" عرب بعيون زرقاء "
خالد بن ثامر السبيعي
مكتبة مشكاة الإسلامية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين و بعد
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون "
فقد احترت كثيراً في حال أمتنا العربية و الإسلامية ، و تساءلتُ مرارا ما سر هذا التخلف الذي نعيشه ؟ و ما سبب السقوط المتوالي لأمة كانت من خير الأمم ؟! و لماذا هذا التآكل بعد ما كنا نظن أننا نسير نحو التكامل ؟!
أسئلة جريحة ،، ربما تكون خيرًا من إجابات مموهة حتى لو كانت مريحة ، و العبرة في النهاية هل وصلنا إلى تشخيص الداء حقيقة حتى نسلك طريق الدواء ؟ أم أننا نسير على خطى من قبلنا في التوصيف بدون أن نحرر العقل من التبعية و التقليد ( بدون تجاوز لنصوص الشرع المطهر ) ؟
فهل نقدح زناد الفكر من جديد لإضافة نوعية تسهم في إصلاح واقع أمتنا العربية و الإسلامية
من أجل هذه الهموم و التساؤلات كان هذا الكتاب ( عرب بعيون زرقاء) و هو كتاب :
- يحكي واقع أمتنا العربية و مدى تأثرها بالحضارة الغربية الوافدة و تنكبها الطريق ، و من ثم سيرها الحثيث نحو سراب التقدم و الحضارة بمعطيات وهمية لا طائل من ورائها
- ثم عودة الفكر التغريبي بصورة جديدة و بثوب جديد لاقتحام واقعنا العربي و الإسلامي بعد فشل متكرر مهين
- و قد أفردت مقاطع من شهادات و اعترافات المثقفين العرب التي تثبت فشل المشروع الليبرالي الغربي رغم توافر عوامل التغريب و وسائله المتنوعة و المدعومة
- ثم تعرضت لظواهر غريبة في واقعنا العربي .. كإسلاميات بعض المثقفين و ظاهرة الانشقاق عند بعض الإسلاميين.. و بروز الفن الساقط في عالمنا العربي كوسيلة إصلاح
- ثم الكشف عن ظاهرة الاختباء وراء شعارات متعددة و براقة للوصول إلى تأكيد الذات و تقديمها(1/1)
- و أشرت في ثنايا البحث إلى المعركة القديمة الجديدة بين الإسلاميين و العروبيين ،،، و هل يمكن تجسير الفجوة بين العروبة و الإسلام
- ثم ختمت برؤية و مشاركة حول إصلاح واقعنا العربي و الإسلامي من خلال كلام بعض العلماء و مشاركة بعض المثقفين في باقة ممزوجة بالحب و الشفقة على أمتنا الجريحة
و قبل الشروع في فصول هذا الكتاب أحب أن أوضح للقارئ ألا يحكم على الكتاب من عنوانه ، بل عليه أن يقرأ محتواه ، فإن النقد و التوصيف للوصول إلى واقع مشرق لا يلزم أن يخالطه قسوة أو إقصاء أو دعوة بالهلاك على المخالف ، و أسأل الله أن يجعلنا من دعاة الإصلاح والخير على منهج محمد - صلى الله عليه و سلم -
خالد بن ثامر السبيعي
التاسع من رمضان عام 1428للهجرة النبوية الشريفة
يا عرب هل فقدنا الذاكرة ؟!
ماذا دهانا يا عرب ، هل فقدنا الذاكرة ؟! ماذا أصاب عقولنا حتى نسينا تاريخنا المجيد ؟
أفيقوا يا عرب من غفلتكم التي تزامنت مع هدير الحضارة الغربية .
اقرأوا التاريخ ، بل واسألوا الخصوم يخبرونكم أن العرب قبل الإسلام كانوا عالة على الأمم ، و لا أريد الخوض في حالة العرب قبل محمد صلى الله عليه وسلم و ما كانوا عليه من حياة بهيمية في عمومها ، ولسنا في حاجة لذلك أصلا فقد أريق في ذلك حبر كثير و سودت الصفحات به .*
إننا ما عرفنا النور إلا بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم نذق طعم السؤدد إلا بعد الإسلام.
لا أدري كيف غابت عنا الحقائق حتى أنكرنا عزنا ومجدنا ؟!
هل يُعقل أنّا أغلقنا ملف المدافعة وأعلنا الاستسلام والتبعية استجابة لنظرية فوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ" ؟!
راجع " الرحيق المختوم " للمباركفوري
العرب هم مادة الإسلام(1/2)
إن مصطلح " العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام " أصبح قاعدة صلبة يتم الوقوف عليها بكل اطمئنان عند الحوار مع كل متنكر لتاريخه ومنهجه . و في ظني أنها علاقة جلية واضحة لكل أحد ، وقد يرى البعض أننا لا نحتاج إلى إشارة عابرة في هذا الأمر و لا إلى زيادة في التنظير، ولكن الحق أن أهمية هذا المصطلح تكمن في إعادته لكل مناقش ومحاور ومتنكر إلى خط البداية الناصع الذي شهد به الأعداء قبل الأصدقاء .
و ما أجمل ما سطره محمد جابر الأنصاري في كتبه حول هذه العلاقة . لقد أجاد وأفاد - بارك الله فيه - في تسليط الضوء على عمق هذه العلاقة التي أراد البعض فصلها وبترها بالكلية .
إن مشكلتنا – نحن العرب – أحيانًا تكمن في تجاهل التاريخ والإغراق في الحاضر ، ولأن حاضرنا لا يتناسب مع تاريخنا ، ولأننا جنس عربي يعشق الطموح والتحدي ، إذًا فلابد من تقبل الحاضر حتى لو كان ملوثًا أو ممسوخًا ما دام أنه يحقق لنا توهجًا ومحاكاة لمن غلبنا .
فكما قبلت تركيا يوم أن تنكرت لإسلامها وعزها أن تتحول من أول الشرق لتستجدي العالم المتحضر حتى تكون آخر الغرب ، فكذا كثير من المتنكرين لدينهم وتاريخهم لا يضره أن يكون تابعًا بليدًا يحمل أفكار الغرب ويستعرض بها ، ثم تجده لا يضيف لأمته ووطنه ولا حتى صفرًا ، ثم بعد ذلك يتوهم أنه فاتح ومجدد بمجرد أن يرطن بكلمة إنجليزية أو يستشهد بكتابات هنتجتون ومسرحيات شكسبير ويترنم بعد ذلك بأنغام بيتهوفن .
يا عرب : لا مفر من الحقيقة الناصعة الدامغة : " العرب هم مادة الإسلام "
هل نسيتم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ( إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا ) ، ألا يكفي هذا التشريف من رب العالمين بأن أنزل آخر الكتب السماوية بلسانكم يا عرب ؟ فمن هو الذي أحق بالطاعة والانقياد ؟(1/3)
ثم ألم يرسل الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي لحمل خاتم الرسالات وتبليغها للعالمين ؟ فمن هو الذي أولى بالاتباع يا عرب ، محمد صلى الله عليه وسلم أم المناهج والفلسفات الوضعية التي ما جرّت إلا الويلات على البشرية ؟
من هو الجيل الذي نصر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقام العدل في الدنيا وقضى على الأكاسرة ، وقصم ظهور القياصرة ، ونشر النور في أرجاء الدنيا أليسوا المهاجرين والأنصار ( تاج رؤوس العرب ) رضي الله عنهم وأرضاهم ؟
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مخاطبًا من يريد أن يجرد العربية من الإسلام : " وماذا يبقى له من العربية إذا لم يكن فيها محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه وأتباعه الذين فتحوا الأرض ، وشادوا المدائن ، وأقاموا هذه الحضارة ، وإذا لم يكن فيها القرآن الذي وضع هذه العلوم كلها . ما الذي يبقى من العربية إن لم يكن فيها محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ؟
هل تبقى إلا المعلقات وبطولات حرب البسوس التي لم تزد على ( خناقة ) في حي ، وموقعة ذي قار التي طار العرب فرحًا بها ، حين غلبوا فيها فصيلة جند كسرى " .
ثم يقول : " إن غير المسلمين من القوميين لا ينكرون إن الذي أخذ بيد العرب حتى دلهم على طريق المجد ، وسلك بهم مسالك الفتح ، ووضع في رؤوسهم فكر العالم ، وبين أصابعهم قلم الكاتب ، وألبسهم تاج السيادة في الدنيا ، وأقعدهم مقعد الأستاذية من البشر جميعًا هو محمد صلى الله عليه وسلم " 1
و إلى هذا المعنى أيضا أشار المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في قوله :
" فإني أدعوا القارئ الكريم لينظر إلى أبحاث هذا الكتاب كأبعاد ونوافذ تطل على ساحة العلاقة العضوية الرحبة بين الإسلام والعروبة دون أن يعتبرها أقفاصًا حديدية تحبس جذور تلك العلاقة بداخلها " 2(1/4)
ثم يشير إلى مفهوم مهم ، حيث يؤكد عمق العلاقة بين العروبة والإسلام : "والواقع أن العروبة ما كان لها أن تنتشر كل هذا الانتشار في أقطار الوطن العربي بامتداده الحالي وتنجح في ( تعريب ) كل هذه المناطق الشاسعة ، لو لم تستلهم روح الإسلام ، وتنضبط بضوابطه وتبتعد عن محاذير الاستعلاء العنصري" 3
و للرافعي كلام نفيس في هذا المعنى ، فهو يقول : "والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان : الدين الإسلامي ، واللغة العربية " 4 و بذلك يتضح لنا اتفاق العقلاء على تأكيد هذه الحقيقة ( أن العرب هم مادة الإسلام ) وعلاقتهما العضوية الأبدية ، ولا يجحد هذا الأمر إلا قليل علم و ضيق أفق أو مكابر، أما الأول فعليه بالتثقف و الاطلاع وأما الثاني فلا بد من محاورته بالحجة والبرهان تنويرا للعقل العربي المسلم بارتباط العروبة و الإسلام لتحقيق النجاح على مستوى الدين و المجتمع في عالمنا العربي و المسلم كما كان متحققاً في عصر الرسول صلى الله عليه و سلم و الخلافة الراشدة من بعده .
طلائع البعث التغريبي(1/5)
بدأت قصة التغريب عند العرب أثناء ضعف الخلافة العثمانية وبعد سقوطها؛ فالخلافة العثمانية كانت هي المرجعية للأمة الإسلامية ، ولكنها لم تحمل في سياساتها عوامل البقاء ولم تستعد لمعركة الحضارة الجديدة التي حشدت لها أوروبا عقول وطاقات عبر السنين . ظهرت القومية العربية كنبتة جديدة مقاومة للقومية التركية ، ثم توالت الأفكار التغريبية في ظل الفراغ الروحي والحضاري الذي بسط رواقه في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي ، مما فسح المجال لأعداء الدين أن يفترسوا بعض العقول العربية ولم يكتفوا بتلويثها وإفسادها بل جندوها لصالح المشروع الغربي الليبرالي . …… فعادت هذه العقول الملوثة لكي تستهدف مبادئ الأمة وقيمها الأصلية باسم الحضارة والحرية ، ومحاكاة للعصر ، فضلوا وأضلوا ، وأوهنوا عزم الأمة ، وكل ذلك في مصلحة أعداء العرب و المسلمين .
رموز التغريب
أما رموز التغريب فقد ظهروا في المرحلة التي ذكرناها آنفًا ( ضعف الخلافة وسقوطها ) بدعم و رعاية من الغرب ومن عملائهم في الشرق العربي ومن أبرزهم رفاعة الطهطاوي .
رفاعة الطهطاوي
" فقد سافر الطهطاوي إلى فرنسا وصورها بإعجاب وانفتاح في كتابه ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) رغم ما كانت تحفل به من ثورات في ذلك الوقت " 5
ولعله من الطريف تأمل عنوان الكتاب الذي يحمل أسلوب السجع في كتب التراث ، لكنه في نفس الوقت يتحدث عن إعجابه بفرنسا وتمجيده لحضارتها .
ومما يجدر ذكره أن دعوة الطهطاوي كانت من أوائل الدعوات النهضوية (زعموا) ، لكنها لم تجد لها قبولاً ورواجًا بسبب قرب عهد الأمة بتاريخها وتراثها الأصيل ، ولكنها لا شك مهدت لجيل آخر من رموز التغريب لكي يواصلوا السير نحو الانسلاخ والتبعية والتحرير ، وكان منهم :
قاسم أمين(1/6)
" شاب نشأ في أسرة تركية مصرية أي محافظة فيه ذكاء غير عادي حصل على ليسانس الحقوق الفرنسية من القاهرة وهو في سن العشرين بينما كان هناك في عصره من يحصل على الشهادة الابتدائية في سن الخامسة والعشرين .
ومن هناك التقطه الذين يبحثون عن الكفاءات النادرة والعبقريات الفذة ليفسدوها ، ويفسدوا الأمة من ورائها ، التقطوه وابتعثوه إلى فرنسا .. لأمر يراد " 6 . لقد أطال أمين الغيبة ، وأتانا بالخيبة . فيا ليته حين تغرب جاء بمخترعات أو بمنهج حضاري علمي لمواكبة أوروبا في تقدمها ، لكنه جاء بالقضية الكبرى التي ملكت عليه حياته وأصبحت شعارًا له إلى الأبد إنها ( تحرير المرأة ) .
قال عن كتابه ( تحرير المرأة ) : " إن هذا التحرير لن ينتج عنه إلا الخير، لن تنشأ عنه العلاقات الدنسة ( التي رآها بعينه في المجتمع الفرنسي ) ، إنما سينشأ عنه تقوية أواصر المجتمع وربطها برباط متين . " 7 هكذا زعم ، وقد خاب وخسر ، بل تبين فساد هذه المزاعم بعد ذلك ، فقد تلقفت هدى هانم شعراوي هذه الأفكار لتكمل المسيرة ، حيث سافرت إلى فرنسا لتتعلم . سافرت وهي محجبة وعادت وهي سافرة ، ثم بدأت رحلة خلع الحجاب والسفور التي أكملتها صفية هانم زغلول ، زوجة سعد زغلول ، حيث خلعت الحجاب بعد مظاهرة ضد الإنجليز مع نساء أخريات وسكبن عليه البترول وأشعلن فيه النار ، وكان ذلك في ميدان الإسماعيلية ، الذي سُمي بعد ذلك ميدان التحرير . " 8
وأخيرًا تحررت المرأة ، وخلعت الحجاب ، وتوالت فصول المسرحية ، ولم نتقدم خطوة نحو الحضارة ، وما أخذنا من الغرب إلا قيمه الهابطة ، وممارساته الساقطة .
ثم جاء طه حسين بفكر جديد ليكمل المسيرة .
