عمرو خالد
عبادات المؤمن
موقع الاسلامي
www.islammi.8m.com
3\9\2002
دار المعرفة
بيروت لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
هنيئا لمن أحبه الله، وحبب اليه عباده.. وهاهو رجل من هؤلاء أحب الله تعالى، وذاق حلاوة الايمان، فأحب الله أن يشاركه كل مسلم هذه السعادة الحقة.. ذاك هو الداعية الأستاذ عمرو خالد.. جمع قلوب الشباب حوله وأحيا فيها معاني الاسلام العظيمة، وسلك بها دروب الشريعة الكاملة الوضاءة، عسى أن تستضيء بأنوارها فتدرك وترشد، وتسعد وتسعد....
وانه لشرف كبير لدار المعرفة أن أولاها الأستاذ عمرو خالد هذه الثقة، فوجد فيها منبرا من منابره وأشركها في الأجر والثواب، ولله الحمد والمنة.
وهذا هو الكتاب الأول من مجموعة كتب ستصل تباعا، وهو يتعلق بالعبادات، وصلة العبد بربه سبحانه وتعالى، والكتاب الثاني سيصدر قريبا، وموضوعه الأخلاق.
ونسأل الله عز وجل ان يوفقنا في اصدارنا هذا لما فيه مرضاته، وصلاحنا في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل منا عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يغفر لنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الناشرون
مقدمة المؤلف
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
أقدم لكم كتاب الأول وقد سميّته: عبادات المؤمن.(1/1)
وهذا الكتاب له قصة، فهو في الأصل لم يكن كتابا ولكنه كان مجموعة من المحاضرات التي ألقيتها بمسجد الشيخ محمود خليل الحصري بالقاهرة، وكانت هذه المحاضرات هي بدايتي مع الخطابة في المساجد، وقد أقبل الشباب بفضل من الله وحده على هذه المحاضرات التي كان الهدف منها احساسي بأن العبادة في حياة المسلمين خاصة الشباب صارت تمثل اما عبئا نفسيا عليهم يؤدونه كأداء واجب أو خوفا من عذاب الآخرة دون استشعار لحلاوة هذه العبادة ودون معرفة ثواب هذه العبادة، مما يكون حافزا لهم على حسن أدائها، فوجدت أن العيب ليس في كون الناس قساة القلوب، أو كارهين للاقبال على الله، انما العيب يكمن في جهل البعض لفضل وثواب العبادة من ناحية، وأثرها على سمو أرواحهم واطمئنان نفوسهم وسعادتهم بشكل عام من ناحية أخرى.
وحدثتني نفسي أننا لو استطعنا أن نعرض مفهوم العبادة وثوابها على الناس بشكل مبسط كما عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على الجيل الأول من المسلمين فان الناس وخاصة الشباب سيقبلون لا محالة على العبادة، وقد حدث ولله الحمد ما توقعته، فما ان بدأت بهذه السلسلة حتى وجدت تفاعلا عظيما مع كل عبادة تذكر في كل محاضرة، فأصبحنا في نهاية كل محاضرة نتفق على الواجب الاسبوعي المطلوب تنفيذه حتى اللقاء التالي.
وحتى تعم الفائدة فقد وفقنا الله أن نجعل هذه المحاضرات تصدر في كتب حتى يتيسر لكل الأمة الاطلاع على السلسلة، راجين من الله أن يرزقنا عليها المثوبة وان يرزقنا الاخلاص والقبول.
أخوكم عمر خالد
2 شوال 1422.
فضل الصلاة
ما معنى هذه الكلمة صلاة؟.. لهذه الكلمة ثلاث معان: الأول مشتق من الصلة، والثاني من الدعاء كما قال تعالى:{ ان الله وملائكته يصلون على النبي} الأحزاب 56، أي تدعو له، والثالث من لرحمة كما قال تعالى:{ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات الى النور} الأحزاب 43. فصلاة الله هنا معناها رحمة.(1/2)
وللأسف هناك كثيرون مقصرون في الصلاة، رغم خطورة ذلك التقصير، سواء في المحافظة عليها أو في جمع الصلوات بلا عذر أو تأخيرها كذلك بلا عذر.
في فضل الصلاة:
يقول تعالى:{ ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} النساء 103، أي مكتوبة بالمواعيد ومحددة، ولا بد من المحافظة على أدائها في هذه المواقيت.. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" بني الاسلام على خمس شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، واقام الصلاة وايتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان" .. ورغم أن هذا الحديث يعتبر ألف باء الاسلام.. ومع أننا أخذناه كلنا ودرسناه في المدارس الا ان هناك أناسا يفهمونه خطأ ويقولون: هذه مجرد أعمدة والدين لم يكتمل بعد فأين الذكر وأين الحجاب؟! ولكن الحديث واضح ويؤكد أن الاسلام بني على هذه الأعمال الخمس.. ويؤكد ذلك حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم:" الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين" رواه الهندي في كنز العمال 18890 والسيوطي في الدرر المنتثرة 104. وحديثه:" رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة.." رواه الامام أحمد في مسنده 5\231. وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" أرايتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن لخطايا". رواه البخاري 528 ومسلم 1520 والامام أحمد 2\379. فالمحافظة على الصلاة هي الماحية لخطايا المسلم في اليوم والليلة. وعلى المسلم أن يحافظ على الصلاة بأن يؤديها في أول وقتها (تقريبا من وقت الأذان حتى نصف ساعة) وأسوأ تاخير للصلاة الى آخر ثلث ساعة.. وهناك حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم يبيّن أن الصلاة تمحى بها الذنوب سوى الكبائر، اذ قال:" الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن اذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم 551 والترمذي 214 والامام أحمد 2\359. ويبدو من هذا الحديث أن هناك(1/3)
أخطاء صغيرة تمحوها الصلوات الخمس وأخطاء أو ذنوب أخرى تحتاج الى صلاة جمعة.. وخطايا أكبر تحتاج الى الاجتهاد في رمضان بالصيام والقيام وقراءة القرآن.. وكبائر تحتاج الى عمرة.. وقد روي ان رجلا يدعى: أبا يعقوب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله.. أرأيت ان صليت الصلوات الخمس وحرمت الحرام وأحللت الحلال.. أأدخل الجنة؟ قال:" نعم".. ويقول صلى الله عليه وسلم:" مفتاح الجنة الصلاة" رواه الترمذي 4 والامام أحمد 3\340. وأمر أصحابه قائلا:" صلّ، فان الصلاة شفاء". رواه الامام أحمد الحديث 2\390.
ولاحظ أن آخر وصية للنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته كلنت بالصلاة.... حيث قال:" لصلاة الصلاة.. وما ملكت أيمانكم" رواه أبو داود الحدجيث 5156 وابن ماجه 2698 والامام أحمد 1\78.. يقول الراوي فجعل النبي يغرغر بها لسانه يتردد بها قلبه! أنظر الى مدى عظم هذا الأمر وجلالته! ويكفي أن تعلم أن آخر ابتسامة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت عندما رأى مشهد الصحابة رضوان الله عليهم في الصلاة.
وجاء في حديث آخر: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال:" والذي نفسي بيده.. والذي نفسي بيده.. والذي نفسي بيده".. ثم أكبّ فأكبّ كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشرى فكان أحبّ الينا من حمر النعم فقال:" ما من عبد يصلي الصلوات الخمسة ويخرج الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت ويجتنب الكبائر السبع الا قيل له يوم القيامة: أدخل الجنة بسلام" أخرجه النسائي الحديث 5\8.
وجاء في الحديث أن رجلا أصاب قبلة من امرأة ( أي قبلها) فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:{ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات} هود 114، فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"بل لأمتي جميعا" رواه البخاري 4687.(1/4)
فانظر أخي كيف تكفر الصلاة السيئات.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال:" الصلاة على وقتها" قيل: ثم أي؟ قال:" برّ الوالدين"، قيل: ثم أي؟ قال:" الجهاد في سبيل الله". رواه البخاري 504 و 2630 ومسلم 248والامام أحمد 1\451.
اذن أفضل الأعمال أن تؤدي الصلاة في وقتها وما دمت ستؤديها في غير شك فلا تؤجل هذا الأداء، واحرص على تحصيل ثواب أدائها في أول وقتها، واعلم ان التسويف والتأخير والكسل من الشيطان.
وهذا حديث آخر طيب.. فقد دخل أعرابي المسجد فقال: ايكم محمد
(صلى الله عليه وسلم)؟ فقال الصحابة: ذلك الرجل الأبيض المتكئ، فذهب اليه فقال: أأنت محمد؟ قال:" نعم" فقال الرجل: يا محمد اني سائلك أمرا ومشدد عليك في المسألة فلا تجد على نفسك مني ( أي لا تغضب).. فقال صلى الله عليه وسلم:" سل ما بدا لك"، فقال الرجل: من الذي خلق الأرض؟ فقال:" الله"، قال: من الذي رفع السماء؟ قال:" الله"، قال من الذي نصب الجبال؟ قال:" الله".. قال: أشهدك بربك ورب من قبلك وبمن رفع السماء ونصب الجبال وخلق الأرض.. آلله أرسلك الى الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم:" نعم".. فقال الرجل: فأنشدك بربك ورب من قبلك.. آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" نعم"، قال: فأنشدك بربك .. آللله أمرك أن نصوم في هذا الشهر؟ قال:"نعم"، قال: فأنشدك بربك.. هل ربك أمرك أن تأخذ صدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال:" نعم".. قال الرجل: فاني آمنت بما أرسلت به واني رسول قومي اليك، أنا ابن نضر بن الشاهد. رواه البخاري الحديث 63 وأبو داود 486 والامام أحمد 1\264.(1/5)
فانظر الى هذا الرجل الأعرابي الذي أخذ الأمر بجدية منذ 1400 عام.. وأنت يا اخي ألم تقل أنك مسلم؟ هل أرغمك أحد على قولها؟ اذن فلا بد أن تحافظ على الصلوات في أوقاتها، خاصة صلاة الفجر.. ولو أن أحدنا ذهب للعمل في شركة مقابل ثلاثة آلاف جنيه على أن يبدأ العمل في الخامسة صباحا.. هل سيوافق أم يرفض؟! واذا وافق هل يستطيع أن يخل بهذا الشرط (شرط الموعد)!.
*وقد روي عن سيدنا عثمان رضي الله عنه، توضأ ثم قال: اني محدثكم حديثا حدثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لولا آية في القرآن ما حدثتكم به..{ لتبيّنّنه للناس ولا تكتمونه} آل عمران 187، قالوا: وما هو؟ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه، ثم يصلي الصلاة الا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها. رواه البخاري الحديث 160 ومسلم الحديث 541.
*وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فان صلحت صلح العمل كله.. وان فسدت فسد العمل كله". رواه الامام أحمد الحديث 4\65.
اذن الانضباط في الصلاة سبب لقبول الأعمال..
*وقد ورد حديث خاص في فضل صلاتي الصبح والعصر.. اذ قال صلى الله عليه وسلم:" من صلى البردين دخل الجنة والبردان هما الصبح والعصر.رواه البخاري الحديث 574 ورواه مسلم الحديث 1436 والامام أحمد الحديث 4\80.
وأسألك أخي القارئ: لو لم تصل الفجر في وقته وأنت شاب قوي فمتى ستصليه؟!
*ويقول صلى الله عليه وسلم:" من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله". رواه مسلم 1492 وابن ماجه 3946.
تخيّل ستكون في رعاية الله وحمايته اليوم كله، اذا صليت الصبح في جماعة.. وقد روى الترمذي هذا الحديث بدون قله صلى الله عليه وسام:" في جماعة".(1/6)
وفي حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم في فضل صلاتي الصبح والعصر أيضا، يقول فيه:" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار.. يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" رواه البخاري 555 و 7429 ومسلم 1430 والنسائي 484 الامام أحمد 2\486.
فهذه ملائكة تنزل من قبل الله تعالى لترى ماذا تفعل في صلاتي الصبح والعصر، وهم غير الملائمة الحفظة على الناس من أمر الله، ثم تصعد لتخبر الله بما ترى.. فتخيل منظرك وأنت نائم وتنزل الملائكة ثم تصعد فتخبر الله بذلك! واا كان هذا في صلاة الفجر.. فما أنت فاعل في صلاة العصر؟! وماذا ستقول عنك الملائكة اذا لم تصليها في وقتها؟ فماذا ستقول الملائكة؟ هل ستقول: يا رب، انه يأكل؟ أم انه يشاهد التلفزيون؟! أم أنه تائه ساه غافل؟!
وتخيّل مكانتك وسرورك عندما تصعد الملائكة فتخبر الله عز وجل بأنك تصلي الصبح والعصر منذ 15 سنة مثلا؟!
*والرسول يقول:" لا يلج النار من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" مسلم 1439 وأبو داود 427 والنسائي 470 والامام أحمد 4\136.، وما الذي قبل طلوع الشمس؟ انه الصبح، وما الذي قبل غروبها؟ العصر! فهنيئا للمحافظ عليهما.
وصلاة الصبح تكون حاضرة اذا أديتها قبل شروق الشمس، أما بعد الشروق ولو بدقيقة فتكون قضاء.. وليس اللوم علن من يأخذ بالأسباب (كأن يضبط المنبه) ثم تفوته الصلاة.. لأنه رفع القلم عن ثلاث: منهم "النائم حتى يستيقظ" أبو داود 4398 والنسائي 3432 والامام أحمد 1\140، انما اللوم عل الذي لا يأخذ بالأسباب فلا يضبط المنبه ولا يطلب من أحد أن يوقظه!(1/7)
*وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر ذات يوم بأصحابه ثم قال:" ان هذه الصلاة عرضت على الأمم قبلكم فضيّعوها.. فمن حافظ عليها كان له اجران" رواه الامام أحمد 6\397. أي من حافظ على صلاة العصر في أول وقتها كان له أجره أجر الأمم التي ضيّعتها من قبل!.. فهل ستحافظ على الصلاة؟! أم ستفرط فيها حتى بعد علمك بهذه الأحاديث؟
ويقول صلى الله عليه وسلم:" لا يلج النار رجل صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" رواه مسلم 1424 وأبو داود 427، فاياك وتسويف الصلاة وتأخيرها بلا عذر، أو بعذر أقبح من ذنب، كم يشاهد مباراة أو فيلما أو مسلسلا.. فقد يدخل الوقت الثاني فتندم ولا ينفع الندم.
*ان مما يؤكد أهمية الصلاة أنها العبادة الوحيدة لتي فرضت ليلة الاسراء والمعراج بتكليف من الله تعالى مبارة بغير واسطة الوحي (جبريل عليه السلام).. وقد فرضت خمسين صلاة في البداية، ولكن موسى عليه السلام نصح النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة وأن يسأل الله التخفيف فظل يتردد بين ربه تعالى وبين موسى عليه السلام حتى صارت خمسا ثم استحى ان يرجع الى ربه تعالى فيقول الله تعالى:" هي خمس في العدد خمسون في الأجر، لا يبدل القول لدي". رواه أبو عوانة في مسنده الحديث 1\134.
فتخيل ،يا أخي، لو كان عدد الصلاة خمسين، فكم سيكون بين الصلاة والصلاة، نصف ساعة على الأكثر؟! فمن سيطيق ذلك؟!
فانظر كيف يرينا الله تعالى رحمته بنا وشفقته علينا. ومع ذلك فان البعض لا يستحون، ولا حول ولا قوة الا بالله!
عقوبة تارك الصلاة:
وهذا الكلام ليس موجها لأحد منكم، لأني أظنكم محافظين عليها والحمد لله، ولكن أرجو أن تبلغوا هذا وتنصحوا به من لا يصلي من آبائكم أو أمهاتكم أو اخوانكم أو أبنائكم أو أقاربكم أو أي مسلم تستطيع أن تنصحه، لأن عقوبة تارك الصلاة في منتهى الخطورة.(1/8)
اعلم أن جهنم درجات وأبواب. قال تعالى:{ وان جهنم لموعدهم أجمعين* لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} الحجر43،44. من هذه الأبواب باب شديد اسمه: سقر.{وما أدراك ما سقر* لا تبقي ولا تذر} المدثر 27-28. أي أن الذي يدخل سقر يسيح ويتلاشى!!وتخيل عندما يسيح عظم جمجمتك مثلا!! وعندما يدخل أهل النار سقر تسألهم الملائكة:{ ما سلككم في سقر} المدثر 42، ما الذي أتى بكم الى هنا؟ فتكون الاجابة:{ قالوا لم نك من المصلين} المدثر 43 وكل مذنب ترجى له رحمة اله الا تارك الصلاة فلا بد أن يدخل سقر!!
أسرع يا أخي الى ابيك وأمك اذا كانا تاركين للصلاة وانصحهما برفق ولين واخلاص لله.. لأن الأمر جد خطير.. وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم 242 والترمذي 2618 والامام أحمد 3\389، ويقول:" العهد بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها قد كفر" رواه الترمذي الحديث 2121 والنسائي 462 وابن ماجه 1079 والامام أحمد الحديث 5\346. فهل يعني ذلك انه لو لك لك صاحبة أو لك صديق لا يصلي.. هل يعني أنه كافر؟! لا.. العلماء يقولون انه يعمل عملا من أعمال الكفر.. وهناك فرق كبير فاحذروا أيها الاخوة أن تكفروا أحدا لأن التكفير مسؤولية أهل لعلم والاختصاص - كالأزهر مثلا.
*وبالمناسبة فقد جرت مناظرة لطيفة بين الامام الشافعي والامام أحمد بن حنبل، الشافعي يقول: ان من لا يصلي يأتي بعمل من أعمال أهل الكفر ولكنه ليس كافرا.. أما الامام أحمد فيقول: انه كافر.. فسأل الشافي ابن حنبل: أتقول انه كافر؟ قال: نعم، قال: فبم يسلم؟ قال: بأن يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، فقال الشافعي: انه يقولها.. قال ابن حنبل: اذن يسلم بأن يصلي، فقال الشافعي: صلاة الكافر لا تقبل! فسكت الامام أحمد بن حنبل وعرف أن الشافعي على صواب وأن تارك الصلاة يأتي بعمل من أعمال أهل لكفر ولكن ليس بكافر.(1/9)
ولكن اعلم أن تارك الصلاة ملعون في التوراة والانجيل.. بل ان ملابس تارك الصلاة تلعنه تخيّل.. تقول: أخزاك الله.. لولا أن سخرني لك لفررت منك! وتلعنه حتى اللقمة التي يأكلها تقول: لعنك الله.. أتأكل من رزق الله ولا تؤدي فريضته؟! بل ان تارك الصلاة يحشرمع فرعون وهامان، لأنه متكبر.. نعم.. والا لماذا لا يضع جبهته على الأرض؟! فأبلغوا عني هذا الكلام، والأمر الآتي أشد!!
ان تارك الصلاة يحرم من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.. ولا يشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم!!
عقوبة الذي يجمع الصلاة بلا عذر:
يعني يصلي الصبح مع الظهر، مثلا.. ويعود من العمل ليصلي بقية الصلوات.. وتنظر اليه فتراه يركع ويسجد كثيرا ويصلي الأوقات كلها، وينقرها نقرا ولا يدري ماذا يقول؟! وبعضهم يصلي وقتا ويترك آخر أو يصلي بعض الأوقات ويترك بعضها.. وطبعا هذه كارثة.. فكيف ناتي لنحضر درس علم في لمسجد ونحن نجمع الصلوات؟! وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تتركن صلاة متعمدا، فانه من ترك صلاة متعمدا برئت منه ذمة الله" رواه الهندي 16096،.. تخيل.. ذمة الله بريئة منه!! فلا رعاية ولا حماية ولا حراسة من الله، ويقول صلى الله عليه وسلم:" من جمع صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر" رواه الترمذي 188.
*وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى طلعت عليه الشمس (يعني لم يصل الصبح) فقال:" ذاك الرجل بال الشيطان في أذنه" رواه البخاري الحديث 1144 و 3270 ومسلم 1814 والنسائي 1607 والامام أحمد 1\427. !! ولا شك أن بولة الشيطان أقذر من بولة الانسان! فتخيل رجلا نائما يأتيه الشيطان كل فجر فيبول في أذنه.. انه شيء يدعو للاشمئزاز والتفور!!(1/10)
*ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الاسراء والمعراج:" ورأيت ليلة أسري بي أناسا من امتي ترضخ رؤوسهم بالحجارة كلما رضخت عادت فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء: الذين كانت رؤوسهم تتكاسل عن الصلاة" رواه الخطيب البغدادي 12\47. والكلام عن الصلاة يعد كلاما عن الف باء الاسلام.. وهذا الحديث من باب { وذكّر فان الذكرى تنفع المؤمنين} الذاريات 55.
*يقول الله تعالى:{ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا} مريم 59.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: ليس معنى أضاعوا الصلاة تركوها بالكلية.. ولكن كانوا يجمعونها فيؤخرون صلاة الظهر الى صلاة العصر ويؤخرون صلاة المغرب الى صلاة العشاء.. والغي: واد في جهنم تستعيذ منه النار لشدة حره! فهل يصر أحد بعد ذلك على جمع الصلوات!!
*ويقول صلى الله عليه وسلم:" من ترك صلاة العصر حبط عمله" رواه الامام أحمد 5\350 والحديث 5\360، فاحذر من هذا جيدا.. يقول صلى الله عليه وسلم:" الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله" رواه البخاري الحديث 552 ومسلم الحديث 1416.
فاحذري يا أختي أن يتقدم لخطبك شاب لا يصلي وتقبلينه!! اياك، ولا يقل أحد ان فلانا أو فلانة تصلي ثم تفعل كذا وكذا.. فلا شأن لنا، والمطلوب من المسلم اتباع أوامر الاسلام جميعا.
*فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" من حافظ على هذه الصلوات كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة.. ومن لم يحافظ عليهن لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف" رواه الامام أحمد 2\169 والدرامي الحديث 2\302... ولماذا أبيّ بن خلف؟! لأنه شر الناس، ولهذا قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده في غزوة أحد.. فهل ترضى يا تارك الصلاة أن تحشر مع أبيّ بن خلف؟!(1/11)
ويحذر الحق جل وعلا من جمع الصلاة بلا عذر شرعي فيقول:{ فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون} الماعون 4-5، والويل، كما يقول العلماء، واد في جهنم كله عقارب وحيات.. فمن يتحمل ذلك؟ ولماذا لا نواظب على الصلاة في وقتها؟!.
*وهذا ابن القيّم يقول: دخلت على أستاذي (ابن تيمية) وقد حبسه التتار فبكيت لحاله، فقال لي لا تبك.. لست أنا المحبوس، لست انا المأسور، المحبوس من حبسه شيطانه، والمأسور من اسره هواه.. وتأخير الصلاة من صفات المنافقين الذين:{ واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا} النساء 142,
وقبل أن أختم كلامي أذكرك وأوصيك بالمحافظة على الصلاة، حتى اذا تكلمنا عن الخشوع في الصفحات القادمة أدركنا معنى الكلام الذي يقال.. وأرجو أن توصي أحبابك جميعا بهذا الأمر، وأحب أن أنبّه الأخوات بأن طلاء الأظافر يبطل الصلاة اذا وضع قبل الوضوء.. فهل تريد الأخت ببساطة أن تضيع صلاتتها من أجل طلاء أظافرها؟! هل لارضاء النفس أضيّع العبادة؟!
وأخيرا أدعوك أخي القارئ وأختي القارئة الى رجاب التوبة عن كل تأخير للصلاة.. والتوبة تجبّ وتمحو ما قبلها لقوله تعالى:{ الا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} الفرقان 70.. فالله أكبر.. ما أحلى التوبة النصوح وما أجمل السير في طريق الله.. فانظروا الى سعة رحمة الله.. فلنتب الى الله من كل ذنب وتقصير.. ولندع أهلنا وأقاربنا وجيراننا الى الحفاظ على الصلاة.. ولننو تحسين الأخلاق { ان الصلاة تتنهى عن الفحشاء والمنكر}العكمبوت 45.
الخشوع في الصلاة(1/12)
موضوعنا الآن هو الخشوع في الصلاة، وهو موضوع في غاية الأهمية.. لأن الخشوع روح الصلاة.. فصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح.. ومعلوم أن الصلاة على غير الخاشع في منتهى الصعوبة.. وهي أمر ثقيل على نفسه، كما قال تعالى:{ واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين} البقرة 45، أي أمها شاقة وصعبة على الذين لا يخشعون في صلاتهم حتى لو كانت صلاة سريعة.. وعلى العكس من ذلك فان الخاشع في صلاته، ولو أطال فيها، يحس أنها سهلة قصيرة يسيرة!!
وأسأل سؤالا: هل تعرف أخي القارئ ماذا تعني الصلاة؟ تعني ببساطة أنك في لقاء مع الله تبارك تعالى.. والدخول في الصلاة يعني الدخول على الله تعالى.. فهل تفكرت في هذا المعنى؟! وهل تخيلت أنك عندما تقول: (الله أكبر) فان الله تعالى يقبل عليك، وينظر اليك؟ هل استحضرت هذا المعنى العظيم والذي يجسده الحديث القدسي:" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل.." رواه الترمذي 2953.
وقيمة الصلاة انها السبيل الأساسي لتعرفنا بالله عز وجل..فبدون الصلاة لا نستطيع أن نتعرف على الله تعالى.. فأنت اذا كنت لا تصلي، فمعنى هذا أنك لم تعرف ربط سبحانه وتعالى.
فالصلاة حقا سر الوجود. لماذا خلقت؟ خلقت لمعرفة الله عز وجل القائل في محكم آياته:{ وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} الذاريات 56، لم نخلق من أجل أن نعيش ونأكل ونشرب ونتزوج وننجب ونعمل ثم نموت!!(1/13)
اذن معرفة الله تعالى وحب الله وطاعته هو الهدف الأساسي من خلق الله لنا.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" رواه مسلم الحديث 533 والترمذي 3517 وابن ماجه 280 والامام أحمد 5\342... وقال صلى الله عليه وسلم عندما طلب منه سيدنا عمر رضي الله عنه أن يتخذ وطاء بعد أن أثر الحصير في جسده الشريف:" ما لي والدنيا؟ ما لي والدنيا؟ انما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل سار في يوم شديد الحر فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها" رواه الهندي 6142.
جاهد نفسك في تحصيل الخشوع
ولا يخشع في صلاته الا من أحب الله تعالى.. ومن أمثلة المحبي لله تعالى حقا وصدقا ابن القيّم، رحمه الله، والذي يقول:
" في القلب شعث ( أي تمزق) لا يلمه الا الاقبال على الله، وفي القلب وحشة لا يزيلها الا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق لا يذهبه الا الفرار الى الله".. فهل أحسست مرة بهذه المعاني؟! هل شعرت اخي القارئ أنك تريد أن تفر الى لله عز وجل؟! وتقول بلسان حالك: أنا محتاج لدينك يا رب! محتاج الى أن آنس بك يا رب! هل أحسست أن في قلبك شوقا وتطلعا لا يطفئه ولا يشبعه الا الرضا بالله عز وجل؟!
ويقول ابن القيّم أيضا:" اذا استغنى الناس بالدنيا فاستعن أنت بالله، واذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، واذا أنس الناس بأحبابهم فأنس أنت بالله، واذا ذهب الناس الى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون اليهم فتودد أنت الى الله".
وهذا أيها الأخ الكريم كلام لرجل أحب الله تعالى حقا، فهل تحس أنت أنك تحب الله؟ واسأل نفسك دائما: ماذا تريد؟ هل تريد الدنيا أم تريد الجنة؟ لماذا تعيش؟ حدد هدفك حتى أستطيع أن أدخل معك الى موضوع الخشوع في الصلاة.
وأذكرك أولا بقول ابن القيم رحمه الله:" لا تسأم من الوقوف على باب ربك.. ولو طردت"!(1/14)
أي لا تمل من الوقوف على باب الحق جل وعلا؛ حتى لو لم يتحقق لك الخشوع في البداية، فلا تتعجل وتترك مجاهدة نفسك لتحصيل الخشوع، بل ابك كثيرا وداوم طرق باب الملك، فانه ولا شك، سيفتح لك، اخشع لله وادعه ولا تقطع الأعتذرا والاحساس بالتقصير.. ولو عصيته فارجع سريعا اليه وتب واستغفر.. ورحم الله من قال:" فاذا فتح الباب للمقبولين، فادخل دخول المتطفلين".. يعني لو فتح الله بابه لعباده الذين يحبهم فادخل في وسطهم، فاذا كان هناك مثلا درس علم في مسجد أو نحوه، فاذهب واجلس مع الجالسين فعسى أن تكون في قوم لا يشقى جليسهم.. واذا كان هناك اخوة ذاهبون للاعتكاف فاعتكف معهم.. وصل معهم قيام الليل.. فالجليس الصالح مثله كمثل حامل المسك اما أن يهديك واما أن تبتاع منه واما أن تشم منه رائحة طيبة..
اذا فتح باب الرحمن في أوقات السحر واجابة الدعاء كالسجود وغيره فأسرع بالدخول.. وابسط يدك للرحمن وقل له: مسكين فتصدق عليّ.. وستشعر حينئذ بحلاوة المناجاة.. وحلاوة الخلوة بالرحمن عز وجل..
وأسألك أخي بالله عليك ما هي آخر مرة خشعت فيها لله في صلاتك؟! وهل كنت تتمنى ألا تقوم من السجود أبدا؟! وما هي آخر مرة وقفت فيها بين يدي الله فخشعت جوارحك واضطرب قلبك؟!
وأنا أخاف ألا نشعر بأهمية هذا الكلام.. لأن بالقلوب بعض القسوة، نحن نأكل ونشرب ونتزوج وننجب ونموت وننسى لماذا خلقنا؟ لقد خلقنا لغاية تخالف هذه الأشياء التي فعلناها ونفعلها ونهتم بها ونحرص عليها! خلقنا لنكون في كنف الله الرحمن وفي خدمة الواحد المنان.. وكفى بك عزا أن يكون لك رب، وكفى بك فخرا أن تكون له عبدا.
وقد جلست مرة مع بعض الشباب وأردنا أن نتذاكر نعم الله علينا، فمنّا من قال الصحة.. ومنا من قال الأولاد.. ومنا من قال السمع والبصر.. وآخر قال امي، وآخر قال المال.. وآخر قال الاسلام.. حتى قال شاب عمره 18 سنة: أعظم نعمة انعم الله بها علينا أن ربنا هو ربنا!!(1/15)
أفهمت هذا المعنى؟! فهذا الشاب الصغير يشعر بأن أعظم نعمة في الوجود بان ربنا وحده هو القائم على أمورنا.. وهو الذي يتكفل بنا وياخذ بقلوبنا وأيدينا ونواصينا الى طريق الخير والصلاح.. فأعظم نعمة أن الله، والله وحده، هو ربك سبحانه وتعالى.
فاستشعر هذا المعنى -أيها الأخ- أنت ملك من؟ أنت عبد من؟! هل أنت عبد ذاتك؟ هل أنت عبد شهواتك؟ هل أنت عبد للمال؟! احذر أن تكون من هؤلاء، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على عباد الدنيا والشهوات والزينة فقال صلى الله عليه وسلم:" تعس عبد الدرهم والدينار.. تعس عبد القطيفة.. تعس عبد الخميصة تعس وانتكس، واذا شيك فلا انتقش" رواه البخاري 2886 وابن ماجه 4135، يدعو عليه بأنه لو دخلت فيه شوكة ألا يجد من يخرجها منه!!
هل ذقت حلاوة الصلاة؟!
يقول ابن تيمية: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها ولم يذوقوا أحلى ما فيها! فقيل له وما أحلى ما فيها؟ قال: حب الله عز وجل.
فأنت يا مسكين يا من لم تجرب البكاء في صلاتك بين يدي ربك جل وعلا.
مسكينة يا من لم تشعري بجسدك وقلبك يرتجفان لذنب أذنبتيه، خوفا من الله الواحد القهار.
هل ابتسمت مرة أخي وأنت داخل على الله في صلاتك؟!
