بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يحب من عباده من اصطفاه لقربه وحباه بوده ، نحمده تعالى حمد الفقراء إليه هو ربنا الغني الحميد
ونشكر له شكر السائلين من فضله المزيد ، شاهدين أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد
بيده الخير وإليه المصير وهو على كل شيء قدير،( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وأن سيدنا محمدا عبده
المجتبى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله الأبرار الطاهرين وصحابته الأخيار السابقين وعلى كل من
آثارَهم اقتفى وعلى سبيلهم سار إلى يوم القيام للوقوف بين يدي الواحد القهار العزيز الغفار.
أما بعد:
فهذا كتاب جمعت فيه ما يسر الله لي- له الحمد وله الشكر - من تفسيرٍ لآيات " المحبة " وذلك عبر جولة مباركة في رحاب كتب التفسير المشهورة لأعلام هذا الفن ( ابن كثير - القرطبي -السيوطي - الشوكاني -السعدي - البغوي -أبو السعود - الرازي - ابن عطية - السمرقندي -....) وغيرهم رحمهم الله أجمعين ، وأتبعت كل آية بعد تفسيرها بوقفة مع عالم من العلماء البارزين حول كلمة وردت في الآية نفسها أو في حديث نبوي ذكر خلال التفسير. وختمت بشرح حديثين = 1- إذا أحب اللهُ العبدَ ...2- من عادى لي ولياً ....= وذلك من فتح الباري لابن حجر والمنهاج للنووي مع بعض الإضافات من فيض القدير للمناوي رحمهم الله .وأتبعت الكل بجملة من الأحاديث ذكَر فيها رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا صفات وخصال عباد يحبهم الله.... وسميته : عبادٌ يحبُّهم الغفّار من الكتاب والسُّنة والآثار.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)(1/1)
أسال الله العلي العظيم أن يجعله خالصاَ لوجهه الكريم وأن ينفع به القراء زوار هذا الموقع المميز أعان الله القائمين عليه وسددهم وبارك فيهم وفي مجهوداتهم ...( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)
- أبو يوسف محمد زايد -
عِبَادٌ يُحِبُّهُمُ الْغَفَّار
عِبَادٌ يُحِبُّهُمُ اللَّه
من الكتاب والسنة والآثار
أبو يوسف محمد زايد
* * تفسير آيات المحبة * *
1-(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة : 195
*ابن كثير - قال البخاري: حدثناإسحاق أخبرنا النضر, أخبرنا شعبة عن سليمان, سمعت أبا وائل عن حذيقة {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: نزلت في النفقة, ,
- وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه, ومعنا أبو أيوب الأنصاري, فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة, فقال أبو أيوب نحن أعلم بهذه الاَية, إنما نزلت فينا, صحبنا رسول الله ( وشهدنا معه المشاهد ونصرناه, فلما فشا الإسلام وظهر, اجتمعنا معشر الأنصار نجياً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ( ونصره, حتى فشا الإسلام وكثر أهله, وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد, وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا, فنقيم فيهما, فنزل فينا {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد, في تفسيره, وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده, وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه, كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به,(1/2)
-وقال الترمذي حسن صحيح غريب, وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر, وعلى أهل الشام رجل يُريدُ فضالة بن عبيد, فخرج من المدينة صف عظيم من الروم, فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم, ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه, فقالوا سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس, إنكم لتتأولون هذه الاَية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار, إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه, قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فاصلحناها, فأنزل الله هذه الاَية,
- وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي, قال: قال رجل للبراء بن عازب, إن حملت على العدو وحدي فقتلوني, أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال: لا, قال الله لرسوله: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} وإنما هذه في النفقة, رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه, من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق به, وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء, فذكره وقال بعد قوله {لا تكلف إلا نفسك}, ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب,(1/3)
-وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح, كاتب الليث, حدثني الليث, حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث, أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة, فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل, فعاب ذلك عليه المسلمون, ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص, فأرسل إليه عمرو فرده, وقال عمرو: قال الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, -وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, في قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, قال: ليس ذلك في القتال, إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة,
-قال حماد بن سلمة, عن داود, عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير, قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم, فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله, فنزلت: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
-وقال الحسن البصري {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: هو البخل,
وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير, في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر لي, فأنزل الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} رواه ابن مردويه,
-وقال ابن أبي حاتم, وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك, يعني نحو قول النعمان بن بشير, أنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له, فيلقي بيده إلى التهلكة, أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: التهلكة عذاب الله,(1/4)
- وقال ابن أبي حاتم وابن جرير, جميعاً حدثنا يونس حدثنا ابن وهب, أخبرني أبو صخر عن القرظي محمد بن كعب, أنه كان يقول في هذه الاَية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: كان القوم في سبيل الله, فيتزود الرجل, فكان أفضل زاداً من الاَخر, أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء, أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة},
-وقال ابن وهب أيضاً: أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وذلك أن رجالاً يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله (, بغير نفقة, فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالاً, فأمرهم الله أن يستنفقوا من المشي. وقال لمن بيده فضل {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.
= ومضمون الاَية الأمر بالإنفاق في سبيل الله, في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات, وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء, وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم, والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده, ثم عطف بالأمر بالإحسان, وهو أعلى مقامات الطاعة, فقال: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.(1/5)
*القرطبي روى البخاري عن حذيفة: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: "وأنفقوا في سبيل الله" الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك .
قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: "كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله (: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه (يرد عليه ما قلنا: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح".(1/6)
-وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي، ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم.
-قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شيء.
-وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله ( لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بماذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله" يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل.
-ومعنى قول ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا.
-وقول رابع - قيل للبراء بن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقاله عبيدة السلماني.
-وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. "سبيل الله" هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في "بأيديكم" زائدة، التقدير تلقوا أيديكم. ونظيره: "ألم يعلم بأن الله يرى" [العلق: 14]. وقال المبرد: "بأيديكم" أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: "فبما كسبت أيديكم"، [الشورى: 30]، "بما قدمت يداك" [الحج: 10].(1/7)
-وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبدالمطلب: [والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز]
-وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم. وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة. ويقال: "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" [البقرة: 267] وقال الطبري: قوله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله.(1/8)
اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فان لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" [البقرة: 207]. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة؟؟ وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.(1/9)
قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي (: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: (فلك الجنة). فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة). فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا). هكذا الرواية (أنصفنا) بسكون الفاء (أصحابنا) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم.(1/10)
-وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" [التوبة: 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" [لقمان: 17]. وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي ( أنه قال: (أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله).
قوله تعالى: "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم. وقيل: "أحسنوا" في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.(1/11)
*البغوي قوله تعالى: " وأنفقوا في سبيل الله " أراد به الجهاد وكل خير هو في سبيل الله، ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قيل: الباء في قوله تعالى " بأيديكم " زائدة، يريد: ولا تلقوا أيديكم، أي أنفسكم " إلى التهلكة " عبر عن النفس بالأيدي كقوله تعالى " بما كسبت أيديكم " (30-الشورى) أي بما كسبتم، وقيل الباء في موضعها، وفيه حذف، أي لاتلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك، وقيل: التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك، أي ولا تأخذوا في ذلك، وقيل: التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه، والهلاك مالا يمكن الاحتراز عنه، والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلا في الشرك، واختلفوا في تأويل هذه الآية فقال بعضهم: هذا في البخل وترك الإنفاق. يقول " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " بترك الإنفاق في سبيل
- وقال: سعيد بن المسيب و مقاتل بن حيان : لما أمر الله تعالى بالإنفاق قال رجل: أمرنا بالنفقة في سبيل الله، ولو انفقنا أموالنا بقينا فقراء، فأنزل الله هذه الآية،
-وقال مجاهد فيها: لا يمنعنكم من نفقة في حق خيفة العيلة... عن عياض بن غضيف قال: أتينا أبا عبيدة نعوده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق نفقة على أهله فالحسنة بعشر أمثالها ". وقال زيد بن أسلم : كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإما أن يقطع بهم، وإما أن كانوا عيالاً فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله، ومن لم يكن عنده شيء ينفقه فلا يخرج بغير نفقة ولا قوت فيلقي بيده إلى التهلكة، فالتهلكة: أن يهلك من الجوع والعطش أو بالمشي،
- وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ".(1/12)
- وقال محمد بن سيرين و عبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى،
-قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله، وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، قال الله تعالى: " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " (87-يوسف). قوله تعالى: " وأحسنوا " أي أحسنوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على الفقراء " إن الله يحب المحسنين "
*السعدي يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله وهي كل طرق الخير من صدقة على مسكين أو قريب أو أنفاق على من تجب مؤنته
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله فإن النفقة فيه جهاد بالمال وهو فرض كالجهاد بالبدن وفيها من المصالح العظيمة الإعانة على تقوية المسلمين وعلى توهية الشرك وأهله وعلى إقامة دين الله وإعزازه فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة فالنفقة له كالروح لا يمكن وجوده بدونها وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد وتسليط للأعداء وشدة تكالبهم فيكون قوله تعالى :
" ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة "
كالتعليل لذلك والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين : ترك ما أمر به العبد إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة فمن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله أو النفقة فيه الموجب لتسلط الأعداء ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف أو محل مسبعة أو حيات أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك فهذا ونحوه ممن ألقى بيده إلى التهلكة
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله واليأس من التوبة ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض التي تركها هلاك للروح والدين(1/13)
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان أمر بالإحسان عموما فقال :
" وأحسنوا إن الله يحب المحسنين "
وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان لأنه لم يقيده بشيء دون شيء فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم
ويدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به ويدخل في الإحسان أيضا الإحسان في عبادة الله تعالى وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
فمن اتصف بهذه الصفات كان من الذين قال الله فيهم :
" للذين أحسنوا الحسنى وزيادة "
وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره ./
فصل
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ( الفتاوى الكبرى)
** فصل فيمن قال : القول في بعض الصفات كالقول في بعض(1/14)
فأما الأصلان : فأحدهما أن يقال : القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطب ممن يقول : بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت : إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه . وهذا هو التمثيل ، وإن قلت : أن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك : وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به ، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به ، وإن قلت : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال لك : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ، فإن قلت : هذه إرادة المخلوق قيل لك : وهذا غضب المخلوق.(1/15)
وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال : أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له : وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له : فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي : ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك، فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع، والبصر ، والكلام، أو ضد ذلك قال له سائر أهل الإثبات : لك جوابان : أحدهما أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي، ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض .
المقام الثاني أن يقال : يمكن إثبات هذه الصفات، بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم دل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر : من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - تدل على حكمته البالغة، كما يدل التخصيص على المشيئة، وأولى لقوة العلة الغائية،(1/16)
**وقال :فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات ،ودل القرآن المبين والحديث الصحيح المتين على ثبوتها .
قال ـ رحمه الله تعالى ـ وهي أن الله ـ تعالى ـ أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم عليٌّ عظيم، رفيع مجيد وله بطش شديد، وهو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] ، إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس، والوجه، والعين، والقدم، واليدين، والعلم، والنظر، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والرضى، والغضب، والمحبة، والضحك، والعجب، والاستحياء، والغيرة، والكراهة، والسخط، والقبض، والبسط، والقرب، والدنو، والفوقية والعلو، والكلام، والسلام، والقول، والنداء، والتجلي، واللقاء، والنزول، والصعود، والاستواء، وأنه ـ تعالى ـ في السماء، وأنه على عرشه بائن من خلقه ...