ـ طه حسين
لقد كان طه حسين ظاهرة في عالمنا العربي ، فهو الأزهري الذي عشق فرنسا بعد زيارتها والدراسة هناك . و كما ذكر مُقدِم كتاب ( المعذبون في الأرض لطه حسين ) :(1/7)
" أُرسل إلى فرنسا على نفقة الجامعة فالتحق أولاً بجامعة مونبيليه ثم السوربون في باريس حيث حصل على الدكتوراه عام 1918 ببحث كتب عنوانه " ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية " تزوج عام 1917 فتاة فرنسية هي الآنسة سوزان فكانت ملاكه الحارس حتى آخر أيام حياته " 9
" تبنى منهج ديكارت وهو الذي قاده إلى وضع كتابه ( في الشعر الجاهلي ) الذي أحدث ضجة كبرى " 10
لقد كانت أطروحات طه حسين مثيرة للجدل ، ليس لأن واقعنا العربي والإسلامي يحاصر المبدعين كما يزعم أصحاب العقول الملوثة ، ولكن بسبب أن طه حسين لم يولد في باريس ، ولم ينشأ في برلين ، بل كان عربيا مسلما وُلد من أبوين مسلمين ودرس في الأزهر وحفظ القرآن ، ثم صادر كل ذلك ليعود إلى الأمة من باريس بعيون زرقاء .
عاد بلسان عربي ، وفكر أوروبي ، فبدأ بنشر ثقافة تحاول تغيير مسار الأمة العربية عن تاريخها الإسلامي وعمقها العربي إلى امتداد غربي أوروبي ليبرالي . هكذا بدم بارد ، وفكر ملوث لأن حضرة الأديب أُعجب بفرنسا ، وهام حبًا بالحضارة الغربية ، فوا أسفا على العقول العربية التي يتلاعب بها أمثال هؤلاء الممسوخين .
" إن طه حسين حينما أصدر كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) كان يطالب بتحويل حلم الخديوي إسماعيل – بجعل مصر قطعة من فرنسا ـ إلى حقيقة " 11
إذاً كان شعاره واضحًا في جعل مصر تعبر البحر المتوسط إلى أوروبا ، وأن يتخلى العرب عن الإسلام ويتوجهوا نحو العلمانية .
" إلا أنها تبقى ظاهرة لافتة للنظر أن يؤكد المفكران المسيحيان عفلق وزريق ارتباط الإسلام بالعروبة – ماضيًا وحاضرًا وبالنسبة لعفلق مستقبلاً – بينما اتجه المفكران المسلمان قبلهما ، طه حسين وساطع حصري ، إلى التقليل من دور الإسلام في رؤيتهما للحقيقة القومية إلى حد المناداة بالعلمانية الصريحة " 12(1/8)
ثم توالت الروافد التغريبية ، والأفكار التقدمية ـ كما يزعمون ـ من ليبرالية واشتراكية وغيرها ، التي كانت تهدف إلى سلخ الأمة من دينها وعروبتها .
" وقد وصل الأمر إلى استخدام " الدراما " أداة خبيثة لتحقيق هذه الأهداف فقد ساهم نجيب الريحاني الصليبي في الاستهانة باللغة العربية من خلال فلمه ( غزل البنات) وبمدرس اللغة العربية الذي صوره يائسًا بائسًا تبعث كل مواقفه على السخرية ولا يثير الاحترام عند أحد " 13
" وفي التاريخ مارسَ جورجي زيدان اللبناني المسيحي تزييف الحقائق والتاريخ من خلال القصص والروايات التي كانت محط أنظار القراء في وقته ، وكان الناس يترقبون رواياته بشغف " 14
وفي عالم الأدب ساهم الحداثيون في أدبهم ( اللامعقول ) في زيادة الهم والغم فنقلوا إلينا أدب الألغاز والغموض في تبعية فجة ما زادت الأمة العربية إلا جدلاً وخلافًا .
وما زال المد التغريبي يتجدد في كل زمان بأشكال وصور متعددة فمن رفاعة الطهطاوي و قاسم أمين إلى طه حسين إلى ساطع حصري إلى أفراخ الليبراليين ، حتى هذه اللحظة ، لكنهم لم يقدموا للأمة شيئًا ولم يضعوا لبنة في بناء حضارة متماسكة .
كل الذين جاءوا من الغرب وأُعجبوا بنظامه وأفكاره لم يأتوا بمشروع حضاري لنهضة الأمة ، وإنما أتوا بأفكار الغرب وأخلاقه ( باسم الحرية والديمقراطية ) يا ليتهم جاءوا باختراعات وصناعات ، إنهم وللأسف لم يستطيعوا أن يصنعوا ولا حتى إبرة ، ربما نستفيد منها في نسج غطاء لهم يستر سوأة أفكارهم ، وفضيحة انتماءاتهم . إن مما أضافوه لأمتنا العربية بلاء وفساد ، وإثارة للفتن ، والشبهات حتى أصبح هم بعض شبابنا أن يتمتع بصورة فتاة جميلة عبر الإعلام أو ينام على أنغام أغنية ماجنة .
بل أصبح بعضهم عميلاً لدول متربصة فهو يتلقى تعليمات أسياده من سفاراتهم .
و أصبح الحال كما قال معروف الرصافي بنبرة صريحة ناقدة :
" وإذا تسأل عما هو في بغداد كائن(1/9)
فهو حكم مشرقي الضرع ، غربي الملابن
وطني الاسم ، لكن انكليزي الشناشن
قد ملكنا كل شيء نحن في الظاهر لكن
نحن في الباطن لا نملك تحريكًا لساكن " 15
اعترافات و آراء المثقفين العرب ، و (العودة للجذور)
و ها نحن اليوم نخرج من المولد بلا حمص ! كما يقال ، إننا بعد عقود من الزمن لم نتقدم خطوة نحو الحضارة المنشودة بل ازداد عالمنا العربي تفرقاً وتشرذماً ، وانهارت كثير من الشعارات الوافدة إلى عالمنا العربي بعد سقوط رؤوسها في العالم وفشلت كل محاولات التغريب بعدما أدرك الكثير صعوبة إندماجه في واقعنا العربي .
وعاد كثير ممن مجّد الغرب ، وساهم في تلميعه إلى حقيقة خصوصية بلاد العرب ، وكُتبت الشهادات و الاعترافات الصريحة بفشل المشروع الليبرالي الغربي ، وعَلِمَ أولئك أن الإسلام والعروبة لا ينفصلان أبداً .
وإن كان هناك أفراخ للفكر التغريبي ما يزالون يتوالدون في كل حقبة من الزمن إلا أن هؤلاء الموتورين لم يستفيدوا من التاريخ ، ولم يستوعبوا المقولة المشهورة من عالم أوروبي : ( إن من الغباء أن تستخدم نفس الطريقة ، وتتوقع نتائج مختلفة ) .
و لعلي أسوق للقارئ الكريم بعض الاعترافات والشهادات من المثقفين العرب :
هيكل يعلن العودة إلى الجذور
" وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية ، وحياته الروحية لنتخذها جميعاً هدى ونبراساً . لكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته ، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه " .
وقال : " لقد أنسانا بريق حضارات الغرب ما تنطوي هذه الفكرة القومية عليه من جراثيم فتاكة بالحضارة التي تقوم على أساسها وحدها "(1/10)
وقال : " ومحمد بن عبدالله هو النور الأول الذي استمدت هذه الأرواح منه ضياءها ، وهو الشمس الذي أمدت كل هذه الأقمار بسناها ، لذلك جعلت سيرته موضع دراستي في "منزل الوحي" مصدر الهامي لما تنطوي عليه من تعاليم أوحاها الله كلها السمو والقوة والجلال والعظمة " . 16
طه حسين يبدي خيبة أمل في ليبرالية أوربا :
" يظهر طه حسين في كتابه ( المعذبون في الأرض ) مبتعداً عن موقفه القبولي المتفائل بليبرالية أوربا التي طرحها بقوة في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " ويسجل خيبة أمل كبرى في مستوى العدالة الاجتماعية التي حققها ذلك النظام" 17
د. محمد جابر الأنصاري يرصد الانتحار ، ذلك الوافد الجديد إلى الحياة العربية :
يرصد د. الأنصاري ظاهرة خطيرة وفدت إلى أمتنا العربية ، فقد ذكر تحت عنوان ( الانتحار .. ذلك الوافد الجديد إلى الحياة العربية ) مقطعاً عن هذه الظاهرة التي بدأت مؤشراتها ـ كما ذكر ـ بعد هزيمة حزيران (1967م ) بقليل .
" وسواء كان انتحار المشير عبد الحكيم عامر انتحاراً أم " نحراً " فإن تأطير رحيله بهذا الإطار الانتحاري يؤشر إلى أن هاجس الانتحار على ندرته في التقاليد العربية وكونه محرماً إسلامياً قد صار فكرة قابلة للطرح والتوقع في أعقاب تلك الهزيمة بجراحاتها الغائرة في أحشاء النفسية العربية إلى يومنا هذا ، خاصة بعدما تكشفت عنه الأوضاع العربية من تراجعات وإخفاقات تتعدى البعد العسكري والسياسي لتلك الهزيمة القومية الكبرى لتصل إلى أعماق أبعد غوراً في النفس العربية والتكوين الجمعي العربي" 18
إذاً هل يمكننا القول أن المخرجات الخطيرة في واقعنا العربي تعطي تصوراً عن الإضافات المتراكمة عبر السنين للمثقفين العرب .
إن أمة تنهار إلى الهاوية وتلجأ إلى الانتحار كأحد الحلول المطروحة ، لا شك أن مدخلاتها الثقافية ليست من صميم قيمها ومبادئها .(1/11)
إن امتزاج ثقافة الإنسان العربي بجذوره الإسلامية الأصيلة تمنحه راحة وطمأنينة ، وتسليم بكل ما قضى الله وقدر . فهل ظاهرة الانتحار بأنواعه دلالة على عقوبة دنيوية ؛ بسبب القطيعة بين العروبة والإسلام.
د. غازي القصيبي ( من شقة الحرية إلى العصفورية ، تساؤلات وإشارات )
د. غازي القصيبي عاش فترة زمنية عاصر فيها التوجهات التي ظهرت في واقع الأمة العربية التي أخذت بمجامع القلوب كمخرج ومتنفس للأمة في مقاومة الاستعمار والأعداء .
ففي روايته الشهيرة شقة الحرية يورد تساؤلات كثيرة في ثنايا الرواية عن جدوى هذه الأفكار والأحزاب في إنقاذ الواقع العربي مما هو فيه ليصل في النهاية إلى حقيقة ماثلة أمام العيان ويصدقها الواقع ( لا يوجد أي جديد ! )
حيث يظهر في نهاية الرواية بطلها وهو يبكي " فيُسأل لماذا تبكي يا فؤاد ؟ : لا يرد . بصمت ، يخرج فؤاد من جيبه الورقة التي تحتوي على أسماء القوميين العرب في أمريكا ويمزقها ، ويضع البقايا في منفضة السجائر " 19
وفي روايته الرائعة ( العصفورية ) ـ التي كان البطل فيها " المعلوماتية " على حد تعبير الروائي السعودي عبده خال ـ يعطي د. القصيبي إشارات واضحة إلى الواقع العربي في الآونة الأخيرة بأسلوب ساخر ماتع . هذه الإشارات تضع القارئ العربي أمام الحقيقة ذاتها التي بدأها في شقة الحرية ، ولكن بعد سلسلة من الأحداث والتطورات الكبرى على مستوى العالم ( لا جديد ) ، بل الواقع يزداد سوءاً .
وقد عبر ربيع جابر في ظهر الرواية بقوله " قصة مليئة بالخيال ومشبعة بالرموز ، رموز سياسية في غالبيتها يُراد منها رسم صورة العربستان و تفكك الوطن العربي " .
ثم ذكر محمد محفوظ رأيه في الرواية فقال : " يُعبِر عن قضية محددة بشكل صارم وهي هزيمة المحاولات العربية في معركتها الأخيرة مع الحضارة الغربية " .
و عن العصفورية يقول المفكر محمد جابر الأنصاري تحت عنوان(1/12)
" العقل العربي في (عصفورية) القصيبي شهادة تختصر مرحلة "
" إن عصفورية القصيبي تمثل ( منفستو ) ثقافة المراجعة العربية بين صدمة هزيمة 1967 م و مستجدات نهاية القرن ، بكل ما اعتراها من نقد ذاتي ، و تعمق و (جنون) ورغبة في التعزي الفكري و السيكولوجي و السياسي إلى أبعد الأعماق "
…" عصفورية القصيبي خير معبّر – فنيا و فكريا و نفسيا – عن مناخ الحقبة و مزاجها ، فإني أعتقد على الصعيد العام ، إنه لم يُكتب في الأدب العالمي ، فيما أعلم ، كتاب جاد و فاجع يثير الضحك إلى هذا الحد !!! "20
وفي ديوانه ( يا فدى ناظريك ) :
يسجل د. القصيبي اعترافاً في قصيدته الساخرة ( فياجرا) حول الضعف الذي تمر به الأمة العربية والإسلامية ، ويتمنى اكتشاف اختراع أو علاج يعيد للأمة الهيبة من جديد ، كما قضت الفياجرا على مواجع الكهولة ، وأيقظت الفحولة !!
يا سيدي المخترع العظيم !
يا باعث الفرحة
في المخادع المهجورة
ومُرسلَ الرعشة
في الأضالع المنخورة
يا من أثرتَ في المحيط والخليج
يا من رفعت الراية الجنسية المنصورة
يا سيدي المخترع العظيم !
هذا رجاءُ شاعرِ
ينوحُ
لا على شباب سيفه
لكن على أمته القتيله
يا سيدي المخترع العظيم !
يا من صنع بلسماً
قضى على مواجع الكهولة
وأيقظ الفحولة
أما لديك بلسمُ
يعيدُ في أمّتنا الرجولة ؟! 21
د. راشد المبارك : الثقافة العربية مرفأ للاستيراد لا التصدير
أشار د. المبارك إلى جمود الفكر العربي حيث قال : " لقد كف العقل العربي والمسلم عن إمداد ذلك النهر الذي كان له تدفق في عهد مضى ، لقد صارت الثقافة العربية والفكر العربي والمسلم مرفأ للاستيراد لا التصدير وسوقاً للاستقبال لا للإرسال ؛ إننا نستقبل حتى ما يتعلق بصناعة الكلام ومذاهبه ، والنقد وأساليبه وصار أعلانا مكانةً في هذا المجال من يكون وساطة نقل أو أنبوبة توصيل لما ينتجه سوانا .(1/13)
الرومانسية والواقعية والبنيوية والتفكيكية والتناحس والحداثة وما بعد الحداثة ، سلع مستوردة كتب عليها
( صنع في الخارج ) فإذا كان ذلك في مجال صناعة الكلام وهو المجال الذي عرفنا بالتفوق فيه والإجادة له في تاريخنا الطويل ـ أو هكذا أقنعنا أنفسنا ـ فكم هي مذهلة تلك المسافة الفاصلة بيننا وبين أن نكون السابقين لوضع معادلة الحركة لمركبة فضاء أو قمر يدور حول الأرض أو غيرها من الأجرام" . 22
أدب اللامعقول .. هل يتفق وإيقاظ العقل العربي ؟
إلى أولئك الذين ذهبوا بعيداً عن ميدان الأصالة العربية في الأدب ، ونزحوا إلى الغرب في أطروحاتهم وزعموا أن ذلك حداثة وتجديد ، وأن ماضي الأمة العربية حتماً لا يفيد ، نقول لهم هل ( أدب اللامعقول مؤهل لإيقاظ العقل العربي ) هذا ما سطره د. الأنصاري في كتابه الرائع ( تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها) الذي أثار عاصفة من الجدل على امتداد الوطن العربي عند صدوره.