واعلم أن كثرة الحركات في الصلاة تدل على عدم حضور القلب وعدم خشوعه لله رب العالمين، ولذا لما رأى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يعبث بلحيته قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.. وقد صدق لأن الجوارح مرآة القلب.. وكل اناء بما ينضج.
واذا نظرت الى الناس في صلاتهم وجدت عجبا.. تجد من يقوم ويركع ويسجد في صلاته بسرعة عجيبة وكأنه (سوستة) تتحرك حركة آلية أو كأنه ترس في آلة، وفي دقيقتين أو أقل يصلي الظهر أو العصر مثلا! وممكن أن يضغطها فيجعلها في دقيقة ونصف ويأتي بالسجود مع الركوع، فلا يقيم ظهره بعد الركوع، بل يخرّ ساجدا مباشرة!!(1/16)
وقد تجد من يصلي بجوار المرآة، مثلا، فينشغل بالنظر فيها.. أو بجوار التلفاز حتى لا يفوته الهدف اذا أحرزه أحد الفريقين في المباراة!! وهذه نماذج لا ينبغي أن نراها.. ولنستح من الله عز وجل..
وقد تجد أختا تصلي فتقع عيناها على بقعة في السقف أو في الحائط فتقول في نفسها: بعد فراغي من الصلاة سأمحو تلك القعة.. وبذلك يخرجها الشيطان من صلاتها وخشوعها.. وقد تجد أخا يصلي فيعمل ابنه شيئا خطأ فيرفع الأب صوته ليلفت نظر ابنه! فهل هذا يجوز؟!.
وآخر قد يكون مشغولا بمباراة ستبدأ بعد قليل فينظر في ساعته أثناء الصلاة ليحسب الوقت المتبقي فينهي فيه الصلاة!!
ارجع فصل فانك لم تصل
شتان بين هذه الصور التي نعرض لها وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والصالحين.. ان الصلاة ليست مجرد حركات تؤديها بلا حضور أو فهم لما يتلى من كتاب الله.. ولهذا: ( بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ذات مرة اذ دخل رجل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم.. فرد عليه، ثم قام الرجل فصلى، فلما انتهى من صلاته ذهب الى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم سلامه ثم قال له:" ارجع فصل فانك لم تصل!" فذهب فصلى ثم عاد فسلم، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم أعاد الأمر مرة ثانية:" ارجع فانك لم تصل" ففعل الرجل ثم عاد فسلم فرد عليه الرسول، ثم أمره أن يعيد الصلاة مرة أخرى!! فال الرجل: ( والذي بعثك بالحق.. ما أحسن غيرها .. فعلمن) فقال له الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم:" اذا قمت الى الصلاة فكبّر، ثم اقرأ معك ما تيسر من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، واجعل ذلك في صلاتك كلها" رواه البخاري الحديث 6251 والحديث 6667.(1/17)
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال:" ذلك اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" رواه البخاري الحديث 751. وقال صلى الله عليه وسلم:" ان أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته". قيل كيف ذلك يا رسول الله؟! قال:" لا يتم ركوعها ولا سجودها"!! رواه الامام أحمد 3\56 والبيهقي 5\386 والحاكم 1\229.
*وقد جاء في حديث آخر:" ان الرجل اذا صلى الصلاة فلم يتم ركوعها ولا سجودها لفت كما يلف الثوب الرديء فتلقى في وجهه وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، واذا أتم ركوعها وسجودها لفت كما يلف الثوب الطيب الحسن ودعت له قائلة: حفظك الله كما حفظتني"!.
*وقال صلى الله عليه وسلم:" ان الله يقبل على العبد في الصلاة ما لم يلتفت، فاذا صرف العبد وجهه انصرف الله عنه" رواه أبو داود.. فبالله عليك بعد كم من الثواني ينصرف الله عنك في صلاتك!! وهل تتحمل وتتخيل ان ينصرف الله عنك ربك جل وعلا؟! أفلا تستحي أن ينظر الله اليك بينما أنت تنظر الى غيره؟!
واحذر ألا ينظر الله اليك في صلاتك.. فقد قال صلى الله عليه وسلم:" ينظر الله الى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده". وقال صلى الله عليه وسلم:" ان العبد اذا اٌقبل على صلاته ثم التفت يقول الله تعالى: أإلى خير مني"؟! رواه الامام أحمد 2\525 والهيثمي 2\120.
*واعلم ، أخي، أن مناط القبول في الصلاة حضور القلب وفهم العقل.. ولذا قال صلى الله عليه وسلم:" ليس للمرء من صلاته الا ما عقل منها" رواه الزبيدي 3\112. معنى هذا أنه قد ينصرف المسلم من صلاته ولم ينل حسنة واحدة، وانما يكون فقط قد أسقط الفريضة ( أي أداها ورفع عنه وزر المحاسبة على تركها) وذلك لأنه لم يعقل منها آية ولا تسمية ولا دعاء، اذ إنه صلى بقلب ساه غافل.(1/18)
*والله تعالى حكم عدل.. والأجر على قدر المشقة.. ولذا يقول صلى الله عليه وسلم:" ان الرجل ليصلي الصلاة فلا يكتب له الا ثلثها أو ربعها أو نصفا أو سدسها أو ثمنها أو عشرها" الامام أحمد 4\319. فيا ترى كم يكتب لنا من صلواتنا؟!
وتخيّل أنك دخلت على ملك من ملوك الدنيا أو رئيس أو مدير ثم أثنيت عليه ومدحته ووقفت بين يديه مهذبا مطيعا.. فكيف سيكافئك؟! واذا كان هذا مكافأة العبد للعبد؟ فبماذا يكافئك رب العباد جميعا؟!
نماذج من خشوع الصحابة والتابعين
روي أن سيدنا أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان يصلي في بستانه ذات يوم ورأى طيرا يخرج من بين الشجرة، فتعلقت عيناه بالطائر حتى نسي كم صلى، فذهب الى الطبيب صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول:" يا رسول الله، اني انشغلت بالطائر في البستان حتى نسيت كم صليت، فاني أجعل هذا البستان صدقة في سبيل الله.. فضعه يا رسول الله حيث شئت لعل الله يغفر لي"!!
لماذا فعل هذ الصحابي ذلك؟! لقلة ذنوبه، لقلة التفاته، فأصبح الالتفات عنده مصيبة، وهكذا يرى المؤمن ذنوبه وان كانت صغيرة، يراها كأنها جبل يخاف أن يقع عليه أما المنافق فيرى ذنبه كذبابة وقعت على وجهه فأطارها بكل سهولة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم!
*وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ان الرجل ليصلي ستين سنة ولا تقبل منه صلاة، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لا يتم ركوعها ولا سجدوها ولا قيامها ولا خشوعها! رواه المنذري في الترغيب والترهيب الحديث 1\337.
*ويقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ان الرجل ليشيب في الاسلام ولم يكمل لله ركعة واحدة! قيل: كيف يا أمير المؤمنين؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها!
*ويقول الامام أحمد رحمه الله: يأتي على الناس زمان يصلون وهم لا يصلون، واني أتخوف أن يكون هوهذا الزمان!! فماذا لو أتيت الينا يا إمام ونظرت الى أحوالنا والى صلاتنا، نحن المسلمين، في القرن العشرين؟!(1/19)
*ويقول الامام الغزالي رحمه الله: ان الرجل ليسجد السجدة يظن تقرب بها الى الله سبحانه وتعالى، ووالله لو وزع ذنب هذه السجدة على أهل بلدته لهلكوا!
سئل: كيف 1لك؟ فقال: يسجد برأسه بين يدي مولاه، وهو منشغل باللهو والمعاصي والشهوات وحب الدنيا.. فأي سجدة لله هذه؟!
*يقول الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} النساء 43. وللاسف هناك أنس ليسوا بسكارى، ولكنهم في الصلاة يكونون أشد وأسوأ حالا من السكارى، بل انهم سكارى!.. نعم سكارى من كأس الدنيا المترعة التي شربوها فغيبت قلوبهم وأخمدت جذوة عقولهم.. واذا كان الله قد حرم الخمر في البداية قبل الصلاة حتى يعلم المصلون ما يقولون.. فحريّ بالمسلم أن يقطع قبل صلاته وأثناءها كل الشواغل الظاهرة والباطنة حتى يعلم ما يقول.
واعلم أن الله تعالى أمرنا بإقامة الصلاة، لا بمجرد الصلاة فقال:{ وأقيموا الصلاة} البقرة 43، ولم يقل: صلوا. وشتان بين هذه وتلك. فمعنى أقيموا: أي أتموا وأحسنوا. وفي اللغة العربية.. أقام البيت: أي حسنه وأتمه وجمله.. ولم تذكر ( صلى) بمعنى الأداء فقط الا في موضع واحد وهو موضع ذم، في سورة الماعون:{ فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون} الماعون 4-5، فلم يقل سبحانه: (فويل للمقيمي الصلاة) أو ( للمقيمين الصلاة)، اذا لو كانوا مقيميها حقا لما سهوا عنها أبدا.
والصلاة الكاملة التي يؤديها المرء بخشوع وحضور قلب تعد راحة للقلب وقرة للعين.. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال رضي الله عنه:" أرحنا بها يا بلال" الطبراني 6\340.. وربما يقول بعضهم بلسان حاله: أرحنا منها يا بلال!(1/20)
*والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أيضا:" وجعلت قرة عيني في الصلاة" الامام أحمد 3\128.. أي لا يملأ عيني ولا يريحها حقا الا الصلاة، ونحن يملأ أعيننا التلفاز.. أو امرأة تعلق بها الانسان أو أموالنا أو بيوتنا أو زوجاتنا أو أعمالنا!!.
فبالله عليك خل صليت مرة ركعتين فكانتا قرة عينك؟! وهل اشتقت مرة أن تعود سريعا الى البيت كي تصلي ركعتين لله؟ هل اشتقت الى الليل كي تخلو فيه مع الله؟!
*وكان النبي صلى الله عليه وسلم اذا حزبه أمر، أي شغله وأحزنه، فزع الى الصلاة وسارع الى اقامتها. ونحن الآن عندما تكون عندنا مشكلة نفزع الى الناس ونشكو اليهم.. وهذا خطأ؛ اذ لن يفرج كربك ولن يذهب عنك ما تجد الا الله تعالى.. فأسرع اليه وقف بين يديه.
وانظر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت السيجة عائشة رضي الله عنها تجده طوال الليل يصلي وطول النهار يدعو الى الله تعالى فتسأله: يا رسول الله.. أنت لا تنام؟ فيقول لها:" مضى زمن النوم!" ويدخل معها الفراش ذات يوم حتى يمس جلده جلدها.. ثم يستأذنها فيقول:"دعيني أتعبد لربي" فتقول: والله اني لأحب قربك، ولكني أؤثر هواك!(1/21)
*وهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يصف صلاته (وقارن بين صلاتك وصلاته): دخلت المسجد ليلا فرأيت جذع نخلة في وسط المسجد، فتعجبت اذ لم يكن في المكان جذع نخلة فظللت أدنو، فاذ الجذع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف يصلي، فدنوت منه وقلت: هذه فرصة لكي أصلي وحدي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فوقفت بجواره، فبدأ بسورة البقرة، فقلت يسجد عند المائة فأكمل السورة، فقلت يختمها ويركع، ففتح آل عمران، فقلت يسجد عند المائة، فأكمل السورة فقلت يختمها ويركع، ففتح سورة النساء فقرأها فقلت يسجد عند المائة، فأكملها! يقول ابن مسعود: فهممت بأمر سوء، فقيل له ما ذلك؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه! ثم يكمل ابن مسعود حديثه فيقول: ثم ركع صلى الله عليه وسلم فكان ركوعه قريبا من قيامه يقرأ مترسلا، فاذا مر بآية فيها ذكر الجنة سأل الله اياها، وان قرأ آية فيها ذكر النار تعوذ بالله منها، ثم ركع فجعل يقول " سبحان ربي العظيم" وأكثر منها، ثم رفع فكان وقوفه قريبا من ركوعه، أسمعه يقول:" رب لك الحمد كثيرا طيبا مباركا ملء السموات والأرض وملء ما بينهما" ثم سجد، فكان سجوده قريبا لوقوفه!.
ويقول الصحابة: كنا نسمع لجوف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي أزيزا كأزيز المرجل من البكاء! فمتى كان لجوفك أزيز؟! وأستحلفك بالله.. ألا تريد أن تجرب ذلك؟ والله ان هذا أحلى شيء في الدنيا.. أن تقف بين يدي الله تعالى وهو عنك راض وتشعر بقربه تعالى منك؛ خاصة عند سجودك بين يديه جل وعلا. وهذه المعاني من لم يشعر بها مسكين والله.. وان في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، كما كان يقول ابن تيمية رحمه الله.(1/22)
*يقول ربيعة بن كعب الأسلمي: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم بالنهار..وأبيت على بابه بالليل، فما زلت أسمعه كل ليلة هو يصلي يقول:" سبحان ربي.. سبحان ربي.. سبحان ربي.." حتى أملّ أو تغلبني عيني فأنام، فأقوم من ليلي فأسمعه يقول:" سبحان ربي.. سبحان ربي.. سبحان ربي..".
أرأيت هذه المتعة؟ وهل سبق لك أن جربتها؟!
ويكمل ربيع حديثه ،وكان عمره 14 سنة، قائلا: فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يوما:" يا ربيعة.. تعال"، فقلت لبيك، فقال:" سلني أعطك"، فقلت: أنظرني حتى أنظر يا رسول الله. فقلت لتفسي: اياك يا ربيعة أن تطلب شيئا من الدنيا.. فوالله انها ستفنى.. فعدت اليه وقلت: يا رسول الله.. أسألك مرافقتك في الجنة، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:" أوغير ذلك يا ربيعة"؟ قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أريد غيرها.. فقال صلى الله عليه وسلم:" فأعني على نفسك بكثرة السجود"! رواه الطبراني 5\52.
*كان النبي صلى الله عليه وسلم اذا ركع يقول:" خشع لك سمعي ولصري ومخي وعظامي وعصبي.." رواه الطبراني 19\232 والبيهقي 2\87. وهذا الدعاء يدل على استغراقه صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه جل وعلا فلا يسمع سوى كلام الله.. ولا يرى غيره.. ولا ينشغل مخه بشيء سوى الله تعالى!! فمسكين والله من لم يذق طعم الخشوع.
*وقالوا: لو رأيت سفيان الثوري يصلي لقلت: يموت الآن (من كثرة خشوعه)!.(1/23)
*وهذا عروة بن الزبير رضي الله عنه، ابن السيدة أسماء أخت السيدة عائشة، أصاب رجله داء الآكلة (السرطان) فقيل له: لا بد من قطع قدمك حتى لا ينتشر المرض في جسمك كله، ولهذا لا بد أن تشرب بعض الخمر حتى يغيب وعيك. فقال: أيغيب قلبي ولساني عن ذكر الله؟ والله لا أستعين بمعصية الله على طاعته. فقالوا: نسقيك المنقد ( مخدرا) فقال: لا أحب أن يسلب جزء من أعضائي وأنا نائم، فقالوا: نأتي بالرجال تمسكك، فقال أنا أعينكم على نفسي. قالوا: لا تطيق. قال: دعوني أصلي، فاذا وجدتموني لا أتحرك وقد سكنت جوارحي واستقرت فأنظروني حتى أسجد، فاذا سجدت فما عدت في الدنيا، فافعلوا بي ما تشاؤون! فجاء الطبيب وانتظر، فلما سجد أتى بالمنشار فقطع قدم الرجل ولم يصرخ بل كان يقول: لا اله الا الله.. رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمدا نبيا ورسولا.. حتى أغشي عليه ولم يصرخ صرخة، فلما أفاق أتوه بقدمه فتظر اليها وقال: أقسم بالله إني لم أمش بك الى حرام، ويعلم الله، كم وقفت عليك بالليل قائما لله.. فقال له أحد أصحابه: يا عروة.. أبشر.. جزء من جسدك سبقك الى الجنة فقال: والله ما عزاني أحد بأفضل من هذا العزاء.
*وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما اذا دخل في الصلاة ارتعش واصفر لونه.. فاذا سئل عن ذلك قال: اتدرون بين يدي من أقوم الآن!
*وكان أبوه سيدنا علي رضي الله عنه اذا توضأ ارتجف فإذا سئل عن ذلك قال: الآن أحمل الأمانة التي عرضت على السماء والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.. وحملتها أنا.
*وسئل حاتم الأصم رحمه الله كيف تخشع في صلاتك؟ قال: بأن أقوم فأكبر للصلاة.. وأتخيل الكعبة أمام عيني، والصراط تحت قدميّ، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأن رسول الله يتأمل صلاتي وأظنها آخر صلاة، فأكبّر الله بتعظيم وأقرأ بتدبر وأركع بخضوع وأسجد بخشوع وأجعل في صلاتي الخوف من الله والرجاء في رحمته ثم أسلم ولا أدري أقبلت أم لا!(1/24)
*يقول سبحانه وتعالى:{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله..} الحديد16. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لم يكن بين اسلامنا وبين نزول هذه الآية الا أربع سنوات، فعاتبنا الله تعالى فبكينا لقلة خشوعنا لمعاتبة الله لنا.. فكنا نخرج نعاتب بعضنا بعضا نقول: ألم تسمع قول الله تعالى:{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله..} فيسقط الرجل منا يبكي على عتاب الله لنا. فهل شعرت أنت يا أخي أن الله تعالى يعاتبك بهذه الآية؟ وهل خجلت من عتاب الله لك؟!
*الامام الغزالي يقول: استجمع قلبك في ثلاثة مواضع: عند قراءة القرآن وعند الصلاة وعند ذكر الموت.. فإن لم تجدها في هذه المواضع فاسأل الله أن يمنّ عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك!!
*رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم نصحنا بقوله:" صلّ صلاة مودّع" فهل صليت مرة واحدة صلاة مودع في عمرك كله؟!
مراتب الناس في الصلاة:
الناس في الصلاة على مراتب خمس..
الأول: الذي لا يحافظ على صلاته، لا على وقتها، ولا على وضوئها، ولا على أركانها الظاهرة ( القيام والركوع والسجود..) ولا على خشوعها.. فهذا (معاقب) بإجماع العلماء.
الثاني: الذي يحافظ على الوضوء والصلاة والأركان الظاهرة ولكن بلا خشوع وهذا (محاسب) على صلاته حسابا شديدا.
الثالث: محافظ على الوقت وعلى الوضوء والأركان الظاهرة ويجاهد شيطانه فيخشع لبعض الوقت ويسهو لبعض الوقت، فالشيطان يختلس من صلاته ويسرق منها بين الحين والآخر. فهو في صلاة وجهاد وله أجران: أجر الصلاة وأجر الجهاد.
الرابع: محافظ على الوقت وعلى الوضوء وعلى الأركان الظاهرة وخاشع في صلاته (وهذا النوع نادر في المسلمين).
الخامس: محافظ على الوقت والوضوء والأركان الظاهرة.. والأكثر من ذلك أنه خلع قلبه وأسلمه لله عز وجل، فهو ليس في الدنيا.. بل صار في مناجاة مع الله.. ولعل هذا ما أشار اليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" وجعلت قرة عيني في الصلاة"...(1/25)
فهل يمكن أخي القارئ أن تصل الى هذه المرحلة من الخشوع في الصلاة؟! فتذوق حلاوة الوقوف بين يدي الله.
كيف تخشع في صلاتك؟!
هناك وسيلتان لتحقيق الخشوع في الصلاة..
الأولى:إخراج الدنيا كم القلب والاقلال من الشهوة والمعاصي.
وابن عطاء صاحب الحكم، يقول: كيف يشرق قلب وصورة الدنيا منطبعة فيه، أم كيف يرحل الى الله وهو منكب على شهواته، أم كيف يدخل على الله ولم يتطهر من نجاسة غفلاته!
*جاء رجل الى الامام أحمد رحمه الله فقال له: يا امام، أعد طهوري، وأنام مبكرا، أريد قيام الليل وصلاة الفجر، فلا أستيقظ، فقال له الامام أحمد: ذنوبك قيدتك!. ثم قال له: لا تعص الله بالنهار.. فحينئذ تقوم الليل وتصلي الفجر!
فكم من أكلة ثقيلة منعت قيام الليل، وكم من نظرة الى حرام منعت من صيام يوم!
*ومثل تشعب الدنيا وانشغال الانسان بها كمثل طالب يذاكر دروسه في غرفته وبجواره شباك تحه شجرة عليها عصافير.. وكلما أراد أن يركز في المذاكرة وجد العصافير تزعجه، فيأخذ خشبة ليضرب ليضرب بها الشجرة فتطير العصافير، فيعود لمذاكرته، ولكن ما تلبث العصافير أن تعود مرة أخرى! فجاء والده فقال: يا بني لا تستريح من ازعاج العصافير الا بقطع الشجرة.. فاقطع يا أخي شجرة الشهوات من قلبك تخشع في صلاتك!
أما الوسيلة الثانية: فهي أن تفهم حركات الصلاة الظاهرة.. بأن تكون لكل حركة في الصلاة أو قبلها أثر في قلبك..
من أسباب الخشوع في الصلاة:
أولا: توضأ وأحسن الوضوء لكي يكون تطهيرا للبدن والروح معا.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اذا توضأ العبد فتمضمض خرجت الخطايا من فيه فاذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظافر يديه، فاذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فاذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه فاذا غسل رجليه خرجت الخطايا من قدميه حتى تخرج من تحت أظافر قدميه"! رواه الامام أحمد 4\348.(1/26)
فتذكر هذا الحديث عند بدء الوضوء هو أول مدخل للخشوع.
ثانيا: ستر العورة.. وعورة الرجل من الركبة الى السرة، وعورة المرأة جسمها كلها ما عدا الوجه والكفين.. ولنحرص على ستر عورات الظاهر والباطن أيضا وذلك بالتوبة النصوح واخلاص النية لله تعالى.
ثالثا: التكبير.. ويجب استحضار معنى اسم الله (الكبير) وأنه لا أكبر من الله تبارك وتعالى.. ولا تكن كذابا بأن يقولها لسانك ولكن في قلبك من هو أكبر من الله، أو ما هو أكبر من الله من متاع الدنيا الفانية أو متعها الزائلة! وقد جعل التكبير هو ذكر الانتقال بين حركات الصلاة لاستحضار هذا المعنى؛ فلا يسهو العبد ولا يفكر في الدنيا بل يخشع لله الأكبر سبحانه وتعالى.
رابعا: رفع اليدين.. ورمي الدنيا خلف الظهر.. فعندما تخلع نعليك عليك أن تخلع معهما الدنيا وشهواتها ومشاغلها.. والوقوف عركن من أركان الصلاة؛ ولهذا لا يجوز للقادر على الوقوف أن يصلي جالسا والا بطلت الصلاة لأن الله تعالى يقول:{ وقوموا لله قانتين} البقرة 238. ولا يجب رفع العينين، بل النظر يكون موضع السجود والرأس مطأطأ لله الواحد القهار. ولاحظ أن وقفة يوم القيامة هي هي وقفة الصلاة. يقول تعالى:{ يوم يقوم الناس لرب العالمين} المطففين6. الرأس محنية والنظر محل السجود، ثم تضع يدك اليمنى على اليسرى.. وهذا من دواعي الخشوع والأدب مع الله تبارك وتعالى. واعلم أن الله ينظر الى صلاتك.. وتخيل أنك في عمل من أعمال الدنيا وصاحب العمل ينظر اليك أو أنك بين يدي ملك طلب منك عملا ثم وقف ليراقبك.. فكيف ستؤدي هذا العمل؟!(1/27)
بعد ذلك اقرأ الفاتحة، أم الكتاب، بخشوع وتدبر، واستمع الى الحديث القدسي الجليل الذي يقول فيه رب العزة جل وعلا:" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فاذا قال العبد :{ الحمد لله رب العالمين}، قال الله:" حمدني عبدي"، فاذا قال:{ الرحمن الرحيم} قال الله:" أثنى عليّ عبدي" فاذا قال العبد:{ مالك يوم الدين} قال الله:" مجدني عبدي".. فاذا قال:{ اياك نعبد واياك نستعين} قال الله:" هذا بيني وبين عبدي" فاذا قال العبد:{ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. قال الله:" هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"!! رواه مسلم 876 والترمذي 2953.
فتخيل يا أخي.. الله يجيبك ويرد عليك ويقضي حاجتك.. والله لولا الشهوات والمعاصي لطارت قلوبنا من شدة الفرحة بكلام الله لنا.
وانتبه: عندما تقرأ الآيات اقرأها يتدبر وحضور قلب وعقل، فاذا قلت:{ الحمد لله رب العالمين}.. فاستشعر نعم الله عليك وهي كثيرة لا تحصى ولا تعد، وتذكر أنك تناجي ربك الذي خلقك ورزقك وأحياك ثم يميتك ثم يحييك.. فاذا قلت: {الرحمن لرحيم} فاستشعر سعة رحمة الله بعباده في الدنيا والآخرة، وكيف أنه أرحم بعباده من رحمة الأم بولدها.. فاذا قلت:{ مالك يوم الدين} فاستحضر في ذهنك يوم الحساب.. يوم توقى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.. وهكذا في سائر الآيات والسور، واعلم أنك عندما تقرأ الفاتحة تكون واحدا من ثلاثة:
رجل يحرك لسانه وقلبه غافل، وتلك منزلة الظلم لنفسه.
رجل يحرك لسانه وقلبه حاضر. وتلك منزلة المقتصد.
رجل يحس قلبه أولا بالمعاني ثم يترجم اللسان هذه المعاني، وهذه منزلة السابق بالخيرات بإذن الله جل وعلا..
ولكن كيف يتحقق معنى حضور القلب قبل قراءة اللسان؟!
يتحقق ذلك بعدة أمور:
أولا: حفظ القرآن الكريم أو أقصى قدر ممكن منه.
ثانيا: فهم ما تحفظه.
ثالثا: تصفية القلب من المعاصي والتوبة النصوح لله رب العالمين.(1/28)
*وعندما تقرأ قل في نفسك: اللهم لك الحمد أن وفقتني لهذا المقام.. فلولاك ما حنيت ظهري أبدا.. ووالله ما ظهري لأحد غيرك.. واحرص أخي على أن ينحني القلب مع الظهر فيكتمل خشوع الظاهر والباطن.. وقل: سبحان ربي العظيم".. ومعناها تنزيه الله عن كل نقص.. ووصفه سبحانه بكل كمال؛ فهو سبحانه العظيم حقا، له العظمة والجبروت والملك والملكوت..
وعندما تسجد.. فتذكر أن التراب يسجد على التراب وليس في هذا غرابة، فالفرع انما يرد الى الأصل.. وسبح ربك كثيرا حتى يستقر المعنى في القلب والوجدان قبل أن يعبر عنه اللسان.. واعلم أن العبد أقرب ما يكون الى ربه وهو ساجد.. فاحذر أن تكون قريبا ببدنك فحسب.. ولكن قلبك بعيد.. هناك في الدنيا ومشاغلها..واحرص على كثرة الدعاء في السجود.. فان ذلك أدعى للاجابة.(1/29)
ولما كانت السجدة الواحدة لا تطفىء لظى الشوق ونار الحب والاتصال بالله والتسبيح في ملكوت الله.. فلا بد من سجدة أخرى تروي عظش الظامئ وتنزل على القلب الركع العابد بردا وسلاما.. ولو قضى العبد حياته كلها ساجدا لله ما وفاه حق شكره.. كما تفعل الملائكة.. ولكن الله بعباده رحيم يقبل العمل القليل ويجزي عليه بالأجر الكثير.. فإذا ما فعلت ذلك في أول ركعة ثم فات بالركعة الثانية وافعل فيها كما فعلت في الأولى، واعلم أنه لا بد أن يزيد الخشوع وحضور القلب.. وتذكر قول القائل: من لم يكن في زيادة فهو في نقصان!! فإذا أتممت الركعة الثانية اجلس واقرأ التشهد " التحيات لله"، واستشعر عظنة الله وأنت أيها الضعيف الفقير تحي ربك القوي الغني.. فهل يصح أنت تخيه بلسانك وقلبك عنه منصرف؟! وكلمة " التحيات" كلمة جامعة للتحيات كلها وفيها توقير وتعظيم واجلال لله رب العالمين ثم قل" والصلوات الطيبات" فهذا كله لك يا رب فكل طيب لك ومنك.. وصلاتي هذه لك ودعواتي وكل أعمالي كذلك { قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت..} الأنعام 162-163. ثم سلم على خير الأنام صلى الله عليه وسلم " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وتذكر أنه صلى الله عليه وسلم يرد عليك السلام كما أخبر هو في الحديث.(1/30)
هل حييت ربك وسلمت على نبيك؟! حينئذ ترتفع قيمتك ويعلو قدرك ويصير حريّا بك أن تسلم على نفسك وعلى اخوانك من عباد الله لصالحين (من الانس والجن والملائكة وغيرهم من كل ما يعبد الله تعالى).. ثم ارفع اصبعك وقل:" أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وأسألك: هل رأيت أدلة وحدانية الله؟ هل ينفع أن تذهب الى المحكمة فتشهد وأنت لم تر؟ فكيف تشهد أن لا اله الا الله وأنت لم تره؟ّ والاجابة أنك رأيت آيات وحدانيته سبحانه، فأنت متأكد كأنك رأيت، بل وربما أقوى.. وأنت تذكر دائما قول القائل: وفي كل شيء له آية.. تدل على أنه الواحد.
ثم ترفع أصبعك لأن الشهاة تحتاج الى اثنين وأنت تشهد بلسانك وقلبك معا. ثم تذكر نبيك المصطفى فتصلي عليه وعلى أبيه وأبي الأنبياء سيدنا ابراهيم عليه السلام، واستحضر حينئذ انتمائك لسيدنا ابراهيم وأنه هو سمانا المسلمين.. فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم امتداد لسيدنا ابراهيم عليه السلام.. فأنت جذورك عميقة وضاربة في التاريخ. فاذا ما فرغت من التشهد ادع بما ورد في الأحاديث الصحيحة من أدعية جامعة مباركة، واستعذ بالله من أربع كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم:" من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة الممحيا والممات وفتنة المسيح الدجال" رواه مسلم 1324 وأبو داود 983. فإذا ما فرغت شلم عن يمينك وتذكر ملك اليمين الذي يكتب الحسنات.. ثم سلم عن شمالك وتذكر ملك السيئات.. وكيف أن أعمالك كلها مسجلة عند الله تعالى.. ولهذا يقول الكفار المجرمون يوم القيامة:{ مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} الكهف 49.(1/31)
وصل صلاة مودّع للدنيا، مفارق لها، خائف لما ينتظره من حساب بين يدي الله رب العالمين، غير مطمئن الى قبول صلاتك، بل تشعر أنك أذنبت لعدم حضور قلبك وعقلك، ولذا بمجرد أن تسلم تستغفر الله على تقصيرك قائلا: استغفر الله ثلاث مرات، ثم قل: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام" رواه مسلم 1334 وأبو داود 1512.. ولماذا هذا الثناء بالذات؟ لأنه الدعاء الذي ستقوله عندما ترى الله تعالى في الجنة عندما يكشف الحجاب عن الله تبارك وتعالى يناديك فيمن ينادي:" يا أهل الجنة.. سلام عليكم، فيقولون: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والاكرام"..
ثم اسأل الله تعالى أن يوفقك الى طاعته كما يحب ويرضى.. فهو وحده الموفق لما فيه الخير والصلاح والهدى والرشاد فقل: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، رواه الامام أحمد 5\245. ولم يقل عبادتك فحسب، بل قال حسن عبادتك، حتى تستمتع بالصلاة ومناجاة الله تبارك وتعالى.. واعلم أن الذكر والشكر وحسن العبادة هي عوامل وأسباب لسعادة.. لا في الدنيا فقط.. ولا في الآخرة فحسب، بل في كليهما.