وقال : وكذلك إذا قيل : الإرادة والرحمة والمحبة تنقسم إلى إرادة اللّه ومحبته ورحمته، وإردة العبد ومحبته ورحمته .(1/17)
فمن ظن أن [ الحقيقة ] إنما تتناول صفة العبد المخلوقة المحدثة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل؛ فإن صفة اللّه أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته، فكيف يكون العبد مستحقًا للأسماء الحسنى حقيقة، فيستحق أن يقال له : عالم قادر سميع بصير، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازًا ؟ ! ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وله المثل الأعلى، فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه؛ ولهذا كان للّه [ المثل الأعلى ] ، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم، ولا تضرب له الأمثال . فلا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل؛ ولا في قياس شمول تستوي أفراده، بل { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الروم : 27 ] .
** وقال : وكذلك إذا قال : الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك هو من صفات الأجسام .
فإنه يقال له : وكذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة من صفات الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل، ويستوى ويغضب ويرضى إلا جسمً، لم نعقل ما يسمع ويبصر ويريد، ويعلم ويقدر إلا جسمًا .
فإذا قيل : سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته .
قيل له : وكذلك رضاه ليس كرضانا، ( ومحبته ليست كمحبتنا) وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا ...
**وقال :... إن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة . هذا قول جمهور أهل السنة .(1/18)
ومن قال : إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين : إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول : إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات . وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات : إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا . فكذلك أحبها ورضيها كونا . وهذا فيه نظر...
**وقال :... وتنازعوا في مسألة المحبة ؛ فذهب طوائف إلى أن اللّه لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا : هو أيضًا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته الإحسان إليهم وولايتهم . ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد : كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء .
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري . وقال : أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه .
والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق : أن اللّه يحب ويحب .(1/19)
**وقال :... وهو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فإن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال : ( إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا ) ، وقال : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله ) ، يعني نفسه؛ ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يُحِبُّ وَيُحَبُّ
**وقال :... وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، وقال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] ، { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] ، { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 4 ] ، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 7 ] ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] ، { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 76 ] .
وأما الأعمال التي يحبها اللّه من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة، وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء اللّه المتقون .(1/20)
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف إن اللّه ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية .
**وقال :... والمقصود أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم ـ سبحانه وتعالى ـ وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله تعالي : من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) .
فقد بين : أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله، فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله، وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه، وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين، فكان حبه للمؤمنين تبعًا لحب نفسه . اه
2- (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : 222 )(1/21)
*القرطبي … قوله تعالى: "ويسألونك عن المحيض" ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح - وقيل: أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهو قول الأكثرين. وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره: أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت. وفي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلىالله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهرِينَ (، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لَبَنٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.
- قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين.
قوله تعالى: "عن المحيض" المحيض: الحيض وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء وأنشد:
كحائضة يزنى بها غير طاهر ونساء حيض وحوائض.(1/22)
والحيضة: المرة الواحدة. والحيضة (بالكسر) الاسم، والجمع الحيض. والحيضة أيضا: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة رضي الله عنها: ليتني كنت حيضة ملقاة. وكذلك المحيضة، والجمع المحائض. وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض. وقال الطبري: المحيض اسم للحيض، ومثله قول رؤبة في العيش:
إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشي
وأصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد. قال ابن عرفة: المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت، وطمثت، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة. فإذا سال في غير أيام معلومة، ومن غير عرق المحيض قلت: استحيضت، فهي مستحاضة.
- وقال ابن العربي : ولها ثمانية أسماء: الأول: حائض. الثاني: عارك. الثالث: فارك. الرابع: طامس. الخامس: دارس. السادس: كابر. السابع: ضاحك. الثامن: طامث.
- قال مجاهد في قوله تعالى: "فضحكت" يعني حاضت. وقيل في قوله تعالى: "فلما رأينه أكبرنه" [يوسف: 31] يعني حضن.(1/23)
- أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها، فمن ذلك الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، تترك له الصلاة والصوم، لا خلاف في ذلك. وقد يتصل وينقطع، فإن اتصل فالحكم ثابت له، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء. والحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: (يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار - فقلن وبم يا رسول الله؟ قال - تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن - قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى يا رسول الله، قال: فذلك من نقصان دينها)
- وأجمع العلماء على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لحديث معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، خرجه مسلم. فإذا انقطع عنها كان طهرها منه الغسل، على ما يأتي.
- واختلف العلماء في مقدار الحيض، فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، هذا مذهب مالك وأصحابه. وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء.(1/24)
- وقال محمد بن سلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب، لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض. فإذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا كثر الحيض قل الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة.
- وقال الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما. وقد روي عنه مثل قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء.
- وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة.
- قال ابن عبدالبر: ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره، لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة. وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة، وهو قول الأوزاعي والطبري. وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل. قال الأوزاعي: وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقد أتينا على ما للعلماء في هذا الباب - من أكثر الحيض وأقله وأقل الطهر، وفي الاستظهار، والحجة في ذلك - في "المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس" فإن كانت بكرا مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوما.
- وقال مالك: لا تقضي الصلاة ويمسك عنها زوجها. علي بن زياد عنه: تجلس قدر لداتها، وهذا قول عطاء والثوري وغيرهما.(1/25)
- ابن حنبل: تجلس يوما وليلة، ثم تغتسل وتصلي ولا يأتيها زوجها. أبو حنيفة وأبو يوسف: تدع الصلاة عشرا، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشرا، فيكون هذا حالها حيت ينقطع الدم عنها. أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام، عن مالك: ما لم تجاوز خمسة عشر يوما. الشافعي: تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار.
والثاني من الدماء: دم النفاس عند الولادة، وله أيضا عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه، فقيل: شهران، وهو قول مالك. وقيل: أربعون يوما، وهو قول الشافعي. وقيل غير ذلك. وطهرها عند انقطاعه. والغسل منه كالغسل من الجنابة. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا: وهي وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه - وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة - والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق، والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه، وفي قراءة القرآن روايتان.(1/26)
والثالث من الدماء: دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، وإنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوما أنه دم عرق لا دم حيض. روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي). وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة، وهو أصح ما روي في هذا الباب، وهو يرد ما روي عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة، وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة. وفيه أن الحائض لا تصلي، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة. وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة. ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح. ولقول من قال: تغتسل من طهر إلى طهر. ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك. وفيه رد لقول من قال بالاستظهار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء، والاحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها.(1/27)
- قوله تعالى: "قل هو أذى" أي هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض. والأذى كناية عن القذر على الجملة. ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" [البقرة: 264] أي بما تسمعه من المكروه. ومنه قوله تعالى: "ودع أذاهم" [الأحزاب: 48] أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم، وفي الحديث: (وأميطوا عنه الأذى) يعني بـ "الأذى" الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، يحلق عنه يوم أسبوعه، وهي العقيقة. وفي حديث الإيمان: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) أي تنحيته، يعني الشوك والحجر، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار. وقوله تعالى: "ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر" [النساء: 102] .
استدل من منع وطء المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة، فقالوا: كل دم فهو أذى، يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس. وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري. واختلف فيه عن الحسن، وهو قول عائشة: لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبدالرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي. وقال جمهور العلماء: المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ، ويأتيها زوجها. قال مالك: أمر أهل الفقه والعلم على هذا، وإن كان دمها كثيرا، رواه عنه ابن وهب.(1/28)
- وكان أحمد يقول: أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها. وعن ابن عباس في المستحاضة: (لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها). وقال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة). فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي! قال ابن عبدالبر: لما حكم الله عز وجل في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء.
- قوله تعالى: "فاعتزلوا النساء في المحيض" أي في زمن الحيض، إن حملت المحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم. ومقصود هذا النهي ترك المجامعة.
- وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني (أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت). وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء. وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه، وقد وقفت على ابن عباس خالته ميمونة وقالت له: أراغب أنت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
- وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء: له منها ما فوق الإزار، لقوله عليه السلام للسائل حين سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال - : (لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها) وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: (شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك).
- وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: يجتنب موضع الدم، لقوله عليه السلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح). وقد تقدم. وهو قول داود، وهو الصحيح من قول الشافعي.
- وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقالت: كل شيء إلا الفرج.(1/29)
- قال العلماء: مباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك من ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك احتياطا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتتفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد، وبالله التوفيق.
واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال داود. وروي عن محمد بن الحسن: يتصدق بنصف دينار. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبدالحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يتصدق بدينار أو نصف دينار). أخرجه أبو داود وقال: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار، واستحبه الطبري. فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وهو قول الشافعي ببغداد. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار. وقال الأوزاعي: من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار، والطرق لهذا كله في "سنن أبي داود والدارقطني" وغيرهما. وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار). قال أبو عمر: حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة.(1/30)
- قوله تعالى: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه: لا تلبس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه "يَطْهُرنَ " بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل "يطَّهَّرن" بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. وفي مصحف أبي وعبدالله "يتطهرن". وفي مصحف أنس بن مالك "ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن". ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء، وقال: هي بمعنى يغتسلن، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر. قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو، فقال قوم: هو الاغتسال بالماء. وقال قوم: هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي.
- قوله تعالى: "فإذا تطهرن" يعني بالماء، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء، وأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره، وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة وأهل المدينة وغيرهم.
- وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت - حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل.(1/31)
- وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها. ولكن بأن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وهذا تحكم لا وجه له، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها: عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل، مع موافقة أهل المدينة. ودليلنا أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين: أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: "حتى يطهرن". والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى: "فإذا تطهرن" أي يفعلن الغسل بالماء، وهذا مثل قوله تعالى: "(وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً) (النساء : 6 )، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما: بلوغ المكلف النكاح. والثاني: إيناس الرشد، وكذلك قوله تعالى في المطلقة: "فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" [البقرة: 230] ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء.
- احتج أبو حنيفة فقال: إن معنى الآية، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: "حتى يطْهُرْنَ" مخففا هو بمعنى قوله: "يَطَّهَّرَّن" مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما قال تعالى: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" [التوبة: 108].
قال الكميت:(1/32)
وما كانت الأطهار فيها أذلة ولا غيبا فيها إذا الناس غيب
وأيضا فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما. ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل، لأنه لا يؤمن عوده: ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل.
- قال ابن العربي: وهذا أقوى ما لهم، فالجواب عن الأول: أن ذلك ليس من كلام الفصحاء، ولا ألسن البلغاء، فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس، فكيف في كلام العليم الحكيم! وعن الثاني: أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه، فهي إذاً حائض، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا. وأيضا فإن ما قالوه يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر وما يقتضي الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر، كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى، والتحريم أولى. والله أعلم.
- واختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الاغتسال أم لا، فقال مالك في رواية ابن القاسم: نعم، ليحل للزوج وطؤها، قال الله تعالى: "ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن" يقول بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها.
- وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الاغتسال من المحيض، لأنها غير معتقدة لذلك، لقوله تعالى: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله. في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر" [البقرة: 228] وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات، وقال: "لا إكراه في الدين" [البقرة: 256] وبهذا كان يقول محمود بن عبدالحكم.(1/33)
وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في ذلك، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله، إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: (لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) وفي رواية: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: (لا) زاد أبو داود: (واغمزي قرونك عند كل حفنة).