" قارئنا العربي لا يقرأ الأدب الواضح السهل الميسور ، وبعض أدبائنا الشباب هداهم الله يريدون تعويده على القراءة وتحبيبه إلى الأدب بهذه الكتابات السيريالية الغامضة العسيرة والتي تسبب ضيقاً في النفس وعسراً في الهضم ووجعاً في الأسنان وفي القلب لأشد القراء إدماناً على القراءة ، وأكثرهم غراماً بها وأقواهم حماسة لمزاياها وفضائلها !(1/14)
وكأن الوضع الأدبي الفكري قد بلغ الكمال ولم يبق إلا تزييفه وتطييبه ببعض العطور الغربية الغامضة المستوردة من معاطر باريس عبر بعض الوكالات الأدبية في بيروت ومنها إلى قارئنا المسكين الذي أفقدناه الثقة في فهمه لأننا عودناه على قراءة ما لا يفهم ولا يهضم ولا يعرف له رأس من ذيل .. علماً أن بعض القراء عندنا يعودون إلى مرحلة الأمية بعد أن يتركوا المدرسة لأسباب تلفزيونية وكروية وتفحيطية ومناخية (نسبة إلى سوق المناخ ) وبعضهم الآخر خارج لتوه من حملة محو الأمية ويريد أن يقرأ كلاماً واضحاً ميسوراً في الحياة والعلم والمدنية يريد الغباء المعرفة والتذوق الأدبي. فتقدم للمسكين ذلك على طبق من نقوش أدونيس الهيروغليفية في ( التحولات والهجرة بين أقاليم الليل والنهار ) أو رسوم أنسي الحاج على الماء ( في ماضي الأيام الآتية) هبوطاً ( إلى أنف وثلاثة عيون ) ، حتى يخرج القارئ المسكين من هذه الحفلة التنكرية كلها بلا أنف ولا عين ! فلا يشم بأنفه رائحة الفن ولا يرى بعينه أعماق الأدب ، ولا ينال من ذلك كله إلا شهادتنا له بأنه قارئ مهمل سطحي ملول كسول وهو كذلك !
ولكن له بعض العذر على الأقل ، طالما أنه محاصر بهذه النماذج الأدبية السريالية المبهمة التي لا تؤمن بفضيلة الوضوح في أي درجة من درجاتها وأي مستوى من مستوياتها. "23
و ها هو المفكر محمد جابر الأنصاري يعترف من جديد بقوله " الليبرالية العربية مصيرها الفشل إذا واصلت استفزاز الناس في إيمانهم " 24
ظواهر وتغيرات في العقل العربي
ظاهرة الإسلاميات :
يقرر د. الأنصاري ظاهرة مهمة لدى الجيل العربي فيقول :
" يعود كل جيل عربي في نهاية المطاف إلى الإسلام بعد أن يمر بمناخات أخرى. هذه (ظاهرة) جديرة بالدراسة ، ولا يكفي أن نقول إن المسألة نقص في الشجاعة الأدبية أو عدم إستعداد للتطور" 25.(1/15)
هذه الظاهرة لعلها دليل قاطع على فشل المشروع الغربي الليبرالي ، وأن العودة للإسلاميات عند الكتّاب العرب ، هو الملاذ الآمن للحفاظ على الهوية العربية في مقابل هجمات المعسكر المعادي والمتربص .
فطه حسين كتب ( على هامش السيرة ) وأحمد أمين ( حياة محمد ) والعقاد (العبقريات) .. وغيرهم .
" إن السبب العالمي الأكبر ( لهذه الظواهر ) كما يفسرها أنور الجندي هو :
فشل الفلسفة المادية في إقناع العقول وإرضاء النفوس .
اليقظة العربية واللياذ بالعقيدة التي تعيد ذكرى المجد القديم وتحمي أصحابها من غارات أعدائها في العصر الحديث.
الفزع من الشيوعية والاعتصام منها بالعقائد الروحية ." 26
ظاهرة الانشقاق :
هناك ظاهرة غريبة وشاذة في العقل العربي يحسن بنا أن نعرج عليها ، ألا وهي ظاهرة ( الانتقال من الأصولية إلى الانشقاق ) . ذكر ( يورغن فازلا ) في كتابه ( القصيمي بين الأصوليه .. والإنشقاق ) تفسيراً لهذه الظاهرة متعرضاً لشخصية القصيمي المثيرة ، وبمشاركة بعض الكتاب العرب.
هذه الظاهرة الغريبة على مجتمعاتنا قد تتكرر في أي وقت ، وقد تحدث مرة أخرى.
فالقصيمي الذي كان عالماً أصولياً كما عرفه معاصروه ، تحول فجأة إلى كاتب ناقد وناقم على أصوله الثقافية ومجتمعه ، بل تعدى إلى ما هو أبعد من ذلك في الشذوذ الفكري والعقائدي .
فما هو تفسير هذه الظاهرة الخطيرة يا ترى ؟!
الكاتب السوري صلاح الدين المنجد رد على كتاب القصيمي ( العالم ليس عقلاً ) بعدما ذكر نبذة عن حياة القصيمي فقال " إنه رجل مشهود له بالفشل فهو لم يحقق في حياته كلها أي شيء مما يبتغيه ، ولقد تحولت خيبات أمله من الرفض المتكرر الذي لقيه في مطلع حياته . ( يذكر المنجد هنا فصل القصيمي من جامعة الأزهر والاستياء العام من كتابه " هذه هي الأغلال " ) إلى حالة العداء تجاه الخارج .(1/16)
في البداية بحث عن ملجأ له في الدين ، واندفع في تعصبه إلى أقصى درجة مبتغياً من وراء ذلك اعترافاً اجتماعياً ، ولكنه عندما فشل في الحصول على الاعتراف الاجتماعي لجأ إلى مدارس فكرية هدامة أملاً في تحقيق ذاته هناك " . 27
وتعليقاً على كتاب ( العرب ظاهرة صوتية ) للقصيمي ، نشرت صحيفة الرياض قراءة نقدية لفهد العرابي الحارثي ، اتهم فيها القصيمي " بأنه ينتمي إلى ذلك النوع من المثقفين في العالم العربي الذين يعتبرون أصلهم وتاريخهم إثماً ويرفضون لذلك جميع الظروف التي ساهمت في تكوينهما وهم يعتبرون الدين مسرحية مضحكة والحضارة عاراً يجب محوه ، ولذلك يحاولون حرمان العرب من الاعتزاز بهويتهم . وهم بذلك يشبهون المصاب بمرض الحساسية الذي يتمنى أن يكون له جلداً آخر غير جلده ، حتى لو كان جلد حمار ...". إلى قوله : " ولم يزل الإنسان العربي يحب ( الفرجة ) وهو مدعو كل يوم للتمتع بعروض المشعوذين البدائيين التي يقدمها له أحد المرتدين من المثقفين العرب
على سبيل المثال .. القصيمي .. مره يأكل شفرات الحلاقة .. ومرة ينفث ناراً .. ومرة يرقّص الفيله .. وما زال الناشرون ينظمون حفلات السيرك .. وهم الذين يحققون الربح في البداية والنهاية لأن الناس سيشترون الفرجة ويقرأونها " . 28
هذا التفسير لظاهرة الانشقاق يبدو معقولاً ، إذا أخذنا بالاعتبار أنها حالة من الجنون الثقافي التي قد يصعب على أي أحد تشخيصها .
فإثبات الذات من المنشق ركن رئيس في تكريس هذه الظاهرة ، والتطبيل الإعلامي المادي هو الركن الآخر ، فهو تحالف براغماتي صرف أفرز هذا المسخ الثقافي في المجتمع العربي .
واليوم في عصر العولمة بدأنا نرى في سماء إعلامنا ردة ثقافية لأسماء مغمورة كانت يوماً من الأيام في غاية التشدد والإقصاء للآخر ثم تحولت إلى النقيض تماماً .(1/17)
تفسيرنا لهذه الظاهرة يوفر علينا الوقت والجهد حتى لا ندخل في جدل بيزنطي مع هذا النوع من البشر ويجعلنا نتوجه لما هو أهم .
ثم أنه يقطع الطريق عليهم من التأثير في مجتمعنا العربي والإسلامي ، وذلك بتوعية المجتمع عنهم وكشف شخصياتهم وأهدافهم.
الرواية الماجنة والفن الدرامي الساقط مركب سفهاء العرب.
أعتقد أن شعوب الأمة العربية لا تريد غير الإسلام بديلاً ولن تستجيب أبداً لثقافة دخيلة حتى وإن ظهر للدخلاء أنهم قد نجحوا . فالأمر ليس كذلك .
يوجد هناك شريحة من المجتمع العربي ؛ تزعم أنها تحمل رسالة ، وهي في الحقيقة تريد أن تتسلق نحو الشهرة وتأكيد الذات عبر وسائل ساقطة لم يذكر في تاريخ البشرية أنها بنت مجداً ، ولا أسست حضارة .
واليوم أصبحت الرواية والفن الدرامي – إن صح التعبير – مركباً سهلاً لكل من هب ودب ، فأصبح كل مجهول مغمور ليس له تاريخ ولا أثر صالح ، يرفع عقيرته ويعلن للملأ أنه قادم للساحة العربية ؛ لكي يجدد ما اندرسََ من تاريخها ... حينها يتمخض الجبل لكي يلد فأراً ... !!
تُرى ما هو القادم لإنقاذ أمتنا ؟!
رواية هابطة ليس لها لون ولا طعم لكنها تحمل رائحة خبيثة تزكم أنوف أمتنا العربية الأبية الكريمة بنتنها وتفاهتها ، غاية ما في هذا النوع من الروايات أن يتجرأ صاحبها فيخالف المجتمع ، ويتخلى عن مبادئه ، وقيمه ، ويتبجح بألفاظ سوقية بحجة تجسيد الواقع ، وتقريب الصورة فنياً كما يزعمون ، ثم ماذا بعد ذلك ؟ لا شيء لأمتنا ولتاريخنا ، بل وصمة عار في جبين ثقافتنا الحديثة المتأثرة بتوجهات وأفكار غربية دخيلة .
بعدها يصبح هذا المغمور أشهر من نار على علم بمباركة من بعض أجهزة الإعلام التي تعلن أنها
( بلا هوية ) في كثير من برامجها . حقاً إنها مركب السفهاء !(1/18)
فكم من رواية كتبت من أناس ثاروا على مجتمعهم واتهموه بالرجعية والتقليد ثم مازالت رواياتهم بين الناس لا تقدم شيئاً للأمة بل كرست مفاهيم خطيرة ، ودفعت الأمة نحو التمرد بحجة الحرية والحداثة ، لتذويب هويتها و مسخ أفكارها و طمس أصالتها
و مع هذا فأنا لا أرفض هذا النوع من الثقافة والكتابة ، ولكن يجب أن نضع النقاط على الحروف ، فالرواية وسيلة مكملة لروافد الثقافة المختلفة ، ما أجمل أن تكون الرواية ذات صورة إبداعية في تجسيد المشاهد والأحداث مع اقترانها بهدف نبيل أو فكرة منتجة أو علاج لمشكلة متأصلة .
أما الفن الدرامي : فما أظن أن الشارع العربي بعيداً عن سمومه وآفاته ؛ إن شريحة كبيرة من المجتمع العربي أصبحت فريسة سهلة لزعماء هذا الفن وأبطال السينما .
خطورة هذا الأمر لا تقتصر على كون هذه الفنون تدعو إلى الرذيلة وتحارب الفضيلة بل وصل الأمر إلى فلسفة جديدة تسعى إلى تغييب العقل العربي تماماً وذلك من خلال إباحة المجون وتحليل الفسوق بل وجعله رسالة عظيمة تضاهي في زعمهم أحياناً رسالة كبار الدعاة والمصلحين !
ً بطل الفلم ـ مثلا ـ يعلن أن له رسالة في المجتمع ، و فلمه مليء بأنواع المحرمات والموبقات ، فأي رسالة تكون مؤثرة وقد اختلطت بالمحرمات . والمطربون يعلنون في أجهزة الإعلام أن نجاح (ألبوماتهم) كان بفضل الله وتوفيقه ، وعندما تسمع أغانيهم تجد أنها مليئة بكلمات الفسق والمجون ، ثم إنهم يحشدون لأغانيهم ألوان المعازف المحرمة ، ويظهرون النساء العاريات يتمايلن على أنغام أغانيهم ، ناهيك عن إشارات الفسق والفساد التي تفعل فعلها في الأمة العربية الإسلامية وأجيالها .
فأي خلط هذا الذي يكاد يدمر عقولنا العربية التي أظناها طول الانتظار وهي ترمق النصر المبين .(1/19)
إن هؤلاء المتسلقين ، هداهم الله وردهم إلى السبيل ، لم يعلموا أن علماء النفس والاجتماع قد كشفوا اللعبة منذ زمن حين قالوا ( العقل الباطن يقرر .. والعقل الظاهر يبرر )
فالحقيقة أنهم يسيرون نحو شهرتهم وأنانيتهم التي تنطلق من ضعف نفوسهم ودناءة أخلاقهم ، ثم هم في الظاهر يقولون بكل صفاقة ( نحن نحمل رسالة ) .
…وفي الوقت الذي كدت أنتهي فيه من تحرير هذا المبحث و انفض يدي منه وقع نظري على رأي للدكتور علي الوردي - عالم الاجتماع العراقي – و خُيّل إليّ أنه أتى بهذا الرأي على منوال ما كنت أود أن يأتي به فهو يقول : " رسالة الفن ! هذه الحجة التي يتخذها كثير من الشعراء غطاء يسترون بها حقيقة أنفسهم . و يا ليت شعري ماذا يقصدون بالفن . إنهم يركضون وراء الجائزة ، فإذا أعطوا منها رضوا و إذا حرموا منها سخطوا . ثم يرفعون عقيرتهم بعد ذلك هاتفين بالفن . يعيش الفن ، و هذا يذكرني بما قرأت في إحدى المجلات قبل أيام عن مغنية مصرية ، إذ وجدتها تصف نفسها بأنها صاحبة فن رفيع و من دعاة تحسين الأخلاق ! و ليس في هذا عجب ، فهي كغيرها من بني آدم و بنات حواء تسعى وراء مصلحتها الخاصة ثم تلف ذلك بالغلاف البراق
…إن هذه ظاهرة بشرية عامة تعرف في علم النفس بنزعة التبرير . فالإنسان لا يحب أن يبدو في أعين الناس على حقيقته و لهذا فهو يبرر أعماله بالأعذار المتنوعة , فهو تارة يذوب هياما بالوطن و هو تارة يجعل الله من وراء القصد . أو هو يقدم نفسه قربانا في مذبح الفن – و العياذ بالله "29
نعم قد يكون هناك نوع من الفن له أثر في المجتمع إذا كان هادفاً خالياً من المحرمات.
فهل يعي الفرد العربي هذه الحقائق ويعمل عقله لكي تنكشف له الأمور ؟!(1/20)
تشخيصنا لهذه الظاهرة لا يعني أن نلغي الخير في هؤلاء وغيرهم ، ولا يدفعنا ذلك لمحوهم من خارطتنا ؛ بل لهم حق الدعوة والمناصحة فكما نعلم أن قطار التائبين في الوسط الفني أصبح ظاهرة مُفرحَة تُثبِت الخيرية في هذه الأمة المباركة .
