بسم الله الرحمن الرحيم،وصلى الله وسلم على نبيه الكريم،وعلى آله وصحبه أولي الصراط المستقيم.
1-
عجيبة في مطلع سورة مريم:
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (2) سورة مريم.
هذا التركيب الفريد قد لا يكون له مثيل في إنجاز الناس،ووجه الانفراد أن القرآن صاغ تعبيره من خمسة أسماء ظاهرة-بدون عطف وبدون فعل-
بل هي سبعة أسماء بالنظر إلى المضمر منها: الكاف والهاء.
بل هي ثمانية أسماء بالنظر إلى المقدر منها:ذكر خبر مرفوع بمبتدأ محذوف تقديره :هذا ذكر رحمة ربك.
(قال الفراء-على ما حكاه القرطبي- : هو مرفوع ب"كهيعص"؛ قال الزجاج : هذا محال؛ لأن "كهيعص" ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا ، وقد خبّر الله تعالى عنه وعن ما بشّر به ، وليس "كهيعص" من قصته . )
ثم لينظر بعد هذا إلى بديع التوازي-الخطي- بين خماسية الحرف:
{كهيعص}
وخماسية :ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا.
2-
عجيبة في سورة الكوثر:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3)
نبدأ بملاحظات عابرة تتعلق بتناسبات صوتية وحرفية الهدف منها إشعار القاريء أن سورة الكوثر تخفي خلف كلماتها العشر أمورا كثيرة وكثيرة جدا:
-كلمات السورة استنادا إلى الخط والرسم عشر:
{إِنَّا- أَعْطَيْنَاكَ- الْكَوْثَرَ- فَصَلِّ- لِرَبِّكَ- وَانْحَرْ-إِنَّ- شَانِئَكَ- هُوَ- الْأَبْتَرُ}
-الآية الأولى نسيج حرفي مكون من حروف عشر-بدون اعتبار المكرر منها-:
ا-ن-ع-ط-ي-ك-ل-و-ث-ر.
-الآية الثانية هي أيضا مبنية من عشر حروف-بدون اعتبار المكرر دائما-:
ص-ل-ر-ب-ك-و-ا-ن-ح.
-الآية الأخيرة -كما قد يتوقع القاريء-كاختيها أعني العدد نفسه باعتبار نوع الحرف لا أفراده :
ا-ن-ش-ك-ه-و-ل-ب-ت-ر.
ولعل إشارة أخرى تقلل من فرضية الصدفة وهي أن عدد الحروف التي لم تستعمل إلا مرة واحدة عشرة أيضا وهي:(1/1)
ع-ط-ي-ث-ف-ص-ح-ش-ه-ت.
فلنقف عند هذا الحد دون أن نبني على ما ذكرنا شيئا فهذا المنهج لا يستهوينا في الحقيقة.
الجمل في سورة الكوثر:
لأهل اللغة تقسيمات كثيرة لأنواع الجملة في اللسان العربي لكن المثير للدهشة أن سورة الكوثر الكريمة قادرة على إعطاء مثال عن كل نوع ،وتزداد الدهشة أكثر عندما ندخل في الحسبان أن عدد جمل السورة أربعة فقط.ولكنها "الكوثر": اسما ومسمى.
1-تنقسم الجمل عند أهل اللسان -عند أهل البيان منهم خاصة-إلى نوعين:
جمل خبرية وجمل انشائية.
وإذا تدبرت سورة الكوثر وجدت فيها النوعين معا:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
جملتان خبريتان.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ.
وَانْحَرْ.
جملتان إنشائيتان طلبيتان .
2-تتعاقب الجمل في الكلام العربي وفق نظام الوصل والفصل وقد افرد علماء المعاني هذا النظام بمبحث خاص سموه باب الوصل والفصل واعتبروه أم البلاغة وقلبها....ويعنينا هنا أن سورة الكوثر قادرة على إعطاء مثالين للمفهومين:
فجملة"انحر" معطوفة بالواوعلى جارتها" فَصَلِّ لِرَبِّكَ."وهذا الوصل.
وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.وهذا الفصل.
3-يقسم أهل النحو الجملة العربية إلى قسمين:
جمل اسمية وجمل فعلية.
وقد اشتملت السورة الكريمة على النوعين كما لا يخفى على أحد .والجمل التي ذكرناها عن الخبر والانشاء تمثل باعتبار آخر الاسمية والفعلية.
استطراد -قد يكون نافعا-:
القسمة ثنائية عند الجمهور فالجمل عندهم إما فعلية وإما اسمية...وقد حاول بعض النحاة قديما وحديثا أن يزيد قسما ثالثا ولكن هذه الزيادة لم تكن مقنعة:
فالزمخشري اقترح نوعا ثالثا هي الجملة الشرطية لكنها لم يرتضها غيره.قال ابن هشام في المغني:
وزاد الزمخشري وغيره الجملة الشرطية والصواب أنها من قبيل الفعلية.(1/2)
وابن هشام نفسه اقترح في المغني نوعا ثالثا هو الجملة الظرفية لكنها لم تلق قبولا حسنا من الدسوقي، فقال في حاشيته على المغني:
(قوله :إلى اسمية وفعلية وظرفية)هذا تقسيم أصلي للجملة ولكن في الحقيقة أن الظرفية ترجع لما قبلها من الاسمية والفعلية لأنك إما أن تقدر عامل الظرف كائن أو استقر.
والصواب مع الجمهور لأن النوعين الجديدين يمكن إرجاعهما إلى النوعين الأصلين وتقيل الأقسام مطلوب كما هو معلوم.
فصح عندنا أن نقول إن سورة الكوثر احتوت نوعيا كل العربية.
4-يقسم أهل اللغة الجملة باعتبار بنيتها إلى قسمين:بسيطة ومركبة وقد يعتمدون اصطلاحا مغايرا- قريبا وليس مرادفا-
فيقولون:جملة صغيرة وكبيرة.قال في المغني:
الكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو" زيد قام أبوه" و"زيد أبوه قائم"
والصغرى هي المبنية على المبتدأ كالجملة المخبر بها في المثالين.
ولك أن تعجب من سورة الكوثر فهي لم تقدم مثالا عن كل نوع فقط بل قدمت مثالا ثالثا لجملة تحتمل النوعين بحسب وجهة النظر:
- إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ:جملة مركبة أو كبرى ف أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ جملة صغيرة في محل رفع خبر للجملة الأصلية.
- فَصَلِّ لِرَبِّكَ.جملة تامة صغيرة فيها اسناد واحد.
أما جملة: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.....فهي من المرونة بحيث تضعها حيث شئت:فلو اعتبرت "هو"ضمير فصل و"الأبتر" خبرا عن الشانيء فالجملة بسيطة لا محالة .ولو اعتبرت "هو"مبتدأ و"الأبتر" خبره ومجموعهما خبرا للشانيء فالجملة كبرى ضرورة.فلله در هذه السورة.
الضمائر في سورة الكوثر:
استوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان،وتفصيله:
1-الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".(1/3)
ومن مستتره ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
2-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
3-الضمائر في إحالتها على عناصر الخطاب تنقسم إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب.
ولا تحتاج إلى غير سورة الكوثر للتمثيل:
-فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا"
-وضمير المخاطب في" أعطيناك" و" ربك" و"شانئك" صريحا،و في"صل" و"انحر"مقدرا.
-وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانيء مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
4-باعتبار مقولة العدد :
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة.وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك"
استطراد آخر-قد يكون مفيدا-
:
قد يقال إن مقولة العدد في اللسان العربي ذات تمفصل ثلاثي وليس ثنائيا..فأين ضمير المثنى في سورة الكوثر؟
جوابه من وجهين:
-ليس من شرطنا أن تحتوي السورة على كل أبواب النحو لتحصل المعجزة -فمقولة التأنيث مثلا لا حضور لها في السورة-بل يكفي أن تتعدد الأنواع والتقاسيم بصورة غير عادية ،وما ذكرناه كاف إن شاء الله.
-"المثنى" في اللغة العربية باب قلق لا ينضبط ...وكثيرا ما يعبر العرب بصيغة الجمع عنه، فيكون الجمع بديلا عن المثنى كما في كثير من اللغات الحالية.