ثم سبّح الله تعالى ثلاثا وثلاثين واحمده وكبره بمثلها وقل تمام المائة: الله أكبر كبيرا وسبحان الله العظيم وتعالى بكرة وأصيلا.. ثم ادع الله تعالى بما شئت.. فقد جاء في الحديث أن من أوقات الاجابة:" دبر الصلوات المكتوبة".
ثم انصرف من صلاتك بهدوء وسكينة وكن ابق على انتظار وشوق للصلاة التالية.. اذ من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله:" ورجل قلبه معلق بالمساجد" رواه البخاري 660 ومسلم 2377 والترمذي 2391 والامام أحمد 2\439.
سنن الصلاة(1/32)
وقبل أن أبدأ الحديث أسألك أخي الحبب: هل ستحافظ على الصلاة في وقتها،خاصة صلاة الفجر..حينئذ ستشعر بخشوع وحضور قلب وأنت واقف بين يدي الخالق جل وعلا. ويا ترى على أي مرتبة تحب ان تكون في صلاتك؟ هل تحب أن تكون من أهل المرتبة الأولى أم الثانية أم الثالثة أم الرابعة أم الخامسة؟!
وعرفنا أن مما يعين على الخشوع في الصلاة ترك المعاصي، وفهم حركات الصلاة
وحديثنا الآن عن السنن وقيام الليل. والسنن أنواع كثيرة منها السنن الراتبة (القبلية والبعدية) سنة الفجر وغيرها.. وهناك صلاة الحاجة وصلاة الاستخارة وصلاة التوبة، وصلاة العيد وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف وقيام الليل وغيرها. فالصلاة مرتبطة بالمسلم طوال يومه وليلته ومتوغلة في كل شؤون حياته من زواج أو سفر أو شدة أو فرح أو غير ذلك، كل ذلك نعبد فيه ربنا بالصلاة والتقرب اليه سبحانه.
ولعل سائلا يسأل: اما كان من الأيسر أن تضم الصلوات الخمس الى بعضها فنؤديها في ساعة أو بعض ساعة ثم نستريح ونلتفت لحياتنا؟! وما الحكمة من كون الصلوات متفرقة ومتباعدة؟!.
والاجابة: جعل الأمر كذلك لكي يظل المسلم على اتصال دائم بالله طوال يومه وليلته وسفره واقامته وحزنه وسعادته.. ولكي تبقى روحك متصلة بالله تعالى، ولهذا الأمر أيضا هدف تربوي.. فربما حدثت الانسان نفسه بمعصية، صلاة الظهر أو العصر مثلا، فحينئذ يكفه ذلك ويردعه عن المعاصي.. ولعل هذا يتضح جليا عند الحديث عن تحريم الخمر في أ,ل مراحله حيث قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون..} النساء 43، معنى هذا أنه ينبغي عليه أن يكف عن شرب الخمر قبل الصلاة بساعة أ, أكثر مثلا.. وإذا الصلاة تتكرر خمس مرات فإن هذا أدعى الى تعويده عل ترك شرب الخمر بالكلية.(1/33)
وصلاة الفجر لها اهمية قصوى، ففي مقياس قوة الايمان وحب الله الرحمن ومجاهدة النفس ووساوس الشيطان. فالصلاة معراج للروح وتهذيب للنفس وتربية للوجدان وكف للنفس عن العصيان، ولهذا قال سبحانه :{ ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت 45، وذلك لأن الصلاة تحتويك وتجعلك مشغولا بها طوال اليوم والليلة.. وكأنه النداء الذي يتكرر خمس مرات للمسلم يقول: اذا كنت قد أصبت وأحسنت في الساعات الماضية فاجتهد كي تسعد في الساعات الآتية.. واذا كنت قد قصرت وأخطأت فلا تحزن ولا تيأس من رحمة الله.. بل امح أخطاءك ساعة بساعة..{ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات} هود 114. وقد نزلت هذه الآية إجابة على رجل قبل امرأة لا تحل له وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية التي تبين أن الصلوات تمحو الخطايا بإذن الله وعفوه ورحمته.
أولا: السنن المؤكدة:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة" رواه الترمذي 415 والنسائي 1806 والامام أحمد 4\413، والسنن المقصودة في هذا الحديث هي السنن الراتبة.. واذا حافظت عليها بني لك كل يوم بيت وأين؟! في الجنة!! ولا تنس أن آسيا زوج الطاغية فرعون سألت الله ذلك:{ رب ابن لي عندك بيتا في الجنة..} التحريم 11، وانت يبنى لك كل يوم بيت في الجنة اذا حافظت على السنن الراتبة!! فيا لها من سلعة زهيدة ولكن ثمنها غال جدا!! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!!(1/34)
ولاحظ أن بيوت الجنة ليست كبيوت الدنيا.. ولا كقصورها.. ولو كان قصر كالمنتزه! وأسألك سؤالا: لو كان قصر المنتزه ملكك ماذا كنت ستفعل؟! وتخيل لو حافظت على هذه الركعات طوال حياتك، فكم من البيوت ستبنى لك في الجنة؟! الناس تشقى وتجد وتتعب وتتدخر وتسافر وتدخل في جمعيات كي تحصل على فيللا في الساحل الشمالي أو في الماررينا مثلا.. فما بالك بقصر في جنة عدن؟! وتخيل نفسك عندما يأتيك اخوانك في الجنة ليزوروك.. وبالطبع تقول لهم: أيها الاخوة.. أنا أدعوكم الى تناول وجبة سمك في قاع المحيط.. في جنة عدن؟! فهيا ننزل كي نصطاد (والصيد هنا هواية وليس حرفة).. وانتبهوا فقد دعوت الرسول عليه الصلاة والسلام للعشاء معنا فلبى الدعوة، فاصطادوا بهمة ونشاط!!
وتخيل نفسك وأنت تنتقل بين قصورك في الجنة، فتقول: أنا اليوم ذاهب الى جنة عدن لأقيم في قصري هناك ليلتين، وبعد ذلك سأذهب الى جنة الفردوس، عندي قصر هناك بتطوع صيام يوم عرفة.. وبعد ذلك سأهب الى جنة الخلد، لأني أعطيت موعدا لسيدنا معاذ بن جبل لأقابله هناك، حيث دعوته على العشاء لزيارة قصري هناك!!
والسؤال: فماذا عن تفصيل هذه الركعات الاثنتي عشرة؟! والجواب انهما: ركعتان قبل الصبح (ركعتا الفجر).. وأربع ركعات قبل الظهر واثنتان بعده، أو العكس (اثنتان قبله واربع بعده).. واثنتان بعد المغرب واثنتان بعد العشاء. هذا الحديث رواه الامامان مسلم والترمذي.
وللعلم فان ركعتي الفجر بالذات لهما ثواب عظيم، اذ قال صلى الله عليه وسلم:" ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم 1685 والترمذي 416 والنسائي 1758.
سبحان الله: هاتان الركعتان أحسن من الدنيا كلها وما فيها!! فأخبروني بالله عليكم اذا كان هذا ثواب ركعتي السنة، فما بالكم بثواب الفريضة ( فريضة الصبح)؟!(1/35)
فلماذا نزهد في هذا الثواب العظيم والأجر الكبير؟! وبعض الشباب لا يصلي الفجر، لأنه يصحو الساعة التاسعة صباحا، وهو مستعجل لأن عنده كلية ومحاضرات..
فماذا ستصلي عندها السنة أم الفرض؟! بالطبع ستصلي ركعتي الفرض غلى وجه السرعة وبلا خشوع وتنزل سريعا لتدرك الجامعة أو المدرسة أو العمل!!
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طاردتكم الخيل"رواه الامام أحمد 2\405. لو أن العدو يجري خلفكم لا تتركوا هاتين الركعتين.
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن ركعتي الفجر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخففهما حتى أشك أنه صلى بأم الكتاب!! وهذا تيسير من النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده.. فأبشر يا أخي انهما ركعتان خفيفتان ومع ذلك خير من الدنيا وما فيها.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما مع أن صلاته كانت طويلة ولعل هذا من باب التيسير على أمته من بعده.
هذا عن السنن المؤكدة (الراتبة) التي كان يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم طوال حياته ولا يتركها الا لعذر، بل اذا كان تركها قضاها.. وهناك سنن أخرى غير مؤكدة؛ أي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤديها ولكن ليس بنفس درجة حرصه على السنن الراتبة.. فما هي هذه السنن غير الراتبة حتى تحاول الحفاظ عليها؟!
ثانيا: السنن غير المؤكدة:
وهي:
*ركعتان أو أربع ركعات قبل العصر.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" رحم الله امرءا صلى أربع قبل العصر" رواه أبو داود 1271 والترمذي 430 والامام أحمد 2\117... ومعنى غير مؤكدة؛ أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحافظ عليها انما كان يفعلها أحيانا ويتركها أحيانا.. ولكن كما ترون فإن ثوابها عظيم.. فالمسلم ينال من رحمة الله تعالى بمحافظته على أربع ركعات قبل صلاة العصر.. فهنيئا لمن حافظ عليها.(1/36)
*ومنها أيضا ركعتان قبل المغرب.. يقول صلى الله عليه وسلم :" صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب لمن شاء".. فالسنة لتي قبل المغرب غير مؤكدة. رواه البخاري 1183 والحديث 7368 وأبو داود 1281.
*ومنها أيضا ركعتان قبل العشاء، قال صلى الله عليه وسلم:" بين كل أذانين صلاة"، ثم قال:" لمن شاء".
*ومما يؤكد ويبين مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على السنة المؤكدة، أنه كان اذا فاتته يقضيها!! فمثلا اذا لم يصل أربعا قبل الظهر، صلاها بعده.. وهكذا. فقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على السنن المؤكدة.
تعدد النيات في الصلاة وغيرها
*ومما يبين يسر الاسلام أنه يمكن صلاة ركعتين بأكثر من سنة.. أو تعدد النيات في الصلاة الواحدة.. فأجمع في ركعته نية تحية المسجد وسنة الظهر القبلية وسنة الوضوء وهكذا. وهذا من عظمة هذا الدين الحنيف.
وما يقال عن الصلاة من تعدد النيات، يقال عن الصوم أيضا، فيمكن صيام يوم الخميس مثلا بنية أنه الخميس وأنه من الستة أيام من شوال.. وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ونية النجاة به من المعاصي وقتل نار الشهوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"أي وقاية وستر رواه البخاري 1905 ومسلم 3384 والامام أحمد 1\387.
وهكذا فإنك تأخذ ثواب صيام أربعة أيام بصيام يوم واحد!!
ولهذا يقال: ان الصحابة رضوان الله عليهم كانوا تجار نيات.. فمثلا اذهب الى مجلس العلم لكي تحفني الملائكة، وكي أعمل بهذا الكلام.. وكي أدعو به الى الله.. فهذا فضل عظيم من الله تعالى. وليتنا نطبق هذا الكلام الطيب العظيم.
صلاة الوتر
*ومن السنن أيضا: الوتر.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اجعلوا آخرصلاتكم بالليل وترا" رواه البخاري 998 ومسلم 1752 والامام أحمد 2\20.(1/37)
ويقول صلى الله عليه وسلم:" يا أهل القرآن.. أوتروا" رواه الترمذي 454 وأبو داود 1416 والامام احمد 1\110... وركعة أو ركعات الوتر سنة مؤكدة مثل الفجر ولذا يجب على المسلم ألا ينام قبل أن يصلي الوتر..ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه:" أوصاني خليلي بثلاث: ركعتي الفجر، وصيام ثلاثة ايام من كل شهر، وألا أنام قبل أن أوتر" رواه البخاري 1178 ومسلم 1669 والامام أحمد 2\459.
*ووقت صلاة الوتر من بعد صلاة العشاء حتى وقت صلاة الفجر.. ويبين لنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أهمية صلاة الوتر فيقول:" أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر" أي يحب الوتر ويثيب عليها رواه الامام أحمد 1\148 والبيهقي 2\468.
ويقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: ان الور ليس بحتم ولكنه سنة نبينا.
وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ولا في حضر، ولا في مرض ولا صحة.
والنبي صلى الله عليه وسلم ينصح المسلم بأن يحافظ على سنة الوتر فيقول:" من ظن ألا يستيقظ آخره فليوتر أوله، ومن ظن أنه يستيقظ آخره فليوتر آخره" رواه الامام أحمد 3\300. أي من غلب على ظنه وتعوّد على الاستيقاظ قبل الفجر، فألفضل له أن يؤخر صلاة الفجر الى قبيل الفجر.
*وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال:" يا أبا بكر.. متى توتر؟" قال: أول الليل، بعد العتمة، وقال:" وأنت يا عمر.. متى توتر؟" قال: في آخر الليل.. فقال صلى الله عليه وسلم:" أما أنت يا أبا بكر فقد أخذت بالثقة وأما أنت يا عمر فقد أخذت بالعزيمة أو بالقوة" رواه الهندي 21918 والسيوطي الحديث 2\668. فليختر كل منا ما يراه أفضل بالنسبة له.. وليحرص على عدم ضياع صلاة الوتر.
صلوات أخرى مهمة
أولا: صلاة الحاجة
من الصلوات الأخرى المهمة ما يمكن ان نسميه صلوات المناسبات أو الظروف كركعتي الحاجة.. فلا يصح أن يذل المسلم نفسه ويطرق أبواب الناس يسألهم العون ولا يطرق باب رب الناس.. وقد صدق من قال:(1/38)
لا تسألنّ بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب ان تركت سؤاله وبنيّ آدم حين يسأل يغضب
وعن كيفيتها يقول صلى الله عليه وسلم:" من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم صلى ركعتين سأل الله فيهما ما يشاء الا أعطاه الله ما سأله معجلا أو مؤجلا" رواه الامام أحمد 1\71 و5\263.
وبعد صلاة الركعتين يدعو بهذا الدعاء:" لا اله الا أنت الحليم الكريم. لا اله الا أنت الحليم الكريم. لا اله الا أنت رب العرش العظيم.. الحمد لله رب العالمين. اللهم اني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل اثم.. والفوز بالجنة ، والنجاة من النار.. لا تدع لي ذنبا الا غفرته، ولا هما الا فرّجته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضى ولنا فيها اصلاح الا قضيتها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين" رواه الترمذي 1384 وابن ماجه 1384. ثم تدعو الله بما تشاء من الامور.
وما أفضل الصلاة ،عامة، وصلاة ركعتي الحاجة خاصة في جوف الليل؛ حيث الهدوء والسكون وانقطاع القلب عن شواغل الحياة وضجيج الناس.
ثانيا: صلاة الاستخارة
ومن الصلوات المسنونة أيضا صلاة الاستخارة. يقول الصحابة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا الوضوء.(1/39)
والمسلم يصلي الاستخارة ليس في الأمور الكبيرة كالزواج والسفر فحسب، بل يصليها حتى في الأمور التي قد تبدو بسيطة مثل شراء بدلة أ, قطعة قماش!! ولا تعجب من ذلك، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار.. والأخذ بالأسباب واجب على المسلم.. ولهذا يقول الصحابة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمر كله.. ويقول صلى الله عليه وسلم:" الاستخارة لا تأتي الا بخير". وينبغي عندما تدخل في صلاة ركعتي الاستخارة ألا تكون قد أخذت قرارا نهائيا.. وإلا فإنك تكون مخادعا لنفسك.. فلا بد أن تدع الاختيار والأمر كله لله تعالى، فالاستخارة تعني الخروج من دائرة اختيارك وعواطفك وإيكال الأمر الى الله العليم الخبير. ومن يصلّ الاستخارة لا يندم بعد ذلك لأنه أدى ما عليه.. بعكس الآخر الذي لم يصلها، فإنه يقول اذا اتخذ قرارا أو سلك سلوكا غير موفق يا ليتني ما فعلت هذا الأمر..
دعاء الاستخارة:
من السنة بعد أن يصلي المستخير ركعتين يقرأ فيهما ما تيسر من القرآن أن يدعو بهذا الدعاء:" اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر (وتسمي حاجتك) خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسره لي ويسرني له وبارك لي فيه.. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر (وتسمي حاجتك) شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به يا أرحم الراحمين". رواه البخاري 1162 والحديث 6382 وأبو داود 1538 والحديث 480.
ولا يقل أحدكم: هل سأحفظ كل هذا الدعاء؟ فهو دعاء سهل.. ثم إن بعض الناس يحفظ نصف الأغاني! فماذا ستخسر إذا حفظت دعاءين يسيرين؟! وبعض الناس قضى خمس أو عشر سنوات في تعلم لغة أجنبية مثلا فهل يصعب عليه دعاء قد يشكّل أو يؤثر في مستقبل حياته؟!
ثالثا: صلاة الضحى(1/40)
وأدناها ركعتان وأعلاها 12 ركعة.. وموعدها من بعد شروق الشمس بثلث الساعة حتى قبل الظهر بثلث الساعة أيضا.. يقول صلى الله عليه وسلم:" يصبح على كل سلامي من الناس صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" رواه مسلم 1668 وأبو داود 1285. فالجسم فيه ثلاثمائة وستون مفصلا لا بد من التصدق عنها كلها.. ويجزئ عن ذلك ، أي يقوم مقام ذلك، ركعتان يركعهما من الضحى.
وتذكر أن الخشوع روح الصلاة. وشتان بين صلاة الخاشع الذي يصلي بقلبه وجوارحه وصلاة الرجل الساهي الغافل.. وهنا يقول الامام ابن القيم رحمه الله: ان الرجلين ليقامان في الصف، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض!.
وأذكر أنني كنت أصلي تهجدا في رمضان الماضي، وبينما قال الامام: الله أكبر.. فإذا برجل بجواري يبكي! فتعجبت وقلت: سبحان الله! كلمة الله أكبر أبكت هذا الرجل! فسألته بعد الصلاة فقال: خشيت أنني قلتها بلساني وفي قلبي من هو أكبرمن الله تعالى، فأكون كذابا!! فبكيت متأثرا بكلام هذا الرجل.
رابعا: قيام الليل
ومعلوم أن المحافظة على صلاة الليل سبب لحضور القلب بين يدي الله تعالى وبكائه وتأثره بآي الذكر الحكيم والقرآن العظيم، على ما فيه من مشقة وعناء، وقد سئل الحسن البصري عن أشد شيء وأصعبه على الانسان فقال: قيام الليل، فقيل له: فما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن تعالى فألبسهم من نوره!
وقد خلقنا الله تعالى، وأراد أن يعرف قدره في قلوبنا ولكي يعرف الناس ربهم ويروا نعمه وآلاءه.. ولهذا يقول سبحانه في الحديث القدسي:" خلقت الخلق لأعرف" قال تعالى:{ وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} أي ليعرفون.(1/41)
وأنا أدعوك أخي الى أن تجرب قيام الليل وتذوق حلاوة المناجاة.. ولقد جربنا أشياء كثيرة في حياتنا كاللهو واللعب والسهر.. فلنجرب قيام الليل ومناجاة الله السميع العليم. واعلم أن قيام الليل دليل على حب الله للانسان.. فمن وفقه الله وأعانه على قيام الليل فإن هذا يعني أن الله تعالى يحبه.. ولهذا جاء في الأثر:" اذا أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك".
ولذا يقول جل وعلا في الحديث القدسي:" من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب وما تقرب اليّ أحد بأفضل مما افترضته عليه.. ولا يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". رواه البخاري 6502 وابن ماجه 3989.
وفي رواية تكمل لهذا الحديث تقول:" وماترددت في شيء ترددي في قبض عبدي المؤمن.. يكره الموت.. وأنا أكره مساءته" أي ما يسوؤه ويحزنه؟! رواه البخاري 6502.
وعلى قدر تميزك في قيام الليل.. على قدر حب الله لك .. والقابض على دينه في هذا الزمن كالقابض على الجمر وله ثواب عظيم.. وكذلك المحافظ على قيام الليل ولا شك ان له أجرا عظيما وثوابا كبيرا..{ وقليل من عبادي الشكور} سبأ13.
الرسول قدوتنا في قيام الليل
واذا قرأت سورة المزمل وجدت أن الله تعالى يأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أولها قائلا:{ يا أيها المزمل*قم الليل الا قليلا..} المزمل 1-2 ، أي أن الأصل عند النبي محمد أن يقوم معظم الليل أو نصفه على الأقل أو ينقص منه قليلا.. ومعلوم أن قيام الليل كان فريضة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو سنة مندوبة لأتباعه وأحبابه المسلمين { أو أنقص منه قليلا} المزمل 3، قد تعني ثلث الليل {أو زد عليه} كأن يقوم ثلثي الليل مثلا {ورتل القرآن نرتيلا} المزمل4؛ أي اقرأ القرآن بتأن واحرص على اعطاء كل حرف حقه ومستحقه وصفته..(1/42)
ولذا أوصيك يا أخي أن تقوم الليل، ونقرأ القرآن كأنما أنزل عليك، وكأن الله تعالى يخاطبك أنت!
وعندما يقول تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا} فأعر سمعك وقلبك له تعالى وتدبر وانصت، فإنه اما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. وإذا ما قرأت آيات عن الحساب فتخيل أنك واقف بين يدي ربك وأنه يحاسبك على أعمالك في الدنيا. وإذا قرآت آيات عن الجنة فتخيلها وابتسم، وتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يصلي بالمسلمين ذات مرة وعندما قرأ آيات عن الجنة مد يده كأن يقطف شيئا من ثمارها! وإذا قرأت آيات عن النار تخيل أهلها وهم يصطرخون فيها ويعذبون..{ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} المزمل5، وهو لوحي.. وهذا الوحي يحتاج الى استعداد لأنه ثقيل وتكليف بأوامر ونواه ومن ثم يحتاج الى عزيمة قوية وإيمان راسخ يستطيع الوفاء بهذه التكاليف وأداءها حق الأداء.
وعلى هذا فإن الأخ الذي يريد أن يكف نفسه عن لمعاصي ويردعها عن الشخوات الحرام، لا بد أن يؤدب النفس في الليل بحسن القيام وطول قراءة القرآن والتدبر والمراقبة والخوف من الله تعالى..
ثم يقول تعالى:{ واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا} المزمل 8، أي أقلع قلبك عن كل الشواغل الدنيوية وتنقطع الى طاعة الله عز وجل.. واجعل فرحك وحزمك لله وبالله.. لا بالدنيا وشهواتها وغفلاتها.
وأود ان أسألك أخي سؤالا: ما هو أول شيء في قلبك؟! والقلب سمي قلبا لسرعة تقلبه، وهو سريع التأثر بالأشياء من حوله.. وأنت سريع التأثر بزوجك وأولادك وأحبابك.. فهل جربت أن توجه هذه الحساسية لله تعالى؟! ولا تقل: أنا قلبي قاس أو أنا لا أستطيع البكاء أو أنا لا أتأثر بالقرآن... فالقلب فيه خير، ولكنك لم تستثمر هذا الخير. وجرب قيام الليل أسبوعا واحدا وسترى لذلك أثرا عظيما.(1/43)
ونبينا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم كان يقوم معظم الليل ويشق على نفسه فتسأله أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: يا رسول الله.. ألا ترفق ينفسك.. ألا تنام قليلا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم:"مضى زمن النوم يا خديجة"
وقد كان بعض الصحابة من شدة خوفهم من الله وحبهم له يقومون الليل كله، فنزلت آخر آية في سورة المزمل تخفف عنهم وتقول:{فاقرءوا ما تيسر منه} المزمل 20.
والسؤال: لماذا لا نقلد الصحابة رضي الله عنهم في قيام الليل واجتهادهم في الطاعة؟! واعلم أن قيام الليل صفة من صفات عباد الرحمن المذكورين في آخر سورة الفرقان. يقول تعالى عنهم:{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما* والذين يبيتون لربهم سجّدا وقياما} الفرقان 63-64، كانوا يبيتون لربهم ساجدين وقائمين، فكيف تبيت أنت وكيف تقضي ليلك؟!؟ أمام التلفزيون؟ أم في المسارح والملاهي؟ أو مع أصدقاء السوء؟! بعض الناس يظلون طوال الليل ساهرين أمام التلفاز، فإذا ما أوشك الفجر أن يؤذن ذهبوا الى مضاجعهم!! فيجاهدون أنفسهم في المعصية واللهو.. ولا جاهدونها في طاعة الله جل وعلا!!
ويقول تعالى عن المؤمنين في سورة السجدة:{ انما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكّروا بها خرّوا سجّدا وسبّحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون* تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} السجدة 15-16.
ومعنى تتجافى جنوبهم عن المضاجع: أي أنها لا تستطيع الصبر على النوم، تكره الفراش اللين والراحة!! كأن بينه وبين السرير جفوة وخصاما فلا يستطيع أن يمنع نفسه من مناجاة الرحمن ومخاطبة الواحد المنّان! مسكين والله من لم يذق لذة القيام وحلاوة المناجاة!!(1/44)
ويقول سبحانه عن جزاء هؤلاء وثوابهم:{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} السجدة 17، انهم أخفوا طاعتهم وعبادتهم عن الناس.. فأخفى الله ثوابهم العظيم.. وما تقر به أعينهم من المنح والعطايا.. والجزاء من جنس العمل.
فانظر يا أخي الى أعداد المسلمين وانظر الى نسبة الذين يقومون الليل منهم تجدها ضعيفة جدا... يقول جل شأنه:{ ان المتقين في جنات وعيون* آخذين من آتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذلك محسنين* كانوا قليلا من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون} الذاريات 15-18. ووقت السحر، هو الذي يسبق الفجر بنصف ساعة.. وعباد الرحمن المؤمنون يقضون هذا الوقت في استغفار الله تعالى لا في اللهو واللعب.
ويأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{ ومن الليل فتهجد به نافلة عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} الاسراء 79.. فالله تعالى يأمر نبيه بالتهجد والقراءة، ويبين له أن هذا أحد أسباب فوزه بالمقام المحمود.. مقام الشفاعة يوم القيامة.. وأن يمنّ عليه بالوسيلة وهي المنزلة العالية في الجنة.. ومعلوم أن الذي يقوم الليل لا يستوي مع الذي لا يقوم، ولذا يقول تعالى:{ أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر أولوا الألباب} الزمر 9.
واعلم أن هناك جنة في الدنيا، كما أن هناك جنة في الآخرة، وجنة الدنيا هي قيام الليل.. والخلوة بالرحمن سبحانه وتعالى.. بل انها أفضل من الدميا وما فيها كما أخبر المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه قال:" ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها" ذكره الزبيدي في اتحاف السادة المتقين 5\185 والهندي في كنز العمال 21426 و21435.. ركعتان فقط!(1/45)
ويقول صلى الله عليه وسلم:" ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى الثلث الأخير من الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يضيء الفجر" رواه البخاري 1145 ومسلم 1769 والامام أحمد 2\282.. فهل يصح أن ينزل ربنا عز وجل من عليائه اليك وأنت مستغرق في النوم؟! ولو أن ضيفا مهما أتاك قبل الفجر ألن تستيقظ وتنتبه وترحب به وتكرمه وتحاول اسعاده بكل طريقة؟! فما بالك بالله تعالى؟!
ويقول صلى الله عليه وسلم:" ان في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة الا أعطاه الله إياه.. وذلك كل ليلة" رواه مسلم الحديث 1767 والامام أحمد 3\313.
ونزل جبريل عليه السلام الى سيد البشر فقال:" يا محمد، اعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس".
صورة من قيام النبي صلى الله عليه وسلم:(1/46)
روي أن رجلا أتى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقال: أخبريني عن أعجب ما رايت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقالت: وأي أمره لم يكن عجبا؟! أتاني ليلة صلى الله عليه وسلم فدخل معي في اللحاف حتى اذا مس جلده جلدي، قال:" ذريني أتعبد لربي ساعة"، فقلت له: والله اني لأحب قربك ولكني أؤثرهواك.. (انظر: ان هوى النبي صلى الله عليه وسلم في قيام اللسل! فهل رأيت أحسن من هذا؟!). فقام صلى الله عليه وسلم يصلي فبكى حتى كثرت دموعه، حتى رأيت دموعه تبل صدره..( ولم تقل تبل لحيته.. بل صدره)! ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى.. فما زال كذلك حتى طلع الفجر، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الفجر، فرآه يبكي فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:{ وكيف لا أبكي يا بلال وقد نزلت عليّ الليلة هذه الآيات..{ ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} آل عمران 190-191.
ثم قال صلى الله عليه وسلم:" ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" ذكره السيوطي في الدر المنثور الحديث 2\111 والزبيدي 10\163.
ويقول سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: دخلت على النبي أصلي معه وحدي، فافتتح سورة البقرة، فقلت : يختم عند المائة فأكملها، فافتتح آل عمرن فقلت: يركع عند المائة فأتمها، فافتتح النساء فقلت: يركع عند المائة فأتمها، يمر بالآية فيها تسبيح فيسبح أو دعاء فيدعو أو تعوذ فيتعوذ.. ثم ركع فكان ركوعه قريبا من قيامه، ثم سجد فكان سجوده قريبا من ركوعه..!(1/47)
ولا شك أن النبي كان يجد في لذة هذا القرب وفي تلك المناجاة. وإلا لما قام صلى الله عليه وسلم حتى تتورم قدماه ثم تتورم ساقاه، ثم تتشقق قدماه، فيقال له: أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخذر؟ فيقول" أفلا أكون عبدا شكورا!" رواه البخاري 1130 ومسلم 7055 والامام أحمد 4\251. وكان صلى الله عليه وسلم يضلي فيراوح بين قدميه، أي يميل على إحدى رجليه أكثر من الأخرى، فإذا تعبت مال على الأخرى!!
ويروي البخاري في الحديث 1124 يقول: اشتكى رسول الله صلى الله عله وسلم فلم يصل ليلة أو ليلتين! . ولا أستطيع أن أتخيل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمسك بأحد الصحابة فظل يوصيه بقيام الليل كما نفعل نحن الآن؛ اذ حبب اليهم قيام الليل وذاقوا حلاوته، فلم يحتاجوا الى من يدعوهم الى ذلك ويرغبهم فيه الا قليلا.
صور من قيام الصحابة والتابعين:
ويقول عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:" يا عبدالله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل" رواه البخاري 1152 ومسلم 2725 والامام أحمد 2\170، فانظر الى تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي على قيام الليل، وتحذيره اياه من تركه، فانه حرمان ليس بعده حرمان.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول عن عبدالله بن عمر:" نعم الرجل عبدالله، لو كان يقوم الليل" رواه البخاري 1121 1122 ومسلم 6320 والامام أحمد 2\146. فما ترك عبدالله رضي الله عنه قيام الليل بعد سماعه الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكان لا ينام الا قليلا.. فهل تحب أو ترضى أن يحزن عليك أو يغضب منك الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
وروي أنه صلى الله عليه وسلم ذهب الى سيدنا علي وزوجه فاطمة رضي الله عنهما ليتفقدهما ويوصيهما فطرق الباب عليهما ليلا فوجدهما نائمين، فقال:" ألا تصليان"؟! رواه البخاري 1127 ومسلم 1815 والامام أحمد 1\91.(1/48)
واستيقظ صلى الله عليه وسلم ليلا فوجد زوجاته نائمات، فقال صلى الله عليه وسل:" من يوقظ صواحب الحجرات؟!"، من يوقظ هؤلاء النائمات لكي يعبدن الله تعالى؟! ثم يقول كلمة صعبة فيها ترغيب وترهيب، يقول:"فربّ كاسية في الدنيا، عارية يوم القيامة" رواه البخاري 5844.. فانظر الى هذا الحديث وتأسّ بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يحرص على إيقاظ زوجاته ليقمن الليل، واحرص على إيقاظ زوجتك أو أختك أو والدتك.. فمن دعا الى هدى كان له مثل أجر من اتبعه من غير أن ينقص من أجره شيئا.