- قوله تعالى: "فأتوهن من حيث أمركم الله" أي فجامعوهن. وهو أمر إباحة، وكنى بالإتيان عن الوطء، وهذا الأمر يقوي ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء، لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل. والله أعلم. و"من" بمعنى في، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل، ونظيره قوله تعالى: "أروني ماذا خلقوا من الأرض" [فاطر: 40] أي في الأرض،: وقوله: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" [الجمعة: 9] أي في يوم الجمعة. وقيل: المعنى، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، قاله الأصم.
- وقال ابن عباس وأبو رزين: (من قبل الطهر لا من قبل الحيض)، وقاله الضحاك.
-وقال محمد بن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى.
- قوله تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" اختلف فيه، فقيل: التوابون من الذنوب والشرك. والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث، قاله عطاء وغيره. وقال مجاهد: من الذنوب، وعنه أيضا: من إتيان النساء في أدبارهن. ابن عطية: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" [الأعراف: 82]. وقيل: المتطهرون الذين لم يذنبوا. فإن قيل: كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب، قيل: قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما ذكر في آية أخرى: "فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات" [الملائكة: 32] .(1/34)
*السعدي … " إن الله يحب التوابين " أي : من ذنوبهم على الدوام " ويحب المتطهرين " أي : المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث ففيه مشروعية الطهارة مطلقا لأن الله يحب المتصف بها ولهذا كانت الطهارة مطلقا شرطا لصحة الصلاة والطواف وجواز مس المصحف ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة والصفات القبيحة والأفعال الخسيسة.
*البغوي… قوله تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " قال عطاء و مقاتل بن سليمان و الكلبي : يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات، وقال مقاتل بن حيان : يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين من الشرك، وقال سعيد بن جبير : التوابين من الشرك والمتطهرين من الذنوب، وقال مجاهد التوابين من الذنوب لا يعودون فيها والمتطهرين منها لم يصيبوها، والتواب: الذي كلما أذنب تاب، نظيره قوله تعالى: " فإنه كان للأوابين غفوراً " (25-الاسراء).
*الرازي …أما قوله تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " التوَّاب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة ، وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر من قبول التوبة.(1/35)
فإن قيل ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقا والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب،فمن لم يكن مذنبا وجب أن لا تحسن منه التوبة ، والجواب من وجهين:الأول : أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير ،فتلزمه التوبة دفعا لذلك التقصير المجوز، والثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني : التوبة في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود . اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في اللغة عبارة عن الرجوع إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي ، والترك في الحاضر ، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي .ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول: مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية ،فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية لئلا يتوجه الطعن والسؤال.
أما قوله " ويحب المتطهرين " ففيه وجوه. أحدها:المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه ،والمتطهر هو الذي ما فعله تنزها عنه ،ولا ثالث لهذين القسمين .واللفظ محتمل لذلك لأن الذنب نجاسة روحانية ،ولذلك قال :"إنما المشركون نجس" التوبة28 فتركه يكون طهارة روحانية، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزَّها عن العيوب والقبائح :ويقال فلان طاهر الذيل.
والقول الثاني :أن المراد :لا يأتيها في زمان الحيض ،وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال :"فأتوهن من حيث أمركم الله" ومن قال بهذا القول قال :هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط: "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" الأعراف 82 فكان قوله : " ويحب المتطهرين " ترك الإتيان في الأدبار.(1/36)
والقول الثالث :أمرنا بالتطهر في قوله:"فإذا تطهرن" فلا جرم مدح المتطهر فقال :"ويحب المتطهرين" والمراد منه التطهر بالماء .وقد قال تعالى :" رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين"فقيل في التفسير :إنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم.
3-(بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران : 76 )
*ابن كثير … بلى من أوفى بعهده واتقى} أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك, واتقى محارم الله, واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم {فإن الله يحب المتقين}.
يقول تعالى: إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره, وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الاَثمة بالأثمان القليلة الزهيدة, وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة {أولئك لا خلاق لهم في الاَخرة} أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها{ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة} أي برحمة منه لهم, يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة {ولا يزكيهم} أي من الذنوب والأدناس, بل يأمر بهم إلى النار {ولهم عذاب أليم}.
وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الاَية الكريمة, فلنذكر منها ما تيسر,(1/37)
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا شعبة, قال علي بن مدرك: أخبرني, قال سمعت أبا زرعة عن خرشة بن الحر, عن أبي ذر, قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله, ولا ينظر إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم" قلت: يا رسول الله, من هم ؟ خسروا وخابوا. قال: وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات, قال "المسبل, والمنفق سلعته بالحلف والكاذب, والمنان", ورواه مسلم وأهل السنن من حديث شعبة به.
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا إسماعيل عن الجريري, عن أبي العلاء بن الشخير, عن أبي الأحمس, قال: لقيت أباذر فقلت له: بلغني عنك أنك تحدث حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أما إنه لا يخالني أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعدما سمعته منه, فما الذي بلغك عني ؟ قلت: بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله, وثلاثة يشنؤهم الله. قال: قلته وسمعته, قلت: فمن هؤلاء الذين يحبهم الله ؟ قال: "الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه, والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون, فيتنحى أحدهم يصلي حتى يوقظهم لرحيلهم, والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن" قلت: من هؤلاء الذين يشنؤهم الله ؟ قال: "التاجر الحلاف ـ أو قال: البائع الحلاف ـ, والفقير المختال, والبخيل المنان" غريب من هذا الوجه.(1/38)
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, عن جربر بن حازم, حدثنا عدي بن عدي, أخبرني رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة, عن أبيه عدي هو ابن عميرة الكندي, قال: خاصم رجل من كندة, يقال له امرؤ القيس بن عابس, رجلاً من حضر موت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض, فقضى على الحضرمي بالبينة, فلم يكن له بينة فقضى على امرىء القيس باليمين, فقال الحضرمي: إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان" قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلا} فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله ؟ فقال "الجنة". قال: فاشهد أني قد تركتها له كلها, ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي به,
(الحديث الثالث) قال أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن شقيق, عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين هو فيها فاجر, ليقتطع بها مالَ امرى مسلم, لقى الله عز وجل وهو عليه غضبان". فقال الأشعث: في والله كان ذلك¹ كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني, فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك بينة ؟ قلت: لا. فقال لليهودي: احلف. فقلت: يا رسول الله, إذاً يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز وجل: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} الاَية أخرجاه من حديث الأعمش.(1/39)
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم بن أبي النجود, عن شقيق بن سلمة, حدثنا عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق, لقي الله وهو عليه غضبان" قال: فجاء الأشعث بن قيس, فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه, فقال: فيّ كان هذا الحديث, خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه" قال: قلت: يا رسول الله, ما لي بينة, وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري, إن خصمي امرؤ فاجر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق, لقي الله وهو عليه غضبان" قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلا} الاَية.
(الحديث الرابع) قال أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, قال: حدثنا رِشْدين عن زَبّان, عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ولا ينظر إليهم" قيل: ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال "متبري من والديه راغب عنهما, ومتبرىء من ولده, ورجل أنعم عليه قوم, فكفر نعمتهم وتبرأ منهم".
(الحديث الخامس) قال ابن أبي حاتم: حدثناالحسن بن عرفة, حدثنا هشيم, أنبأنا العوام يعني ابن حوشب, عن إبراهيم بن عبد الرحمن يعني السكسكي, عن عبد الله ابن أبي أوفى, أن رجلاً أقام سلعة له في السوق, فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط, ليوقع فيها رجلاً من المسلمين, فنزلت هذه الاَية: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} الاَية, ورواه البخاري من غير وجه عن العوام.(1/40)
(الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده, ورجل حلف على سلعة بعد العصر, يعني كاذباً, ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له" ورواه أبو داود والترمذي من حديث وكيع, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح
الطبري …القول في تأويل قوله تعالى ( بَلَىَ مَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ (
-هذا إخبار من الله عزّ وجلّ عمّن أدّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبَته عنده. فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود, من أنه ليس عليهم في أموال الأميين حرج ولا إثم,_ وذلك في قوله تعالى( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل) _ ثم قال (بلى), ولكن (من أوفى بعهده واتقى), يعني ولكن الذي أوفى بعهده, وذلك وصيته إياهم, التي أوصاهم بها في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. والهاء في قوله: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} عائدة على اسم الله في قوله: {وَيَقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ} يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه, فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدّق به. بما جاء به من الله من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها, وغير ذلك من أمر الله ونهيه, و{وَاتّقَى} يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به وسائر معاصيه التي حرّمها عليه, فاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله, وخوف عقابه {فإنّ اللّهَ يُحِبّ المُتقينَ} يعني: فإن الله يحبّ الذين يتقونه فيخافون عقابه, ويحذرون عذابه, فيجتنبون ما نهاهم عنه, وحرّمه عليهم, ويطيعونه فيما أمرهم به.
وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.(1/41)
ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتّقَى} يقول: اتقى الشرك¹ {إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ} يقول: الذين يتقون الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى:
{إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم, ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه باتباع محمد وتصديقه, والإقرار به, وما جاء به من عند الله وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي اؤتمنوا عليها ثمنا, يعني عوضا وبدلاً خسيسا من عرض الدنيا وحطامها. {أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ} يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظّ لهم في خيرات الاَخرة, ولا نصيب لهم من نعيم الجنة, وما أعدّ الله لأهلها فيها. دون غيرهم.
وأما قوله: {وَلا يُكَلّمُهُمُ اللّهُ} فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما يسرّهم ولا ينظر إليهم, يقول: ولا يعطف عليهم بخير مقتا من الله لهم كقول القائل لاَخر: انظر إليّ نظر الله إليك, بمعنى:تعطف عليّ تعطف الله عليك بخير ورحمة, وكما يقال للرجل: لا سمع الله لك دعاءك, يراد: لا استجاب الله لك, والله لا يخفى عليه خافية, وكما قال الشاعر: دَعَوْتُ اللّهَ حتى خِفْتُ أنْ لا يَكُونَ اللّهُ يَسْمَعُ ما أقُولُ
وقوله {وَلا يُزَكّيهِمْ} يعني: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم, {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} يعني: ولهم عذاب موجع.(1/42)
*السعدي … قال تعالى : " بلى " أي : ليس الأمر كما قالوا فإنه من أوفى بعهده واتقى أي قام بحقوق الله وحقوق خلقه فإن هذا هو المتقي والله يحبه أي ومن كان بخلاف ذلك فلم يف بعهده وعقوده التي بينه وبين الخلق ولا قام بتقوى اللفإن الله يمقته وسيجازيه على ذلك أعظم النكال : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " أولئك " لا خلاق لهم في الآخرة "" ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم " يوم القيامة" ولا يزكيهم "" ولهم عذاب أليم " أي : إن الذين يشترون الدنيا بالدين فيختارون الحطام القليل من الدنيا ويتوسلون إليها بالأيمان الكاذبة والعهود المنكوثة فهؤلاء لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أي قد حق عليهم سخط الله ووجب عليهم عقابه وحرموا ثوابه ومنعوا من التزكية وهي التطهير بل يردون القيامة وهم متلوثون بالجرائم متدنسون بالذنوب العظائم.
*البغوي …قوله تعالى:" بلى" أي : ليس كما قالوا ( ... لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل)، بل عليهم سبيل ، ثم ابتدأ فقال " من أوفى" أي : ولكن من أو في " بعهده" أي : بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة ، وقيل : الهاء في عهده راجعة إلى الموفى " واتقى" الكفر والخيانة ونقض العهد ، " فإن الله يحب المتقين" .
- أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا قبيصة بن عقبة انا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر".(1/43)
-قوله تعالى:" إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً " قال عكرمه :نزلت في رؤوس اليهود كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم المآكل والرشا التي كانت لهم من أتباعهم.
- اخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ،أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو عوانةعن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان فأنزل الله تعالى تصديق لذلك " {إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فدخل الأشعث بن قيس ، فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فقالوا : كذا وكذا ، فقال : في أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته ، فقال: هات بينتك أو يمينه قلت : اذا يحلف عليها يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف علي يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان".(1/44)
-أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاجأنا قتيبة بن سعيد أنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل بن حجر ، عن أبية قال : "جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي ، فقال الحضرمي : يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي ، فقال الكندي : هي أرض في يدي أزرعها ، ليس له فيها حق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال :فلك يمينه قال :يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما يحلف عليه ، قال :ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف له ، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض" ورواه عبد الملك بن حمير عن علقمة ، و قال هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان. وروي لما هم إن يحلف نزلت هذه الآية فامتنع امرؤ القيس أن يحلف ، وأقر لخصمه بحقه ودفعه اليه .
-أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن احمد السرخسي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن سعيد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أمامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يارسول الله ؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك قالها ثلاث مرات" .(1/45)
- أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن محمد أنا هشيم بن محمد أنا العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً". قوله تعالى:" إن الذين يشترون "أي يستبدلون" بعهد الله " وأراد الأمانة،" وأيمانهم" الكاذبة " ثمناً قليلاً" أي : شيئاً قليلاً من حطام الدنيا" أولئك لا خلاق لهم " لا نصيب لهم " في الآخرة" ،ونعيمها ،"ولا يكلمهم الله " كلاماً ينفعهم ويسرهم، وقيل هو بمعنى الغضب ، كما يقول الرجل:إني لا أكلم فلاناً إذا كان غضب عليه ، " ولا ينظر إليهم يوم القيامة " أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا ينيلهم خيراً،"ولا يزكيهم " أي: لا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب " ولهم عذاب أليم ".
-عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " قال قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال أبو ذر خابوا وخسروا، من هم يارسول الله ؟قال: " المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " في رواية "المسبل إزاره " .
- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف يميناً على مال مسلم فاقتطعه ، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد صلاة العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل ماله، فإن الله تعالى يقول : اليوم أمنعك فضل ما لم تعمل يداك " .(1/46)
++ ولتعميم قوله تعالى :(من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) أقول: أوصي نفسي وإياك أيها المسلم الكريم بالوفاء بالعهد وتقوى الله في السر والعلن :
فلْنَفِ بالعهد ذاكرين أمره عز وجل :( َأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء : 34 ) أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها, فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه {إن العهد كان مسئولاً} أي عنه.=ابن كثير/ وقوله سبحانه: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل : 91 ) هذا مما يأمر الله تعالى به, وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة, ولهذا قال: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} ولا تعارض بين هذا وبين قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} الاَية, وبين قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم} أي لا تتركوها بلا كفارة, وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني" لا تعارض بين هذا كله ولا بين الاَية المذكورة ههنا, وهي قوله: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع, ولهذا قال مجاهد في قوله {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} يعني الحلف, أي حلف الجاهلية. ويؤيد ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا. هو ابن أبي زائدة ـ عن سعد بن إبراهيم عن أبيه, عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام, وأيما(1/47)
حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة" وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه, فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا, فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك, والله أعلم.
-وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي, حدثنا عبد الله بن موسى, أخبرنا أبو ليلى عن فريدة في قوله: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم, كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام, فقال: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.
-وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد, ثم قال: أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان, وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلاً على بيعة الله ورسوله, ثم ينكث بيعته, فلا يخلعن أحد منكم يداً ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر, فيكون صيلم بيني وبينه" المرفوع منه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه, عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به, فهو كالمدلي جاره إلى غير منفعة".(1/48)
وقوله: {إن الله يعلم ما تفعلون} تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها=ابن كثير.= وقوله تعالى:( وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام : 152 ) : - وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا, وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله, وذلك هو الوفاء بعهد الله {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه {لعلكم تذكرون} أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا,= الطبري=
4- يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ * وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلََئِكَ جَزَآؤُهُمْ مّغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) عمران : 134 )(1/49)
*ابن كثير…يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين, إما أن تقضي وإما أن تربي, فإن قضاه, وإلا زاده في المدة, وزاده الاَخر في القدر, وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً, وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى, ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها, فقال تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله الرسول لعلكم ترحمون}ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات, فقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} أي كما أعدت النار للكافرين, وقد قيل إن معنى قوله {عرضها السموات والأرض} تنبيهاً على اتساع طولها, كما قال في صفة فرش الجنة {بطائنها من إستبرق} أي فما ظنك بالظهائر ؟, وقيل: بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش, والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله, وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن"(1/50)
- وهذه الاَية كقوله تعالى في سورة الحديد {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} الاَية, وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض, فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟" وقد رواه ابن جرير فقال: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خُثيم, عن سعيد بن أبي راشد, عن يعلى بن مرة, قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً قد فسد, فقال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلاً عن يساره, قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية, فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين, فأين النار ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان الله, فأين الليل إذا جاء النهار ؟" وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض, فأين النار ؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل ؟ وإذا جاء الليل أين النهار ؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة, رواه ابن جرير من ثلاثة طرق, ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا أبو نعيم, حدثنا جعفر بن برقان, أنبأنا يزيد بن الأصم: أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون {جنة عرضها السموات والأرض} فأين النار ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: أين يكون الليل إذا جاء النهار, وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟ وقد روي هذا مرفوعاً, فقال البزار: حدثنا محمد بن معمر, حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام, حدثنا عبد الواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم, عن عمه يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة, قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: أرأيت قوله(1/51)
تعالى: {جنة عرضها السموات والأرض} فأين النار ؟ قال: "أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء, فأين النهار ؟" قال: حيث شاء الله, قال "وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل" وهذا يحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان, وإن كنا لا نعلمه, وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل, وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار. (الثاني) أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب, فإن الليل يكون من الجانب الاَخر, فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها, كما قال الله عز وجل {كعرض السماء والأرض} والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار, والله أعلم.(1/52)
-ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال {الذين ينفقون في السراء والضراء} أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال, كما قال {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية} والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه. والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر. وقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه, وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم. وقد ورد في بعض الاَثار "يقول الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك", رواه ابن أبي حاتم, وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزمن, حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل, حدثني الربيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالك, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كف غضبه, كف الله عنه عذابه, ومن خزن لسانه, ستر الله عورته, ومن اعتذر إلى الله, قبل الله عذره" وهذا حديث غريب, وفي إسناده نظر, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا مالك عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس الشديد بالصرعة, ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" وقد رواه الشيخان من حديث مالك. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي, عن الحارث بن سويد, عن عبد الله وهو ابن مسعود رضي الله عنه, قال: قال رسول الله "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" قال: قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه, قال "اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله, ما لَك من مالك إلا ما قدمت, ومالُ وارثك ما أخرْتَ" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تعدون الصرعة فيكم ؟" قلنا: الذي لا تصرعه الرجال. قال "لا ولكن الذي يملك نفسه عند(1/53)
الغضب". قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون فيكم الرقوب ؟" قلنا: الذي لا ولد له. قال "لا, ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئاً" أخرج البخاري الفصل الأول منه, وأخرج مسلم أصل هذا الحديث, من رواية الأعمش به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن حصبة أو ابن أبي حصين, عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب, فقال "تدرون ما الرقوب ؟" قلنا: الذي لا ولد له, قال "الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً" قال "تدرون ما الصعلوك ؟" قالوا: الذي ليس له مال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً" قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما الصرعة ؟" قالوا: الصريع قال فقال صلى الله عليه وسلم "الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه".
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه, عن الأحنف بن قيس, عن عم له يقال له جارية بن قدامة السعدي, أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, قل لي قولاً ينفعني وأقلل عليّ لعلي أعيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" فأعاد عليه حتى أعاد عليه مراراً كل ذلك يقول "لا تغضب", وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به, ورواه أيضاً عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به, أن رجلاً قال: يا رسول الله, قل لي قولاً وأقلل عليّ لعلي أعقله, فقال "لا تغضب" الحديث, انفرد به أحمد.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني, قال: "لا تغضب". قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال, فإذا الغضب يجمع الشر كله, انفرد به أحمد.(1/54)
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا داود بن أبي هند, عن أبي ابن حرب بن أبي الأسود, عن أبي الأسود, عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل: أنا, فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه, وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس, فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع", ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر, والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر, كما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد, حدثنا أبو وائل الصنعاني, قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه, فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ, فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي ـ وقد كانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله "إن الغضب من الشيطان, وإن الشيطان خلق من النار, وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ". وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني, قال أبو داود: أراه عبد الله بن بحير.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا نوح بن جَعْونة السلمي, عن مقاتل بن حيان, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أنظر معسراً أو وضع له, وقاه الله من فيح جهنم, ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثاً ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة. والسعيد من وقي الفتن, وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيماناً", انفرد به أحمد, وإسناده حسن ليس فيه مجروح, ومتنه حسن.(1/55)
(حديث آخر في معناه) ـ قال أبو داود: حدثنا عقبة بن مكرم, حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور, عن محمد بن عجلان, عن سويد بن وهب, عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه, ملأه الله أمناً وإيماناً, ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه ـ قال بشر: أحسبه قال: تواضعاً ـ كساه الله حلة الكرامة ومن زوّج لله كساه الله تاج الملك".
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا سعيد, حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه أن رسول الله قال "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء" ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي أيوب به, وقال الترمذي: حسن غريب.