وفي القرآن المبين أمثلة كثيرة منها:
{إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (4) سورة التحريم
صدر الآية مثنى وليس كذلك عجزها.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } (19) سورة الحج
رجع ضمير الجمع على مثنى.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (38) سورة المائدة
حصلت المطابقة في المضاف إليه وما هي بحاصلة في المضاف.
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (9) سورة الحجرات
حصلت المطابقة في "بينهما" لكن بعد أن قال "اقتتلوا".(1/4)
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (11) سورة فصلت
فالحال صيغة جمع وصاحبها مثنى.....
خلاصة القاعدة أنك إذا عبرت عن المثنى بصيغة الجمع فتعبيرك صحيح.
5-الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
-ضمير فى محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
-ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
-ضمير في محل جر:(ربك) الكاف فيها مضاف إليه مجرور.
ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
-اسم إن.
-فاعل أعطى.
-الرب.
وجاءت على التوالي:
منصوب
مرفوع
مجرور.
وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
"كاف" أعطيناك منصوبة
"صل"الضمير المستتر مرفوع.
"كاف" ربك مجرور.
الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قلتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عددا كبيرا:
1-الفعل الصحيح:نحر
2-الفعل المعتل:أعطى.
3-الفعل المضعف:صلى.
4-الفعل المجرد:نحر.
5-الفعل المزيد: أعطى.
6-الفعل اللازم:صلى.
7-الفعل المتعدي إلى مفعول واحد:نحر.
8-الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول:أعطى.
فلله درها من سورة....
والله أسال أن يعفو عما كان من خطأ أو تقصير......وصلى الله على محمد صاحب الحوض والكوثر وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
3-
عجيبة في مطلع سورة البقرة:
مقدمة:
الاتساع مصطلح مشترك تتنوع دلالاته بحسب خصوصية المجال اللغوي المستعمل فيه.
-عند النحويين:
الاتساع دال على كل صنوف التغيير في أصل التعبير من حذفٍ ، وزيادةٍ ، وتقديم وتأخيرٍ ، وحملٍ على المعنى ،قال ابن جني:(1/5)
" وكيف تصرفتِ الحال ُ فالاتساع فاشٍ في جميع أجناس شجاعة العربية وذلك لأنَّ " من شأن العرب التوسعَ في كل شيءٍ"فما يأتي على خلاف الأصل قيل فيه : هو على سعة الكلام ، أو لاتساعهم فيه .
فالاتساع إذن هو التخطي والتجاوز لكل ما هو ضابط أو أصل أو قاعدة......أو لنقل هو نوع من" الخطأ" لكنه مقبول ومستساغ.....
-عند البلاغيين:
يأتي الاتساع بدلالتين مختلفتين بحسب الفرع البلاغي المستعمل فيه.
1-في فرع البيان.
يذكر الاتساع في سياق ذكرهم للمجاز.....وهنا أيضا" يتوسعون في الاتساع"!
-فقد يكون الاتساع أعم من المجاز فيدل حينئذ على ما يسميه المعاصرون "الانزياح" أي الخروج عن مقتضى المألوف الاستعمالي سواء تعلق الأمر بالمعنى أم باللفظ.
-وقد يكون مساويا للمجاز ومرادفا له.
-وقد يكون أخص منه وشرطا من شروطه . قال ابن جني في الخصائص: الحقيقة ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان ضدّ ذلك، وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عُدِمت الثلاثة تعينت الحقيقة .
مثاله:
قوله تعالى: { وأدخلناه في رحمتنا } ( الأنبياء: 75)هو مجاز، وفي المعاني الثلاثة. أما السعة، فلأنه كأنّه زاد في اسم الجهات والمحال اسماً هو الرحمة. أما التشبيه، فلأن شبه الرحمة -وإن لم يصح دخولها -بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه. أما التوكيد، فلأنه أخبر عن المعنى بما يُخبر به عن الذات.
2-في فرع البديع:
عرف ابن رشيق باب الاتساع :أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى"
*******
الاتساع بالمعنى الأخير هو المراد عندنا .....غير أن نظرنا ليس إلى الاحتمالات المعجمية للألفاظ أو تعدد مصاديقها في الخارج- كما في تفسير الأقسام القرآنية مثلا-بل نظرنا -بالقصد الأول-فقط إلى التعدد الدلالي الناشيء عن الاحتمالات التركيبية.(1/6)
وقد بلغ مطلع سورة البقرة -في تعدد الاحتمال التركيبي-شأوا بعيدا تندق دونه كل أعناق البشر.....فهو الإعجاز في التوسع التركيبي لا ريب.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (2) سورة البقرة
هي سبع كلمات فقط...لكنها من المرونة بحيث تقبل أن تتخذ أوضاعا تركيبية متعددة....فالكلمة الواحدة يمكن في أي لحظة أن تنفصل عن أختها-أو تتصل بها- لاعتبارات تركيبية فيتحصل من الفصل والوصل تنوع دلالي مذهل ،وإعجاز في صورة ملموسة لا تنكر عند المنصفين.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}
أولا-كم عدد الجمل في الآية؟
لو قلت :ثلاث جمل لأصبت.
لو قلت: جملتان لأصبت.
لو قلت جملة واحدة لأصبت.
لو قلت بها جميعا-على الشمول أو على البدل- لأصبت أيضا!!!
1-التركيب الثلاثي:
الآية من هذا المنظور المختار مؤلفة من ثلاث سبائك:
-أ-
ذَلِكَ الْكِتَابُ:جملة ابتدائية تامة.
لاَ رَيْبَ فِيهِ:جملة استئنافية تامة.
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ:جملة استئنافية تامة.
الجملة الأولى: اسم الإشارة فيها مبتدأ، و"الكتاب" خبره.
"اللام" الداخلة على "كتاب" هي لاستغراق خصائص الجنس وصفاته..
وينبغي في هذا المقام التمييز بين اللام الاستغراقية التي تكون لاستغراق جميع افراد الجنس والتي من ضوابطها أن تخلفها "كل"حقيقة، واقعية، أو عرفية، وبين هذه التي أريد بها استغراق خصائص الجنس وصفاته مبالغة في المدح-أو الذم- والتي من ضوابطها أن تخلفها "كل" مجازا وتسمى ب "كل الإحاطية".ومثاله :"زيد الرجل"وتريد أنه جمع في نفسه ما تفرق في غيره من معاني الرجولة.أو أن "زيدا هو من يستحق أن يوصف بالرجولة.
ذلك الكتاب....أي إن كان في الوجود شيء يستحق أن يسمى كتابا فهو هذا.
واحتمال التوسع في دلالة اللام وارد ، فقد تناسب العهد الحضوري والعهد الذهني معا،ومدار الأمر على توسع آخر في دلالة اسم الإشارة:(1/7)
-فقد قيل المراد بقوله "ذلك الكتاب" ما قد نزل من القرآن قبل سورة البقرة-ما نزل بمكة مثلا-فيكون العهد حضوريا لأن نزول القرآن بمثابة حضوره.
-وقد قيل اللام للعهد الذهني....
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موعودا من قبل بكتاب...قال ابن كثير: وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم يقول الله تعالى : [ إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا ]....
ولما نزل بعضه قال الله تعالى هذا هو الكتاب الذي كنت وعدتك به .
أو لأن "ذلك"إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد -على رأي الكسائي-
وقيل إن الله كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتابا فالاشارة إلى ذلك الوعد....
حاصله أن التوسع شمل اسم الاشارة بالنظر إلى حقيقة المشار إليه كما شمل اللام بالنظر إلى أنها للعهد الذهني أوللعهد الحضوري أولاستغراق خصائص الجنس.
الجملة الثانية:
"لا ريب فيه".....
جملة اتسعت من جهتين:
-من جهة التركيب إذ احتملت الاعتراض والاستئناف.
-ومن جهة التداول إذ احتملت الإخبار والإنشاء...
فمعنى "لا ريب فيه"إخبارا: أن القرآن -في نفس الأمر-لا شك فيه وإن حصل الشك في نفوس المبطلين....أو إن المرتابين في القرآن من الكفار لو رجعوا إلى أنفسهم وتجردوا من أهوائهم وتعصبهم لظهرت لهم الحقيقة التي يدعون خفاءها أو يريدون إخفاءها.