وحدث موقف في إحدى الغزوات يمثل مدى استغراق وحب الصحابة رضوان الله عليهم في قيام الليل، ومدى استغراقهم في لذة المناجاة وحلاوة القرب. فقد وقف العبّاد بن بشر يصلي الليل كله وكان مكلفا بحراسة المسلمين في إحدى الغزوات فأتى رجل من الأعداء فرماه بسهم فوقع في كتفه لكنه كان كما أشرنا مستغرقا في لذة القرب وحلاوة المناجاة، فنزع السهم واستغرق في صلاه ولم يعبأ بالجرح والدم والألم، فلم يلبث الكافر أن رماه بسهم آخر فيقع في كتفه أيضا، فينزعه ويكمل الصلاة.. فيعيد الرجل الكرة مرة ثالثة ويقع في المكان نفسه (أنظر.. ونحن إذا أصيب أحدنا في أصبعه بألم صغير أو جرح بسيط لربما قصر في صلاة الفريضة! - فيخرج عبّاد الله- وانظر فقد كان اسما على مسمى: فعبّاد صيغة مبالغة من عابد، وحقا كان الرجل عبّادا لله وإلا لما تحمّل كل ذلك وصبر عليه وهو واقف بين يدي الله.. ولو قطع الصلاة لعفا الله عنه بإذنه تعالى)، ثم يركع ويسجد ويسلم، ثم يوقظ الصحابي الآخر الذي يتناوب معه الحراسة، لا لشيء إلا ليتولى حراسة المكان، لا ليشكو ما حدث له!! فيسأله الصجابي الآخر: لماذا لم توقذني من أول سهم رميت به؟ فيقول: كنت أقرأ سورة من القرآن فكرهت أن أقطعها! ولأن أكمل الركعتين أحب اليّ من خروج روحي.(1/49)
ولعلك تندهش لهذا وتتعجب له.. ولكن الحقيقة أن من جرب لذة القيام وذاق حلاوت شهرا واحدا فهم كلام عبّاد بن بشر رضي الله عنه!!
*وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان تحت عينيه خطان أسودان من كثرة البكاء! وكان يقوم الليل ويوقظ أهله ويقرأ قوله تعالى:{ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} سورة طه 132، وذات مرة يقرأ سورة الطور حتى اذا وصل الى قوله تعالى:{ انّ عذاب ربك لواقع* ما له من دافع} الطور 7-8 سقط مريضا، فظل الصحابة يعودونه شهرا، لا يدرون ما به!!
*وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه اذا هدأت العيون وأرخى الليل سدوله، سمع له دويّ كدوي النحل وهو قائم يصلي!!
*وهذا سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، فيقوم الثلث الأول، ثم يوقظ امرأته فتقوم الثلث الثاني، ثم توقظ امرأته ابنتهما الوحيدة فتقوم الثلث الأخير!! ( الله!! ما أحسن هذا، بيت كله طاعة وتهجد وعبادة لرب الأرض والسماء!! هل رأيت أو سمعت أو تخيلت أفضل من هذا؟!).. فلما ماتت زوجته قسم الليل هو وابنته، فكان يصلي نصف الليل وتصلي ابنته النصف الآخر.. فلما مات أنس رضي الله عنه حرصت ابنته على أن تقوم الليل كله لله رب العالمين!!
أين نحن من هؤلاء؟! اننا والعياذ بالله، من أبناء الدنيا.. ولسنا أهل الآخرة.
*ويقول أحد التابعين: كابدت قيام الليل سنة، فاستمتعت به عشرين سنة.
*وكان أحدهم يضع يده على فراشه ويمررها عليه ويقول: والله انك للّين، ولكن في الجنة ما هو ألين منك!!
*وكان احدهم ينظر الى فراشه وهو في غاية الجهد والتعب ثم يقول: أطار النوم جهنم نوم العابدي!!
*وهذا سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما يقول: اذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم.. وأن ذنوبك الكثيرة قيدتك!!(1/50)
*وكان للحسن البصري رحمه الله جارية فباعها.. فلما جاء اليل قامت الجارية فأخذت تنادي: يا اهل الدار: الصلاة الصلاة! فقالوا: أطلع الفجر؟! فقالت: ألا تصلون إلا المكتوبة! فقالوا نعم.. فرجعت الى الحسن البصري وقالت: يا مولاي، ردني، فإنك بعتني لقوم لا يصلون إلا الصلوات الخمس!
*وهذا أحد التابعين يقول: رأيت امرأة في المنام فقلت لها: من أنت؟ فقالت: حورية من حوريات العين، فقلت: زوجيني نفسك، فقالت: اخطبني من سيدي، فقلت وما مهرك؟ قالت: طول القيام!!
*ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لم يبق من حلاوة الدنيا الا ثلاثة أشياء: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة!!
*ويقول الفضيل بن عياض: إذا قربت الشمس فرحت بالظلام كي ينام الناس فأخلو بالله عز وجل!.
*وهذا المنصور بن المعتمد كان يصلي على سطح بيته كأنه جذع نخلة، فلما مات قال ابن جاره لأمه: يا أماه.. أين الجذع الذي كان على سطح المنصور؟ فقالت: يا بني لم يكن جذعا إنما كان المنصور..
*وأحد التابعين دخل عليه رجل وهو يبكي، فقال له: أتشتكي؟ قال: بل أشد، قال: أفقدت بعض أهلك؟ قال: لا، فحجب الرجل وقال: أضاعت أموالك؟! قال: بل أشد، قال: وما أشد من ذلك؟ قال: نمت البارحة ولم أصل الليل!!..
*ويقول أحد التابعين: منذ أربعين سنة ما حزنت على شيء كحزني على طلوع الفجر!!
ترى لماذا يا أخي؟ يقول: يطلع عليّ الفجر وما قضيت وطري من قيام الليل! ولم أقض نهمي من القرآن!
ومن اعتكف أو تهجد في العشر الأواخر شعر بلذة العبادة والطاعة.
*ويقول أحد التابعين: أهل الليل في ليلهم أشد لذة من أهل اللهو في لهوهم!!
وأنا أقول: ومن لا يصدق فليجرب!! فلذة القيام أحلى من لذة الجلوس مع الأهل أو مشاهدة التلفاز أو اللعب أو مشاهدة مباراة!!(1/51)
*روي أن الله تعالى أوحى الى عبده داود عليه السلام:" يا داود، إن لي عبادا أحبهم ويحبونني، وأشتاق اليهم ويشتاقون اليّ، ان قلدتهم أحببتك"، فقال داود: يا رب، دلني عليهم، فقال:" يراعون الغلال بالنهار ويحافظون علىالصلوات، ويحنون الى الليل، كما تحن الطيور الى أوكارها!!". وأنا أسألك: عمرك حنيت أو اشتقت لقيام الليل! "حتى إذا جاء الليل وخلى كل حبيب بحبيبه، ففرشوا اليّ وجوههم، ونصبوا الي أقدامهم وناجوني بكلامي، وتملقوا الي بإنعامي، فهم بين صارخ وباك وبين متأوه وشاك!! أتعلم يا داود؟! أعطهم ثلاثة أشياء:
الأول: لو كانت السموات السبع والأرضون السبع في ميزانهم يوم القيامة، لاستقللتها عليهم.
والثاني: أقذف من نوري في وجوههم وفي قلوبهم.
والثالث: أقبل عليهم بوجهي. أفرأيت يا داود من أقلت عليه بوجهي أيعلم أحد ماذا أريد أن أعطيه؟!"
*وكان الامام أبو حنيفة رحمه الله يقوم الليل أحيانا بآية واحدة يرددها طوال الليل، وهي قوله تعالى:{ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ} القمر 46، كان يرددها ويبكي.
وكان يقوم أحيانا بقوله تعالى:{ فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم} الطور 27.
*وهذا حسان بن ثابت يناجي الله في ظلمة الليل يقول له: بابك لم أغادره، ولم اسع الى غيرك، فاسمح لي بالرضى، وأشرف أنني أعبدك، الهي خالق الأكوان.. لا أسعى الى غيرك!.
*وهذا مالك بن دينار رحمه الله كان يقوم الليل فتسمعه زوجته يناجي ربه: الهي، أنت وحدك، تعلم ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الرجلين أنا؟!
*وكان سليمان الداري يناجي ربه بالليل قائلا: لئن سألتني يا رب عن ذنبي يوم القيامة لأسألنك عن رحمتك، ولئن سألتني عن تقصيري لأسألنك عن عفوك، ولئن قذفتني في النار لأخبرنّ أهل النار اني أحبك!!(1/52)
*وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل دعا ربه تعالى:" اللهم لك الحمد.. أنت رب السموات والأرض ومن فيهن.. ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن.. ولك الحمد أنت قيّم السموات والأرض من فيهن.. ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة جق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا اله إلا أنت". رواه البخاري 1120 ومسلم 1805 1806 والامام أحمد 1\358.
ميسّرات قيام الليل:
وربّ سائل يسألأ: بم نستعين على قيام الليل!!
معلوم أن قيام الليل عمل شاق على الانسان بشكل عام، اذ يميل الانسان الى النوم والإخلاد الى الرحة بعد عناء مشقة والسعي وراء الرزق بالنهار، ولذا فإن قيام الليل لا بد له من استعداد وزاد.. وأسباب ومعينات وميسرات.. نذكر منها:
أولا: عدم الإكثارمن الأكل والشرب ولهذا فإن بعض العبّاد كان يقول: يا معشر المريدين.. لا تأكلوا كثيرا فتشربوا كثيرا فتناموا كثيرا فتخسروا كثيرا، فتندموا عند الموت كثيرا.
ثانيا: ألا ترهق نفسك بالأعمال الشاقة بالنهار.. وإذا أرقهت نفسك فاحرص على قيلولة بأن تنام ساعة بالنهار بنية الاستعانة بذلك على قيام الليل، ويكون نومك حينئذ عبادة، لأن النيّة تحوّل العادة الى عبادة.
ثالثا: ترك الذنوب بالنهار.. ولذا قال أحد التابعين: لا تعصوا الله بالنهار تقوموا الليل!.. ولذا يقول سفيان الثوري رحمه الله: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب! قيل له: وما ذلك الذنب؟ قال: رأيت رجلا يبكي فقلت: هذا مراء! سبحان الله!! حرم قيام الليل خمسة أشهر بهذه الكلمة البسيطة!!(1/53)
رابعا: مراعاة التدرج.. بمعنى صلاة ركعتين لمدة أسبوع أو أسبوعين ثم أربع ركعات مثل ذلك ثم ست ركعات.. وهكذا.. والمبالغة في العمل ثم تركه كلية مدخل من مداخل الشيطان.. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق" رواه البيهقي في السنن الكبرى الحديث 3\18-19 والهيثمي 1\62.
ويفضل أن تجعل لنفسك وردا من القرآن في القيام كأن تختم القرآن في القيام لمدة شهر مثلا؛ أي تقرأ كل يوم جزءا.. والانسان طموح ويسعى دائما الى تحقيق ما تمنى. ولللعلم، فإن كل الصحابة والتابعين كان لهم ورد من القرآن.. فمنهم من كان يختم في ثلاثة أيام ومنهم من كان يختم في أسبوع.. وهكذا..
ويا لسعادتك حينما تختم القرآن واقفا في قيام الليل! هذا خير سلاح ضد الشيطان..
والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو بالرحمة لقائم الليل الذي يوقظ زوجته، ولقائمة الليل التي توقظ زوجها، فيقول صلى الله عليه وسلم:" رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نصحت في وجهه الماء" رواه أبو داود 1308 والامام أحمد 2\250.
ان قيام الليل سبب لحصول الرحمة.. فلنسارع اخوة الاسلام الى تحصيل هذه الرحمة بقليل من الجهد.. ومن استعان بالله أعانه.
*ويقول صلى الله عليه وسلم:" من استيقظ من الليل فأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا في الذاكرين الله كثيرا والذاكرات" رواه أبو داود 1309 وابن ماجه 1335. فاحرص أن توقظ زوجك أو خطيبتك أو أمك أو ابنتك أو ابنك لقيام الليل.. واحرص على نيل ثواب الدعوة الى الهدى والتشجيع عليه..
نسأل الله تعالى أن يوفقنا الى طاعته والسعي في مرضاته.. إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين.
الصلاة في المسجد
مكانة المسجد في الاسلام:(1/54)
المسجد هو بيت الله.. والجالس في بيت الله هل يستريح أم لا؟! واعلم أن الملائكة تحف الجالسين في بيت الله تعالى.. والمسجد حرم.. ولا بد من مراعاة آداب المسجد من خفض للصوت وحسن استماع ومراعاة آداب السؤال والتوسيع للإخوة..
يقول تعالى:{ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} النور 36.
فإذن كل مسجد رفع وبني، إنما رفع وبني بإذن الله تعالى.. وكأن الله تعالى هو الذي إختار مكان بناء هذا المسجد.. ولهذه الآية العظيمة علاقة وثيقة بالآية السابقة لها وهي قوله تعالى:{ الله نور السموات والأرض} النور 35 فماذا يقول العلماء عن هذه العلاقة؟!
يقولون: مصدر النور هو الله عز وجل.. فالله هو الذي أنار السموات والأرض.. فأين ينزل هذا النور؟ ينزل في بيوت الله جل وعلا.. إذن نور الله يتجلى في لمساجد.
والسؤال: على من ينزل هذا النور؟ ينزل على من ذكرهم الله تعالى في قوله:{ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} النور 37،هذا عمن تعرض لنور الله، فماذا عمن لا يريد أن يتعرض لنور الله جل وعلا؟! وإجابة هذا السؤال تتضح في الآية التي تليها:{ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء} النور 39، والتي بعدها:{ أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موج من فوق سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} النور 40.
*ويقول الله عز وجل في حديث قدسي:" إن بيوتي في الأرض المساجد، وزواري فيها عمّارها..".. فتخيل أنك ذاهب لزيارة الله، واستحضر هذا المعنى العظيم.. أنك في ضيافة الكريم سبحانه وتعالى!! وبقية الحديث".. فمن تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور ان يكرم زائره".(1/55)
ونلحظ في دعاء الذهاب الى المسجد أننا نقول:" اللهم اجعل في قلبي نورا وفي لساني نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا" رواه البخاري 4569 ومسلم الحديث 1794 والامام أحمد 1\352.. ما هذا كله؟! انك يا طالب النور، ستجده في بيوت الله جل وعلا.. فهنيئا لك هذه الأنوار التي تحيط بك من كل جانب.
*وعند دخولك المسجد، ادخل برجلك اليمنى وقل كما علمنا الرسول الأكرم والمعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم:" بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله.. اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك". رواه ابن ماجه.
الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي يشبه المسجد بالنسبة للدنيا، بالنهر بالنسبة للأرض، لا تتعدى الأرض شاطئيه بل تتوقف عندهما، كذلك الدنيا وزحامها وضجيجها لا تستطيع أن تعبر البيئة النورانية.
والمسجد أيها الأحباب ليس للرجال فقط، بل للرجال والنساء جميعا، بشرط أن تراعي النساء آداب الدخول والخروج وآداب المسجد..
ثواب إعمار المساجد والمشي اليها:
*اعلم أن ثواب اعمار المساجد عظيم، فالمشي الى المسجد له ثواب، وبناء المسجد له ثواب، والصف الأول ثوابه أكبر، وتجمّعنا في صلاة الجماعة له ثواب، وإتمام الصفوف في الصلاة له ثواب.. كل هذا قبل الدخول في الصلاة.
وليس معنى المشي الى المساجد أن من يذهب اليها راكبا لا يأخذ ثوابا، بل يثاب أيضا على ما ينفق على السيارة من وقود أو بنزين..
*يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من غدا الى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح.." رواه البخاري 662 ومسلم 522 والامام أحمد 2\508... فتخيل وأنت ذاهب الى المسجد أن الملائكة تستعد لك بالنزل وهو ما يعد للضيف لاستقباله من طعام وفاكهة وشراب!..(1/56)
*وقال صلى الله عليه وسلم:" من تطهر في بيته ثم مشى الى بيت من بيوت الله تعالى ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة.." رواه مسلم 1519.. فهنيئا لمن أتى من مسافات بعيدة.. فالأجر على المشقة، والثواب على قدر العمل، والله يضاعف لمن يشاء بمنّه وكرمه وجوده تبارك وتعالى.
*والذي يواظب على الصلوات الخمس لا تبقى عليه ذنوب، لأن الصلوات الخمس كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر!!
*فهل يصح لمسلم أن يزهد في هذا الثواب العظيم وأن ينصرف عنه؟! وماذا تساوي هذه الدنيا الفانية التي يجري الانسان خلفها طول حياته ويضيع في سبيلها عمره؟! وهل يصح لمسلم سمع هذا الثواب وعمل به أن يكتفي بالصلاة في البيت ويقول: كثر الله خيري.. أنا أحسن من الذي لا يصلي!!
*ويقول صلى الله عليه وسلم:" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟!" قالوا: بلى يا رسول الله، قال:" إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى الى المساجد وإنتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". رواه مسلم 587 والامام أحمد 2\235.
ومعنى إسباغ الوضوء: أي تعميم العضو بالماء وعدم ترك جزء أو شيء منه، ومعنى على المكاره: أي في الأوقات التي يكره فيها الوضوء كالبرد والشتاء ونحو ذلك..
*وهؤلاء هم بنو سلمة، خلت الديار حول المسجد النبوي فأرادوا أن ينتقلوا قرب المسجد، واستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلم يأذن لهم وقال:" بني سلمة دياركم، تكتب آثاركم" رواه مسلم 1518 والامام أحمد 3\371. أي: الزموا دياركم التي أنتم فيها الآن ويكتب لكم أجر الذهاب الى المسجد والعودة اليها.. وكل خطوة بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء!!(1/57)
وللعلم فإن المسافة بين بيوت بني سلمة ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن صغيرة، بل كانت حوالي ثلاثة كيلومترات!! وكانوا يمشونها خمس مرات في اليوم والليلة، أي يمشون حوالي خمسة عشر كيلو مترا لأداء الصلاة في جماعة!!.
وأنت يا أخي، ما المانع لديك كي تؤدي الصلاة في جماعة؟! لو تأملت لوجدتها موانع سهلة، لأنها دنيوية، وما دامت المقابلة بين الدنيا والآخرة، فلا بد أن تهون الدنيا.. لأنها لا تساوي عند مالكها جناح بعوضة!!
*ولاحظ أن الذهاب الى المسجد لا يكون عند الصلاة فقط، بل يكون أيضا لحضور درس علم.. وهذا أيضا له ثواب عظيم.. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا الى الجنة".. فتخيل وأنت قادم الى المسجد لحضور درس علم أن بابا في الجنة قد فتح لك.. فهنيئا لك!!
وبقية الحديث يقول:" وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده" رواه أبو داود 2682 والترمذي 3641 والامام احمد 2\319. فاستحضر أن الله تعالى يذكرك باسمك في الملأ الأعلى من الملائكة المقربين الشهود الركع السجود!! فأي شرف يناله من مكث بضع دقائق أو بعض الوقت في رحاب بيت من بيوت الله في حلقة علم؟!
*بل ان الجلوس في المسجد ولو بغير صلاة له ثواب عظيم وأجر جزيل.. يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:" لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تمنعه" رواه مسلم الحديث 1507 وأبوداود 471 والامام أحمد 2\319.؛ أي عن الرجوع الى أهله.. فتخيل أنك واقف تصلي ما بين لبمغرب والعشاء ما دمت في حلقة علم.
*ويقول صلى الله عليه وسلم:" الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" رواه البخاري 445 وأبوداود 469 والامام أحمد 2\312 والحديث 2\486... وهذا حديث صحيح متفق عليه.(1/58)
*وقوله صلى الله عليه وسلم:" تتنزل عليهم السكينة" نلمسه جميعا ونحس به، فعندما يجلس أحدنا في المسجد يحس بإنشراح في الصدر وسكينة في القلب.. وهذا كلام النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى، إن هو الا وحي يوحى.
*وقوله:" فذلكم الرباط" أي المرابطة في سبيل الله، أي كأنك تحمي منطقة أو ثغرا من ثغور المسلمين! سبحان الله وهذا من عظيم نعم الله وفضله علينا، فالجالس في المسجد في إنتظار الصلاة كالأخ الجالس على الثغر أو القائم على الثغور في الشيشان وغيرها من المناطق التي يقاتل فيها المسلمون!
وليس هذا بعجيب، لأن الذي يرابط في سبيل الله يمكث مرابطا مدة محدودة، أما المحافظ على الصلاة دائما فكالمرابط عليها طوال العمر!! إنه يمنع نفسه من الشهوات خمس مرات في اليوم والليلة ويذهب ليرابط في سبيل الله تعالى.
*وأبواب الخير في الاسلام عديدة ومتنوعة.. وكلما تعددت النيات كثر الثواب، ولهذا فان الأخ يمكن أن ينوي الاعتكاف قبل دخول المسجد، فينال ثواب الاعتكاف.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" من اعتكف لله ليلة باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفا".. إذن اعتكافك ما بين المغرب والعشاء يمكن أن يباعد بينك وبين النار ثلاث سنين!!.
فضل الصلاة في جماعة:
*يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" رواه البخاري 645 ومسلم 1475 والامام أحمد 2\464.. ويقول:" من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله". رواه مسلم 1489.
فضل الصف الأول:
وللصلاة في الصف الأول فضل أكبر.. وثواب أعظم.. يقول صلى الله عليه وسلم:" ولو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا ان يستهموا عليه لاستهما عليه" رواه البخاري 615 ومسلم 980والامام أحمد 2\236. سبحان الله لو يدرك الناس فضل الأذان، والصف الأول لأجروا قرعة بينهم على من يفوز بهما!(1/59)
ويقول صلى الله عليه وسلم:" ان الملائكة يصلون على الصف الأول". ويقول صلى الله عليه وسلم:" ان الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" أي الذين يصلون في الناحية اليمنى من الصفوف.
فضل صلاة الفجر:
ولما كانت المشقة في صلاة الفجر أكبر، فإن ثواب هذه الصلاة أعظم، واعلم ان الناس يوم القيامة سيعانون لأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، يقفونها في الظلمات الحالكة لا يرون شيئا.. ولكن الله جل وعلا خص طائفة من الناس بالنور في هذا اليوم فقال سبحانه:{ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} الحديد 12، ويقول سبحانه:{ويوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} الحديد13.
ويقول الهادي البشير صلى الله عليه وسلم:" بشر المشائين في الظلم الى المساجد بالنور التام يوم القيامة" رواه ابن ماجه 781..
ويقول صلى الله عليه وسلم:" لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبوا" رواه ابن ماجه الحديث 796 والامام أحمد 2\152. أي لذهبوا الى المسجد وهم يحبون على أقدامهم؛ أي يزحفون عليها، لما لها من عظيم الأجر وكريم الثواب.. أفيصح أن يتكاسل مسلم عن صلاة الفجر، بعد أن علم بكل هذا الثواب؟! وهل يصح لمسلم أن يوصم بالنفاق؟!! ولعل سائلا يسأل كيف ذلك؟
والاجابة: إن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم قال:" إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر.." رواه مسلم 1480 وابن ماجه 797.
وأنا أسألك أخي القارئ سؤالا: لو قلت لك: كل يوم ستجد 500 جنيه تحت بيتك الساعة 4 صباحا.. فهل ستنزل لتأخذها أم لا؟ّ وأستحلفك بالله أن لا تكذب.. وتخيل أن النوم غلبك ولم تنزل فماذا ستفعل معك زوجتك أو أبوم أو أمك؟! فإذا كنت تنزل من أجل 500 جنيه ولم تنزل لله، فستكون بذلك جعلت الله أهون عليك من الـ 500 جنيه!!(1/60)
فلماذا نسعى ونجتهد ونتعب من أجل الدنيا الزائفة الفانية ولا نعمل من أجل الأخرة الخالدة الباقية؟! ولماذا نقوم لأعمالنا باكرا إذا استعدى الأمر ولا نقوم لله رب العالمين مالك الأرض والسماء وكل شيء؟!
ان المساجد تشكو الى الله قلة روادها وزوارها وخاصة في الفجر.
وقد حكي أن رئيسة الكيان الصهيوني السابقة : جولدا مائير" سئلت عن حديث قتال المسلمين لليهود واختباء اليهودي خلف الشجر والحجر وإخبار الحجر والشجر عليه، فقالت: قد يكون هذا الحديث صحيحا، ولكن لا يمكن أن ينطبق علينا الآن! سئلت: فمتى؟ قالت: عندما يكون المسلمون في صلاة الفجر كما يكونون في صلاة الجمعة!! ساعتها يتم الأمر!
التحذير من ترك صلاة الجماعة:
وردت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تحذر من ترك صلاة الجماعة.
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لقد هممت أن آمر بحطب فيتحطب، ثم آمر رجلا فيؤذن للصلاة ثم آمر الرجل فيؤم الناس، ثم أخالف الى أناس يصلون في بيوتهم فأحرقها عليهم" رواه مسلم، فهل ترضى أن يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك بهذه الصورة حتى يكاد يحرق بيتك؟!
وقد جاء رجل أعمى الى الرسول صل الله عليه وسلم يستأذنه في الثلاة في بيته قائلا: يا رسول الله إني رجل أعمى، وليس لي قائد يقودني الى المسجد وإن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فأذن لي أن أصلي في بيتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هل تسمع النداء"؟ فقال : نعم، قال:" فأجب" رواه مسلم 1484 والنسائي 849، أي فأت الى المسجد لأداء الصلاة، تخيل أخي الكريم لم يشفع له العمى ولا عدم وجود قائد يقوده ولا كثرة الهوام والحشرات أن يصلي في بيته! فما بالكم بالأصحاء الأقوياء المبصرين؟!(1/61)
وهذا حديث آخر يهدد فيه النبي صلى الله علي وسلم من ترك الجمع والجماعات.. فيقول صلى الله عليه وسلم:" لينتهيّن أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين"!! رواه مسلم 1999، ويا له من تحذير شديد اللهجة بأنترك الجمعة والجماعات مع القدرة عليها سبب في الختم على القلب ثم الغفلة!! ولا حول ولا قوة إلا بالله. فمن يرضى بذلك؟ أو من يتحمل هذا العذاب؟!.
وهذا تلميذ الرسول النجيب وصاحبه الحبيب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن،، فان الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وانهن من سنن الهدى. ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف! وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته.. لتركتم سنة نبيكم.. ولو تركتم سنة نبيكم لهلكتم!.
وهذا هو الصحابي الجليل وراوية حديث النبي صلى الله عليه وسلم ابو هريرة يقول: لئن تملأ أذن ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع (حي على الصلا.. حي على الفلاح ).. ثم لا يجيب في المسجد!!
تخيل هذا يا أخي.. فلئن تملأ أذناك رصاصا مذابا خير من أن تمسع النداء ثم لا تجيب في المسجد.
نماذج من حرص السلف على صلاة الجماعة:
يقول سعيد بن المسيّب رحمه الله: والله مرت عليّ عشرون سنة، ما قال المؤذن (حي على الصلاة) إلا وأنا في المسجد، وما رأيت قفا رجل في الصلاة قط.. وهذا أحد السلف الصالح يقول: أحب شيء اليّ في دنياكم هذه، صلاة في جماعة، يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها.
*ويقول حاتم الأصم: فاتتني صلاة في جماعة فعزاني أبو اسحاق البخاري، ولو مات ابني لعزاني عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا!!
*وهذا ميمون بن مهران، يقول: منذ سنين طويلة ما صليت إلا في جماعة إلا مرتين فقط، وكأنني لم أصلهما!(1/62)
وأحدهم فاتته صلاة الجماعة فقال: إنا لله وإنا اليه راجعون.. والله لأداء هذه الصلاة في جماعة أحب الي من ولاية العراق!!
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال: كانت دارنا نائية عن المسجد، فأردت أن أبيعها لأقترب من المسجد، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:" مكانك يا جابر يكتب لك بكل خطوة درجة".
فتفكر أخي المسلم في هذا المعنى. هل اهتم أحدنا عند شرائه أو استئجاره شقة أو بيتا بأن يعرف متى بعده أو قربه من المسجد!؟
أعذار ترك صلاة الجماعة:
هناك أربعة أعذار فقط قد تبيح لك ترك صلاة الجماعة.. وهي أعذار مؤقتة تنتهي الرخصة بإنتهائها وهي: الخوف الشديد، والبرد الشديد، ووضع الطعام، والمرض. فمثلا اذا وضع الطعام وقت أذان العصر وكنت جائعا.. فيفضل أن تأكل أولا ثم تصلي، لأن العبرة في الصلاة الخشوع وحضور القلب، فإذا صلى المرء بحضرة الطعام فإنه سينشغل عن التركيز في الصلاة بالتفكير في الطعام.. والخوف قد يكون من وجود عدو يتربص بك أو كلب مؤذ عقور في الطريق... وهكذا بالنسبة لبقية الأعذار.
التدرج طريق الاسلام:
يأتي البعض ويسأل: أريد أن أكون ملتزما ولكني لا أصلي، وأنا أقول لمثل هذا الأخ: صل في بيتك لمدة أسبوعين أو ثلاثة أو شهر ثم صل ولو فرضا واحدا في المسجد، وبعد شهر اجعلها صلاتين.. وهكذا. وما دمت خططت لنفسك وأردت أن تسير في طريق الهداية فثق أن الله سيعينك ويقويك، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الى التدرج فيقول:" لا تكن كالمنبت: لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" أي لاتكن كمثل رجل ركب دابته فأتعبها غاية التعب لكي تقطع مسافة بعيدة فماتت الدابة من المشقة والاجهاد.. فلا الرجل قطع مسافة السفر، ولا أبقى ظهره أي دابته لينتفع بها!!(1/63)
ومن حق النساء والأخوات المسلمات الصلاة في المسجد، فرسولنا صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله.."!! رواه مسلم 989 وأبو داود 565 والامام أحمد 2\16. ولكن على الأخت أن تراعي آداب الطريق والمسجد .. الخ.
وفي المسجد، بيئة الايمان والتقوى والقرآن، تتعرف على اخوانك المؤمنين، وتحبهم.. وتتعلم القرآن.. والحديث.. الخ، وتصير متدينا حقا..!! واعلموا أن الحفاظ على الصلاة جماعة في المسجد من علامات الايمان. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالايمان".. ويقول الله عز وجل:{ انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} التوبة 18.
*واعلم أن الخشوع يتحصل غالبا في الصلوات الجماعية.
بشرى:
علمنا أن ثواب الصلاة في جماعة عظيم ولكن أختم بهذا الحديث الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثواب أو بعض ثواب الرجل المواظب على صلاة الجماعة.. ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل الا ظله:" ورجل قلبه معلق بالمساجد". رواه البخاري 660 ومسلم 2377 والامام أحمد 2\439.
وتأمل قول (قلبه)، فلم يقل: جسده، لأن عمل القلب أهم من عما الجوارح، ولو تعلق القلب بالمسجد لانساقت اليه الجوارح انسياقا.
وهذه بشرى أخرى عن فضل بناء المساجد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من بنى لله مسجدا، ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة رواه الامام أحمد 1\241.. ومعنى مفحص قطاة: عش طائر.. والقطاة هذا طائر إذا أراد أن يضع البيض يحفر له في التلااب حفرة صغيرة جدا مثل القب ثم يضع فيها البيض!!
والسؤال: هل هناك مسجد مثل مفحص القطاة؟ّ(1/64)
الجواب: لا.. والمعنى أنك لو شاركت في بناء مسجد، ولو بدراهم معدودة، بنى الله لك بيتا في الجنة!! وتأمل كيف أن الله عز وجل لم يجعل الثواب والأفضلية للأغنياء والميسورين فقط، بل لم يحرم الفقراء منه، وذلك بأن يشاركوا في الخير على قدر ما يستطيعون، والله يفضل القليل ويبارك فيه وهو الجواد الكريم.
فضل الحج والعمرة
الشباب على وجه الخصوص يمكن أن يتساءل.. لماذا تحدثنا عن عبادة ليست في متناول أيدينا أو استطاعتنا ولا شأن لنا بها الآن؟ وأنا أقول: لا.. سنتناول هذه العبادة من عدة زوايا أهمها: نية التشويق، وهي هدف في حد ذاته، لأن الشعور السائد عند الشباب أن الحج مفروض على الكبار فقط، حيث يقول البعض: عندما أكبر في السن أحج!، والأعجب أن تسمع من يقول: عندما أرتكب معاص بعدها أذهب لأتوب منها وأحج!!