(حديث آخر) ـ قال عبد الرزاق: أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم, عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل, عن عم له, عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً" رواه ابن جرير.(1/56)
(حديث آخر) ـ قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد, أنبأنا يحيى بن أبي طالب, أنبأنا علي بن عاصم, أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن, عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله" وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر, عن حماد بن سلمة, عن يونس بن عبيد به, فقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم, ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل. ثم قال تعالى: {والعافين عن الناس} أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد, وهذا أكمل الأحوال, ولهذا قال {والله يحب المحسنين} فهذا من مقامات الإحسان, وفي الحديث "ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة, وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً, ومن تواضع لله رفعه الله", وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي, عن عبادة بن الصامت, عن أبي بن كعب أن رسول الله, قال: "من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات, فليعف عمن ظلمه, ويعط من حرمه, ويصل من قطعه" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك. وروي عن طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس ؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم, وحق على كل امريء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة" وقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم(1/57)
قال "إن رجلاً أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره, فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي, ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره, فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي, ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره لي, فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب, إني عملت ذنباً فاغفره, فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ماشاء". أخرجه في الصحيح من حديث إسحاق بن أبي طلحة بنحوه.(1/58)
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو عامر, قالا: حدثنا زهير, حدثنا سعد الطائي, حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين, سمع أبا هريرة, قلنا: يا رسول الله, إذا رأيناك رقت قلوبنا, وكنا من أهل الاَخرة, وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا, وشممنا النساء والأولاد, فقال "لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم, ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم". قلنا: يا رسول الله, حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال "لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك الأذفر, وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت, وترابها الزعفران, من يدخلها ينعم ولا يبأس, ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه, ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل, والصائم حتى يفطر, ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء, ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين", ورواه الترمذي وابن ماجه من وجه آخر من حديث سعد به, ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا وكيع, حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغبرة الثقفي, عن علي بن ربيعة, عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه, قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً, نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته, فإذا حلف لي صدقته, وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ـ وصدق أبو بكر ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء ـ قال مسعر ـ فيصلي ـ وقال سفيان ـ ثم يصلي ركعتين, فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له" وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والبزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به, وقال الترمذي: هو حديث حسن, وقد ذكرنا طرقه, والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله(1/59)
عنه, وبالجملة فهو حديث حسن, وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ـ أو فيسبغ ـ الوضوء, ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية, يدخل من أيها شاء" وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه, غفر له ما تقدم من ذنبه" فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين, عن سيد الأولين والاَخرين, ورسول رب العالمين, كما دل عليه الكتاب المبين, من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين, وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الاَية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} الاَية, بكى. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محرز بن عون, حدثنا عثمان بن مطر, حدثنا عبد الغفور عن أبي نُصَيرة, عن أبي رجاء, عن أبي بكر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال "عليكم بلا إله إلا الله, والاستغفار, فأكثروا منهما, فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار, فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء, فهم يحسبون أنهم مهتدون" عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان. وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم, فقال الله تعالى:(1/60)
وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني". وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عمر بن أبي خليفة, سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت, عن أنس, قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله, أذنبت ذنباً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أذنبت فاستغفر ربك. قال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك, فقالها في الرابعة استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور" وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} أي لا يغفرها أحد سواه, كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب, حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير, فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد¹ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "عرف الحق لأهله" وقوله {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب, ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها, ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه, كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره, قالوا: حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحماني عن عثمان بن واقد, عن أبي نُصَيرة, عن مولى لأبي بكر, عن أبي بكر رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد ـ وقد وثقه يحيى بن معين به ـ وشيخه أبو نُصَيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد, وثقه الإمام أحمد وابن حبان, وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك, فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر, ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير, ويكفيه نسبته إلى أبي بكر, فهو حديث حسن, والله أعلم. وقوله {وهم يعلمون} قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير {وهم يعلمون} أن من تاب تاب الله عليه, وهذا(1/61)
كقوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} وكقوله {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} ونظائر هذا كثيرة جداً. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أنبأنا جرير, حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر "ارحموا ترحموا, واغفروا يغفر لكم, ويل لأقماع القول, ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" تفرد به أحمد. ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم} أي جزاؤهم على هذه الصفات {مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار} أي من أنواع المشروبات {خالدين فيها} أي ماكثين فيها {ونعم أجر العاملين} يمدح تعالى الجنة.
+ أقول وما توفيقي إلا بالله: الوصايا العشر
1- اجتنب الربا بجميع أصنافه أكلاً وشهادةً وكتابة فإنه ممحوق مأذون أهله بحرب من الله ورسوله.
2- اتَّقِ الله ظاهرا وباطنا إنه يراك.وجعل عليك (كِرَامًا كَاتِبِينَ) وكتابا تلقاه غدا ًمنشورا ويأمرك أن تقرأه بنفسك.
3- آمِن بالله واعبده وحده مخلصاً له الدين -لا تشرك به شيئا - فإنه رأس الامر كله وجُنَّتك من سقر.
4- أطِع الله ربك الواحد الأحد في كل أمرٍ ونهيٍ واتبعْ رسولَه النبي الأمي( في كل ما جاء به من عند الله.
5- سارِعْ وسابقْ الى المحفوفة بالمكاره ونافس فيها المتنافسين الذين يسعَون لها سعيَها .
6- أنفِق مما رزقك خيرُ الرازقين حلالاً طيباَ ، من قليله وكثيره ، في السراء والضراء - قِ نفسَك شُحَّها .
7- اكظِم الغيض .لاتغضب لاتغضب لاتغضب ! ومتى احسستَ بالغضب أطفيءْ نارَه بالماء واستعذ بالله .
8- أعف عن الناس رحمةَ بالصغير،توقيرا للكبير، إن العفْو محمود يحبه العفوّ الكريم الذي ترجو عفوه.
9- أذكُر ربك كلَّما أذنبتَ : توضَّأْ وصلِّ ركعتين واستغفِرْ لذنبك وابْك على خطيئتك ولا تيْأس.(1/62)
10- أقلِع عن المعاصي نادما ، ولا تُصِرعليها عالما، واعزم ألاّ تعود جازما . تُبْ إلىمولاك الذي يفرح بتوبتك.
تحلَّ بهذه العشر تكُنْ محسنا ويحبك الله
و عليه يكون جزاؤك دار الخلد السرمدي والنعيم الأبدي وتسمع-إن شاء الله تعالى-قوله : ((ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) (الحجر : 46 )) - (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر : 73 ) - (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد : 24 ) - (سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) - (النحل : 32 ) ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) (الأعراف : 49 ) - (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف : 70 ) ...
5.- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) سورة آل عمران.(1/63)
*ابن كثير… قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تُبتلوا بالقتال والشدائد, كما قال تعالى في سورة البقرة {(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة : 214 ) وقال تعالى: {(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت : 2 ) ولهذا قال ههنا {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله, والصابرين على مقاومة الأعداء. وقوله {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم, تتمنون لقاء العدو وتتحرّقون عليهم وتودون مناجزتهم ومصابرتهم, فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه, فدونكم فقاتلوا وصابروا, وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتمنوا لقاء العدو, وسلوا الله العافية, فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ولهذا قال تعالى: {فقد رأيتموه} يعني الموت شاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل. وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش, وعداوة الذئب.(1/64)
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم, نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل, ورجع ابن قميئة إلى المشركين, فقال لهم: قتلت محمداً, وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه, فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, وجَوّزوا عليه ذلك, كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام, فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال, ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه, قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل, فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ, فقاتلوا عن دينكم, فنزل {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} أي رجعتم القهقرى {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه, واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع, وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه, تلا هذه الاَية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث عن عقيل, عن ابن شهاب, أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها, أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه, أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة, فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة, فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى, ثم قال: بأبي أنت(1/65)
وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقد مِتّها, وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدّث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر, فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الاَية حتى تلاها عليهم أبو بكر, فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها, وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعَقِرتُ حتى ما تقلني رجلاي, وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد, حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله, والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت, والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه, فمن أحق به مني ؟ وقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له, ولهذا قال {كتاباً مؤجلاً} كقوله {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وكقوله {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده} وهذه الاَية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال, فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه, كما قال(1/66)
ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صُهبان, قال: قال رجل من المسلمين وهو حُجْر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة ـ يعني دجلة ـ {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} ثم أقحم فرسه دجلة, فلما أقحم, أقحم الناس, فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا. وقوله {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها, ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها} أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له, ولم يكن له في الاَخرة نصيب, ومن قصد بعمله الدار الاَخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا, كما قال تعالى: {من كان يريد حرث الاَخرة نزد له في حرثه, ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاَخرة من نصيب} وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الاَخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} ولهذا قال ههنا {وسنجزي الشاكرين} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والاَخرة بحسب شكرهم وعملهم, ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد {وكأين من نبيّ قاتل معه ربيون كثير} قيل: معناه كم من نبي قُتل وقُتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرأوا {قُتل معه ربيون كثير} فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم, وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل, قال: ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك, لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله {فما وهنوا} وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا, ثم اختار قراءة من قرأ {قُتل معه ربيون كثير} لأن الله عاتب بهذه الاَيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل,(1/67)
فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال, فقال لهم {أفإن مات أو قتل} أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و{انقلبتم على أعقابكم} وقيل: وكم من نبي قُتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير, وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر, فإنه قال: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم, وما ضعفوا عن عدوهم, وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم, وذلك الصبر {والله يحب الصابرين} فجعل قوله {معه ربيون كثير} حالاً, وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه, وله اتجاه لقوله {فما وهنوا لما أصابهم} الاَية, وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره, وقرأ بعضهم {قاتل معه ربيون كثير} قال سفيان الثوري, عن عاصم, عن زرّ عن ابن مسعود {ربيون كثير} أي ألوف, وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن {ربيون كثير} أي علماء كثير, وعنه أيضاً: علماء صبر أبرار وأتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل, قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الربيون بفتح الراء, وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية, والربانيون الولاة. {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا}قال قتادة والربيع بن أنس {وما ضعفوا} بقتل نبيهم {وما استكانوا} يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله, وقال ابن عباس {وما استكانوا} تخشعوا, وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم, وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم {والله يحب الصابرين }*(1/68)
*السعدي قال تعالى : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " هذا استفهام إنكاري أي : لا تظنوا ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته فإن في الجنة أعلى المطالب وأفضل ما به يتنافس المتنافسون وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته والعمل الموصل إليه فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها وتمرينها عليها ومعرفة ما تؤول إليه تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها ولا يبالون بها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله فقال : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدركانوا يتمنون إن يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم قال الله [ تعالى ] لهم: " فقد رأيتموه " أي : ما تمنيتم ، بأعينكم " وأنتم تنظرون " فما بالكم وترك الصبر ؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن خصوصا لمن تمنى ذلك وحصل له ما تمنى فإن الواجب عليه بذل الجهد واستفراغ الوسع في ذلك ، وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم ولم ينكر عليهم وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها والله أعلم .
ثم قال تعالى " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين "(1/69)
" وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ "
يقول تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " أي : ليس ببدع من الرسل بل هو من جنس الرسل الذين قبله وظيفتهم تبليغ رسالة ربهم وتنفيذ أوامره ليسوا بمخلدين وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال ولهذا قال" أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " بترك ما جاءكم به من إيمان أو جهاد أو غير ذلك . قال تعالى" ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " : إنما يضر نفسه وإلا فالله تعالى غني عنه وسيقيم دينه ويعز عباده المؤمنين فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه مدح من ثبت مع رسوله وامتثل أمر ربه فقال" وسيجزي الله الشاكرين " والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى على كل حال وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه فقد رئيس ولو عظم وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه إذا فقد أحدهم قام به غيره وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله والجهاد عنه بحسب الإمكان لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم وتستقيم أمورهم .
وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين
ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها معلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه فمن حتم عليه بالقدر أن يموت مات ولو بغير سبب ومن أراد بقاءه فلو وقع من الأسباب كل سبب لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى :(1/70)
" إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "
ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم فقال :
" ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها "
قال الله تعالى : كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا
" وسنجزي الشاكرين " ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر قلة وكثرة وحسنا
" وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين
هذا تسلية للمؤمنين وحث على الاقتداء بهم والفعل كفعلهم وأن هذا أمر قد كان متقدما لم تزل سنة الله جارية بذلك فقال : وكأين من نبي " أي : وكم من نبي " قاتل معه ربيون كثير " أي : جماعات كثيرون من أتباعهم الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك" فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا " أي : ما ضعفت قلوبهم ولا وهنت أبدانهم ولا استكانوا أي : ذلوا لعدوهم بل صبروا وثبتوا وشجعوا أنفسهم ولهذا قال : " والله يحب الصابرين ".
- الصابر هو الذي اتصف بالصبر على الطاعات, وعن المعاصي, وعلى ما يصيبه من أقدار الله المؤلمة*
فصل
ومما جاء في باب الصبر = رياض الصالحين… الإمام النووي =(1/71)
. - وعن أبي مَالِكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِم الأشْعريِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَان ، وَالْحَمْدُ للَّه تَمْلأَ الْميزانَ وسُبْحَانَ الله والحَمْدُ للَّه تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّموَات وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةِ نورٌ ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ ، والْقُرْآنُ حُجَّةُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ . كُلُّ النَّاس يَغْدُو، فَبِائِعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُها ، أَوْ مُوبِقُهَا" رواه مسلم .