ومعنى "لا ريب فيه"إنشاءا:النهي عن الارتياب في القرآن فكأن المعنى :
ذلك الكتاب الذي لا ينبغي فيه الارتياب.....والجملة الخبرية في العربية قد يراد بها الطلب.....كقوله صلى الله عليه وسلم "الأئمة من قريش"فالأمر في صورة الخبر .ولا يجوز أن يكون الخبر حقيقيا لأنه يلزم عنه الكذب.....فكثير من أئمة المسلمين من غير قريش...فاللازم محال والملزوم كذلك.
الجملة الثالثة:
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ......(1/8)
جملة تامة مبتدؤها مقدر يعود على القرآن.....وحذف المبتدأ المعروف سائغ في العربية وقد جاء منه في القرآن شواهد كثيرة منها:
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) سورة الأحقاف
بلاغ خبر لمحذوف تقديره هذا بلاغ.
ومنه مطلع سورة مريم الذي سبقت الإشارة إليه..
-ب-
ذَلِكَ الْكِتَابُ:جملة ابتدائية تامة.
لاَ رَيْبَ :جملة استئنافية تامة.
فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ:جملة استئنافية تامة.
يتجلى الاتساع هنا في المرونة العجيبة ل "فيه"...فيجوز الوقوف على ريب والاستئناف ب "فيه".....كما يجوز الوقوف على "فيه" والاستئناف ب "هدى" وهذا ما يسمى بوقوف التعانق.
والطريفة الإعرابية أن "فيه "انفصلت عن المبتدأ السابق واتصلت بما بعدها.....فاصبحت لا النافية للجنس بدون خبر وهو سائغ فصيح كما تقول" لا بأس" و"لا فوت" و"لا ضير"-وهذا الحذف مما يلتزمه التميميون والطائيون-
وأصبح "هدى "مبتدأ بعد أن كان خبرا.....والمحذوف مذكورا.
وتعبير "فيه هدى للمتقين "أضاف معنى جديدا :
الاهتداء بالقرآن.
الاهتداء في القرآن.
فعلى المعنى الأول يكون القرآن منهجا ونورا متبعا.
وعلى المعنى الثاني يكون الهدى داخله يبحث عنه ويستنبط منه.
ومفهوم الصفة صحيح هنا فالهداية مقتصرة على المتقين ولا يزيد الفاسقين إلا ضلالا..
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ
وقبل أن نختم الكلام على هذا الوجه نشير إلى صيغة" هدى"
فانتهاؤها بألف مقصورة يستجيب لحكمة بالغة وهي أن تأتي في وضع اتساعي لا يقطع معها بنصب أو رفع ......ومن ثم يجوز أن تكون مبتدأ وخبرا وحالا.......وسترى ذلك إن شاء الله بعد حين.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}
2-التركيب الثنائي:
وفيه احتمالات خمسة:
-ج-(1/9)
ذَلِكَ الْكِتَابُ.
لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
ذلك الكتاب مدح كما مر.والجملة الثانية تأكيد لاشتمال القرآن على الهدى بواسطة أسلوب النفي.
"فيه"متعلق بخبر محذوف (كائن)،وهدى مبتدأ.والجملة في محل رفع خبر "لا".
ويجوز أن تكون "فيه"خبر "لا" ليظهر الاتساع مرة اخرى في إعراب "هدى".فتنزل إلى رتبة الفضلة بعد أن كانت في رتبة العمدة: إذ تحتمل أن تكون حالا .فيكون المعنى:لا شك كائن في القرآن في حال كونه هدى للمتقين.وما كان لهذا الإعراب أن يكون لولا الألف المقصورة في "هدى" حيث تكون العلامة الإعرابية مقدرة وبالتالي يتسع المحل لتقدير الرفع والنصب.فلله در هذا القرآن!!!
-د-
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ.
فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
اسم الإشارة مبتدأ ، "الكتاب" بدل أو نعت أو عطف بيان.
"لا ريب"مركب خبري.وقد أشرنا قبل إلى صحة الوقف على ريب والاستئناف ب "فيه".
-ه-
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ.
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
الاختلاف عن السابق يسير :ذكر خبر "لا"، وحذف مبتدأ "هدى".
-و-
ذَلِكَ الْكِتَابُ- لاَ رَيْبَ فِيهِ- هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
-ز-
ذَلِكَ الْكِتَابُ- لاَ رَيْبَ- فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
التوسع في الحالتين الأخيرتين مبني على اعتبار جملة "لاَ رَيْبَ" أو "لاَ رَيْبَ فِيهِ" اعتراضية.....
"ذلك الكتاب": مركب ابتدائي،"هدى": خبره، "للمتقين": مركب حرفي متعلق بنعت مرفوع محذوف.
أو:
"ذلك الكتاب" :مركب ابتدائي،"فيه هدى للمتقين": جملة إسمية في محل رفع خبر المركب الابتدائي.
تتمة الكلام بعد حين.....إن شاء الله.
3-التركيب الأحادي
-ح-
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
جملة واحدة،لكن الاتساع هنا ناشيء من تعدد احتمال تعيين أقسامها:
*الاحتمال الاول:
ذلك :مبتدأ.
الكتاب : خبر.
لا ريب فيه:خبر بعد خبر.
هدى للمتقين:خبر بعد خبر بعد خبر.
*الاحتمال الثاني:(1/10)
ذلك: مبتدأ.(الكتاب: نعت أو بدل أو عطف بيان)
لا ريب فيه: خبر.
هدى للمتقين :خبر بعد خبر.
*الاحتمال الثالث :
لاريب فيه:حال.
*الاحتمال الرابع :
هدى:حال من "الهاء"...............
هذا ،وليس التعبير يزيد على سبع كلمات!!فمن-من الثقلين- يستجيب للتحدي؟؟
هذا، ولو أدخلنا في الاعتبار "الم" لزاد عدد الاحتمال التركيبي لدرجة الذهول.....
مثلا:
-على اعتبار "الم" قسما ستكون الجملة جواب القسم.
-وعلى اعتبار "الم"اسما للسورة أو للقرآن تكون مبتدأ خبرها "ذلك الكتاب" واللام للعهد الذكري والاشارة إلى الحروف المقطعة...
-ويجوز اعتبار "الم" بمعنى المؤلف من هذه الحروف...و"ذلك الكتاب" خبر......
وتقدير المعنى :ليس القرآن مؤلفا إلا من هذه الحروف المتداولة بين الناس......
وقد يستشكل هنا ورود الخبر أعم من المبتدأ....فالقرآن أكثر من تلك الحروف الثلاثة.....فكيف يخبر به عنها.....
الجواب:أن تلك الحروف الثلاث ممثلة لغيرها ألا ترى أن مخرج الألف من أقصى الحلق ومخرج اللام من الوسط ومخرج الميم من الطرف ......فتكون بدلالة الإشارة نبهت على استغراق كل المخارج -وتبعا لذلك علىكل الحروف-......
لكن هذا غير مقطوع به وما أشرنا إلى هذه الحروف إلا لإبقاء باب الاتساع مفتوحا .......
والله أعلم.
هذا تمام الكلام على عجيبة الاتساع في مطلع البقرة.......
4-
{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }
هذه الآية قد لا تستوقف المتدبر،وقد يغتر بوضوحها في الذهن فينصرف عنها إلى غيرها.وهذا نهج غير سليم في تدبر القرآن الكريم :فلا بد من تثوير كل آية على حدة ولابد من الاعتقاد بضرورة العودة إلى تلك الآية مرة أخرى على أمل أن ينكشف اليوم ما استعصى بالأمس،ولا يقال قد فرغنا منها، فمن شأن الكلمة الطيبة أن تؤتي أكلها كل حين.
وقد اخترت هذه الآية لذلك القصد......
فليس أظهر من قوله عز وجل{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }(1/11)
وليس أوضح من كلمة حساب،لكنها تخفي- خلف ظهورها- ما يخلب الألباب، مثل الشجرة التي تخفي الغابة....أو مثل -وهذا التشبيه أبلغ من السابق-"فص الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعا فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع .ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت".(حسب تعبير الشيخ عبد الله دراز)
إذن،هذه عجيبة قرآنية في كلمة ألماسية!!
"حساب" .......