وأريد أن أتحدث عن الحج حتى أشوّق كل من لم يحج الى اقامة هذه الفريضة، خاصة المستطيعين منهم، وأشوّقهم كذلك لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى تستشعر معاني الحج بعيدا عن الأحكام الفقهية أو الشعائر والمناسك، لذا سنتطرّق الى معنى الحج، وما معنى الوقوف بمزدلفة وماذا تعني منى، وما الذي يحدث في القلب، وما هي الاستفادة التي ستعود على النفس من الحج أو العمرة.
وأريد من الشباب أن يتعامل مع هذه السطور على أنها أمر يخصه، على الأقل تبقى النية الصادقة في أننا نريد أن نحج أو نزور قبر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم والله عز وجل عندما يرى في قلوبنا اخلاصا في هذه النية فسوف يعيننا على الحج في العام القادم، وهذا ليس على الله ببعيد.
ربما يتساءل أحدكم قائلا: أنا لا أجد ما أسد به حاجتي أو حاجيات أولادي فكيف أحج؟ وأنا أقول للسائل أن ينوي فقط لأن النية ركن أساسي في الحج.. أذكر مرة أننا سنركز على المشاعر والأحاسيس في الحج والعمرة العامر بالايمان الى كل القلوب حت تشتاق الى أداء فريضة الحج.
فضل الحج:(1/65)
يقول الله تعالى:{ ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غنيّ عن العالمين} آل عمرت 97.
ومناسبة مجيء الكفر هنا هو أن المستغني الرافض للحج داخل في دائة خطيرة. ويقول الله تعالى:{ وأذّن في الناس يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} الحج 27، ونرى هنا كلمة " أذّن" تعني: أوصل الصوت للناس وأسماعهم فقط واجعل كلمة الحج تملأ الآذان و { يأتوك رجالا} تعني مرتجلين على أقدامهم {وعلى كل ضامر} يريد ان يقول: إنهم سيأتون من كل مكان على خيل متعب من طول المسافة، فأصبحت الخيل ضامرة أي متعبة من كل فج عميق. ولذا فأنا أدعو القرّاء ممن بلغهم هذا الأذان وكانوا يستطيعون الاجابة هذا العام ولم يفعلوا أم يجددوا النية للعام القادم ان شاء الله.(1/66)
ويقول صلى الله عليه وسلم:" من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري 18 19، ومسلم الحديث 3278، والترمذي 811 والامام أحمد 410. ومعنى يرفث: أي يقرب النساء، ولم يفسق، يعني لم يرتكب معصية. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" العمرة الى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبروور ليس له جزاء الا الجنة"، ويقول صلى الله عليه وسلم :" الحجّاج العمّار وفد الله تعالى" وتخيل أخي المؤمن عندما تكون وافدا على الله تبارك وتعالى، ونحن نعلم ما الذي يفعل مع الوفود من البشر من حيث حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، وهذا من البشر للبشر، فما بالنا باستقبال المولى عز وجل لوفده؟ لكي تتذوق ذلك يكفي أن تذهب للحج والعمرة وسترى ان شاء الله كيف تكون حفاوة الله واستقباله لك، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الحجاج والعمار وفد الله ان دعوه أجابهم وان سألوه أعطاهم وان استغفروه غفر لم" ابن ماجه 2892. ويقول صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج"، فقيل: أوكل عام يا رسول الله؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: أوكل عام يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لو قلت نعم لوجبت ما استطعتم". وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يثول:ط بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ البيت لمن استطاع اليه سبيلا" رواه البخاري 8 ومسلم 114 والامام أحمد 2\143. وحقيقة أنا لا أعرف إذا كنت تعلم أن أغلب الأنبياء قد حجو بيت الله الحرام، مما يدل على أن هذه عبادة من لدن إبراهيم عليه السلام الذي قام برفع القواعد من البيت استجابة لأمر الله تبارك وتعالى. واليك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه وهو يمر بوادي بين مكة والمدينة متجها الى مكة للحج:" يا أبا بكر مرّ بهذا الوادي هود وصالح يريدون حجّ بيت الله الحرام" وفي رواية أخرى(1/67)
يقول صلى الله عليه وسلم:" ان هذا البيت قد حجّه سبعون من الأنبياء" وفي رواية أخرى:" منهم موسى نبي الله".
وسيدنا عمر رضي الله عنه له كلمة شديدة في تاركي الحج حيث يقول: ( والله لقد هممت أن أ:تب في الأمصار أن من كان غنيا ويجب عليه الحج ولم يحج فافرضوا عليه الجزية! ) اذن الحج فرض على المستطيع. ويقول سعيد بن جبير في كلمة عجيبة تدل على عظم ترك الحج على المستطيع يقول: ( لو علمت أن في البلدة التي أعيش فيها غني من الأغنياء كان يستطيع الحج ولم يحج ومات على ذلك ما صليت عليه الجنازة!) وسعيد بن جبير عالم وفقيه من أئمة السلف. ويقول ابن عباس في تفسير قوله تعالى:{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون* لعلي أعمل صالحا فيما تركت} المؤمنون 99-100. قال ابن عباس: ( أعمل صالحا فيما تركت يعني الحج والزكاة حيث تذكر أنه يجب عليه أن يخرج للحج ويؤدي زكاته ولم يفعل) وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: أن امرأة جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فرفعت صبيا وقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" نعم ولك الأجر" رواه مسلم 3240.
ما يجب على الحاج فعله
هناك أمور يجب على الحاج فعلها قبل السفر استعدادا لأداء هذه الفريضة:(1/68)
أولا: التوبة.. بمعنى: إياك أن تحج أو تعتمر وأنت تنوي أن تعود الى المعصية، فالتوبة مهمة جدا، وإلا فكيف بك تفد على الله في بيته الحرام وتدعوه أن يغفر لك ويرحمك وأنت تنوي أن تعصيه مرة أخرى بعد العودة؟! ويقول أحد العلماء: أخشى أن يخرج من ينوي الحج وهو يصر على أن يعود الى المعصية وينادي: لبيك اللهم لبيك فيرد الله عليه: لا لبيك ولا سعديك، لأنه كان ينوي الرجوع الى المعصية مرة أخرى، فلا بد من التوبة والرجوع الى الله، وأن تقول في نفسك: يا رب تبت وندمت ولن أعود الى الذنوب مرة أخرى، وتعاهد الله خالصا: يا رب اني قد خلعت قلبي من كل معصية ومن كل شهوة ومن كل اصرار على ذنب ومن كل فتنة تملكت قلبي قبل أن أخرج للحج أو للعمرة.
ثانيا: قضاء الديون: وهي أن تخرج كل الديون لأصحابها، وإن كانت عليك ديون لا تستطيع أداءها فعليك استئذان أصحابها، ولو رفضوا الاذن لك فلا تخرج للج، وتلك هي عظمة هذا الدين.
ثالثا: رد الوادئع، وإبلاغ أصحابها بأنك مسافر للحج.
رابعا: ردّ المظالم، ومعناه: إن كنت قد ظلمت شخصا فعليك أن ترد مظلمته بالذهاب اليه وطلب السماح والصفح، حتى تطهر نفسك من حقوق العباد قبل السفر.
خامسا: إخلاص النية، بمعنى ألا تحج أو تعتمر طلبا للسمعة أو الشهرة أو إبتغاء المنفعة أو التجارة، وفي الحج يمكنك ان تتاجرن لكنك لم تخرج أصلا بهذه النية التي يجب أن تكونخالصة لله عز وجل.
سادسا: توديع الأهل، وهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقول لهم الدعاء المأثور ( استودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم) وتسلم على زوجتك وتقول لها نفس الدعاء.
سابعا: أن تصلي ركعتين في بيتك تكون الأولى بـ { قل يا أيها الكافرون} والثانية بسورة الاخلاص، حتى تخرج نقيا مصرا على هذا الاخلاص.
ثامنا: أن تعاهد نفسك على:
أ - ألا ترتكب معصية بأرض الحج.
ب- أن توقر سنة النبي صلى الله عليه وسلم توقيرا شديدا لأنك في بلد الله الحرام.(1/69)
ج- أن يكون قصدك ونيتك إرضاء الله تعالى.
د- أن تتفرغ وتقطع نفسك للعبادة وليس للشراء مثل ما يحدث من بعض الناس، والشراء يكون بعد الانتهاء من العبادة بنية الترويح على النفس.
ه- ترك الجدل والمخاصمة والشجار وعدم الانشغال بالناس. وأحد التابعين كان ينوي الحج أو العمرة يقول: لقد تصدقت بجسدي على المسلمين،، بمعنى أن أي فعل يتم تجاه جسدي في الحج، مثل ما يحدث من التدافع والضرب وغيره فهذا صدقة.
ما يجب عند النزول للمدينة
والكلام عن المدينة يعني زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب إخلاص النية منذ الخروج من المنزل بأنك لا تريد زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" من جاءني زائرا لا يهمّه إلا زيارتي كان حقا على الله سبحانه وتعالى أن أكون له شفيعا يوم القيامة" .رواه الطبراني 2\291 والزبيدي 4\416.
وفي زيارتك لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن تجعل هذا اللقاء حقيقيا، بمعنى أنك لست ذاهبا الى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وانما أنت ذاهب للقاء النبي صلى الله عليه وسلم شخصيا، والدليل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:" من صلى عليّ وسلّم قيّض الله ملائكة سيارة تبلغني سلام من سلم عليّ". حديث آخر يقول فيه صلى الله عليه وسلم:" ما من رجل يصلي ويسلم عليّ الا ردّ الله عليّ روحي فأردّ عليه" إذن يجب عليك أن تشعر بعلاقتك وصلتك بالرسول صلى الله عليه وسلم وأن اللقاء لقاء حقيقي، ويجب أن تستشعر شوقك لملاقاته صلى الله عليه وسلم.(1/70)
وانظر الى اشواق الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا سيدنا بلال وهو يموت تقف زوجته على رأسه وتقول: وا مصيبتاه فيقول لها: لا تقولي وامصيبتاه ولكن قولي وافرحتاه.. غدا ألقى الأحبة محمد وصحبه، فيجب عليك أن تقول في نفسك: بعد ساعات قليلة، بعد وجود وسائل النقل الحديثة، القى الأحبة محمدا وصحبه، وتخيّل عندما تلقي السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرد عليك السلام بإسمك لأنه صلى الله عليه وسلم يعرفك فيقول لك: وعليك السلام يا فلان.
ومن شوق الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدهم كان يعيش في المدينة ووالدته تعيش خارجها، ومرضت الأم وأراد هذا الابن زيارتها، وكلما خرج لذلك عاد مرّة أخرى وذلك لثلاثة أيام متتالية، وعندما سألته زوجته عن سر تردده قال لها: أخاف أن أترك المدينة فتقبض روحي وأموت بعيدا عن عين رسول الله صلى الله عليه وسلم!
لذا يجب أن تسأل نفسك: هل سيكون لقائي برسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم باردا وعاطفتي فاترة؟ هل ستقول السلام عليكم يا رسول الله وتذهب وفقط؟ وهل صلتي برسول الله مجرّد أمر روتيني لاستكمال العمرة أو الحج؟ والاجابة لا لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم مفروضة علينا، لأنه من المعلوم ان حب الله ورسوله والاسلام والمؤمنين فرض وليس نافلة، فإياك أن يكون حبك للنبي صلى الله عليه وسلم شكليا.
ولك أن تتخيل نفسك وأنت واقف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، واسأل نفسك: هل سيفرح بي الرسول أم لا؟! والحقيقة أننا يجب أن نحسب حسابا لهذه الفرحة، فكيف بنا ونحن لم نفعل ما يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفي ويسر بزيارتنا له، حيث إننا لا نعرف ييئا عن سنته أو سيرته صلى الله عليه وسلم.(1/71)
ويجب عليك وانت في مسجد رسول الله أن تقف في تواضع وأدب، افعل هذا وكأنك تقف بين يدي رسول الله فعلا، وتخيّل سيدنا جابر بن عبدالله رضي الله عنه وهو يقول: بينما أنا أسير في ليلة مقمرة اذا بالنبي قادم أمامي فجعلت أنظر الى القمر ثم أنظر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسول الله أحسن في عيني من القمر، إنها المحبة والاجلال. ولقد سمعت أحد الناس في الحج وهو ذاهب للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يبكي: (وحشتني يا رسول الله) وهو يكررها، ورأيت رجلا ومعه طفلة وكان يبكي عند رسول الله وأشير اليه بالسكوت، فالله تعالى يقول:{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات 2. حيث ان رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبط الأعمال الصالحة، وسمعت أحدهم يقول: اني خائف من حرارة اللقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واخشى ان أبكي فيرتفع صوتي بالبكاء فيحبط عملي، وأحد الناس ذهب لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ان تهيأ لذلك بأن لبس أحسن الثياب ووضع أفضل العطور وعندما قلنا له ان المسجد قد أغلق فاذهب للنوم أو للتسوق، قال في حدة: وهل يجدر بي أن آتي الى المدينة وأقابل احدا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أو أفعل شيئا قبل لقائه صلى الله عليه وسلم؟ وعندما جلس أخذته سنة من النوم، فقام متأخرا عن فتح المسجد ساعتين فقام مهرولا وهو يبكي ويقول: ماذا أقول لرسول الله وقد تأخرت عليه؟ هل أقول له كنت نائما؟!.
أخي القارئ:(1/72)
قف أمام النبي صلى الله عليه وسلم وقل له كل ما يجول في صدرك من أحاسيس، وعبّر له عن صدق حبك له، وقل له أنك تحاول أن تهتدي بسنته وأنك بعيد عن أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وعاهده على أنك ستوثق الصلة بحبه وسنته وأن علاقتك به ستكون مختلفة من اليوم، وبعد لحديث مع النبي صلى الله عليه وسلم إياك أن تقع في المحاذير الآتية: لا تتمسح بالجدار أو تقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
لا تطلب منه صلى الله عليه وسلم قضاء حاجة دنيوية لنفسك.
لا تتوجه الى الله بالدعاء أمام قبره.
وبعد الفراغ من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم عليك ان تأخذ خطة جهة اليمين لتجد قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتتوجه اليه بالحديث مثل: السلام عليك يا خليفة رسول الله يا أرق الأفئدة يا صديق، وما الى ذلك، مع تذكر مآثره رضوان الله عليه.
واذا توجهت جهة اليمين خطوة أخرى ستجد قبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسلم عليه، بعد ذلك اجعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهرك وتوجه الى الله بالدعاء فالدعاء مستجاب في هذا المكان.
فضل الروضة
بعد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم تأتي الروضة وهي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:" ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" رواه البخاري 1888 والامام أحمد 3\64.
ومساحتها صغيرة وتعرف بفرشها المختلف عن بقية فرش المسجد النبوي، فلونها أخضر، وفرش المسجد كله أحمر، وستجد فيها أضعاف أضعاف عدد المسلمين حيث لا يوجد مكان لقدم على مدار الساعات التي يفتح فيها المسجد، والذي يجلس في الروضة ليس له حاجة من الدنيا، حيث القلب المطمئن والأنس، لأنه كان المكان الذي يجلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والروضة لا تفتح للنساء الا لمدة ساعتين او ثلاثة في الصباح، وأقول للأخت المسلمة لا تجعلي فرصة الجلوس في الروضة تفوتك.
أسطوانة عائشة(1/73)
وهي عمود الروضة الشريفة مكتوب عليه ( أسطوانة عائشة) وهو العمود الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم السنة في بيت عائشة رضي الله عنها.
وقصة هذه الأسطوانة، أن سيدنا عروة بن الزبير، وخالته هي السيدة عائشة، كان جالسا مع اثنين من التابعين وتساءلوا فيما بينهم: ماهو المكان الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم السنن حتى نصلي فيه داخل المسجد؟ وعندما لم يعرفوا سكت عروة، ثم دخل على خالته السيدة عائشة، فقال من معه: لقد دخل يسألها، فلنر ما ستقول له ونقلده، وعندما خرج جاء بجوار هذا العمود ووقف يصلي، وعندما فرغ جرى الاثنان للوقوف في موضع هذا العمود وشرعا في الصلاة، وبعد فراغهما قال لهما عروة: أوقد عرفتم؟! وقال: أخبرتني أمي السيدة عائشة أن هذا الموضع كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف يصلي فيه السنن.. فتعال أخي المؤمن وصلّ في هذا المكان فيقينا إن شاء الله ستضع رأسك مكان رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وأنظر الى منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتخيله وهو يعظ المسلمين، وحاول أن تجلس وتصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أطول فترة ممكنة، وصل كثيرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه" رواه البخاري 1190 ومسلم 33645 والترمذي 325 والامام أحمد 4\25. وكذلك انو الاعتكاف من العصر للعشاء على سبيل المثال.
كما يجب عليك أن تبكر لصلاة الفجر في المسجد النبوي، وهناك سترى عجبا في تسابق المسلمين على المسجد قبل صلاة الفجر حيث تقول: إنني سأكون أول من يذهب الى المسجد، فتجد أفواجا تسبقك الى المسجد، وصدقا إن برؤتك العابد وهم يصلون ويتيتلون ويبكون يتزلزل قلبك وهو منظر عجيب داخل المسجد.(1/74)
ومن الأمور التي أحب أن ألفت النظر اليها هو الدخول من باب يسمى باب جبريل وهو الباب الذي دخل منه سيدنا جبريل عندما جاء يعلم المسلمين أمور دينهم وأخذ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاسلام والايمان والاحسان.
فضل المدينة
وعن فضل المدينة يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ان الايمان ليأزر الى المدينة كما تأزر الحية الى جحرها" رواه البخاري 1876 ومسلم 372 وابن ماجه 3111. يعني أن الايمان يفرّ الى المدينة كما تفر الحية الى جحرها. وفي المدينة يجب أن تمشي في هدوء وسكينة ووقار وأدب شديد.. لماذا؟ لأنك تمشي على خطى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومما يذكر في هذا الشأن أن سيدنا عبدالله بن عمر مر في أحد الأيام، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، عند شجرة تعترض الطريق، وجاء الناس من يمين الشجرة ومروا، فقام عبدالله بن عمر بالمرور من يمينها ولف حولها ثم جاء من شمالها ومر فقالوا له: ماذا تفعل؟ فقال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المكان وفعل ما فعلته فأحببت أن أفعل فعله صلى الله عليه وسلم لعل قدمي تقع على قدمه الشريفة فأصيب الأجر.
وفي المدينة يجب أن تلتزم السنة في المأكل والمشرب والركوب والنوم وفي كل شيء كان للرسول صلى الله عليه وسلم فيه فعل أو قول أو إقرار، كما لا تنسى الذهاب الى ( أحد) خاصة مع شخص قد قرأ عن غزة أحد ويعرف أحداثها ليريك كيف قاتل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وتعلم مدى التضحية التي ضحاها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ليصل هذا الدين اليك.
وعن جبل أحد يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" جبل أحد من الجنة" ويقول صلى الله عليه وسلم:" أحد جبل يحبنا ونحبه" رواه البخاري 4083 والامام أحمد 3\149 ومسلم 3359.
كما لا تنسى وأنت في المدينة أن تزور البقيع، مدفن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
الانتقال الى مكة(1/75)
وفي مكة تبدأ مناسك العمرة حيث يتم التحلل من العمرة لتصبح متمتعا ثم تنتظر قدوم يوم الثامن من ذي الحجة وهو بداية الحج.
من هنا يتم البدء بمناسك العمرة، والعمرة تبدأ بالاحرام، ومكان الاحرام بالعمرة هو ( أبيار علي) على بعد عشرين كيلومترا تقريبا، وأول ما يجب فعله هو الاغتسال، ولماذا الاغتسال؟.. حتى تتطهر من ذنوب الداخل والخارج.
ثم البس ملابس الاحرام وهي عبارة عن ازار ورداء فقط، حتى تنسى بهرجة الدنيا وتنسى ابن من أنت، حتى تربي فيك خلق التواضع والذل لله وتتذكر الموت ولباسه حيث يشبه لباس الاحرام الكفن.
وبعد ذلك عليك أن تتوجه الى قباء وتصلي ركعتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" من تطهّر في بيته فأتى قباء فصلى ركعتين، كانت له كأجر عمرة" رواه النسائي الحديث 698 وابن ماجه 1412، فأول مسجد تدخله من بداية العمرة هو قباء والصلاة فيه، وفي الاحرام لا تضع شيئا على رأسك، اما الاستظلال بالشمسة فجائز، كذلك لا نزيل شيئا من شعرك، ولا تقلم أظافرك، ولا تضع عطرا.(1/76)
ومن (أبيار علي) تبدأ بالتحرك الى مكة وهي مسافة تقدر بـ 450 كيلومترا تقطعها وأنت تردد الهتاف الرابني ( لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. ان الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك) لمئات لمرات أو آلاف المرات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقطه هذه المسافة على ظهر البعير في يوم وليلة، لا يمل ولا يكل، ونحن الآن نقطعها في أربع ساعات تقريبا، ومن فضل الله أن تشهد في حقك كل شيء مررت عليه ملبيا أمام الله يوم القيامة، وفي هذه المسافة يزداد الشوق لرؤية الكعبة المشرفة ولمقابلة الله عز وجل وللجنة حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ان رائحة الجنة لتشتم من مسيرة خمسمائة عام" ومن كثرة الشوق للكعبة تشعر وكأنك ترى الكعبة وتذكر حينئذ قصة بناء هذا البيت، يقول الله تعالى:{ إنّ أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركا} آل عمران 96، وسميت ( بكة) لكثرة البكاء فيها، وإيّاك أن تدخل مكة ولا تذرف الدموع حزنا على ذنوبك وأخطائك.
وفي فضل البيت الحرام في مكة يقول تعالى:{ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} البقرة 125، ومثابة يعني كلما ازداد الناس له زيارة زاد شوقهم اليه، وهي من الاثابة يعني: كلما يرى الشيء يشتاق له أكثر. والذي يزور الكعبة لأول مرة شوقه لها أكثر من الذي يزورها للمرة الأولى هذا شيء عجيب يقذف في القلب.
وفي البيت الحرام سترى مقام ابراهيم عليه السلام الذي قال عنه الله تعالى:{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} البقرة 125، ومقام ابراهيم هو المكان الذي كان يقف فيه سيدنا ابراهيم عليه السلام ليعلي فيه البيت الحرام اسجابة لأمر الله له بإقامة البيت الحرام، ومن كثرة وقوف إبراهيم عليه السلام على الحجر حفرت قدماه.
الدخول على مكة المشرفة(1/77)
وأنت داخل بيت الله الحرام لا تنس أن تتوجه الى الله بالدعاء عند رؤية الكعبة، وهناك دعاء مأثور وهو أن تقول: (اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وأمنا، وزد من زراره ومن حجّه ومن اعتمر تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وذكرا).
والدعاء في هذه اللحظة مستجاب، فعليك أخي المؤمن أن تستعد لهذه اللحظة فاختر لنفسك دعاء بعد أن أكرمك المولى عز وجل وجاء بك الى نبيه لتقف على بابه، واستعد للفرحة وأنت على بابه وأنت تطوف الآن ببيت الله الحرام، واعلم أنك في صلاة وأنت تطوف، والطواف يعادل ركعتي تحية المسجد في المساجد الأخرى، والطواف رمز الذلة لله تعالى واستسلامك له وأنت تقول: يا رب أنا عبد مسكين جئتك حافيا، مستجيرا برحمتك، ويجب عليك أنت تجعل لطوافك معنى جميلا، واجعل لكل شوط عملا خاصا به، فعلى سبيل المثال: اجعل الشوط الأول للاستغفار، والثاني ادع فيه لنفسك ولأهلك، والثالث اذكر الله، والرابع تذكر نعمة الله عليك من ساعة خلقك حتى مجيئك اليه في بيته، والخامس ادع فيه للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لنصرة الاسلام والمسلمين، والسادس ادع فيه لوالديك خاصة، وفي السابع أطلب منه عز وجل القبول، ويمكنك بعد ذلك أن تجعل لكل طواف هدفا، فطف طوافا للذكر فقط وآخر للدعاء والذكر وآخر للدعاء وهكذا..(1/78)
وأنت تطوف تذكر ان الملائكة تظوف فوقك.. أين.. انها تطوف حول العرش وأين؟ حول ييت الله المعمور في السماء السابعة في نفس النقطة وبنفس الحركة التي تتحرك بها وبنفس الحركة التي تتحرك بها وبنفس الاتجاه، واسأل نفسك ما هي حالة خشوع الملائكة وذلهم لله تبارك وتعالى؟ فطف مثلهم وفي مثل خشوعهم وذلهم لله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" من تشبّه بقوم فهو منهم او هو معهم" رواه أبو داود 4031 والامام أحمد 2\50 والحديث 2\92. فحاول أن تكون ملائكيّ الطبع بطوافك بهذه الصورة. وأخيرا انتبه من أفعال لا تجوز في الطواف مثل الكلام الدنيوي.
طواف الرمل والاضطباع
وفي العمرة تفعل في الأشواط الثلاثة الأولى ما يسمى بالرمل والاضطباع وهو اخراج الكتف الأيمن خارج رداء الاحرام، وتبدأ الطواف على هيئة الجري البطيء وذلك للرجال فقط، وهذا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها عليه الصلاة والسلام، وكانت مناسبة هذه السنة عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة ليقوم بالعمرة، كان كل أهل مكة ينظرون اليه وهم على كفرهم فقالوا: ان محمدا وأصحابه أصابتهم حمى شديدة وأصابهم المرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" رحم الله رجلا أراهم من نفسه قوة" فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم في إظهار أكتافهم اليمنى، وبدأ في الطواف على هذه الهيئة وفعلوا مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ثلاثة أشواط فقط، وبعد انتشار الاسلام وعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة أتى البيت ليطوف به ففعل ما فعله في عمرة القضاء، فقال له عمر رضي الله عنه، يا رسول الله: كنت تفعل ذلك لاظهار قوة المسلمين أمام أهل الكفر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" هذه سنتي" ولا بد أن تفعلها وفي نفسك نية إظهار قوة المسلمين.
الحجر الأسود(1/79)
وبعد الطواف تقبل الحجر الأسود وهو الحجر الذي وضع أثناء قيام سيدنا ابراهيم ببناء المسجد الحرام، وعندما أتم البناء بقيت زاوية في هذا البيت تحتاج الى حجر، ولم يجد سيدنا ابراهيم هذا الحجر فقال لاسماعيل، ابحث لي عن حجر نضعه في هذا المكان، وبحث طويلا فلم يجده وبعد أن عاد إسماعيل وجد حجرا قد وضع في هذا المكان فقال لأبيه ابراهيم: يا أبت من أين جئت بالحجر؟ فقال له: لم آت بشيء فقال اسماعيل: وأنا أيضا لم آت بشيء فقل ابراهيم عليه السلام. لقد أتى به جبريل عليه السلام وهو حجر من الجنة وكان أبيضا وأسوّدّ من ذنوب العباد. ويقول صلى الله عليه وسلم عنه:" الحجر الأسود يمين الرحمن في أرضه" رواه الهندي 34744، وعندما تلمس الحجر الأسود لا بد أن تعرف ما تفعل لأن كل الناس يريد تقبيله وكفى، ولكن القيمة العظيمة في استلام الحجر الأسود تكمن في تجديد العهد مع الله بعد أن وضعت يديك في يمين الرحمن، فإيّاك أن تعصيه وتنكث وعدك مع الله. وتذكر أنك تقبل قطعة من الجنة، واسمع سيدنا عمر يقول: ( اعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك).
وبجوار الحجر تجد الملتزم وهو على مستفة قصيرة جدا بين الحجر الأسود وباب الكعبة المشرفة، وهو ليس باب الكعبة نفسه، والدعاء عند المتلزم مستجاب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقف عليه لاصقا صدره بجدار الكعبة واضعا خده على أحجار الكعبة، ويرفع يديه متذللا لله عز وجل، ورأى سيدنا عمر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوضع فبكى وعندما رآه النبي قال له:" نعم يا عمر ابك، هنا تسكب العبرات". رواه ابن ماجه 2945.
وأنت أخي هل ستفعل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعم تعلق بأستار الكعبة كمن أخطأ في حق شخص وذهب اليه ليعتذؤ له وتعلق وبثيابه حتى يصفح عنه ويسامحه، وهذا دليل واضح على الذل والانكسار.(1/80)
ويقال ان الحسن البصري عندما كان يذهب الى الملتزم كان يتعلق بأستار الكعبة ويقول لمن معه: ( تنحوا عني حتى أقرّ لربي بذنبي). وبعد ذلك تقوم وتصلي ركعتين في مقام سيدنا إبراهيم، ثن تنزل للشرب من زمزم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" زمزم لما شربت له" رواه ابن ماجه 3062، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى عبدالرحمن بن عوف يشرب من ماء زمزم فقال له:" لا يا عبدالرحمن ما هكذا تشرب زمزم، اشرب حتى الاضطلاع" يعني أن تصل المياه الى الضلوع. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك:" لا يقوى على ذلك الا مسلم أو مؤمن" والامام الشافعي يقول: ( شربنا ماء زمزم لتعلم العلم فتعلمناه، ولو شربنا للتقوى فكان خيرا لنا).
ومعروف أن سبب تسمية زمزم بهذا الاسم تأتي من فعل السيدة هاجر رضي الله عنها بعد أن ضرب إسماعيل الرضيع الأرض بقدمه فتفجرت بالماء، بعد أن هرولت كثيرا بحثا له عن شربة ماء في الصحراء القاحلة التي تركهم فيها سيدنا ابراهيم، فأخذت تلملم الماء وتقول له: زم زم يعني تجمّع.
ومن هنا شرع السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط ذهابا وايابا، يسن فيها الاكثار من ذكر الله تعالى، وبعد الانتهاء من السعي يبقى ركن واحد وتنهي العمرة وهي أن تحلق، ولأنك سوف تؤدي فرائض الحج بعد ذلك فلا تحلق شعرك، لكن قصّره فقط حتى تكون الحلاقة كانلة في الحج وتستطيع حينئذ أن تتحلل من الاحرام.
وعند انتهاء أعمال العمرة تجلس في مكة في انتظار الحج، وفي هذه المدة حاول ان تغتنم الفرصة بالطواف قد الاستطاعة لأنه أحب عبادة الى الله عز وجل في المسجد الحرام.
الحج
أنت في اليوم الثامن من ذي الحجة وفي ليلة عرفة حيث تقوم بالاغتسال وتحرم للحج ثم تتوجه مع الحجيج الى منى، وهذا اليوم يعرف بيوم التروية، ومنى تبعد عن مكة ستة كيلومترات، ولكثرة الحجيج يقطع حجاج بيت الله الحرام هذه المسافة في أكثر من ست ساعات بسبب الزحام.(1/81)
وفي هذه الأجواء ومع التلبية تذكّر خشوعك لله وارتباطك بالله تعالى، والذهاب الى منى فيه تهيئة للحاج للوقوف بعرفة حيث الانقطاع في صحراء منى للعبادة فقط دون الاختلاط بالناس والذهاب الى أسواق مكة، والذي لا يذهب الى منى لا يكون مهيئا حقيقة للوقوف بعرفة، يوم غفران الذنوب، كل الذنوب صغيرها وكبيرها، وانت في منى تشعر بالخوف والقلق من عدم القبول وعدم التوفيق حيث لا يمكّنك الله، والعياذ بالله، من الوقوف بعرفة، فليلة عرفة ليلة حاسمة في حياة العبد.
