفين وطلاباً ..
عن حالهم وعن أوقاتهم في رمضان فجاءت الاعترافات التي تؤكد لنا قوله صلى الله عليه وسلم :
( بدأ غريبا ، وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) ..
فقائل أقضي الليل أمام شاشات التلفاز أتابع القنوات الفضائية حتى طلوع الفجر مع بعض زملائي..
وقائل أقضي الوقت تحت أضواء الملاعب ضمن سلسلة مباريات المقامة في الدوري الرمضاني ..
وقائل على موائد البلوت والورق في المجالس وعلى الأرصفة ..(5/11)
وقائل أقضي الأوقات بالتنزه في الحدائق تارة وفي الأسواق تارة ..
أما أهل الوظائف فسهر بالليل ثم كسل وخمول طوال النهار ..
النتيجة لوم وتوبيخ وخطابات إنذار ..
وآخر يقول أنا أحسن من غيري حيث يتسنى لي النوم في المكتب ..
وآخر يقول في رمضان يكثر غيابي وتكثر الحسميات ..
وفي لقاءات مع بعض الأئمة تحدث بعضهم مستبشرين بزيادة المصلين في رمضان وإقبال الناس على الطاعة..
وعبّر آخرون عن حزنهم لحال المتخاذلين ..
حتى في رمضان ..
وقال آخر إنهم يزدادون في صلاة الفجر حتى يمتلأ المسجد بهم ، ولكنا لا نكاد نراهم في صلاة الظهر والعصر ، فقد قلبوا ليلهم نهاراً ونهارهم ليلاً ..
و في الأسواق فاسمع الأخبار من رجال الهيئات...
أما في المقاهي فسُئل أحد العاملين في إحدى المقاهي عن الفرق بالنسبة لهم عن العمل في رمضان وفي غيره من سائر الشهور فأجاب : إن العمل في رمضان يكون أكثر تعباً وإرهاقاً حيث يكثر الزبائن ويزدحمون بمعدل الضعف عن غير رمضان ،ويمضون ليلهم كله في المقهى..
أما الأبناء فعلى الأرصفة والطرقات .. صخب ولهو ..
فتسأل نفسك أين الراعي من الرعية ؟!...
أما النساء فسهرات نسائية وانشغال في إعداد أصناف الحلويات والمشروبات ..
وأمهات يسهرن حتى الفجر في انتظار الأبناء الذين لا يعودون إلا في هذه
الأوقات ..
أما الأسواق والمجمعات فحدث ولا حرج..
فأين العبادة و الجد والاجتهاد ؟! ..
يقول أحدهم أنام بعد الفجر ولا أستيقظ إلا بعد صلاة العصر .. فالنوم عبادة ..
وآخر يقول يوقظني والدي عند الإفطار وفي بعد الأحيان لا أفطر إلا قبيل العشاء .. أقول ..
ومع أحد الزبائن في إحدى المقاهي كانت هذه الأسئلة السريعة ..
منذ متى وأنت هنا ؟ قال : من الساعة الثانية عشرة ..
إلى متى تجلس ؟ قال : إلى وقت السحور ..
هل أنت موظف ؟ قال : نعم أنا موظف حكومي ..
ألا تتأخر عن دوامك ؟ قال : أتأخر قليلاً ثم أكمل النوم في المكتب ..(5/12)
هذا هو رمضان اليوم .. عند كثير من الفئات ..
فيا غربة الصائمين ..
ويا حسرة المفرطين ..
- نداء أخير:
ويحنا.. ما أغرنا !!..
ويحنا.. ما أغفلنا !!..
ويحنا.. ما أجهلنا !!..
ويحنا.. لأي شيء خلقنا !!.. أللجنة أم للنار؟؟!!!
يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي ..
يا شموس التقوى والإيمان اطلعي ..
يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي ..
يا قلوب الصائمين اخشعي..
يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي ..
ويا عيون المتهجدين لا تهجعي..
ويا ذنوب التائبين لا ترجعي..
يا أرض الهوى ابلعي ماءك..
ويا سماء النفوس أقلعي..
يا خواطر العارفين ارتعي ..
يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي ..
قدممت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوَّام فما منكم إلا من دعي ..
{ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} .. { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }..
فطوبي لمن أجاب فأصاب ، وويل لمن طرد عن الباب ..
ألا يكفيك قوله :
( الصوم لي وأنا أجزي به )..
رباه عفوك إني للنور مددت يدايا
وحفنة من وعاء غَرْفَه من دمايا
إليك أنت صباحي مصفداً في مسايا
لم أدرِ من أي نبع أسقي حنين الركايا
رحماك ياربي هذا إثمي وهذي تقايا
رحماك ربي إني وزورقي والخطايا
جفت وغاضت ولكن ما زلت أزجي رجايا
وأبكي وأبكي ويبكي دمعي ويبكي بكايا
ولا لغيرك دوّى يا ربي يوماً ندايا
فاسكب ضياءك إني ظمآن ضلَّ صدايا
والشط لا ماء فيه يطفي اللظى في رحايا
وذاك دربي وهذا على الطريق عصايا
في لجة ليس فيها من الضياء بقايا
غفرت أم لم فإني ما زلت أدعوك يا يا
يا رب .. يا رب ..
عجباً لمن عرفك ثم أحب غيرك !!..
عجباً لمن عرفك ثم أحب غيرك !!..(5/13)
وعجباً لمن سمع مناديك ثم تأخر عنك !!..
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا ..
اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله ..إنك انت أهل التقوى وأهل المغفرة ..
اللهم بلغنا رمضان ..
وارزقنا صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً يا ذا الجلال والإكرام ..
اجعلنا فيه من أهل ليلة القدر ..
وممن نال فيه عظيم الثواب والأجر ..
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
للاستماع للمحاضرة على الرابط :
http://www.islamcvoice.com/mas/open.php?cat=94&book=1844
??
??
??
??
غربة صائم الشيخ / خالد الراشد
19(5/14)
سلسلة المحاضرات ( 1 )
هَكذا رَحلَ رَمَضَان
قدَّم له
فضيلة الشيخ ذيب أنيس حفظه الله
وفضيلة الشيخ الدكتور أحمد سعيد حوَّى حفظه الله
بقلم
محَمّد بِنْ يُوسُفْ الجُورَانِي
تقديم
فضيلة الشيخ ذيب أنيس حفظه الله
(
الحمد لله رب العالمين ، وليَّ المتقين ، وناصر العاملين والمجاهدين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وبعد ..
فقد اطَّلعتُ على أوراق المحاضرة التي ألقاها طالب العلم الأخ الفاضل محمد بن يوسف الجوراني _ حفظه الله _ والتي نطمعُ أن يوفقه الله تعالى لنشرها عل شكل كتيبٍ لينتفع بها من شاء من عباده .
وقد اشتملت هذه الأوراق على الغالي والثمين ، من الحِكَم ، والمواعظ الرحمانيَّة والرمضانيَّة ، وقد حشد المحاضر من مواعظ الصالحين ومواقفهم ، من العلماء المجاهدين ، الذين ثبتوا على الحق أمام طواغيت الأرض ؛ حتى لقوا الشهادة في سبيل الله تعالى .
ومنهم شهيد القرآن الأستاذ سيِّد قطب رحمه الله تعالى ، وقد رفض الاعتذار لرأس الحكم في مصر عندما طلب منه الاعتذار عن التهم التي أسندت إليه ظلماً وزوراً ، فأجاب الأستاذ الشهيد سيِّد قطب :
إنَّ أصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانيَّة ، تأبى أن تقر حكماً لطاغية ! ومن أقواله : إن كلماتنا وأقوالنا ستظل جثثاً هامدة ؛ حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء ، انتفضت وعاشت بين الأحياء .(6/1)
وقد أعجبني كذلك أسلوب المحاضر في ترضِّيه عن الخلفاء الراشدين واحداً واحداً ، وعندما وصل إلى سيدنا علي ( قال : ( وعلى عليٍّ وأبرأُ ممَّن يغلو فيه أو يقدح ) ونحن نحمد لله تعالى أن جعلنا من الأمة التي تؤمن بجميع الأنبياء والرسل ، والحمد لله كذلك أن جعلنا ممَّن يُجلُّون الصحابة أجمعين ، وفي مقدمتهم الأربعة الراشدين ( ، ونحن نحترم أزاج نبينا ( وبناته أجمعين رضوان الله عليهنّ ، ولا نؤمن ببعض ونجحد ببعض كما هو حال بعض الآخرين ؟!
وقد اهتمَّ المحاضر بالإكثار من الشعر ؛ ( وإنَّ من الشعر لحكمة ) وأخصُّ بالذِّكْرِ قصيدة الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي التي مطلعها :
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ أحزانُ وفي ضميرِ القَوافي ثَار بُركانُ
وقد أجاد المحاضر _ وفقه الله _ عند ذكر كيف يكون وداع رمضان المبارك ، وقد ذكر لنا عدداً من الصالحين وكيف كانوا يودعون رمضان ،وفي مقدمة هؤلاء الصالحين العلاَّمة الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله الرجل العابد المجاهد الشجاع ، القائل :
نحن نرفض أن يكون أمامنا في الحكم والسياسة غير إمامنا في صف الصلاة .
وكذلك أصحاب الفضيلة والعلم والتُقوى ، أمثال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله ، والعلامة الشيخ محمد بن العثيمين رحمهم الله جميعاً .
وقد ذكر المحاضر أقوال العلماء الذين عابوا على المسلم الذي يجتهد في عبادة ربه في رمضان ، ويتوقف عن العبادة في غيره ، فعبادة الله تعالى وطاعته مستمرة دائمة ما دام في العبد عقل وحياة .
ولكن رمضان محطة يأتي مرة في العام ليتزود منه المسلم التقوى ومغفرة الذنوب .
ومن عدل الله تعالى المطلق ، أن جعل هذا الشهر مربطاً بالهلال وليس بالشمس ؛ كيلا يستأثر به شهر دون شهور السنة ، بل جعله يدور على شهور السنة كلها يتشرف برمضان الليل كل الليل ، والنهار على مدار الأيام .(6/2)
وبعد ، فإنني لا أرى أنني بهذه المقدمة ، جئتُ على محاسن كتاب : ( هكذا رحل رمضان ) وإنني أنصح القارئ أن يتصفحه بالتأني والتدبَّر لما فيه من المواعظ ، والحِكَم ، والدروس ، والعِبَر .
وأن يوفق الله تعالى الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين ، إنه سميع مجيب ، وهو جلَّ وعلا الهادي إلى سواء السبيل ، وهو لي التوفيق .
……………… ذيب أنيس
………………15 /10 /2005م
تقديم
فضيلة الشيخ الدكتور أحمد سعيد حوَّا حفظه الله
رئيس قسم الفقه وأصوله بجامعة الزرقاء الأهلية
(
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد ..
فقد جاءني أخي الكريم أبو العالية برسالته في وداع رمضان ، وطلب مني أن أنظر فيها ، فقرأتها كاملة ، فوجدتُها جامعة نافعة .
طوَّف فيها بين آياتٍ بيِّنات ، وأحاديث شريفات ، وأشعارٍ وأفكار ، وعباراتٍ وعَبرات .
كل ذلك يحض على لزوم طاعات رمضان وعباداته في كل حين وزمان .
أسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء ، وأن يتقبلها منه ، وأن ينفع بها قارئها ، وسامعها ، لعلَّنا ندوم على العهد مع رمضان ، ورب رمضان ، إنه سميعٌ مجيب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
د. أحمد سعيد حوَّا
16 رمضان 1426هـ
19 _ 10 _ 2005م
(
الحمدُ لله ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ الله ، نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلهِ و صَحْبهِ ومَنْ وَالاه ، ثُمَّ أمَّا بعد ..
فهذه أَوْراقٌ لطيفة ، سَهلةٌ ظريفة ، تَحْمِلُ رسالةً شريفة ، ألقيتُها في محاضرةٍ في يوم الجمعة الموافق 29 / رمضان / 1425هـ في جامع أبو نصير الكبير في عمَّان ، وقد كانت بحول اللهِ تعالى مُوَفَّقة ، والفضلُ للهِ وَحْدَهُ .(6/3)
ثم لَمَّا كَثُر الطَّلبُ من بَعْضِ الأَحبَّة وبَعْضِ الفُضَلاءِ بنَشْرِها وطباعَتِها ، كان لِزاماً عليَّ أنْ أنظرَ فيها ، وأُصَوِّبَ ما يحتاجُ إلى تَصْويبٍ ، وأُحقِّقَ ما يحتاجُ إلى تحقيقٍ ، وأَعْزُو ما يحتاجُ لعزوٍ _ جَهْدي ما استطعت _ .
وإنَّني أشكرُ فضيلةَ الشيخ المفضال ذيب أنيس _ حفظه الله _ على تَقْدِيمهِ لهذه الرسالةِ المتواضعة ، وقد أثقلتُ عليه رغم كثرة أعماله الدعوية والخيرية ، فنفع الله به الإسلام والمسلمين .
وكذا الشكرُ موصولٌ لشيخي وأستاذي فضيلة الشيخ الفقيه الدكتور أحمد بن سعيد حوَّى _ أدامَ اللهُ فضلَهُ ورفعَ قَدْرَهُ ، ونفعَنا بِعِلْمِهِ وفِقْهِهِ وخُلُقِهِ _ على عنايته بما أكتبُ ، ونُصْحِهِ النَّافع القيِّم ، فلا حَرَمَهُ رَبِّي الأجرَ والثَّوابَ ، وبلَّغه رِضَا الوهَّاب .
وأيضاً الشكر موصول للدكتور الحبيب جمعة الخباص _ حفظه الله _ في مراجعته مسوَّدة المحاضرة الأُولى فبارك الله له ونفع به وأثابه كل خير .
و_ كذا _ جزى الله كلَّ من نصحني ، أو أفادني بفائدةٍ ، أو مشورةٍ ، أو نصيحةٍ طيَّبةٍ مباركةٍ ، عَلِم أو لَمْ يَعْلم ، فجزاهم الله خيراً كثيراً .
واللهَ أسألُ سُبْحانَهُ وهو الَّلطيفُ المنَّانُ ، أنْ يجعل هذا العملَ خالصاً لوجههِ الكريم ، وأنْ ينفعَ به المستَمِعَ ، والقَارِئَ ، ومنْ قامَ على نَشْرِها أوْ أشارَ بذلك ، فالدَّالُّ على الخيْرِ كفَاعِلهِ .
وَصَلَّى اللهُ وسَلَّم على نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبه أجمعين .
أَبُو العَالِيَةِ الجُورَانِي
M_aljorany@hotmail.com
……………
(
الحمدُ لله الذي يغفرُ الزللَ ويصفح ، ويَمْحُو الخطأَ ويَسْمح ، كلُّ من لاَذَ به أفلح ، وكلُّ من عَامَلَهُ يَرْبح ، رفعَ السماءَ بغيرِ عمدٍ فتأمَّلْ والْمح ، وأنزلَ القَطْر فإذا الزَّرْعُ في الماءِ يَسْبح ، أَغْنَى وأَفْقَرْ وربَّما كان الفقرُ أَصْلح .(6/4)
هذا قارون ! مَلَكَ الكثيرَ لكنَّهُ بالقَليلِ لَمْ يَسْمح ، نُبَّهَ فَلَمْ يَستيْقِظ ، ولِيْمَ فلَمْ ينفعْهُ الَّلومْ إذْ قالَ له قَومُهُ لا تَفْرح .
وأَشْهدُ أنَّ لا إِلَه إلَّا الله مَنَّ بالعَطاءِ الوَاسِعِ وأَفْسحَ ، وأَشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أَبَان الدِّينَ وأَوْضحَ .
صَلَّى اللهُ عَليْه ، وعَلى صَحَابَتِه ..
أبي بكرٍ الذي لازَمَه حَضَراً وسفراً ولَمْ يَبْرَح .
وعَلى عمرَ الذي لَمْ يَزلْ في إِعْزازِ الدِّين يَكْدح .
وعَلى عثمانَ الذي أَنْفقَ الكثيرَ وأَصْلَح .
وعَلى عليٍّ وأَبْرأُ مِمَّنْ يَغلُو فيهِ أوْ يَقْدح .
وعلى صَحابَتِهِ الكرام ما أَمْسَى النَّهارُ وما أَصْبحْ .( 1 ) أمَّا بعد ..
بين يَدَيْ الوداع :
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ أحزانُ وفي ضميرِ القَوافي ثَار بُركانُ
أقبلتَ يا عيدُ والظَّلماءُ كاشفةٌ عن رأسِهَا وفؤادُ البدرِ حَيرانُ
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ نائمةٌ على فراشي وطرْفُ الشَّوقِ سَهرانُ
من أين نفرحُ يا عيدَ الجراحِ وفي قلوبنا من صُنُوف الهمِّ ألوانُ
من أين نفرحُ والأحداثُ عاصفةٌ وللدُّمى مُقَلٌ ترْنُو وآذانُ
من أين والمسجدُ الأقصى مُحَطمةٌ آمالهُ وفؤادُ القُدسِ وَلْهَانُ
من أين نفرحُ يا عيدَ الجراحِ وفي دُروبنا جُدُرٌ قامتْ وكُثْبانُ
من أين والأمةُ الغرَّاءُ نائمةٌ على سَريرِ الهوى والليلُ نَشْوانُ
من أينَ والذُّلُ يَبْنِي أَلْفَ مُنْتَجَعٍ في أرضِ عِزّتِنا والربحُ خُسْرانُ
من أين نفرحُ والأحبابُ ما اقتربوا مِنَّا ولا أَصْبَحوا فينا كما كانوا( 1 )
دارَ الزمانُ دَورته .. وتصرَّمت الأيامُ تِلْوَ الأيام .. وهَا هُو شهُرنا أَزِفَ رحيلُه .. وأَفَلَ نجمُهُ بعد أنْ سَطَعْ .. وسَيُظْلِم لَيلُهُ بعد أنْ لَمَعْ .
لا أدري ما أبْدَأُ به .. أَأُهَنِّيَكُم بِقُربِ العيدِ المبارك ( 1 )، أَمْ أُعزِّيكم بفراقِ شهرِ القُرآنِ والغُفْران .(6/5)
فجَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَنا في رمضان .
القلبُ يمتلئ لوعةً وأَسَى ، والعينُ تُسطِّر بمدَادِها لحنَ الخلود .
واليدُ تَأْبَى أنْ تكتُب ؟ وما عساها أنْ تكتب ؟
أتكتبُ حالَ الرحيل ؟!
أتقيِّدُ مَوْقِفَ الوداع ؟!
أَتَنْقشُ ألَمَ الفراق ؟!
أحقاً انقضى رمضان ..!
أَذَهبَ ظَمَؤُ الصِّيامِ وانطفأَ نورُ القيام ..!
يا وَلَهِي عليه ..
أَذَهَبَ رمضانُ وغابَ هلالُهُ ..؟
هل قُوِّضتْ خِيامُه ..وتقطَّعتْ أوتادُه .. ؟
أيُّ حال للمؤمنِ والمؤمنةِ بَعْدَ رَحِيْلِ رمضان ..؟
يا راحلاً وجميلُ الصَّبْرِ يَتْبعُهُ ……هلْ مِنْ سَبيلٍ إلى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ
ما أَنْصَفتْكَ دُمُوعِي وهي دَامِيةٌ ……ولا وَفَى لكَ قَلْبي وهو يَحْتَرقُ( 1 )
مَنْ الذي لا تُؤلِم نفسَهُ لحظاتُ الفراق ؟
من مِنَّا لا تَجْرحُ مشاعرَهُ ساعاتُ الغياب ؟
بالأمسِ القريب ، بَارَك بعضُنا لبعْضٍ استقبالَ رمضان ، فَسُكِبَتْ العبراتُ فرحاً واستبشاراً به ، وطرِبَتْ القُلُوب ، وشُنِّفَت الأسماع بصدى تراويحه .
واليوم .. له لونٌ غريبٌ من الدُّموع !
فانهملتْ على الخدود .. وجادَتْ بأغلى ما لديها ..
يا عيوناً أرسلتْ أدْمُعَها …ما بِذا بأسٌ لو أَرْسَلْتِ الدّمَا
رمضان وأيُّ شهر كان ..؟
رمضانُ .. شاهدٌ لنا أو علينا مما أَوْدَعْنَاهُ من الأعمال ..
فَمْن أودعه صالحاً فلْيَحمدِ الله ، وليُبْشِرْ بحسن الثواب ، واللهُ لا يُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً .
ومَنْ أَوْدَعَهُ سَيِّئاً فليَسْكُبِ الدَّمعَ الغزير ، وليأتِ ما بقي من القليل .
فكم من جاء بالقليل وتُوِّجَ بالقَبول ! وكمْ منْ جاء بالكثيرِ فَمُنِيَ بالحرمان .
غداً توفَّى النفوسُ ما كسبت …ويحصدُ الزارعونَ ما زرعوا
إنْ أَحْسَنوا فقد أَحْسَنوا لأنفُسِهِم……وإنْ أساؤُوا فبِئْسَ ما صنعوا( 1 )
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟(6/6)
شهرٌ عظَّمه اللهُ وكرَّمه ، فشرَّف صُوَّامه وقوَّامه ، مَنَحَهُمْ من الأجورِ ما ليس لغيرِهِ من الشُّهُور ، فجعل أجرَ صائميه متجاوزاً العشرةَ أضعاف ، بلْ والسبعمئةِ ضعف مما لا يُحدُّ ولا يُعدّ ، كلُّ ذلك لأنَّ الصيامَ له وهو سبحانه الذي يَجزي به( 1 ) ، وكفى بهذا شَرَفاً وفَخْراً للمؤمن .
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
وفيه يُمنحُ المؤمنُ أكرمَ ما يحمله بين جَنَباتِ صَدْرِهِ
وأعظمَ ما يفتخرُ به في قلبِهِ : ( (((((((((( ((((((((( ( [ سور البقرة : 183 ] فهي عمادُ العملِ .
وميزانُ الكَرَمِ : ( ((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( ( [ سور المائدة : 27 ]
و ( (((( (((((((((((( ((((( (((( ((((((((((( ( ( [ سور الحجرات : 13 ]
فكُلَّمَا تَرقّى المرءُ في مَدارجِ الشَّرفِ بالصُّعودِ في مَعارجِ التَّقوى ، زادتْ أجورُ أَعْمالِهِ الصَّالحة : ( ((((((( ((((((( ((((((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ([ سورة الزمر : 10 ] وهل رمضانُ إلا تعبُّدٌ بالصبر ؟!
إذا المرءُ لَمْ يَلبسْ ثِياباً من التُّقَى…تقلَّبَ عُرْياناً وإنْ كان كَاسِيا( 2 )
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
وهو مِضْمَارٌ واسعٌ للتَّنافُسِ في الخيراتِ ، تَنَوَّعتْ فيه الطَّاعات ، فيه سِرٌّ بين الطَّائِعينَ وبينَ رَبِهِم في أيَّامِهِ المعدودات ، والمُحِبُّونَ يَغارُونَ من اطَّلاعِ الأَغْيَارِ على الأَسْرَار .
لا تُذِعِ السِّرَّ المصونَ فإنَّني … أغارُ على ذِكْرِ الأحبةِ مِنْ صَحْبِي
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
كان موسماً لمضاعفة الأعمالِ والغُفْران ، ومُنَبِّهاً لذوي الغَفَلاتِ والنِّسْيَان ، محفوفاً بفضيلةِ تلاوةِ القرآن ، حين فيوضات الجودِ والكَرمِ من المنَّان .
شهرُ رمضان ..
نهارُهُ مصونٌ بالصيام ، وليلُهُ معمورٌ بالقيام ، هبَّت فيه رياحُ الأنسِ بالله ، وجَادَتْ الأنفسُ بما عندها نحو الله .(6/7)
لكَ الله يا شهراً أفاءتْ بِظِلِّهِ…… قلوبٌ على حَقل الخطيئَاتِ تُزهِرُ
ألا أيُّهذا الشهرُ أغدِق فَضَائلاً… على كُلِّ مسْكينٍ على العَدمِ يُفْطِرُ
فقُولُوا لي بِرَبِّكُمْ :
كيفَ لا تَفيضُ دُموعُ المؤمنِ على رَحيلِ رمضان ، ولا يَدري أيدركُ تلكَ الفضائلَ والمزايا مِنْ عَامٍِ ثَان ؟
كيف لا تَجْري دموعُ المُخْبتةِ على فراقِ رمضان ، ولا تَعْلم أَحَظِيَتْ بالقَبولِ والغُفْران ، أَمْ رُمِيَتْ بالطَّردِ والحِرْمَان ؟
دَعِ البكاءَ على الأطْلالِ والدَّارِ… واذكُرْ لمنْ بَانَ من خِلٍّ ومِنْ جَارِ
أَذْرِ الدُّموعَ نحيباً وابْكِ من أسفٍ على فِرَاقِ لَيالٍ ذاتِ أَنْوارِ
على لَيالٍ لشهرِ الصَّومِ ما جُعِلَتْ… إلا لِتَمْحِيصِ آثامٍ وأَوْزارِ
يا لائِمِي في البُكَا زِدْنِي به كَلَفَاً… واسمعْ غريبَ أحاديثٍ وأَخْبارِ( 1 )
أيُّ شهر كان رمضان .. وفيه ليلةُ القَدْر ؟ لك اللهُ يَا رَمَضَان .
يا أيُّها الشهرُ الذي فِيكَ أَشْهرٌ…ويا أيُّها الدَّهرُ الذي فيك أَدْهُرُ
رَحلَ رمضانُ وانقضى ، فما حالُنا مع هذا الرَّحيل ؟
ألا نَأْتَسِي بِعِلْيَةِ القومِ كيفَ يكونُ حالهم ؟
ألا نَتفكَّرُ حالَ وداعِ المحبِّين ؟
أَنَعْرفُ كيف يُوَدِّعُ أبو بكرٍ ، وعمرُ ، وعثمانُ ، وطَلْحةُ ، والزبيرُ ، وأبو عُبَيْدةَ _ رضوان الله عليهم _ رمضان ؟
أَخَطرَ في خُلْدِنا شَأْنُ الإمامِ الأوزاعيِّ( 1 )، وصِلَةِ بن أَشْيَم( 2 )، ورَابعةِ العَدويَّة ( 3 )، والإمامِ أحمد( 4 )، وابنِ المبارك ( 5 )، وشيخِ الإسلام ابن تيميَّة( 6 )_ رحمهم الله _ في وَدَاعِهِم لرَمَضان ؟
ألا نتوقَّف لِنَنْظُرَ و نتَّعِظُ كيفَ يَعْملُ بشيرُ الجزائرِ ( 1 )؟
وقُطْبُ مصر ( 2 )؟
وسباعيُّ الشام( 1 ) ؟ وإقبالُ بنجاب( 2 ) ؟ وظهيرُ باكستان ( 3 )؟
وعُثَيْمِينُ نجد( 1 ) في رَحيلِ رَمَضَان ؟
أولئكَ آبائِي فجئني بمثلِهُم إذا جمعتْنا يا جريرُ المجامعُ(6/8)
لقد كان سلُفنا الصالح رحمه الله خيرَ مثالٍ يُقْتدى به في حنينِ الوداع ، ضَربُوا أروعَ الأمثلةِ في ذلك ، سُطِّر عبيرُ حياتهم في المصنفات ، وكُتِبَ روعةُ حَنِيْنِهِمْ في الكِتَابَات ، فانظرْ في وَدَاعِهِم لشَهْرِهِم كيف يكون ؟
فيالله .. ما أروعَ الخطبَ وما أجلّ الموقفَ ! وما أحسنَ تلكَ الدموع وهي تقفُ تُوَدِّعُ الضيفَ الحبيبَ وقد سالتْ على الخدودِ ! وما أطربَ شجي الآهاتِ لوداعِهِ !
يالله .. كمْ أناسٍ صَلُّوا في هذا الشهر التراويح ، وأَوْقَدوا في المساجدِ طََلَباً للأجر المصابيح ، نَسَخَوا بإحسانِهم كلَّ فعلٍ قبيح ، وقبلَ التَّمام سَكَنَوا الضريح .