الشعوب العربية ورفض التغريب والاستعمار
لو أردت أن أسطر ملايين الكلمات ، وجئت بعدد لا يحصى من الأوراق حتى أثبت للعالم ولأصحاب العيون الزرقاء من العرب أن أمتنا لن تستجيب للتغريب لما وجدتني مبالغاً إن قلتُ أن تاريخ الأمة العربية مليء بالقصص التي تثبت عصيانها وتمردها على هذه الأفكار الدخيلة .
ولذلك سأذكر قصة واحدة فقط لدولة عربية مسلمة هي الأشهر من حيث استعمارها من قبل الغرب . وشعبها العربي الأصيل مثال حي لمقاومة التغريب والاستعمار.
إنها الجزائر وشعبها البطل ، و كما قيل " لو قدر للأمة أن تموت لماتت في الجزائر "
" أثناء الاستعمار اختير عدد من الفتيات ، وأدخلن في مدارس فرنسية لعدة سنوات حيث تعلمن الثقافة الفرنسية واللباس الفرنسي وأراد أعداء الإسلام تمييع الدين من خلال التغيير في هؤلاء الفتيات .
وحينما جاء حفل التخرج حصلت المفاجأة لقد حضرن بلباسهن الإسلامي الجزائري أمام الملأ في رسالة واضحة ( لا للتغريب .. ولا للاستعمار ) .
ثارت بعد هذا الحدث الصحف الفرنسية وكتبوا : " ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور 128 عاماً !!!! . أجاب لاكوست وزير المستعمرات الفرنسي : ( وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا ) "30
……
رؤية
و هذه رؤية علها تساهم في حل بعض قضايا أمتنا العربية ، لا أزعم أنها من بنات أفكاري في معظمها ، وإن كان بعض جزئياتها قدحت في ذهني قبل وأثناء كتابة هذا المبحث.(1/21)
إلا أنني أشعر بسعادة غامرة وأنا أجمع النصوص والمقالات من كتّاب عرب مشهورين ينتمون إلى أطياف مختلفة كل حسب ثقافته وخلفياته الاجتماعية والعلمية ، لكنهم في النهاية ينتمون إلى الوطن العربي الإسلامي الكبير ، كلهم بروح واحدة ، وإن اختلفت العبارات يساهمون في استنهاض أمتهم الجريحة .
وقبل الشروع في طرح هذه الرؤى أو الحلول ، أرجو أن يكون القارئ قد استوعب ما طرح فيما سبق من أمور وهي باختصار شديد :
عمق العلاقة بين العروبة والإسلام .
فشل الأفكار الدخيلة في نهضة الأمة العربية ؛ من خلال شهادات و اعترافات كبار المثقفين العرب .
حاجة الأمة العربية إلى توليفة جديدة تجمع بين الإسلام والعروبة لجمع شتات أبنائها وإيقاف النزيف المخيف لطاقات أجيالنا والتحول من الخصام والكراهية إلى الوصال والمحبة .
يشاء الله عز وجل أن يأتي هذا الكتاب في وضع مؤلم خطير تمر به الأمة العربية والإسلامية ؛ وهو سقوط بغداد على أيدي اليهود والنصارى ومن ثم إعدام الرئيس العراقي الأسبق ( صدام حسين ) ، وشعور الأمة العربية بالإحباط حيال هذا الواقع الأليم .
وهي حلقة في سلسلة من النكسات لأمة تراجعت عن مبادئها وقيمها فمن نكسة 1967م إلى( كامب ديفيد ) وتمزق البيت العربي ، ومن ثم احتلال بيروت ، ثم حرب الخليج الأولى ( إيران والعراق ) ، فحرب الخليج الثانية و احتلال الكويت ، ثم سقوط بغداد ، إلى نذير الحرب الأهلية بين فتح وحماس ، ولا ندري ما هو القادم من عالم الغيب ؟.
* * *
إنه لا مفر من الوحدة العربية على مبادئ الإسلام الحنيف للخروج من أزماتنا المتكررة والمتوالية . إن الأمة العربية هي عمق الأمة الإسلامية ونحن حينما ندعو إلى وحدة الأمة العربية لا نقصد تكريس القومية أو نبذ الأمم الأخرى ، بل إننا نرى أن النقل والعقل يرشدان إلى هذا الأمر .(1/22)
والتاريخ يشهد أن نهضة العرب وتمسكهم بالإسلام عز وتمكين للمسلمين في أرجاء الدنيا مع تسليمنا المتناهي بقوله عز وجل (( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )) وكذلك نؤكد على أهمية الميزان الرباني (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) .
إنه واجب علينا ان نبدأ الغراس لإعادة أمتنا العربية والإسلامية إلى الحياة من جديد ، فكل المؤشرات تنذر بخطر كبير ، وهذا هو الذي حدا ببعض الكتاب و الشعراء العرب أن يعلنوا وفاة العرب في هذا القرن . و ها هو الأنصاري يتتبع بعض هذه الإعلانات :
" فسماه البعض ( قرن الهزائم العربية ) ( نصر حامد أبو زيد ) وسماه البعض الآخر
( قرن تغريب الأمة ) ( فهمي هويدي ) وتساءل شاعر كبير قبل أن يرحل عن المشهد المحيط ( متى يعلنون وفاة العرب ) ( نزار قباني ) " 31
و الدكتور عائض القرني يقول " وليت العرب سمعوا صديقي الشاعر خلف بن هذال :
ولا تأمن فروخ الداب لو عاشن و بوهن مات ** تجيك الصبح بانياب تناسل كنها أنيابه .
وإلى متى نصدّق عواطفنا المُجنحة ؛ فجمال عبد الناصر وعدنا أنه سوف يرمي إسرائيل في البحر ثم سلم لهم سيناء وسجن علماء وطنه ثم شنقهم ، وصدام حسين حلف أن يحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج فأحرق الكويت ونجت إسرائيل ، و أحمدي نجاد طلق بالثلاث أن يزيل إسرائيل من على الخارطة وأخشى أن يزيلنا نحن وتبقى إسرائيل . أيها العرب ، يسلم عليكم زهير ويقول :
…ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ……يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم " 32
و هذا فهمي هويدي يقول ـ بعد إعدام صدام حسين الرئيس العراقي السابق ـ يقول :(1/23)
" إن العالم العربي ضاق ذرعاً بالانكسار والاستخذاء ومنذ سنوات وهو يبحث جاهداً عن رمز يجسد له الصمود والكبرياء والعزة ... ذلك أنه مع كل صفعة نتلقاها ، أو مهانة تحل بنا ، فإن الناس ما برحوا يهرعون إلى الواجهات باحثين عن قشة كبرياء يتعلقون بها أو رمز للعزة يصطفون وراءه ، إلا أنهم في كل مرة يردون على أعقابهم محبطين ... " 33
إذاً نحن بحاجة إلى الاستيقاظ من نومتنا قبل فوات الأوان ما دام أن هناك شبه إجماع على احتضار الأمة العربية .
أمة عربية واحدة ذات رسالة محمدية ناصعة
أظن أنه آن الأوان لأمتنا العربية أن تحث الخطى نحو وحدة حقيقية تبدأ بوحدة ثقافية اجتماعية مبنية على الحوار والمحبة ، بعيدة عن الإقصاء والكراهية .
ينبغي أن نبدأ الوحدة في أبسط صورها بعيداً عن التعقيد والفلسفة التي لا تتناسب وظروف مجتمعاتنا العربية في الوضع الراهن .
إن الحلم الكبير هو أن نصنع الكيان العربي الكبير مسترشدين بمنهج الإسلام العظيم ، ثم بعد ذلك يحق لنا أن نشكل العمق الاستراتيجي لدول العالم الإسلامي قاطبة .
وليس من نافلة القول أن نشير إلى أن المنطق السليم يدلنا على أن وحدة الكيان العربي هو التدرج الطبيعي نحو النهوض الحضاري لأمتنا ، فالدين واللغة والثقافة والموقع الجغرافي كلها مبررات منطقية لجمع هذا الشمل المتناثر تحت مظلة كبيرة ؛ لا تسلب النفوذ ولا تلغي خصوصية كل مجتمع ، فهذا الأمر ممكن حدوثه وليس من المستحيلات . فالمجموعة الأوروبية مثال واضح على اندماج الكيانات الأصغر في كيان كبير قوي ومتماسك .
إن حاجة الأمة العربية إلى التوحد هي ضرورة لازمة ، فذلك سؤال الوجود أو العدم!
وبما أنني فرد من هذه الأمة الجريحة فإن قلبي يعتصر ألماً لواقع أمتنا وكم يحدوني الأمل نحو مستقبل مشرق ، وعودة مجيدة تعيد العزة للنفوس والبسمة للشفاة والأمن والاستقرار في ربوع بلادنا وعالمنا العربي والإسلامي .(1/24)
…و لأن إيقاد شمعة خير من لعن الظلام ، و أخذاً بزمام المبادرة ؛ سأحاول جهدي تقديم ما اتّقد في ذهني من مقترحات عملية تطبيقية لتحقيق الوحدة العربية ، و سأحاول أيضاً تقديم و تبسيط ما قدمه رواد العرب من المفكرين و المثقفين من خلاصة فكرهم النير ، حتى تكون في متناول القارئ العربي الذي شُغل بصوارف وملهيات قد تعيق مسيرته في البحث والاطلاع .
خطوات مقترحة نحو وحدة الأمة العربية
أعلم أن حلم وحدة الأمة العربية يراود الكثير ، وقد تكلم بعض المثقفين في هذا الباب منذ زمن بعيد و ما زال الحديث قائما في وقتنا الحاضر ؛ وإن كان البعض وصل إلى مرحلة اليأس مستبعداً هذا الحلم ، ولكن يبقى موضوع الوحدة هاجساً لا يفارق كل غيور على أمته ودينه .
يبقى أن أشير قبل الشروع في الحلول أن موضوع وحدة الأمة العربية طرح على مستوى المثقفين فقط ، ولم ينزل إلى مستوى العامة وشرائح المجتمع الأخرى الذين هم وقود كل تغيير وتطوير .
ثم إن الإصلاح والتغيير يجب أن يكون واضحاً وأحياناً بسيطاً في فكرته حتى يتم استيعابه وتطبيقه على أرض الواقع ، فإن المصلح قد يأتي بالفكرة البسيطة جدا و لكن يقلب بها وجه العالم ، فهو يأتي بها عملية تؤثر في حياة الناس و تدفعهم نحو الحركة الاجتماعية التي تلعب دورها في حياة التاريخ ، كما قال الدكتور الوردي .
الخطوة الأولى : نبذ الكراهية ونشر روح المحبة والتسامح .
لا يمكن لأي مجتمع أو أمة أن تنتصر مع الكراهية والحقد ؛ إن من أعظم أسرار الانتصار والتمكين وجود المحبة بين أفراد المجتمع وشرائحه .
لذلك قال صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً يوم الفتح لمن آذوه وقاتلوه : " اذهبوا فأنتم الطلقاء "(1/25)
والناظر في مجتمعاتنا هذه الأيام يجد أن هناك تراجعاً في روح المحبة وأنني لأتعجب من رجل ليس على دين الإسلام ، كيف استطاع بالحب والتسامح أن يوحد دولة كانت مسرحاً للعنصرية والظلم والإقصاء ؟!
نيلسون مانديلا ؛ قصة بطل أسطوري قضى معظم حياته مكافحاً طالباً للحرية ؛ فقضى زهرة شبابه في سجون جنوب أفريقيا وما خرج منها إلا وقد شاب رأسه واحدودب ظهره . ثم حصلت المفاجأة ! لم ينتقم ممن ظلموه وسجنوه ثمانية عشر عاماً ، بل أعلن التسامح ونشر المحبة ، و وحّد البلاد ليتربع بعد ذلك بكل اقتدار على كرسي الرئاسة لدورتين متتاليتين ويتوحد البلد الذي كان قطعة من نار ؛ حيث تعاون السود والبيض - أعداء الأمس - لتوطيد الاستقرار و صناعة المستقبل في جنوب أفريقيا .
ولقد قرأت كتابه ( رحلتي الطويلة من أجل الحرية ) فكان ماتعاً غاية الإمتاع وفيه من الفوائد ما ينفع ويدفع للإصلاح والتغيير ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها . ذكر الناشر حول كتاب مانديلا مقطعاً نصه : " إن أهم ما يميز شخصية نيلسون مانديلا ، وجعل منه رمزاً لنضال سكان جنوب أفريقيا على اختلاف أعراقهم ، ومحل إجماعهم ، هو صدق إيمانه بحقوق أمته ، وصلابته في التمسك بتلك الحقوق طول مسيرته بعد أن انهارت دعائم النظام العنصري البغيض ، وأذعن البيض إلى القبول بالعيش كغيرهم مواطنين في ظل دولة المساواة والديمقراطية " . 34
" ماذا لو ساد في الناس دفء المحبة بدل صقيع البغضاء ، وحلت فضيلة التسامح محل رذيلة المعاداة ".35
" ماذا لو أخذ الناس بالقول المنسوب إلى عمر رضي الله عنه ( أعقل الناس أعذرهم للناس ) ماذا لو بلغ الناس هذا الأفق الإنساني النبيل " 36
أظن أن نبذ الكراهية ، ونشر روح المحبة والتسامح هي البذرة الأولى نحو مجتمع مبارك كشجرة مباركة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء لا تقتلعها رياح الباطل ، ولا تؤثر فيها زلازل الفتن .(1/26)
فمن يا ترى سيكون له شرف وضع هذه البذرة في بلادنا العربية والإسلامية ؟
الخطوة الثانية : النقد البناء بالحجة والبرهان .
إن المتأمل في قصص القرآن الكريم وسيرة الأنبياء عليهم السلام يجد أن الحوار مع المخالفين والمعاندين مدعوم بالحجج والبراهين مع الصبر كل ذلك لأجل الوصول إلى الهدف المرجو من الدعوة ؛ ألا وهو توحيد الله وعبادته .
لم يكن الهدف إزالة المنكر من أول جولة وإن كان ذلك شيئاً يسير في جنب الله ؛ إنما كان الهدف أسمى وأعلى ، إنها الرحمة مقرونة بالإقناع والصبر على الصدود والعدوان ، فالمهم أن تصل العقول إلى القناعة بترك الأعمال التي لا يرضاها الله سبحانه وتعالى . فقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه مثال واضح على ما نقول .