يوم عرفة
في هذا اليوم العظيم تصل الى عرفة بعد شروق يوم التاسع من ذي الحجة، ولا يجوز الصيام في هذا اليوم حتى ينشغل الحاج بالذكر ويقوى على العبادة في هذا اليوم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ما من يوم يعتق الله فيه رقابا من النار كيوم عرفة" رواه مسلم 3275 والنسائي 3003. نعم، يغفر الله للمذنبي حتى الذين لم يخرجوا للحج لكنهم تابوا وأنابوا في هذا اليوم، وأي عظمة هذه وقد تم غفران الذنوب كلها عند النزول مع غروب شمس يوم عرفة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اذا كان يوم عرفة فان الله يباهي بعباده الملائكة ويقول: انظروا الى عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم" رواه الامام أحمد 2\305. وما يرى الشيطان يوم أخزى له من هذا اليوم لأن الذي فعله طيلةا العام ذهب هباءّ، فيوم عرفة هو يوم المصالحة مع الله تعالى. وتخيل لو أن عليك دينا كبير لأحد من بني آدم ثم جاء اليك هذا الدائن وقال لك: لقد سامحتك في ديني، ترى ماذا يكون رد فعك؟ انك بالفعل ستكون في غاية الفرحة والسرور من هذا الصنيع، وهذا ما يحدث من الله عز وجل الذي يدين له كل البشر بكثير من الذنوب، ويأتي جل وعلا يوم عرفة ليسامحهم عنها ويغفرها لهم فضلا وتكرما،، وهذا عمل يستحق عظيم الشكر من المذنبين، وأنا أتساءل: ألا يستحق يوم عرفة محبة خاصة من العباد لربهم سبحانه؟(1/82)
وفي يوم عرفة يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" خير الدعاء يوم عرفة" رواه الترمذي 3585. ومن العجب أن تجد أناسا، يوم عرفة في غاية الكسل والفتور، بل تجد تصرفات لا يمكن أن تحدث من انسان ستغفر كل ذنوبه بعد ساعات ليعود كما ولدته أمه خاليا من الذنوب،، لكن هو التوفيق في العبادة، ولذلك أنا لم أفهم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم أعني على دوام ذكرك وحسن عبادتك" رواه أبو داود 1527 والامام أحمد 2\299. الا في يوم عرفة، ومن وفقهم الله في عرفة تجد الجبل يتزلزل بهم من كثرة الابتهال والتذلل لله،، والله عز وجل في هذا اليوم لا تختلف عنده الأصوات ولا يشغله سمع عن سمع، فسبحان الله العظيم.
وفي هذا الموقف العظيم المل يتساءل: ( يا ربنا هل قبلتنا؟) ومع هذا الغروب تجد عجبا، تجد فرحة شديدة على وجوه هؤلاء الحجيج لم ترها عند صعود الجبل لتقول: ان هذه الوجوه ليست هي التي صعدت في أول النهار، لأنك ستجدها قد علاها النور والبشر.
وأول ذنب يمكن أن يرتكبه العبد لحظة نزوله من عرفة أن يشك العبد في أن الله غفر له.. نعم إيّاك أن تشك للحظة واحدة أن الله لم يغفر لك، فإيّاك وسوء الظن بالله.
مزدلفة ورمي الجمرات(1/83)
وبعد النزول من عرفة يتجه الحجيج الى مزدلفة بعد غروب الشمس مباشرة، وسط هذه الأجواء من السعادة الشديدة والتلبية المتواصلة الحارة لأن الله قد غفر الذنوب، وفي هذا المشهد العظيم الذي تتجلى فيه وحدة المسلمين وحلاوة منظرهم وهم يتحركون كتلة ووحدة واحدة. وفي مزدلفة تجلس للذكر والدعاء والعبادة، وتبيت بها وتقوم بجمع الجمرات، وفي الصباح تذهب لرمي الجمرات، وبعد الرمي ترجع الى مكة لطواف الافاضة، مع ما في ذلك من مشقة، وبعد الطواف تقوم بالذبح ثم الحلاقة ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" رحم الله المحلقين" ثلاثا، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال:" والمقصرين" رواه البخاري 1331 ومسلم 3133 والامام أحمد 2\119. وهذا دليل على أن ثواب الحلاقة أكبر من ثواب التقصير لأن في الحلاقة دليل على انكسار العبد وخضوعه وذله لله تعالى.
وبعد الحلاقة ترجع الى منى مرة أخرى لتستقر فيها ثلاثة أيام تذكر الله فيها وتأكل وتشرب وتتعرف على المسلمين من مختلف البلدان، وهذا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه حفاظ على الشحنة الربانية التي حصلت عليها من عرفة.(1/84)
وتخرج لرمي الجمرات في وقت الظهرية، والجمرات مثل حبة البازلاء يعني متوسطة الصغر، وانتبه لذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" إيّاكم والغلو في الدين، إيّاكم والغلو في الدين، إنما اهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" رواه النسائي 3057 3059 وابن ماجه 3029 والامام احمد 1\347.، ثم ترمي الجمرات الوسطى ثم الكبرى ، وتذكر أنك ترجم قصة الرمي مع سيدنا اسماعيل عندما جاءه الشيطان ليقول له: سيقتلك أبوك فرجمه، ثم ذهب الى السيدة هاجر، فقال لها: ان إبراهيمك سيقتل ابنك الوحيد فرجمته ثم جاء الى ابراهيم وقال له: إيّاك أن تقتل ابنك فرجمه، وفي الرجم اعلان صريح للعداوة على الشيطان ورمي لوجهه الحصى، وهذا يقع فعلا حيث تصيبه هذه الأحجار وتقصم ظهره، وبعد إعلان هذه العداوة للشيطان إيّاك من مهادنته بعد ذلك مرة أخرى.
من معاني الحج
*في الحج استشعار حقيقي لمشهد من مشاهد من يوم القيامة حيث الزحام الشديد في لباس شبه عريان، والأذان بالحج يشبه النفخ في الصور، والكل في خشية ووجل من الله عز وجل طمعا في المغفرة والثواب والصفح من الله تعالى. يقول تعالى في مطلع سورة الحج:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم، ان زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد}.
*في الحج تقوية للصلة بين الله والعباد لأنهم كانوا وفدا عند الله في بيته فصار لهم ود وصلة وتعلق بالله اكثر.
*وفي الحج يتعلم المؤمن الجهاد والمثابرة وتحمّل المصاعب والشدائد. فالححج بمثابة معسكر تدريبي رباني على الجهاد في سبيل الله، فهو في الصحراء وليس في بيئة خضراء أو في بلد قريب به كل وسائل الراحة والرفاهية.
ولذلك تقول السيدة عائشة: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال:" لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور". رواه البخاري 1521.(1/85)
*وفي الحج تقوية لمعاني الاخلاص حيث لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج حتى يعتمد في هذه العبادة على الله وحده في الصحراء.
*في الحج تقوية لأواصر الوحدة بين المسلمين جميعا، فإذا بالحج يقول للمسلمين: كفاكم فرقة وتشرذما، وفي هذا رد على من يقولن: لماذا لا يكون الحج على مدار السنة وليس في وقت محدد لتلافي الازدحام.
*في الحج تربية أخلاقية عظيمة، يقول تعالى:{ الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} البقرة 197.
ولغير الحجاج في وقت الحج يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" ما من أيام العمل الصالح فيها أحب الى الله تعالى من هذه الأيام" العشر الأوائل من ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال:" ولا الجهاد في سبيل الله". رواه البخاري 795 وأبوداود 2438 والامام احمد 1\224.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" العشر الأوائل من ذي الحجة حتى يوم عرفة أحب الى الله من نهار رمضان بل احب الى الله من نهار العشر الأواخر من رمضان" ويقول عليه السلام:" ألا ان لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرّضوا لها" فإيّاكم عباد الله من المعصية في هذه الأيام حيث ينظر الله لعباده في هذه الأيام فيغفر لهم ويتوب عليهم، وعليكم بصيام هذه الأيام المباركة، وذلك لغير الحج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلن يقول:" صيام يوم عرفة يكفّر سنة ماضية وسنة باقية" رواه مسلم 2739.
وهذه ليست دعوة للمعصية، وانما هي فرحة برحمة الله عز وجل الذي يحب عباده ويغفر لهم، فإيّاكم أن تضيّعوا العشر الأوائل من ذي الحجة.
وأخيرا أتمنى أن نشتاق جميعا للحج وأن يقبلنا الله عز وجل ويقبل الحجاج ويجعلنا معهم ان شاء الله.
عبادة الدعاء(1/86)
بداية أحب أن أسأل: هل هناك أحد ليس عنده مشاكل؟! أو هناك أحد ليس عنده آمال يسعى لتحقيقها؟! هل هناك أحد يستطيع أن يستغني عن ربه جل وعلا؟!، هل هناك لم يرتكب ذنبا ولا يخاف أن يؤاخذه الله عز وجل على هذا الذنب؟ هل هناك أحد يستطيع أن يستغني عن رحمة ربه سبحانه وتعالى؟! هل هناك أحد يستطيع أن يستغني عن هداية وتوفيق الله تعالى؟!
ولا شك أنه أشرف للمسلم الموحد بأن يرفع يديه الى ربه عز وجل وأن يلح عليه ويسأله.. فهذا أفضل من أن يدعو غير الله أو يسأل غير الله تعالى: ولا فالى من يلجأ المسلم ان لم يلجأ الى الله تعالى خالقه ورازقه ومحييه ومميته.. سبحانه وتعالى؟! هل سيذهب الى الناس الضعفاء الفقراء؟! ليس من المعقول أن يتعلق غريق بغريق مثله! وليس معقولا أن يلجأ فقير الى فقير، أو ضعيف الى ضعيف مثله!! وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم اذ يقول:" من لم يسأل الله يغضب عليه" رواه الترمذي 3373. وصق الشاعر الحكيم الذي قال:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركن سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
نعم.. الله يغضب اذا لم يسأله العبد، والعبد يغضب اذا سأله العبد!! والخلق كلهم فقراء الى الله الغني مالك الملك الذي يقول في متابه الكريم:{ يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد{ فاطر 15، أيها الناس جميعا: كلكم فقراء الله الله.. كلكم لا استثناء؛ يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم والخفير والوزير.
ويقول سبحانه:{ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير} آل عمران 26، فاذا كان الله هو مالك الملك وهو الذي يعطي ملكه من يشاء من عباده وينزعه عمن يشاء..ويعز من يشاء ويذل من يشاء.. فهل يصح لعبد أن يسأل غير الله تعالى؟!.(1/87)
ويقول عز وجل في الحديث القدسي:" يا عبادي كلكم ضال الا من هديته فاستهدوني أهدكم" رواه الترمذي2495 وابن ماجه 4257. يا من يريد الهداية اسأل الله تعالى أن يهديك وألحّ عليه في هذا السؤال، ولا تنس أن الحبيب صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه الهدى قائلا:" اللهم اني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.." رواه مسلم 6842 - 6843 رواه الترمذي 3489 والامام أحمد 1\416.، وهل يصح أن يأمرنا الله بأن نساله الهداية ولا يجيبنا سبحانه؟! بالطبع كلا.. فهو الذي يعد ويفي لأنه على كل شيء قدير.
" يا عبادي كلكم عار الا من كسوته فاستكسوني اكسكم." انكم يا عبادي لا تملكون حتى الملابس التي تلبسونها.. فاسألوني أن أكسوكم وأنا أكسوكم.
" يا عبادي.. كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم".. تأمل يا أخي.. الله جل جلاله في عليائك يأمرك أو يوجهك وينصحك أن تساله أن يطعمك فهل سألت الله مرة قائلا: اللهم أطعمني من جوع..
لقد امتن الله تعالى على العرب أوالقرشيين بأنه سبحانه وتعالى { أطعمهم من جوع} قريش 4.
وكان من ثناء ابراهيم على ربه عز وجل ان قال:{ والذي هو يطعمني ويسقين} الشعراء 79، " يا عبادي: انكم تخطئون بالليل والنهار.. وانا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم.. يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. يا عبادي: لو أن اولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد لك في ملكي شيئا. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل انسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي، الا كم ينقص المخيط اذا أدخل البحر"!(1/88)
سبحان الله!! لو أن كل البشر؛ هذه المليارات من الناس اجتمعت في مكان واحد وسألت ما تشاء، وأعطي كل واحد منهم ما سأل ما نقص ذلك في ملك الله الا كما تنقص الابرة اذا أدخلت البحر!! وهل ينقص المخيط من البحر شيئا؟!
" يا عبادي.. انما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم لا أوفيكم إيّاها.. فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه" رواه مسلم 6517 وابن ماجه 4257.
بعد كل هذ.. هل ندعو الله أم لا؟! ان الله تعالى ينادينا في هذا الحديث العظيم نداء رقيقا رفيقا ويعيده كثيرا: يا عبادي!! ويأمرنا بأن نسأله كل ما نريده من هداية وطعام وكساء وغفران.. الخ والله عز وجل يحب عبده الذي يلح عليه في الدعاء.. ويقول صلى الله عليه وسلم:" ان الله لا يمل حتى تملوا" رواه البخاري 730 ومسلم 1824.
وهناك سؤال قد يجول بخاطر البعض: كم أنفق الله تعالى على خلقه منذ ان خلق آدم حتى الآن؟! كم من الأمطار وكم من الزروع وكم من الثمار؟! كم من الحيوانات؟ كم من الطعام؟ كم؟ كم؟.. ان "لحم أكتافنا" كما يقولون ليس من خير آبائنا وأمهاتنا، إنما من خير وعطاء وفضل الله تعالى!! فهو وحدع المعطي وهو وحده المانع!!
ومن أسماء الله تعالى "الكريم" فهو يعطي من غير أن يسأل!! فكيفك اذا سئل؟!.(1/89)
وقد روي أن رحلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه؟! فنزل الجواب من فوق سبع سموات من قبل الخالق جل وعلا:{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} البقرة 186. لا اله الا الله.. ان الله تعالى لم يترك نبيه صلى الله عليه وسلم يجيب على أصحابه ولو تركه لأجاب وأحسن الاجابة.. ولكنه سبحانه تولى الاجابة بذاته العلية من فوق سمواته السبع وكرسيه ةعرشه.. وقال سبحانه: (عبادي) وفي الكلمة تعطف وتكرم من الله الكريم، حيث نسب العباد اليه حتى لو كانوا عصاة أو مذنبين. ثم قال:{ فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان}.. فلم يقل دعوة المؤمن أو المحسن بل الداعي، وفي هذا فتح لأبواب عطائه وكرمه تعالى.
ولو تأملنا السياق القرآني نجد أن الله تعالى أمر نبيه بقوله: قل أو فقل، وذلك عندما يسأله قومه عن شيء ما فيقول سبحانه:{ يسألونك عن الأهلة قل} البقرة 189، {يسألونك عن الشهر الحرام} البقرة 217، {يسألونك عن الأنفال} الأنفال1، أما عندما كان السؤال عن قرب الله أو بعده فكانت الاجابة بغير (قل)، لأن الصلة مباشرة بين الله وعبده، فكانت الاجابة أيضا مباشرة بلا واسطة!!
ويثول سبحانه:{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} غافر 60. إذا كان الله تعالى يأمرنا بالدعاء ويعدنا بالاستجابة.. فلماذا لا ندعوه سبحانه؟! ولماذا نعرض عنه؟!
هل نستطيع أن نستغني عنه سبحانه { ادعوا ربكم تضرّعا وخفية} الأعراف 55، أي ذلا ومسكنة.. وهذا ربنا عز وجل يتحدث عن سيدنا زكريا فيقول عنه:{ إذ نادى ربه نداء خفيا} مريم 3.. والاخفاء فيه اخلاص أكبروادب مع الله وصفاء نفسي وحضور قلب وبكاء عين، وكل هذا أدعى للقبول باذن الله.
أحاديث في فضل الدعاء(1/90)
وهناك أحاديث كثيرة في فضل الدعاء وآدابه.. يقول صلى الله عليه وسلم:" الدعاء هو العبادة" رواه أبو داود 1479 والترمذي 2969. وقد يسأل سائل: وأين الصلاة والصوم والزكاةزز؟ والاجابة أن كلمة عبادة مشتقة من العبودية.. والعبودية معناها الذل والمسكنة لله تعالى.. فالعبد فقير مسكين الى الله محتاج لمولاه في كل لحظة، وقد عبر عن ذلك أحد الشعراء بقوله:
أنا الفقير الى رب البريات أنا المسكين في مجموع حالاتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرات
والفقر لي وصف لازم أبدا كما الغنى ابدا وصف له ذاتي
ولما كان الدعاء والتضرع صورة من صور التذلل والخضوع والتعبد لله، صار الدعاء عبادة لله تعالى.
وفي قوله تعالى:{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، ان الذين يستكبرون عن عباتي سيدخلون جهنم داخرين} غافر 60. نجد أن الله تعالى قال:{ يستكبرون عن عبادتي} لم يقل: عن دعائي، وبهذا صارت العبادة مرادفا للدعاء.
والذي لا يدعو ربه مستكبرا لأنه استنكف أن يرفع يديه الى خالقه وبارئه ورازقه ومحييه ومميته ومطعمه وكاسيه.. سبحانه وتعالى.. وأنا أعجب أن يمر يوم أو يومان أو أكثر ولا يرفع العبد يديه لله!! ان الله جل وعلا هو الذي يفرّج الكربات.. وقد فرج كب الأنبياء عندما دعوه ولجأوا اليه، وعبلا عن ذلك أحد الأدباء بقوله:
يا من أجاب نوحا فانتصر وحملته في فلكك المشحون
يا من احال النار حول خليله روحا وريحانا بقولك كوني
يا من أمرت الحوت يلفظ يونسا وحميته بشجيرة اليقطين
يا ربّ إنا مثله في كربة فارحم عبادا كلهم ذو النون(1/91)
والعبد عندما يسأل خالقه ورازقه تبارك وتعالى يشعر بنوع من الفرح والسعاة، لأنه سأل غنيا واسعا مجيبا كريما... وما أجمل أن يسأل العبد ربه جل وعلا قائلا: يا رب، أنا الفقير اليك، وأنا المحتاج اليك.. خذ بيدي يا الله.. اهدني.. أعنّي.. وفقني.. وسع رزقي.. ويدعو بما يشاء.. وما عند الله أكبر.. واياك أن تسأل أحدا غير الله تعالى، فان في ذلك خضوعا وذلا لغير الله.. والمسلم لا يخضع ولا يذل الا لربه سبحانه:
لا تخضعن لمخلوق على طمع فان ذلك نقص منك في الدين
لن يقدر العبد أن يعطيك خردلة الا باذن الذي سواك طينا
ولا تصاحب غنيا تستعز به وكن عفيفا وعظم حرمة الدين
واسترزق الله مما في خزائنه فان رزقك بين الكاف والنون!!
وهذا سيدي وسيدك وسيد ولد آدم جميعا صلى الله عليه وسلم يقول:" ليس شيء أكرم من الدعاء" رواه الترميذ الحديث 3370 والامام أحمد 2\362. والمسلم يسأل ربه من خيريّ الدنيا والاخرة معا.. وقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة جسنة وقنا عذاب النار" رواه أبو داود 1892 والامام أحمد 3\411.
فالذي يلزم الدعاء لا يهلك باذن الله.. وينبغي للمسلم أن يحسن ظنه بالله تعالى.. فالله عند ظن عبده به.. فثق ان الله تعالى كريم يجيب دعوة الداع ويفرج كربه ويستر عيبه ويغفر ذنبه وإلا فمن يفعل ذلك سواه؟!
ويقول صلى الله عليه وسلم:" ان الله تعالى حييّ كريم، يستحي أن يرفع العبد يديه ثم يرده صفرا خائبا" رواه أبو داود 1488 والترمذي 3556.. فكيف لا يستحي العبد من الرب، والرب يستحي من العبد؟!
نماذج من إجابة الله
لمن يدعوه من القرآن العظيم
سيدنا نوح عليه السلام:(1/92)
لقد عادى قوم نوح سيدنا نوح عليه السلام.. وسخروا منه.. وأعرضوا عن دعوته، فلم يجد أحدا يلجأ اليه إلا الله تعالى..{ فدعا ربه أني مغلوب فانتصر}.. يدعو ربه بأنه غلب هو والقلة المؤمنة من الكثرة الكافرة. فماذا كانت الاجابة؟! اقرأ قوله تعالى:{ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر* وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر} القمر 11-12. من أعلى ومن أسفل أتت المياه فالتقى ماء السماء بماء العيون التي فجرها الله تعالى.. وغرق الكافرون ونجا نوح ومن معه من المؤمنين { وما آمن معه الا قليل هود 40.
سيدنا زكريا عليه السلام:
حرم سيدنا زكريا عليه السلام الولد، وكانت امرأته عاقرا لا تلد.. وعندما كبر سنه ووهن عظمه وشاب رأسه، حزن ألا يكون له ولد يرث النبوة والرسالة والدعوة الى الله وهداية الناس فدعا ربه تعالى:{ رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين} الأنبياء 89.. فماذا كانت الاجابة؟! قال تعالى:{ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} الأنبياء 90.
سيدنا سليمان عليه السلام:
أتى الله آل داود عليه السلام ملكا عظيما.. وكان سليمان عليه السلام ملكا نبيا أعظاه الله ملكا عظيما وجاها عريضا وسخر له الجن والرياح وغيرهما مما خلق الله تعالى.. وحدث لسليمان عليه السلام نوع من الابتلاء فدعا ربه تعالى:{ رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} ص 35. فاستجاب الله تعالى دعاءه ولم يؤت أحدا بعده، مثل ما أتاه الله من ملك عظيم وجاه عريض.. بل ان الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح _ أمسك جني ذات مرة.. وقال:{ لولا دعوة أخي سليمان لربطته بسارية المسجد وجعلته عبرة يلعب به الصبيان".. رواه الامام أحمد 3\83.
دعوة سيدنا ابراهيم عليه السلام:(1/93)
نزل سيدنا ابراهيم عليه السلام في صحراء جرداء خالية لا زرع فيها ولا ضرع، وبها أسكن زوجته وذريته كما أمره الله تعالى، ودعا ربه سبحانه وتعالى:{ رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} البقرة 126، فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعل مكة وما حولها أرضا مباركة يأتيها رزقها من كل مكان.
سيدنا أيوب عليه السلام:
ابتلى الله تعالى سيدنا أيوب عليه السلام في جسمه، حتى لم يبق الا قلبه ولسانه يذكر بهما الله تعالى، ولما اشتد به البلاء، لم يجد أحد يدعوه سوى الله تعالى. وما منعه من التعجيل بالدعاء سوى الحياء من الله تعالى وقال سبحانه :{ وأيوب اذ نادى ربه أني مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين} الأنبياء 83، يقول سبحانه وتعالى موضحا سرعة استجابته لعبده ونبيه الكريم :{ فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ..} الأنبياء 84.
سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم:
اليكم هذه القصة المباركة التي تبين استجابة الله تعالى لدعاء نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم.. وهي واحدة من عشرات الأحاديث الواردة في هذا المجال:(1/94)
أم سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه كانت كافرة تأبى الاسلام وتسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله. ادع الله أن يهدي أمي.. فقال صلى الله عليه وسلم:" اللهم اهد أم أبي هريرة واشرح صدرها للاسلام فاستبشر أبو هريرة رضي الله عنه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ولنسمع هذا الصحابي الكريم يروي بقية القصة أو الواقعة.. يقول: وعدت الى أمي فدخلت عليها، فقالت: يا أبا هريرة، فقلت في نفسي: انها ستسبني فقلت: لبيك، فقالت: اشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. فضحكت حتى بكيت، فعدت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا وأنا أبكي من الفرح وقلت: يا رسول الله: أبشر فقد أجيبت دعوتك، فقال صلى الله عليه وسلم:" الحمد لله"، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: أدع الله أن يحببني أنا وأمي الى المؤمنين ويحبب المؤمنين الينا.
وانظر الى هذا الدعاء العظيم، انه لم يسأله أن يدعو الله بمال أو جاه.. الخ. انما سأله أن يدعو الله أن يحبه المؤمنون وان يحب المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم حبب عبدك هذا وأمه الى المؤمنين"، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فلم يسمع بهذا أحد أو يراني الا أحبين. رواه مسلم 6346 والامام أحمد 2\320.
وانظر أخي الى شفقة هذا الصحابي على أمه وحرصه على هدايتها ودخولها الاسلام.. ولاحظ ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل أبا هريرة رضي الله عنه عن اسم امه حتى يدعو لها، كما يفعل البعض الآن.
الدعاء عند الكرب:(1/95)
في غزوة بدر، ولما نظر النبي صلى الله عليه وسلم الى عدد المسلمين ورأى قلته بالنسبة للمشركين ( 314 في مقابل ألف).. وقف النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ورفع يديه الى الله تعالى وأخذح يلح في الدعاء :" اللهم انجز لي وعدك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض.." رواه مسلم 4563 والترمذي 3081 والامام أحمد 1\30. وأخذ يبكي ويرفع يديه.. حتى سقط رداؤه من شدة الدعاء: فأشفق عليه الصديق رضي الله عنه قائلا: ارفق بنفسك يا رسول الله، فان الله منجز لك ما وعدك.. واستجاب الله دعاء نبيه ونصر جنده وعباده المؤمنين.
وحدث مثل ذلك أو قريب منه في غزوة الأحزاب، إذ لما اشتد الحصار وشكا الصحابة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا ربه عز وجل :" اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" رواه الامام أحمد 3\3... فما هو الا يوم أو يومان إلا أرسل الله عز وجل ريحا شديدا خلعت خيام الكفار وقلبت قدورهم.. فعادوا منكسرين أذلاء خاسرين.. وهكذا استجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم.
دعاء السيدة سارة رضي الله عنها:
عندما قدم سيدنا ابراهيم عليه السلام بزوجه سارة الى مصر وأراد الفرعون أن يعتدي عليها، فلما أمر بها وأحضرت اليه دعت الله قائلة: اللهم إني كنت قد أحصنت فرجي الا على زوجي، فلا تسلط عليّ هذا الكافر، فشل الرجل، ولم يستطع أن يؤذيها وحماها الله تعالى من مكره وبطشه.. وعاد مرة أخرى وثالثة وفي كل مرة تدعو سارها ربها فيفرج عنها:{ أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، أءله مع الله، قليلا ما تذكّرون} النمل 62.(1/96)
ويقول التابعي الجليل سفيان الثوري رحمه الله: لا تخف ألا يستجاب لك، مما تخاف على نفسك من السوء، فان الله تعالى قد استجاب لشر الخلق ابليس لعنه الله لما قال:{ ربّ {فأنظرني الى يوم يبعثون} الحجر اذ قال له ربه مجيبا دعاءه:{ فإنك من المنظرين} الحجر37، فإذا كان ابليس اللعين قد استجيبت دعوته أفلا تستجاب دعوتك أنت أيها المسكين؟! ولو أردت أن تحصي ما أجاب الله لك من أدعية لعلمت أنها كثيرة كثيرة ولكن قلما نشكر الله تعالى.
واعلم أن الله تعالى يستجيب دعاء عبده المسلم اذا لم يدع باثم أو قطيعة رحم، وما لم يتعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي. واعلم أن الله تعالى قد استجاب كثيرا من دعواتك، ربما تتأخر اجابة الدعوة بعض الوقت، والحقيقة أن الله تعالى يجيب دعاءك، ولكن وقتما يريد سبحانه، لا وقتما تريد أنت، لكن الشيطان ينسيك فضل الله عليك، والمسلم يستشعر نعمة الله عليه وفضله اذا علم انه سبحانه يجيب دعواته ويكرمه ويوسع عليه ويفرج كربه ويذهب غمه وهمه.
أوقات وأماكن يستجاب بها الدعاء
الثلث الأخير من الليل:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أقرب ما يكون العبد من ربه في ثلث الليل الأخير". أفضل وقت للدعاء اذن هو الثلث الأخير من الليل، وهو الثلث الذي ينزل فيه ربنا الى السماء الدنيا ثم يقول:" هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟" رواه البخاري 7494 ومسلم 1769.
ويقول صلى الله عليه وسلم:" ان في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة الا أعطاه الله اياه، وذلك كل ليلة" رواه مسلم 1767... فليتنا نحيي هذا الشطر من الليل؛ تقرّبا الى الله تعالى وطلبا لرحمته ومغفرته.
ساعة يوم الجمعة:(1/97)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه ادخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه هبط الى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها عبد مسلم من خيري الدنيا والآخرة الا أعطاه مسألته". رواه أبو داود 1046 والترمذي 491 والامام أحمد 2\504.
والسؤال: أي ساعة هي؟! قيل: من بعد الفجر الى الشروق، وقيل: قبل صلاة الجمعة مباشرة، وقيل: أثناء خطبة الامام، وقيل: الساعة الأخيرة من النهار: أي التي تسبق صلاة المغرب.
عند السجود:
قال صلى الله عليه وسلم:" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء وأنتم سجود" رواه مسلم 1083 والترمذي 491 والامام أحمد 2\241.، ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ فاسجد واقترب} العلق 19... وهناك أدعية كثيرة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في السجود منها قوله:" اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره، اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.. سبوح قدوس رب الملائكة والروح" رواه مسلم 1084 وأبو داود 878.
بين الأذان والاقامة:
قال صلى الله عليه وسلم:" لا يرد الدعاء بين الأذان والاقامة" رواه أبو داود 521 والترمذي 212، وأحسن ما يمكن أن يدعى به في هذا الوقت: اللهم اني أسألك العافية في الدنيا والآخرة.
وكذلك من أوقات الاجابة:
عند نزول المطر، وعند الجهاد في سبيل الله، ويوم عرفة، وعند رؤية الكعبة، وعند الطواف، وعند الملتزم، وعند ختم القرآن.
كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم الى بعض من تستجاب دعواتهم وذكر منهم الامام العادل يقول صلى الله عليه وسلم:(1/98)
"دعوة الامام العادل لا ترد".. وكذلك دعوة الصائم، اذ قال صلى الله عليه وسلم:" للصائم دعوة لا ترد".. وكذلك دعوة المظلوم، اذ يقول صلى عنها الله عليه وسلم" ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها ربنا عز وجل الى السماء ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين" رواه الترمذي 3598 وابن ماجه 1572. وكذلك دعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده، ولهذا يجب على الآباء والأمهات ألا يدعو على أولادهم لئلا تصادف الدعوة ساعة الاجابة...
وكذلك دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، اذ توكل عند رأس الداعي ملك يقول له:" آمين، ولك مثله"! ولهذا فإن المسلم الذكي اذا كان له حاجة يدعو لاخوانه بظهر الغيب بأن يقضي الله حاجاتهم، وهو بهذا يكون كمن ضرب عصفورين بحجر كما يقال، فيكون ضمن الاجابة واثيب على الدعاء لأخيه! وكذلك دعاء الولد لوالده بعد موته.. وكذلك الدعاء على أعداء الاسلام، وربما يؤخر الله الاجابة الى وقت معلوم.
وهناك أمثلة كثيرة من السيرة لدعوات مستجابة كدعوة سعد بن أبي وقاص على الرجل الذي افترى عليه وظلمه من أهل الكوفة واسمه اسامة بن قتادة، اذ قال عنه: ان سعدا لا يعدل في القضية ولا يحكم بالسوية ولا يسير في السرية، فقال سيدنا سعد رضي الله عنه: اللهم ان كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة، فأطل عمره وأطل فقره وعرّضه للفتن.
يقول عبدالملك بن عمير أحد رواة الحديث: فلقد رأيت هذا الرجل سقط حاجباه من الكبر وهو يغمز الجواري في الطرقات، فاذا سئل عن ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد!!
والأمثلة عير هذا كثيرة.. وليس هذا مجال ذكرها.. وكذلك من أصحاب الدعوات المستجابة العبد التائب من الذنب المقبل على الله، فعند حضور القلب وقشعريرة البدن وبكاء العين يقبل الله الدعاء.
الذكر(1/99)
عبادة الذكر من أسهل العبادات.. لا تكلف جهدا ولا وقتا ولا مالا.. ويستطيع العبد المسلم أن يؤديها في أي وقت وفي كل مكان، بل يمكن للمرأة الحائض والنفساء ان تقوم بها.. وهي عبادة يحبها الله كثيرا ويثيب عليها ثوابا عظيما، ويعطي عليها من الأجر ما لا يعطي على غيرها.. وذكر الله عز وجل عبادة كل وقت وكل مكان كما أشرت.. حتى عندما يأتيني أحد يشكو لي كثرة المعاصي وعدم قدرته على الالتزام أجدني أقول بلا قصد: اذكر الله، وقد يستهين بالاجابة ويتركني ولكن المسكين لم يقدر معنى وقيمة الذكر الذي هو افضل عند الله من إنفاق الذهب وتافضة، ومن أن يلقى المسلم عدوه فيضرب عنقه، ويضرب عدوه عنقه!!