- وَعَنْ أبي سَعيدٍ بْن مَالِك بْن سِنَانٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَاساً مِنَ الأنصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فأَعْطاهُم ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ، حَتَّى نَفِد مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَنَفَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ : " مَا يَكُنْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يسْتعْفِفْ يُعِفَّهُ الله وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ . وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
- وَعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن : إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ " رواه مسلم .(1/72)
- وَعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَال : "اتَّقِي الله وَاصْبِرِي " فَقَالَتْ : إِلَيْكَ عَنِّي ، فَإِنِّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبتى، وَلَمْ تعْرفْهُ ، فَقيلَ لَها : إِنَّه النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَأَتتْ بَابَ النَّبِّي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فلَمْ تَجِد عِنْدَهُ بَوَّابينَ ، فَقالتْ : لَمْ أَعْرِفْكَ ، فقالَ : " إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى " متفقٌ عليه.
- وعنْ عطاءِ بْن أَبي رَباحٍ قالَ : قالَ لِي ابْنُ عبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهُمَا ألا أريكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الجَنَّة ؟ فَقُلت : بلَى ، قَالَ : هذِهِ المْرأَةُ السوْداءُ أَتَتِ النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وإِنِّي أَتكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّه تعالى لِي قَالَ : " إِن شئْتِ صَبَرْتِ ولكِ الْجنَّةُ، وإِنْ شِئْتِ دعَوْتُ اللَّه تَعالَى أَنْ يُعافِيَكِ " فقَالتْ : أَصْبرُ ، فَقالت : إِنِّي أَتَكشَّفُ ، فَادْعُ اللَّه أَنْ لا أَتكشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا . متَّفقٌ عليْهِ .
- وعنْ أَبي عبْدِ الرَّحْمنِ عبْدِ اللَّه بنِ مسْعُودٍ رضيَ اللَّه عنه قَال : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يحْكيِ نَبيّاً من الأَنْبِياءِ ، صلواتُ اللَّهِ وسَلاَمُهُ عَليْهم ، ضَرَبُهُ قَوْمُهُ فَأَدْموْهُ وهُو يمْسحُ الدَّم عنْ وجْهِهِ ، يقُولُ : " اللَّهمَّ اغْفِرْ لِقَوْمي فإِنَّهُمْ لا يعْلمُونَ " متفقٌ عَلَيْه .(1/73)
- وَعنْ أَبي سَعيدٍ وأَبي هُرَيْرة رضي اللَّه عَنْهُمَا عن النَّبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه " متفقٌ عليه
و " الْوَصَب " : الْمرضُ .
- وعنْ أَبي هُرَيرة رضيَ اللَّهُ عنه قال : قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ " : رواه البخاري .
وضَبطُوا " يُصِب " : بفَتْحِ الصَّادِ وكَسْرِهَا .
- وعن ابن مَسعُودٍ رضي اللَّه عنه قال : لمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثر رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم نَاساً في الْقِسْمَةِ : فأَعْطَى الأَقْرعَ بْنَ حابِسٍ مائةً مِنَ الإِبِلِ وأَعْطَى عُييْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِثْلَ ذلِكَ ، وأَعطى نَاساً منْ أشرافِ الْعربِ وآثَرهُمْ يوْمئِذٍ في الْقِسْمَةِ . فَقَالَ رجُلٌ : واللَّهِ إنَّ هَذِهِ قِسْمةٌ ما عُدِلَ فِيها ، وما أُريد فِيهَا وَجهُ اللَّه ، فَقُلْتُ: واللَّه لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فأتيتُهُ فَأخبرته بِما قال ، فتغَيَّر وَجْهُهُ حتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ . ثُمَّ قال : " فَمنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يعدِلِ اللَّهُ ورسُولُهُ ؟ ثم قال : يرحَمُ اللَّهُ موسى قَدْ أُوْذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصبرَ " فَقُلْتُ: لا جرمَ لا أَرْفعُ إلَيه بعْدها حدِيثاً. متفقٌ عليه .
وقَوْلُهُ " كَالصِرْفَ " هُو بِكسْرِ الصادِ الْمُهْملةِ : وَهُوَ صِبْغٌ أَحْمَرُ .(1/74)
- وقَالَ النبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " إِنَّ عِظَمَ الْجزاءِ مَعَ عِظَمِ الْبلاءِ ، وإِنَّ اللَّه تعالى إِذَا أَحَبَّ قَوماً ابتلاهُمْ ، فَمنْ رضِيَ فلَهُ الرضَا ، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ " رواه الترمذي وقَالَ: حديثٌ حسنٌ .
- وَعَنْ أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال : قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تعالى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ" رواه التِّرْمِذيُّ وقال : حديثٌ حسنٌ صحِيحٌ .
- وَعن أبي يحْيَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي اللَّهُ عنهُ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قال : يا رسولَ اللَّهِ أَلا تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتْعْملتَ فُلاناً وفلاناً فَقَالَ : " إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدي أَثَرَةً فاصْبِرُوا حَتَّى تلقَوْنِي علَى الْحوْضِ " متفقٌ عليه .
" وأُسَيْدٌ " بِضَمِّ الْهمْزةِ . " وحُضَيْرٌ " بِحاءٍ مُهْمَلَةٍ مضمُومَةٍ وضادٍ مُعْجَمَةٍ مفْتُوحةٍ ، واللَّهُ أَعْلَمُ .
53- وَعنْ أبي إِبْراهيمَ عَبْدِ اللَّه بْنِ أبي أَوْفي رضي اللَّهُ عنهمَا أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم في بعْضِ أَيَّامِهِ التي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ ، انْتَظرَ حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهمْ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لا تَتَمنَّوا لِقَاءَ الْعدُوِّ ، وَاسْأَلُوا اللَّه العَافِيَةَ ، فَإِذَا لقيتُموهم فاصْبرُوا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّة تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ " ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ ، وَهَازِمَ الأَحْزابِ ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنا عَلَيْهِمْ " . متفقٌ عليه .
فصل
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه "عدة الصابرين"(1/75)
* الباب الاول في معنى الصبر لغة ، واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها :
- أصل هذه الكلمة هو المنع والحبس فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما ويقال صبر يصبر صبرا وصبر نفسه قال تعالى ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم )
- ويقال صبرت فلانا إذا حبسته وصبرته بالتشديد إذا حملته على الصبر وفي حديث الذي أمسك رجلا وقتله آخر( يقتل القاتل ويصبر الصابر) أي يحبس للموت كما حبس من أمسكه للموت، وصبرت الرجل اذا قتلته صبرا أي أمسكته للقتل ،وصبرته أيضا وأصبرته إذا حبسه للحلف ومنه الحديث الصحيح (من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عنه معرض )ومنه الحديث الذي في القسامة (ولا تصبر يمينه حيث تصبر الإيمان) والمصبورة اليمين المحلوف عليها وفي الحديث نهى
عن المصبورة وهى الشاة والدجاجة ونحوهما تصبر للموت فتربط فترمى حيث تموت ، وفعل هذا الباب صبَرت أصبِر بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل وأما صبَرت أصبُر بالضم في المستقبل فهو بمعنى الكفالة والصبير الكفيل كأنه حبس نفسه للغرم ومنه قولهم أصبرنى أي جعلني كفيلا
- وقيل أصل الكلمة من الشدة والقوة ومنه الصبر للدواء المعروف لشدة مرارته وكراهته قال الأصمعى إذا لقي الرجل الشدة بكمالها قيل لقيها بأصبارها ومنه الصبر بضم الصاد للأرض ذات الحصب لشدتها وصلابتها ومنه سميت الحرة أم صبار ومنه قولهم وقع القوم في أمر صبّور بتشديد الباء أي أمر شديد ومنه صبارّة الشتاء بتخفيف الباء وتشديد الراء لشدة برده(1/76)
- وقيل مأخوذ من الجمع والضم فالصابر يجمع نفسه ويضمها عن الهلع والجزع ومنه صبرة الطعام وصبارة الحجارة والتحقيق أن في الصبر المعاني الثلاثة المنع والشدة والضم ويقال صبَر إذا أتى بالصبر وتصبَّر إذا تكلفه واستدعاه واصطبر إذا اكتسبه وتعمله وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر وصبر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر واسم الفاعل صابر وصبّار وصبور ومِصابر ومصطبِر فمصابر من صابر ومصطبر من اصطبر وصابر من صبر وأما صبّار وصبور فمن أوزان المبالغة من الثلاثى كضراب وضروب والله أعلم
* الباب الثاني في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه
قد تقدم بيان معناه لغة وأما حقيقته فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل وهو قوة من قوى النفس التى بها صلاح شأنها وقوام أمرها
- وسئل عنه الجنبد بن محمد فقال =تجرع المرارة من غير تعبُّس=
- وقال ذو النون =هو التباعد عن المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية وإظهار الغني مع حلول الفقر بساحات المعيشة =
- وقبل الصبر =هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب =
- وقيل =هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى =
- وقال أبو عثمان =الصبار هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره =
- وقيل الصبر= المقام على البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية= ،ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر وصحبة البلاء بالصبر
- وقال عمرو بن عثمان المكى الصبر= هو الثبات مع الله وتلقى بلائه بالرحب والدعة = ،ومعنى هذا انه يتلقى البلاء وبصدر واسع لا يتعلق بالضيق والسخط والشكوى
- وقال الخواص الصبر= الثبات على أحكام الكتاب والسنة=
- وقال رويم الصبر= ترك الشكوى= فسره بلازمه
- وقال غيره الصبر =هو الاستعانة بالله =
- وقال أبو على الصبر كإسمه
- وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه= الصبر مطية لا تكبو =(1/77)
- وقال ابو محمد الجريرى= الصبر أن لا يفرق بين النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما =
قلت وهذا غير مقدور ولا مأمور به فقد ركب الله الطباع على التفريق بين الحالتين وانما المقدور حبس النفس عن الجزع لا استواء الحالتين عند العبد وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر كما قال النبي في الدعاء المشهور (أن لم يكن بك غضب على فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى )ولا يناقض هذا قوله( وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر) فإن هذا بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر وأما قبله فالعافية أوسع له
- وقيل =الصبر شجاعة النفس= ومن ها هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة
- وقيل = الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب =(1/78)
- والصبر والجزع ضدان ولهذا يقابل أحدهما بالآخر قال تعالى عن أهل النار (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )والجزع قرين العجز وشقيقه والصبر قرين الكيس ومادته فلو سئل الجزع من أبوك لقال العجز ولو سئل الكيس من أبوك لقال الصبر، والنفس مطية العبد التى يسير عليها إلى الجنة أو النار والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطيه فإن لم يكن للمطيه خطام ولا زمام شردت في كل مذهب ... فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله وصرفها بزمامها عن معاصى الله فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه قلت والنفس فيها قوتان قوة الإقدام وقوة الاحجام فحقيقة الصبر ان يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه وقوة الاحجام امساكا عما يضره ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه اقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعه ولا صبر له عن داعى هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك وأفضل الناس أصبرهم على النوعين فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام ولا يصبر عن نظرة محرمة وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بل هو أضعف شئ عن هذا وأعجزه وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين وأقلهم أصبرهم في الموضعين
- وقيل =الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة ومعنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه والحرب قائمة بينهما وهو سجال ومعرك هذا الحرب قلب العبد والصبر والشجاعة والثبات
في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز
قال الإمام أحمد رحمه الله ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا اه(1/79)
-ونحن نذكر الأنواع التى سيق فيها الصبر وهى عدة أنواع :
1- الأمر به كقوله (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) النحل 127 (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) الطور 48
2- النهى عما يضاده كقوله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) الأحقاف 35 وقوله ولا (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران 139 وقوله (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) القلم48
وبالجملة فكل ما نهى عنه فانه يضاد الصبر المأمور به
3- تعليق الفلاح به كقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران : 200 فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور
4- الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره كقوله (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (القصص : 54 ) وقوله (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر : 10 )
قال سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال الله تعالى انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب قال كالماء المنهمر(1/80)
5- تعليق الإمامة في الدين به وباليقين قال الله (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة : 24 )) (الأنبياء : 73 ) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
6- ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة : 153 )وقال (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال : 46 ) وقال ( قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة : 249 ) وقال (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال : 66 )
قال أبو على الدقاق فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته
7- انه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهى الصلاة منه عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم قال( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة :5-6- 157 )
وقال بعض السلف وقد عزى على مصيبة نالته فقال مالى لا أصبر وقد وعدنى الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها(1/81)
8- أنه سبحانه جعل الصبر عونا وعدة وأمر بالاستعانة به فقال (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة : 45 )
فمن لا صبر له لا عون له
9- أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى فقال (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران : 125 )
ولهذا قال النبي ضلى الله عليه وسلم (واعلم أن النصر مع الصبر )
10- أنه سبحانه جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فمن استجن العبد من ذلك جنة أعظم منهما قال تعالى (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران : 120 )
11- انه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما قال (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد : 22 - 23 - 24 )(1/82)
12 - انه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به ثم أقسم قسما مؤكدا غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) (النحل : 126 ) فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التى في الجواب
13- انه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) (11) هود ، وهؤلاء ثنية الله من نوع الإنسان المذموم الموصوف باليأس والكفر عند المصيبة والفرح والفخر عند النعمة ولا خلاص من هذا الذم الا بالصبر والعمل الصالح كما لا تنال المغفرة والأجر الكبير الا بهما(1/83)
14- انه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور أى مما يعزم من الأمور التى انما يعزم على أجلها وأشرفها فقال (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران : 186 ) ((إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى : 43 ) وقال لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان : 17 )
15- انه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر وهى كلمته التى سبقت لهم وهى الكلمة الحسنى وأخبر أنه انما انالهم ذلك بالصبر فقال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الأعراف : 137 )
16- أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله فقال (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : 146 )(1/84)
17- انه سبحانه أخبر عن خصال الخير انه لا يلقاها الا الصابرون في موضعين من كتابه في سورة القصص في قصة قارون وان الذين أوتوا العلم قالو للذين تمنوا مثل ما (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) (القصص : 80 ) وفي سورة حميم السجدة حيث أمر العبد أن يدفع بالتى هى أحسن فإذا فعل ذلك صار الذى بينه وبينه عداوة كأنه حبيب قريب ثم قال (َمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 33 ) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( 34 ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 )) (فصلت )(1/85)
18- أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور فقال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم : 5 ) وقال تعالى في لقمان (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (لقمان : 31 ) وقال في قصة سبأ (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سبأ : 19 ) وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( 32 ) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ( 33 ) هود .