وهانحنُ اليومَ أَوْشَكْنا على التمام ، فكيف وَداعُ المحبِّين ؟ وما أمرُ المخْبِتِيْن ؟
تفيضُ عيوني بالدُّمُوعِ السَّواكِبِِ…وماليَ لا أَبْكِي على خَيْرِ ذَاهبِ
كيف سيكونُ حالُنا ؟ وما مصيرُ العمل ؟ أَيُقْبَلُ أَمْ يُرَدُّ ويُطْرَح ؟
تَذكرْتُ أياماً مضتْ ولياليا… خَلَتْ فَجَرتْ من ذِكرهنَّ دموعُ
أَلا هلْ لها يوماً من الدَّهر عَوْدةٌ… وهلْ لي إلى وقتِ الوِصَال رُجوعُ
وهل بعد إعراضِ الحبيبِ تَواصُلٌ وهل لِبدورٍ قد أَفَلْنَ طُلوعُ( 1 )
فما حالُ السَّلفِ في وَدَاعِ رَمَضَان ؟
وكيف يكونُ الجيلُ القُرآنيُّ الفريدٌ في إِشْفَاقِهِم في قَبولِ العَملِ بَعدَ رَحيلِ رَمَضَان ؟
فعن عائشة رضي الله عنها ، قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، قولُ اللهِ تعالى : ( ((((((((((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((((((( (((((((( (((((((( (((((( ((((((((( (((((((((( (((( ( [ سور المؤمنون : 60 ]
أَهُمْ الذين يَشربونَ الخمرَ ويَسرقونَ ويَزنونَ ؟ قال : لا يا ابنةَ الصديق ! ولكنَّهم الذين يَصومونَ ، ويُصلُّونَ ، ويَتصدَّقُونَ ، وهم يخافون ألا يُقْبَلَ منهم ، أؤلئك الذين يُسارعونَ في الخيْرَات ! ".( 1 )(6/9)
قال الحسنُ رحمه الله : عَمِلُوا واللهِ بالطَّاعاتِ واجتَهدُوا فيها وخافوا أنْ تُرَدَّ عليهم ، إنَّ المؤمنَ جمع إحساناً وخشية ، وإنَّ المنافقَ جمع إساءة وأمناً.( 2 )
آيةٌ عظيمة أرَّقَتْ قلوبَ الخائفين وقَصَمَتْ ظهورَ الصالحين ، فلله دَرُّهُمْ( 3 )
رُوِيَ عن علي ( : أنَّه كان ينادي في آخرِ ليلةٍ من رمضان : ياليتَ شعري ! من المقبولُ فنهنَّيه ؟ ومن المحرومُ فنعزَّيه ؟
وذا ابنُ مسعودِ ( يقول : أيها المقبولُ هنيئاً لك ، ويا أيها المردودُ جَبَرَ اللهُ مصيبتَك !( 1 )
وهذا عامرُ بن قيس رحمه الله : يبكى ! فقيل له ما يبكيك ؟
فقال : والله ما أبكي حرصاً على الدنيا أو متاع ، أبكي على ذهابِ ظَمَأِ الهواجر ، وعلى قيام ليالي الشتاء !( 2 )
وتأمَّلْ حالَ العالمِ الورعِ الزاهد ، عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله ، حين خرج يوم الفطر ليخطب فقال : أيُّها الناس .. صُمتمْ للهِ ثلاثينَ يوماً ، وقُمتمْ ثلاثينَ ليلةً ، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أنْ يَتَقبَّلَ منكم ما كان ! وكان بعضُ السلفِ يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطرِ ، فيُقَالَ له : إنَّه يومُ فرحٍ وسرور ، فيقول : صَدَقْتُمْ ؛ ولكني عبدٌ أمرني مولاي أنْ أعملَ لَهُ عملاً ، فلا أَدْرِي أَيْقبَلُهُ مِنِّي أَمْ لا ؟( 3 )
قال ابنُ رجب رحمه الله : ولقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان ، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم .
وقال عبد العزيز بن رَوَّاد رحمه الله : أدركتُهُم _ الصَّحابَة _ يجتهدون في العملِ الصالح ، فإذا فعلوه وقعَ عليهم الهمُّ أيقبلُ منهم أو لا ؟(6/10)
وقال الحسنُ رحمه الله : إنَّ اللهَ جعلَ شهرَ رمضانَ مضماراً لخلقه يَسْتبِقُون فيه بطَاعَتِهِ إلى مَرْضَاتِهِ ، فَسَبَقَ قومٌ فَفَازُوا ، وتَخَلَّفَ آخرونَ فَخَابُوا ، فالعجبُ من الَّلاعِبِ الضَّاحِكِ في اليَومِ الذي يَفُوزُ فيه المُحْسِنُون ، ويَخْسَرُ فيهِ المُبْطِلُون . ثُمَّ يَبْكي رحمه الله .( 1 )
اسمعْ أنينَ العاشقين… إنِ استطعتَ له سَماعا
راحَ الحبيبُ فَشَيَّعَتْهُ مَدامعي تَهْمِي سِراعا
لو كُلِّف الجبلُ الأصمُّ فِراقَ إِلْفٍ ما استطاعا( 2 )
فبالله عليكم .. أَرَأَيْتُمْ صُورةً أحلى من صُورةِ المحبِّين في الوَدَاعِ كهَذِهِ ؟
أَقَرأْتُمْ عن رَوعةِ الحنين للقاء ؟
إنهَّم القومُ فَقِهُوا عَن اللهِ وَوَعوْا عن رسولِ الله ( حازوا قصَبَ السَّبْقِ في كلِّ شيء ، واسْتَولوا على معالي الأمورِ ، فهم مَشعلٌ من مَشاعِل العِلمِ والإيمانِ والهدى ، فالسعيدُ من اتَّبعَ طريقهم ، واقتفى أثرَهُمْ ، والشقيُّ من عدَلَ عن طريقِهِم ولَمْ يَبلغْ مَنْهَجَهُم ، " فأيُّ خِطَّةِ رُشْدٍ لم يَسْتَولُوا عليها ، وأيُّ خِصْلةِ خيرٍ لَمْ يَسْبِقُوا إليها ، تالله ؛ لقد ورَدُوا يَنْبوعَ الحياةِ عَذْباً صَافياً زُلَالَا ، فوطّدوا قواعدَ الدِّينِ فلمْ يَدَعُوا لأحدٍ بَعْدَهُم مَقَالا " ، إنهَّم القوم :
( (((((((((( ((((((((((((((( ( [ سورة المائدة : 54] فكان ما أنتَ سامعٌ ولا عَجَبْ !
قَومٌ عندهم لذةُ العبوديِّةِ فوقَ كلِّ لذةٍ !
قَومٌ وطَّنوا أَنْفُسَهُم على اكتسابِ الذِّخرِ البَاقي والتجارة الرابحة .
فأين أنتَ من تلك المناقبِ الزَّاهية ، و المراتب العالية ؟
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا……وقدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
لئنْ فَنِيَتْ أيامُك الزُّهرُ بَغتةً……فما الحزنُ مِنْ قلبي عليك بِفَانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا… بخيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمضانِ
لئِنْ رحلَ رمضانُ ، فإنَّ العملَ لنْ يرحل يا صاحِ.(6/11)
لئِنْ انقضى رمضانُ فالسيرُ نحو الله لن ينقضي يا أُخَيَّتي .
فيا أُخَيَّ .. بَادِرْ ، وسَابِقْ ، ونَافِسْ في الخَيْرَات .
فالعمل لا يتوقف إلا بانقطاع الأجل ، و إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ العمل( 1 ) فابْقِ لكَ أَثَراً صَالِحَاً قَبْلَ الرَّحِيْل .
قال الحسنُ البصريُ رحمه الله : أيْ قوم ، المداومَةَ المداومة ، فإنَّ اللهَ لَمْ يجعلْ لعملِ المؤمنِ أَجَلاً دُونَ الموت .( 2 )
( (((((((((( (((((( (((((( (((((((((( ((((((((((( (((( ( [ سورة الحجر : 99 ]
فيا رعاك الله .." اشترِ نفسَكَ اليوم . فإنَّ السوقَ قائمةٌ ، والثمنَ موجودٌ ، والبضائعَ رخيصةٌ ، وسيأتي على السوقِ والبضائعِ يومٌ لا تصلُ فيه إلى قليلٍ ولا إلى كثير " ( 3 )، فهؤلاء القوم لم يكونوا شَعْبَانِيِّين ، أو رمضانيِّين !
لا وربي ، بل ربَّانِيُّون .. وما أَدْرَاكَ ما الرَّبانِيَّة ؟
فهذه الأعوامُ والشُّهورُ ، وتلكَ الليالي كلُّها مقاديرُ الآجال ، ومواقيتُ الأعمالِ ، ثُمَّ تَنْقَضِي سَرِيْعاً ، وتَمْضِي بَعِيْداً ، والذي أَوْجَدَها وخَلَقَها وخَصَّها بالفَضَائِلِ باقٍ لا يَزُول ، ودَائمٌ لا يَحُوْل ، إلهٌ وَاحِد ، ولأَعْمَالِ عبادِهِ مُراقبٌ مُشَاهِد .( 1 )
قيل لِبِشْرِ الحَافِي رحمه الله : إنَّ قَوماً يَتعبَّدون ويجتَهِدُون في رمضان ؟ فقال : بِئْسَ القومُ قومٌ لا يَعرفُونَ للهِ حَقَّاً إلَّا في شَهْرِ رَمَضَان ، إنَّ الصَّالحَ الذي يَتَعَبَّدُ ويَجْتَهِدُ السَّنَة كلَّها .
وسُئِلَ الشِّبْلِيُّ رحمه الله : أيُّهما أفضلُ : رَجبٌ أو شَعْبَان ؟ فقال : كُنْ ربَّانِيَّاً ولا تَكُنْ شَعَبَانِيَّاً !( 2 )(6/12)
وإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِك ، فيَنْبَغِي عليكَ أنْ تَدْخُلَ السِّبَاقَ ، ولا تَظُنَّ أنَّ العَدَدَ محدودٌ ، وأنَّه قد انتهى من عَصْرِ الصَّحابَةِ والقُرُونُ المفضَّلةِ ! فالحقيقةُ يا صاحِ أنَّ السِّباقَ فسيحُ الأرجاءِ ولَمْ يُحدِّدْهُ النَّبيُّ ( بزمانٍ أو مكان ، بلْ
بشََّرَ بِفَوزِ بعَضِ الفَائِزِينَ ( سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَة ) ( 1 )، وتركَ المجالَ لك فَسِيْحاً ، فَهَلاَّ شَمَّرتَ عن سَاعدِ الجدِّ ؟ وأخذتَ في بلوغِ العزائمِ وتَنَافَسْتَ نحو اللهِ والدَّارِ الآخرة كما كانُوا يَفْعلُون ، وفيه يتنافسون ، فأين المُشَمِّرُون؟ أتحبُّ أنْ تُدْرك قافلةَ عُكَاشَة وتَلْحق الركب ؟
أَلَمْ يَبْلُغْكَ قولُه تعالى :( ((((((((((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( (((((((((( ( ؟ [ سورة الحديد : 21 ]
أَلَمْ يُحرِّك عزْمَك نداءُ :( ( ((((((((((((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((((( ((((((((((((( ((((( ( ؟ [ سورة آل عمران : 133 ]
أَلَمْ تَقرأ في كِتَابِ رَبِّك :( ((((((((((((((( ((((((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( ( ؟ [ سورة الواقعة : 10_ 11 ]
قال ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله : " السَّابِقُونَ في الدُّنْيا إلى الخَيْراتِ هُمْ السَّابِقُونَ يومَ القَيامةِ إلى الجنَّات " ( 2 )
أَين أَنْتَ من دَعْوةِ رَبِّنَا لنَا : ( ((((( ((((((( ((((((((((((((( (((((((((((((((((( (((( ( ؟ [ سورة المطففين : 16 ]
أَلَمْ تَعِ قوله : ( ((((((((((((((( ((((((((((((( ( ؟ [ سورة البقرة : 148 ]
لقد حَفِلتْ أحاديثُ النَّبيِّ ( بنماذجَ عَدِيدَةٍ من شَحْذِ الهمم واسْتِحْثَاثِهَا في الخيراتِ والطَّاعات .(6/13)
أبَلَغَك قولُهُ لقَارئ القرآن : " اقرأْ وارْتَقِ ورَتِّلْ كما كنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَتَك عند آخرِ آيةٍِ تقرؤها "( 1 ) ؟
أَمَا عَلِمْتَ حَثَّهُ ( على الصفِّ الأوَّلِ حينَ قال :" لو يَعْلمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصفِّ الأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَليهِ لاسْتَهَمُوا "( 2 ) ؟
أَرَأَيْتَ تَشْويقاً أروعَ منْ قَولِهِ ( لهم ذَاتَ غَداة : من أَصْبحَ منكم صَائِماً ؟ قال أَبُو بَكْرٍ ( : أَنَا ، قال : من تَبِعَ منْكُم اليومَ جَنازةً ؟ قال أَبُو بَكْرٍ ( : أَنَا ، قال : فمن عَاد منْكُم مَريضاً ؟ قال أَبُو بَكْرٍ ( : أَنَا ، فقال ( :
" ما اجْتَمَعْنَ في امرئٍ إلا دَخل الجنَّة "( 1 ) ؟
فَقُلْ لي بِرَبِّك ..
تُرى بأيِّ حَالٍ عادَ صَحابةُ رسولِ اللهِ ( إلى بيوتهم بعد سَماعِ هذه البِشَارة ؟ حتماً عَادُوا بِعَزْمٍ جَديد ، وسَعْيٍ حثيث ، يَبْغُون به إدراكَ ما أَدْرَك أبو بكرٍ ، واغتنام ما اغتنم .( 2 )
كيف وهُمْ قَدْ نَذروا أَرْوَاحهُم مَهراً للجنَّة ؟! .
الله أكبر .. أرأيتَ كيف كانَ النَّبيُّ ( يَبعثُ رُوحَ التَّنافسِ بين أَصْحَابِهِ ، فتَشْتَعِلُ شَرارةُ العَزْمِ ، لتَحرِقَ مَخْزونَ الكَسَلْ ، ويَبزُغَ فجرُ العمل ، فيُشْرِقَ نُورُ الأَمَل ( 3 ).
أتعْقِلُ مَعِيَ قولَ أبي مُسْلمٍ الخَوْلَانِي رحمه الله حين قال : " أَيَظُنُّ أصْحابُ محمدٍ أنْ يَسْتَأثِرُوا بِهِ دُونَنَا ؟ كَلَّا واللهِ ، لَنَُزاحِمَنَّهُم عَليِهِ زِحَامَاً حتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهم قَدْ خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ رِجَالاً " ( 1 )؟
فما وَصِيَّتِي لَكَ إلَّا :
( إِنِ استطعتَ أَنْ لا يَسْبِقك إِلى اللَّهِ أَحَدٌ فافعَل (
فما أدري أخلَّف سلفُنا وراءهَم في عصرنا رجالاً ، أم لا ؟
فيا من رعاك الله ..
ويا أيتها العفيفة ..
إنَّما السيرُ سيرُ القلبِ نحو اللهِ ، لا سَيْر الأَبْدان .(6/14)
فكمْ منْ واصلٍ ببِدنِهِ إلى البيتِ وقلْبُهُ منقطعٌ عنْ رَبِّ البيت !
وكمْ مِنْ قاعدٍ على فراشهِ في بيتِهِ وقلْبُهُ متصلٌ بالملأِ الأعلى .
يقول ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله :
" إنَّ الأعمالَ لا تَتَفاضَلُ بِصُوَرِها وعَدَدِها ،وإنَّما التَّفاضُلُ بِتَفاضُلِ مَا في القُلُوبِ ، فتكونُ صُورَةُ الَعملِ واحدةً ، وبينَهُما في التَّفاضلِ كمَا بَيْن السَّماءِ والأَرْض "( 1 )
و انظروا لعبد الله بن ثابت ( لَمَّا ماتَ _ على فراشِهِ _ قالت ابنتُهُ : والله إنْ كنتُ لأرْجُو أنْ تكونَ شَهِيْدَاً ، فإنَّك كنتَ قد أَتْمَمْتَ جِهَازَكَ ، فقال النَّبيُّ ( : " إنَّ اللهَ أوقعَ أجرَهُ على قَدْرِ نِيَّتِه "( 2 )
فيا سبحان الله !
الشهادةُ بلَغها متسابقٌ بقلبِهِ وهو على فراشه !
وما نالهَا من فُصِل رأسُهُ عن جسدهِ في الميدان ؟
فبالله عليكم ، مَنْ الذي رَفع هذا ، ووَضَعَ ذاك ؟
إلَّا سيرُ القلبِ نحو اللهِ والدَّارِ الاخرة .
يُصَدِّقُ ذلك : " إنّ بالمدينةِ أقواماً ما سِرْتُم مَسِيراً ، ولا قطعتُم وَادِياً ، إلَّا كانوا معكُم فيه وهُمْ بالمدينةِ ، حبَسَهُمُ العذر "( 1 )
يا سَائرينَ إلى البَيْتِ العَتيقِ لَقدْ… سِرْتُم جُسوماً وسِرْنَا نحنُ أَرْوَاحَا
إنَّا أَقَمْنَا على عُذْرٍ وقَدْ رَحَلُوا ومَنْ أقَام على عُذْرٍ فقَدْ رَاحَا
فيا مَنْ يريدُ فِكاكَ نفسِهِ .. ويا مَنْ تَبْغِي نجاةَ نفسِها ..(6/15)
رحمةُ اللهِ واسعةٌ ، وأبوابُ الخيرِ كثيرةٌ ، فإذا وجدتَ أحدَ الأبوابِ مُغْلقاً ، فقد فَتحَ لك أَبْواباً ، وإذا ضَاقتْ بك سَبِيلٌ وَسِعَتْك سُبُلٌ ، فافتحْ هذه الأبوابَ ، ووَاصِل السَّير نحو الملِكِ الوهَّاب ، ففي نهايتها :( (((((( (((( ((((((((((((((( ((((((((((((((((( ((((((( ((((((( ((( ((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((( ((((((((((( ((((((((( ((( ((((((( (((((( ( ((((((((((( ((((( (((( (((((((( ( ((((((( (((( (((((((((( ((((((((((( (((( ( [ سورة التوبة : 72 ] ( 2 )
فما العهدُ بعدَ رمضان ( 1 ):
النِّعمُ سابغةٌ ، والرحمةُ واسعةٌ ، ولا يَنْبَغِي للمؤمنِ ولا للمؤمنةِ أنْ يُبْدِلَ بالنِّعْمَةِ نقمة ، ويَخرجَ من الغُفْران إلى العصيان ، وها قد حَان الانتهاء ، فيحسنُ بك أنْ تتحلَّى بما عهدتُكَ وأحسبُكَ كذلك ، واللهُ حسيبك :
أولاً : بمثل ما استقبلت رمضانَ من الطاعة ، وَدِّعْهُ واستقبلْ ما يتلوه من الشهور فكلُّها أيامُ الله ، فاعمُرْها بما عَمَرْتَها في رمضان .
ثانياً : حافظتَ على الصلاةِ بخشوعها وخضوعها ، ذرفتَ الدمعَ بين يدي ربك ، فهلاّ بَقِيْتَ على هذه الحالة بقيةَ عمرك وفي سائر عملك فالصلاةُ عمودُ الإسلام ، ولا حظَّ في الإسلام لمن ضَيَّع الصلاة .
ثالثاً : كان الصومُ لك جُنَّةً من أعدائك ، وحِصْناً حَصِيْناً من شياطين الإنس والجن ، ( الصيامُ جُنَّةٌ كجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنْ القِتَال )( 2 ) فهل تَأْمنْ على نفسك بقيةَ العامِ بلا حصنٍ ولا عُدة . فالصومُ باقٍ بقاءَ العام ، فَطِبْ نفساً بِمَوَاسِمِ الصِّيَام ، فدُونَك هِيْ :
* ( مَنْ صَامَ رَمَضَان ، ثُمَّ أَتْبعهُ ستاً مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيَامِ الدَّهْر )( 1 )(6/16)
* ( ما مِنْ أيامٍ العَملُ الصَّالحُ فيْهَا أَحَبُّ إلى اللهِ منْ هذِهِ العَشْر ( أيْ عَشْر ذِي الحِجَّة ) قالوا : ولا الجِهَادُ في سَبِيْلِ اللهِ ، قالَ : ولا الجِهَادُ في سَبِيْلِ اللهِ ، إلا رَجُلٌ خَرَجَ بَنَفْسِهِ ومَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ منْ ذَلك بِشَيءٍ )( 2 )
*( صِياَمُ يَومِ عَرَفَة أَحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ والسَّنَةَ التي بَعْدَهُ ، وصِيَامُ يومِ عَاشُورَاء أَحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَه )( 3 )
* ( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمضَان شَهرُ اللهِ المحرم )( 4 )
* ( أوصاني خليلي بثلاث : صومِ ثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شهر ... ) ( 1 )
* ( كان النبيُّ ( يتحرّى صيامَ الاثنين والخميس ) ( 2 )
أسمعتَ هذه المواسم ؟ إِذَنْ فلا تَقْعُد عنها .
رابعاً : قمتَ رمضان إيماناً واحتساباً _ وأحسبُك كذلك _ وها قد انقضى شهرُ القيام . فلا تَقْصُر عنه سائرَ العام . فخذ بالجدِّ فيه ، ( واعلم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُه بالليل )( 3 )
ذكرَ الخطيبُ البغدادي رحمه الله : " عن عاصم البَيْهَقِي قال : بتُّ ليلةً عند الإمام أحمد بن حنبل ، فجاء بماءٍ فوضعَهُ ، فلما أصبح نَظر إلى الماءِ بحاله ، فقال : سبحانَ الله ! رجلٌ يطلبُ العلمَ لا يكونُ له وِرْدٌ بالليل "( 1 )
ثُمَّ أَيْنَك من ذاك الصغير الصالح ، فقد ذكر أهلُ التَّارِيخِ والسِّيَرِ : أنَّ أبا يزيد طَيْفُور بن عيسى لَمَّا تحفَّظ قوله : ( ((((((((((( ((((((((((((( ((( (((( (((((((( (((( ((((((( ((( ( قال لأبيه : يا أبتِ مَنْ الذي يقول الله له هذا ؟ قال يا بُنَيَّ ذلك النبي ( قال : يا أَبَتِ مالَكَ لا تصنعُ كما صَنَعَ النَّبيُّ ( ؟ قال : يا بُنَيَّ إنَّ قيامَ الَّليْلِ خُصِّصَ به النبي ( بافتراضه دون أمته .(6/17)
قال : فسَكَتُّ عنْهُ فلما تَحَفَّظْتُ قوله سبحانه : ( ( (((( (((((( (((((((( (((((( ((((((( (((((((( ((( (((((((( (((((((( ((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( ((((( ((((((((( (((((( ( ( قلتُ : يا أبتِ إني أسمعُ أنَّ طائفةً كانوا يقومون الليل ، فمَنْ هذه الطائفة ؟ قال : يا بُنَيَّ هؤلاء الصحابةُ رضوان الله عليهم . قلتُ : يا أبتِ فأيُّ خَيرٍ في تَرْكِ ما عَمِلَه النَّبيُّ ( وأَصْحَابُهُ ؟ قال : صَدَقْتَ يا بُنَيَّ .
فكان أبوهُ بعدَ ذلك يَقومُ مِنْ الَّليلِ وَيتوَضَّأ ويُصلِّي ، فاستيقظَ أبو يزيدٍ ليلةً فإذا أَبُوهُ يُصلِّي . قال : يا أَبَتِ عَلِّمْني كيف أَتوضَّأُ وأُصلِّي معك . فقال أبوه : يا بُنَيَّ ارقدْ فإنَّك صغيرٌ !
قال : يا أَبَتِ إذا كان يومَ يَصدرُ النَّاسُ أشتاتاً لِيُروا أعمالهَم أقولُ لربي : قلتُ لأبي كيفَ أتطهرُ لأُصَلِّيَ معك فأَبَى ! وقال ارْقُد فإنَّك صغيرٌ بَعْدُ ، أتحبُّ هذا ؟ فقال أبوه : لا والله يا بُنَيَّ ما أحبُّ هذا ، فعلَّمه فكان يُصَلَّي معه .
فإيَّاك إيَّاك .. أنْ يَسْبِقَكَ الدِّيكُ ! فيكونَ أَكْيسَ منْك يُسبِّحُ وأنت نائم ؟!
خامساً : ختمتَ القرآنَ مرةً ، أو بعض مرةٍ ، وعزفتَ عن الشواغل حتى لا تهجُره في شهره ، أيحسنُ بك أنْ تُقَدِّمَ الشواغلَ عليه وهو كلامُ الملك ! هلاّ عزمتَ على صَرْفِها مرات ؛ لتَحْظَى بِخَتَمَات .
قال ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله ذاكراً أولَ الأسبابِ الموجبةِ لمحبة الله :
" قراءةُ القُرآنِ بالتَّدَبُّرِ والتَّفَهُمِ لمعَانِيْهِ ، وما أُرِيدَ بِهِ ، كتَدَّبُرِ الكِتَابِ الذي يحفَظُهُ العبدُ ويَشرحُهُ ليَتَفَهَّمَ مُرادَ صَاحِبهِ مِنْهُ " ( 1 )(6/18)
فأينَ المتشوِّقُونَ نحو : ( (((((((((( ((((((((((((((( ( [ سورة المائدة : 54] ، وأَيْنَك من قوله حين يُقالُ لصَاحِب القُرْآن : " اقرأ وارْتَقِ ورَتِّلْ كما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا فإنَّ منزلَتَك عِنْدَ آخرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا "( 1 )
يقول ابنُ قيِّم الجوزيَّة رحمه الله :
" وبالجُمْلَةِ ؛ فلا شيءَ أنفعُ للقَلبِ من قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّرِ والتَّفكُّرِ ؛ فإنَّهُ جامعٌ لجميعِ منازلِ السَّائرينَ وأحوالِ العاملينَ ومقاماتِ العارفينَ ، وهو الذي يُورِثُ المحبَّةَ والشوقَ والخوفَ والرَّجاءَ والإنابةَ والتَّوكُّلَ والرِّضا والتَّفويضَ والشُّكرَ والصَّبرَ وسائرَ الأحوالِ التي بها حياةُ القلبِ وكمالُهُ ...
فلو عَلِمَ النَّاسُ ما في قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّرِ لاشتَغلوا بها عن كلِّ ما سواها ، فإذا قرأَهُ بتفكُّرٍ حتى مرَّ بآيةٍ هو مُحتاجٌ إليها في شفاءِ قَلبهِ كرَّرَها ولو مِئةَ مرَّة ، ولو ليلةً ، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتَفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ خِتْمَةٍ بغيرِ تَدبُّرٍ وتَفهُّمٍ ، وأَنفعُ للقلبِ وأَدْعَى إلى حُصولِ الإيمانِ وذَوْقِ حلاوَةِ القرآن."( 1 )
سادساً : حافظتَ قدْرَ الطاقةِ على قلبِك من غَوائلِ الهوى النَّزَّاعةِ للشوى ، صُنْتَ سَمْعكَ ، وبَصَركَ ، وفؤادَكَ عما لا ينبغي في شهرِ الصيامِ رجاءَ كماله ، ولكنْ لتعلمَ أنَّ صيامَ الجوارحِ لا يَنْقَضي بغروبِ شمسِ آخرِ ليلةٍ من رمضان ، فشرْعُ الله دائمٌ على مَرِّ العام ذلك : ( (((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( (((( (((((((((((( ((((( (((((( ((((((((( (((( ( [ سورة الإسراء : 36 ]
يا أذنُ لا تسمعي غيرَ الهدى أبداً… إنَّ استماعك للأوزارِ أوزارُ
فأمْسِكْ عليك لسانَك .. ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ .. وابْكِ على خطيئَتِكَ(6/19)
سابعاً : تخلَّقتَ بأخلاقِ الإسلام في رمضان ، فكنت تقولُ لمن سَبَّك أو شَتَمَك ( إِني صَائمٌ )( 1 ) فهلاّ عَلَّمَك الصَّيامُ أنَّ ذلكَ الإمساكَ هو للأخلاقِ مَلاك ، وتَذكَّر : ( أقربُكُم مِنِّي مَجْلِساً يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ خُلُقاً )( 2 )
ثامناً : أَرْحَامُك ، إخْوَانُك ، جِيْرَانُك ، أَحْيَيْتَ وَصْلَهُمْ في رمضان ، فلا تَعُدَّهم في الموْتَى بعد رحيله ! أَلَمْ يَأْنِ لكَ أنْ تَعْلمَ أنْ وَصْلَهُمْ سيبقى حَيَّاً سائرَ الأيام ، تَفكَّرْ في قوله سبحانه ،وهو يقول للرحمِ : ( ألا يُرْضيكِ أنْ أصلَ مَنْ وصلَكِ وأقطعَ مَْن قَطَعَكِ )( 3 ) وصَلَنَا الله بحبل مرضاته وبلَّغنا أريج نفحاته .