عبادة الذكر. شروطها الاكثار
ولكن هذه العبادة لها شرط واحد، هو ااكثار منها.. إذ لا ينفع معها القليل، في قيام الليل قلنا: في قيام الليل تكفي ولو ركعتان.. أما عند الذكر فلا بد من الاكثار منه. يقول الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا* وسبّحوه بكرة وأصيلا} الأحزاب 41-42. ولذا لاينفع أن تقول مرة واحدة مثلا: أسنغفر الله، ثم نقول: لقد ذكرت الله اليوم! والذكر عبادة ليس لها حدمعيّن ولا منتهى لها.
والسؤال: لماذا اقترن الذكر في القرآن بكثرة؟! والجواب: لأن الذكر ضد النسيان، والمذكور هو الله تعالى رب الأرباب وواهب اقوى والقدر، لعظيم الجليل، ولا يليق بالعظيم الجليل أن يذكر بعض الوقت وينسى معظم الوقت.. ولهذا فان من معاني تقوى الله تعالى: أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يجحد، وان يطاع فلا يعصى!
وقد ورد عن أحد التابعين أنه كان يسبح الله كل يوم مائة ألف تسبيحة... يقول الله تعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين فئة فاثبتوا واذكروا الله كثير لعلكم تفلحون} الأنفال 45.(1/100)
فلا فلاح الا بذكر الله تعالى، لن تستقيم في قيام الليل والصيام وغض البصر والحياء والحجاب وغير ذلك الا بذكر الله تعالى.. ويقول سبحانه:{ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} الأحزاب35. ويقول:{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} الأحزاب21. ويقول تعالى:{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} آل عمران191. وأكثر الناس فوزا وسعادة هو من يلازم الذكر ولو في عمل، وحتى لو كان في صفوف القتال..
وقد دعا سيدنا موسى عليه السلام ربه قائلا:{ قال ربّ اشرح لي صدري* ويسّر لي أمري* واحلل عقدة من لساني* يفقهوا قولي* واجعل لي وزيرا من أهلي* هرون أخي* اشدد به أزري* وأشكره في أمري* كي نسبّحك كثيرا* ونذكرك كثيرا} طه 25-34... ولهذا فان الله تعالى عاب على المنافقين أنهم..{ ولا يذكرون الله الا قليلا} النساء142. أي أنهم يذكرون الله ولكن قليلا وفي أوقات محدودة، فإذا أخطأ مثلا أو عمل ذنبا قال: أستغفر الله، وإذا وقع منه شيء مثلا قال: لا حول ولا قوة الا بالله.. وليس هذا هو الذكر الكثير الذي يأمرنا به الله تعالى.
ولهذا فإن الطالب في طريقه الى مدرسته أو جامعته، والموظف في طريقه الى عمله والمحامي في طريقه الى محكمته.. كل مسلم ينبغي أن يقطع طريقه في ذكر الله، بدلا من أن يضيّعه في اللهو واطلاق النظر والسهو والغفلة ووساوس الشيطان.. وما المانع قبل أن تأوي الى فراشك كل ليلة أن تذكر الله ولو خمس او عشر دقائق؟! هل هذا شيء صعب؟!
فضل الذكر:
وقال تعالى:{ فاذكروني أذكركم} البقرة 152، فلو قلت لا اله الا الله يذكرك الله باسمك، ولهذا قال أحد الصحابة: أنا أعرف متى يذكرني ربي عز وجل، فسئل: متى ذلك؟ فقال: عندما أذكره سبحانه، قال تعالى:{ فاذكروني أذكركم} وهكذا فان الدخول على الله تعالى سهل يسير لا مشقة فيه ولا عناء.(1/101)
ويقول تعالى:{ الذين ءمانوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد28، فمن فوائد ذكر الله تعالى اطمئنان القلب وهدؤوه وسكينته.. وفي هذا علاج للذين يعانون قلقا ويتألمون، وإعراض عن الأطباء النفسيين. ان الناس تعاني القلق لقلة ذكرهم، ولانصرافهم عن الله جل وعلا.. ولهذا قال تعالى:{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} طه 124. .. في ذكر الله علاج لكل المشاكل وتفريج لكل الكربات، وفي الغفلة عن الذكر قلق وهم وغم وتسليط للشيطان على الانسان. قال تعالى:{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطانا فهو له قرين} الزخرف36. ويحذر الله تعالى عباده المؤمنين من أن تلهيهم الدنيا بما فيها عن ذكر الله فيقول سبحانه:{ يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} المنافقون9، فمن ألهاه أولاده أو أمواله عن ذكر الله فقد خسر خسرانا مبينا.(1/102)
ومن الأشياء اللطيفة أن الله جعل ختام العبادات الكبيرة الذكر.. فكلما تؤدي عبادة عظيمة تتبعها بذكر الله تعالى.. فالصلاة ذكر وبعدها أيضا ذكر وهو ختامها والدعاء وكذلك الصيام، فقد أمر الله في طيات الحديث عنه بالدعاء، والدعاء ذكر، وكذلك الحج. قال تعالى فيه:{ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرا} البقرة 200. وقال تعالى عن الصلاة:{ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} النساء103. وخص صلاة الجمعة بالذكر العظيم لشرفها وسمو مكانتها وكبير فضلها، فقال لعد الحديث عنها:{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} الجمعة 10. ويجعل الله عز وجل هدف أعظم العبادات، وهي الصلاة الذكر. يقول تعالى في سياق أمره لكليمه موسى عليه السلام:{ وأقم الصلاة لذكري} طه 14، فالصلاة كلها ذكر: القراءة ذكر، والركوع ذكر والسجود ذكر والتشهد ذكر..
والنبي صلى الله عليه وسلم يبيّن أن الحياة الحقيقية هي حياة القلب، ولا حياة للقلب الا بذكر الله تعالى، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت" رواه البخاري 6407. فهل ترضى أن تكون في عداد الموتى بغفلتك عن ذكر الله تعالى؟!.
وأنا أسأل كل الذين يعانون في حياتهم من مرض أو عقوق أولاد أو سوء معاملة جيران.. هل حرصتم على ذكر الله تعالى؟! هل نورتم قلوبكم وبيوتكم بذكر الله الخالق جل وعلا؟!
وقد جاء رجل الى المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم شاكيا يقول: يا رسول الله، ان شرائع الاسلام قد كثرت عليّ (فيها عبادات وأخلاق ومعاملات...) فدلني على عمل أتشبث به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يزال لسانك رطبا بذكر الله" رواه الترمذي 3375 وابن ماجه 3793 والامام أحمد 4\190.(1/103)
وجاء آخر الى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أي الاسلام أفضل؟! قال صلى الله عليه وسلم:" أن تموت واسانك رطب بذكر الله" رواه الطبراني في الكبير 20\107 وابن حبان 818. أفضل شيء أن تلقى الله ذاكرا إيّاه..!
ويقول صلى الله عليه وسلم:" ألا أدلكم بخير أعمالكم وأزاكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" فقال الصحابة: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم:"ذكر الله تعالى". أرأيتم فضل الذكر؟!
ويقول صلى الله عليه وسلم:" لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وتنزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده" رواه مسلم 6795 والترمذي 3378 والامام أحمد 3\92.
ويقول الله عز وجل في حديث قدسي:" أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه اذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه". رواه البخاري 6405 ومسلم 6773 والامام أحمد 2\251.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فوجدهم جالسين فقال:" ما أجلسكم؟" قالوا: جلسنا نذكر الله يا رسول الله، قال:" آلله ما أجلسكم الا هذا" قالوا: آالله ما اجلسنا الا هذا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" إني لم أسألكم تهمة لكم، ولكن بلغني أن الله يباهي بكم ملائكته" رواه مسلم 6797 ولترمذي 3379. فأبشروا أيها المسلمون الذاكرون لله تعالى، أبشروا بمباهاة الله ملائكته بكم!
وقال صلى الله عليه وسلم:" سبق المفردون"، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال:" الذاكرون الله كثيرا والذاكرات" رواه مسلم 6749 والترمذي 3599 والاماما أحمد 2\323. أتعلم أيها الأخ لماذا سماهم الرسول:" المفردون"؟ لأنهم تفرّدواوتميّزوا.(1/104)
والذكر في كل وقت وحين. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل احواله.. فهل تستطيع أيها لمحب للرسول الراغب في مرافقته في الجنة أن تتأسى به وأن تذكر الله تعالى في كل أحوالك؟!
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد خروجه من الخلاء:" غفرانك" رواه أبو داود 30 والترمذي 7 وابن ماجه 300 والامام أحمد 6\155. أتردي لماذا؟ انه يستغفر الله على دقائق قليلة مرت عليه لم يذكر الله تعالى فيها!!
وأنا أعلم أن من المسلمين أناسا لم يجلسوا منذ أعوام كثيرة، بل ربما منذ أن خلقوا، جلسة واحدة، ذكروا فيها الله مائة مرة أو سبّحوه مائة تبيحة.. ثم يشكو الناس بعد ذلك من ضنك الحياة وعقوق الأولاد وضيق الصدور.. ويوم القيامة يندم المسلمون على الوقت الذي مر عليهم ولم يذكروا فيه ربهم جل وعلا. يقول سيدنا معاذ رضي الله عنه: لا يندم اهل الجنة على شيء الا على دقائق مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها عز وجل.
وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه خرج الى السوق ذات مرة فقال: يا معشر التجار، هلموا الى الى المسجد، فان ميراث رسول الله يوزع هناك، فأسرع التجار الى المسجد فلم يجدوا شيئا، فقالوا: دخلنا المسجد فما وجدنا شيئا!! فقال رضي الله عنه: فماذا وجدتم؟! قالوا: وجدنا ناسا يذكرون الله تعالى، قال: فذلك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
وروي في الأثر أن سيدنا سليمان عليه السلام مر بموكبه وجنوده ورجاله ذات يوم على فلاح بسيط يحرث في أرضه، فقال ذلك الفلاح: لقد صار ملك آل داود عظيما! فنظر اليه سيدنا سليمان عليه السلام وقال:" والله، لتسبيحة في صحيفة المؤمن خير مما أعطي سليمان وأهله، فإن ما أعطي سليمان يزول والتسبيحة تبقى"!!.
أنواع الذكر:(1/105)
للذكر أنواع ثلاثة: أولها: الثناء على الله عز وجل، ثم أذكار الصباح والمساء، ثم أذكر اليوم والليلة أو أذكار الأحوال كعند اللباس وعند الأكل وعند الشرب...
أولا: ذكر الثناء على الله:
الاستغفار: يقول تعالى حاكيا عن نوح عليه السلام مخاطبا قومه:{ فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا* يرسل السماء عليكم مدرارا* ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} نوح 10-12.. ويقول صلى الله عليه وسلم:" من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب". رواه أبو داود 1518 وابن ماجه 3819.
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر في اليوم مائة مرة، وفي بعض الروايات أكثر من سبعين مرة.. والمائة استغفار لا تستغرق أكثر من دقيقتين على الأكثر.. وجاء في الأثر: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا.
التسبيح: ومعنى التسبيح التنزيه.. أي تنزيه الله تعالى عن كل نقص، ووصفه سبحانه بكل كمال يليق به جل جلاله.. ولهذا فإنه عند التسبيح ينبغي أن يعمل المسبح فكره في خلق الله تعالى في السموات والأرض.. وللتسبيح ثواب عظيم وفضل كبير.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أيعجز أحدكم ان يكسب كل يوم ألف حسنة:{ قال الصحابة: كيف ذلك يا رسول الله؟! قال:" يسبّح مائة تسبيحة، فيكتب له بها ألف حسنة أو يكفر عنه بها ألف سيئة" رواه مسلم 6792.. فهل يمكن أن يبخل مسلم بدقيقتين من وقته مقابل ألف حسنة؟!.(1/106)
وإحدى صيغ التسبيح أن تقول:" سبحان الله وبحمده".. ولكن ما فائدتها؟! يقول صلى الله عليه وسلم:" من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه وأن كانت مثل زبد البحر" رواه البخاري 3293 ومسلم 6783.. وزبد البحر هو الريم الأبيض الذي يكون على وجه الماء عند الموج.. تخيّل لو أنك واقف على شاطئ البحر وأبصرت هذا الزبد الكثير وتخيّلت أن ذنوبك كثيرة مثل هذا الزبد، فالعم أن الله سيغفرها لك بمنّه وفضله وجوده بقولك مائة مرة فقط :" سبحان الله وبحمده".. فيدخل أحدنا الجنة في مقابل دقيقتين أو ثلاثة سبح الله فيها مائة مرة!!
ومن صيغ التسبيح أيضا:" سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان الى الرحمن: سبحان الله العظيم وبحمده، سبحان الله العظيم" رواه البخاري 6406 ومسلم 6786.. فلنحرص على اثقال موازين حسناتنا يوم القيامة بهذا الذكر العظيم..
وروي أنه يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فتطيش كفة حسناته وترجح عليها كفة سيئاته، فيلقي بنفسه على كفة الحسنات لتثقلن ولكن لا يجدي معه شيئا ولا يزن هذا الرجل عند الله جناح بعوضة.. ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} الكهف 105.. وهاتان الكلمتان يحبهما ربنا جل وعلا، افتبخل بقول ذكر يحبه الله تعالى؟!(1/107)
التهليل: " لا اله الا الله": أي لا معبود بحق الا الله، ولهذا فلا ينبغي أن يكون في قلب العبد أعز ولا أحب ولا أفضل من الله تعالى، لا هواه، ولا نفسه، ولا ولده، ولا زوجه، ولا اهله، ولا أي شيء.. هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" جددوا ايمانكم بـ "لا اله الا الله"" رواه الامام أحمد 5\239.. الذي يشتكي من قسوة قلبه وقلة دمعه وجمود عينه، عليه أن يجدد ايمانه بكلمة التوحيد: لا اله الا الله.. إن الايمان يبلى ويخلق كما يبلى الثوب ويخلق، ولا تجديد لهذا الايمان الا بذكر الله، وبالأخص بذكر كلمة التوحيد: لا اله الا الله محمد رسول الله.
يقول النبي العظيم صلى الله عليه وسلم:" من قال لا اله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يوم ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى به الا رجل قال مثل ما قال أو زاد" رواه البخاري 3293 ومسلم 6783.
الحوقلة: "لا حول ولا قوة الا بالله": يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا حول ولا قوة الا بالله كنز من كنوز الجنة" رواه البخاري 4205 ومسلم 6808. ومعاني الحوقلة: اي لا حيلة ولا قوةولا شيء ينفع أو يضر في هذا الكون سوى الله تبارك وتعالى.
الاحتساب: " حسبي الله ونعم الوكيل": أي أن الله كافيني وهو وحده نعم الوكيل، وخير من يقوم على أمري.. فلو ظلمك أحد عليك بهذا الدعاء، فقد قاله الخليل ابراهيم حين القي في النار، وقاله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة (حمراء الأسد) حينما قال لهم الناس ( أي للمسلمين) ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فقالوا:" حسبنا الله ونعم الوكيل".. فكفاهم الله شرّ عدوّهم، وحفظهم بفضله وجوده سبحانه وتعالى.(1/108)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: يقول صلى الله عليه وسلم:" من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا" رواه الترمذي 484 485 والامام أحمد 2\168. يعني من قال: اللهم صل على محمد.. أي ارحمه.. رحمه الله عز وجل عشر مرات.. لذا يجب على المسلم أن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنزل عليه الرحمات.
ثانيا: أذكار الصباح والمساء:
وهي الأذكار التي كان يحرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في صباحه وفي مسائه.. وأذكار الصباح تقال من بعد صلاة الفجر حتى الشورق، ومن غلبه النوم ولم يستيقظ الا بعد طلوع الشمس يقولها بعد أن يصلي الصبح لأن قيمتها عظيمة، واذكار المساء تقال من بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس، فمن بم يستطع فليقلها بعد صلاة المغرب.. وكل ذكر من الأذكار له فائدة عظيمة ويحافظ على شيء في حياة الانسان.. وقيل: مثل ذلك مثل رجل تأتيه شرور من أبواب متفرقة كثيرة، وكلما قال ذكرا أغلق أحد هذه الأبواب، فإذا قالها جميعا أغلق أبواب الشر جميعا!!
واليك بعض هذه الأذكار:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من قال حين يصبح وحين يمسي: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضرّه شيء في ذلك اليوم" رواه الهيثمي في موراد الظمآن 2352.
من قال حين يصبح وحين يمسي:" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يلدغه عقرب ولا ثعبان" رواه أبو داود 3899 وابن ماجه 3518.
ومن خاف من الحسد يقرأ مع الأذكار الاخلاص والمعوذتين صباحا ومساء، فإن ذلك ينجيه من الحسد.(1/109)
من قال: " رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وجب على الله أن يرضيه في يومه ذلك" رواه أبو داود 2425 وابن ماجه 3870 والامام أحمد 3\107... ولهذا فإن الأخ المسلم ينبغي عليه أن يحفظ هذه الأذكار وان يحرص عليها، لما فيها من خير كثير.. ونفع عميم وجزاء عظيم.. ونحن نحفظ في حياتنا أشياء كثيرة ولغات عجة لا نفع لها في الآخرة، فهل نبخل بوقتنا وجهدنا على ما له نفع في الدنيا والاخرة معا؟!
ثالثا: أذكار اليوم والليلة أو اذكار المناسبات ومنها:
عند تناول الطعام: " بسم الله.. اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا منه وقنا عذاب النار".
عند الفراغ من الطعام:" الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة" رواه ابو داود 4023 والامام أحمد 3\439. و " الحمد لله الذي أطعمني وآواني وكفاني، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي".
عند الاستيقاظ من النوم:" الحمد لله الذي ردّ اليّ روحي وعافاني في جسدي واذن لي بذكره، الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني واليه النشور" رواه الهندي 21418.
وهكذا بقية المناسبات كعند دخول الخلاء والخروج منه، وأذكار الخروج من البيت ودخوله، ودخول المسجد والخروج منه.. وهذه الأذكار مبسوطة في كتب الأذكار ككتاب الأذكار للامام النووي والوابل الصيب لابن القيّم.
وليت الأخ يعلق هذه الأذكار في أماكنها المناسبة حتى يحفظها بسهولة، لأن فيها خيرا كثيرا من حرمه فقد حرم.. واليكم بعض أذكار المناسبات الأخرى:
عند الخروج من البيت:" بسم الله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة الا بالله.. اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل أو أذل أو أذل، أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ.. فمن قال ذلك قيل له هديت ووفين وكفيت، وتنحى عنه الشيطان". رواه أبو داود 5094 والترمذي 3427 وابن ماجه 3774.(1/110)
دعاء مباشرة الزوجة:" اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا.. فمن قال ذلك، وقضى الله له ولزوجه بولد لك يضره الشيطان أبدا" رواه البخاري 141 ومسلم 3519 وأبو داود 2161 والامام أحمد 1\243.!! سبحان الله.. ذكر واحد يقي الولد الشيطان.
وهناك كتب طيب للشيخ الغزالي رحمه الله اسمه " فن الذكر والدعاء"، ويقول فيه: إن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر لها فائدة ولها مدلول.. فمثلا دعاء النظر في المرآة:" اللهم كما حسنت خلقي حسن خُلقي" رواه ابن سعد في طبقات 1\2. لماذا هذا الدعاء بالذات؟ حتى لا يقول الداعي اذا نظر الى المرآة ليس هناك أجمل مني!! بل عليه أن يلتفت الى الخلق بجانب التفاته للخلقة، ثم يدعو الله أن يحسن أخلاقه وشمائله..
وإذا لبس أخوك ثوبا جديدا تدعو له قائلا:" البس جديدا وعش سعيدا ومت شهيدا" كأنه يقول له: البس جديدا واسعد ولكن لا يكن هذا غايتك وهدفك، بل اجعل هدفك الأسمى وغايتك العظمى أن تنال الشهادة في سبيل الله تعالى.
وفي السفر:" اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.." رواه الهندي 17623.. فحتى في سفر الدنيا والمنفعة يسأل الله الطاعة والتوفيق، ولا يمكن لمن سافر في معصية ان يتذكر هذا الدعاء، ثم يصرعلى معصية الله تعالى!!
ودعاء العودة من السفر:" آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون" لماذا؟! لأنك ستبدأ في بلدك صفحة جديدة بعد سفرك هذا، فابدأها بالتوبة النصوح والأوبة الى الله تعالى.
مسائل في الذكر والتسبيح:
قد يسأل أحد الاخوة عن استخدام المسبحة في الأذكار؟ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسم أنه دخل على أم المؤمنين السيدة أم يلمة رضي الله عنها فوجدها ممسكة ببعض الأحجار تسبح وتعد عليها.. فلم ينهها عن ذلك، اذ لا مانع من استخدام المسبحة، لأن في استخدامها اعانة على الذكر وتذكيرا به. ولو تضمن أنك يمكن ان تستخدم يدك وتحافظ على الأعداد كما تريد فلا مانع..(1/111)
السؤال الثاني أيهما أفضل الذكر بالقلب أم باللسان أم بكليهما؟ّ
الأفضل بكليهما، وما أجمل أن تضع نفسك موضع النبي صلى الله عليه وسلم وتتخيل كيف كان يؤدي هذه الأذكار.. واعلم ان لكل مقام مقالا، فاذا كنت بين الناس ولا تستطيع أن تحرك لشانك وفال، فلا بأس بذكر لقلب.. فأول المراتب القلب واللسان، ثم القلب، ثم اللسان وحده، وهذا أقل المراتب، وهو بلا شك أفضل من الغفلة بكثير، ومع الحفاظ على ذكر اللسان وتكراره يحضر القلب ان شاء الله.. ولو لم يحضر، فهذا أفضل بلا شك، من الانشغال بالمعاصي واللهو والفراغ.
فوائد الذكر:
ابن القيم ذكر في كتابه الوابل الصيب فوائد الذكر وعدّ مائة فائدة نذكر منها بعضها في عجالة:
يقول تعالى:{ ولذكر الله أكبر} العنكبوت 45، فالذكر يطرد الشيطان..
يزيل الهم والغم والكآبة والضيق عن الصدر ويجلب الفرح والسرور والاطمئنان والسكينة.
يقول تعالى:{ الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} الرعد28.
ينير الوجه والقلب ويكسو صاحبه مهابة وجلالا.
يقوي البدن.. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة رضي الله عنهما أن التسبيح 33 مرة والتحميد 33 مرة والتكبير 34 أفضل من خادم.
الذكر هو غذاء القلب وقوته.. يقول ابن القيم: دخلت مرة على أستاذي ابن تيمية رحمه الله فقال لي: الذكر للقلب كالماء للمسك.. ويقول: دخلت عليه مرة بعد صلاة الفجر فوجدته يذكر الله فتركته وعدت بعد ساعة فوجدته يذكر الله.. فعلت ذلك عدة مرات، وظل يذكر الله حتى انتصف النهار، فنظرت اليه متعجبا فقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدّ لسقطت قوتي.
الذكر أمان من النفاق؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله الا قليلا.
الذكر يزيل قسوة القلب. جاء رجل الى الحسن البصري رحمه اله فقال: أجد في قلبي قسوة، قال: أذبها بذكر الله..
الذكر يشغل اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب وسائر آفات اللسان..
الذكر يجلب الرزق.(1/112)
الذكر يفرج الكربة، خاصة اذا كان العبد يذكر ربه في السراء.. ولهذا فان سيدنا يونس لما التقمه الحوت قال ربنا عز وجل:{ فلولا أنه كان من المسبحين* للبث في بطنه الى يوم يبعثون} الصافات 143-144.. أي أنه كان يذكر ربه في السراء، حتى أن الملائكة قالت: يا رب صوت معروف من عبد معروف.
من ذكر الله ذكره. قال تعالى:{ فاذكروني أذكركم} البقرة 152. ولو لم يكن في فوائد الذكر سوى هذه لكفت.
الذكر مع البكاء سبب للاحتماء بظل الله يوم لا ظل الا ظله. قال صلى الله عليه وسلم في السبعة:" ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" رواه البخاري 660 ومسلم 2377 والترمذي 2391 والامام أحمد 2\439.
من فوائد الذكر التعرف على الله تعالى وحبه، لأن من ذكر الله أحبه الله تعالى.
الذكر باب الاحسان.. وأن يعبد لمرء ربه كأنه يراه..
الذكر علاج لقسوة القلب. ولذلك قال الشاعر:
اذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانا فتقسو
ذكر الله يلهم العبد الشهادة عند الموت.. لان الشهادة عند الموت شيء ليس سهلا.. فالكلمات تهرب من على اللسان، لذا يقول تعالى:{ يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} ابراهيم 27 قيل: أي عند الموت وعند الحساب.
ومعلوم ان من يشغل بشيء في حياته يموت عليه.. ومثال ذلك أن الذي يفتن بالدنيا وينشغل بها قد يهذي بها في موته.. وقد كان أحد التجار مشغولا جدا بتجارته ولما مات بدأ الناس يلقونه الشهادة: فيقول: أعطني الحقيبة، فيقولون لا اله الا الله، فيقول: يا أخي قلت لك هات الحقيبة.. ولما أفاق قال: كنت أجدها _يعني الشهادة _ ثقيلة على لساني!!
فهل يتمنى أحد منكم أن يوضع في هذا الموضع الصعب.
فضل القرآن
أيها الأحباب: القرآن العظيم هو كتاب الله الخالد ودستوره السماوي الجامع.. ولو اردنا أن نتحدث عن بعض فضله لما استطعنا ولضاق بنا المقام. والسؤال: كيف نفهم القرآن؟ وكيف نتعامل معه؟ كيف نتأثر به؟ كيف نعمل به؟..(1/113)
معلوم أن القرآن هو آخر كتاب سماوي انزله الله لأهل الأرض، وهو كلام الله الموحي الى نبيه صلى الله عليه وسلم.. خاتم النبيين.. فلذي يقرأ القرآن يجب ان يستحضر أنه يسمع كلام الله مباشرة.
ان القرآن يشكونا الى الله لأننها هجرناه ووضعناه فوق الأرفف وفي السيارات.. تعالوا بنا نتعرف على بعض فضل القرآن العظيم.
يقول تعالى:{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا} الاسراء 82.
ويقول سبحانه:{ وإنه لكتاب عزيز* لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} فصلت 41-42.
ويقول جل وعلا:{ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} النحل 89.
ويقول تعالى:{ قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء} فصلت 44.
والآيات غير هذه في فضل القرآن لكثيرة.. فالقرآن شفاء وهداية ورحمة ونور وفرقان وتبيان لكل شيء وبرهان.. فهل يستشعر المسلم كل هذه المعاني عندما يقرأ القرآن؟
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:" انها ستكون فتنة - أي ستحدث فتن شديدة _ يقول علي رضي الله عنه: قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال:" كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.. هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم.. من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر ومن دعا اليه هدي الى صراط مستقيم.. لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة.. ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأنقياء، ولا يبلى على كثرة الرد" رواه الدارمي 2\435.(1/114)
سبحان الله!! لا أحد يمل من قراءة القرآن مهما قراه، ولو قرأه بقلب حاضر وفكر ثاقب لخرج في كل مرة بمعان جديدة.. وفوائد جمة.. لا تنقضي عجائبه،، وهو الذي لم تنته الجن اذ سمعته حتى قالوا:{ انا سمعنا قرآنا عجبا* يهدي الى الرشد فآمنّا به} الجن 1-2.. سبحان الله!. الجن لما سمعت القرآن آمنت به! والناس الآن يرمون كل مصائبهم وكل أمراضهم على الجن!! هذا عن فضل القرآن.. فماذا عن فضل قراءته؟!..
فضل قراءة القرآن من السنة المطهرة:
يقول النبي صلى الله عليه وشلم:" اقرأوا القرآن فانه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" رواه مسلم 1871 والامام أحمد5\249. فتخيّل أن القرآن العظيم هو شفيعك يوم القيامة، لا أبوك ولا أمك ولا أخوك، ولا أحد من الصالحين.. بل ان شفيعك هو القرآن.. ونعم الشفيع القرآن.
ويقول صلى الله عليه وسلم:" يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران تحاجان هن صاحبهما" رواه مسلم 1873 والامام أحمد 4\183. أي تدافعان عنه وتشفعان فيه.
وفي حديث آخر..:" تأتي سورة البقرة وآل عمران كغمامتان أو أو كغيايتان أو كفرقان من طير صواف". رواه مسلم1871.. أي كالطيور المتراصة تحمي صاحبها من حر الشمس يوم القيامة.
ويقول سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم:" لا حسد ( أي لا غبطة) الا في اثنتين ( أي لا يتمنى المسلم أن يكون الا كمثل أحد الرجلين): رجل أتاه الله القرآن، فهو يقرؤه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" رواه البخاري 7529 ومسلم 1891 والترمذي 1936.
ويقول صلى الله عليه وسلم:" ان الذي ليس ي جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب".. فهل يرضى أحد بالخراب؟! وهل يتصور ان يمر على مسلم يوم لايقرأ فيه شيئا من القرآن؟! وإذا حدث هذا فما دليل ارتباطه بهذا الدين اذن؟ّ هل مجرد الاسم؟!(1/115)
ويقول صلى الله عليه وسلم:" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي 2910. وقوله تعالى:{ بسم الله الرحمن الرحيم} به 19 حرفا، اذن بتسع عشرة حسنة! إذن فكم من ثواب الربع وكم ثواب الجزء وكم ثواب القرآن الكريم كله؟! بحسبة بسيطة يمكن أن تحصّل 700 ألف حسنة في 35 دقيقة تقرأ فيها جزءا من القرآن!! فياله من فضل عظيم نحن عنه غافلون!
ويقول صلى الله عليه وسلم:".. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم الا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده". رواه مسلم 6793 وابو داود 1455. ويقول العلماء: وهذا الفضل ليس قاصرا على مجالس القرآن في المساجد فقط بل وفي البيوت أيضا! فما المانع أن نخصص ربع ساعة فقط أو نصف ساعة للقرآن وبقية وقت الزيارات المنزهة للحديث؟ّ.
ويقول صلى الله عليه وسلم:" أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" رواه الامام أحمد 3\138. يعني أولياء الله.. ومعنى أهل القرآن أي: الذين يحفظونه ويقرأونه دوما..
يقول صلى الله عليه وسلم:" يقال لصاحب القرآن: اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها" رواه أبو داود 1464 والترمذي 2914 والامام أحمد 2\192. وهذا الترقي يكون في درجات الجنة على قدر ما يحفظ من كتاب الله تعالى: والقراءة في الجنة تكون بتأن وترتيل وتمهل؛ لأنه لا عجلة كما كان العض يتعجل عند قراءة القرآن في الدنيا... وأكثر الناس قراءة للقرآن وحفظا له وعملا به في الدنيا، هم أعلى الناس درجات واسماهم منازل في الجنة.
هذه بعض وليس كل الأحاديث الواردة في فضل القرآن العظيم، والحديث الآن عن:
واجبنا نحو القرآن:
لا شك أن للقرآن حقا عظيما، بل حقوقا عظيمة علينا معشر المسلمين..
سيقتصر حديثنا على خمس واجبات، ليتنا نحصيها ونحفظها ونطبقها في حياتنا:(1/116)
الأول: كثرة القراءة وتحديد ورد ثابت كل يوم:
والسؤال: هل هناك مسلم لا يمكن أن يختم القرآن في حياته؟! هذه مصيبة كبرى! وأنا أسألك أيها القارئ الكريم: أتذكر آخر مرة ختمت فيها القرآن؟! أخشى أن تكون ختمة رمضان الماضي؟!.. وأن يكون مصحفك قد وضع على الرف بعد رمضان وعلاه التراب.. واحذر أن يشهد عليك القرآن أنك هجرته يوم القيامة!! وماذا تفعل لو لم تقرأ وردك اليومي؟!