جاءت في موقع من النظم اكتسبت معه قدرة على التعدد الدلالي على نحو معجز:
-فهي مسبوقة بفعل "يرزق" وزمن الفعل يحتمل أن يكون دالا على الدارين:في العاجل وفي الآجل.
-وهي مسبوقة ب "من"المجملة المحتملة الدلالة على الفريقين: المؤمنين و الكفار.
-وهي مسبوقة بالفعل والفاعل والمفعول.
-ثم هي نفسها تحتمل أن تكون مصدرا أو مصدرا مرادا به الفاعل أو مصدرا مرادا به المفعول.
-وهي من جهة أخرى تحتمل أن تكون بمعنى العد والإحصاء وبمعنى الظن والترقب وبمعنى
المحاسبة والمؤاخذة.
-وهي ،أخيرا، من المرونة بحيث تقبل أن تنسجم مع جل الاحتمالات السابقة..... فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع!!
وهذه نماذج-ليست للحصر- :
1-{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }
أي:عطاء الله لا يدخل تحت عد أو حصر،فهو بغير حساب أي لا يتناهى ،كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} (54) سورة ص.والأنسب هنا أن تكون "من" دالة على المؤمنين وأن يكون العطاء في الآخرة فالجنة خالدة وأهلها يرزقون فيها لا إلى نهاية.
فتكون الآية مشيرة إلى سعة ملك الله.
2-{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }.
أي:لا يحسب ما يعطي لأنه لا يخاف نفادها عنده، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم مقدار ما يعطي وما يبقي، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به، والله لا يحتاج إلى الحساب، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته.(الرازي)(1/12)
فتكون الآية مشيرة على الغنى المطلق.
3-{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }.
أي: أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض، فهو بغير حساب،(أبو حيان).
فتكون الآية مشيرة إلى كرم الله :يعطي مقابل الشيء عدلا ويزيد ما لا مقابل له تفضلا .
4 -{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }.
أي:يرزق من يشاء ولا يحاسب نفسه على كثرة ما أعطى لأنه كريم.
أو:
لا يحاسبه أحد على فعله ولا يوجد من يحاسبه لأنه هو العلي الأعلى { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ }.
فتكون الآية مشيرة إلى الربوبية المطلقة.
5-{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }.
يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً وذلك متعلق بمحض المشيئة، فقد وسع الدنيا على قارون، وضيقها على أيوب عليه السلام، فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين، بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج، والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان، ولهذا قال تعالى:
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ }
[الزخرف: 33](الرازي)
فتكون الآية تقريرا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.(دراز)
6-{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }.
أي :طائفة من الموحدين الذين يدخلهم الله الجنة بدون حساب وهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كما في الحديث الصحيح....و ( هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ).
7-{ والله يرزق من يشاء بغير حساب }.(1/13)
أي: من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره: لم يكن هذا في حسابي، فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية: أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم، فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين، قال القفال رحمه الله: وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود، وبما فتح على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر.(الرازي)
وقِيلَ : بِغَيْرِ أَن حَسِبَ المُعْطَى أَنْ يُعْطِيَهُ أَعطاهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبْ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : مِنْ حَيْثُ لاَ يُقَدِّرُهُ وَلاَ يَظُنُّهُ كَائِناً مِنْ حَسِبْتُ أَحْسَبُ أَيْ ظَنَنْتُ وجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذاً مِنْ حَسَبْتُ اَحْسُبُ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْسُبْهُ لِنَفْسِهِ ..(تاج العروس)
-{ والله يرزق من يشاء بغير حساب}...فيها من المعاني أيضا بغير حساب....
للاستزادة يرجع إلى تفسير الرازي "مفاتيح الغيب" وتفسير أبي حيان "البحر المحيط" وهامش صفحة 117 من كتاب" النبأ العظيم "للدكتور عبد الله دراز.
5-
{ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } (30) سورة يوسف
رأينا في مطلع البقرة كيف أن المتوالية من الكلمات يمكن أن تتخذ صورا تركيبية متعددة ورأينا كيف يمكن للكلمة القرآنية الواحدة-حساب- أن تشع بالألوان المختلفة من الدلالات وسنقف الآن على صورة باهرة أخرى هي تقريبا مقابلة للصورة السابقة أعني أن تكون الكلمات المختلفة تشع بلون دلالي واحد.
امرأة-العزيز-تراود-فتاها.
كلمات تنتمي إلى حقول دلالية مختلفة كل الاختلاف،لكنها لما اجتمعت في النظم القرآني في عبارة واحدة تآخت واتحدت لتشكيل معنى واحد :
هذه الجملة جرت على لسان النسوة في المدينة ومرادهن التشنيع على صاحبتهن....(1/14)
فانظر الآن إلى كل كلمة على حدة كيف تضمنت قسطا من التشنيع ،فإذا انتقلت إلى أختها ألفيت فيها التشنيع نفسه لكن باعتبار آخر وهكذا.......:
1-امرأة:
التشنيع المتضمن في الكلمة باعتبار الوضع العائلي:
فصاحبة الفضيحة امرأة متزوجة،ومن ثم لا ينبغي أن يكون لها عذر في تصرفها المشين ..
فلو صدر هذا التصرف من غير المتزوجة فلربما كان لها بعض عذر.....لكن هذه امرأة.!!
2-العزيز:
التشنيع المتضمن في الكلمة باعتبار الوضع الطبقي:
فصاحبة الفضيحة ليست من الحثالة أو من الطبقات الدنيا بل هي امرأة العزيز....ومن المعروف أن الفضائح المتسربة من علية القوم يكون لها دوي كبير بين الناس ويكون ذكرها على الألسنة ضربا من التشفي أو النكاية أو الانتقام من عجرفة القوم.....بينما فضائح البسطاء من الناس عادة لا يؤبه بها لأنها متوقعة منهم ....بخلاف العلية من الناس .باختصار فضيحة الأكابر هي كبرى الفضائح.!!
3-تراود:
التشنيع المتضمن في الكلمة باعتبار الوضع النوعي:
فصاحبة الفضيحة تصرفت خارج المعهود من بنات جنسها،وتنكرت للحياء الجبلي في بنات حواء....فأصبحت في وضع شاذ جدا...فبدل أن تكون مطلوبة-كما هو مقتضى طبيعة الجنسين- أصبحت طالبة.....بل إن شأنها ليس مجرد نزوة عابرة تحسب على الضعف الآدمي كلا،فهي مصرة ومترصدة كما يفيده فعل- راود -الذي يدل على تكرار الحدث مرة بعد مرة.
4-فتاها:
التشنيع المتضمن في الكلمة باعتبار الوضع الخلقي:
فصاحبة الفضيحة لم تجد من تتخذ إلا فتاها!وهذا غاية التشنيع كما لا يخفى....
ولا ينبغي أن يغيب عن القاريء عنصر صوتي له اسهام ملحوظ في تشكيل المعنى ألا وهو الإمالة في نطق -فتاها-.....حيث الايحاء بالتسفل والسقوط !
خلاصة القول أن النسوة جمعن كل النكاية في الجملة المنطوقة.....وسددن على امرأة العزيز كل أبواب المعذرة وصورن فضيحتها في أبعادها المخزية المختلفة..."فضيحة بجلاجل"- كما يقول الإخوة المصريون-.(1/15)
فكان وصف القرآن لتلك الجملة بالمكر....
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ....} (31) سورة يوسف.
6-
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،باسم الله الرحمن الرحيم.
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5} كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى{6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى{7} إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى{8} أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى{9} عَبْداً إِذَا صَلَّى{10} أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى{11} أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى{12} أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى{13} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى{14} كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ{15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ{16} فَلْيَدْعُ نَادِيَه{17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ{18} كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ{19}
استوقفني في هذه السورة الكريمة اشتمالها على أنساق ثلاثية ملحوظة على أكثر من صعيد...
النسق الثلاثي في الخطاب:
1-توجيه الخطاب ثلاث مرات:
-اقرأ.....اقرأ.
-أرأيت.....أرأيت.......أرايت.
-لا تطعه.
2-الزجر ثلاث مرات:
-كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى.
- كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ.
- كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
3-النماذج الثلاثة:
- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى.
- أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى.
- أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى.
4-التهديد ثلاث مرات:
- إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى.
- لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ.
- سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ.
5-العبادات الثلاث المطلوبة من النبي صلى الله عليه وسلم:
- لَا تُطِعْهُ
- وَاسْجُدْ
- وَاقْتَرِبْ.(1/16)
6-التركيب المرآتي:الاستئناف بتكرار العنصر السابق.
- الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ.
- عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ.
- لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ{15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ.
إلى جانب ما سبق يلحظ النسق الثلاثي من جهة تكرارالعناصر اللغوية المفردة منها:
1-ربك:
-رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
-وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.
- إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى.
2-الإنسان:
-خَلَقَ الْإِنسَانَ
-عَلَّمَ الْإِنسَانَ
- إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى.
3-الذي:
- الَّذِي خَلَقَ.
- الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.
- الَّذِي يَنْهَى.
4-لم........
-مَا لَمْ يَعْلَمْ.
-أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى.
- لَّمْ يَنتَهِ.
5-اللام+المضارع :
- لَيَطْغَى
- لَنَسْفَعاً
- فَلْيَدْعُ نَادِيَه.
6-ان الشديدة:
- إِنَّ الْإِنسَانَ.
- إِنَّ إِلَى رَبِّكَ.
- بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى.
7-ان الخفيفة المباشرة للفعل:
- أَن رَّآهُ.
- إِن كَانَ.
- إِن كَذَّبَ.
والله أعلم.
7-
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك
هي آية واحدة، لكنك لو تدبرتها لوجدت نفسك سائحا في ملكوت الله ،طائفا على مختلف العلوم،
مستعرضا الأزمان والأمكنة:
1-الدلالة على رب العالمين:
أ-وقد دلت الآية الكريمة على رب العالمين بالدليلين المعروفين :دليل الاختراع،ودليل العناية ( كما سماهما أبو الوليد ابن رشد الحفيد )
فخلق الأرض وجعلها ،من الدليل الأول،وتسخيرها للإنسان وتوفير ما يلائم طبعه من رزق وأكل من الدليل الثاني.
ب-نبهت الآية في ابتدائها وفي انتهائها على اسمين جليلين للرحمن:الأول والآخر.
فكل شيء ابتداؤه من الله( جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)
وكل شيء منتهاه إلى الله (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).(1/17)
ج-جمعت الآية بين فعلي الربوبية:الخلق والأمر... { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } (54) سورة الأعراف
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا :خلق.
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ:أمر.
2-الدلالة على العلم الطبيعي:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا....
اشتملت الجملة على فعل عجيب ووصف أعجب،لما فيهما من لطف ودقة الإشارة إلى ما هو مشهور في المجتمع العلمي:
-قالوا إن الأرض في مراحلها التكوينية الأولى لم تكن صالحة للحياة ثم تشكل الغلاف الجوي بعد ذلك واستقرت القارات وظهرت النباتات فأصبحت صالحة مسكنا للبشر....
وقد جاء في الآية فعل "جعل"الذي يفيد التحول والتصيير والنقل من حالة إلى أخرى.....
جعل الأرض ذلولا مفهومه أنها كانت من قبل في وضعية مغايرة.
-أما وصف الأرض ب "ذلول" فيشهد على أن هذا القرآن من تنزيل عليم خبير.....
قال في اللسان:
ذَلَّ يَذِلُّ ذُلاًّ وذِلاًّ فهو ذَلُولٌ يكون في الإِنسان والدابة.
وقال في المفردات:
ذَلَّتِ الدَّابَّةُ بعدَ شِماسٍ ذُلاًّ وهي ذَلُولٌ : ليست بصَعْبَة.
أشار ابن منظور والراغب- رحمهما الله-إلى الدابة الذلول،ولا شك أن وصف الذلول أظهر ما يكون في حالة المطية ...فهي تخضع لصاحبها ولا تحاول أن تلقيه من على ظهرها كما تفعل الدابة الشموس....
والمتأمل في حال الارض-وفق ما اشتهر في المجتمع العلمي-سيجد هذا التماثل البليغ بين الأرض والمطية:فالأرض هي مطيتنا الكونية ونحن مستقرون على ظهرها بينما هي تقطع ملايين الأميال في الفضاء بسرعة مهولة.....فلا تشعرنا بالحركة فضلا عن أن تلقينا بعيدا عنها :باختصار الأرض مطية ذلول.
3-الدلالة على علم العمران:
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا أمر عام لبني آدم جاء بعد جعل الأرض ذلولا ،فالمشي في مناكبها هو الحكمة أو العلة الغائية من جعلها على ذلك الوصف...(1/18)
ويتضح من الآية الوضع البشري في التقدير الرباني:فهو مخلوق للسعي والحركة والسفر والرحلة والبحث والتنقيب.....
ومنها يستفاد أيضا ضلال المذاهب الداعية إلى التواكل والانقطاع عن العمل والبحث عن الرزق، منحرفين ومحرفين للعبادة العظيمة التي هي التوكل.
4-الدلالة على علم الأخلاق والسلوك.
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
جاور البيان المعجز بين الأكل والتذكير:
كل من رزق الله،ولكن لا تنس الموت والبعث والحساب!!
فكأن عبارة وَإِلَيْهِ النُّشُورُ جاءت لكبح الاسترسال في الأكل والانغماس في الشهوات...
فتكون الآية قد وضحت بجلاء التوسط السلوكي الأمثل المطلوب من المكلف.
5-الدلالة على علم التاريخ:
لخصت الآية تاريخ الإنسان في الوجود:
-فذكرت النشأة الأولى:"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا"
والنشأة الثانية: "وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
وذكرت مرحلة المعاش "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه."
ومرحلة المعاد:ِ "وَإِلَيْهِ النُّشُورُ."
وذكرت التكليف والحساب.
ثم ذكرت إجمالا الأحوال الثلاث للإنسان مع الأرض:
-يكون فوقها: مستفاد من قوله :"فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا."
-يدفن فيها: (مستفاد من دلالة الاقتضاء )
-يبعث منها:مستفاد من قوله" وَإِلَيْهِ النُّشُورُ."
هذا ما ظهر للعبد الفقير الجاهل وما بقي أعظم وأعظم......
فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى عطاء الآية الواحدة القصيرة...وخذ من ذلك مظهرا من مظاهر إعجاز البيان في القرآن......
8-
أشرنا -من قبل-إلى بعض الظواهر الشكلية والنحوية في سورة الكوثر ونحن الآن بصدد
بيان بعض ظواهرها المعنوية ،ومقصودنا من تلك وهذه إثبات إعجاز القرآن من خلال إثباته في سورة من سوره لا تتجاوز كلماتها عدد أصابع اليدين لكن عطاءها-مع قلة كلماتها- متجدد باستمرار.....فهي لها من دلالة اسمها نصيب!!
بيان التماثل والتقابل:
-1-
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1)(1/19)
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3)
تماثل المطلعان وتقابل المقطعان:
التماثل في أسلوب التوكيد: إِنَّا- إِنَّ.
التقابل الحاد بين موضوعي التوكيد:الكوثر زيادة وفضل.....أما الأبتر فنقص وخسارة.
تماثلت الآيتان -بالنظر إلى كاف الخطاب-في أنهما تحملان بشرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم....
وتقابلتا في نوع البشارة:فالأولى ثبوتية والثانية عدمية.....بمعنى أن الأولى تكفلت بإيصال النفع والثانية تكفلت بإزالة الضرر.
-2-
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2)
هنا أمر بعبادتين متماثلتين من وجه ومتقابلتين من وجه:
التماثل في الأفضلية:
فالصلاة هي أفضل العبادات.
والنحر يكون للإبل وهي أفضل أموالهم.....
فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورا بالتقرب إلى ربه بالأفضل.
أما التقابل فظاهر في نوع العبادة:
فالصلاة عبادة بدنية.
والنحر عبادة مالية.
-3-
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1)
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2)
جاء التوكيد في الآية الأولى من أكثر من جهة:
-من جهة الحرف (إن).
-من جهة الصيغة فوعل (كوثر).
-من جهة ضمير التعظيم (نحن).