تاسعاً : كنتَ في شَهْرِكَ جَواداً ، كريماً ، وربُّك الغنيُ الأكرم ، أَلا تَحْنُو على عبادِهِ اليَتَامَى والمساكين ، فتَجُودُ وتُكْرِم ، عَسَى أنْ يَجُودَ عليكَ بنعيم الجِنَان ، ويصونَك عن لهيب النِّيرَان .
عاشراً : عَهِدتُكَ حَياً حيِّيَّاً في شهرِ الصيام ، ألا أريتَ الله من نفسك خيراً سائر العام ، فحافظتَ على الطاعة وتعاهدِها ، وقد كان نَبِّيُك ( يعاهدُ ربه على الطاعة في كل ساعة قبيل الليل وعند طُلوع النهار ، ألا تَمْتَثِلُ ذلك ، وتَذْكُرَ قوله : " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى ، فاغْفِرْ لِى ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ "( 1 )
تلك عشرةٌ كاملة قبيل التمام ، فلْنلزمها علَّنا أنْ ندخل الجنة بسلام .
وفي نهاية المطاف ..
وقبل أنْ تفرحَ بالعيد ..
وتُهيئ الملبسَ الجديد ..(6/20)
ارمُقْ معي تلكَ البُنَيَّةَ اليتيمة في بلاد المسلمين ، وهي تَهْتِفُ بِتِلْكُم الكلمات المكْلُومة نحو الهلال ، تشكو له حالها .
فهل تفرحُ كما تفرحُ بُنَيَّاتُ المسلمين بالحلْوى والثياب الجديدة ؟
أنَّى لها بالفرح ! فما لها إلَّا الهلالُ لتَبُثََّ حُزْنَهَا له فتناديهِ بقولها :
غِبْ يا هِلال ..
قالوا ستجلِبُ نحوَنا العيدَ السعيد .. عيدٌ سعيد ؟!
والأرضُ ما زالت مبللةَ الثرى بدمِ الشهيد ..
والحربُ ملَّت نفسَها وتقززتْ ممن تُبيد !
عيدٌ سعيدٌ في قصور المترفين !!
عيدٌ شقيٌ في خيام الَّلاجئين !!
هَرِمت خُطانا يا هلال ..
ومَدَى السعادةِ لم يزلْ عنَّا بعيد !
غِبْ يا هِلال ..
لا تأتِ بالعيدِ السعيدِ مع الأنين ؟ لا تأتِ بالعيدِ السعيدِ مع الأنين ؟ أنا لا أريدُ العيدَ مقطوعَ الوتين ..
أتظنُّ أنَّ العيدَ في حَلْوى وأثوابٍ جديدة ؟!
أتظنُّ أنَّ العيدَ تهنئةٌ تُسطَّرُ في جريدة ؟!
غِبْ يا هِلال ..
واطلَع علينا حين يبتسمُ الزمن .. وتموتُ نيرانُ الفتن ..
اطلَع علينا حين يُورِقُ في ابتسامتنا المساء ..
ويذوبُ في طرقاتنا ثلجُ الشتاء..
اطلَع علينا بالشّذى .. بالعِزِّ .. بالنصر المبين .
اطلَع علينا بالْتئامِ الشملِ بين المسلمين ..
هذا هو العيد ..
هذا هو العيدُ السعيد ..
وسواهُ ليس لنا بعيد !!
غِبْ يا هِلال ..
حتى نَرى راياتِ أمتِنَا تُرفرفُ في شَمَمْ..
فهناك عيد .. أيُّ عيد ؟
هناك .. يبتسمُ الشقيُ مع السعيد ! غِبْ يا هِلال.. (..( 1 )(6/21)
فيَا شَهْرَ رَمَضانَ تَرَفَّق ، دُمُوع المحبِّين تَدَفَّق ، قُلُوبُهم من أَلَمِ الفِراقِ تَشَقَّق ، عَسَى وَقفةٌ للودَاعِ تُطْفِئُ مِنْ نَارِ الشَّوقِ ما أَحْرَق ، عَسَى ساعةَ تَوبَةٍ وإقلاعٍ تَرْفُو مِنْ الصِّيامِ كُلَّ ما تَخرَّق ، عَسَى منقطعٌ عن ركب المقبولين يَلْحق ، عَسَى أسيرُ الأوزارِ يُطلَق ، عَسَى من استوجبَ النار يُعْتَق ، عسى رحمةُ المولى لها العاصي يُوفَّق .( 1 )
يا نفسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى…وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عَمِي
يا حسنَهُمْ والَّليْلُ قدْ جنَّهُمْ…ونورُهُمْ يَفُوقُ نورَ الأنْجُمِ
تَرنَّموا بالذِّكْر في ليْلِهِمُ…فعيشُهُم قدْ طابَ بالتَّرنُّمِ
قلوبُهم للذِّكْر قدْ تفرَّغت…دموعُهُم كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظِمِ
أسحارهُم بهم لهم قد أشرقَتْ…وخِلَعُ الغُفْرانِ خَيرُ القِسَمِ
ويْحَك يا نفسُ ألا تَيَقُّظٌ…ينفعُ قبل أنْ تَزِلَّ قدمِي
مَضَى الزَّمانُ في توانٍ و هوىً…فاسْتَدْرِكي ما قدْ بَقي واغْتَنِمِي( 2 )
اللهُمَّ إنَّ هذا الشَّجنَ مما نفحَ به الخاطرُ ، وزكّاهُ الضميرُ ، وسالتْ به العبراتُ ، فهي دمعاتُ مُحِبٍّ ، وحديثُ أُنْسٍ ، وصَدقةُ قائمٍ ، ومَشاعرُ صائمٍ ، وشَهادةٌ تُؤدَّى يومَ تُكْتبُ شهادتُهم ويسألون .
لك الله يا رمضان ، وقد تصرَّمت لياليك .
فعدْ مثلما قد جِئتَ ضَيفاً مُكْرماً تُعَمِّرُ من بُنْياننا ما تُعَمِّرُ
لك اللهُ يا رافداً مِنَ الله للورى وبحراً من الغفرانِ لِلْخلْقِ يَغمُرُ
فمثْلُكَ شهرٌ لا تُوفَّى حُقُوقُه وعن مَدْحِه كلُّ الأقاويلِ تقصُرُ
اللهُمَّ يا سامعَ كلِّ نجوى ، ويا منتهى كلِّ شكوى ، يا عظيمَ المنِّ ، يا واسعَ المغفرةِ ، يا باسطَ اليدين بالرحمة ، تقبلْ مِنَّا الصيامَ والقيام . واجعلنا ممن قبلْتَهُ ورضيتَهُ ونعمت عمله فوهبت له الأجرَ والمغنم .
أسألُ اللهَ جل في علاه أنْ يغفر لنا يوم نلقاه .
اللهُمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا .(6/22)
اللهُمَّ إنك عفوٌ كريمٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا .
اللهُمَّ اعتق رقابنا ورقاب والدينا من النار .
اللهُمَّ أعز الإسلام وانصر المسلمين .
اللهُمَّ ارفع الذل والضَّيْم عن إخواننا وأخواتنا المستضعفين والمستضعفات في كل مكان .
اللهُمَّ انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان ، في فلسطين ، وفي العراق ، وأفغانستان ، والشيشان ، وفي كل مكان يذكر فيه اسمك يا رب العالمين .
اللهُمَّ احفظ علينا في بلدنا وكل بلاد المسلمين نعمة الأمن والأمان ، ونسألك الهدى والتُّقَى والعفاف والإيمان .
اللهُمَّ اجبر كَسْر قلوبنا على فراق شهرنا ، اللهُمَّ أعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ، وكل عامٍ وأنتم إلى الرحمن أقرب .
هذا فما كان فيه من صوابٍ فمن اللهِ وحده المتفضلِ بالنعم والإحسان ، وما كان فيه من زللٍ وخطأٍ فمن نفسي والشيطان واللهُ ورسولُهُ منه بريئان ، وأسأله المسامحةَ والغفران .. إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعمَ الوكيل ..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والله أعلم .
قاله مقيِّدُه
أَبُو العَالِيَةِ الجُورَانِي
(
تقديم ................................................................
تمهيد ................................................................
مقدمة ...............................................................
شعر : أقبلتَ يا عيدُ ..................................................
نَدْب التهنئة بدخول شهر رمضان ( حاشية ) ...........................
رمضان : شاهدٌ لنا أو علينا ............................................
رمضان : مضمارٌ واسع للتنافس في الخيرات .............................
رحيل رمضان والرَّعيل الأَوَّل ..........................................
ترجمة الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله ( حاشية ) .........(6/23)
ترجمة المفكر الأديب سيِّد قطب رحمه الله ( حاشية ) ....................
ترجمة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ( حاشية ) .............
ترجمة الشاعر الإسلامي الدكتور محمد إقبال ( حاشية ) ..................
ترجمة الشيخ العلامة إحسان إلهي ظهير ( حاشية ) .......................
ترجمة الشيخ العلامة الفقيه محمد الصالح العثيمين ( حاشية ) ..............
حال السلف في وداع رمضان .........................................
فما العهد بعد رمضان .................................................
أولاً : استقبال باقي الشهور كاستقبال رمضان ..........................
ثانياً : المحافظة على الصلوات ..........................................
ثالثاً : الصيام حصنٌ حصين ...........................................
مواسم الصيام ........................................................
رابعاً : قيام رمضان وقيام باقي العام ....................................
قصة طَيْفُور بن عيسى مع والده في قيام الليل ............................
خامساً : ختم القرآن .................................................
موقف المسلم من كتاب ربه ( حاشية ) ................................
سادساً : حفظ السمع ، والبصر ، والفؤاد ..............................
سابعاً : أخلاق الإسلام ...............................................
ثامناً : صلة الرحم ( أرحامك ، إخوانك ، جيرانك ) ...................
تاسعاً : الجود والكرم والإنفاق ........................................
عاشراً : المعاهدة على الطاعة سائر العام ................................
شعر : غِبْ يا هلال ..................................................
الوداع : شهر رمضان تَرَفَّقْ ...........................................(6/24)
يا نفَْسُ فاز الصالحون بالتُّقَى ...........................................
دعاء .................................................................
المحتويات .............................................................
( 1 ) من مقدمة شيخِنا العلَّامة محمد العثيمين رحمه الله في مجالس شهر رمضان ( 85 ) بتصرف
( 1 ) شعرٌ : للشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي أكرمه الله .
( 1 ) انظر في نَدْبِ التهنئة بدخول شهر رمضان ، بحثاً ماتعاً للشيخ الدكتور عمر المقبل حفظه الله نشره في مجلة البيان ، العدد ( 109 _ رمضان لعام 1417هـ ) ثمَّ أعاد النظر فيه ، ونقَّحهُ وأضاف عليه ونشره في موقع الإسلام اليوم على هذا الرابط : http://www.islamtoday.net
وكذا هو منشورٌ في الملتقى المبارك النافع ( ملتقى أهل الحديث ) على الشبكة العنكبوتية ، فجزاه الله خيراً .
( 1 ) بدموع الأحزان نودِّع شهر رمضان ، للمفرج صـ( 6 )
( 1 ) لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله ( 375 )
( 1 ) جاء الخبرُ الصَّادقُ في ذلك من حديثِ أبي هريرةَ ( قال : قال رسولُ الله ( : قال اللهُ تعالى : " كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصِّيام فإنَّهُ لي وأنا أجزي به " أخرجه البخاري : كتاب الصوم ، باب هل يقول إني صائم إذا شُتِمَ ، ( 1904 ) ومسلمٌ : كتاب الصيام ، باب فضل الصيام ، ( 1151 )
( 2 ) لطائف المعارف ( 347 )
( 1 ) بدموع الأحزان نودِّع شهر رمضان ، للمفرج صـ( 12 )
( 1 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 7 / 107 )
( 2 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 3 / 497 )
( 3 ) انظر في ترجمتها : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 8 / 241 )
( 4 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 11 / 177 )
( 5 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 8 / 378 )(6/25)
( 6 ) أمَّا هذا العالم الربَّاني المجاهد فقد صُنِّفَتْ فيه تصانيف كثيرة ، من تلاميذه ومحبيه ، وحتى عصرنا هذا ، فقد جعل الله له لسان صدقٍ في الآخرين ؛ لنصرته الإسلام ومحاربته أعداء المِلَّة من الأمم الضالة والفرق الزائغة عن الحق . ومن أجمع وأحسن المصنَّفات _ والله أعلم _ : الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون . للشيخين محمد شمس وعلي العمران حفظهم الله .
( 1 ) هو العالمُ العلّامةُ المجاهدُ محمد البشير بن محمد السعدي الإبراهيمي ، من كبار علماء الجزائر ، ولد في بلدة ( سطيف ) يوم الخميس الموافق 13 / 10 / 1306هـ صاحب تصانيف رائعة ، شاعرٌ إسلاميٌّ مُبْدِعٌ ، ومن روائع شعره :
لا نرْتضي إِمَامَنا في الصفِّ مالمْ يكن أَمامَنا في الصفِّ
وله ملحمةٌ طويلة جداً في تاريخ الإسلام ، بلغتْ حوالي ستة وثلاثين ألف بيت ، قال عنه الشيخُ المجاهد عبد الحميد بن باديس رحمه الله : ( عجبتُ لشعبٍ أنجب مثلَ الشيخِ الإبراهيمي أنَ يضِلَّ في دين ، أو يَخزى في دُنْيا ، أو يَذلَّ لاستعمارٍ ) جُمعت آثاره في خمسة مجلدات كبار ، جمعها نجله الدكتور أحد طالب الإبراهيمي وطبعت في دار الغرب ، وهي كنوز ودرر جدُّ نفيسة . تُوفِّي هذا العالمُ المجاهدُ وهو في الإقامة الجبرية في منزله يوم 20 / 5 / 1965 م فرحمة الله عليه .
انظر : من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة ، للعقيل ( 83 ) .
( 2 ) هو العلَّامةُ الأديبُ المجاهدُ سَيِّد قُطب رحمه الله الشخصيةُ العجيبةُ الفريدةُ ، والمفَكِّرُ الرائدُ ، والداعيةُ المجاهد ، الإمامُ الشهيدُ كما يقول عنه شيخُنا العلَّامة الدكتور صلاح الخالدي _ حفظه الله _ ولد سيد في ( موشة ) إحدى قرى محافظة أسيوط في 9 / 10 / 1906م وأُعْدِمَ ونال الشهادةَ في يوم الإثنين 29 / 8 / 1966م فرحمه الله رحمةً واسعة .(6/26)
وانظر في أَرْوَعِ رسالةٍ كُتِبَتْ عنه في رِسَالةٍِ عِلْمِيَّةٍٍ سَطَّرَتْها يَراعُ شيخِنا العلاَّمة المفَسِّر الدُّكتور صلاح الخالدي حفظه الله ، والموسومة بـ: ( سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ) فحتماً ولا ريب ستَحْظَى بنفائس كثيرة جداً ، فانظرها .
( 1 ) هو الشيخُ العالمُ المجاهدُ الدكتور مصطفى السباعي من مواليد حمص في سوريا عام 1915م له مُؤَلَّفاتٌ كثيرة ، ومِنْ أشهرها : السنَّة ومكانتها في التشريع ، وهكذا علَّمتني الحياة ، والسيرةُ النبويَّةُ دروسٌ وعِبرْ ، والقلائدُ من فرائدِ الفوائد . وغيرها
قال عنه الشيخُ محمد أبو زهرة رحمه الله : ( إنني لم أرَ في بلاد الشام أعلى من السباعي همةً ، وأعظمَ نفساً ، وأشدَّ منه على الإسلام والمسلمين حُرقةً وألماً ) تُوفَّي رحمه الله في يوم السبت الموافق 3 / 10 / 1964م بعد عناءٍ وألمٍ بمرضه الذي استمر ثماني سنوات فضربَ أَرْوَعَ آياتِ الصَّبرِ على البلاء . كَتب عنه الأستاذُ حُسني جرَّار كتاباً قيماً : ( مصطفى السباعي قائدُ جيلٍ ورائدُ أمةٍ ) .
انظر : من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية ، للعقيل ( 537 ) .
( 2 ) هو الشاعرُ الإسلاميُّ الكبيرُ المعروفُ محمد إقبال ، ولد في سَيالكوت في البنجاب عام 1873م وهي مدينةٌ خرَّجت علماءَ ومحدثين كِبَار ، كان سبب توبته أنَّ شارباً للخمر نصرانياً شَتم النَّبيَّ ( وهو يشرب معه ! فغضب جداً ، فقام وضربه على وجهه وقال له : ( نحن نشرب نعم ، ولكن أن تشتم نَبِيَّنَا فلا وألف لا ) فما شَرِبَ بعدها أبداً وتاب الله عليه ، وحمل همَّ الإسلام في روحه ، وكان أوَّلَ من نَادَى بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس ، تُوفِّي الدكتور محمد إقبال سنة 1938م ودفن في لاَهَور . انظر : الفكر الإسلامي الحديث للدكتور محمد البهي ( 333 )(6/27)
( 3 ) هو الشيخُ العلَّامةُ المجاهدُ قامعُ الفِرَقِ الضَّالةِ إحسان إلهي ظهير ، ولد في سَيالكوت من مدن باكستان سنة 1945م ألَّف وصنَّف كثيراً في مقارعة الفِرَقِ الضَّالة ، كان قويَّ الحُجَّة ، صحيحَ الاستدلال ، موفقاً في عِلْمِهِ وهمته للإسلام . جُهوده عظيمةٌ ومشكورةٌ في الرَدِّ على الرافضةِ ، والصُّوفيَّةِ المنحرفةِ ، والإسماعيليَّةِ الباطنيةِ ، والقَادْيَانِيَّة ، والبَهَائِيَّة ، والبَرْيَلَويَّة ، والبَابِيَّة . فنفع الله بها ، واهتدى بسببها خلق لا يُحْصون كثرة ، وانظر في التَّعريفِ بهذهِ الفِرَقِ : ( الموسوعة الميسرة ) =
= قال عنه شيخُ شيوخِنا الإمامُ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ( صاحبُ الفضيلةِ الشيخُ إحسان إلهي ظهير رحمه الله معروفٌ لدينا ، وهو حَسَنُ العقيدةِ ، وقد قرأتُ بعضَ كتُبِهِ فسرَّني ما تَضَمَّنَتْهُ من النُّصْحِ للهِ ولعبادِهِ ، والرّدِّ على خُصُومِ الإسلام )
تُوفِّي هذا العالمُ المجاهدُ في يوم الإثنين الأول من شعبان سنة 1987م بعد انفجارٍ دُبِّر له في محاضرةٍ له عن السيرة النبوية ، فنُقِلَ من لاَهَور إلى الرياض بطلبٍ من سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله للعلاج . ولقد كَتب عن جهودهِ وآثارهِ الشيخُ محمد إبراهيم الشيباني في رسالته : ( إحسان إلهي ظهير الجهاد والعلم من الحياة إلى الممات ) . ثُمَّ طُبعتْ رسالةٌ علميةٌ عن حياةِ الشيخِ إحسانِ فجاءت حافلةً شاملةً عَطِرةً نال بها الدكتور علي بن موسى الزهراني درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز بعنوان : ( الشيخُ إحسان إلهي ظهير منهجه وجهوده في تقرير العقيدة والردِّ على الفرق المخالفة ) فجزاه الله خيراً.(6/28)
( 1 ) هو شيخُنا العلَّامةُ الفقيهُ محمد الصالح العثيمين ، إمامُ أهلِ نجدٍ في وقته ، ولد رحمه الله في عنيزة _ القصيم يوم الجمعة في السابع والعشرين من شهر رمضان عام 1347هـ وهي مدينةٌ أنجبتْ الكثيَر من العلماءِ والدُّعاةِ ، ولا زالتْ . كان مَرجعَ النَّاس في الفتوى ، له باعٌ كبيرٌ وطويلٌ في الفقهِ ، والتفسيرِ ، والعقيدةِ ، واللغةِ ، وأصولِ الدِّين ، وعُلومِ الشريعة . فهو بحرٌ وحبرٌ .
تُوفِّي رحمه الله يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة 1421هـ وعمره أربعةٌ وسبعون عاماً شَهِدْتُ جَنازته في المسجد الحرام ، فما رأيتُ أعظمَ منها ألبتَّة ، إلَّا ما كان من جَنازة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله تعالى .
تَرْجَم لشيخِنا الكثير ، وكُتبت عنه مُؤلَّفات ، وتناول طلبةُ الدِّراساتِ العُليَا جوانبَ من حياتِهِ وعِلْمِِهِ لتكونَ مشروع رسائلهم ، فالفقهيَّة ، والعَقَدية ، والُّلغوية ، والتفسيريَّة ، والتَّربويَّة ، والدعويَّة ، وممَّا كُتِبَ عنه ، ما كَتبه تلميذُهُ شيخي وأستاذِي وليد الحسين رئيس تحرير مجلة الحكمة العلمية = = فكتبَ عنه ترجمةً يسيرةً في المجلد الثاني من أعدادِ المجلَّةِ ، ثُمَّ أفرد له بالتصنيفِ والترجمةِ مجلداً خاصَّاً به من ضمن إصدارات المجلةِ وهو الإصدار التاسع . ووسمه بـ: ( الجامع في سيرة الشيخ محمد العثيمين وحياته العلمية والعملية ) ، وكتبَ عنه أيضاً أحدُ تلاميذِهِ وهو عصام المرَّي في كتابه الماتع ( الدُّر الثمين في ترجمة فقيه الأمة العلامة ابن عثيمين ) . رحمه الله تعالى .
( 1 ) لطائف المعارف ( 387 )
( 1 ) أخرجه الترمذي : كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ، باب ومن سورة المؤمنون ، ( 3175 ) . وابن ماجه : كتاب الزهد ، باب التوقي على العمل ، ( 4198 )
وأحمد في مسنده ( 24735 ) والحاكم في مستدركه ( 2 / 427 ) عن عائشة رضي الله عنها ، وهو صحيح .(6/29)
( 2 ) تفسير ابن جرير الطبري ( 18 / 32 )
( 3 ) لله دَرُّه : قال ابن منظور في اللسان ( 4 / 279 ) : قال " ابن الأَعرابي : الدَّرُّ : العملُ من خيرٍ أَو شَرٍّ . ومنه قولهم : للَّه دَرُّكَ ، يكون مَدْحاً ويكون ذَمّاً ، وقالوا : دَرُّكَ أَي عملك ، يقال هذا لمن يمُدح ويُتعجب من عملِهِ ؛ فإِذا ذُمَّ عَملُهُ قيل: لا دَرَّ دَرُّهُ ، أَيْ : لا كثر خَيرُهُ .
قال ابنُ سِيْدَه : وأَصْلُهُ أَنَّ رجلاً رأَى آخر يحلب إِبلاً فتعجب من كَثْرَةِ لبَنها فقال : دَرُّك ! "
( 1 ) لطائف المعارف ( 377 )
( 2 ) الزهد لابن المبارك رحمه الله ( 95 )
( 3 ) لطائف المعارف ( 376 )
( 1 ) لطائف المعارف ( 376 )
( 2 ) المصدر السابق ( 387 )
( 1 ) إلا من ثلاث كما قال المصطفى ( : " من صَدقةٍ جارية ، أو عِلمٍ ينتفع به ، أوْ ولدٍ صالحٍ يَدْعو له " رواه مسلمٌ : كتاب الوصية ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، ( 1631 )
( 2 ) الزهد لابن المبارك ( 7 )
( 3 ) الفوائد لابن قيم الجوزية رحمه الله ( 49 )
( 1 ) لطائف المعارف ( 452 )
( 2 ) سباق نحو الجنان ، خالد أبو شادي ( 28 )
( 1 ) أخرجه البخاري : كتاب الطب ، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو ،
( 5705 ) عن عمران بن حصين (
( 2 ) حادي الأرواح لابن قيم الجوزيَّة رحمه الله ( 79 )
( 1 ) أخرجه الترمذي : كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر ، ( 2914 ) وقال أبو عيسى : هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح .
وأبو داود : كتاب الصلاة ، باب استحباب الترتيل في القراءة ، ( 1464 ) وأحمد في المسند
( 6760 ) وصَحَّحَهُ الشيخ ناصر الدين في صحيح الجامع برقم ( 8122 ) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .(6/30)
( 2 ) أخرجه البخاري : كتاب الأذان ، باب الاستهام في الأذان ، ( 615 ) ، ومسلم : كتاب الصلاة : باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول فيها ، ( 437 ) عن أبي هريرة ( .
( 1 ) أخرجه مسلم : كتاب الزكاة ، باب من جمع الصدقة وأعمال البر ، ( 1028 ) عن أبي هريرة (
( 2 ) سباق نحو الجنان ( 13 )
( 3 ) المصر السابق ( 13 )
( 1 ) إحياء علوم الدين ( 4 / 436 ) عن سباق نحو الجنان ( 15 )
( 1 ) مدارج السالكين ( 1 / 331 )
( 2 ) أخرجه مالك في الموطَّأ : كتاب الجنائز ، باب النهي عن البكاء على الميت ، ( 522 )
وأحمد في المسند ( 23241 ) وأبو داود : كتاب الجنائز ، باب في فضل من مات في الطاعون ، (3111 ) والنسائي : كتاب الجنائز ، باب النهي عن البكاء على الميت ، ( 1846 ) عن جابر بن عتيك ( ، وصحَّحهُ الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم ( 1791 )
( 1 ) أخرجه البخاري : كتاب المغازي ، باب نزول النبي الحجر ، ( 4423 ) عن أنس ( ، ومسلم : كتاب الإمارة ، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر ، ( 1911 ) عن جابر ( .
( 2 ) سباق نحو الجنان ( 27 ) بتصرف
( 1 ) روح الصيام ومعانيه ، للشيخ الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل ، من إصدارات مجلة البيان رقم ( 85 ) صـ ( 135 ) فهو بحق كتاب متميز جزى الله الشيخَ خير الجزاء . ( بتصرف وزيادة )
( 2 ) أخرجه النسائي : كتاب الصيام ، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب ، ( 2230 ) وابن ماجه : كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام ، ( 1639 ) وأحمد في المسند (15839 ) عن عثمان بن العاص ( وصحَّحهُ الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 3879).
( 1 ) أخرجه مسلم : كتاب الصيام ، باب استحباب صيام ستة أيام من شوال اتِّباعاً لرمضان ،
( 1164 ) عن أبي أيوب ( .(6/31)
( 2 ) أخرجه البخاري : كتاب الجمعة ، باب فضل العمل في أيام التشريق ، ( 969 ) مختصراً ، وتمامه عند الترمذي : كتاب الصوم عن رسول الله ، باب ما جاء في العمل في أيام العشر ، ( 757 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
( 3 ) أخرجه مسلم : كتاب الصيام ، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة ، ( 1162 ) عن أبي قتادة (
( 4 ) أخرجه مسلم : كتاب الصيام ، باب فضل صوم المحرم ، ( 1163 ) عن أبي هريرة ( .