فهذه أربع مواضع في القرآن تدل على أن آيات الرب انما ينتفع بها أهل الصبر والشكر
19- أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صـ : 44 ) فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا وهذا يدل على أن من لم يصبر اذا ابتلى فإنه بئس العبد
20- انه سبحانه حكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال (وَالْعَصْرِ ( 1 ) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( 2 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( 3 ) العصر.(1/86)
ولهذا قال الشافعى لو فكر الناس كلهم في هذه الاية لوسعتهم وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه قوة العلم وقوة العمل وهما الإيمان والعمل الصالح وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره وهو التواصى بالحق والتواصى بالصبر وأخية ذلك وقاعدته وساقه الذى يقوم عليه انما هو الصبر
21- أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال تعالى (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18-17البلد ) أولئك أصحاب الميمنة وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان والناس بالنسبة اليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الاقسام وشرهم من لا صبر له ولا رحمة فيه ويليه من له صبر ولا رحمة عنده ويليه القسم الرابع وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له
22- أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها فقرنه بالصلاة كقوله( واستعينوا بالصبر والصلاة )وقرنه بالأعمال الصالحة عموما كقوله (الا الذين صبروا وعملوا الصالحات) وجعله قرين التقوى كقوله( إنه من يتق ويصبر) وجعله قرين الشكر كقوله (ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور) وجعله قرين الحق كقوله (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وجعله قرين الرحمة كقوله (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) وجعله قرين اليقين كقوله (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) وجعله قرين الصدق كقوله (والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات) وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه ويكفي بعض ذلك شرفا وفضلا والله أعلم . ...(1/87)
6- (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)147 ( فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)148 (آل عمران )
ابن عطية … هذه الآية في ذكر الربيين أي هذا كان قولهم ،لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد من قول من قال نأخذ أمانا من أبي سفيان، ومن قول من قال نرجع إلى ديننا الأول ،ومن قول من فر... فلا شك أن قوله مناسب لفعله ولو بعض المناسبة ، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال وقرأ السبعة وجمهور الناس قولَهم بالنصب ويكون الاسم فيما بعد ( إلا ) وقرأ جماعة من القراء قولُهم بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد ( إلا ) روى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ذكره المهدوي واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى ( ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ) عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب وكذلك فسر ابن عباس وغيره وقال الضحاك الذنوب عام والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة وقولهم (وثبت أقدامنا ) يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار فيكون المعنى اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك وتثبيت القدم على هذا استعارة ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله ( وانصرنا على القوم الكافرين ) فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب قال ابن فورك في هذا الدعاء رد على القدرية لقولهم إن الله لا يخلق أفعال العبد ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لا يفعله . و ( ثواب الدنيا ) في هذه الآية الظهور على عدوهم قاله ابن إسحاق وقتادة وغيرهما وقال ابن جريج الظفر والغنيمة وفسر بهذا جماعة من المؤلفين في التفسير قال النقاش ليس(1/88)
إلا الظفر والغلبة فقط لأن الغنيمة لم تحلل إلا لهذه الأمة .
قال الفقيه الإمام وهذا اعتراض صحيح ( وحسن ثواب الآخرة )الجنة بلا خلاف وعبر بلفظة حسن زيادة في الترغيب
ابن عاشور… وقوله تعالى :(وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) الآية عطف على (فما وهنوا) لأنه لما وصفهم برباط الجأش، وثبات القلب، وصفهم بعد ذلك بما يدل على الثبات من أقوال اللسان التي تجري عليه عند الاضطراب الجزع، أي أن ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردد في صدق وعد الله، ولا بدر منهم تذمر، بل علموا أن ذلك لحكمة يعلهما سبحانه، أو لعله كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم(ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثم سألوه النصر وأسبابه ثانيا فقالوا (وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) فلم يصدهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النصر، وفي الموطأ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي فقصر قولهم في تلك الحالة التي يندر فيها صدور مثل هذا القول، على قولهم (ربنا أغفر لنا) إلى آخره، فصيغة القصر في قوله (وما كان قولهم إلا أن قالوا) قصر إضافي لرد اعتقاد من قد يتوهم أنهم قالوا أقوالا تنبئ عن الجزع، أو الهلع، أو الشك في النصر، أو الاستسلام للكفار. وفي هذا القصر تعريض بالذين جزعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم: لو كلمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.(1/89)
وقدم خبر(كان) على اسمها في قوله (وما كان قولهم إلا أن قالوا) لأنه خبر عن مبتدأ محصور، لأن المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة (ربنا أغفر لنا ذنوبنا) فالقصر حقيقي لأنه لقولهم الصادر منهم، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله، فلذلك القيد ملاحظ من المقام، نظير القصر في قوله تعالى (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) فهو قصر حقيقي مقيد بزمان خاص، تقييدا منطوقا به، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأن المصدر المنسبك المؤول أعرف من المصدر الصريح لدلالة المؤول على النسبة وزمان الحدث، بخلاف إضافة المصدر الصريح، وذلك جائز في باب (كان) في غير صيغ القصر، وأما في الحصر فيتعين تقديم المحصور.
والمراد من الذنوب جميعها، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبر عنه هنا بالإسراف في الأمر، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحد، فلعله أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن أبن عباس وجماعة، وعليه فالمراد بقوله: أمرنا، أي ديننا وتكليفنا، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه، وتمحض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصغائر. ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسراف في الامر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال، والاستعداد له، أو الحذر من العدو، وهذا الظاهر من كلمة أمر، بأن يكونوا شكوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئا عن سببين: باطن وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر، وهذا أولى من الوجه الأول.(1/90)
وقوله(فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لحصول خيري الدنيا والآخرة، فثواب الدنيا هو الفتح والغنيمة، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم من حسن عاقبة الآخرة، ولذلك وصفه بقوله(وحسن ثواب الآخرة) لأنه خير وأبقى، وتقدم الكلام على الثواب عند قوله تعالى في سورة البقرة (لمثوبة من الله خير).
وجملة (والله يحب المحسنين) تذييل أي يحب كل محسن، وموقع التذييل يدل على أن المتحدَّث عنهم من الذين أحسنوا، فاللام للجنس المفيد معنى الاستغراق، وهذه من أكبر الأدلة على أن ال الجنسية إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، وأن الاستغراق المفاد من ال إذا كان مدخولها مفردا وجملة سواء.
+ قال عند تفسير قوله تعالى "(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) (البقرة : ( أي لو آمنوا بمحمد ( واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة.
…والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي -ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة والمكروهة.(1/91)
الألوسي … وقوله تعالى : ( وما كان قولهم )كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية وهو معطوف على ما قبله وقيل : كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية و ( قولَهم ) بالنصب خبر لكان وأسمها المصدر المتحصل من ( أن ) وما بعدها في قوله تعالى : ( إلا أن قالوا ) والإستثناء مفرغ من أعم الأشياء أيما كان قولهم في ذلك المقام وإشتباك أسنة الشدائد والآلام ( إلا أن قالوا ) ( ربنا أغفر لنا ذنوبنا )أي صغائرنا ( وإسرافنا في أمرنا ) أي تجاوُزنا عن الحد والمراد كبائرنا وروى ذلك عن الضحاك وقيل : الإسراف تجاوز في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير وقيل : إنه يقابل الإسراف وكلاهما ...والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برءاء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لأنفسهم وإستقصارا لهمهم وسسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبا وإسرافا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين
-وقيل : أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث أنه لا يجب على الله تعالى شيء وفيه ما لا يخفى وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه : ( وثبت أقدامنا ) أي عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك ( وأنصرنا على القوم الكافرين) تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الإستجابة .
-ومن الناس من قال : المراد من ثبت أقدامنا ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم(1/92)
-وقيل : إنهم طلبوا الغفران أولا ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعولون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى وفي الأخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى .. ( فأثابهم الله ) أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء ( ثواب الدنيا ) أي النصر والغنيمة قاله إبن جريج وقال قتادة الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم قيل : وتسمية ذلك ثوابا لأنه مترتب على طاعتهم وفيه إجلال لهم وتعظيم وقيل : تسميه ذلك ثوابا مجاز لأنه يحاكيه .