فمناظرة إبراهيم – عليه السلام – مع النمرود كانت بدايتها حول الإحياء والإماتة (( قال ربي الذي يحيى ويميت )) فما كان من النمرود إلا أنه قال (( أنا أحيي وأميت )) محاولاً تضليل الناس فأدرك إبراهيم عليه السلام هذا الأمر فتجاوز هذه الجزئية إلى حجة ودليل ناصع ودافع لا مجال فيه للتلبيس والمراوغة فقال : (( إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )) 37
و أكد ابن سعدي رحمه الله هذا المعنى في تفسيره للآية بقوله " فلما رآه الخليل مموهاً تمويهاً ،ربما راد على الهميج الرعاع ، قال إبراهيم ملزماً له بتصديق قوله إن كان كما يزعم ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ) أي : وقف وانقطعت حجته ، واضمحلت شبهته " 38
وكذلك قصته عليه السلام في تكسير الأًصنام ، حيث حطم عليه السلام الأصنام ، و لم يحطم الصنم الكبير بل وضع الفأس عليه ، وحينما سألوه : " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " قال لهم بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ".(1/27)
أراد عليه السلام أن يحطم أفكارهم وقناعاتهم من الداخل بأسلوب حواري رفيع مليء بالحجج والبراهين الدامغة ، وحصل ما أراد عليه السلام ( فرجعوا إلى أنفسهم ) .
فإزالة المنكر ظاهرياً ربما لا تؤثر في المجتمع تأثيراً كبيراً إن لم تكن مقرونةً بتغيير القناعات . بل قد يعود المنكر مرة أخرى وبشكل أقوى وأوسع ؛ و لعل إزالة الأفكار و القناعات المغلوطة من عقلية الفرد و المجتمع أنفع من إزالتها حسياً مع بقاء ارتباطها الوجداني بأهلها وذلك يضع الكرة في ملعبهم ؛ فأفراد مجتمعاتنا هم الذين يتخذون القرار في النهاية بقناعة مطلقة و طاعة لله .
و من المفارقات العجيبة أن تجد ردة فعل بعض المثقفين مليئة بالشتيمة و التشنيع على الإصدارات الهابطة قيمياً في المؤلفات الأدبية و الثقافية ، أو في مجال الدراما دون محاولة الإقناع . و تأتي المفاجأة ! عندما يعاد طبع تلك الإصدارات مراراً . و كذلك الفلم الساقط يعاد عرضه تكرارا أمام أعداد كبيرة من الجماهير ، ثم لا شيء يتغير ، و كما قيل في المثل العامي (( كأنك يا بو زيد ما غزيت ))
…علينا نشر ثقافة الحوار والنقد بالحجة والبرهان مع الصبر وسعة الصدر فهو منهج قرآني نبوي كريم ، وأظن أنه في زمن العولمة ، وثقافة الفضائيات حري بنا أن نجعل الحوار بالحجة والبرهان من أهم أولوياتنا ؛ حماية للشريعة ، وإنقاذاً للبشرية من سموم الأفكار الهدامة ؛ التي تُكرس التخلف والانحلال في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من بابي الشبهات والشهوات .
و بما أنّا في باب النقد ، فإن الأمة أحوج ما تكون إلى " النقد الذاتي " و المراجعة ، وهذا باب كبير إذا فُتح فسيصعب علينا إغلاقه بيسر و سهولة ، و نكتفي بهذه الإشارة .
الخطوة الثالثة : قبول الرأي الآخر وعدم الإقصاء :(1/28)
فالخلاف لا يفسد للود قضية ، مع التأكيد على الثبات على المبدأ والمكافحة لأجله ، مع بقاء روح الدعوة والتأثير حتى لو طال الزمن ، فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة .
الخطوة الرابعة : الصبر والرحمة نعم المطيتان
تأملت كثيراً هاتين الصفتين فوجدت أنهما نعم المطيتان لدعاة الإصلاح والتآلف والتجديد ؛ فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، والله عز وجل امتدح الصابرين وأعد لهم أجراً غير ممنون فقال سبحانه (( أنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) 39
ولقد صبر محمد عليه الصلاة والسلام على قومه ولم يدعُ عليهم بالعذاب والهلاك مع وجود السبب والمبرر فقال : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله .. " 40 فكان ذلك . و نوح عليه السلام صبر على قومه تسعمئة و خمسين عاماً وفي النهاية ما آمن معه إلا قليل . وفي ظني - والله تعالى أعلم وأحكم - أن صفة الصبر بمعناها الشامل تؤهل المرء لأن يكون أكثر عقلانية وحكمة مما يجعل القرار أكثر نضجاً وبالتالي أكثر نفعاً .
ولذلك فالحلول السريعة المنافية للصبر هي التي تُقوض كل مشروع حضاري وتهدم كل بناء يشيد تحت شعارات براقة .
أما الرحمة فهي منبع كل خير ونجاح ، وما زال الشارع الحكيم يحث على التحلي بهذه الصفة لأنبيائه ومن بعدهم في غير ما موضع في الكتاب العزيز ، فقال سبحانه (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك )) 41 ، وذكر سبحانه أن الرحمة بين المؤمنين من أميز صفات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " 42(1/29)
إن من يملك هذه الصفة المباركة مؤهل باقتدار على أن يبني ولا يهدم ، ويتنازل ولا يُنازع ، ويتسامح ولا ينتقم .إنه يفعل كل ذلك إنكاراً لذاته و إتباعاً لأمر الله عز وجل ، ورحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم . إننا بدون هذه الصفة ( الرحمة ) لن نصل إلى مجتمع متماسك كالبنيان المرصوص .
إن وجود صفة الرحمة لا يعني الرضوخ للباطل ، و السكوت عن الحق ، و التنازل عن المبادئ و القيم ، ولا أظن أن هناك تعارض إلا عند من ضاقت عليه نفسه ثم لم ينعم بروح شريعتنا السمحة .
الخطوة الخامسة : تفكيك الانتماءات الحزبية
لا أدري كيف ننادي بتوحيد أمتنا العربية والإسلامية ، ونحن في واقعنا العربي نكرس الفُرقة والاختلاف من خلال انتماءات حزبية أياً كان هدفها وتفكيرها .
إن الانتماءات الحزبية في البلاد العربية أصبحت من الوضوح بمكان بحيث يستحيل القفز عليها بسهولة ، و يصبح الأمر أكثر خطورة وتعقيداً وأشد فُرقة وتمزيقاً حين تتعدى الولاءات حدود الزمان والمكان لتقضي بعد ذلك على كل معنى للمواطنة التي قد يتشدق بها أحد الحزبين في أجهزة الإعلام ؛ و المفارقة العجيبة أن تجد المنتمي حزبياً يتحذلق عن الوطن والمواطنة و الوحدة ، بينما كل أعماله تسير في الاتجاه المعاكس ؛ فهو يؤمن بالحزب الأوحد و أن إيديولوجية حزبه هي خلاصة الفكر البشري مقصياًً بذلك كل مخالف و مناقضٍ لمقومات الوطنية ؛ التي تعني التعايش و المشاركة في صنع الحضارة .
و لنعلم أن ألفباء الوحدة تبدأ بتفكيك الانتماءات الحزبية و غيرها ومن ثم الانخراط في المجتمع المدني الكبير ، والتأثير من خلال مؤسسات ظاهرة الأثر والتأثير و بعيدة عن دهاليز الغموض ؛ بأهداف سامية ورؤية واضحة تضمن وحدة البلاد وهداية العباد ، وتؤسس لبناءٍ حضاري متين .
و نحن لسنا بحاجة إلى أجندة غامضة لتكون هي أولى أولوياتنا ، نستصحبها معنا في كل مشروع نهضوي لصالح بلدنا وأمتنا .(1/30)
لا يمكن لأصحاب الأجندة السرية أن يساهموا بفاعلية في نهضة الأمة بل هم أحد العوائق الكبيرة على طريق وحدة الأمة و نهضتها حتى وإن بحت أصواتهم ، وانتفخت أوداجهم وهم ينادون بالتغيير أو حتى بالتجديد . فكيف لمن تفرقوا أحزابا و شيعا أن يوحدوا الأمة ؟!
الخطوة السادسة : إقامة مراكز لإيقاظ العقل العربي
يتعرض العقل العربي منذ زمن بعيد - وإلى اليوم - لهجمة شرسة تهدف إلى تعطيله عن التأمل والإبداع . لقد جَمُدت بعض العقول العربية بسبب الشبهات والشهوات ، و البعد عن منطق التفكير السليم ، فأثر ذلك على شباب و أجيال الأمة ، فلا نكاد نسمع بالمبدع والمتفوق إلا في مجال الفن الدرامي أو في سفاسف الأمور . لذلك ينبغي علينا أن نقاوم هذا الهجوم الذي يسطح المفاهيم ويقضي على الإبداع و يئد أي فكرة نحو الحضارة والتمكين .
إن من الأخطاء التي وقع فيها بعض من أراد التغيير والتمكين هو أنه أيقظ الأمة العربية نحو الثورة واغتصاب السلطة حتى لو كان الثمن باهظاً ، فقفزت ثورات إلى السلطة وسالت بسببها دماء وقُطعَت أشلاء ؛ لكنها لم تضف مشروعاً وحدوياً للأمة ، و لم تؤسس لحضارةٍ متينةٍ تبقى حتى لو ذهب أصحابها .
فيجب أن نعلن أننا في واقعنا العربي نحتاج إلى إيقاظ العقول والهمم لتشييد حضارة وبناء أمة تسمو في أخلاقها إلى درجة إنكار الذات ، وترجو بعملها الأجر من الله ، وتدعو إلى التغيير والتمكين من خلال مؤسساتها القائمة ، وتحت مظلة ولاة أمرها ؛ مستصحبين بالأمل والصبر والرحمة والثقة بالله العزيز الحكيم
و من خلال واقعنا المُعَاش فإنا نرى أن تكون بداية " إيقاظ العقل العربي " منطلقاً من ذواتنا و بيوتنا و منتدياتنا حتى تُهيأ التربة الخَصبَة للغِراس القادم . و الأمل كبير في إنشاء مراكز رسمية مدعومة ماديا ومعنويا .
و هذه إشارات على طريق " إيقاظ العقل العربي " :
أ- إيقاظ العقل العربي بتوجيهه و حثه على القراءة و الاطلاع .(1/31)
إن أمة كان أول آية نزلت على نبيها ( اقرأ ) حري بها أن تُدرِك سر نجاحها وفلاحها ؛ فبالعلم والمعرفة كان الإسلام يشع في أرجاء الكون ليعلن ميلاداً جديدً للبشرية يبدد ظلام الجهل ، وينير العقل ، ويفجر الطاقات ، ويقضي على سياسة التجهيل المفروضة من الظلمة والمنتفعين التي طالما ساهمت في تكريس قاعدة ( ما أريكم إلا ما أرى ) .
وبالتالي يخرج جيل سطحي هو عبارة عن نسخ مكررة لا ينهض بالتبعات ، ولا ينصر المظلوم ، ولا يبني حضارة ، ويكون بعد ذلك عرضة للاستخفاف والاستنزاف (( فاستخفَّ قومه فأطاعوه )) . لذا وجب على المؤسسات و المحاضن التربوية إحياء روح القراءة و الاطلاع عند الناشئة ، بل على كل أهل الاختصاص رمق هذه " القضية الخطيرة " بعين الجد و الإخلاص ، فإنه لا حياة لأي أمة من الأمم إلا بالقراءة و الاطلاع
و ما تطالعنا به مؤسسات الإحصاء عن أمية الأمة العربية اليوم لأمر مخيف و مرعب ناهيك عن نسبة قراءة الفرد العربي .
إن أعظم المصادر الأصيلة التي تساهم في بناء الوعي لدى القارئ العربي هما : الكتاب العزيز والسنة المطهرة ؛ فهما حبل الله المتين والمعجزة المتجددة والدستور العظيم الصالح لكل زمان ومكان . فمنهما ومن معينهما تنبثق الأفكار والرؤى ، ويزداد العقل إدراكاً ورجاحة ونضجاً .
وهناك قراءات أخرى متنوعة نحن بحاجة ماسة إليها ومنها على سبيل المثال علم الاجتماع , وعلم النفس ... إن الاطلاع على هذه العلوم لا شك أنه يساهم في استكمال جوانب العلم والمعرفة ، وبالتالي يساعد الأمة في تخطي الصعاب ؛ و ذلك من خلال تشخيص الواقع وتحليل المشكلات ، و وضع الحلول لها بعد قراءةٍ مستفيضة و دراسةٍ تحليلية لأحوال الأمم والشعوب والمجتمعات .
و أظن أن مقدمة ابن خلدون مرجع في علم الاجتماع ؛ فهو سِفُر عظيم في مجاله ، خَطَه أحد الأعلام في تاريخنا الإسلامي .(1/32)
و أخيرا : فعلى المطلعين و الباحثين و المثقفين أن يتجهوا بقراءتهم نحو الأصول و ترك الفروع .
فهل نعود إلى الأصول حتى نسير نحو الإنتاجية والإبداع في كل مجالات الحياة ؟!
" و حتى بالنسبة لتراثنا الأدبي نفسه ؛ فلا بد من التعرف الحميم لأصول المصادر و لأمهات الكتب قبل فروعها ، لا بد من التعرف إلى شعراء المعلقات قبل الانغماس في نقائص الفرزدق و جرير ، لا بد من معايشة المتبني قبل قراءة البهاء زهير ، لا بد من الغوص في بحور الجاحظ قبل الانبهار بأسلوب مقامات الحريري و بديع الزمان " 43
و أظن أن العودة إلى الأصول في الجملة وسيلة من وسائل التفوق الثقافي و النضج العقلي للسير نحو النهضة و الحضارة .
ب - الصراحة و الشفافية في طرح التساؤلات مع بقاء الأدب و المحبة .
نريد أن نُشرَّح واقعنا بكل شجاعة ليس للتشفي و لا للانتقام .. بل للوصول إلى واقع أفضل لأمتنا و شعوبنا . إنها ثقافة لا يجيدها إلا الكبار الذين حملوا على عاتقهم نصرة الأمة و نهضتها .
ج - إقامة ندوات و محاضرات و حوارات لبعض المثقفين و إن كنا نختلف معهم ما دام لم يعرف عنهم عداء للدين , ولا يحملون أفكاراً دخيلة.
…فإنه من المؤسف حقاً أن نتلقف فلسفات و أطروحات من غير المسلمين في أبواب لا تدر علينا فكراً و لا تؤسس حضارة , و إنما تصب علينا الدراهم صباً من خلال دورات البرمجة اللغوية العصبية ( NLP ) و أخواتها , و نرفض أطروحات بعض المثقفين العرب و الكتّاب البارعين بحجة القومية أو رميهم بالعلمانية ، و في كتاباتهم خير كثير.
لا نريد أن نقصم ظهور المبدعين لنحل محلهم في قلوب الناس . فما أجمل أن نعلّم الناس روعة الإسلام و جمال أخلاق النبوة في التعامل مع المخالف , و في ذات الوقت لا نتنازل عن مبادئنا و لا نقر الخطأ بل نرد عليهم و ندعوهم بالحكمة و الموعظة الحسنة , فإن من أهم صفات أهل السنة و الجماعة أنهم :
( يعرفون الحق ... و يرحمون الخلق )(1/33)
د – الاستفادة من التجارب الناجحة .
…أعجبني جداً كتاب ( العالم و العرب عام 2000 ) للدكتور محمد جابرالأنصاري ، فقد أشار إلى التجربة اليابانية في خروجها من المحرقة النووية و نهوضها اللافت و مقارنة ذلك بحال الأمة العربية و مدى الاستفادة من هذه التجربة الفريدة .