-من جهة زمن الفعل الماضي(أعطى) : الماضي يفيد التحقق والانتهاء ، فالعطاء قد ثبت وتحقق...
هذا التوكيد -ماثله في الآية الثانية معنيا الأفضلية والتنويع-.
وهنا لا بد من ملاحظة:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
نصت على الجزاء.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
نصت على العبادة.
لكن الجزاء جاء بأسلوب الخبر يفيد الوقوع والتحقق في ما مضى
أما العبادة فجاءت بأسلوب الإنشاء أي يطلب تحقيقها في ما هو آت.
بعبارة أخرى جاء الجزاء قبل العمل على غير العادة.....
فيكون أكرم الأكرمين قد رفع مقام عبودية النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى المقامات وهو مقام الشكر .
فأية مواساة هذه!!
9-(1/20)
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}
1-ظاهرة فريدة في الحذف:
ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ.
الحذف في الآيتين جاء على صورة الاحتباك.....غير أن الاحتباك هنا ليس من مقتضيات الدلالة كما هو معهود ولكن من مقتضيات التركيب..وقبل التفصيل فيه يجدر بنا أن نعرف المقهوم:
الاحتباك باب من البديع مبني على مبدأ الحذف والاختصار....
وصورته الشكلية كالتالي:
لنفرض متوالية مكونة من أربعة عناصر نرمز لها بالأرقام:
1-2-3-4
نقسم الرباعي إلى ثنائيتين.
1-2
3-4
أفقيا توجد علاقة تقابل: فردي -زوجي.
عموديا توجد علاقة تشابه فردي- فردي.(1-3) ،زوجي- زوجي.(2-4)
يحصل الاحتباك بحذف عنصرين على المحور الوتري.. (1-4)) أو(2-3)
فلا يبقى إلا عنصران: 2 و3.(أو1و4)
لكننا بواسطة المذكورين نستحضر ذهنيا المحذوفين:
ف1 المذكورة تدل على مقابلها المحذوف2.
و4 المذكورة تشير إلى مقابلها المحذوف 3.
وهذه صورة حقيقية:
قوله تعالى : ادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء.
ذهب أبو حيان وآخرون إلى أن تخرج بيضاء جواب لأمر مقدر وليس للأمر المذكور أي ادخل يدك......فيكون التقدير العام:
1-أدخل (يدك في جيبك).........2-تدخل .
3-أخرجها.............4-تخرج (بيضاء من غير سوء. )
لكن الآية اقتصرت على 1و4أي فيها احتباك
ادخل يدك في جيبك....تخرج بيضاء من غير سوء.
فدل فعل الأمر المذكور(أدخل) على جوابه المحذوف(تخرج)
ودل جواب الأمر المذكور (تخرج بيضاء)على فعله المحذوف(أخرجها)
إذا تقرر هذا تدبرنا قوله تعالى:
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا.......
فنلحظ أسلوبين:أسلوب القسم وأسلوب الإضراب، لكن في كل يذكر شطر ويطوى آخر.(1/21)
فقد حذف المقسم عليه وعبارة" بل عجبوا "الموالية لاتصلح مقسما عليه كما هو ظاهر.
وهذه العبارة نفسها مصدرة ب"بل"الاضرابية وتفترض مضربا عليه والحال أن ما سبقها
(وهو القسم)لا يصلح مضربا عنه.
فحصل احتباك في التركيب بديع:
ذكر المقسم به وحذف مقتضاه أي المقسم عليه.
ذكر المضرب به وحذف مقتضاه أي المضرب عنه.
ملاحظتان:
-التحقيق أن المقسم عليه محذوف وإن كان بعض المفسرين اعتبروه مذكورا وبحثوا عنه قريبا وبعيدا .فعن الأخفش جوابه"قد علمنا ما تنقص الأرض منهم"وعن نحاة الكوفة"بل عجبوا"والمعنى "لقد عجبوا" وقيل "إن في ذلك لذكرى" وقيل "ما يبدل لدي القول".....
وحق لأبي حيان أن يقول "وهذه كلها أقوال ضعيفة".(راجع البحر عند تفسير سورة ق)
-يجوز أن يكون المحذوف شيئين:متعلق القسم ومتعلق الاضراب....ويجوز أن يكون المحذوف شيئا واحدا يتنازعه القسم والاضراب.
2-
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
مدخول حرف الاستفهام محذوف تقديره:أنبعث إذا متنا...
ومن المحتمل أن يكون المقسم عليه المحذوف سابقا هوهذا المعنى نفسه كما قال الزجاج في تقدير جواب القسم المحذوف:"تقديره لتبعثن."
ومعنى هذا أنه وقع الطي على معنى واحد مرتين وهذا بديع كما ترى.والله أعلم.
3-
بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ.
من بديع الآية أن جمعت بين الإضمار في موضع الإظهار والإظهار في موضع الإضمارمعا:
قوله تعالى "عجبوا " إضمار في موضع الإظهار.
"فَقَالَ الْكَافِرُونَ "إظهار في موضع الاضمار.
4-
في الآية أيضا الوجه البديعي المسمى"رد العجز على الصدر"
بَلْ عَجِبُوا ..................................... عَجِيبٌ.
5-
اختتمت الآية الثانية بإشارة: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ.
اختتمت الآية الثالثة بإشارة: ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.(1/22)
الإشارتان معا صادرتان عن الكفار....مع التقابل الملحوظ بين القريب( هَذَا)والبعيد (ذَلِكَ).
تعجب من النذير القريب لأنه جاءهم منهم- أو تعجب من الإنذار القريب لأنهم يسمعونه عن كثب من الرسول صلى الله عليه وسلم.-أما الاستبعاد فمتعلق بمضمون الإنذار أو بما أنذروا به وهو البعث بعد الموت...
فحصل تقابل بديع بين اسمي الإشارة:هذا المنذر وذلك المنذر به.
والله أعلم.
10-
{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ...} (25) سورة يوسف.
هذا جزء من آية.وهو من عجائب القرآن لكل من تدبر.ودليل على الإعجاز لكل من أنصف:
فهل يطيق الثقلان أن يجمعا من المعاني ما اجتمع هنا في مساحة لا تتجاوز عشر كلمات؟
هل يستطيع أبلغ الإنس والجن أن يعبر عن المشهد المسرود في الآية في ثلاث جمل قصيرة.....مع الوفاء بحق كل المعاني والعواطف والحركات والخواطر التي تشع من الآية.؟
1-
استبقا:
الاستباق افتعال من السبق،والافتعال يوحي بالتكلف والتحمل بناء على قاعدة زيادة المعنى لزيادة المبنى...فهاهنا سبق وزيادة.فكأن الفاعلين يتسابقان بكل ما أوتيا من طاقة ...وليس ذا التكلف إلا التعبير الجسدي عن الكامن النفسي:
فالمرأة واقعة تحت صارخ الشهوة.يدفعها بأقصى ما تستطيع.
والرجل واقع تحت إمرة التقوى يدفعه كذلك بأقصى ما يطيق.
فانظر إلى هذه التاء -وهي مجرد حرف-كيف أفصحت عن المكنونات.
2-
استبقا الباب.
حذف حرف الجر(إلى)- بقطع النظر عن التوجيه الشكلي للصناعةالنحوية -يكشف عن محتوى نفسي عميق.يمكن رصده بمقارنة التعبيرين:
أ-استبقا إلى الباب.
ب-استبقا الباب.
(إلى )في الجملة(أ) حملت معلومة عن المسافة والاتجاه.ويكون معها (الباب) نهاية المسافة التي يراد قطعها.
لكن بحذف هذه المعلومة يصبح الباب هو البؤرة، فيكون إيقاع الفعل عليه هو نفسه لا إيقاعه في مسافة تفضي إليه.فليتأمل.
بعبارة أخرى نقول:(1/23)
بأي شيء كان وعي الفاعلين مشغولا؟
بالباب أم بالمسافة الفاصلة؟
لا ريب أن الباب هو المقصود، والاهتمام- أثناء السباق- منصرف إلى الفتح أو الاغلاق وليس إلى وقع الخطوات وامتداد المسافة....فلتحذف (إلى ) إذن ، ليبرز التعبير ما يوافق المقام:حركة الجسم وهي نحو السباق وحركة الذهن وهي نحو الباب.
لله در هذا القرآن.