( 1 ) أخرجه البخاري : كتاب الجمعة ، باب صلاة الجمعة في الحضر ، ( 1178 ) عن أبي هريرة ( وهي الأيام الثلاثة البيض ، وهي ( 13 ، 14 ، 15 )
( 2 ) أخرجه الترمذي : كتاب الصوم عن رسول الله ، باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس ،
( 745 ) وقال حسنٌ غريب من هذا الوجه ، والنسائي : كتاب الصيام ، باب صوم النبي وذكر اختلاف الناقلين ، ( 2360 ) وابن ماجه : كتاب الصيام ، باب صيام الاثنين والخميس ( 1739 ) وأحمد في المسند ( 23987 ) عن عائشة رضي الله عنها ، وصحَّحَهُ ابن حجر في الفتح (4/ 236 ) وفي التلخيص الخبير ( 2 / 214 ) والألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 4897 ) .
( 3 ) أخرجه الحاكم في المستدرك ( 4 / 360 ) وصححَّه ، وفيه بُعْد . والطبراني في الأوسط ( 4 / 306 ) والبيهقي في الشعب ( 7 / 349 ) عن سهل بن سعد ( ، وحسنَّه العراقي رحمه الله كما في كشف الخفاء ( 2 / 70 ) وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 73 ) ، وانظر : السلسلة الصحيحة ( 4 / برقم 1904 )
( 1 ) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 1 / 143 )
( 1 ) مدارج السالكين ( 3 /17 ) وقال ابنُ تيميَّة رحمه الله : " المطلوبُ من القرآنِ : فَهْمُ معانيِهِ والعَملُ بهِ ، فإنْ لَمْ تكنْ هذهِ همَّة حافظِهِ لَمْ يكنْ منْ أهلِ العِلْمِ والدِّين " المجموع ( 23 / 54 )
( 1 ) سبق تخريجه صـ ( 24 )(6/32)
فائدة : ينبغي للمسلم _ والمسلمة _ أن يكون له مع كتاب ربِّه ثلاث وقفات :
الأولى : كثرة تلاوته وختمه ، مع إقامة حروفه وأحكام تلاوته .
الثانية : تَدَبُّرِه والتفكَّر في معانيه ، والنظر في أحكامه ومدارسته .
الثالثة : العمل به ، والتخلُّق بأوامره ، واجتناب نواهيه .
ومن أروع الكتب في هذا الباب كتابان : ( قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله ( ) للشيخ عبد الرحمن الميداني رحمه الله ، وكذا كتاب ( تدبُّر القرآن الكريم ) للشيخ سليمان السنيدي حفظه الله ، من إصدارات المنتدى الإسلامي .
( 1 ) مفتاح دار السعادة ( 1 / 553 ) بتصرف
( 1 ) أخرجه البخاري : كتب الصوم ، باب فضل الصوم ، ( 1894 ) عن أبي هريرة( .
( 2 ) رواه أحمد في المسند ( 6696 ) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما . وهو صحيح .
( 3 ) أخرجه البخاري : كتاب تفسير القرآن ، باب وتقطعوا أرحامكم ، ( 4832 ) عن أبي هريرة ( .
( 1 ) أخرجه البخاري : كتاب الدَّعوات ، باب أفضل الاستغفار ، ( 6303 ) عن شدَّاد بن أوس (
( 1 ) شعرٌ : للشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي أكرمه الله
( 1 ) لطائف المعارف ( 388 )
( 2 ) المصدر السابق ( 323 )
??
??
??
??
13(6/33)
حتى لا نصاب بالفتور في رمضان
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ هذا الشهر الكريم، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه العظيمة ومننه الكبرى وكرمه البيّن، سبحانه وتعالى ما أكرمه وما أعظمه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.
أيها المسلمون، هذه نعم الله تتجدد بمرور أيام رمضان، وهذه آلاؤه تتوالى علينا بتوالي ليالي هذا الشهر الفضيل وما عشنا من يوم الزيادة في هذا في رمضان فهو من الله، وما بلغنا زيادة في هذا الشهر فهو منّة من الله، فإن من عباد الله من أوقفه انتهاء أجله عن إكمال هذا الشهر الكريم، إن من الناس من أوقفته المنيّة عن الاستمرار في هذا الشهر المبارك، فلله الحمد على هذه النعمة.
أيها المسلمون، إن معرفة نعمة الله علينا في هذا الشهر هو الذي يجدد النشاط في النفس ويبعث العزيمة على الاستمرارية في العبادة والوفاء بعهد الله الذي عاهدنا عليه، عهد الله علينا أن نعبده لا شريك به شيئاً، وعهد الله علينا أن نعبده دائماً وأبداً.. لا نتوقف عن عبادته في زمن ونعبده في زمن، وإنما مشوار الحياة كلها عبادة لله )قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام) ، أيها المسلمون، فيما يلي تنبيهات على أمور تتعلق بهذا الشهر الكريم، نحن الآن على مقربة من نهاية الثلث الأول، وقد أنهينا ثلث رمضان، فلا بد من حساب، كيف مضت أيام الشهر الماضية؟ وكيف انقضت لياليه، ذهب الثلث والثلث كثير، فماذا فعلنا وقدمنا فيما مضى وهل من عملية تحسين ومضاعفة وازدياد في العبادة فيما سيأتي؟(7/1)
أيها الناس، إننا نشعر بنوع من نقص العبادة ونوع من التكاسل والفتور في وسط رمضان، هذا شيء ملاحظ فإن الناس في العادة ينشطون في أيام رمضان الأولى لما يحسّون من التغيير وما يجدون من لذة العبادة نتيجة الشعور بالتجديد في أول الشهر، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يبدأ في الاضمحلال ويصبح الأمر نوعاً من الرتابة في العشر الأواسط ونلحظ هدأة الرجل على بعض الصلوات في المساجد خلافاً لما كان عليه في أول الشهر، ونلاحظ نوعاً من القلة في قراءة القران في وسط الشهر عما كان عليه في أوله، ثم تأتي العشر الأواخر بعد ذلك وما فيها من القيام وليلة القدر لتنبعث بعض الهمم والعزائم مرة أخرى، لكن فكروا معي هل من الصحيح أن يحدث لدينا نوع من التكاسل ونوع من الفتور في وسط هذا الشهر أم أنه ينبغي علينا استدراك ذلك، ويجب علينا أن لا نخسر شيئاً من أيام رمضان ولا نركن إلى شيء من البرود في أواسط هذا الشهر.
ولعل من أسباب هذا أن بعض الناس يحسون بالعبادة في أول الشهر، فإذا مر عليهم فترة فإن عبادتهم تتحول إلى عادة وشيء رتيب، فما هي السبل لمنع هذا التحول كيف نمنع تحول عبادتنا عبادة الصيام إلى عادة.. كيف نعيد اللذة والحيوية إلى هذه العبادة ونحن في أواسط رمضان؟
أولاً: ينبغي أن نحقق التعبد في الصيام باستحضار النية أثناء القيام به، وأن العبد يصوم لرب العالمين، النية لابد أن تكون موجودة دائماً الصيام لله رب العالمين، والهدف من هذا الامتناع "أي: عن الملذات" إرضاء رب العالمين ((إنما الأعمال بالنيات))(7/2)
ثانياً: مما يمنع تحول صيامنا إلى عادة أن نستمر في تذكر الأجر في هذا الصيام وفضيلة العبادة في هذا الشهر الكريم، نتذكر دائماً ونعيد إلى الأذهان حديثه : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))، فما هو الشرط في هذه المغفرة؟إنه الاحتساب في كل الشهر، ليس في أوّله فقط وإنما الاحتساب شرط لحصول المغفرة، الاحتساب في جميع أيام الشهر، في أوله وفي وسطه وفي آخره، فالمحتسب على الله في الأجر يشعر بكل يوم وبكل صوم، ويرجع دائماً إلى الله سبحانه وتعالى يطلب المغفرة.
ثالثاً: أن نتمعن في هذا الأجر العظيم الذي يكون بغير اعتبار عدد معين، ((كل عمل ابن آدم له كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))
الصيام سبب لتكفير جميع الذنوب، إلا الكبائر، ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر))؛ لا بد أن لا تغيب هذه الأحاديث عن أذهاننا، ونحن الآن أشرفنا على الثلث الثاني من شهر رمضان، الصيام يشفع لك يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة، منعته الشهوات في النهار فشفّعني فيه.هكذا يقول الصيام يوم القيامة.
رابعاً: فضائل الصيام وأهله كثيرة متعددة، يفرح الصائم بفطره، وعند لقاء ربه، والباب المخصص الذي يدخله الصائمون إلى الجنة "باب الريان"، والخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك، وفتح أبواب الجنة، وتغليق أبواب الجحيم، وسلسلة الشياطين، كل ذلك مما يمنع تحوّل الصيام إلى عادة.
مما يعيد الحيوية إلينا في وسط الشهر هذا أن نعرف حديثه : ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردت الجن وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة- أول الشهر وأوسط الشهر وآخر الشهر كل ليلة، في جميع رمضان-: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر))(7/3)
ثم انتبهوا أيها المسلمون لهذه العبارة العظيمة في هذا الحديث، عبارة حساسة جداً تجعل الصوم عبادة لنا في جميع الشهر، عبارة تمنع من تحول صيامنا إلى عادة، عبارة تمنعنا من التكاسل والفتور، قال : ((ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة))، فقد تكون أنت عتيق الله من النار في أواسط هذا الشهر، فلماذا الكسل والتواني؟ لابد من الانبعاث وإعادة الهمة.
خامساً: ونتذكر كذلك أن بعض كتب الله العظيمة نزلت في أواسط رمضان، قال : ((أنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان))، فنزول الإنجيل والزبور كانا في الوسط، وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم عليه السلام والتوراة في أول الشهر، ونزول القرآن العظيم في آخر الشهر.
سادساً: من الأسباب التي تمنع تحول هذه العبادة إلى عادة، التأمل فيها والوقوف على شيء من حكم الله؛ توحيد المسلمين، المواساة والإحسان، أثر الجوع والعطش، والأمر بضبط النفس....أمور كثيرة.
سابعاً: التفكر في حديثه : ((رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فأدخله الله النار فأُدخل النار فأبعده الله قال جبريل لمحمد:قل آمين، قال محمد : آمين))
ثامناً: تنويع العبادة في أيام الشهر صيام، قيام، قرآن، إطعام، إنفاق، زكاة وصدقة، وصدقات.. وهكذا تتنوع العبادة، فيتجدد النشاط وتعود الحيوية.
يا عباد الله، لا تفقدوا لذة مناجاتكم وعبادتكم لله في أي جزء من هذا الشهر.
وكذلك ينبغي التعبير عن الابتهاج والتذكير في مجامع الناس بعظمة هذا الشهر وحلاوة أيامه ولذة عباداته.
تاسعاً: ومن الوسائل، عدُ كم ذهب من الشهر يرجعك إلى الحقيقة ويبين لك ما بقي، فتشعر بالرغبة في مزيد من الاجتهاد، كم مضى من شهرنا..كم ذهب من شهرنا.. كم ذهب؟ ذهب الثلث والثلث كثير.(7/4)
عاشراً: مقارنة الحال بما قبله وما بعده، قارن حالك بما قبل الشهر وبما بعده، لتعرف عظمة هذا الشهر.. لتعرف قيمة هذا الشهر قبل أن يفوت الأوان، فلا تُفِدك المعرفة.
الحادي عشر: تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي شهرنا مرة أخرى، تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي هذا الشهر مرة أخرى، أشهر طويلة عديدة مديدة ستبقى حتى يأتي الشهر مرة أخرى، هذا التذكر يبعث إلى ازدياد النشاط ومضاعفة العبادة وترك الكسل ونفض الغبار والقيام لله رب العالمين.
الثاني عشر: ابتغاء وجه الله في هذا الصيام، قال : ((من صام يوماً في سبيل الله ـ يعني: صابراً ومحتسباً، وقيل في الجهاد ـ باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً))، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله من جهنم مسيرة مائة عام))، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض))، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً)).
أيها المسلمون، إن الاجتماع لقيام الليل لم يشرع إلا في رمضان وصلاة التراويح، هذه عبادة جليلة ينبغي أن تعطى حقها، هذا القيام لابد أن يقام بحقه:
أولا :التبكير إلى المساجد وعدم تضييع صلاة العشاء في الجماعة الأولى، والفرض أهم من النفل.
ثانياً: أن لا تقصد مساجد معينة للصلاة فيها من أجل جمال الصوت فقط وحسن النبرة، وإنما ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أعظم من الالتذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، وهذه نقطة مفقودة عند كثير ممن يسعون ويجرون ويتنقلون في المساجد، ونريد من المسلمين أن يعقلوا كلام الله، ولا بأس بأن يقبلوا على صاحب الصوت الحسن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنه.(7/5)
ثالثاً: استحضار القلب عند الآيات الرحمة.. العذاب.. الثواب.. العقاب.. القصص.. الأمثال.. أهوال القيامة.. ذكر أسماء الرب وصفاته جل وعلا، فينبغي أن تكون الآذان حاضرة لإيصال هذا إلى القلوب الحاضرة الحية، لينبعث تذكر ويحدث التفاعل مع سماع هذه الآيات.
ونظرة إلى بعض الناس الذين يخشعون في الدعاء ما لا يخشعون في التلاوة ولا في سماع كلام الله.. أمرٌ عجيب! يتعجب المسلم من حالهم! فينبغي أن يُعرَفَ قدر الكلام.. وقدر الكلام بقدر المتكلم، كلام الله لا شيء أعلى منه، كلام الله لا شيء أحلى منه، و كلام الله لا شيء أجل منه، ولا أدعى على التقبل ولا التذكر ولا التأثر ولا الخشوع، لا شيء أدعى من كلام الله.
رابعاً: عدم رفع الصوت بالبكاء والنحيب و الصياح، كان يصلي و في صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء كما تغلي القدر، بهذا الصوت المكتوم كان يبكي في صلاته. فالإخلاص في كتم البكاء والصياح وعدم الزعيق ورفع الصوت.بكاء القلب أهم!
كان بكاء السلف في الصلاة نشيجاً ودموعاً تسيل، وربما يبكي أحدهم تسيل دموعه ولا يشعر من بجانبه. هذا هو الإخلاص لا صياحاً ولا صراخاً.. عليك بالتأثر الذي لا يشعر به الناس.
أيها المسلمون، السحور عبادة جليلة يغفل عنها الكثيرون و ينامون عنها وعن صلاة الفجر! ومع الأسف نجد قلة عن المتوقع في صلاة الفجر في رمضان، والسبب عدم الاستيقاظ للسحور، السحور بركة كما قال : ((عليكم بهذا السحور فإنه هو الغداء المبارك، هلم إلى الغداء المبارك)) ـ يعني السحور ـ نعم السحور، هذه الأكلة بركة فلا تدعوه قال : ((فلا تدعوه و لو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين))، ((فصل ما بين صيامنا و صيام أهل الكتاب أكلة السَحَر))، فاعتنِ بالسحور.
أهمية السحور:
لأن الله وملائكته يصلون على المتسحرين.
لأن فيه بركة.
لأن فيه مخالفة لأهل الكتاب ويجب أن نخالف اليهود والنصارى.
أنه أعون على الصيام.(7/6)
أنه أضمن لأداء صلاة الفجر.
فعليك به يا عبد الله ولا تُفَوِّته.. كيف وهو بركة! فيه من البركة ما لا يوجد في غيره من الوجبات.
وعليكم كذلك بالحرص على تفطير الصائمين في الداخل و الخارج ((من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)). احرص على إطعامه.. وإشباعه.. وإيصال الطعام إليه بغير منة ولا أذى، وإنما تحمد ربك أن هيأ لك الفرصة، لأن يطعم الصائم من طعامك ويشرب من شرابك. فليست الولائم التي تقام لتفطير الصائمين مجالاً للبذخ ولا للأشر والبطر، ولا للفخر والخيلاء.. وإنما هي مجال لأن تتواضع لله وتشكره أن هيأ لك هذا العدد من الناس ليفطروا عندك ويأكلوا من طعامك.
وتذكر إخوانك المسلمين في أقاصي الأرض ممن لا يجدون طبقاً واحداً من الأطباق التي تزخر بها مائدتك.. فاتق الله يا عبد الله!
سادساً : تلاوة القرآن العظيم في هذا الشهر، وسيأتي له تفصيل إن شاء الله.
سابعاً : قوموا إلى نسائكم.. قوموا إلى نسائكم.
يا أيها المسلمون، يا أيها الرجال، قوموا إلى نسائكم فعلموهن كيفية الصيام وآداب الصيام. قوموا إلى نسائكم اللاتي يأتين إلى المساجد فعلموهن أموراً ومنها:
صلاة المرأة في بيتها خير لها...قال : ((وبيوتهن خير لهن))، قال لأم حميد زوجة أبي حميد الساعدي: ((قد علمت أنك تحبين الصلاة معي)) ثم قال لها: ((وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي))، بين لها أن الصلاة في قعر بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وكلما كانت أعمق في البيت كلما كان أفضل، وصلاتها في مسجد قومها خير لها من الصلاة في المسجد النبوي!
ولكن إن أرادت المرأة أن تذهب إلى المسجد، فلا تمنعوا إماء الله مساجد الله و قد جاء الجمع بين الفقرتين في حديث واحد: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)). علموهن هذه المسألة.(7/7)
قوموا إلى نسائكم فأْمروهن بالحجاب. الحجاب يا أيها الرجال المسلمون، يا أرباب الأسر، يا أيها الرعاة الذين يرعون شؤون العائلة، أنتم المسؤولون أمام الله، كل واحد توجد امرأته في الشارع حاسرة مقصرة في الحجاب سواء كان قصيراً، أو لا يستر الوجه، أو شفافاً أو ضيقاً، فهو المسؤول عنها. وهو الذي يشاركها في الإثم قطعاً، وهو الساكت عن الحق، وهو الشيطان الأخرس، وهو الذي أقر الخبث في أهله. هو الذي أقر فيهم السوء، وهو الذي يراها تمشي ولا ينكر، وهو الذي يراها تسفِر ولا يغيّر. فتباً لمعاني الرجولة كيف اضمحلت في نفسه وكيف نقص الإيمان وكيف زال التأثر بقول الله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..) (التحريم:6) وقودها الناس ـ أنفسهم ـ والحجارة. هؤلاء هم وقودها. كيف ترضى أن تخرج امرأتك و لو إلى المسجد في حالة من قلة الحياء والحجاب والتقصير في اللباس الشرعي... لو ظهرت أظافرها وأنت ساكت وأنت تعلم فأنت مشارك في الإثم والعدوان. كان النساء في عهد الرسول إذا خرجن من بيوتهن إلى الصلاة يخرجن متبذلات بعيدات كل البعد عن الزينة، متلفعات بالأكسية، لا يعرفن من الغَلَس، لا يعرفن، كأنهن غِربان، أسود في أسود لا يرى منها شيء.
والآن زوجاتنا، بناتنا، أخواتنا، وحتى أمهاتنا، كثير من المسلمين يعيشون حالة عجيبة من التقصير، ونندهش في هذا الشهر الذي هو فرصة للتوبة والتغيير.. كيف لم يحدث فيه تغير في الحجاب؟ زينة ومكياج وبهرجة وتجمل ولبس أحسن الثياب وتبخر وتطيب وخلوة بالسائق.(7/8)
وهذا الزوج الذي يقر الخبث في أهله.. هؤلاء الناس رجالاً ونساءً ما موقفهم أمام الله والسيئة تضاعف في رمضان ما لا تضاعف في غيره؟ تضع حجابها في السيارة فإذا نزلت إلى المسجد لبسته، كحال الرجل الذي يحمل معه المشلح، فإذا وصل إلى مكان الوليمة الرسمية نزل فترجّل فلبس المشلح ودخل! وهكذا يفعل هؤلاء.. أو بعض هؤلاء، ورجالهم في غيهم سادرون.. ورجالهم في سبل الشيطان ماشون منهمكون. ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية))! تقول: ما علاقتنا؟ ما علاقتك؟( قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )
لا لإهمال الأطفال في البيت، ولا لإحضار المزعجين إلى المساجد لإشغال المصلين والتلبيس على الإمام والتشويش على عباد الله. أوصوهن بعدم الانشغال بالقيل والقال وارتفاع الأصوات بعد الصلاة لدرجة يسمعها الإمام و الناس. أوصوهن بتراص الصفوف وسد الخلل وملئ الفُرَج، فصفوف النساء في المساجد مليئة بالمآسي. انصحوا نساءكم أن لا يقضوا رمضان في المطبخ، وليبقين من الأوقات للعبادة، فهي الأساس وهي الهدف وهي أعظم شيء في هذا الشهر. لا تكلفوهن بكثرة الطبخ، بل امنعوهن عن التمادي والتفنن وتضييع الأوقات فيه.. هذا من وظيفتكم.
يا عباد الله، تجنبوا تحويل ليالي هذا الشهر الكريم إلى ليالي أنس مع الخلائق ومجالس معاصي، ولعب ورقص، ومسلسلات وأغاني، وطبل وزمر، وولائم يتفنن فيها في المأكولات، وترمى فيها الأطعمة في براميل القمامة. الأمر أعظم من ذلك!
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(7/9)
إذا كنا نخفف من صلاة التراويح حتى لا يشرد المتذمرون ولا يهرب المقصرون الكسالى وحتى يدرك أصحاب الأعمال والوظائف أعمالهم، فهذا لا يعني أن تنقطع العبادة بعد صلاة التراويح، بل بقي لك من قراءة القرآن والصلاة ـ مثنى مثنى ـ إذا أردت دون أن تعيد الوتر...بقي لك متسع، والنوم مبكر وإدراك الفجر وأكلة السَحَر.. مناقشة جمع الزكوات وتوزيع الصدقات ووصل الرحم وبر الفقراء.. قال الله تعالى )وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذريات:18) ولم يقل يطبلون ويزمرون! وهؤلاء الناس في الأسحار يطبلون ويزمرون وقت النزول الإلهي، في الثلث الأخير من الليل في شهر رمضان في الليالي المباركة يعصون الله سبحانه وتعالى. يقول الله: ((هل من سائل فأعطيه؟)) وأصحابنا في وادٍ آخر...((هل من تائب فأتوب عليه؟)) وهؤلاء القوم في لهوهم وشغلهم عن ربهم وعن العبادة. تجنبوا قرناء السوء في هذا الشهر الفضيل.
أيها الشباب، دعوا الأرصفة وأقبلوا على الله، واتركوا العود وهلم إلى التوبة وإلى هذا الموسم الفضيل.
اللهم اجعلنا ممن عمر هذا الشهر بالعبادة، اللهم أعنا فيه على ذكرك و شكرك وحسن عبادتك، وارزقنا توبة نصوحاً، وعملاً متقبلاً، وصياماً مبروراً، وقياماً مشكوراً. اللهم إنا نبرأ إليك من تقصيرنا، اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عما أسرفنا فيه من حق أنفسنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، رب العرش العظيم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن. سبحانه.
والله الذي لا إله إلا هو، إنه ينبغي علينا أن نحبه أكثر من أي شيء.
اللهم اجعلنا ممن يحبونك واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ.(7/10)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد السراج المنير، الداعي إلى الله بإذنه، البشير النذير، الذي أدى رسالة ربه وبلغ الدعوة ووفى الأمانة ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ الذي حبه مقدم على حب البشر أجمعين.
لا يؤمن أحدكم حتى يكون رسول الله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، اللهم اجعل حب رسولك مما تعمر به قلوبنا.
أيها المسلمون، عمرة في رمضان تعدل حجة، أجر عظيم وموسم فضيل وثواب جزيل ورب كريم، أبواب الخير مشرعة، والبقية عليك يا عبد الله لإكمال المشوار، ((عمرة في رمضان تعدل حجة))
وفضيلة هذه العمرة في جميع أيام الشهر، هذه الحجة ليست قاصرة على العمرة في العشر الأواخر، فإذا رأى المسلم أن من مصلحة عبادته استباق الازدحام الشديد جداً الذي لا يطيقه ويعطله عن أعماله وعن شغله حتى في نفسه وطعامه وشرابه فعليه أن يبادر؛ وإذا رأى أن تشتيت ليالي العشر بالأسفار وفوات القيام سيتحقق فلا بأس عليه أن يعتمر في العشر الأول أو الأواسط، أو كان ممن للمصلحة في بقائه في بلده في العشر الأواخر، أو يخشى عدم التمكن من حجز مكان للسفر فليبادر الآن بالذهاب، فالبيت قريب، والسبيل آمن والأجر عظيم؛ كم من الناس يتمنون أن يعتمروا وأن يؤمّوا البيت العتيق فلا يتمكنون.. ولا يستطيعون من ظلم ظالم.. أو فقر فقير لا يستطيعون أن يأتوا البيت العتيق، فأنت قريب والسبيل آمن ولله الحمد فلماذا لا تبادر بالذهاب.
ونوصي إخواننا الذين سيذهبون في رمضان إلى مكة والآن العطلة دراسية قريبة وبعدها سيعقبه سفر وأسفار، نوصي الذين يذهبون لقضاء العشر وغيرها بجوار بيت الله الحرام بما يلي:
أولاً: اغتنام الوقت في تحصيل أكبر قدر من الأجر، واجتناب الانشغال بسفاسف الأمور كتضييع الوقت في الطبخ والبحث عن الأطعمة، فكلْ مما تيسر، وكذلك الانشغال في الصفق في الأسواق، أسواق مكة، وتضيع الواجبات الأساسية والأهداف الأساسية من رحلة العمرة.(7/11)
ثانياً: إطالة المكث في بيت الله الحرام ما أمكن، والاعتكاف فإن فيه أجراً عظيماً حتى لا يذهب الوقت في المساكن والشقق المستأجرة، فتعظم الخسارة فصل الصلاة بالصلاة، وطف، وانتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد الحرام، فمن جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة.
ثالثاً: عدم إضاعة الوقت بالكلام في الحرم مع الأصحاب والأصدقاء أو استقبال الغادين والرائحين واستيقاف الأصحاب والفرجة على الناس والطائفين، وإنما دع الوقت الأكبر لعبادة ربك والخلوة به.
رابعاً: ربط الحزام في مسألة النوم، وعدم الإكثار منه لأنك ستكون في حالة استنفار لأجل العبادة.
خامساً: عدم الاشتغال بالمفضول عن الفاضل، بأمور وأنشطة تعطل عن المقصود الأساسي لرحلة العمرة، فخذ من هذا وهذا، واجعل السهم الوافر للهدف الأساسي والأعظم أجراً.
سادساً: الاستعداد الدائم والتبكير للصلوات، لأن بعض الناس يضيعون تكبيرة الإحرام تقصيراً، ولا يعلم قدر ثواب إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام في الحرم إلا الله عز وجل؛ فهنيئاً لمن طابت سفرته وعظمت عبادته وأصاب بعمرته السنّة.
المصدر:موقع الصوتيات والمرئيات الاسلامي
WWW.ISLAMICAUDIOVIDEO.COM(7/12)
الإحسان وأثرة فى رمضان
روي الإمام مسلم فى مطلع صحيحة عن عمر بن الخطاب قال : " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . . الحديث
ففي هذا الحديث جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين على 3 أركان : الإحسان والإيمان والإسلام . وهذه الثلاثة يجعلها العلماء فى دوائر متداخلة بعضها أصغر من بعض . فالدائرة الأوسع هي الإسلام ثم الإيمان و الدائرة الأضيق هي الإحسان . فالإحسان إذن أشمل و أعم . فإن لم تكن محسنا كنت مؤمنا و إن لم تكن مؤمنا صرت مسلما و إن لم تكن مسلما خرجت إلى الفضاء الواسع و صرت تفعل ما تريد ، تعبد حجرا ، تأكل الربا ، تزنى ، تقتل . . لا شيء يحكمك .
و الإحسان عرفه العلماء بأنه : " الإحسان فى القصد يكون بتهذيبه علما و إبرامه عزما " .