…لو استطعنا أن نكرر الحوار في مجالسنا أو في مراكز إيقاظ العقل العربي حول التجارب الناجحة عند غيرنا من الأمم و أن نشيد أيضاً بالنجاحات في واقعنا العربي و الإسلامي حتى و إن كانت محدودة التأثير لكان ذلك مفيد جداً .
…فالتجربة الماليزية الحضارية إضافة رائعة لعالمنا الإسلامي , و مثال متميز حبذا لو يستفاد منه في واقعنا العربي , فإن مهاتير محمد و رفاقه أحدثوا نقله نوعية في عالمنا الإسلامي و فتحوا باب الأمل من جديد نحو إمكانية النهوض الحضاري.
…ومن التجارب الناجحة التي يمكن الإشادة بها هي توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – ، فإن جمع شتات قبائل جزيرة بهذا الحجم تحت راية إسلامية واحدة و ما تبع ذلك من قفزة حضارية لهو أمر يستحق التنويه و التقدير و الإشادة , كذلك ما سجله الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كتابه ( رؤيتي ) من نجاحات اقتصادية و إضافات تنموية جدير بالاهتمام و التنويه .
…إن باستطاعة الأمة العربية أن تخطو نحو التغيير و التقدم إن هي سلكت الطريق الصحيح فكما قال ابن مكتوم ( الغرب ليس السبب يا عرب ) . 44
…إن إتحاد الأمارات المتناثرة إلى أن تكونت دولة واحدة كان له الأثر الكبير في القفزة التي تعيشها الأمارات اليوم , و هذا ما أشار إليه المؤلف و ذكر أن تعاون الشيخ زايد و الشيخ راشد بن مكتوم في الوحدة مهد لدولة غنية و مستقرة .
…إذاً بالإمكان أن ننشر هذه الثقافة في مجالسنا و مراكزنا لإيقاظ العقل العربي و بث روح العزيمة فيه , و تجديد الأمل نحو السباق الحضاري في العالم .(1/34)
هـ – لا يلزم لوحدة الأمة و انتصارها أعلى درجات الكمال .
…إن أمتنا و أجيالنا بحاجة إلى وعي و حوار حول قضايا ربما ساهم البعض في تقديمها للأمة على نحو يضر و لا ينفع و إن كان الهدف نبيل و النية صادقة ؛ فالإخلاص في العمل و التحمس للفكرة شيء ، و الصواب و الفهم شيء آخر ، وكم من نوايا صادقة أهلكت أصحابها ؟!
…إن معرفة النصوص الشرعية و دراستها على أيدي علماء الأمة الربانيين ثم قراءة التاريخ و الاستفادة منه و معرفة سنن الله في الآفاق و الأنفس و أخذ العبرة يساهم بشكل كبير في رسم معالم الوحدة , ووضع الأساس المتين لبناء كيان الأمة الكبير في جو مفعم بالحب و الرضا و القناعة بالواقع و بذل الوسع بعد ذلك في نهضة أمتنا و السير نحو الريادة حتى و إن طال الزمن ، مع التركيز الشديد على مبدأ المراجعة و النقد لكل ما يرسم و يخطط له ، باعتباره أحد أركان العمل الناجح .
…و كلنا يعلم أن في عهد بني أمية وصلت الفتوحات إلى بلاد السند بل حوصرت القسطنطينية و مع ذلك كان هناك ظلم في بعض أزمانها .مثل : مقتل الحسين رضي الله عنه , و موقعة الحرة ، و ظلم الحجاج بن يوسف .وغير ذلك من صور الظلم ، إلا أن الأمة سارت نحو الفتوحات و بناء مجدها و كيانها . و انتشر في عهد المعتصم العباسي مذهب المعتزلة ، و أوذي الإمام أحمد إمام أهل السنة ، و مع ذلك كلنا سمع عن موقعة عمورية و انتصار المعتصم للمرأة المسلمة .
فإن من الحكمة و غاية التعقل أن ننظر إلى واقعنا و دولنا بواقعية تحفظ أمن البلاد و سعادة العباد , فالأعداء يحيطون بنا إحاطة السوار بالمعصم .
و – مراكز التدريب على الاستشراف و إعداد الدراسات و البحوث .(1/35)
…كثير منا قد يصاب بالدهشة و الاستغراب عند سماع هذا العنوان أو قراءته ، و لا أدري ما السبب وراء هذا الشعور المخيب للآمال ، و في نفس الوقت لا أجد في الواقع من يكرس الجهد للوصول إلى الأسباب و معالجتها ، و كل ما أتمناه أن لا يكون هذا الشعور راسخاً كالجبال في عقلنا الباطن , و أتمنى من الله عز و جل أن يزيل هذا الوهم من قلوب و عقول الأمة ، حتى تكون هذه القناعات المتراكبة خلال السنين قاعاً صفصفاً .
إن المنطق و الواقع يقودانا إلى تعلم أبجديات الاستشراف ، و بداياتٍ في طريق البحوث و الدراسات ، وليس القفز في التمني لمستويات لا تتناسب و حال أمتنا و إمكاناتنا.
…إن الأمة التي لا تصبر على البحوث و الدراسات ، و لا تجيد فن الاستشراف لن تجد طعم النجاح في عالم اليوم .
إنني أتساءل من المستفيد من جمود الفكر ، و بلادة الاستنتاج ، و سذاجة التحليل؟!
إن بعض المثقفين أفنى عمره في بحوث و دراسات سطحية و استنتاجات تعسفية لم تستند إلى دليل و لا برهان , و لم يستخدم فيها أي أداة من أدوات البحث العلمي إنما هي من وكالة ( يقولون ) ، أو هو ممن يقول " إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون "
و قد تكون هناك دراسات سلكت طريقا علميا صحيحا لكنها تحمل طابع الأنانية ، و الأثرة ، و أصحابها هم المستفيدون منها فقط .(1/36)
…إن النتائج التي تمخضت عنها بعض الدراسات و الأبحاث لا تتعدى الأشخاص المنظرين لها ، فهي جعلت منهم أغنياء و مشاهير ، أما أمتنا فهي تنحدر في وادٍ خطير و واقعها واقع مرير .لقد عاد بعض المثقفين إلى بلادنا بأبحاث و دراسات و أطروحات ظاهرها فيه الرحمة و باطنها شر مستطير ، و لم تثمر هذه الأفكار إلا جدلاً بيزنطياً لا يسمن و لا يغني من جوع . و البعض الآخر جاء ليوقضنا بطريقة عجيبة ، فهو لم يكلف نفسه إلا أن يكون صدى لأطروحات ( ستيفن كوفي ) أو مُصدِراً ( لمفاهيم البرمجة اللغوية العصبية NLP ) الصاخبة في أوساط مجتمع منهك مسكين ، فهو يجلد جيوبهم بالدراهم ثم يطالبهم بعد ذلك أن يكونوا بناة حضارة .
…و ما يثير الدهشة و الاستغراب تبني العديد من المحاضن التربوية ، و بعض التيارات الدينية لمثل هذه البرامج متجاهلين علم الاجتماع و علم النفس المصدر الحقيقي للتطور و الحضارة و غيرها ، مما تحتويه مظلة العلوم الإنسانية . فهم يتصدرون لإصلاح الأمة و المجتمع و في أيديهم حفنة من البرامج التدريبية ! و لديهم فقر مدقع في الاطلاع على العلوم الإنسانية ناهيك عن الوصول إلى الجانب الفكري في تلك العلوم .
و لك أن تتأمل الفرق بين الجهد المبذول من فريقين من المثقفين ، فريق بذل جهداً متواضعاً في ترجمة دورات , أو قد يكون حضر لبعض البارزين في ساحة التدريب ، ثم سطع نجمه فجأة ليخرج أمام الملأ مرشحاً نفسه مجدداً للأمة ، و حينما تتأمل الأمر ، و ترسل نظرات التدبر و التمعن تجد أنهم يسيرون في طريق الثراء و الشهرة بسرعة الصاروخ و أما المحتوى فهو على أقل تقدير لا يتلاءم و أمة جريحة تريد إبصار طريق التقدم و الرقي .(1/37)
…أما الفريق الآخر فهو قد بذل جهداً جباراً في البحوث و الدراسات بعد التأسيس العلمي و المعرفي ليقدم إضافة رائعة يعالج فيها واقع الأمة العربية و الإسلامية ، بل قد يستشرف هذا المبدع مستقبل الأمة من خلال معطيات و دراسات عميقة تنم عن غزارة معرفة ، و قوة تحصيل عبر السنين ، ولو استفدنا من هذه الرؤى و هؤلاء الأفذاذ لحصل لنا خير كثير .
و لنأخذ نموذجاً لكاتب من كبار المثقفين و المفكرين العرب ،إنه الدكتور محمد جابر الأنصاري الذي ألًف كتاب ( العالم و العرب عام 2000 ) عام 1988 م ، و اليوم و نحن في عام 2007 نقرأ بعضاً من كتاباته و استشرافه عن واقع الأمة العربية يقول :
" إنه التحدي الذي أخذ يحيط بالأمة العربية في أكثر من جهة .فإسرائيل أصبحت تملك على الأقل 200 قنبلة ذرية و لجوؤها إلى الابتزاز النووي حسبما نعرفه من طبيعتها مسألة لا تحتاج إلى برهان . و فيما يلي الواجهة العربية الآسيوية فإن باكستان توشك أن تصنع القنبلة إذا لم تصنعها بالفعل . و الهند سبقت إلى ذلك بسنين عديدة و هناك تقديرات لدى المصادر الدولية بأن إيران تعمل على حيازة رؤوس نووية بشكل أو بآخر . فماذا سيفعل العرب إزاء هذا الانتشار النووي في إقليمهم غربا و شرقا ؟ خاصة و أن وكالة الطاقة الذرية لم تذكر أن بلداً عربياً ضمن دول العالم المرشحة لامتلاك القنبلة النووية في المستقبل القريب .
و فيما يختص بالخطر النووي الإسرائيلي فإن إسرائيل يجب أن تحسب كثيراً قبل اللجوء إلى هذا الخيار لقربه الجغرافي من أقطار المواجه العربية و لوجود اعتبارات دولية عديدة لا بد من حسبانها و لصغر مساحة الكيان الصهيوني ذاته فيما إذا تعرض حتى لأصغر هجوم نووي . و لكن الرادع الأهم لإسرائيل سيكون إدراكها بأن الجانب العربي لديه قدرة الرد و أنه سيلجأ إليها عند الضرورة و أن المناطق السكانية الإسرائيلية لن تكون بنجوة من أية مبارزة نووية تبدؤها إسرائيل .(1/38)
فهل يمكن أن يؤجل العرب مسالة الاستجابة للتحدي النووي المحيط بهم و إلى متى ؟
أخيرا ـ و لا زال الحديث للأنصاري ـ تبقى أهم ثلاث مهام مستقبلية عربية في الرسالة التي نأمل إيصالها إلى القارئ العربي عبر هذا الكتاب و هي :
إن الوحدة في عصر الكيانات الكبرى ليست مجرد مطلب سياسي إنها مطلب حضاري و شرط ضروري لاستيعاب حضارة العصر فهذه الحضارة تحتاج إلى كيان كبير قادر على استيعابها مثل الهند مثل الصين مثل اليابان من هنا وصلت هذه الأمم الشرقية إلى حيث تريد و لم تصل الأمة العربية إن من أهم أسباب تعثر التحديث الحضاري في العالم العربي هو أن الكيانات العربية تعمل على استيعاب هذه الحضارة الهائلة بأبعادها الكيانية الضئيلة المحدودة هذا محال و سيبقى العرب متعثرين حضارياً إلى أن يتحدوا قومياً فيبدأ كيانهم الكبير في هضم الحضارة .
فيما يتعلق بالتوجه الفكري و الأيديولوجي للعرب في العصر الحديث ، جرب العرب حلولا من " خارج الإسلام " و بمنافاة له فلم تتجذر هذه الحلول في الأرض العربية ثم توجهوا في الآونة الأخيرة إلى صيغ تنسب إلى الإسلام و تتصف بالتطرف و التعصب و معاداة العصر و ذلك في ردة فعل ضد التطرف العلماني السابق و لا يبدو أن صيغ التعصب المنسوبة إلى الإسلام و التي هي في الواقع من ترسبات التاريخ قادرة على إحداث الخلاص المنتظر
و عليه فأن العرب اليوم لا خيار لهم غير أن ينجحوا في تحقيق الاتجاه الوحيد المتبقي أمامهم و شقه إن أرادوا الحياة و هو تجديد الإسلام مع الحفاظ على جوهره ليستوعب روح العصر في توافق تام مع أصالته العربية و تسامحه العربي .
إن كلمة السر هنا تتلخص في " الإسلام – العروبة – العصر " في مندمج عضوي واحد و إذا سقطت أية كلمة من هذه الكلمات الثلاث سقطت الصيغة كلها(1/39)
هذا هو الخيار الوحيد المتبقي أمام النهضة العربية عليه أن تنجح فيه و قد تساقط كل ما عداه عليها أن تنجح فيه ، فيه وحده و إلا فإنها لن تكون .
و من أهم شروط هذا النجاح تحول هذا التوجه العام إلى مشروع حضاري عربي إسلامي بمعالم واضحة و برامج محددة و مواقف متبلورة تجاه مختلف تحديات العصر و قضايا الحياة و غياب هذا المشروع سيظل من ابرز العلائم على استمرار الأزمة الراهنة .
و " القرن العربي " .. أيضاً :
…... و لقد مر بنا في هذا الكتاب أن القرن الحادي و العشرين سيكون " قرن الباسفيكي " و " قرن القوة اليابانية " أو " قرن القوة الصفراء " ليكن ما يكون
…و لكن بإمكاننا أن نجعل معه أيضاً قرن " الوحدة العربية " و قرن " القوة العربية " بإمكاننا أن نجعل منه " القرن العربي " 45
ز - التعريف بالأفكار الوافدة ، وتوصيفها توصيفاً صحيحاً .
كثير من أجيالنا ومجتمعاتنا ؛ لا يعرفون توصيفاً لبعض الأفكار الدخيلة على أمتنا ؛ فهم يسمعون" ليبرالية ، قومية ، اشتراكية ، حداثة ، علمانية ... " ولكنهم لا يستطيعون التمييز بينها , وربما تم إسقاط هذه الأفكار على غير أهلها مما ولَدَّ فُرقة وشحناء , واستُبعدَت طاقات ومواهب هي إلى الإسلام أقرب وله أنفع وقد يتعطل مشروع الوحدة ليُستبدَل بحربٍ ضروسٍ قد تكون أطول من حربِ البسوس .
كم سمعنا كلمة ( فلان علماني ) ، ولا نعلم مدى صحة هذه العبارة ، و إذا ذهبنا نتقصى الحقيقة وجدنا مطية ( قالوا ، و زعموا ) فبئس المطية .
تحت هذه اللافتة و هذه النمطية التصنيفية التي يطلقها البعض دون وعي و إدراك ربما تفقد الأمة العربية أسماء لامعة ذات نتاج جبار قد تسهم بشكل أو بآخر في نهضة الأمة وتقدمها .(1/40)
…أقول تفقد الأمة العربية أسماء لامعة ذات نتاج جبار تحت وطأة " نمطية التصنيف " التي ما وجدت – في كثير من الأحيان – إلا لسهولة اتخاذ قرارات معينة و إطلاق الأحكام الجاهزة ؛ وهذا فيه دلالة على خلل في التفكير أو قل " كسل تفكيري " على أقل تقدير .