3-
استبقا الباب.
ألف الإثنين مثبتة لفظا لا نطقا ،بسبب التقاء الساكنين،فيقرأ الفعل كأنه مفرد.
هذا الحذف له إيحاء دلالي يكشف عن سرعة الحدث:فلا وقت للمد في التعبير كما لا وقت للإبطاء في المعبر عنه.
4-
استبقا الباب.
فعل مشترك بين الفاعلين، ولكن شتان بين القصدين.وبعبارة أوضح يصف المشهد-خارجيا- جسمين مندفعين في الفضاء في اتجاه واحد.لكن-داخليا-نلمس حركتين متعاكستين:الرغبة في الاستبقاء مقابل الرغبة في التملص.النزوع نحو الخروج والنزوع إلى المنع من الخروج.
5-
سيدها لدى الباب.
تكررت كلمة( الباب)مرتين مع أن الآية مبنية على الإيجاز.....وما ذاك إلا لأهمية" الباب "في المشهد وتعدد وظائفه بحسب الشخصيات.....
فالباب في سياق الاستباق ملحوظ باعتباره مخرجا.
أما الباب في سياق ذكر السيد فملحوظ باعتباره مدخلا.
فكان العبارة نبهت على أن الباب كما يستعمل للخروج يستعمل أيضا للدخول .لكن يبدو أن هذا المعنى الثاني كان غائبا عن الوعي حتى وقعت المفاجأة.
6-
وألفيا سيدها لدى الباب.
يتحرك المشهد بسرد إعجازي:
-الحركة السريعة في الاستباق.
-العنف المصاحب للحركة (قد القميص)
-ثم الوجوم وانقطاع الحركة وتوقف فجائي للعملية مع ظهور السيد لدى الباب.
7-
سيدها....
قال المفسرون :لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام لم يكن مملوكا على الحقيقة للعزيز..وقال "سيدها" بالنظر إلى عرف القوم في اعتبار الزوج سيدا للزوجة.(1/24)
وكيف كان فإن التعبير بسيدهما لا يتسق مع المقام.....لأن قوة المشهد ليس في اعتبار العزيز مالكا ،ولكن في اعتباره زوجا وبعلا لإظهار خيانة المرأة و تأزيم الوضع برسم معالم الفضيحة....فلم يناسب إلا "سيدها" فتأمل.
8-
وقدت قميصه من دبر.
وصف لحركة خارجية واحدة....لكن كم تختزل من معان وأحداث.
-الرجل أقوى وأسرع من المرأة.
-المرأة تريد أن تستيقي الرجل فتتمسك بكل ما تستطيع.
-المشهد يكاد يرى بالبصر:المرأة تمسك بأعلى القميص،يقع تعاكس لقوتين،القوة المندفعة والقوة الجاذبة فينتج عنه شق القميص ويمتد الشق من أعلى إلى أسفل.
-القميص المقدود سيكون مصدر استدلال فيما بعد.
9-
وقدت قميصه من دبر.
قال ابن عاشور -رحمه الله-:
وجملة { وقدّت قميصه } في موضع الحال. و { قدت } أي قطعت، أي قطعت منه قداً، وذلك قبل الاستباق لا محالة. لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف ـــ عليه السّلام ـــ أنها راودته، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف ـــ عليه السّلام ـــ سبقها مسرعاً إلى الباب، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة. وكان قطع القميص من دبر لأنه كان مولياً عنها معْرضاً فأمسكته منه لرده عن إعراضه.
في كلامه نظر والصواب مذهب جمهور المفسرين في عطف النسق......واحتجاجه غير مقنع فقوله -لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف ـــ عليه السّلام ـــ سبقها مسرعاً إلى الباب.....-لو كان صحيحا لزعمت المرأة ذلك ....ثم كيف يمكن للشاهد أن يعرف متى وقع القد قبل السباق أم اثناءه.
وعلى كل فإن العطف يضفي قوة للمشهد اكثر من الحال.ولابد من حمل العبارة القرآنية على أبلغ محمل كما هو مقرر في علم أصول التفسير.
هذا ما خطر بالبال.....ومن زعم أنه قادر على الإحاطة بكل ما في الآية فاتهمه في عقله.....
11-(1/25)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ?60? -طه.القرآن
1-
الإيجاز من أعظم وجوه الإعجاز البياني،والمعاجزة به قريية المأخذ والانقطاع معها مشهود..
فمن أظهر كمية من المعاني في عدد معين من الألفاظ فله أن يتحدى الخصم بالنزول إلى عدد أقل من الألفاظ مع بقاء المعاني .أما الزيادة في اللفظ فمقدور لأي واحد ...
وإعجاز القرآن من هذه الجهة مشهود لا يمارى فيه.فلا يستطيع بليغ أن يأتي بأخصر من لفظ القرآن أبدا....وإن فعل كان على النقص في المعنى وهذا ليس من البلاغة في شيء...وكذلك لا يستطيع أن يساوي القرآن أبدا لأن البيان المعجز يستعمل الكلمة الوحيدة- الموجودة في اللغة- التي تلبي حاجات المعنى ،قال ابن عطية-رحمه الله-:
" كتابُ اللهِ لو نزعت منه لفظةٌ ، ثُمَّ أُديرَ لسان العربِ فِي أن يوجد أحسن منها لم يوجد "
بل لا يوجد مثلها بناء على منع الترادف في اللغة وهو- في نظري- القول الراجح.وليس هذا محل تفصيله لكن حسبنا أن نستدل بأن الكلمة تحمل نوعين من الدلالة:
-الدلالة الحرفية المعجمية.
-الدلالات الإيحائية .
فلو قدر لكلمتين الاتفاق في الأولى فمن المستبعد جدا أن يشتركا في الثانية بسبب اختلاف الجرس وما يعلق بالمعنى من ظلال عبر التاريخ الاستعمالي للكلمة ويمكن تشبيه الكلمة هنا بالنحلة فهي في تنقلها بين الزهور يعلق بجسمها شيء بعد شيء.....فالنحلتان المتشابهتان عند الغدوة تختلفان عند الروحة وكذلك الكلمتان المترادفتان ظاهرا.
مثلا كلمة رزق لا مرادف لها بل أنا زعيم باستحالة ترجمة هذه الكلمة إلى أي لغة من لغات الناس لأن الكلمة العربية لها من الظلال الروحية ومن المعاني الحدسية ما لا يمكن أن يوجد في ثقافة أخرى.
فعل "تولى" مثلا - في الآية التي نتدبرها-لا مرادف له يفي بكل الدلالات الإيحائية.....(1/26)
فهو دال على الحركة في اتجاه معين مع الدلالة على موقف فكري ونفسي.فانصرف -مثلا- إن حملت المعنى الأول لم تحمل المعنى الثاني.
2-
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.
الظاهر أن الآية إخبار عن فرعون، وترتيب للافعال الصادرة عنه:
التولي والجمع والمجيء.
لكن التأمل الدقيق للفعلين: تولى، و أتى.يكشف أن الآية حملت إخبارا عن موسى -عليه السلام- أيضا.فنقرأ في المشهد الواحد مشهدين في الحقيقة....وهذا من إيجاز القرآن المعجز.
تولى: فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء....ويدل أيضا على وجود شخص (أو شيء) في الخلف .... هو المرجع الذي يحدد فعل "تولى".
أتى:فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء ...لكنها حركة مقابلة للتولي:فالنقطة المرجعية هنا توجد أمام وليس خلف...
التولي انفصال وذهاب بعيدا عن المتولى عنه...والإتيان عكسه .
كل هذا واضح.......ولكن ماذا قالت الآية عن موسى ؟
الآية تشعرنا أن موسى عليه السلام لم يغادر مكانه .
(هذا الشعور عندي ذاتي قريب من الحدس قد لا نستطيع التعبير عنه أو إثباته بطريق قوي وقد لا يوافقنا فيه غيرنا....ولكننا نتدبر كما أمرنا....والعلم عند الله تعالى)
ومصدر هذا الشعور أمران:
-السرد السريع لما قام به فرعون :تولى وجمع ثم أتى.فكأنه لم يتخلل بين الفعلين زمن طويل.فلا يكاد يتوهم الذهن أن موسى عليه السلام قد فعل شيئا ما بين انصراف فرعون ورجوعه.