فلكي نحقق مرتبة الاسلام يجب ان نفعل شيئين :
1- أن نهذب هذا القصد بالعلم ، فالجاهل لا يصل أبدا إلى هذه المرتبة و قد قال الله تعالى : " الرحمن فسأل به خبيرا " أي لا تسأل عن الرحمن جاهلا بل اسأل عن الرحمن خبيرا به ، و لا يكون خبيرا إلا لو كان محبا ، فإن المحب شديد التفتيش عن صفات من يحب .(8/1)
2- إبرام هذا القصد عزما ( أي إحكامه ) فلا تترك الأذن تسمع و لا تفعل شيئا ، بل لابد من إبرام العزم لأن العمل لا يقبل إلا بذلك .
فائدة : لكى يتم لك الإحسان يجب أن تكون عالما أو طالب علم أو بصحبة عالم .
و الصيام وهو أحد أركان الإسلام الخمسة إلا أنه موضوع على قمة الإحسان أيضا ، والصيام وحده وليس الصلاة أو الزكاة أو الحج ، لذلك قال الله تعالى فى الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فأنه لى و أنا أجزى به " فقد يرائي المرء فى صلاته وفى زكاته و فى حجه و لكنه لا يرائي فى الصيام .
فوائد :
1- الصيام هو العبادة الوحيدة التى يحقق فيها العبد اسم الله ( الرقيب ) : ذلك أن العبد فى خلوته قد يري الطعام والشراب ولكنه لا يستطيع أن يتناوله لأنه يعلم أن الله رقيب عليه .
2- الصيام يقوي العزيمة والإرادة ، فهل تتصور رجلا ترك ما أباح الله له ثم يأتى ما حرم الله ؟؟
وهل تتصور رجلا يقوم الليل ثم يضيع الفرائض ؟؟(8/2)
سلسلة المحاضرات ( 1 )
هَكذا رَحلَ رَمَضَان
قدَّم له
فضيلة الشيخ ذيب أنيس حفظه الله
وفضيلة الشيخ الدكتور أحمد سعيد حوَّى حفظه الله
بقلم
محَمّد بِنْ يُوسُفْ الجُورَانِي
تقديم
فضيلة الشيخ ذيب أنيس حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وليَّ المتقين ، وناصر العاملين والمجاهدين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وبعد ..
فقد اطَّلعتُ على أوراق المحاضرة التي ألقاها طالب العلم الأخ الفاضل محمد بن يوسف الجوراني _ حفظه الله _ والتي نطمعُ أن يوفقه الله تعالى لنشرها عل شكل كتيبٍ لينتفع بها من شاء من عباده .
وقد اشتملت هذه الأوراق على الغالي والثمين ، من الحِكَم ، والمواعظ الرحمانيَّة والرمضانيَّة ، وقد حشد المحاضر من مواعظ الصالحين ومواقفهم ، من العلماء المجاهدين ، الذين ثبتوا على الحق أمام طواغيت الأرض ؛ حتى لقوا الشهادة في سبيل الله تعالى .
ومنهم شهيد القرآن الأستاذ سيِّد قطب رحمه الله تعالى ، وقد رفض الاعتذار لرأس الحكم في مصر عندما طلب منه الاعتذار عن التهم التي أسندت إليه ظلماً وزوراً ، فأجاب الأستاذ الشهيد سيِّد قطب :
إنَّ أصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانيَّة ، تأبى أن تقر حكماً لطاغية ! ومن أقواله : إن كلماتنا وأقوالنا ستظل جثثاً هامدة ؛ حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء ، انتفضت وعاشت بين الأحياء .(9/1)
وقد أعجبني كذلك أسلوب المحاضر في ترضِّيه عن الخلفاء الراشدين واحداً واحداً ، وعندما وصل إلى سيدنا علي - رضي الله عنه - قال : ( وعلى عليٍّ وأبرأُ ممَّن يغلو فيه أو يقدح ) ونحن نحمد لله تعالى أن جعلنا من الأمة التي تؤمن بجميع الأنبياء والرسل ، والحمد لله كذلك أن جعلنا ممَّن يُجلُّون الصحابة أجمعين ، وفي مقدمتهم الأربعة الراشدين - رضي الله عنهم - ، ونحن نحترم أزاج نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبناته أجمعين رضوان الله عليهنّ ، ولا نؤمن ببعض ونجحد ببعض كما هو حال بعض الآخرين ؟!
وقد اهتمَّ المحاضر بالإكثار من الشعر ؛ ( وإنَّ من الشعر لحكمة ) وأخصُّ بالذِّكْرِ قصيدة الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي التي مطلعها :
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ أحزانُ وفي ضميرِ القَوافي ثَار بُركانُ
وقد أجاد المحاضر _ وفقه الله _ عند ذكر كيف يكون وداع رمضان المبارك ، وقد ذكر لنا عدداً من الصالحين وكيف كانوا يودعون رمضان ،وفي مقدمة هؤلاء الصالحين العلاَّمة الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله الرجل العابد المجاهد الشجاع ، القائل :
نحن نرفض أن يكون أمامنا في الحكم والسياسة غير إمامنا في صف الصلاة .
وكذلك أصحاب الفضيلة والعلم والتُقوى ، أمثال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله ، والعلامة الشيخ محمد بن العثيمين رحمهم الله جميعاً .
وقد ذكر المحاضر أقوال العلماء الذين عابوا على المسلم الذي يجتهد في عبادة ربه في رمضان ، ويتوقف عن العبادة في غيره ، فعبادة الله تعالى وطاعته مستمرة دائمة ما دام في العبد عقل وحياة .
ولكن رمضان محطة يأتي مرة في العام ليتزود منه المسلم التقوى ومغفرة الذنوب .
ومن عدل الله تعالى المطلق ، أن جعل هذا الشهر مربطاً بالهلال وليس بالشمس ؛ كيلا يستأثر به شهر دون شهور السنة ، بل جعله يدور على شهور السنة كلها يتشرف برمضان الليل كل الليل ، والنهار على مدار الأيام .(9/2)
وبعد ، فإنني لا أرى أنني بهذه المقدمة ، جئتُ على محاسن كتاب : ( هكذا رحل رمضان ) وإنني أنصح القارئ أن يتصفحه بالتأني والتدبَّر لما فيه من المواعظ ، والحِكَم ، والدروس ، والعِبَر .
وأن يوفق الله تعالى الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين ، إنه سميع مجيب ، وهو جلَّ وعلا الهادي إلى سواء السبيل ، وهو لي التوفيق .
……………… ذيب أنيس
………………15 /10 /2005م
تقديم
فضيلة الشيخ الدكتور أحمد سعيد حوَّا حفظه الله
رئيس قسم الفقه وأصوله بجامعة الزرقاء الأهلية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد ..
فقد جاءني أخي الكريم أبو العالية برسالته في وداع رمضان ، وطلب مني أن أنظر فيها ، فقرأتها كاملة ، فوجدتُها جامعة نافعة .
طوَّف فيها بين آياتٍ بيِّنات ، وأحاديث شريفات ، وأشعارٍ وأفكار ، وعباراتٍ وعَبرات .
كل ذلك يحض على لزوم طاعات رمضان وعباداته في كل حين وزمان .
أسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء ، وأن يتقبلها منه ، وأن ينفع بها قارئها ، وسامعها ، لعلَّنا ندوم على العهد مع رمضان ، ورب رمضان ، إنه سميعٌ مجيب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
د. أحمد سعيد حوَّا
16 رمضان 1426هـ
19 _ 10 _ 2005م
تمهيد
الحمدُ لله ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ الله ، نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلهِ و صَحْبهِ ومَنْ وَالاه ، ثُمَّ أمَّا بعد ..
فهذه أَوْراقٌ لطيفة ، سَهلةٌ ظريفة ، تَحْمِلُ رسالةً شريفة ، ألقيتُها في محاضرةٍ في يوم الجمعة الموافق 29 / رمضان / 1425هـ في جامع أبو نصير الكبير في عمَّان ، وقد كانت بحول اللهِ تعالى مُوَفَّقة ، والفضلُ للهِ وَحْدَهُ .(9/3)
ثم لَمَّا كَثُر الطَّلبُ من بَعْضِ الأَحبَّة وبَعْضِ الفُضَلاءِ بنَشْرِها وطباعَتِها ، كان لِزاماً عليَّ أنْ أنظرَ فيها ، وأُصَوِّبَ ما يحتاجُ إلى تَصْويبٍ ، وأُحقِّقَ ما يحتاجُ إلى تحقيقٍ ، وأَعْزُو ما يحتاجُ لعزوٍ _ جَهْدي ما استطعت _ .
وإنَّني أشكرُ فضيلةَ الشيخ المفضال ذيب أنيس _ حفظه الله _ على تَقْدِيمهِ لهذه الرسالةِ المتواضعة ، وقد أثقلتُ عليه رغم كثرة أعماله الدعوية والخيرية ، فنفع الله به الإسلام والمسلمين .
وكذا الشكرُ موصولٌ لشيخي وأستاذي فضيلة الشيخ الفقيه الدكتور أحمد بن سعيد حوَّى _ أدامَ اللهُ فضلَهُ ورفعَ قَدْرَهُ ، ونفعَنا بِعِلْمِهِ وفِقْهِهِ وخُلُقِهِ _ على عنايته بما أكتبُ ، ونُصْحِهِ النَّافع القيِّم ، فلا حَرَمَهُ رَبِّي الأجرَ والثَّوابَ ، وبلَّغه رِضَا الوهَّاب .
وأيضاً الشكر موصول للدكتور الحبيب جمعة الخباص _ حفظه الله _ في مراجعته مسوَّدة المحاضرة الأُولى فبارك الله له ونفع به وأثابه كل خير .
و_ كذا _ جزى الله كلَّ من نصحني ، أو أفادني بفائدةٍ ، أو مشورةٍ ، أو نصيحةٍ طيَّبةٍ مباركةٍ ، عَلِم أو لَمْ يَعْلم ، فجزاهم الله خيراً كثيراً .
واللهَ أسألُ سُبْحانَهُ وهو الَّلطيفُ المنَّانُ ، أنْ يجعل هذا العملَ خالصاً لوجههِ الكريم ، وأنْ ينفعَ به المستَمِعَ ، والقَارِئَ ، ومنْ قامَ على نَشْرِها أوْ أشارَ بذلك ، فالدَّالُّ على الخيْرِ كفَاعِلهِ .
وَصَلَّى اللهُ وسَلَّم على نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبه أجمعين .
أَبُو العَالِيَةِ الجُورَانِي
M_aljorany@hotmail.com
……………
مقدمة
الحمدُ لله الذي يغفرُ الزللَ ويصفح ، ويَمْحُو الخطأَ ويَسْمح ، كلُّ من لاَذَ به أفلح ، وكلُّ من عَامَلَهُ يَرْبح ، رفعَ السماءَ بغيرِ عمدٍ فتأمَّلْ والْمح ، وأنزلَ القَطْر فإذا الزَّرْعُ في الماءِ يَسْبح ، أَغْنَى وأَفْقَرْ وربَّما كان الفقرُ أَصْلح .(9/4)
هذا قارون ! مَلَكَ الكثيرَ لكنَّهُ بالقَليلِ لَمْ يَسْمح ، نُبَّهَ فَلَمْ يَستيْقِظ ، ولِيْمَ فلَمْ ينفعْهُ الَّلومْ إذْ قالَ له قَومُهُ لا تَفْرح .
وأَشْهدُ أنَّ لا إِلَه إلَّا الله مَنَّ بالعَطاءِ الوَاسِعِ وأَفْسحَ ، وأَشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أَبَان الدِّينَ وأَوْضحَ .
صَلَّى اللهُ عَليْه ، وعَلى صَحَابَتِه ..
أبي بكرٍ الذي لازَمَه حَضَراً وسفراً ولَمْ يَبْرَح .
وعَلى عمرَ الذي لَمْ يَزلْ في إِعْزازِ الدِّين يَكْدح .
وعَلى عثمانَ الذي أَنْفقَ الكثيرَ وأَصْلَح .
وعَلى عليٍّ وأَبْرأُ مِمَّنْ يَغلُو فيهِ أوْ يَقْدح .
وعلى صَحابَتِهِ الكرام ما أَمْسَى النَّهارُ وما أَصْبحْ .(1) أمَّا بعد ..
بين يَدَيْ الوداع :
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ أحزانُ وفي ضميرِ القَوافي ثَار بُركانُ
أقبلتَ يا عيدُ والظَّلماءُ كاشفةٌ عن رأسِهَا وفؤادُ البدرِ حَيرانُ
أقبلتَ يا عيدُ والأحزانُ نائمةٌ على فراشي وطرْفُ الشَّوقِ سَهرانُ
من أين نفرحُ يا عيدَ الجراحِ وفي قلوبنا من صُنُوف الهمِّ ألوانُ
من أين نفرحُ والأحداثُ عاصفةٌ وللدُّمى مُقَلٌ ترْنُو وآذانُ
من أين والمسجدُ الأقصى مُحَطمةٌ آمالهُ وفؤادُ القُدسِ وَلْهَانُ
من أين نفرحُ يا عيدَ الجراحِ وفي دُروبنا جُدُرٌ قامتْ وكُثْبانُ
من أين والأمةُ الغرَّاءُ نائمةٌ على سَريرِ الهوى والليلُ نَشْوانُ
من أينَ والذُّلُ يَبْنِي أَلْفَ مُنْتَجَعٍ في أرضِ عِزّتِنا والربحُ خُسْرانُ
من أين نفرحُ والأحبابُ ما اقتربوا مِنَّا ولا أَصْبَحوا فينا كما كانوا(2)
__________
(1) 1 ) من مقدمة شيخِنا العلَّامة محمد العثيمين رحمه الله في مجالس شهر رمضان ( 85 ) بتصرف
(2) 1 ) شعرٌ : للشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي أكرمه الله .(9/5)
دارَ الزمانُ دَورته .. وتصرَّمت الأيامُ تِلْوَ الأيام .. وهَا هُو شهُرنا أَزِفَ رحيلُه .. وأَفَلَ نجمُهُ بعد أنْ سَطَعْ .. وسَيُظْلِم لَيلُهُ بعد أنْ لَمَعْ .
لا أدري ما أبْدَأُ به .. أَأُهَنِّيَكُم بِقُربِ العيدِ المبارك (1)، أَمْ أُعزِّيكم بفراقِ شهرِ القُرآنِ والغُفْران .
فجَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَنا في رمضان .
القلبُ يمتلئ لوعةً وأَسَى ، والعينُ تُسطِّر بمدَادِها لحنَ الخلود .
واليدُ تَأْبَى أنْ تكتُب ؟ وما عساها أنْ تكتب ؟
أتكتبُ حالَ الرحيل ؟!
أتقيِّدُ مَوْقِفَ الوداع ؟!
أَتَنْقشُ ألَمَ الفراق ؟!
أحقاً انقضى رمضان ..!
أَذَهبَ ظَمَؤُ الصِّيامِ وانطفأَ نورُ القيام ..!
يا وَلَهِي عليه ..
أَذَهَبَ رمضانُ وغابَ هلالُهُ ..؟
هل قُوِّضتْ خِيامُه ..وتقطَّعتْ أوتادُه .. ؟
أيُّ حال للمؤمنِ والمؤمنةِ بَعْدَ رَحِيْلِ رمضان ..؟
يا راحلاً وجميلُ الصَّبْرِ يَتْبعُهُ ……هلْ مِنْ سَبيلٍ إلى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ
ما أَنْصَفتْكَ دُمُوعِي وهي دَامِيةٌ ……ولا وَفَى لكَ قَلْبي وهو يَحْتَرقُ(2)
مَنْ الذي لا تُؤلِم نفسَهُ لحظاتُ الفراق ؟
من مِنَّا لا تَجْرحُ مشاعرَهُ ساعاتُ الغياب ؟
بالأمسِ القريب ، بَارَك بعضُنا لبعْضٍ استقبالَ رمضان ، فَسُكِبَتْ العبراتُ فرحاً واستبشاراً به ، وطرِبَتْ القُلُوب ، وشُنِّفَت الأسماع بصدى تراويحه .
واليوم .. له لونٌ غريبٌ من الدُّموع !
__________
(1) 1 ) انظر في نَدْبِ التهنئة بدخول شهر رمضان ، بحثاً ماتعاً للشيخ الدكتور عمر المقبل حفظه الله نشره في مجلة البيان ، العدد ( 109 _ رمضان لعام 1417هـ ) ثمَّ أعاد النظر فيه ، ونقَّحهُ وأضاف عليه ونشره في موقع الإسلام اليوم على هذا الرابط : http://www.islamtoday.net
وكذا هو منشورٌ في الملتقى المبارك النافع ( ملتقى أهل الحديث ) على الشبكة العنكبوتية ، فجزاه الله خيراً .
(2) 1 ) بدموع الأحزان نودِّع شهر رمضان ، للمفرج صـ( 6 )(9/6)
فانهملتْ على الخدود .. وجادَتْ بأغلى ما لديها ..
يا عيوناً أرسلتْ أدْمُعَها …ما بِذا بأسٌ لو أَرْسَلْتِ الدّمَا
رمضان وأيُّ شهر كان ..؟
رمضانُ .. شاهدٌ لنا أو علينا مما أَوْدَعْنَاهُ من الأعمال ..
فَمْن أودعه صالحاً فلْيَحمدِ الله ، وليُبْشِرْ بحسن الثواب ، واللهُ لا يُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً .
ومَنْ أَوْدَعَهُ سَيِّئاً فليَسْكُبِ الدَّمعَ الغزير ، وليأتِ ما بقي من القليل .
فكم من جاء بالقليل وتُوِّجَ بالقَبول ! وكمْ منْ جاء بالكثيرِ فَمُنِيَ بالحرمان .
غداً توفَّى النفوسُ ما كسبت …ويحصدُ الزارعونَ ما زرعوا
إنْ أَحْسَنوا فقد أَحْسَنوا لأنفُسِهِم……وإنْ أساؤُوا فبِئْسَ ما صنعوا(1)
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
شهرٌ عظَّمه اللهُ وكرَّمه ، فشرَّف صُوَّامه وقوَّامه ، مَنَحَهُمْ من الأجورِ ما ليس لغيرِهِ من الشُّهُور ، فجعل أجرَ صائميه متجاوزاً العشرةَ أضعاف ، بلْ والسبعمئةِ ضعف مما لا يُحدُّ ولا يُعدّ ، كلُّ ذلك لأنَّ الصيامَ له وهو سبحانه الذي يَجزي به(2) ، وكفى بهذا شَرَفاً وفَخْراً للمؤمن .
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
وفيه يُمنحُ المؤمنُ أكرمَ ما يحمله بين جَنَباتِ صَدْرِهِ
وأعظمَ ما يفتخرُ به في قلبِهِ : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ سور البقرة : 183 ] فهي عمادُ العملِ .
وميزانُ الكَرَمِ : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ سور المائدة : 27 ]
__________
(1) 1 ) لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله ( 375 )
(2) 1 ) جاء الخبرُ الصَّادقُ في ذلك من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال : قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : قال اللهُ تعالى : " كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصِّيام فإنَّهُ لي وأنا أجزي به " أخرجه البخاري : كتاب الصوم ، باب هل يقول إني صائم إذا شُتِمَ ، ( 1904 ) ومسلمٌ : كتاب الصيام ، باب فضل الصيام ، ( 1151 )(9/7)
و { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ سور الحجرات : 13 ]
فكُلَّمَا تَرقّى المرءُ في مَدارجِ الشَّرفِ بالصُّعودِ في مَعارجِ التَّقوى ، زادتْ أجورُ أَعْمالِهِ الصَّالحة : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ سورة الزمر : 10 ] وهل رمضانُ إلا تعبُّدٌ بالصبر ؟!
إذا المرءُ لَمْ يَلبسْ ثِياباً من التُّقَى…تقلَّبَ عُرْياناً وإنْ كان كَاسِيا(1)
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
وهو مِضْمَارٌ واسعٌ للتَّنافُسِ في الخيراتِ ، تَنَوَّعتْ فيه الطَّاعات ، فيه سِرٌّ بين الطَّائِعينَ وبينَ رَبِهِم في أيَّامِهِ المعدودات ، والمُحِبُّونَ يَغارُونَ من اطَّلاعِ الأَغْيَارِ على الأَسْرَار .
لا تُذِعِ السِّرَّ المصونَ فإنَّني … أغارُ على ذِكْرِ الأحبةِ مِنْ صَحْبِي
أيُّ شهرٍ كان رمضان ..؟
كان موسماً لمضاعفة الأعمالِ والغُفْران ، ومُنَبِّهاً لذوي الغَفَلاتِ والنِّسْيَان ، محفوفاً بفضيلةِ تلاوةِ القرآن ، حين فيوضات الجودِ والكَرمِ من المنَّان .
شهرُ رمضان ..
نهارُهُ مصونٌ بالصيام ، وليلُهُ معمورٌ بالقيام ، هبَّت فيه رياحُ الأنسِ بالله ، وجَادَتْ الأنفسُ بما عندها نحو الله .
لكَ الله يا شهراً أفاءتْ بِظِلِّهِ…… قلوبٌ على حَقل الخطيئَاتِ تُزهِرُ
ألا أيُّهذا الشهرُ أغدِق فَضَائلاً… على كُلِّ مسْكينٍ على العَدمِ يُفْطِرُ
فقُولُوا لي بِرَبِّكُمْ :
كيفَ لا تَفيضُ دُموعُ المؤمنِ على رَحيلِ رمضان ، ولا يَدري أيدركُ تلكَ الفضائلَ والمزايا مِنْ عَامٍِ ثَان ؟
كيف لا تَجْري دموعُ المُخْبتةِ على فراقِ رمضان ، ولا تَعْلم أَحَظِيَتْ بالقَبولِ والغُفْران ، أَمْ رُمِيَتْ بالطَّردِ والحِرْمَان ؟
دَعِ البكاءَ على الأطْلالِ والدَّارِ… واذكُرْ لمنْ بَانَ من خِلٍّ ومِنْ جَارِ
أَذْرِ الدُّموعَ نحيباً وابْكِ من أسفٍ على فِرَاقِ لَيالٍ ذاتِ أَنْوارِ
__________
(1) 2 ) لطائف المعارف ( 347 )(9/8)
على لَيالٍ لشهرِ الصَّومِ ما جُعِلَتْ… إلا لِتَمْحِيصِ آثامٍ وأَوْزارِ
يا لائِمِي في البُكَا زِدْنِي به كَلَفَاً… واسمعْ غريبَ أحاديثٍ وأَخْبارِ(1)
أيُّ شهر كان رمضان .. وفيه ليلةُ القَدْر ؟ لك اللهُ يَا رَمَضَان .
يا أيُّها الشهرُ الذي فِيكَ أَشْهرٌ…ويا أيُّها الدَّهرُ الذي فيك أَدْهُرُ
رَحلَ رمضانُ وانقضى ، فما حالُنا مع هذا الرَّحيل ؟
ألا نَأْتَسِي بِعِلْيَةِ القومِ كيفَ يكونُ حالهم ؟
ألا نَتفكَّرُ حالَ وداعِ المحبِّين ؟
أَنَعْرفُ كيف يُوَدِّعُ أبو بكرٍ ، وعمرُ ، وعثمانُ ، وطَلْحةُ ، والزبيرُ ، وأبو عُبَيْدةَ _ رضوان الله عليهم _ رمضان ؟
أَخَطرَ في خُلْدِنا شَأْنُ الإمامِ الأوزاعيِّ(2)، وصِلَةِ بن أَشْيَم(3)، ورَابعةِ العَدويَّة (4)، والإمامِ أحمد(5)، وابنِ المبارك (6)، وشيخِ الإسلام ابن تيميَّة(7)_ رحمهم الله _ في وَدَاعِهِم لرَمَضان ؟
__________
(1) 1 ) بدموع الأحزان نودِّع شهر رمضان ، للمفرج صـ( 12 )
(2) 1 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 7 / 107 )
(3) 2 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 3 / 497 )
(4) 3 ) انظر في ترجمتها : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 8 / 241 )
(5) 4 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 11 / 177 )
(6) 5 ) انظر في ترجمته : سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله ( 8 / 378 )
(7) 6 ) أمَّا هذا العالم الربَّاني المجاهد فقد صُنِّفَتْ فيه تصانيف كثيرة ، من تلاميذه ومحبيه ، وحتى عصرنا هذا ، فقد جعل الله له لسان صدقٍ في الآخرين ؛ لنصرته الإسلام ومحاربته أعداء المِلَّة من الأمم الضالة والفرق الزائغة عن الحق . ومن أجمع وأحسن المصنَّفات _ والله أعلم _ : الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون . للشيخين محمد شمس وعلي العمران حفظهم الله .(9/9)
ألا نتوقَّف لِنَنْظُرَ و نتَّعِظُ كيفَ يَعْملُ بشيرُ الجزائرِ (1)؟
وقُطْبُ مصر (2)؟
__________
(1) 1 ) هو العالمُ العلّامةُ المجاهدُ محمد البشير بن محمد السعدي الإبراهيمي ، من كبار علماء الجزائر ، ولد في بلدة ( سطيف ) يوم الخميس الموافق 13 / 10 / 1306هـ صاحب تصانيف رائعة ، شاعرٌ إسلاميٌّ مُبْدِعٌ ، ومن روائع شعره :
لا نرْتضي إِمَامَنا في الصفِّ مالمْ يكن أَمامَنا في الصفِّ
وله ملحمةٌ طويلة جداً في تاريخ الإسلام ، بلغتْ حوالي ستة وثلاثين ألف بيت ، قال عنه الشيخُ المجاهد عبد الحميد بن باديس رحمه الله : ( عجبتُ لشعبٍ أنجب مثلَ الشيخِ الإبراهيمي أنَ يضِلَّ في دين ، أو يَخزى في دُنْيا ، أو يَذلَّ لاستعمارٍ ) جُمعت آثاره في خمسة مجلدات كبار ، جمعها نجله الدكتور أحد طالب الإبراهيمي وطبعت في دار الغرب ، وهي كنوز ودرر جدُّ نفيسة . تُوفِّي هذا العالمُ المجاهدُ وهو في الإقامة الجبرية في منزله يوم 20 / 5 / 1965 م فرحمة الله عليه .
انظر : من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة ، للعقيل ( 83 ) .
(2) 2 ) هو العلَّامةُ الأديبُ المجاهدُ سَيِّد قُطب رحمه الله الشخصيةُ العجيبةُ الفريدةُ ، والمفَكِّرُ الرائدُ ، والداعيةُ المجاهد ، الإمامُ الشهيدُ كما يقول عنه شيخُنا العلَّامة الدكتور صلاح الخالدي _ حفظه الله _ ولد سيد في ( موشة ) إحدى قرى محافظة أسيوط في 9 / 10 / 1906م وأُعْدِمَ ونال الشهادةَ في يوم الإثنين 29 / 8 / 1966م فرحمه الله رحمةً واسعة .
وانظر في أَرْوَعِ رسالةٍ كُتِبَتْ عنه في رِسَالةٍِ عِلْمِيَّةٍٍ سَطَّرَتْها يَراعُ شيخِنا العلاَّمة المفَسِّر الدُّكتور صلاح الخالدي حفظه الله ، والموسومة بـ: ( سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد ) فحتماً ولا ريب ستَحْظَى بنفائس كثيرة جداً ، فانظرها .(9/10)
وسباعيُّ الشام(1)
__________
(1) 1 ) هو الشيخُ العالمُ المجاهدُ الدكتور مصطفى السباعي من مواليد حمص في سوريا عام 1915م له مُؤَلَّفاتٌ كثيرة ، ومِنْ أشهرها : السنَّة ومكانتها في التشريع ، وهكذا علَّمتني الحياة ، والسيرةُ النبويَّةُ دروسٌ وعِبرْ ، والقلائدُ من فرائدِ الفوائد . وغيرها
قال عنه الشيخُ محمد أبو زهرة رحمه الله : ( إنني لم أرَ في بلاد الشام أعلى من السباعي همةً ، وأعظمَ نفساً ، وأشدَّ منه على الإسلام والمسلمين حُرقةً وألماً ) تُوفَّي رحمه الله في يوم السبت الموافق 3 / 10 / 1964م بعد عناءٍ وألمٍ بمرضه الذي استمر ثماني سنوات فضربَ أَرْوَعَ آياتِ الصَّبرِ على البلاء . كَتب عنه الأستاذُ حُسني جرَّار كتاباً قيماً : ( مصطفى السباعي قائدُ جيلٍ ورائدُ أمةٍ ) .