لذلك أرى توضيح هذه الأفكار وتبسيطها للفرد العربي وعدم التسرع في إلقاء التهم جزافا إلا بدليل وبرهان ناصع لمن يجرؤ على التصنيف . مع عدم إنكارنا لوجود هذه الأفكار في واقع أمتنا.
أظن أن مراكز إيقاظ العقل العربي ـ المنتظرة ـ معنية بتوضيح هذا الأمر من خلال توصيف جلي وبحث علمي لمثل تلك الأفكار وعلى ضوء ذلك يتم التعامل والتعاون .
ومساهمة منا في إيضاح الرؤية حول هذه الأفكار فقد رمقنا واقعنا بشيء من التدبر و التأمل فوجدنا فيه التالي :
ليبرالي متعصب : وهو يدعو إلى التحرر في وضح النهار والانفكاك من قيود الدين والمجتمع . فهذا يُجادَل بالحجة والبرهان , و تُكشَف أفكاره وأهدافه على الملأ ، وله حق الدعوة بالحسنى .
علماني متمرس يسعى بخطى حثيثة و بهدوء نحو أهدافه مستفيداً من القاعدة المشهورة ( ببطء لكم أكيد ) ، فهو يغرس أفكاره عبر السنين تحت شعارات وطنية و منافع اقتصادية ، كمثل الطنطنة حول نصف المجتمع المعطل و التوظيف المختلط ، و إشاعة المفاهيم الخطيرة التي تقرب الناس من الجو الغربي المنفتح ، هؤلاء ممن يدس السم في العسل ، ينبغي التصدي لهم و دحض شبهاتهم ، مع مناصحتهم و دعوتهم إلى الحق المبين .
مثقف ارتد ثقافياً على دينه وتاريخه.
فهذه حالة شاذة خطرة يجب التصدي لها وكشف فلسفتها وأفكارها ، ورصدها نفسياً و اجتماعياً ، و تحليل أثرها على شخصية وخلق صاحبها ، ولا شك أن له حق الدعوة بالحسنى بعد دحض شبهاته وأفكاره .
مثقف متأثر بأطروحات غربية ، ولكنه ليس داعية للتغريب . فهذا يحاور بالحسنى ويحسن التواصل معه وعدم إقصائه .(1/41)
مثقف عربي مسلم متنوع الثقافة له إسهامات رائدة في المجتمع وكتابات رائعة تحمل حلولاً للأمة العربية والإسلامية . وقد نجد في بعض أطروحاته مخالفة أو اجتهاد لا نرضاه ولا نقره . فهذا ينبغي أن نتعاون معه وأن يكون هناك تفاهم مشترك ولا نلغي ميراثه ـ لأننا قرأنا له روايةً أو سمعنا أنه امتدح بعض الأدباء أو حتى المشاهير الذين قد نختلف معهم أو خالفنا في رأي مرجوح أو ربما يكون عندنا ، هذا الرأي ، مرفوضاً تماماً - بل نتعاون معه ونقول كلمة الحق لا نخاف في الله لومة لائم .
مجموعة من المثقفين في عالمنا العربي كنا نسمع أنهم ( قوميون ) أو ( عروبيون) فكيف نتعامل مع هؤلاء الذين هم جزء مهم من كيان الأمة العربية .هل نحاربهم أم نتصالح معهم . أما من قدم بلاده وعرقه على الدين ، ودعا لذلك ، فلا شك أنه ضال مضل .
أما من أكثر الحديث عن العروبة بحكم انتمائه ، وغلب ذلك على كثير من كلامه ومشاركاته لكنه يدين بالإسلام وهو من المصلين الموحدين فأظن أن اتهامه بالضلال وجعله من خصوم الإسلام والحق اتهام في غير مكانه ، ولا يخدم أمتنا و لا بلادنا ، بل هو اتهام ظالم جائر .
فالقومية : قد تكون مذهب خطير إذا كانت اعتقاد فاسد يحل محل إخوة الدين ورباط العقيدة كما أراد لها أعداء الدين من النصارى وغيرهم .(1/42)
" فمن خبر أحوال القوميين ، وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم ، عرف أن غرض الكثير منهم من الدعوة إلى القومية ، أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع ، ومن تلك الأمور ، فصل الدين عن الدولة ، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع ، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملعقة من قوانين شتى وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة لا بلغهم الله مناهم ، ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات يرقص لها الاستعمار طرباً ويساعد على وجودها ورفع مستواها و إن تظاهر بخلاف ذلك تغريراً للعرب عن دينهم , وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم والدعوة إليها والإعراض عن دينهم " 46
إذا كان الأمر كما أشار الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ فإن بيان فساد القومية واجب ولازم ، . ونحذر الناس من خطورة هذه الأفكار وأهلها الذين يدعون إليها فالحق أحق أن يتبع .
أما إذا قَصُدَ بالقومية أنها " وعاء اجتماعي لغوي ثقافي بحاجة إلى عقيدة تملؤه وتمثل محتواه " 47 فهذا الصنف من الناس يحتاج إلى تعامل آخر ، وأظن أن كثيراً من المثقفين ينتمون إلى هذه المدرسة . فلماذا الحرب إذاً بين الإسلام والعروبة ؟!
فهل نستطيع أن نجسر الفجوة بين القوميين والإسلاميين لكي نبني مجتمعاً متماسكاً ينهض بأعباء أمتنا في زمن التحالفات الأممية والدولية ؟!
" إن القومية ظاهرة إجتماعية ولغوية وثقافية ، لكنها ليست عقيدة ولابد لها من عقيدة تستلهمها وتستهدى بها ، وعندما تتحول هي بذاتها إلى عقيدة ، تقضي على نفسها كما فعلت النازية وأنت اليوم إذا سألت الانجليزي أو الروسي أو الألماني ما هي عقيدتك ؟ لا يقول لك :
الانجليزية ، أو الروسية ، أو الألمانية وإنما يقول لك الليبرالية أو الماركسية أو الديمقراطية المسيحية أو ما إلى ذلك من عقائد ...(1/43)
وإذا كان المفكرون القوميون قد أخطئوا بتحويل القومية من ظاهرة إلى عقيدة ؟ فإن المفكرين الدينيين في ظل الموجة الحالية يخطئون أيضاً عندما يذهبون إلى الطرف الآخر من التجاوز للحقيقة ، فيلغون القومية ، نهائياً كأنها لم تكن ، ويضعون الإسلام في حرب معها دون مبرر وخلافاً لمنطق الإسلام نفسه الذي أشرنا إليه في الاهتمام والاعتراف بالفطرة الإنسانية " 48
نستطيع أن نقول أن زمن المصالحة ـ بين العروبيين والإسلاميين ـ قد حان خاصة أن واقع الأمة العربية ينادي بذلك بعد عقود من القطيعة والحرب الضروس التي أنهكت الأمة ومكنت لأعدائها ، الذين صنعوا هذه الحرب وأبدعوا في إذكائها .
" إن الأعداء يدركون بأن أمة عريقة واسعة الأرجاء غنية بالتجربة راسخة الجذور كأمتنا لابد أن تنهض وأن تستفيد من دروس الكارثة إذا عرفت كيف تعاني آلامها الحقيقية وكيف تعالج جروحها البليغة . لهذا فهدفهم اليوم هو تشويه المعاناة وإخفاء الداء الحقيقي الذي هو التجزئة والتفرقة والتخلف واصطناع أعراض مزيفة كالخلافات المذهبية والمحلية والإقليمية ، وخلق صراعات مصطنعة كالجدل بين التقدميين والتراثيين وكالجفاء بين العروبيين والإسلاميين وبين القوميين والدينيين وما إلى ذلك من معارك جانبية لتصبح هي الصراع الحقيقي ، وليتحول صراع الأمة ضد أعدائها وضد تخلفها إلى الظل وإلى الهامش فيصبح العدو صديقاً وشريكاً ، ويصبح الأخ والشريك عدواً .. وهكذا .. تنقلب كل المفاهيم والبدائه والمسلمات فلا يعرف العرب كيف يتحركون للخروج من المأزق التاريخي الذي وقعوا فيه ، ولا في أي اتجاه يتجهون فتكتمل مرحلة الكارثة بمرحلة الضياع وما بعد المرحلتين ، إلا مرحلة النهاية .. لا سمح الله." 49(1/44)
لقد آن الأوان لدعاة الإسلام أن يتوجهوا بدعوتهم إلى عدد كبير من المثقفين الذين وضعوا في قائمة العروبيين أو القوميين فهم ركن ركين في كيان الأمة العربية ، ويجب أن ندرك طبيعة المعركة المفتعلة من أعداء الدين في خلق الصراع وضرورة استمراره دون الوصول إلى اتفاق أو تفاهم . " إنهم هكذا يريدون الصراع في جسم الأمة .. دائماً مريراً لا هوادة فيه ولا رحمة ولا نهاية له ، حتى يسقط التياران معاً ، وتسقط معهما الأمة كلها " 50
وإذا كان الحديث عن المصالحة في وقت مضى مهم وملح ، فهو في هذه الآونة أكثر أهمية ، و أشد إلحاحا ؛ لعدة اعتبارات :
أولاً : سقوط الشعارات القومية و قياداتها منذ الناصرية إلى وقتنا الحاضر ؛ فالأمة العربية لم تحقق آمالها ولا طموحاتها مع هذه القيادات .
ثانياً : استبعاد تأثر هؤلاء بالمشروع الغربي الليبرالي فهم ينتمون إلى أمتهم العربية انتماء قوياً يقف حاجزاً أمام مخططات الأعداء ، فهم قطعاً لن يكونوا عملاء . بل هم ـ قد يكونوا ـ خط الدفاع الأول لحماية التماسك العربي .
ثالثاً : التحدي السافر من قبل اليهود والنصارى للأمة وسقوط قناع الديمقراطية القبيح لدى أمريكا وأوروبا ؛ الأمر الذي جمع الأمة في خندق واحد ، فلا مفر من التعاون لمقاومة العدو.
وفي ظني أن هؤلاء هم الأقرب خاصة أن الأمة تزخر بطاقات ورجال قد يكونوا محسوبين على القوميين لكن لهم مساهمات جبارة في واقع الأمة .(1/45)
رابعاً : ما دام أنهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون في مساجدنا فلماذا نصادر هذه المواهب ؟! بل الواجب تجييرها لصالح أمتنا . ثم أن النكسات المتوالية سببت فراغا روحيا و قياديا ، ولن يشبع هذا الخواء إلا روح الإسلام وتعاليمه . هذا الهاجس في التقارب ليس وليد الساعة بل تحدث كثير من المشاهير : من العلماء والمثقفين لتوضيح مدى العلاقة بين العروبة والإسلام ومحاولة تجسير هذه الفجوة الوهمية ، والدعوة إلى عمق الارتباط بينهما ، بعبارات مشفقة رحيمة .
قال ابن باز رحمه الله : " وليعلم القارئ العربي أن الدعوة إلى القومية العربية وكما أنها إساءة للإسلام ومحاربة له في بلاده فهي أيضاً إساءة للعرب أنفسهم وجناية عليهم عظيمة لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر وشرفهم الأعظم ومصدر عزهم وسيادتهم على العالم ، فكيف يرضى عربي عاقل بدعوة هذا شأنها وهذه غايتها " . 51
و الشيخ الطنطاوي ـ رحمه الله ـ يؤكد ما ذهبنا إليه فيقول: " ليس بين العربية والإسلامية ما يدعو إلى هذا الخلاف المستمر بين الدعاة إليها ، إنما الخلاف بيننا و بين من يحاول أن يجعل من القومية دينا يناوئ الإسلام ، أو يجعل من العربية أخوة يستغنى بها عن أخوة الإسلام " . 52
إذاً المقصود من هذا كله ، وحدة الأمة العربية على منهج الإسلام ، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة حتى مع المخالف ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يزور اليهودي ذلك الجار الذي كان يؤذيه ، والهدف دعوته للإسلام . فنحن حري بنا الاقتداء و الإتباع وأن ندعو إخواننا المسلمين حتى ولو خالفونا .(1/46)
و للدكتور سلمان العودة كلاما أحسبه مفيدا في هذه الفكرة ، بل مفيد في منهجنا الدعوي التغييري بشكل عام ، حيث يقول : " وكل الآيات التي جاءت تحرم موالاة غير المؤمنين فالمقصود بها المحاربون ، كقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى .. الآية )) فنهى سبحانه عن موالاتهم ما داموا محاربين أو إفشاء الأسرار الحربية لهم ، لأنه في نفس السورة قال : (( لا ينهاكم .. الآية ))
إن "الكره" إذا هو كره الكافر وعقيدته وكره ظلمه وعدوانه و البراء من قادة الحروب والدماء والعدوان على الناس والأبرياء من المسلمين ، و البراء من كل ممارسة ظالمة جائرة تزيد الظالم قوة والضعيف البريء ضعفاً فالإسلام جاء لينصر المظلوم ويأخذ على يد الظالم .
أما الولاء النسبي إن صحت العبارة كحب كافر لشخصه أو قرابته أو حسن معاملته أو صداقته فلا باس به ، وذلك نوع من الولاء الفطري الذي أباحه الإسلام ولم يقف ضده أو يحرمه ، فالإسلام أمر بصحبة الأبوين المشركين بالمعروف وأباح الزواج من الكتابيات مع أن الله قال عن العلاقة الزوجية : (( وجعل بينكم مودة ورحمة )) والمودة هي الحب ، سيتبادل الزوجان معاني الحب والرحمة ، بل قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم : "إنك لا تهدي من أحببت " يعني : أبا طالب .
فالنبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا طالب ، ولم يكن هذا الحب محرماً أو ناقصاً لمعنى الولاء الإسلامي الذي جاء به الإسلام وأرساه ليدل ذلك على مستوى رعاية الإسلام للمعاني النظرية عن المسلم وترسيخها ؛ ذكر البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال لو قال لي فرعون : بارك الله فيك ، لقلت : وفيك .(1/47)
لأن الخلق الإسلامي يحث على رد التحية بالمثل وجزاء الإحسان بالإحسان يقول الله عن المؤمنين : " ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم .. الآية " فأثبت أن المؤمنين يحبونهم وعاتب المؤمنين لأنهم يعطون الحب أحداً لا يبادلهم هذا المعنى ، ويتسامحون ويرحمون من يسومهم خطط الخسف والجور ، ولم يكن الحب المتبادل مجالاً محرماً في الإسلام ، فالعلاقات الفطرية المبنية على المسالمة والمسامحة والإخاء جاء الإسلام ليرسخها ويستفيد منها لبث الدعوة والقدوة ، لا ليقطعها و ينافر أهلها العداء " أ.هـ . 53
و الدكتور جاسم سلطان يشير إلى مفاهيم تساهم في فك الاشتباك بين النصوص وتوضح ببساطة كيف يتم التفريق بين مقررات العقيدة ، و مقررات الشريعة . قال " فالعقيدة تقوم على المفاصلة والشريعة تقوم على التعايش " وحول قوله تعالى : (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) قال : " هذا مقرر من حقائق الدين لكن جاء في العقائد وليس في الشرائع ..اليهودي الذي كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم ، لما غاب عنه ذهب الرسول صلى الله عليه و سلم ليتفقده وسأل عنه بلطف هذا هو البر .. " أ.هـ 54
هذه الأحاديث مختصة بالتعامل مع الكفار ؛ إنها الرؤية العادلة في التعامل مع المخالف عقديا.