بعض الصحابة كان اذا فاته ورده يبكي.. وقد دخلوا على أحدهم ذات مرة فوجدوه يبكي بشدة، فسألوه: أتشتكي وجعا؟ قال: أشد.. أشد، قالوا: وما ذاك؟ قال: نمت بالأمس ولم أقرأ وردي، وما ذلك الا بذنب أذنبته!!
ان كثيرا من الناس يقضون أوقاتا طويلة في قراءة الجرائد.. وقد ينزلون بالليل لكي يحصلوا على صحيفة الغد بتلهف واهتمام! فلماذا لا يحظى كتاب الله ولو بمثل هذا الاهتمام؟! أتزهد في ثواب القرآن؟؟؟؟! وبعض الناس يضيع وقته في التفكير والنظر الى لا شيء وإذا سئل يقول: لا أجد شيئا أعمله!! وهل نسي المسكين كتاب الله؟.
روي أن عبدالله بن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ فقال:" في ثلاثين" أي تقرأ كل يوم جزءا؛ فقال ابن عمر: في ثلاثين! إني أطيق أكثر من ذلك! (وانظر الى هذا النهم وهذا الحب وهذه اللهفة على قراءة القرآن) فقل:" ففي عشرين" قال: اني أجد قوة ( انا أقوى من هذا) قال:" ففي عشر"، فقال: فإني أطيق اكثر من ذلك! فقال:" ففي خمس" قال: يا رسول الله: إني أطيق أكثر من ذلك! قال صلى الله عليه وسلم:" في ثلاث ولا أقل من هذا".. وقال صلى الله عليه وسلم:" من قرأه في أقل من ثلاث لم يفقهه". رواه الامام أحمد 2\164.
ولهذا أيها الأحباب، لا ينبغي أن تكون مدة ختام المسلم للقرآن في أقل من ثلاث ولا في اكثر من شهر؛ طبقا للحديث السابق ذكره.(1/117)
ونحن لا نطالب بأن نكون كالصحابة.. الأمر يحتاج الى تدرج، ومن لا يقرأ القرآن وليس له ورد فليبدأ ولو بربع ثم بحزب ثم يجزء.. وإن استطاع أن يقرأ بعد ذلك جزئين أو ثلاثة في اليوم فبها نعمة وله ثواب الأجر:{ إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا} الكهف 30.
الثاني: تعلم قراءة القرآن:
وهذا الأمر ليس صعبا، فمعظم الناس قد يتعلمون الانجليزية أو الفرنسية، فلماذا يصعب عليهم تعلم القرآن الذي نزل بلغتهم وحديثهم اليومي؟! ولاذا يصير كلام الله الذي يقول عنه تعالى:{ ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مّدّكر} القمر 17 لماذا يصير صعبا عليك!!
لا شك أن كل واحد يعرف الاجابة عن هذا السؤال.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري 5027 وأبو داود 1452 والامام أحمد 1\58. فأحسن المسلمين من تعلم كيف كيف يقرأ القرآن ثم علمه لغيره..
ويقول صلى الله عليه وسلم:" الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" رواه البخاري 4937 ومسلم 1859 والترمذي 2904. (اجر القراءة وأجر المشقة)! ومعنى يتتعتع: أي يتلجلج ويضطرب.
وهناك سؤال: ما معنى تعلم القرأن؟!
معنى تعلم القرآن أن يقرأ المسلم القرآن بأحكامه: يمد الممدود وغن الغنة ويقلل القلقلة..؛ لأن المسلم مطالب أن يقرأ القرآن كما كان يقرؤه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والسؤال: أين تتعلم تجويد القرآن؟!
والاجابة على يد الشيخ في المسجد أو في بيتك أو في بيته.. والأمر كله لا يستغرق أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر!! وبها تصير مع الملائكة الكرام البررة، وبهذا يرقى المسلم وتزداد منزلته عند الله تعالى!(1/118)
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه:" أيكم يحب أن يغدو الى السوق فيأتي بناقتين زهراوتين" (أي جميلتين عظيمتين) " من غير إثم أو قطيعة رحم" ( من غير إسراف أو شجار مع أحد)؟ فقالوا: كلنا نحن ذلك يا رسول الله، فقال:" لئن تغدو الى المسجد فتتعلم الآيتين من القرآن كل يوم خير لك من أن تذهب الى السوق فتأخذ كذا وكذا" رواه مسلم 1870 وأبو داود 1456.، أي أن تعلم آيتين أفضل بمقاييس اليوم من الف جنيه على الأقل! فمن منا يعزف عن هذا الفضل وهذا الكرم العظيم؟!.
الثالث: التأثر عند قراءة القرآن:
يجب على المسلم أن يتأثر بالقرآن عند تلاوته ويتفاعل معه فيضطرب أو يهتز قلبه، ويشعر أن القرآن يتنزل عليه هو وفي لحظة قراءته، كما حكى الشاعر الكبير محمد إقبال قال: كان أبي يقول لي: يا بني اقرأ القرآن وكأنما عليك أنزل!! وبهذا يذوق المسلم حلاوة القرآن ويستشعر عظمته..
وهذا هو الرسول الأكرم والمعلم الأعظم يضرب المثل والقدوة في التأثر بالقرآن والتجاوب مع آياته الكريمة، قال يوما لعبدالله بن مسعود:" اقرأ عليّ القرآن"، فيقول ابن مسعود: يا رسول الله: أأقرأ عليك وعليك انزل؟ فقال:" إني أحب أن أسمعه من غيري" رواه البخاري 5049 ومسلم 1864 وأبوداود 3668، فجلست أقرأ عليه سورة النساء، حتى وصلت الى قول الله عز وجل:" فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} النساء 41، فقال له صلى الله عليه وسلم:" حسبك الآن" أي كفى، فنظرت اليه فإذا عيناه تذرفان (أي يبكي من التأثر بالقرآن والتعايش معه؛ إذ علم أنه صلى الله عليه وسلم المقصود والمعني بهذه الأية).
وأنا أسألك أخي القارئ العزيز: هل بكيت وأنت تقرأ القرىن ذات مرة؟!.(1/119)
وهذا صحابي آخر يقول: كنا نسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في الصلاة أزيزا كأزيز المرجل من البكاء (أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحدث مثل الهزة عند القراءة لشدة تأثره بها، وأزيز المرجل هو صوت الاناء الذي يغلي به الماء)!!
وهذا هو الصديق رضي الله عنه تلميذ النبي الأول ورفيقه في حياته وبعد مماته، لما اشتكى النبي صلى الله عليه سلم مرضه الذي مات فيه قال لآل بيته:"مروا أبا بكر فليصل باناس" رواه البخاري 664 ومسلم 940 وأبوداود 1232 والامام أحمد الحديث 4\412.، فكأنهم تعجبوا من ذلك وقالوا يا رسول الله:" غن أبا بكر رجل أسيف ( شديد التأثر بالقرآن ) إذا قرأ القرآن بكى!!
وهذا سيدنا عمر رضي الله عنه كان يسير في الطريق ذات يوم فسمع رجلا يقرأ قوله تعالى من سورة الطور:{ إنّ عذاب ربك لواقع*ماله من دافع}.. فسقط مغشيّا عليه، فحمله الناس الى بيته وظلوا يزرونه شهرا، يظنون أن به مرضا، وما به مرض بل شدة الخوف من الله تعالى واستحضار لمشهد يوم القيامة العظيم، وشدة عذاب الله تعالى للكافرين.
وجاء وفد اليمن الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعوا قرآنا فبكوا كلهم، فنظر اليهم الصديق رضي الله عنه وقال: كنا كذلك قبل ان تقسو القلوب! الصديق رضي الله عنه يتحدث عن قسوة القلوب! فماذا نحن قائلون؟ وماذا نحن فاعلون؟!
وهذا عبّاد بن بشر رضي الله عنه يقف على حراسة المسلمين ذات ليلة ومعه عمار بن ياسر؛ فقام عبّاد يصلي، فبينما هو كذلك أتىأحد الكفار فضربه بسهم في كتفه فلم يخرج من صلاته، بل نزع السهم واستغرق في صلاته وتلذذه بالقرآن المجيد، فرماه الكافر بسهم آخر فنزعه وعاد الى صلاته وقراءته! فرماه بثالث فلم يستطع ان يتحمل شدة الجروح وكثرة الدماء فركع وسجد ثم أيقظ عمارا رضي الله عنه، فساله عمار: لما لم توقظن من أول سهم! فقال : كنت في سورة من القرآن، لخروج روحي أحب اليّ من أن أدعها!!(1/120)
فهل شعر أحد منكم بلذة القرآن وحلاوته؟ هل دخل أحدكم مرة في صلاة لقيام وكان ينوي أن يصلي بربع فإذا به لا يستطيع مقاومة حلاوة القرآن فقرأ أكثر من ذلك واستمتع بالقرآن ومناجاة الرحمن؟!.
وهذا التابعي الجليل الأحنف بن قيس رحمه الله كان يقرأ قوله تعالى:{ لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون} النبياء 10 أي فيه أخباركم وصفاتكم وافعالكم، يقول: فأفتح القرآن وأنظر واقول: أرى بماذا يذكرني ربي اليوم.. فيقرأ ويقرأ حتى يمر بقوله تعالى:{ إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار} النساء 145، فيقول: لست من هؤلاء، لست من هؤلاء.. وعندما يقرأ قوله تعالى:{ إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} الأنفال 2. فيندم ويقول: لست من هلاء!
ويقرأ قوله تعالى:{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم} التوبة 102 فيقول: أنا من هؤلاء، أنا من هؤلاء!.
فانظر الى تفاعل هذا التابعي الجليل مع القرآن العظيم، وهكذا يجب أن أدب المسلم مع القرآن دائما. وقد قيل إذا سمعت قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا} فأنصت، فإنه إما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه.
والناس يتفاوتون في التجاوب مع القرآن، ونرى هذا واضحا في شهر رمضان، لا سيما في صلاة التهجد، فبعضهم يتأثر ولا يبكي وبعضهم لا يتأثر ولا يبكي، والعجب أنك قد ترى رجلا غير عربي باكستانيا أو بنغاليا مثلا، ومع ذلك يبكي عند سماع القرآن، وسبحان الله.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والقلب إذا قسا لا يتأثر بالقرآن. يقول تعالى عن اليهود في سورة البقرة:{ ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} البقرة 74 الى آخر الآية.(1/121)
ويتحدث النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يصف احوال قلوبنا التي قلما تتأثر الآن بالقرآن فيقول:" سبيلي القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيقرؤونه لا يجدون له لذة، وان قصروا قالوا: سنبلغ ( أي سنصل الى ما نريد)، وإن أساؤوا قالوا: سيفغر لنا" رواه الدرامي 2\439.
الرابع: تدبر القرآن:
سبق أن ذكرنا واجبين من واجبات المسلم نحو القرآن وهما القراءة والتعلم.. والواجب الثالث هو القراءة بتدبر.. ومن فضل الله علينا أن القرآن نزل بلسان عربي مبين سهل واضح.. واسمع مثلا الى قوله تعالى:{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة الا يعلمها} الأنعام59.. آية بيّنة واضحة تتحدث عن علم الله المحيط، ومن قرأها لا بد أن يحس بعظمة الله تعالى وقدرته.. وإن لم يحس بهذا فايعلم أن لم يتدبر الآية وأنه قرأها بقلب غافل ساه.
ومن لا يتدبر القرآن لا شك أن على قلبه قفلا. قال تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قولب أقفالها}؟! محمد 24. ويقول تعالى:{ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله} الزمر23.
وبعض الواسائل المعينة على تدبر القرآن، قراءة بعض تفاسير القرآن لمعرفة ما قد يغمض منه من كلمات أو يدق من معان، ويفضل أن نبدأ بتفسير ابن كثير فهو تفسير بسيط، فإن أردت أن تستزيد فاقرأ في ظلال القرآن.
الخامس: مراجعة ما نحفظ من القرآن:
فلا يصح لمسلم أن يحفظ كلام الله ثم ينساه، ومما يعين على الحفظ كثرة المراجعة والصلاة بما تحفظ خاصة في قيام الليل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" عرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أجد ذنبا أعظم من سورة أو آية أوتيها رجل ثم نسيها".. رواه أبو داود 461 والترمذي 1916... وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان لصعوبة موقف المسلم الذي لا يعتني بالقرآن العناية الواجبة، فينساه بعد أن يحفظه.(1/122)
ويقول صلى الله عليه وسلم:" نعاهدوا هذا القرآن ( أي احرصوا على قراءته ومراجعته) فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتا من الابل في عقلها". رواه البخاري 5033 ومسلم 1841 والامام أحمد 4\397.
ويفضل لمن لا يحفظ شيئا من القرآن أو من يودّ الحفظ بشكل منتطم أن يبدأ من سورة الناس.. وحبذا لو حرصت على قراءة تفسير ما تقرأ أو تحفظ، لأن معرفة التفسير من الوسائل المعينة على تثبيت الحفظ وسرعة التذكر.. وأكرر نصيحتي لك بأن تحرص على أن تقوم الليل بما تحفظ من القرآن.
السادس: العمل بالقرآن:
من واجبات المسلم نحو القرآن العمل به، أي بأوامره ونواهيه، يقول صلى الله عليه وسلم:" والقرآن حجة لك أو عليك" رواه ابن ماجه 280 والنسائي 2436 والامام أحمد 5\343.. ويكون حجة عليك عندما تقرؤه فلا يتجاوز آذانك ولا ينعكس على سلوكياتك وتصرّفاتك..
ولا تنس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن.. أي كان يحرص على تطبيق ما في القرآن.
واعلم أن سيدنا عمر رضي الله عنه حفظ سورة البقرة في ثماني سنوات، لأنه كان يحرص على العلم والعمل معا...
ويقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: كنا نتعلم العشر آيات من القرآن فلا ندعها حتى نعمل بها، أو فلا نجازوها الى غيرها حتى نعمل بها، فتعلمنا العلم والعمل جميعا.(1/123)
ولأن الصحابة كانوا يفقهون آيات القرآن ويعيشون معها كانوا يسارعون الى طاعة أوامر الله عز وجل واجتناب نواهيه.. ولهذا لما نزلت آيات النهي عن شرب الخمر سكب المسلمون ما عندهم من أواني الخمر حتى امتلأت بها سكك المدينة، أي شوارعها وطرقاتها وقالوا: انتهينا يا ربنا. وكذلك آيات الحجاب.. لما نزلت سارعت نساء الأنصار الى أثوابهن وجعلن منها حجابا كما أمر الله تعالى.. وكذلك عندما نزلت آيات الزكاة والصدقة.. ومثال ذلك لما نزل قوله تعالى في سورة آل عمران:{ لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون} آل عمران 92، قام سيدنا أبو الدحداح الى أجمل حديقة عنده وأحبّها الى اليه وتصدق بها.. والفرق بيننا وبين الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتلقون القرآن للعمل والتنفيذ، أما نحن فللأسف نتلقاه للاستماع والاعجاب فقط، وقلما يلتزم أحد الآن بواجباته كلها نحو القرآن العظيم.
ويا لسوء عاقبة من ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:{ وقال الرسول ياربّ إنّ قموي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} الفرقان 30. فهل تحب أو تتحمل أن يشكوك الرسول صلى الله عليه وسلم الى ربك وخالقك ورازقك تعالى؟! انه لموقف عصيب شديد.
كيف نفهم القرآن؟!
من فضل الله تعالى أنه أنزل القرآن بلسان عربي مبين.. ولذا فإن العرب سيكونون أشد الناس حسابا على القرآن يوم القيامة.. واللغة العربية هي لغة أهل الجنة، واللغة العربية ثرية بألفاظها ومفرداتها وتراكبيها.. وأصول الكلمات في اللغة العربية 50 ألف كلمة، بينما في الانجليزية هي فقط 20 ألفا..
فمثلا كلمة حبيب.. أقصى عدد من الاشتقاقات لها في الانجليزية اثنا عشر اشتقاقا، بينما تصل في العربية الى ما بين 40 و45 اشتقاقا..(1/124)
ومعلوم أن اللغة العربية استفادت كثيرا من القرآن، ولولا ذلك لانتهت هذه اللغة أو أوشكت، فالقرآن هو الذي حفظ لهذه اللغة بقاءها ونماءها وتطورها وتجددها وحيويتها، ومعلوم أن لغات أوروبا كلها أصلها اللاتينية، ولكن لما انقسمت وتعددت دول أوروبا ظهرات عشرات اللغات فيها كالفرنسية والألمانية والبرتغالية والاسبانية..، وكلها متداخلة مع بعضها، لأنه ليس بينهما رابط، أما اللغة العربية فبقيت محفوظة ببقاء القرآن، وإن تعددت اللهجات. ولكن إذا تحدثت بالعربية الفصحى يفهمك أخوك العربي في أي مكان. ولهذا فإن علينا أن نفخر بإنتمائنا للأمة العربية وللدين الاسلامي معا.. وعلينا أن نحرص على التحدث بها، ولا نستحي منها، ولا يكون عندنا عقدة نقص فنتشدق ببعض الكلمات الأجنبية التي نحفظها ونهجر العربية، لغة القرآن.
محاور القرآن الكريم
هناك خمس محاور اي موضوعات رئيسية كبرى يدور حولها القرآن الكريم ويمكن تفصيلها كالآتي:
المحور الأول: معرفة الله عز وجل:
أي معرفة أسمائه وصفاته وقدراته وملكه، وحبه والخوف منه.. وهناك مئات الآيات التي تتحدث عن قدرة الله تعالى وتختم باسم أو اكثر من أسمائه الحسنى لترسيخ المعنى المراد في الاية الكريمة.
المحور الثاني: معرفة سبب وجودك في الحياة:
وكيف خلقت وكيف نشأت، وكيف بدأ الكون، ولهذا فإن قصة آدم عليه السلام تكررت عشرات المرات في القرآن لكي نتذكر هذا المعنى جيدا.
المحور الثالث: معرفة نعم الله وفضله علينا:
وهناك عشرات الآيات التي تتحدث في فضل الله تعالى ونعمه على عباده، وهي لا تعد ولا تحصى.
المحور الرابع: معرفة الانسان مصيره ونهايته:
وتتناول ذلك في القرآن آيات الجنة والنار والحساب والصراط والميزان..
المحور الخامس: إصلاح حياة البشر:(1/125)
وتتناول ذلك الآيات التي تتحدث عن الشرائع والأخلاق وقصص الأنبياء وغيرها من الوسائل التي تضبط حياة البشر.. ومعلوم أن شريعة الاسلام وأحكامه صالحة لكل زمان ومكان وأن أهدافها خمسة هي: حفظ الدين والعرض والنسل والمال والعقل.
ومعلوم أن الغرب يعيش عيشة مترفة لأنه لا يعرف الغاية التي من أجلها خلق، ولهذا فإنه لا رقيب على أفعاله، أو بمعنى ادق لا يراقب الله ولا يخافه، هذا إن كان يعترف أن له ربا وخالقا. وبالطبع لا يمكن أن يستوعب قوله تعالى:{ وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون} الذاريات 56، وقوله تعالى:{ قل انّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} الأنعام162.
ومن مميزات القرآن الكريم الشمول..
يقول تعالى:{ ما فرّطنا في الكتاب من شيء} الأنعام 28. ويقول:{ ونزلنا عليك الكتاب بالحق تبيانا لكل شيء} النحل 89. فقد حوى القرآن الكريم كل الأمور التي تهم المسلم في حياته بل وبعدموته من زواج وطلاق وميراث.. حتى أنه تحدث عن العلاقات الدولية.. فالاسلام دين جامع لكل خصال البر. والقرآن يخاطب العقل والعاطفة معا.. ومن نماذج الخطاب العاطفي:{ يا أيها الانسان ما غرّك بربّك الكريم* الذي خلقك فسوّاك فعدلك} الانفطار 6-7.. وقال تعالى:{ ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب اليه من حبل الوريد* إذا يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد* وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} ق 16=19.
ومن نماذج الخطاب العقلاني في القرآن قوله تعالى:{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} الأنبياء 22. وكذلك قوله تعالى:{ أفرأيتم ما تمنون* أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} الوقعة 58-59.(1/126)
ان معجزات الأنبياء السابقين كانت موقوتة بحياتهم، أما معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي القرآن الكريم فهي باقية الى يوم الدين. . وقد تحدى الله الكفار أن يأتوا ولو بسورة واحدة من القرآن، وهيهات أن يفعلوا ذلك.. واعجازات القرآن متعددة، منها ما ذكرنا من استحالة إتيان أحد مثله أو بعضه أو سورة منه، مثل قوله تعالى:{ قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} الاسراء88، ومن أنواع الاعجاز كذلك الاعجاز البلاغي، والاعجاز العلمي، والاعجاز الرقمي والاعجاز التشريعي والاصلاحي. وسنتناول هذه الأنواع بشيء من التفصيل:
أولا: الاعجاز البلاغي أو البياني:
رغم أن العرب أوتوا الفصحى والبلاغة وكانوا أهل بيان وكان منهم شعراء وأدباء، وكان عندهم سوق عكاظ الذي يتبارون فيه في ميدان الفصاحة والبيان، ومع ذلك لم يستطع أحدهم أن يأتي بآية واحدة معجزة مثل آي القرآن، لأن أسلوب القرآن ليس له مثيل في الدنيا.. وتركيبات القرآن تختلف عن غيره من التركيبات، ومثال ذلك قوله تعالى:{ الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة} النور35.
وهاهو عمر بن الخطاب قبل اسلامه قد استل سيفه وتوجه لقتل النبي صلى الله عليه وسلم, وما إن يسمع كلام الله تعالى من أول سورة طه،{ طه*ماأنزلنا اليك القلاآن لتشقى* إلا تذكرة لمن يخشى* تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى* الرحمن على العرش استوى* له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى*وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السرّ وأخفى* الله لا اله الا هو له الأسماء الحسنى} طه 1-8 حتى يعترف بإعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.(1/127)
ومن امثلة الاعجاز البلاغي في القرآن العظيم قوله تعالى، حاكيا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام:{ الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين*وإذا مرضت فهو يشفين* والذي يميتني ثم يحيين} الشعراء 78-81. ففي قوله:{ يميتني ثم يحيين} لم يقل "هو"، لأن لا يشك حتى الكافر في ان الله تعالى هو المحيي والمميت، وفي قوله: {هو يطعمني}،{فهو يشفين}، ذكر لفظ هو، لأنه قد يشك الكافر أو ضعيف الايمان أن الذي يطعمه ويشفيه هو الله تعالى، لذا اتى بلفظ "هو" لتأكيد المعنى.
وكذلك عند الحديث عن أبواب الجنة وأبواب النار في آخر سورة الزمر، عند أبواب النار قال:{ فتحت} أما عند الحديث عن الجنة قال:{ وفتحت{.. لأن المؤمنين يرون الجنة من بعيد ويأتون اليها بتمهل فيجدون أبوابها مفتحة ومهيأة لاستقبالهم، كما قال سبحانه:{ جنات عدن مفتّحة لهم الأبواب} ص50. على عكس الكفار يفاجأون بالعذاب وبأبواب النار تفتح فتخرج منها ألسنة النيران، ويسمعون تغيظها وزفيرها.. كما أخبر الحق جل وعلا في كتابه الكريم:{ بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا* إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيّظا وزفيرا} الفرقان 11-12.
ونجد في القرآن قوله تعالى عند الحديث عن الصبر تارة:{ واصبر على ما أذابك ان ذلك من عزم الأمور} لقمان17. وأخرى{ان ذلك من عزم الأمور} الشورى 43، والكلام للتأكيد... ويكون الصبر هنا أشد وآكد لأن الأذى يكون قبل الكفار والفاسقين، لا ابتلاء من قبل الله تعالى.
والقرآنيستخدم أيضا لفظتي " امرأة" و" زوجة" ولكل لفظ مدلوله الخاص به.. فمثلا سيدنا زكريا يقول قبل ان ينجب:{ وكانت امرأتي عاقرا} مريم5 وبعد ما ينجب يقول تعالى عنه:{ وأصلحنا له زوجه} الأنبياء90 لأن العلاقة تتأصل وتتوثق بالانجاب.(1/128)
كذلك تتأثر حروف القرآن -ثقلا وخفة- بالمعنى المذكور في الآية.. ففي آية الحديث عن الجهاد وعند لوم الله للمؤمنين يقول:{ يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم أنفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الأرض} التوبة 38. فانظر الى لفظ {اثاقلتم} تجده لفظا عجيبا، ويعبر عن شدة القعود والتثاقل والتكاسل عن القتال.. وهكذا بعكس لفظ { أنفروا} فهو خفيف في لفظه ومعناه معا.. أو في مبناه وفي معناه!
وهناك نموذج آخر في سورة الناس:{ قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* اله الناس*من شر الوسواس الخنّاس*الذي يوسوس في صدور الناس* من الجنة والناس} سورة الناس، فالشيطان بطبيعته لحوح وكثير الوسوسة.. والواو والسين- من أجل التعبير عن هذا المعنى- يتكرر كثير في السورة كلها... وكذلك سورة الزلزلة.. كلماتها وحروفها تتفق مع المعنى اتفاقا بّينا لا يحتاج الى دليل. وكذلك كلمات "الحاقة" و"الطامة" و"الصاخة" فيها مد لأنها تعبّر عن طول يوم القيامة ومشقته وصعوبته.. وهكذا كلمة "كافة" فيها مد، لأنها تعبر عن سعة الخلق وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث اليهم جميعا في قوله تعالى:{ وما أرسلناك الا كافة للناس} سبأ 28 وكذلك قوله تعالى:{ ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك} لقمنا 14. نجد الآية بدأت بلفظ الوالدين وختمت به، وبينهما " أمه"، لماذا؟ لأن الأب لن ترى نعمه وفضله عليك إلا بعد الكبر، أما الأم فترى فضلها منذ ولادتك وطول حياتك وفي كل وقت وحين..
ومثلا سورة مريم مليئة بالحب والعطف والحنان والرقة ورحمة الله، وخواتيم الآيات تعبّر عن هذا جيدا من أولها الى آخرها تقريبا {كهيعص*ذكر رحمت ربك عبده زكريا}.(1/129)
وعلى العكس من ذلك سورة المدثر، آياتها قصيرة وإيقاعها سريع وخواتيمها قوية، لأنه مما يحث النبي صلى الله عليه وسلم على التحرك بهذه الدعوة والسعي في سبيلها والعمل على نشرها، وتنهاه عن التراخي أو التكاسل..{ يا أيها المدثر* قم فأنذر* وربّك فكبّر* وثيابك فطهّر* والرجز فاهجر} المدثر 1-5.
وفي بعض الأحيان يأتي الفعل بالماضي ليفيد المستقبل، وهذا يعني تحقيق وقوع الفعل وحدوثه في علم الله عز وجل، مثل قوله تعالى:{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه} النحل 1 وقوله {إنّا أعطيناك الكوثر}.. أي سنعطيك إيّاه بلا شك ولا ريب..
وهذه بعض النماذج ولا نود الاستطراد أكثر من هذا.
ثانيا: الاعجاز التصويري أو التعبيري:
فنحن عندما نقرأ القرآن نحس بأننا نرى المشاهد حية متحركة والأشخاص أحياء يتحركون ويتحدثون ويروحون ويجيئون أمامنا.
وأوضح مثال على ذلك الحديث عن الجنة والنار.. يقول تعالى عن يوم القيامة:{ يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا} المزمل14. فكأنك ترى الأرض ترجف وتهتز أمام عينيك.. وكذلك الجبال.. كأنها تتفتت وتخر فتنسف نسفا. ويقول تعالى عن النار:{ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيّظا وزفيرا} الفرقان12، فكأن النار إنسان يحس ويغتاظ ويزفر غضبا وحنقا على هؤلاء الذين عصوا الله ورسوله، وكذلك قوله تعالى:{ وجيئ يومئذ بجهنم} الفجر23. فتتخيل النار وكأنها تجر أمامك والملائكة هم الذين يجرّونها كما بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح.
وكذلك عند الحديث عن أهل النار يقول سبحانه:{ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفيّ} الشورى 45. وقوله تعالى:{ ألقيا في جهنم كل كفار عنيد* منّاع للخير معتد مريب} ق 24-25. وبقية الآيات في سورة (ق) تعبّر عن الحركة والخوف والندم في مشهد موح معبّر. وأنصح بقراء كتاب "التصوير الفني في القرآن" للشهيد سيد قطب.
ثالثا: الاعجاز العلمي في القرآن:(1/130)
يقول تعالى:{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق} فصلت، قال تعالى:{ الآفاق} بصيغة الجمع وكذلك {أنفسهم} و{لهم}.. فالآيات كثيرة وفي أنفس الناس جميعا، وسوف يبين الحق واضحا أبلج أمام أعين الجميع لا ينكره إلا جاحد أو مكابر.
وهناك آيات قرآنية تحدثت عن أحداث أو آيات كونية أثبتها العلم الحديث مثل قوله تعالى:{ أولم ير الذين كفروا أن السموات والآرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} الأنبياء 30.
فقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة، وهي أن السموات والأرض كانت فعلا ملتصقتين ببعضهما، وبفعل تفاعلات معينة حدث هذا الانفتاق، فمن أخبر النبي الأمي بهذه الحقيقة المبهرة والمعجزة الواضحة؟ إنه الله تعالى.
ويقول سبحانه:{ وجعلنا السماء سقفا محفوظا} الأنبياء32. ويثبت العلم الحديث أنه لولا الغلاف الجوي لتهشمت الأرض!
ويقول سبحانه:{ فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} الرحمن37. وينشر في الأهرام 20\2\2001 أن مصوّرين التقطوا صورة لنجم انفجر في السماء فكان يتحول الى اللون الأحمر ويصير على شكل وردة.
وقال تعالى:{ والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون} الذاريات47. ويثبت العلم أن الكون ليس واقفا أو ثابتا، بل إنه يتحرك ويتسع بشكل مهول وبصورة غير عادية.
رابعا: الاعجاز الرقمي في القرآن:
من ذلك مشتقات الشدة والتعرض للشدائد، فقد وردت في القرآن 114 مرة وكلمة صبر ومشتقاتها مثل ذلك 114، وكلمة رجل ومشتقاتها 24 مرة وكذلك لفظامرأة ومشتقاته.. وكلمة شهر ومشتقاتها 12 مرة، وكلمة يوم 365 مرة وكلمة ابليس 11 مرة والاستعاذة منه كذلك 11 مرة، وكلمة زكاة 32 مرة، وكلمة بركة ومشتقاتها 32 مرة، كذلك.. والعقل ومستقاته 49 مرة والنور ومشتقاته مثل ذلك!!!
خامسا: الاعجاز الاصلاحي والتشريعي:(1/131)
وهذا من أعظم أنواع الاعجاز. وقد تحقق هذا الاعجاز على أرض الواقع منذ زمن بعيد، فانتقل العرب من أقوام فقراء جياع حفاة عراة الى سادة الدنيا وملوكها.. وهذه هي معجزة الاسلام الذي يمد المسلم بطاقة هائلة تصنع المعجزات. وما زال هذا الاعجاز قائما الى يومنا هذا سواء في الحدود أو الحقوق الزوجية أو المعاملات المالية أو غيرها من أوجه التشريع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. في الاسلام.
ونحن نريد أن نرى الاسلام كائنا يتحرك بيننا، وذلك بتطبيقه في حياتنا وتمثل أحكامه وأوامره ونواهيه.. ونصر الله قادم، فلنحرص على أن نكون جنودا في جيش النصر.. من خلال التمسك بالحق والعمل به والدعوة اليه.. وتذكر أخي القارئ دائما قوله تعالى:{ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} النور 40.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلف
تم نقل هذا الكتاب على برنامج الوينورد من قبل مشرف موقع الاسلامي
الحقوق محفوظة لكل المسلمين
وانتهى الطبع في 21 أيلول 200 م(1/132)