-الأمر الآخر هو أن المتكلم قبل هذه الآية هو موسى عليه السلام الذي حدد الموعد:
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ?59?
والمتكلم بعد الآية هو موسىعليه السلام أيضا:
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى?61?(1/27)
فكأن موسى عليه السلام يستأنف كلاما قريبا....أو كأن الآية (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى )اعتراض في حوار...فلا نجد إشارة إلى انصراف لموسى ولا لمجيء له....
والمعنى في ذلك -والله أعلم-أن صاحب الحق ثابت في مكانه لا يحتاج إلى مناورة ولا إلى ذهاب ومجيء ولا إلى استعانة بالغير....فكأن لسان حال موسى - عليه السلام - الواثق في وعد الله يقول : أنا هنا لا أحيد فاذهب حيث شئت واستعن بمن شئت وجئني متى شئت.
3-
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ?60?
الأفعال المتلاحقة تشعر بالسرعة لكنها مع ذلك بينت البرنامج الفرعوني كله......فانظر مثلا إلى قوة الجملة الوسطى: جمع كيده...
فعل "جمع" يختزل أوقاتا وأحداثا:إعلانات،وسفراء،ومبعوثين ،وحركة في طول البلاد وعرضها، وعروضا وإغراءات ووعودا: باختصار :حالة استنفار قصوى.
والمفعول به :كيد ...يختزل من جهته الأفعال السحرية والرغبة في إزالة الحق بالباطل فضلا عن الإشارة إلى غموض عالم السحر والسحرة- فلا يقال الكيد إلا لما فيه خفاء-
فانظر إلى هذه الكلمة" كيد "كيف دلت على فكر وأهله كما دلت على نوايا وأصحابها ودلت على خطط وتراتيبها.
ثم انظر إلى الرابطين لترى أسلوب القرآن المعجز:
"جمع كيده" جملة معطوفة على سابقتها بالفاء...والفاء تدل على الترتيب مع الفورية كما هو معلوم..... ففهمنا من ذلك أن فرعون مستعجل في أمره فقضية موسى لا تحتمل التأخير وفهمنا من فورية الجمع استبداد الفرعون وقيام الناس على خدمته واستجابة رغباته بأقصى ما يستطيعون.....فالأمر عند الفرعون يفيد الوجوب مع الفورية.
لكن" أتى "عطفت على الجمع ب "ثم "التي تفيد التراخي....لأن المقام يقتضي ذلك:
فنحن نفهم أنه بين جمع الكيد و الذهاب إلى الموعد انصرمت مدة نبهت إليها" ثم":(1/28)
إنها مدة وضع المخططات والاتفاق على االوسائل وترتيب الأولويات واختبار الحيل ....ونستفيد أيضا قوة الحق الثابت عند موسى عليه السلام......ففرعون وسحرته لم يرتجلوا شيئا بل دبروا أمرهم واخذوا الوقت الكافي لبناء كيدهم.......ثم بعد أتوا صفا....فانهزموا.
فتعجب من أسلوب القرآن كيف جمع بين:
-سرعة تلاحق الأفعال في السرد والحكي.
-وتعدد الفصول والمشاهد والأحداث في المسرود والمحكي.
12-
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) سورة الجمعة.
تبين الآية حالة عجيبة جدا مبنية على تعاقب ثلاث حركات:
-تفرون.
-ملاقيكم.
-تردون.
1-
ولتنظر نفس إلى هذا الوضع المفاجيء للموت:
.فبينا هو متصور من جهة الوراء إذ يصعق الفارين منه بمواجهتهم من جهة الأمام..
كم سيفقد التعبير من قوته التأثيرية لو قيل مثلا:إن الموت الذي تفرون منه فإنه مدرككم.
لأن الفارين من الموت لا يتصورون الموت إلا خلفهم ويتوقعون في أي لحظة أن يدركهم... ومن ثم
لا يبقى مجال لعنصر المباغتة......
وللنفس الآن أن تتمثل قوة التعبير البياني الذي يهز المهجة في قوله "ملاقيكم:
فليس أبلغ من هذه المفارقة:
الفرار من الموت يؤول إلى الفرار إليه!!!
فحقت كلمة ربكم: { وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (26) سورة النحل
2-
الكفار حاولوا تغييب الموت ونبذه بعيدا عن دائرة الوعي....لذا أبرزته الآية مؤكدا بالنوعين من التوكيد المعروفين في لغة العرب:
التوكيد المعنوي.
التوكيد اللفظي.
فمن الأول التوكيد ب"إن": إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ.
ومن الثاني إعادة التوكيد بتكرار "إن": فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ.
مع ملحظ توكيد الموت صريحا( إِنَّ الْمَوْت)َ ومضمرا (فَإِنَّهُ.....).
3-
تفرون.......
ملاقيكم......(1/29)
الفرار من الموت جاء على صيغة فعل المضارع ليوحي بديمومة الحدث وتجدده............وعورض هذا بمجيء لقاء الموت على صيغة الاسم لأن اللقاء يقع مرة واحدة ولا يتجدد شيئا بعد شيء كحال الفرار..وثبوت الوصفية للموت يوحي بكون ملاقاة الكفار هي ماهيته أ و جزء منها.
والله أعلم.
13-
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ?8? يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ?9? فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ?10? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ?11? أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ?12? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ?13? وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ?14? اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?15? أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ?16?
هذه الآيات الكريمة بيان لأحوال المنافقين،وقد اخترنا أن نلقي مزيدا من الضوء على هذه النفسية المريضة انطلاقا -فقط -من الظواهر التركيبية واعتمادا على استجلاء الدلالات الإيحائية-فقط- الكامنة في التركيب.
1-
الظاهرة الأولى: هيمنة القول.
ما موقع "النفسية المنافقة "من المثلث:قلب/لسان/جوارح؟
أماضلع القلب فخرب فقلوبهم مرضى.وأما ضلع أعمال الجوارح فمكسور:(1/30)
{ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (142) سورة النساء
{ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} (54) سورة التوبة
فلم يبق لهم إلا ضلع اللسان فهو أنشط ما عندهم وعليه معولهم لإثبات الذات وتعويض غياب الضلعين السابقين...
{ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ..} (19) سورة الأحزاب
وجاء البيان المعجز ليوحي بهذه الحقيقة فكان أن كشف عن هوية "النفسية المنافقة" من خلال التجليات القولية فقط.فأول ما ذكر عنهم أنهم "يقولون"....
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ...
ثم تسلسلت الأقوال منهم إما ابتداء وابتدارا -كما في قولهم الأول- وإما ردا وجوابا:
1-مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ.
2-قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
3-قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ.
4-قَالُوا آَمَنَّا.
5-قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
2-
الظاهرة الثانية:التركيب الظرفي.
تسلسلت أقوال المنافقين في فضاء تعبيري اتسم بالظرفية/ الشرطية:
1-وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
2--وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ .
3-وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا.
4-وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
هذه اللازمة الأسلوبية توحي بوجه من وجوه النفسية المنافقة:(1/31)
مفادها أن المنافق لا ثوابت عنده ولا مباديء قارة تحكم سلوكه..وإنما يتصرف بحسب الظروف ويتلون سلوكه بحسب المقامات الخارجية...
3-
الظاهرة الثالثة:فورية التعقيب النقضي.
نلمس معاملة خاصة للمنافقين...فقد وزعت جرائمهم ودعاواهم إلى مفردات مع نقض كل دعوى بمجرد صدورها....وفي ذلك إشعار بخطورة هؤلاء وتنبيه على وجوب الحذر والترصد وتتبع حركاتهم....
-الدعوى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ
التعقيب عليها:
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
-الدعوى:
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا.
التعقيب عليها:
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
-الدعوى:
كَانُوا يَكْذِبُونَ.
التعقيب عليها:
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
-الدعوى:
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
التعقيب عليها:
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ.
-الدعوى:
قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ.
التعقيب:
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ.
-الدعوى:
قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
التعقيب:
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
بعد هذا التتبع بالنقض للدعاوى المفردة يأتي الحكم العام:
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
وهو حكم جاء في مقابل ما قيل في حق المؤمنين:
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) سورة البقرة.....
وفي مقابل ما قيل عن الكفار:
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.(1/32)