أما مجال بحثنا ، فيتوجه إلى أناس مسلمين ، و لكن ربما وقعوا في فخ الأفكار الهدامة أو قد يكونوا قريبين من المنهج الإسلامي ولكن صنفناهم ضمن قائمة الأعداء بغير ذنب اقترفوه سوى أنهم خالفونا في الأفكار أو الممارسات .
إذاً من حق المسلمين من باب أولى حتى ولو بدر منهم أخطاء أن نتعامل معهم من خلال فضاء الشريعة ، وأن نتعايش معهم وندعوهم مع تقريرنا للحقائق وعدم التنازل عنها .
ح – ابن باز أنموذجا .(1/48)
أمام هذا الكم من النقولات , و الأفكار و المقترحات قد يشعر القارئ بنوع من الحيرة حول تطبيق هذه المفاهيم على ارض الواقع و ربما تغلبه وساوس الشيطان فيقعد عن التغيير و لا يساهم في الإصلاح و التجديد . و لكني تأملت سيرة الإمام : عبد العزيز بن باز ، فوجدته أنموذجا في عصره ، فهو عالم عارف بالواقع يقول الحق ، و يرحم الخلق ، صابر في ذات الله ، ناصح للأمة و لمخالفيه ، لقد كان جامعا للأمة ، مرجعا للجميع ، فهو حقا أنموذجا لمن أراد أن يجمع و لا يفرق في زمن ظلت فيه أفهام ، و زلت به أقدام.
…لقد كان الشيخ صريحاً في طرحه واضحاً في علاقاته ، جريئاً في الحق و لا يجامل في دين الله . تمثل ذلك واضحا في كتاباته ؛ ففي كتابه " في نقد القومية العربية " مثلا : فيه نقد صريح للقومية و فيه أيضاً دعوة لدعاتها بالعودة إلى حياض الإسلام .
…كما تمثل أيضا في علاقاته ببعض المثقفين الذين أخطأوا في بعض كتبهم و مقالاتهم كان يناصحهم ويدعوهم ، و لذلك كان التواصل بينهم و بين الشيخ على أعلى مستوى لما رأوه من إنصاف و محبة و تبيين . و حينما مات الشيخ رحمه الله .. كان منهم من عبر عن حزنه و حبه لهذا العالم الجليل.
لقد كان يرحمه الله عالما بصيراً بالواقع و متغيرات الحياة فكان منهجه منهج التأسي و الاتباع بالرسول – صلى الله عليه وسلم – في الدعوة و الإصلاح .*
…يقول - رحمه الله - : ( هذا العصر عصر الرفق و الصبر و الحكمة و ليس عصر الشدة مع الناس ، أكثرهم في جهل و في غفلة و إيثار للدنيا فلا بد من الصبر و لا بد من الرفق حتى تصل الدعوة و حتى يُبلغ الناس ) 55
خاتمة
أصل في النهاية إلى ما أريد ( عرب بعيون زرقاء )
إنهم الذين يتبنون الفكر الغربي الليبرالي بكل صراحة و وضوح و يدعمون كل برنامج يصل بالمجتمع إلى الانفتاح و التحرر و الفساد .(1/49)
…أو هم أولئك الذين يرفعون شعار التقدم و التطور و الحرية و تحرير المرأة ، و يضربون الدف على أي خطأ في بلادنا العربية له علاقة بالإسلام حتى لو كان الإسلام بريء منه ، ليحرضوا المجتمع العربي على الانقلاب و التمرد على الدين و القيم والأخلاق ، و السبب هو ما ألفوه من حياة الغرب و ثقافته ! إما من خلال المعايشة و الإعجاب أو من خلال الثقافة الدخيلة عبر مصادرها المتنوعة .
…وهناك أمر آخر ألا و هو وجود المصلحة الشخصية المقيتة هذه الصخرة التي تتحطم عليها كل المبادئ و القيم على حد تعبير توفيق الحكيم .
فالمصلحة قد تكون حب الشهوات المحرمة و الرغبة في انتشارها ، أو مصدراً مادياً يدر الملايين ، أو قل ما شئت عن مصطلح المصلحة ، فباب المصلحة عند هؤلاء بعيد المصراعين.
عندها تجد هذا العربي ذا العيون الزرقاء ينافح و يكابر و يجادل بغير وجه حق كل هذه العوامل في تكوين شخصيتين .
فهو لا يرى الأشياء إلا بعيون زرقاء مستوردة ، كما قال الوردي " فالإنسان مجبول أن يرى الحقيقة من خلال مصلحة و مألوفات محيطة ، فإذا اتحدت مصلحته مع تلك المألوفات الاجتماعية ، صعب عليه أن يعترف بالحقيقة المخالفة لهما ولو كانت ساطعة كالشمس في رابعة النهار" 56.
فلا شك أن هؤلاء يجاهدون بالحجة والبرهان ولا يترك لهم المجال لإفساد الأمة وتغريبها.
فهل عرفنا من هم (عرب بعيون زرقاء) إنهم عدد قليل ، وليسوا كثيرا كما نظن
لقد وقع الليبراليون في ورطة أمام الأمة العربية الإسلامية ، وذلك بعد سقوط قناع أمريكا وأوروبا بعد هجومهما السافر على بلاد المسلمين .
لقد تبخرت تلك الشعارات البراقة المزيفة (الديمقراطية ، الحرية ، .........) وظهرت الحقيقة التي لا جدال فيها .
فهل نحدد الهدف ، وندفع الباطل بالحق المبين ثم نبقي على عدد كثير من المثقفين الذين هم للدين أقرب ولبلادنا وأمتنا أنفع ؟
فلماذا نحطم أنفسنا وطاقاتنا بأيدينا؟(1/50)
إنه زمن المصالحة والإتحاد في مواجهة المصير المشترك ، فليس ثمة وقت للتناحر والخصام ، مادام الإسلام مظلتنا والعربية هويتنا والخصوم والأعداء يتربصون بأمتنا .
فمن يا ترى المستفيد الحقيقي من صراع أبناء الأمة الواحدة ؟
خاصة إذا كانوا هم وقود التغيير وبناء الحضارة
إن المحصلة - لا شك - تصب في صالح الأعداء وتدمي قلوب الأصدقاء. فهل ندرك خطورة الأمر ، وضرورة المصالحة .
" أما الصراع اليوم ، الصراع الأعمى من أجل التدمير الذاتي ، و قهر التيار الآخر بأي ثمن .. فذلك ثمنه واضح لا شبهة فيه ، و ستدفعه الأمة كلها من مصيرها .. ثمنه هو زوال الأرض كلها ليجد العصريون و الأصوليون أنفسهم لاجئين معاً في لا مكان .. فهل هذا ما يريده العصريون العرب ، و الأصوليون العرب لأنفسهم ؟
إذن لا مفر من الحوار ، لا مفر من الاحترام المتبادل و التفهم المتبادل بين جناحي الأمة . لا مفر من التسامح فيما بيننا ( طالما أننا نتسامح اليوم مع الآخرين ) و لنقل لا للتخوين و لا للتكفير .. لا لكل الإساءات المتبادلة بين الجانبين ، فالسلفيون هم أساس الأمة و أصلها و سندها ، و المثقفون هم خيرة شباب الأمة و رجالها و طلائعها , و اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ، فكيف إذا كانت هذه القضية هي قضية وجود الأمة و مصيرها و خروجها من كل المحن الطاحنة التي تعتصرها ؟
و هادينا لمثل هذا الحوار الذي لا بديل عنه قوله تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن ))
و إذا كان هذا الأدب الرفيع ملزماً للمسلم في تبليغه و في إقناعه لغير المسلم . فهل يليق و الحالة هذه بالمسلمين أن يتعاملوا فيما بينهم ، و يتحاوروا فيما يخصهم بغير التي هي أحسن ؟
هذا من حيث المثل الأعلى الذي أدبنا به الإسلام .(1/51)
أما من حيث الضرورة التاريخية ، فليكن واضحاً لدى مختلف الاتجاهات و الاجتهادات العربية و الإسلامية بأن هذا هو زمن المصالحة التاريخية الحتمية فيما بينها لإنقاذ وجود الأمة .. و إلا فإنه سيكون زمن الفناء المشترك لها جميعاً " 57
هوامش كتاب
عرب بعيون زرقاء
المرجع ... المؤلف ... الكتاب ... الصفحة
1 ... الشيخ علي الطنطاوي ... في سبيل الإصلاح ... 135
2 ... محمد جابر الأنصاري ... رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية ... 14-13
3 ... محمد جابر الأنصاري ... رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية ... 14
4 ... الرافعي ... وحي القلم ... ج3 ص 172
5 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 48
6 ... محمد قطب ... واقعنا المعاصر ... 250
7 ... محمد قطب ... واقعنا المعاصر ... 253
8 ... محمد قطب ... واقعنا المعاصر ... بتصرف 258
9 ... طه حسين ... المعذبون في الأرض ... 8
10 ... طه حسين ... المعذبون في الأرض ... 9
11 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 73-72
12 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 114
13 ... محمد قطب ... واقعنا المعاصر ... 292
14 ... محمد قطب ... واقعنا المعاصر ... 193
15 ... معروف الرصافي ... تحولات الفكر والسياسة
16 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 68
17 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 73
18 ... محمد جابر الأنصاري ... انتحار المثقفين ... ط 1 - ص 11
19 ... غازي القصيبي ... شقة الحرية ... ط 5 - ص 463
20 ... محمد جابر الأنصاري ... مساءلة الهزيمة ... 134 – 133
21 ... غازي القصيبي ... ديوان يا فدى ناظريك ... ط1/ 44
22 ... راشد المبارك ... فلسفة الكراهية ... 90
23 ... محمد جابر الأنصاري ... تجديد النهضة باكتشاف الذات ... 174
24 ... مجلة المجلة ( حوار خاص ) ... العدد1417(1/52)
25 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 103
26 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 103
27 ... يورغن فازلا ... القصيمي بين الأصولية و الانشقاق ... 188
28 ... يورغن فازلا ... القصيمي بين الأصولية و الانشقاق ... 191
29 ... علي الوردي ... أسطورة الأدب الرفيع ... 82
30 ... جلال العالم ... قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام و أبيدوا أهله ... 69
31 ... محمد جابر الأنصاري ... تحولات الفكر و السياسة ... 197
32 ... جريدة الشرق الأوسط ( مقال صح النوم يا عرب ) ... العدد10278
33 ... جريدة اليوم السعودية ... العدد12291
34 ... نيلسون مانديلا ... رحلتي الطويلة من أجل الحرية ... ظهر الكتاب - ط 1
35 ... راشد المبارك ... فلسفة الكراهية ... 29
36 ... راشد المبارك ... فلسفة الكراهية ... 30
37 ... سورة البقرة ... آية 257
38 ... الشيخ /عبدالرحمن بن سعدي ... تيسير الكريم المنان ... 93
39 ... سورة الزمر ... آية10
40 ... البخاري ... صحيح البخاري - باب ذكر الملائكة ...
41 ... سورة آل عمران ... آية 159
42 ... سورة الفتح ... آية 29
43 ... محمد جابر الأنصاري ... تجديد النهضة باكتشاف الذات ... 46
44 ... محمد بن راشد آل مكتوم ... رؤيتي ... 158 - ط 3
45 ... محمد جابر الأنصاري ... العالم و العرب عام 2000 ... ط1 / 161
46 ... الشيخ عبدالعزيز بن باز ... نقد القومية ... 5
47 ... محمد جابر الأنصاري ... رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية ... 31
48 ... محمد جابر الأنصاري ... رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية ... 15
49 ... محمد جابر الأنصاري ... رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية ... 136-135
50 ... محمد جابر الأنصاري ... رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية ... 137
51 ... الشيخ عبدالعزيز بن باز ... نقد القومية ... 8
52 ... الشيخ علي الطنطاوي ... في سبيل الإصلاح ... 137(1/53)
53 ... د . سلمان العودة ... موقع الإسلام اليوم
54 ... لقاء مع د . جاسم سلطان في موقع الإسلام اليوم
55 ... فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز ... ج 8 ص 376
56 ... علي الوردي ... مهزلة العقل البشري ... 86
57 ... محمد جابر الأنصاري ... رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية ... 139
العنوان ... الصفحة
المقدمة .................................................................................. ... 1
يا عرب هل فقدنا الذاكرة ................................................................ ... 3
العرب هم مادة الإسلام .................................................................. ... 4
طلائع البعث التغريبي ................................................................... ... 6
رموز التغريب .......................................................................... ... 6
رفاعة الطهطاوي .................................................................. ... 6
قاسم أمين .......................................................................... ... 7
طه حسين .......................................................................... ... 7
اعترافات و آراء المثقفين العرب و العودة إلى الجذور ................................... ... 10
هيكل يعلن العودة إلى الجذور ....................................................... ... 10
طه حسين يبدي خيبة أمل في ليبرالية أوروبا ........................................ ... 10
د . محمد جابر الأنصاري يرصد الانتحار ، ذلك الوافد الجديد إلى الحياة العربية ..... ... 11
د . غازي القصيبي ( من شقة الحرية إلى العصفورية ، تساؤلات و إشارات ) ....... ... 11
د . راشد المبارك : الثقافة العربية مرفأ للاستيراد لا للتصدير ........................ ... 13(1/54)
أدب اللامعقول ... هل يتفق و إيقاظ العقل العربي ؟ ................................. ... 13
ظواهر و تغيرات في العقل العربي ...................................................... ... 15
ظاهرة الإسلاميات .................................................................. ... 15
ظاهرة الانشقاق ..................................................................... ... 15
الرواية الماجنة و النص الدرامي الساقط مركب سفهاء العرب ........................ ... 16
الشعوب العربية و رفض التغريب و الاستعمار .......................................... ... 19
رؤية .................................................................................... ... 20
أمة عربية واحدة ذات رسالة محمدية ناصعة ............................................ ... 22
خطوات مقترحة نحو وحدة الأمة العربية ................................................ ... 23
الخطوة الأولى : نبذ الكراهية و نشر روح المحبة و التسامح ........................ ... 23
الخطوة الثانية : النقد البناء بالحجة و البرهان ....................................... ... 24
الخطوة الثالثة : قبول الرأي الآخر و عدم الإقصاء .................................. ... 25
الخطوة الرابعة : الصبر و الرحمة ... نعم المطيتان ................................. ... 25
الخطوة الخامسة : تفكيك الانتماءات الحزبية ......................................... ... 26
الخطوة السادسة : إقامة مراكز لإيقاظ العقل العربي .................................. ... 27
الخاتمة ................................................................................. ... 39
الهوامش ................................................................................ ... 41(1/55)
الفهرس ................................................................................. ... 44
فهرس كتاب
عرب بعيون زرقاء(1/56)