انظر : من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية ، للعقيل ( 537 ) .(9/11)
؟ وإقبالُ بنجاب(1) ؟ وظهيرُ باكستان (2)
__________
(1) 2 ) هو الشاعرُ الإسلاميُّ الكبيرُ المعروفُ محمد إقبال ، ولد في سَيالكوت في البنجاب عام 1873م وهي مدينةٌ خرَّجت علماءَ ومحدثين كِبَار ، كان سبب توبته أنَّ شارباً للخمر نصرانياً شَتم النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يشرب معه ! فغضب جداً ، فقام وضربه على وجهه وقال له : ( نحن نشرب نعم ، ولكن أن تشتم نَبِيَّنَا فلا وألف لا ) فما شَرِبَ بعدها أبداً وتاب الله عليه ، وحمل همَّ الإسلام في روحه ، وكان أوَّلَ من نَادَى بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس ، تُوفِّي الدكتور محمد إقبال سنة 1938م ودفن في لاَهَور . انظر : الفكر الإسلامي الحديث للدكتور محمد البهي ( 333 )
(2) 3 ) هو الشيخُ العلَّامةُ المجاهدُ قامعُ الفِرَقِ الضَّالةِ إحسان إلهي ظهير ، ولد في سَيالكوت من مدن باكستان سنة 1945م ألَّف وصنَّف كثيراً في مقارعة الفِرَقِ الضَّالة ، كان قويَّ الحُجَّة ، صحيحَ الاستدلال ، موفقاً في عِلْمِهِ وهمته للإسلام . جُهوده عظيمةٌ ومشكورةٌ في الرَدِّ على الرافضةِ ، والصُّوفيَّةِ المنحرفةِ ، والإسماعيليَّةِ الباطنيةِ ، والقَادْيَانِيَّة ، والبَهَائِيَّة ، والبَرْيَلَويَّة ، والبَابِيَّة . فنفع الله بها ، واهتدى بسببها خلق لا يُحْصون كثرة ، وانظر في التَّعريفِ بهذهِ الفِرَقِ : ( الموسوعة الميسرة ) =
= قال عنه شيخُ شيوخِنا الإمامُ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ( صاحبُ الفضيلةِ الشيخُ إحسان إلهي ظهير رحمه الله معروفٌ لدينا ، وهو حَسَنُ العقيدةِ ، وقد قرأتُ بعضَ كتُبِهِ فسرَّني ما تَضَمَّنَتْهُ من النُّصْحِ للهِ ولعبادِهِ ، والرّدِّ على خُصُومِ الإسلام )
تُوفِّي هذا العالمُ المجاهدُ في يوم الإثنين الأول من شعبان سنة 1987م بعد انفجارٍ دُبِّر له في محاضرةٍ له عن السيرة النبوية ، فنُقِلَ من لاَهَور إلى الرياض بطلبٍ من سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله للعلاج . ولقد كَتب عن جهودهِ وآثارهِ الشيخُ محمد إبراهيم الشيباني في رسالته : ( إحسان إلهي ظهير الجهاد والعلم من الحياة إلى الممات ) . ثُمَّ طُبعتْ رسالةٌ علميةٌ عن حياةِ الشيخِ إحسانِ فجاءت حافلةً شاملةً عَطِرةً نال بها الدكتور علي بن موسى الزهراني درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز بعنوان : ( الشيخُ إحسان إلهي ظهير منهجه وجهوده في تقرير العقيدة والردِّ على الفرق المخالفة ) فجزاه الله خيراً.(9/12)
؟
وعُثَيْمِينُ نجد(1) في رَحيلِ رَمَضَان ؟
أولئكَ آبائِي فجئني بمثلِهُم إذا جمعتْنا يا جريرُ المجامعُ
__________
(1) 1 ) هو شيخُنا العلَّامةُ الفقيهُ محمد الصالح العثيمين ، إمامُ أهلِ نجدٍ في وقته ، ولد رحمه الله في عنيزة _ القصيم يوم الجمعة في السابع والعشرين من شهر رمضان عام 1347هـ وهي مدينةٌ أنجبتْ الكثيَر من العلماءِ والدُّعاةِ ، ولا زالتْ . كان مَرجعَ النَّاس في الفتوى ، له باعٌ كبيرٌ وطويلٌ في الفقهِ ، والتفسيرِ ، والعقيدةِ ، واللغةِ ، وأصولِ الدِّين ، وعُلومِ الشريعة . فهو بحرٌ وحبرٌ .
تُوفِّي رحمه الله يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة 1421هـ وعمره أربعةٌ وسبعون عاماً شَهِدْتُ جَنازته في المسجد الحرام ، فما رأيتُ أعظمَ منها ألبتَّة ، إلَّا ما كان من جَنازة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله تعالى .
تَرْجَم لشيخِنا الكثير ، وكُتبت عنه مُؤلَّفات ، وتناول طلبةُ الدِّراساتِ العُليَا جوانبَ من حياتِهِ وعِلْمِِهِ لتكونَ مشروع رسائلهم ، فالفقهيَّة ، والعَقَدية ، والُّلغوية ، والتفسيريَّة ، والتَّربويَّة ، والدعويَّة ، وممَّا كُتِبَ عنه ، ما كَتبه تلميذُهُ شيخي وأستاذِي وليد الحسين رئيس تحرير مجلة الحكمة العلمية = = فكتبَ عنه ترجمةً يسيرةً في المجلد الثاني من أعدادِ المجلَّةِ ، ثُمَّ أفرد له بالتصنيفِ والترجمةِ مجلداً خاصَّاً به من ضمن إصدارات المجلةِ وهو الإصدار التاسع . ووسمه بـ: ( الجامع في سيرة الشيخ محمد العثيمين وحياته العلمية والعملية ) ، وكتبَ عنه أيضاً أحدُ تلاميذِهِ وهو عصام المرَّي في كتابه الماتع ( الدُّر الثمين في ترجمة فقيه الأمة العلامة ابن عثيمين ) . رحمه الله تعالى .(9/13)
لقد كان سلُفنا الصالح رحمه الله خيرَ مثالٍ يُقْتدى به في حنينِ الوداع ، ضَربُوا أروعَ الأمثلةِ في ذلك ، سُطِّر عبيرُ حياتهم في المصنفات ، وكُتِبَ روعةُ حَنِيْنِهِمْ في الكِتَابَات ، فانظرْ في وَدَاعِهِم لشَهْرِهِم كيف يكون ؟
فيالله .. ما أروعَ الخطبَ وما أجلّ الموقفَ ! وما أحسنَ تلكَ الدموع وهي تقفُ تُوَدِّعُ الضيفَ الحبيبَ وقد سالتْ على الخدودِ ! وما أطربَ شجي الآهاتِ لوداعِهِ !
يالله .. كمْ أناسٍ صَلُّوا في هذا الشهر التراويح ، وأَوْقَدوا في المساجدِ طََلَباً للأجر المصابيح ، نَسَخَوا بإحسانِهم كلَّ فعلٍ قبيح ، وقبلَ التَّمام سَكَنَوا الضريح .
وهانحنُ اليومَ أَوْشَكْنا على التمام ، فكيف وَداعُ المحبِّين ؟ وما أمرُ المخْبِتِيْن ؟
تفيضُ عيوني بالدُّمُوعِ السَّواكِبِِ…وماليَ لا أَبْكِي على خَيْرِ ذَاهبِ
كيف سيكونُ حالُنا ؟ وما مصيرُ العمل ؟ أَيُقْبَلُ أَمْ يُرَدُّ ويُطْرَح ؟
تَذكرْتُ أياماً مضتْ ولياليا… خَلَتْ فَجَرتْ من ذِكرهنَّ دموعُ
أَلا هلْ لها يوماً من الدَّهر عَوْدةٌ… وهلْ لي إلى وقتِ الوِصَال رُجوعُ
وهل بعد إعراضِ الحبيبِ تَواصُلٌ وهل لِبدورٍ قد أَفَلْنَ طُلوعُ(1)
فما حالُ السَّلفِ في وَدَاعِ رَمَضَان ؟
وكيف يكونُ الجيلُ القُرآنيُّ الفريدٌ في إِشْفَاقِهِم في قَبولِ العَملِ بَعدَ رَحيلِ رَمَضَان ؟
فعن عائشة رضي الله عنها ، قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، قولُ اللهِ تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) } [ سور المؤمنون : 60 ]
__________
(1) 1 ) لطائف المعارف ( 387 )(9/14)
أَهُمْ الذين يَشربونَ الخمرَ ويَسرقونَ ويَزنونَ ؟ قال : لا يا ابنةَ الصديق ! ولكنَّهم الذين يَصومونَ ، ويُصلُّونَ ، ويَتصدَّقُونَ ، وهم يخافون ألا يُقْبَلَ منهم ، أؤلئك الذين يُسارعونَ في الخيْرَات ! ".(1)
قال الحسنُ رحمه الله : عَمِلُوا واللهِ بالطَّاعاتِ واجتَهدُوا فيها وخافوا أنْ تُرَدَّ عليهم ، إنَّ المؤمنَ جمع إحساناً وخشية ، وإنَّ المنافقَ جمع إساءة وأمناً.(2)
آيةٌ عظيمة أرَّقَتْ قلوبَ الخائفين وقَصَمَتْ ظهورَ الصالحين ، فلله دَرُّهُمْ(3)
رُوِيَ عن علي - رضي الله عنه - : أنَّه كان ينادي في آخرِ ليلةٍ من رمضان : ياليتَ شعري ! من المقبولُ فنهنَّيه ؟ ومن المحرومُ فنعزَّيه ؟
وذا ابنُ مسعودِ - رضي الله عنه - يقول : أيها المقبولُ هنيئاً لك ، ويا أيها المردودُ جَبَرَ اللهُ مصيبتَك !(4)
وهذا عامرُ بن قيس رحمه الله : يبكى ! فقيل له ما يبكيك ؟
__________
(1) 1 ) أخرجه الترمذي : كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ، باب ومن سورة المؤمنون ، ( 3175 ) . وابن ماجه : كتاب الزهد ، باب التوقي على العمل ، ( 4198 )
وأحمد في مسنده ( 24735 ) والحاكم في مستدركه ( 2 / 427 ) عن عائشة رضي الله عنها ، وهو صحيح .
(2) 2 ) تفسير ابن جرير الطبري ( 18 / 32 )
(3) 3 ) لله دَرُّه : قال ابن منظور في اللسان ( 4 / 279 ) : قال " ابن الأَعرابي : الدَّرُّ : العملُ من خيرٍ أَو شَرٍّ . ومنه قولهم : للَّه دَرُّكَ ، يكون مَدْحاً ويكون ذَمّاً ، وقالوا : دَرُّكَ أَي عملك ، يقال هذا لمن يمُدح ويُتعجب من عملِهِ ؛ فإِذا ذُمَّ عَملُهُ قيل: لا دَرَّ دَرُّهُ ، أَيْ : لا كثر خَيرُهُ .
قال ابنُ سِيْدَه : وأَصْلُهُ أَنَّ رجلاً رأَى آخر يحلب إِبلاً فتعجب من كَثْرَةِ لبَنها فقال : دَرُّك ! "
(4) 1 ) لطائف المعارف ( 377 )(9/15)
فقال : والله ما أبكي حرصاً على الدنيا أو متاع ، أبكي على ذهابِ ظَمَأِ الهواجر ، وعلى قيام ليالي الشتاء !(1)
وتأمَّلْ حالَ العالمِ الورعِ الزاهد ، عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله ، حين خرج يوم الفطر ليخطب فقال : أيُّها الناس .. صُمتمْ للهِ ثلاثينَ يوماً ، وقُمتمْ ثلاثينَ ليلةً ، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أنْ يَتَقبَّلَ منكم ما كان ! وكان بعضُ السلفِ يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطرِ ، فيُقَالَ له : إنَّه يومُ فرحٍ وسرور ، فيقول : صَدَقْتُمْ ؛ ولكني عبدٌ أمرني مولاي أنْ أعملَ لَهُ عملاً ، فلا أَدْرِي أَيْقبَلُهُ مِنِّي أَمْ لا ؟(2)
قال ابنُ رجب رحمه الله : ولقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان ، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم .
وقال عبد العزيز بن رَوَّاد رحمه الله : أدركتُهُم _ الصَّحابَة _ يجتهدون في العملِ الصالح ، فإذا فعلوه وقعَ عليهم الهمُّ أيقبلُ منهم أو لا ؟
وقال الحسنُ رحمه الله : إنَّ اللهَ جعلَ شهرَ رمضانَ مضماراً لخلقه يَسْتبِقُون فيه بطَاعَتِهِ إلى مَرْضَاتِهِ ، فَسَبَقَ قومٌ فَفَازُوا ، وتَخَلَّفَ آخرونَ فَخَابُوا ، فالعجبُ من الَّلاعِبِ الضَّاحِكِ في اليَومِ الذي يَفُوزُ فيه المُحْسِنُون ، ويَخْسَرُ فيهِ المُبْطِلُون . ثُمَّ يَبْكي رحمه الله .(3)
اسمعْ أنينَ العاشقين… إنِ استطعتَ له سَماعا
راحَ الحبيبُ فَشَيَّعَتْهُ مَدامعي تَهْمِي سِراعا
لو كُلِّف الجبلُ الأصمُّ فِراقَ إِلْفٍ ما استطاعا(4)
فبالله عليكم .. أَرَأَيْتُمْ صُورةً أحلى من صُورةِ المحبِّين في الوَدَاعِ كهَذِهِ ؟
أَقَرأْتُمْ عن رَوعةِ الحنين للقاء ؟
__________
(1) 2 ) الزهد لابن المبارك رحمه الله ( 95 )
(2) 3 ) لطائف المعارف ( 376 )
(3) 1 ) لطائف المعارف ( 376 )
(4) 2 ) المصدر السابق ( 387 )(9/16)
إنهَّم القومُ فَقِهُوا عَن اللهِ وَوَعوْا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حازوا قصَبَ السَّبْقِ في كلِّ شيء ، واسْتَولوا على معالي الأمورِ ، فهم مَشعلٌ من مَشاعِل العِلمِ والإيمانِ والهدى ، فالسعيدُ من اتَّبعَ طريقهم ، واقتفى أثرَهُمْ ، والشقيُّ من عدَلَ عن طريقِهِم ولَمْ يَبلغْ مَنْهَجَهُم ، " فأيُّ خِطَّةِ رُشْدٍ لم يَسْتَولُوا عليها ، وأيُّ خِصْلةِ خيرٍ لَمْ يَسْبِقُوا إليها ، تالله ؛ لقد ورَدُوا يَنْبوعَ الحياةِ عَذْباً صَافياً زُلَالَا ، فوطّدوا قواعدَ الدِّينِ فلمْ يَدَعُوا لأحدٍ بَعْدَهُم مَقَالا " ، إنهَّم القوم :
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ سورة المائدة : 54] فكان ما أنتَ سامعٌ ولا عَجَبْ !
قَومٌ عندهم لذةُ العبوديِّةِ فوقَ كلِّ لذةٍ !
قَومٌ وطَّنوا أَنْفُسَهُم على اكتسابِ الذِّخرِ البَاقي والتجارة الرابحة .
فأين أنتَ من تلك المناقبِ الزَّاهية ، و المراتب العالية ؟
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا……وقدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
لئنْ فَنِيَتْ أيامُك الزُّهرُ بَغتةً……فما الحزنُ مِنْ قلبي عليك بِفَانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا… بخيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمضانِ
لئِنْ رحلَ رمضانُ ، فإنَّ العملَ لنْ يرحل يا صاحِ.
لئِنْ انقضى رمضانُ فالسيرُ نحو الله لن ينقضي يا أُخَيَّتي .
فيا أُخَيَّ .. بَادِرْ ، وسَابِقْ ، ونَافِسْ في الخَيْرَات .
فالعمل لا يتوقف إلا بانقطاع الأجل ، و إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ العمل(1) فابْقِ لكَ أَثَراً صَالِحَاً قَبْلَ الرَّحِيْل .
__________
(1) 1 ) إلا من ثلاث كما قال المصطفى - عليه السلام - : " من صَدقةٍ جارية ، أو عِلمٍ ينتفع به ، أوْ ولدٍ صالحٍ يَدْعو له " رواه مسلمٌ : كتاب الوصية ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، ( 1631 )(9/17)
قال الحسنُ البصريُ رحمه الله : أيْ قوم ، المداومَةَ المداومة ، فإنَّ اللهَ لَمْ يجعلْ لعملِ المؤمنِ أَجَلاً دُونَ الموت .(1)
{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } [ سورة الحجر : 99 ]
فيا رعاك الله .." اشترِ نفسَكَ اليوم . فإنَّ السوقَ قائمةٌ ، والثمنَ موجودٌ ، والبضائعَ رخيصةٌ ، وسيأتي على السوقِ والبضائعِ يومٌ لا تصلُ فيه إلى قليلٍ ولا إلى كثير " (2)، فهؤلاء القوم لم يكونوا شَعْبَانِيِّين ، أو رمضانيِّين !
لا وربي ، بل ربَّانِيُّون .. وما أَدْرَاكَ ما الرَّبانِيَّة ؟
فهذه الأعوامُ والشُّهورُ ، وتلكَ الليالي كلُّها مقاديرُ الآجال ، ومواقيتُ الأعمالِ ، ثُمَّ تَنْقَضِي سَرِيْعاً ، وتَمْضِي بَعِيْداً ، والذي أَوْجَدَها وخَلَقَها وخَصَّها بالفَضَائِلِ باقٍ لا يَزُول ، ودَائمٌ لا يَحُوْل ، إلهٌ وَاحِد ، ولأَعْمَالِ عبادِهِ مُراقبٌ مُشَاهِد .(3)
قيل لِبِشْرِ الحَافِي رحمه الله : إنَّ قَوماً يَتعبَّدون ويجتَهِدُون في رمضان ؟ فقال : بِئْسَ القومُ قومٌ لا يَعرفُونَ للهِ حَقَّاً إلَّا في شَهْرِ رَمَضَان ، إنَّ الصَّالحَ الذي يَتَعَبَّدُ ويَجْتَهِدُ السَّنَة كلَّها .
وسُئِلَ الشِّبْلِيُّ رحمه الله : أيُّهما أفضلُ : رَجبٌ أو شَعْبَان ؟ فقال : كُنْ ربَّانِيَّاً ولا تَكُنْ شَعَبَانِيَّاً !(4)
وإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِك ، فيَنْبَغِي عليكَ أنْ تَدْخُلَ السِّبَاقَ ، ولا تَظُنَّ أنَّ العَدَدَ محدودٌ ، وأنَّه قد انتهى من عَصْرِ الصَّحابَةِ والقُرُونُ المفضَّلةِ ! فالحقيقةُ يا صاحِ أنَّ السِّباقَ فسيحُ الأرجاءِ ولَمْ يُحدِّدْهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بزمانٍ أو مكان ، بلْ
__________
(1) 2 ) الزهد لابن المبارك ( 7 )
(2) 3 ) الفوائد لابن قيم الجوزية رحمه الله ( 49 )
(3) 1 ) لطائف المعارف ( 452 )
(4) 2 ) سباق نحو الجنان ، خالد أبو شادي ( 28 )(9/18)
بشََّرَ بِفَوزِ بعَضِ الفَائِزِينَ ( سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَة ) (1)، وتركَ المجالَ لك فَسِيْحاً ، فَهَلاَّ شَمَّرتَ عن سَاعدِ الجدِّ ؟ وأخذتَ في بلوغِ العزائمِ وتَنَافَسْتَ نحو اللهِ والدَّارِ الآخرة كما كانُوا يَفْعلُون ، وفيه يتنافسون ، فأين المُشَمِّرُون؟ أتحبُّ أنْ تُدْرك قافلةَ عُكَاشَة وتَلْحق الركب ؟
أَلَمْ يَبْلُغْكَ قولُه تعالى : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } ؟ [ سورة الحديد : 21 ]
أَلَمْ يُحرِّك عزْمَك نداءُ : { * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } ؟ [ سورة آل عمران : 133 ]
أَلَمْ تَقرأ في كِتَابِ رَبِّك : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) } ؟ [ سورة الواقعة : 10_ 11 ]
قال ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله : " السَّابِقُونَ في الدُّنْيا إلى الخَيْراتِ هُمْ السَّابِقُونَ يومَ القَيامةِ إلى الجنَّات " (2)
أَين أَنْتَ من دَعْوةِ رَبِّنَا لنَا : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) } ؟ [ سورة المطففين : 16 ]
أَلَمْ تَعِ قوله : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } ؟ [ سورة البقرة : 148 ]
لقد حَفِلتْ أحاديثُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنماذجَ عَدِيدَةٍ من شَحْذِ الهمم واسْتِحْثَاثِهَا في الخيراتِ والطَّاعات .
__________
(1) 1 ) أخرجه البخاري : كتاب الطب ، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو ،
( 5705 ) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -
(2) 2 ) حادي الأرواح لابن قيم الجوزيَّة رحمه الله ( 79 )(9/19)
أبَلَغَك قولُهُ لقَارئ القرآن : " اقرأْ وارْتَقِ ورَتِّلْ كما كنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَتَك عند آخرِ آيةٍِ تقرؤها "(1) ؟
أَمَا عَلِمْتَ حَثَّهُ - صلى الله عليه وسلم - على الصفِّ الأوَّلِ حينَ قال :" لو يَعْلمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصفِّ الأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَليهِ لاسْتَهَمُوا "(2) ؟
أَرَأَيْتَ تَشْويقاً أروعَ منْ قَولِهِ - صلى الله عليه وسلم - لهم ذَاتَ غَداة : من أَصْبحَ منكم صَائِماً ؟ قال أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - : أَنَا ، قال : من تَبِعَ منْكُم اليومَ جَنازةً ؟ قال أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - : أَنَا ، قال : فمن عَاد منْكُم مَريضاً ؟ قال أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - : أَنَا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - :
" ما اجْتَمَعْنَ في امرئٍ إلا دَخل الجنَّة "(3) ؟
فَقُلْ لي بِرَبِّك ..
__________
(1) 1 ) أخرجه الترمذي : كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر ، ( 2914 ) وقال أبو عيسى : هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح .
وأبو داود : كتاب الصلاة ، باب استحباب الترتيل في القراءة ، ( 1464 ) وأحمد في المسند
( 6760 ) وصَحَّحَهُ الشيخ ناصر الدين في صحيح الجامع برقم ( 8122 ) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(2) 2 ) أخرجه البخاري : كتاب الأذان ، باب الاستهام في الأذان ، ( 615 ) ، ومسلم : كتاب الصلاة : باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول فيها ، ( 437 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) 1 ) أخرجه مسلم : كتاب الزكاة ، باب من جمع الصدقة وأعمال البر ، ( 1028 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -(9/20)
تُرى بأيِّ حَالٍ عادَ صَحابةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيوتهم بعد سَماعِ هذه البِشَارة ؟ حتماً عَادُوا بِعَزْمٍ جَديد ، وسَعْيٍ حثيث ، يَبْغُون به إدراكَ ما أَدْرَك أبو بكرٍ ، واغتنام ما اغتنم .(1)
كيف وهُمْ قَدْ نَذروا أَرْوَاحهُم مَهراً للجنَّة ؟! .
الله أكبر .. أرأيتَ كيف كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَبعثُ رُوحَ التَّنافسِ بين أَصْحَابِهِ ، فتَشْتَعِلُ شَرارةُ العَزْمِ ، لتَحرِقَ مَخْزونَ الكَسَلْ ، ويَبزُغَ فجرُ العمل ، فيُشْرِقَ نُورُ الأَمَل (2).
أتعْقِلُ مَعِيَ قولَ أبي مُسْلمٍ الخَوْلَانِي رحمه الله حين قال : " أَيَظُنُّ أصْحابُ محمدٍ أنْ يَسْتَأثِرُوا بِهِ دُونَنَا ؟ كَلَّا واللهِ ، لَنَُزاحِمَنَّهُم عَليِهِ زِحَامَاً حتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهم قَدْ خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ رِجَالاً " (3)؟
فما وَصِيَّتِي لَكَ إلَّا :
{ إِنِ استطعتَ أَنْ لا يَسْبِقك إِلى اللَّهِ أَحَدٌ فافعَل }
فما أدري أخلَّف سلفُنا وراءهَم في عصرنا رجالاً ، أم لا ؟
فيا من رعاك الله ..
ويا أيتها العفيفة ..
إنَّما السيرُ سيرُ القلبِ نحو اللهِ ، لا سَيْر الأَبْدان .
فكمْ منْ واصلٍ ببِدنِهِ إلى البيتِ وقلْبُهُ منقطعٌ عنْ رَبِّ البيت !
وكمْ مِنْ قاعدٍ على فراشهِ في بيتِهِ وقلْبُهُ متصلٌ بالملأِ الأعلى .
يقول ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله :
" إنَّ الأعمالَ لا تَتَفاضَلُ بِصُوَرِها وعَدَدِها ،وإنَّما التَّفاضُلُ بِتَفاضُلِ مَا في القُلُوبِ ، فتكونُ صُورَةُ الَعملِ واحدةً ، وبينَهُما في التَّفاضلِ كمَا بَيْن السَّماءِ والأَرْض "(4)
__________
(1) 2 ) سباق نحو الجنان ( 13 )
(2) 3 ) المصر السابق ( 13 )
(3) 1 ) إحياء علوم الدين ( 4 / 436 ) عن سباق نحو الجنان ( 15 )
(4) 1 ) مدارج السالكين ( 1 / 331 )(9/21)
و انظروا لعبد الله بن ثابت - رضي الله عنه - لَمَّا ماتَ _ على فراشِهِ _ قالت ابنتُهُ : والله إنْ كنتُ لأرْجُو أنْ تكونَ شَهِيْدَاً ، فإنَّك كنتَ قد أَتْمَمْتَ جِهَازَكَ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ اللهَ أوقعَ أجرَهُ على قَدْرِ نِيَّتِه "(1)
فيا سبحان الله !
الشهادةُ بلَغها متسابقٌ بقلبِهِ وهو على فراشه !
وما نالهَا من فُصِل رأسُهُ عن جسدهِ في الميدان ؟
فبالله عليكم ، مَنْ الذي رَفع هذا ، ووَضَعَ ذاك ؟
إلَّا سيرُ القلبِ نحو اللهِ والدَّارِ الاخرة .
يُصَدِّقُ ذلك : " إنّ بالمدينةِ أقواماً ما سِرْتُم مَسِيراً ، ولا قطعتُم وَادِياً ، إلَّا كانوا معكُم فيه وهُمْ بالمدينةِ ، حبَسَهُمُ العذر "(2)
يا سَائرينَ إلى البَيْتِ العَتيقِ لَقدْ… سِرْتُم جُسوماً وسِرْنَا نحنُ أَرْوَاحَا
إنَّا أَقَمْنَا على عُذْرٍ وقَدْ رَحَلُوا ومَنْ أقَام على عُذْرٍ فقَدْ رَاحَا
فيا مَنْ يريدُ فِكاكَ نفسِهِ .. ويا مَنْ تَبْغِي نجاةَ نفسِها ..
__________
(1) 2 ) أخرجه مالك في الموطَّأ : كتاب الجنائز ، باب النهي عن البكاء على الميت ، ( 522 )
وأحمد في المسند ( 23241 ) وأبو داود : كتاب الجنائز ، باب في فضل من مات في الطاعون ، (3111 ) والنسائي : كتاب الجنائز ، باب النهي عن البكاء على الميت ، ( 1846 ) عن جابر بن عتيك - رضي الله عنه - ، وصحَّحهُ الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم ( 1791 )
(2) 1 ) أخرجه البخاري : كتاب المغازي ، باب نزول النبي الحجر ، ( 4423 ) عن أنس - رضي الله عنه - ، ومسلم : كتاب الإمارة ، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر ، ( 1911 ) عن جابر - رضي الله عنه - .(9/22)
رحمةُ اللهِ واسعةٌ ، وأبوابُ الخيرِ كثيرةٌ ، فإذا وجدتَ أحدَ الأبوابِ مُغْلقاً ، فقد فَتحَ لك أَبْواباً ، وإذا ضَاقتْ بك سَبِيلٌ وَسِعَتْك سُبُلٌ ، فافتحْ هذه الأبوابَ ، ووَاصِل السَّير نحو الملِكِ الوهَّاب ، ففي نهايتها : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) } [ سورة التوبة : 72 ] (1)
فما العهدُ بعدَ رمضان (2):
النِّعمُ سابغةٌ ، والرحمةُ واسعةٌ ، ولا يَنْبَغِي للمؤمنِ ولا للمؤمنةِ أنْ يُبْدِلَ بالنِّعْمَةِ نقمة ، ويَخرجَ من الغُفْران إلى العصيان ، وها قد حَان الانتهاء ، فيحسنُ بك أنْ تتحلَّى بما عهدتُكَ وأحسبُكَ كذلك ، واللهُ حسيبك :
أولاً : بمثل ما استقبلت رمضانَ من الطاعة ، وَدِّعْهُ واستقبلْ ما يتلوه من الشهور فكلُّها أيامُ الله ، فاعمُرْها بما عَمَرْتَها في رمضان .
ثانياً : حافظتَ على الصلاةِ بخشوعها وخضوعها ، ذرفتَ الدمعَ بين يدي ربك ، فهلاّ بَقِيْتَ على هذه الحالة بقيةَ عمرك وفي سائر عملك فالصلاةُ عمودُ الإسلام ، ولا حظَّ في الإسلام لمن ضَيَّع الصلاة .
__________
(1) 2 ) سباق نحو الجنان ( 27 ) بتصرف
(2) 1 ) روح الصيام ومعانيه ، للشيخ الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل ، من إصدارات مجلة البيان رقم ( 85 ) صـ ( 135 ) فهو بحق كتاب متميز جزى الله الشيخَ خير الجزاء . ( بتصرف وزيادة )(9/23)
ثالثاً : كان الصومُ لك جُنَّةً من أعدائك ، وحِصْناً حَصِيْناً من شياطين الإنس والجن ، ( الصيامُ جُنَّةٌ كجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنْ القِتَال )(1) فهل تَأْمنْ على نفسك بقيةَ العامِ بلا حصنٍ ولا عُدة . فالصومُ باقٍ بقاءَ العام ، فَطِبْ نفساً بِمَوَاسِمِ الصِّيَام ، فدُونَك هِيْ :
* ( مَنْ صَامَ رَمَضَان ، ثُمَّ أَتْبعهُ ستاً مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيَامِ الدَّهْر )(2)
* ( ما مِنْ أيامٍ العَملُ الصَّالحُ فيْهَا أَحَبُّ إلى اللهِ منْ هذِهِ العَشْر ( أيْ عَشْر ذِي الحِجَّة ) قالوا : ولا الجِهَادُ في سَبِيْلِ اللهِ ، قالَ : ولا الجِهَادُ في سَبِيْلِ اللهِ ، إلا رَجُلٌ خَرَجَ بَنَفْسِهِ ومَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ منْ ذَلك بِشَيءٍ )(3)
*( صِياَمُ يَومِ عَرَفَة أَحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ والسَّنَةَ التي بَعْدَهُ ، وصِيَامُ يومِ عَاشُورَاء أَحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَه )(4)
__________
(1) 2 ) أخرجه النسائي : كتاب الصيام ، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب ، ( 2230 ) وابن ماجه : كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام ، ( 1639 ) وأحمد في المسند (15839 ) عن عثمان بن العاص - رضي الله عنه - وصحَّحهُ الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 3879).
(2) 1 ) أخرجه مسلم : كتاب الصيام ، باب استحباب صيام ستة أيام من شوال اتِّباعاً لرمضان ،
( 1164 ) عن أبي أيوب - رضي الله عنه - .
(3) 2 ) أخرجه البخاري : كتاب الجمعة ، باب فضل العمل في أيام التشريق ، ( 969 ) مختصراً ، وتمامه عند الترمذي : كتاب الصوم عن رسول الله ، باب ما جاء في العمل في أيام العشر ، ( 757 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(4) 3 ) أخرجه مسلم : كتاب الصيام ، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة ، ( 1162 ) عن أبي قتادة - رضي الله عنه -(9/24)
* ( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمضَان شَهرُ اللهِ المحرم )(1)
* ( أوصاني خليلي بثلاث : صومِ ثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شهر ... ) (2)
* ( كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتحرّى صيامَ الاثنين والخميس ) (3)
أسمعتَ هذه المواسم ؟ إِذَنْ فلا تَقْعُد عنها .
رابعاً : قمتَ رمضان إيماناً واحتساباً _ وأحسبُك كذلك _ وها قد انقضى شهرُ القيام . فلا تَقْصُر عنه سائرَ العام . فخذ بالجدِّ فيه ، ( واعلم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُه بالليل )(4)
__________
(1) 4 ) أخرجه مسلم : كتاب الصيام ، باب فضل صوم المحرم ، ( 1163 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) 1 ) أخرجه البخاري : كتاب الجمعة ، باب صلاة الجمعة في الحضر ، ( 1178 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وهي الأيام الثلاثة البيض ، وهي ( 13 ، 14 ، 15 )
(3) 2 ) أخرجه الترمذي : كتاب الصوم عن رسول الله ، باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس ،
( 745 ) وقال حسنٌ غريب من هذا الوجه ، والنسائي : كتاب الصيام ، باب صوم النبي وذكر اختلاف الناقلين ، ( 2360 ) وابن ماجه : كتاب الصيام ، باب صيام الاثنين والخميس ( 1739 ) وأحمد في المسند ( 23987 ) عن عائشة رضي الله عنها ، وصحَّحَهُ ابن حجر في الفتح (4/ 236 ) وفي التلخيص الخبير ( 2 / 214 ) والألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 4897 ) .
(4) 3 ) أخرجه الحاكم في المستدرك ( 4 / 360 ) وصححَّه ، وفيه بُعْد . والطبراني في الأوسط ( 4 / 306 ) والبيهقي في الشعب ( 7 / 349 ) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - ، وحسنَّه العراقي رحمه الله كما في كشف الخفاء ( 2 / 70 ) وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 73 ) ، وانظر : السلسلة الصحيحة ( 4 / برقم 1904 )(9/25)
ذكرَ الخطيبُ البغدادي رحمه الله : " عن عاصم البَيْهَقِي قال : بتُّ ليلةً عند الإمام أحمد بن حنبل ، فجاء بماءٍ فوضعَهُ ، فلما أصبح نَظر إلى الماءِ بحاله ، فقال : سبحانَ الله ! رجلٌ يطلبُ العلمَ لا يكونُ له وِرْدٌ بالليل "(1)
ثُمَّ أَيْنَك من ذاك الصغير الصالح ، فقد ذكر أهلُ التَّارِيخِ والسِّيَرِ : أنَّ أبا يزيد طَيْفُور بن عيسى لَمَّا تحفَّظ قوله : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) } قال لأبيه : يا أبتِ مَنْ الذي يقول الله له هذا ؟ قال يا بُنَيَّ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أَبَتِ مالَكَ لا تصنعُ كما صَنَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : يا بُنَيَّ إنَّ قيامَ الَّليْلِ خُصِّصَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - بافتراضه دون أمته .
قال : فسَكَتُّ عنْهُ فلما تَحَفَّظْتُ قوله سبحانه : { * إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ×pxےح!$sغur مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ } قلتُ : يا أبتِ إني أسمعُ أنَّ طائفةً كانوا يقومون الليل ، فمَنْ هذه الطائفة ؟ قال : يا بُنَيَّ هؤلاء الصحابةُ رضوان الله عليهم . قلتُ : يا أبتِ فأيُّ خَيرٍ في تَرْكِ ما عَمِلَه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَابُهُ ؟ قال : صَدَقْتَ يا بُنَيَّ .
فكان أبوهُ بعدَ ذلك يَقومُ مِنْ الَّليلِ وَيتوَضَّأ ويُصلِّي ، فاستيقظَ أبو يزيدٍ ليلةً فإذا أَبُوهُ يُصلِّي . قال : يا أَبَتِ عَلِّمْني كيف أَتوضَّأُ وأُصلِّي معك . فقال أبوه : يا بُنَيَّ ارقدْ فإنَّك صغيرٌ !
__________
(1) 1 ) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 1 / 143 )(9/26)
قال : يا أَبَتِ إذا كان يومَ يَصدرُ النَّاسُ أشتاتاً لِيُروا أعمالهَم أقولُ لربي : قلتُ لأبي كيفَ أتطهرُ لأُصَلِّيَ معك فأَبَى ! وقال ارْقُد فإنَّك صغيرٌ بَعْدُ ، أتحبُّ هذا ؟ فقال أبوه : لا والله يا بُنَيَّ ما أحبُّ هذا ، فعلَّمه فكان يُصَلَّي معه .
فإيَّاك إيَّاك .. أنْ يَسْبِقَكَ الدِّيكُ ! فيكونَ أَكْيسَ منْك يُسبِّحُ وأنت نائم ؟!
خامساً : ختمتَ القرآنَ مرةً ، أو بعض مرةٍ ، وعزفتَ عن الشواغل حتى لا تهجُره في شهره ، أيحسنُ بك أنْ تُقَدِّمَ الشواغلَ عليه وهو كلامُ الملك ! هلاّ عزمتَ على صَرْفِها مرات ؛ لتَحْظَى بِخَتَمَات .
قال ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله ذاكراً أولَ الأسبابِ الموجبةِ لمحبة الله :
" قراءةُ القُرآنِ بالتَّدَبُّرِ والتَّفَهُمِ لمعَانِيْهِ ، وما أُرِيدَ بِهِ ، كتَدَّبُرِ الكِتَابِ الذي يحفَظُهُ العبدُ ويَشرحُهُ ليَتَفَهَّمَ مُرادَ صَاحِبهِ مِنْهُ " (1)
فأينَ المتشوِّقُونَ نحو : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ سورة المائدة : 54] ، وأَيْنَك من قوله حين يُقالُ لصَاحِب القُرْآن : " اقرأ وارْتَقِ ورَتِّلْ كما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا فإنَّ منزلَتَك عِنْدَ آخرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا "(2)
__________
(1) 1 ) مدارج السالكين ( 3 /17 ) وقال ابنُ تيميَّة رحمه الله : " المطلوبُ من القرآنِ : فَهْمُ معانيِهِ والعَملُ بهِ ، فإنْ لَمْ تكنْ هذهِ همَّة حافظِهِ لَمْ يكنْ منْ أهلِ العِلْمِ والدِّين " المجموع ( 23 / 54 )
(2) 1 ) سبق تخريجه صـ ( 24 )
فائدة : ينبغي للمسلم _ والمسلمة _ أن يكون له مع كتاب ربِّه ثلاث وقفات :
الأولى : كثرة تلاوته وختمه ، مع إقامة حروفه وأحكام تلاوته .
الثانية : تَدَبُّرِه والتفكَّر في معانيه ، والنظر في أحكامه ومدارسته .
الثالثة : العمل به ، والتخلُّق بأوامره ، واجتناب نواهيه .
ومن أروع الكتب في هذا الباب كتابان : ( قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله - عز وجل - ) للشيخ عبد الرحمن الميداني رحمه الله ، وكذا كتاب ( تدبُّر القرآن الكريم ) للشيخ سليمان السنيدي حفظه الله ، من إصدارات المنتدى الإسلامي .(9/27)
يقول ابنُ قيِّم الجوزيَّة رحمه الله :
" وبالجُمْلَةِ ؛ فلا شيءَ أنفعُ للقَلبِ من قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّرِ والتَّفكُّرِ ؛ فإنَّهُ جامعٌ لجميعِ منازلِ السَّائرينَ وأحوالِ العاملينَ ومقاماتِ العارفينَ ، وهو الذي يُورِثُ المحبَّةَ والشوقَ والخوفَ والرَّجاءَ والإنابةَ والتَّوكُّلَ والرِّضا والتَّفويضَ والشُّكرَ والصَّبرَ وسائرَ الأحوالِ التي بها حياةُ القلبِ وكمالُهُ ...
فلو عَلِمَ النَّاسُ ما في قراءةِ القرآنِ بالتَّدبُّرِ لاشتَغلوا بها عن كلِّ ما سواها ، فإذا قرأَهُ بتفكُّرٍ حتى مرَّ بآيةٍ هو مُحتاجٌ إليها في شفاءِ قَلبهِ كرَّرَها ولو مِئةَ مرَّة ، ولو ليلةً ، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتَفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ خِتْمَةٍ بغيرِ تَدبُّرٍ وتَفهُّمٍ ، وأَنفعُ للقلبِ وأَدْعَى إلى حُصولِ الإيمانِ وذَوْقِ حلاوَةِ القرآن."(1)
سادساً : حافظتَ قدْرَ الطاقةِ على قلبِك من غَوائلِ الهوى النَّزَّاعةِ للشوى ، صُنْتَ سَمْعكَ ، وبَصَركَ ، وفؤادَكَ عما لا ينبغي في شهرِ الصيامِ رجاءَ كماله ، ولكنْ لتعلمَ أنَّ صيامَ الجوارحِ لا يَنْقَضي بغروبِ شمسِ آخرِ ليلةٍ من رمضان ، فشرْعُ الله دائمٌ على مَرِّ العام ذلك : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } [ سورة الإسراء : 36 ]
يا أذنُ لا تسمعي غيرَ الهدى أبداً… إنَّ استماعك للأوزارِ أوزارُ
فأمْسِكْ عليك لسانَك .. ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ .. وابْكِ على خطيئَتِكَ
__________
(1) 1 ) مفتاح دار السعادة ( 1 / 553 ) بتصرف(9/28)
سابعاً : تخلَّقتَ بأخلاقِ الإسلام في رمضان ، فكنت تقولُ لمن سَبَّك أو شَتَمَك ( إِني صَائمٌ )(1) فهلاّ عَلَّمَك الصَّيامُ أنَّ ذلكَ الإمساكَ هو للأخلاقِ مَلاك ، وتَذكَّر : ( أقربُكُم مِنِّي مَجْلِساً يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ خُلُقاً )(2)
ثامناً : أَرْحَامُك ، إخْوَانُك ، جِيْرَانُك ، أَحْيَيْتَ وَصْلَهُمْ في رمضان ، فلا تَعُدَّهم في الموْتَى بعد رحيله ! أَلَمْ يَأْنِ لكَ أنْ تَعْلمَ أنْ وَصْلَهُمْ سيبقى حَيَّاً سائرَ الأيام ، تَفكَّرْ في قوله سبحانه ،وهو يقول للرحمِ : ( ألا يُرْضيكِ أنْ أصلَ مَنْ وصلَكِ وأقطعَ مَْن قَطَعَكِ )(3) وصَلَنَا الله بحبل مرضاته وبلَّغنا أريج نفحاته .
تاسعاً : كنتَ في شَهْرِكَ جَواداً ، كريماً ، وربُّك الغنيُ الأكرم ، أَلا تَحْنُو على عبادِهِ اليَتَامَى والمساكين ، فتَجُودُ وتُكْرِم ، عَسَى أنْ يَجُودَ عليكَ بنعيم الجِنَان ، ويصونَك عن لهيب النِّيرَان .
__________
(1) 1 ) أخرجه البخاري : كتب الصوم ، باب فضل الصوم ، ( 1894 ) عن أبي هريرة- رضي الله عنه - .
(2) 2 ) رواه أحمد في المسند ( 6696 ) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما . وهو صحيح .
(3) 3 ) أخرجه البخاري : كتاب تفسير القرآن ، باب وتقطعوا أرحامكم ، ( 4832 ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .(9/29)
عاشراً : عَهِدتُكَ حَياً حيِّيَّاً في شهرِ الصيام ، ألا أريتَ الله من نفسك خيراً سائر العام ، فحافظتَ على الطاعة وتعاهدِها ، وقد كان نَبِّيُك - صلى الله عليه وسلم - يعاهدُ ربه على الطاعة في كل ساعة قبيل الليل وعند طُلوع النهار ، ألا تَمْتَثِلُ ذلك ، وتَذْكُرَ قوله : " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى ، فاغْفِرْ لِى ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ "(1)
تلك عشرةٌ كاملة قبيل التمام ، فلْنلزمها علَّنا أنْ ندخل الجنة بسلام .
وفي نهاية المطاف ..
وقبل أنْ تفرحَ بالعيد ..
وتُهيئ الملبسَ الجديد ..
ارمُقْ معي تلكَ البُنَيَّةَ اليتيمة في بلاد المسلمين ، وهي تَهْتِفُ بِتِلْكُم الكلمات المكْلُومة نحو الهلال ، تشكو له حالها .
فهل تفرحُ كما تفرحُ بُنَيَّاتُ المسلمين بالحلْوى والثياب الجديدة ؟
أنَّى لها بالفرح ! فما لها إلَّا الهلالُ لتَبُثََّ حُزْنَهَا له فتناديهِ بقولها :
غِبْ يا هِلال ..
قالوا ستجلِبُ نحوَنا العيدَ السعيد .. عيدٌ سعيد ؟!
والأرضُ ما زالت مبللةَ الثرى بدمِ الشهيد ..
والحربُ ملَّت نفسَها وتقززتْ ممن تُبيد !
عيدٌ سعيدٌ في قصور المترفين !!
عيدٌ شقيٌ في خيام الَّلاجئين !!
هَرِمت خُطانا يا هلال ..
ومَدَى السعادةِ لم يزلْ عنَّا بعيد !
غِبْ يا هِلال ..
لا تأتِ بالعيدِ السعيدِ مع الأنين ؟ لا تأتِ بالعيدِ السعيدِ مع الأنين ؟ أنا لا أريدُ العيدَ مقطوعَ الوتين ..
أتظنُّ أنَّ العيدَ في حَلْوى وأثوابٍ جديدة ؟!
أتظنُّ أنَّ العيدَ تهنئةٌ تُسطَّرُ في جريدة ؟!
__________
(1) 1 ) أخرجه البخاري : كتاب الدَّعوات ، باب أفضل الاستغفار ، ( 6303 ) عن شدَّاد بن أوس - رضي الله عنه -(9/30)
غِبْ يا هِلال ..
واطلَع علينا حين يبتسمُ الزمن .. وتموتُ نيرانُ الفتن ..
اطلَع علينا حين يُورِقُ في ابتسامتنا المساء ..
ويذوبُ في طرقاتنا ثلجُ الشتاء..
اطلَع علينا بالشّذى .. بالعِزِّ .. بالنصر المبين .
اطلَع علينا بالْتئامِ الشملِ بين المسلمين ..
هذا هو العيد ..
هذا هو العيدُ السعيد ..
وسواهُ ليس لنا بعيد !!
غِبْ يا هِلال ..
حتى نَرى راياتِ أمتِنَا تُرفرفُ في شَمَمْ..
فهناك عيد .. أيُّ عيد ؟
هناك .. يبتسمُ الشقيُ مع السعيد ! غِبْ يا هِلال.. - ..(1)
فيَا شَهْرَ رَمَضانَ تَرَفَّق ، دُمُوع المحبِّين تَدَفَّق ، قُلُوبُهم من أَلَمِ الفِراقِ تَشَقَّق ، عَسَى وَقفةٌ للودَاعِ تُطْفِئُ مِنْ نَارِ الشَّوقِ ما أَحْرَق ، عَسَى ساعةَ تَوبَةٍ وإقلاعٍ تَرْفُو مِنْ الصِّيامِ كُلَّ ما تَخرَّق ، عَسَى منقطعٌ عن ركب المقبولين يَلْحق ، عَسَى أسيرُ الأوزارِ يُطلَق ، عَسَى من استوجبَ النار يُعْتَق ، عسى رحمةُ المولى لها العاصي يُوفَّق .(2)
يا نفسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى…وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عَمِي
يا حسنَهُمْ والَّليْلُ قدْ جنَّهُمْ…ونورُهُمْ يَفُوقُ نورَ الأنْجُمِ
تَرنَّموا بالذِّكْر في ليْلِهِمُ…فعيشُهُم قدْ طابَ بالتَّرنُّمِ
قلوبُهم للذِّكْر قدْ تفرَّغت…دموعُهُم كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظِمِ
أسحارهُم بهم لهم قد أشرقَتْ…وخِلَعُ الغُفْرانِ خَيرُ القِسَمِ
ويْحَك يا نفسُ ألا تَيَقُّظٌ…ينفعُ قبل أنْ تَزِلَّ قدمِي
مَضَى الزَّمانُ في توانٍ و هوىً…فاسْتَدْرِكي ما قدْ بَقي واغْتَنِمِي(3)
__________
(1) 1 ) شعرٌ : للشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي أكرمه الله
(2) 1 ) لطائف المعارف ( 388 )
(3) 2 ) المصدر السابق ( 323 )(9/31)
اللهُمَّ إنَّ هذا الشَّجنَ مما نفحَ به الخاطرُ ، وزكّاهُ الضميرُ ، وسالتْ به العبراتُ ، فهي دمعاتُ مُحِبٍّ ، وحديثُ أُنْسٍ ، وصَدقةُ قائمٍ ، ومَشاعرُ صائمٍ ، وشَهادةٌ تُؤدَّى يومَ تُكْتبُ شهادتُهم ويسألون .
لك الله يا رمضان ، وقد تصرَّمت لياليك .
فعدْ مثلما قد جِئتَ ضَيفاً مُكْرماً تُعَمِّرُ من بُنْياننا ما تُعَمِّرُ
لك اللهُ يا رافداً مِنَ الله للورى وبحراً من الغفرانِ لِلْخلْقِ يَغمُرُ
فمثْلُكَ شهرٌ لا تُوفَّى حُقُوقُه وعن مَدْحِه كلُّ الأقاويلِ تقصُرُ
اللهُمَّ يا سامعَ كلِّ نجوى ، ويا منتهى كلِّ شكوى ، يا عظيمَ المنِّ ، يا واسعَ المغفرةِ ، يا باسطَ اليدين بالرحمة ، تقبلْ مِنَّا الصيامَ والقيام . واجعلنا ممن قبلْتَهُ ورضيتَهُ ونعمت عمله فوهبت له الأجرَ والمغنم .
أسألُ اللهَ جل في علاه أنْ يغفر لنا يوم نلقاه .
اللهُمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا .
اللهُمَّ إنك عفوٌ كريمٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنَّا .
اللهُمَّ اعتق رقابنا ورقاب والدينا من النار .
اللهُمَّ أعز الإسلام وانصر المسلمين .
اللهُمَّ ارفع الذل والضَّيْم عن إخواننا وأخواتنا المستضعفين والمستضعفات في كل مكان .
اللهُمَّ انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان ، في فلسطين ، وفي العراق ، وأفغانستان ، والشيشان ، وفي كل مكان يذكر فيه اسمك يا رب العالمين .
اللهُمَّ احفظ علينا في بلدنا وكل بلاد المسلمين نعمة الأمن والأمان ، ونسألك الهدى والتُّقَى والعفاف والإيمان .
اللهُمَّ اجبر كَسْر قلوبنا على فراق شهرنا ، اللهُمَّ أعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ، وكل عامٍ وأنتم إلى الرحمن أقرب .
هذا فما كان فيه من صوابٍ فمن اللهِ وحده المتفضلِ بالنعم والإحسان ، وما كان فيه من زللٍ وخطأٍ فمن نفسي والشيطان واللهُ ورسولُهُ منه بريئان ، وأسأله المسامحةَ والغفران .. إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعمَ الوكيل ..(9/32)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والله أعلم .
قاله مقيِّدُه
أَبُو العَالِيَةِ الجُورَانِي
المحتويات
تقديم ................................................................
تمهيد ................................................................
مقدمة ...............................................................
شعر : أقبلتَ يا عيدُ ..................................................
نَدْب التهنئة بدخول شهر رمضان ( حاشية ) ...........................
رمضان : شاهدٌ لنا أو علينا ............................................
رمضان : مضمارٌ واسع للتنافس في الخيرات .............................
رحيل رمضان والرَّعيل الأَوَّل ..........................................
ترجمة الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله ( حاشية ) .........
ترجمة المفكر الأديب سيِّد قطب رحمه الله ( حاشية ) ....................
ترجمة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ( حاشية ) .............
ترجمة الشاعر الإسلامي الدكتور محمد إقبال ( حاشية ) ..................
ترجمة الشيخ العلامة إحسان إلهي ظهير ( حاشية ) .......................
ترجمة الشيخ العلامة الفقيه محمد الصالح العثيمين ( حاشية ) ..............
حال السلف في وداع رمضان .........................................
فما العهد بعد رمضان .................................................
أولاً : استقبال باقي الشهور كاستقبال رمضان ..........................
ثانياً : المحافظة على الصلوات ..........................................
ثالثاً : الصيام حصنٌ حصين ...........................................
مواسم الصيام ........................................................(9/33)
رابعاً : قيام رمضان وقيام باقي العام ....................................
قصة طَيْفُور بن عيسى مع والده في قيام الليل ............................
خامساً : ختم القرآن .................................................
موقف المسلم من كتاب ربه ( حاشية ) ................................
سادساً : حفظ السمع ، والبصر ، والفؤاد ..............................
سابعاً : أخلاق الإسلام ...............................................
ثامناً : صلة الرحم ( أرحامك ، إخوانك ، جيرانك ) ...................
تاسعاً : الجود والكرم والإنفاق ........................................
عاشراً : المعاهدة على الطاعة سائر العام ................................
شعر : غِبْ يا هلال ..................................................
الوداع : شهر رمضان تَرَفَّقْ ...........................................
يا نفَْسُ فاز الصالحون بالتُّقَى ...........................................
دعاء .................................................................
المحتويات .............................................................(9/34)
وأقبلت نفحات الجنان
عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان غرة وجه العام ، أجزل فيه الفضائل والإنعام ، وفضل أيامه على سائر الأيام ، جعله لعقد شهور العام واسطة النظام .
عمر ليله بالقيام ، ونهاره بالصيام .
أحمده سبحانه وأشكره ، وفق من شاء من عباده للطاعات ، فتح لهم أبوابها وسهل لهم أسبابها .
وأصلي وأسلم على خير من صلى وصام ، وبكى من خشية ربه حين قام .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الخير والإنعام ، ومن تبعهم بإحسان صلاة دائمة ما تعاقبت الليالي والأيام .
أحبتي في الله ..
إن رحمة الله تعالى بعباده تهيئة مواسم الطاعات والقربات ، ليتزودوا منها بالباقيات الصالحات ، ويأخذوا عدتهم منها قبل الممات ، فكم هو رحيم بعباده كريم جواد معطاء .
ومن أجل هذه المواسم موسم رمضان ، ذلك الشهر الذي جعله زمن فريضة عظيمة ، وعبادة جليلة ، إنه مكان الركن الرابع من أركان الإسلام -الصيام-.
وجعله وقت نزول القرآن : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } البقرة185
في هذه الليلة المباركة .
و في مجلس من مجالس البر والفضل والإحسان نجلس مع هذه الوجوه الطاهرة في لقاء عنوانه
(وأقبلت نفحات الجنان)
وقد انتظم في هذا الدرس ست عناصر :
ـ أعرف قدر زمانك.
_كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح.
ـ كنوز رمضان وثمرات الصيام .
ـ وقفة محاسبة على أبواب الشهر .
ـ ألم يحرق القلب .
ـ رمضان والانطلاقة الكبرى .
أيها الأحبة :
ينبغي للمسلم المؤمن أن يقدر هذه المواسم حق قدرها ، يستشعر بقلبه فضيلتها ، فرمضان موسم مبارك ، أيامه فاضلة ، ولياليه مباركه ، كان رسول الله ? يبشر أصحابه بقدومه فيقول :(10/1)
" إذا كان أول ليله من ليالي رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار ، فلم يفتح منها باب ، وفتحّت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار ، ذلك كل ليله " رواه الترمذي .
جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض .
قال المنذري -رحمه الله تعالى- :
وقد ذهبت طوائف من العلماء إلى أن هذه الأحاديث جاءت في فضل الصوم في الجهاد ، و ذهبت طائفة إلى أن كل الصوم في سبيل الله إذا كان خالصاً لوجه الله تعالى .أ.هـ فاخلص في العمل أيها العبد المبارك .
اعرف قدر زمانك. ففي رمضان" لله عند كل فطر عتقاء " رواه أحمد
وعن أبي سعيد الخدري ? قال : قال رسول الله ? : " إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة ، إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة ، وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة " رواه الترمذي وهو في صحيح الترغيب
فهذه بعض فضائل هذا الموسم المبارك :
ـ تفتيح أبواب الجنان .
ـ إغلاق أبواب النيران .
- لله عتقاء في كل يوم وليلة ، وعند كل فطر .
- للصائم دعوة لا ترد .
-من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، وأيضاً من قام -رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم .
-" الصوم حاجز عن النار "
- كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه عطاء من الرب الكريم ، وما ظنك برب كريم وهاب .
شهر يفوق على الشهور بليلة *** من ألف شهر فضلت تفضيلاً
طوبى لعبد صح فيه صيامه *** ودعا المهيمن بكرة وأصيلا
وبليلة قد قام يختم ورده *** متبتلاً لإلهه تبتيلا
تأمل كيف كان رسول الله ? يحتفي بهذا الموسم ، ولك فيه أعظم أسوة .
إذ قال ربك : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }الأحزاب21(10/2)
يدل على هذا حديث ابن عباس " كان رسول الله أجود الناس " وجوده كما يقول ابن القيم بجميع أنواع الجود : بالمال والبدن والوقت والجاه والعلم والتعليم ، والدلالة على الخير .
يحتفي بليالي هذا الشهر المبارك يقطعها بالتلاوة والقيام ، وغالب قيامه ? كان منفرداً ، وذلك لرحمته بالأمة خشية أن يفرض القيام على أمته .
تأمل كيف كان قيامه في رمضان :-
يقول أبو ذر ? : " كنا مع النبي? فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، ثم لم يقم بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب بنا شطر الليل أي نصفه . تأمل .. ثم لم يقم بنا في الرابعة ، وقام بنا في الثالثة حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ( يعني السحور ) .رواه أهل السنن
وهذا حذيفة ? يقول : صليت مع رسول الله ? ليلة في رمضان قال : فقرأ بالبقرة ثم بالنساء ثم آل عمران ، لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل ، قال : فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة ، أي صلاة الفجر " أخرجه الإمام أحمد .
فكيف حالنا مع صلاة القيام والتراويح نمن على الله بركعات لا اطمئنان فيها ولا خشوع ، ولا تبتل ولا خضوع ، فصار أحدنا لا هو الذي صلى ففاز بالثواب ، ولا هو الذي ترك فاعترف بتقصيره وسَلم من الإعجاب .
أين نحن من حال السلف الذين كانوا يعظمون هذه العبادة ، كانوا يصلون ويقومون حتى يعتمدون على العصي من طول القيام .
كان علي بن عبدالله بن عباس يسجد كل يوم ألف سجدة ، فسمي السجاد .
وسعيد بن جبر يختم القرآن في ركعةٍ في جوف الكعبة .
وكان عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ يقرأ كل يوم ربع القرآن في المصحف .
قال المعتمر بن سليمان : مكث أبي سليمان التميمي ـ رحمه الله ـ أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان يصلي صلاة الفجر بوضوء العشاء الآخرة .(10/3)
قال معمر : " صلى على جانبي سليمان التميمي ـ رحمه الله ـ بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته : " تبارك الذي بيده الملك " حتى أتى على هذه الآية : " فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا " فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فلما رجعت إلى المسجد لأوذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها .
قال أبو إسحاق السباعي ـ رحمه الله ـ ذهبت الصلاة مني !! ( أي لما ضعفت وكبر سني ) وضعفت ورق عظمي ، إني اليوم أقوم في الصلاة فما اقرأ إلا البقرة وآل عمران !! ، وكان رحمه الله قد ضعف على القيام ، فكان لا يقدر أن يقوم إلى الصلاة حتى يقام ، فإذا أقاموه فاستتم قائماً قرأ ألف آية وهو قائم .
وهل كانت صلاتهم صلاة الغافلين اللاهين كحالنا اليوم .. اسمع طرفاً من أخبارهم .
ـ قال يعمر بن بشر : أتيت باب عبدالله بن المبارك ـ رحمه الله ذات ليلة بعد العشاء فوجدته يصلي وهو يقرأ قوله تعالى : ( إذا السماء انفطرت ) حتى بلغ ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ) فوقف عندها يرددها إلى أن ذهب وقت من الليل فانصرفت ثم رجعت غليه لما طلع الفجر فإذا هو لا يزال يرددها ، فلما رأى الفجر قد طلع قال : حلمك وجهلي !! حلمك وجهلي !! فانصرفت وتركته .
ـ قام العبد الصالح : سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ ذات ليلة يصلي من الليل فقرأ ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) ، فأخذ يرددها حتى أصبح .
ـ قام العبد الصالح : سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ ذات ليلة يصلي من الليل فمر بهذه الآية ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) فرددها بضعاً وعشرين مرة ، وكان يبكي بالليل حتى عمش .
ـ كان العبد الصالح علي بن الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ يصلي من الليل حتى ما يقدر أن يأوي إلى فراشه إلا حبوا !! ثم يلتفت إلى أبيه ويقول : يا أبت سبقني المتعبدون !!(10/4)
ـ قيل للعبد الصالح : يزيد بن هارون ـ رحمه الله ـ وكان ذو عينين جميلتين فعمي من كثرة بكائه من الليل ، يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان ؟!! فقال : ذهب بهما بكاء الأسحار !! ، ولما سئل عن حزبه ( أي ورده بالليل ) قال : وأنام من الليل شيئاً ؟!! إذا لا أنام الله عيني .
ـ عن عبدا لرحمن بن عجلان قال : بت عند الربيع بن خيثم ـ رحمه الله ـ ذات ليلة فقام يصلي ، فمر بهذه الآية : {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجتر حوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }الجاثية21 ، فمكث ليلته حتى اصبح ما يجاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد .
ـ كان الربيع بن خيثم ـ رحمه الله ـ إذا قام بالليل يصلي تناديه أمه مشقة عليه وتقول له : يا بني ألا تنام ؟ فيقول لها : يا أماه من جن عليه الليل وهو يخاف البيات حق له ألا ينام .
ـ قال عطاء الخراساني ـ رحمه الله ـ تبعت مالك بن دينار ـ رحمه الله ذات ليلة فرأيته لما دخل بيته استقبل القبلة وقام في محرابه وأخذ يصلي ما شاء الله أن يصلي ، ثم أخذ بلحيته وجعل يقول : يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك على النار ، فما زال يرددها حتى طلع الفجر .
هكذا كانوا يعيشون بالطاعات ، يتلذذون بالقربات .
فلله درهم ، من خلق ، أصبحوا حججاً على من جاء بعدهم .
هذا حالهم مع القيام في غير رمضان ، فكيف تظن حالهم في ليالي رمضان ، لقد كانوا يقومون الليالي في رمضان حتى يعتمدون على العصي من طول القيام .
كانوا إذا قرأ القارئ البقرة في ثمان ركعات عدوا ذلك تخفيفاً ، فليت شعري كيف لو رأوا قيامنا وصلاتنا .
كانوا يعظمون رمضان لا يكاد أحدهم يخرج من المسجد يحفظ صيامه ، ولك أن تتخيل زمانهم وزماننا .
كيف كانت شوارعهم وبيوتهم وقت ذاك ، إذ يخشون فساد صيامهم ، فكيف حال شوارعنا وبيوتنا اليوم ؟(10/5)
ولك أن تتخيل كيف كان حال أهل زمانهم وهم قد وصفوا بالصلاح والتقوى وقارن بينهم وبين أهل زمانهم .
لا تعرضن بذكرهم في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
رمضان وكنوزه العظيمة
أحبتي في الله ..
إن شرائع الله كاملة ، فالله شرع الصيام لحكم عظيمة ، وغايات كريمة
من أعظمها: تحقيق العبودية الحقة لله ، فالعبد يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله ، لأن الله أمره بذلك ، وهذا من أعظم الدلائل على الإيمان .
فهو ما ترك هذه الأشياء إلا لعلمه أن الله فرض عليه ويؤمن ايضاأن الله يعوضه خيراً منها في الدنيا والآخرة ، بل انظر على الحديث القدسي :
" ترك طعامه وشرابه من أجلي "
من حكمه: تحقيق التقوى :ـ
وأنعم بها من خلة وأكرم بها من نعمة ، والمتقي عبداً أطاع ربه ومولاه ، وابتعد عن مساخطه وما لا يرضاه ، سعى في تحقيقها ، وجاهد في تحصيلها وما اتقى الله من ترك لنفسه العنان ، لم يلجمها بلجام التقوى ، ولذا قال ? : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس له حاجة أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري
" ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر "
كم هي الثمار عظيمة عندما تتأثر القلوب بالصيام ،فترى الألسنة قد كفت عن الحرام ، وترى الأبصار قد غضت عن الحرمات وترى الأيدي قد حفظت عن الآثام .
كم يتدرب الصائم ويتعلم الإخلاص في رمضان ، ولذا قيل: أعظم الأعمال التي يظهر فيها الإخلاص - الصيام- .
لأن الصائم يخلو وحده لا يراه أحد ، ومع ذلك لا تجرؤ نفسه على الطعام والشراب لعلمه بنظر الله عليه ومراقبته لربه جل وعلا .
استحضر أيها الصائم قول المصطفى ? : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه
فأنت لا تصوم لأن الناس حولك صائمون ، بل صُمْ لن الله فرض عليك الصيام ، واحتسب الأجر والثواب على ذي الجلال والإكرام .(10/6)
من أثر الصيام ما يحدثه التخفيف من الطعام والشراب من صفاء الروح وسمو النفس وعلوها ، ولذا قيل للإمام أحمد : " أيخشع القلب والبدن شبعان ؟ قال : ما أظن ذلك .
فالصائم وقد حبس نفسه عن الطعام والشراب ترفعت نفسه وصفت روحه وشعر بالرقة ، وتنعم بالأنس .
ويضاف إلى التخفيف من الطعام والشراب التقليل من المخالطة للآخرين ، ومن فعل ذلك يرجى له التلذذ بالطاعات والتنعم بالقربات ، ولكننا بأحبتي نصوم من الطعام والشراب نهاراً ونتخم المعدة ليلاً فلا نرى خشوعاً ، ولا نشعر بروحانية الصيام في نفوسنا .
وإذا كان أهل التربية يرون أن المرء يخفف من مخالطة الناس في سائر الأوقات ، فكيف بهذه الأوقات المباركة التي هي كما سماها الله { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } البقرة184 جديراً بالعقل أن يحرص على حفظ وقته بالإكثار من الجلوس في بيت الله .
في الصيام التمرن على ضبط النفس والسيطرة عليها عند النزغات والمثيرات .
وفي الحديث " فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني امرؤ صائم "
في رمضان يتذكر الصائم الفقراء والمحتاجين الذين لا يجدون طعاماً يسد جوعتهم ويروي عطشهم .
كان عمر بن عبدا لعزيز لايشبع وقت خلافته فيقال له : يا أمير المؤمنين: لما لا تشبع ؟ فيقول : حتى لا أنسى الجوعى .
إن المرء إذا شعر بألم الآخرين لا ينساهم ، فالصائم ربما ذاق ألم الجوع فتذكر الجائعين .
فرأف بهم ورحمهم وجعل لهم من ماله حظ ونصيب ، وهذا رسول الله ? أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان " رواه البخاري .
أبواب وقفة محاسبة على الشهر أحبتي في الله ..
لنقف اليوم ونحن على مشارف هذا الشهر المبارك وقفة مصارحة ومحاسبة . لنتذكر حالنا في رمضان الماضي ، هل كلن حال مرضي ، كيف كان حفظنا للصيام ، كيف كان حالنا عند القيام ؟
هل كنا نتلذذ بالصيام نشعر بالأنس والفرح عند ساعات الإفطار .
هل كنت ممن تؤثر السهر الطويل وتتلذذ بكثرة الركوع وطول السجود ؟(10/7)
هل كنت تنتظر صلاة التراويح بفارغ الصبر ، أي الرجلين أنت أخي المبارك :
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } الزمر9 .
هل كنت عند تلاوة الآيات وسماعها كما وصف الله أهل الآيات ؟
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }الزمر23
عن أم سعيد بن علقمه " قالت " كان داود الطائي ـ رحمه الله ـ جاراً لنا ، فكنت اسمع بكاؤه عامة الليل لا يهدأ ، ولربما ترنم في السحر بشيء من القرآن ، فأرى أن جميع نعيم الدنيا قد جمع في ترنيمه تلك الساعة .
كان العبد الصالح داود الطائي ـ رحمه الله ـ يحي الليل بالصلاة والبكاء والمناجاة ، ثم يقعد بحذاء القبلة فيقول : يا سواد لليلة لا تضيء ؟!! ويا بعد سفر لا ينقضي ، ويا خلوتك بي تقول : داود ألم تستح؟!!
قال أبو سلمان الداراني ـ رحمه الله ـ ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة ، أرددها وأطالب نفسي بالعمل فيها ، ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري ، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا والقرآن لا تنقضي عجائبه !!
كان السري السبطي ـ رحمه الله ـ إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل ، ثم دافع ، ثم دافع ، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب .
أوصيك أخي المبارك .. …
أوصيك أختي المباركة ..
أن نجتهد في تحصيل هذه اللذة ، وإذا لم نحصل عليها في أيام وليال رمضان فمتى نحصل عليها ؟
قال بعض السلف:
" مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا ألذ ما فيها ، قيل: ما ألذ ما فيها ؟ قال : الأنس بالله والتلذذ بخطابه والوقوف بين يديه "(10/8)
رمضان فرصة عظيمة لإزالة وحشة قلوبنا .
إذا قمت إلى صلاتك فتذكر عظمة هذا المقام .
وإني أوصيك إذا كنت إماماً أن تعظم هذه المسئولية وتصلي بالناس بخشوع ، وأوصيك إذا كنت مأموماً أن تبحث عما فيه صلاح قلبك ، جاء أناس إلى الإمام فقالوا له: يا إمام هل يجوز للمصلي أن يترك مسجد الحي ويذهب إلى إمام آخر ؟ فقال : أبحث عما فيه صلاح قلبك .
حرك قلبك عند سماع مواعظ الله ، ألم يقل ربنا : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) } يونس 57 ـ 58
ولك في رسول الله ، فها هو يمر على ابن مسعود ومعه صاحبان ، فيستوقفهم ابن مسعود بصوته الندي وترتيله السجي ، فيقف ويسمع وينتظر طويلاً كل ذلك تلذذاً بسماع الآيات .
كم يسعد المرء عندما يرى الجموع المؤمنة تفد على بيوت الله مبكرة تنتظر صلاة التراويح ، كم تسعد العين وهي ترى التنافس على الصفوف الأولى في هذه العبادة ، فأين أنت منهم يا رعاك الله ، ألم تكن الصلاة قرة عين نبيك ؟
فأين هي من قلبك ؟
تذكر حال السلف ، يقول أحدهم والله ما خرجت من صلاة إلا واشتقت إلى ما بعدها .
يا ويح قلوبنا ويا وحشة النفوس ويا بعدها عن مواطن الرحمات .. أيها المبارك .. أيتها المباركة ..
ها هو شهر رمضان حل ، وها هي مواطن الرحمات قربت ، فكيف سيكون حالك مع القيام ؟
كيف كان حالنا مع القرآن الكريم ، ورمضان هو شهر القرآن ، تأمل في حال السلف .
لقد كان السلف يعظمون كلام الله ، ولا يقدمون عليه كلام ، هذا على الدوام ، أما في رمضان فلهم فيه شأن آخر ، كانوا يتركون كتب العلم " أقول كتب العلم " لا جرائد عصرنا وصحف وقتنا ، كم مرة ختمت أخي القرآن في رمضان الماضي ؟(10/9)
كيف كان حال سلفنا الصالح ، كان للشافعي في كل يوم وليلة من رمضان ختمتين .
وقد تقول لي .. ذاك زمان سلف ، وأقول هذه حجة الباطلين الكسالى ، إن في زماننا أيها الأخوة من يختمون القرآن في كل يوم وليلة مرة .
وأعرف رجلاً في جماعة مسجدي يختم في رمضان كل ثلاث ، وقال لي .. لو أن بصري يساعدني لختمت كل يوم ختمه وله تجارته وأعماله..
إذاً حالنا كان مع القرآن في رمضان الماضي لا يسر ، فهل نستمر على ذلك ؟
تذكر أن القرآن شفيعاً لأصحابه يوم القيامة بمنطوق حديث المصطفى ?
" فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه "
ولقد اجتمع لك في رمضان شفيعان كريمان .. القرآن والصيام .
وإن كتاب الله أوثق شافع
وخير جليس لا يمل حديثه
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته
هنالك يهنيه مقيلاً وروضةً
يناشد في إرضائه لحبيبه
فيا أيها القارئ به متمسكا
هنيئاً مرئياً والداك عليهما
فما ظنكم بالنجل عند جزائه
أولو البر والإحسان والصبر والتقى
وأغنى غناءٍ واهباً متفضلا
وترداده يزداد فيه تجملا
من القبر يلقاه سنا متهللا
ومن أجلة في ذروة العز يجتلي
واجدر به سؤالاً إليها موصلا
مُجلاً له في كل حال مبجلا
ملابس أنوار من التاج والحلي
أولئك أهل الله والصفوة الملا
حلاهم بها جاء القرآن مفصلا
وأريدك يا رعاك الله أن تعيش مع القرآن بقلبك وتدبره تدبر الباحث عن النجاة وحسبك أن الله قال : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } الإسراء9
تدبر وأنت تقرأ هذا القرآن نعم أهل الجنة {ياعبادي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ }الزخرف 68(10/10)
تدبر هذا النداء الكريم الذي يطمئن النفوس من هم {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ }الزخرف69 ، ما هي البشارة ؟ " ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ " ثم تنتقل بك الآيات على مشهد آخر ، مشهد العذاب والنكال والخزي {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ }الزخرف74
جمع لهم بين الخلود واليأس من الرحمة ، لماذا دخلوا هنا ، ما الذي أوجب عليهم الدخول { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }النحل118
، ثم اسمع هذه الآية : {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ }الزخرف77 قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ }الزخرف77
ماذا يريدون من مالك خازن النار ؟ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ، يطلبون الموت ، فهل يجابوا ؟ نعم يجابوا ، ولكن بجواب يخلع ما على قلوبهم إلا اليأس ، قال {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }الزخرف78
مرحى أيها المبارك .. مرحى أيتها المباركة ، وأنتم تقربون القرآن ، وعيشوا مع هذه الآيات ، وبهذا نستمتع بالقرآن ، إن كثير منا يقرأ القرآن ولكنه يخرج بشاهد ، ويسمع أغنية ، أين أنت من القرآن ؟
كيف كان حالنا مع الذكر ، كيف كان حالنا مع البر والصلة ، كيف كان حالنا مع الجود والصدقة وتفطير الصائمين ، رمضان موسم للصدقة والإنفاق ألم يكن نبيك أجود الناس .. تشبه به ، هذه كانت حقيقة أحوالنا للسنوات الماضية فهل سنبقى على هذا الحال ؟
لقد كنا دائماً نحدث أنفسنا بانتهاز فرصة رمضان ، فها هو رمضان قادم ، فما عسانا فاعلون ؟ رمضان يطل علينا هلاله بعد أيام ، فأي رمضان يكون رمضانك هذه المرة ؟
* هل هو رمضان المسوفين الكسالى ؟
* أم هو رمضان المسارعين المجدين ؟
* هل هو رمضان الصيام والقيام الحقيقي ؟
* أم هو رمضان صيام العادة وقيام الكسالى ؟(10/11)
* هل هو رمضان الحفظ على الجوارح والأركان؟
* أم هو رمضان الضياع ومشاهدة المسلسلات والأفلام ؟ أيها الأحبة ..
ألم يعتصر في قلب كل مؤمن ومؤمنة يجدون شدته في صدورهم ووطأته على نفوسهم .
انه شبح الإعلام .. نعم الإعلام وبالتحديد الوسائل الإعلامية المرئية التي صارت تكثف جهودها وتحشد جنودها وترص صفوفها من أجل شغل الأوقات الفاضلة في هذا الشهر الكريم .
لقد تسابقت تلك القنوات تسابق غير شريف وتتنافس تنافساً غير كريم لصد الناس عما ينفعهم .
أيعقل ياعقلاء قومي أن يصير هذا الشهر الكريم عند المحرومين شهراً يتضاعف فيه الفسق والعصيان؟
أيعقل أن تتضاعف الجهود من أجل تحويل شهرا تتنزل الرحمات إلى شهر الفن والتمثيل والطيش والسفه؟
نعم والله لقد صار .
ماذا أصاب الناس ؟ وما الذي دهاهم ؟
أزهدوا في الثواب والأجر ؟ أرغبوا في هذه المواسم العظيمة بالسيئات والأوزار ؟
ألم يكفهم ماعليه الناس اليوم من ضعف في الإيمان وكسل
عن الطاعات حتى راحوا يفسدون على الناس موسمهم الكريم ببث أفلام ساقطة ومسلسلات هابطة وفوازير مفسدة ، وأغان ماجنة ، ألا بعد للقائمين عليها وسحقاً وتباً لهم وقبحاً .
إنهم يهاجمون أياماً مباركة .
أيها الصالحون .. إنهم يريدون إفساد ليالينا الفاضلة ، يتسابقون في إقامة المسابقات التي لا يفوز إلا القلة النادرة ، فهل نفتح بيوتنا وقلوبنا وقلوب أبنائنا لهم ؟ لقد أبان الله هدف أهل الهوى والشهوات في آياته البينات فقال : { وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }النساء27
أين ذهب بك عقلك أيها الصائم القائم ؟ يوم تضيع هذا الموسم أمام شاشات ساقطة ومشاهد مخزية ، إني سائلك أخي ومشدد عليك في المسالة فلا يجد نفسك عليّ شيء .
ما الذي تجنيه من الجلوس خلف تلك الشاشات ؟(10/12)
هل تخرج بزيادة الإيمان أم ضعفه ؟ هل تجد من نفسك اندفاعاً لفعل المعروف والتسابق إلى مرضى الرحمن .
فوقوفاً أيها المباركون في وجه ذلك الشر والشبح القاتل والمفسد الخطير .
إن رمضان أيامه قليلة وساعاته تطوى سريعا، وهو والله أكرم أن يضيع في مباح فضلاً عن محرم .
تذكر ذهاب الشهر وانصرام أيامه التي لن تعود عليك إلا بعد عام كامل ، كم يموت فيه من إنسان ، فادعوا من هذا المكان الشريف أن تغلق كل ما يصدك عن ذكر الله ، تفرغ لطاعة ربك ، واجعل رمضان باباً تلج منه إلى الخيرات .
لا تدع لأولئك اللصوص فرصة أن يسرقوا منك أغلى ما تملك وهو هذا الوقت الثمين وقلبك السليم .
رمضان والانطلاقة الكبرى :-
لا زلت أذكر تلك الليلة التي جاءني فيها ذلك الشاب بعد أن انتهينا من صلاة التراويح ، فقال بنشوة وفرح ، أشهد ك أني تائب عائد إلى الله تعالى ...
فقلت له : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدت .
نعم .. أيها الأخوة والأخوات ..
لقد كان رمضان سبب لهداية كثير من الناس تأثرت نفوسهم بالطاعات وخشعت قلوبهم للآيات ، فتغيرت أحوالهم وتبدلت أوصافهم فقربوا بعد البعد ، واجتهدوا بعد الكسل ، انشرحت صدورهم للطاعات بعد أن كانت ضيقة ، وسارعت نفوسهم لمحاب الله بعد أن كانت نافرة ، فكم هي رحمة الله واسعة ، وكم هي أنعم على عباده متوالية .
رمضان فرصة عظيمة لتبديل الأحوال ، رمضان فرصة لمن كان مقصراً في الصلاة أن يحافظ عليها .
رمضان فرصة لمن هجر القرآن أن يعود إلى كتاب ربه .
رمضان فرصة لمن تلبس ببعض المعاصي والمحرمات أن يتركها .
رمضان فرصة لمن كان بينه وبين أحد قطيعة أن يصل من قطع .
رمضان فرصة لمن تكاسل عن بعض النوافل أن يجتهد في فعلها .
أتى رمضان مزرعة العباد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً
فمن زرع الحبوب وما سقاها
لتطهير القلوب من الفساد
وزادك فاتخذه للمعاد
تأوها نادماً يوم الحصاد
جاء رمضان أيها الأحبة ليقول :
يا من طالت غيبته عنا
يا من دامت خسارته(10/13)
قد قرُبت أيام المصالحة
قد أقبلت أيام التجارة الرابحة
يا معرضاً ..يامعرضا
** كم ينادى .. حي على الفلاح وأنت خاسر..
** كم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر ..
** يدعى أهل الاجتهاد فيجيبون. وأنت عن الإجابة نافر ..
** كم وصل الأحباب إلى مولاهم وأنت بقد م البطالة عاثر ..
** فجد أخي هذه مواسم الخيرات فاغتنمها وبادر ..
** وهذا إبَّان الزرع فهل للخير أنت بادر ؟ .
** هذا شهر رجوع النفوس الآبقة ..
** وهذا شهر صيانة النفوس عن المآثم اللاحقة ..
** هذا شهر اغتنام الخيرات والمسابقة ..
** فطوبى لمن تلقاه في توبة صادقة ..
** وشمر إلى فضائله بعزيمة واثقة .
نادي ربك أيها المسكين وقل ..
يا رب .. إن عظمت ذنوبي كثرة
إن كان لا يرجوك إلا محسناً
أدعوك يا ربي كما أمرت تضرعاً
ما لي إليك وسيلة إلا الدعاء
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
فبمن يلوذ ويستجير المجرم
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ؟
وجميل عفوك ثم إني مسلم
يا مضيع الزمان فيما ينقص الإيمان .. رمضان يناديك .
يا معرضاً عن الأرباح متعرضاً للحسرات .. رمضان يناديك
متى تنتبه من رقادك أيها الوسنان ؟ ، متى تفيق لنفسك أيها الكسلان ، أما ترى قوافل العائدين ، ألا تكرى تهجد المتهجدين ؟ ، وتسمع تلاوة التالين . ، وأنين المذنبين ، واستغفار المستغفرين ، أما في قلبك حياة لتغتنم مواسم الخيرات ؟ ، أوليس عندك همة لتبادر قبل الممات ؟ .
أحبتي .. تذكروا من صاموا معنا في الأعوام الماضية وقاموا .. أين هم الآن ؟ إنهم في لحود الأرض قد غيبوا ، وعن الأعمال قد منعوا ، كل واحد منهم قد أمّل أن يعيش حتى يدرك رمضان ، ولكن عمره انقضى ، فتذكر نعمة اله عليك إذ أبقاك وبعدهم ، وتركك ، وأخذهم .
قُل للمفرط يستعد
قد أخلق الدهر الشباب
أو ما يخاف أخو المعا
يوماً يعاين موقفا
فإلام يشتغل الفتى
يا من يؤمل أن يقيم به
وتروح داعية المنون
يختال في ثوب النعيـ
والعمر يقصر كل يوم
ما من ورد الموت بدُّ(10/14)
وما مضى لا يستردُّ
صي من له البطش الأشدُّ
فيه خطوب لا تحدُّ
في لهوه والأمر جدُّ
وحادي الموت يحدُّ
على مؤ ملها وتغدو
ـم ودونه قبر ولحدُّ
ثم في الآمال مدُّ
أخي ..
إن بقاؤك حتى تدرك رمضان نعمة ، فكيف تقابلها ؟ وإن اتعاظك بقبرك حجة ، فكيف تنصرف عنها ؟
إلام تغر بالأمل الطويل
فدع عنك التعلل بالأماني
أتأمل أن تدوم على الليالي
وما زالت بنات الدهر تغني
وليس على الإقامة من سبيل
فما بعد المشيب سوى الرحيل
وكم أفنين قبلك من خليل
من الأيام جيلاً بعد جيل
??
??
??
??
19(10/15)