وأستشكل تفسير إبن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثوابا دنيويا ولم يصل للغانمين منها شيء وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي ( وحسن ثواب الآخرة ) أي وثواب الآخرة الحسن وهو عند إبن جريج رضوان الله تعالى ورحمته ، وعند قتادة هي الجنة وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين ( والله يحب المحسنين ) تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن ما حكى عنهم من باب الإحسان وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكى من المناقب الجليلة *
فصل(1/93)
ما الإحسان ؟ قال: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّك تَراهُ، فَإن لمْ تكُنْ تَراهُ فإنَّهُ يَراك) قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله
قوله الإحسان هو مصدر تقول أحسن يحسن إحسانا ويتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا إذا اتقنته واحسنت إلى فلان إذا اوصلت إليه النفع والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن باخلاصه إلى نفسه وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوغ وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود وأشار في الجواب إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى أنه يراه بعينه وهو قوله كأنك تراه أي وهو يراك والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل وهو قوله فإنه يراك وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع بقوله أن تخشى الله كأنك تراه وكذا في حديث أنس وقال النووي معناه إنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك لكونه يراك لا لكونك تراه فهو دائما يراك فأحسن عبادته وإن لم تره فتقدير الحديث فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك قال وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين وهو من جوامع الكلم التي اوتيها صلى الله عليه وسلم وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص احتراما واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه في سره وعلانيته انتهى وقد سبق إلى أصل هذا القاضي عياض وغيره وسيأتي مزيد لهذا في تفسير لقمان إن شاء الله تعالى تنبيه دل سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم فذاك لدليل آخر وقد صرح مسلم في روايته من حديث أبي إمامة بقوله صلى الله عليه وسلم واعلموا إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا وأقدم بعض(1/94)
غلاة الصوفية على تأويل الحديث بغير علم فقال فيه إشارة الى مقام المحو والفناء وتقديره فإن لم تكن أي فإن لم تصر شيئا وفنيت عن نفسك حتى كأنك ليس بموجود فأنك حينئذ تراه وغفل قائل هذا للجهل بالعربية عن أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله تراه محذوف الألف لأنه يصير مجزوما لكونه على زعمه جواب الشرط ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس فلا يصار إليه إذ لاضرورة هنا وأيضا فلو كان ما ادعاه صحيحا لكان قوله فإنه يراك ضائعا لأنه لا ارتباط له بما قبله ومما يفسد تأويله رواية كهمس فإن لفظها فإنك إن لا تراه فأنه يراك وكذلك في رواية سليمان التيمي فسلط النفي على الرؤية لا على الكون الذي حمل على ارتكاب التأويل المذكور وفي رواية أبي فروة فان لم تره فإنه يراك ونحوه في حديث أنس وابن عباس وكل هذا يبطل التأويل المتقدم والله أعلم
وقال الامام النووي رحمه الله
قوله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان".(1/95)
فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد بإطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للإطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته.
وقال الإمام العيني رحمه الله: قال: الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه ، أراد مبالغة الإخلاص لله سبحانه وتعالى بالطاعة والمراقبة له.(1/96)
وقال …قوله ما الإحسان؟ كلمة ما للاستفهام مبتدأ و الإحسان خبره والألف واللام فيه للعهد كما في قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وقوله تعالى(هل جزاء لإحسان إلا الإحسان) وقوله تعالى (وأحسنوا أن الله يحب المحسنين) ولتكرره في القرآن وترتب الثواب عليه سأل عنه جبريل عليه السلام . قوله قال أن تعبد الله أي قال النبي في جوابه الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فقوله أن مصدرية في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره الإحسان عبادتك الله كأنك تراه وقال الكرماني فإن قلت كأنك ما محله من الإعراب قلت هو حال من الفاعل أي تعبد الله مشبها بمن يراه انتهى كلامه قلت تحقيق الكلام هنا أن كأن للتشبيه قال الجوهري في فصل أن وقد تزاد على أن كاف التشبيه تقول كأنه شمس وقال غيره أنه حرف مركب عند الجمهور حتى ادعى ابن هشام وابن الخباز الإجماع عليه وليس كذلك قالوا والأصل في كأن زيداً أسد ثم قدم حرف التشبيه اهتماماً به ففتحت همزة أن لدخول الجار وذكروا لها أربعة معان أحدها وهو الغالب عليها والمتفق عليه التشبيه وهذا المعنى أطلقه الجمهور لِكأن وزعم منهم ابن السيد أنه لا يكون إلا إذا كان خبرها اسماً جامداً نحو كأن زيداً أسد بخلاف كأن زيداً قائم أو في الدار أو عندك أو يقدم فإنها في ذلك كله للظن والثاني للشك والثالث للتحقيق والرابع للتقريب قاله الكوفيون وحملوا عليه قوله كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فإذا علم هذا فنقول قوله كأنك تراه ينزل على أي معنى من المعاني المذكورة فالأقرب أن ينزل على معنى التشبيه فالتقدير الإحسان عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك مثل حال كونك رائياً وهذا التقدير أحسن وأقرب للمعنى من تقدير الكرماني لأن المفهوم من تقديره أن يكون هو في حال العبادة مشبهاً بالرائي إياه وفرق بين عبادة الرائي نفسه وعبادة المشبه بالرائي بنفسه وأما على قول ابن السيد فتحمل كأن على معنى الظن لأن خبرها(1/97)
غير جامد فافهم قوله فإن لم تكن تراه أي فإن لم تكن ترى الله وكلمة أن للشرط وقوله لم تكن تراه جملة وقعت فعل الشرط فإن قلت أين جزاء الشرط قلت محذوف تقديره فإن لم تكن تراه فأحسن العبادة فإنه يراك فإن قلت لم لا يكون قوله فإنه يراك جزاء للشرط قلت لا يصح لأنه ليس مسبباً عنه.*** وينبغي أن يكون فعل الشرط سببا لوقوع الجزاء كما تقول في إن جئتني أكرمتك فإن المجيء هو السبب للاكرام وعدمه سبب لعدمه وههنا عدم رؤية العبد ليست بسبب لرؤية الله تعالى يراه سواء وجدت من العبد رؤية أولم توجد فإن قلت ما الفاء في قوله فإن قلت للتعليل على ما لا يخفى
- وقال… قوله ما الإحسان وهو يستعمل لمعنيين احدهما متعد بنفسه كقولك احسنت كذا إذا حسنته وكملته، منقولة بالهمزة من حسن الشيء ، والآخر بحرف الجر كقولك أحسنت إليه إذا أوصلت إليه النفع والإحسان، وفي الحديث بالمعنى الأول فإنه يرجع إلى اتقان العبادات ومراعاة حق الله تعالى ومراقبته. ويقال الإحسان على مقامين : الأول كما قال أن تعبد الله كأنك تراه فهذا مقام، والثاني قوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك .(1/98)
-قال عبد الجليل الأول على ثلاثة أقسام: الأول في مقام الإسلام وذلك أن الأمور في عالم الحسن ثلاثة معاصي وطاعات ومباحات المعايش فأما قسم المعاصي على اختلاف أنواعها فإن العبد مأمور بأن يعلم أن الله يراه فإذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه ويبصره على أي حالة كانت وأنه (يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور) كف عن المعصية ورجع عنها وأما الأنسان فيذهل عن نظر الله إليه فينسى حين المعصية أنه يراه أو يكون جاهلا فيظن أن الله تعالى بعيد منه ولا يتذكر ويعلم أنه يحرك جوارحه حين العمل المعمول فينسى ذلك أو يجهل فيقع في المعصية ولو علم وتحقق أن والده أو رجلا كبيرا لو يراه حين المعصية لكف عنها وهرب منها فإذا علم العبد أن الله يراه في حين المعصية كف عنها بحصول البرهان الإحساني عنده وهو البرهان الذي أوتيه ورآه يوسف عليه السلام وهو قيام الدليل الواضح العلمي بأن الله تعالى موجود حق وأنه ناظر إلى كل شيء ومصرف لكل شيء ومحركه ومسكنه فمن أراه الله تعالى هذا البرهان عند جميع المهمات صرف عنه السوء والفحشاء من جميع المنكرات الثاني قسم الطاعات فهي أن تعلم أن الله تعالى موجود وتبرهن عنده أنه يراه لا محالة إلا أن يكون زنديقا جاحدا لا يقر برب فإن كان مقر بوجوده فترك العبادة فإنما تركها تهاونا لنقصان البرهان الإحساني عنده وهذه حال المضيعين للفرائض لجهلهم بقدر الآمر وقدر أمره الثالث من المباحات وهو محل الغفلة والسهو عن هذا المقام الإحساني فإذا تذكر العبد أن الله تعالى يراه في تصريفه وأنه أره بالإقبال عليه وقلة الإعراض عنه استحي أن يراه مكبا على الخسيس الفاني مستغرقا في الاشتغال به عن ذكره وعن الإقبال على ما يقطع عنه. المقام الثاني في عالم الغيب فإن العبد إذ فكر في مواطن الآخرة من موت وقبر وحشر وعرض وحساب وغي ذلك وعلم أنه معروض على الله تعالى في ذلك العالم ومواطنه تهيأ لذلك العرض فيتزين للآخرة بزينة أهل الآخرة ما(1/99)
استطاع وأما المقام الثالث في الإحسان فإن العبد إذا علم في قلوب اوليائه فيزيل الصفات المهلكات ويطهره منها ويتصف بالمحمودات حتى يجعل سره كالمرآة المجلوة
-قوله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال النووي هذا اصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين وتلخيص معناه أن تعبد الله عبادة من يرى الله تعالى ويراه الله تعالى فإنه لا يستبقي شيئا من الخضوع والإخلاص وحفظ القلب والجوارح ومراعاة الآداب ما دام في عبادته وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك يعني أنك إنما تراعي الآداب إذا رأيته ورآك لكونه يراك لا لكونك تراه وهذا المعنى موجود وإن لم تره لأنه يراك وحاصله الحث على كمال الإخلاص في العبادة ونهاية المراقبة فيها وقال هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته.
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله
. وأما الإحسان : ففسره بنفوذ ( . بالبصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان ، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه . ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتا كثيرا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك هاهنا بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . قيل : المراد : أن نهاية مقام الإحسان : أن يعبد المؤمن ربَّه كأنه يراه بقلبه فيكون مستحضرا ببصيرته وفكرته لهذا المقام فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ولا يخفى عليه شيء من أمره .(1/100)
وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه ، منهم : ابن عمر ، وأبو ذر، ووصى معاذا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من أهله . قال بعض السلف : من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص . فهذان مقامان : أحدهما : مقام المراقبة ، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله فيراقبه في حركاته وسكناته وسره وعلانيته ، فهذا مقام المراقبين المخلصين ، وهو أدنى مقام الإحسان .
والثاني : أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة فيصير كأنه يرى الله ويشاهده ، وهذا نهاية مقام الإحسان ، وهو مقام العارفين . وحديث حارثه هو من هذا المعنى ؛ فإنه قال : كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عرفتَ فالزمْ : عبدٌ نوَّر اللهُ الإيمانَ في قلبه " . وهو حديث مرسل ، وقد روي مسندا بإسناد ضعيف . وكذلك قول ابن عمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف فلم يرد عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال : كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا . ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض : يقول الله : ما أنا مطلع على أحبائي إذا جهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ، ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري .(1/101)
وبهذا فسر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى (? وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ?) [ الروم : 27 ] ومثله قوله تعالى ? (الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ توقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ) [ النور : 35] ، قال ابن كعب وغيره من السلف : مثل نوره في قلب المؤمن . ٌفمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه وأنس به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه ، كما قال بعضهم : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ؟! بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وقيل لآخر : أما تستوحش ؟! قال : كيف استوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ؟ وقيل لآخر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : ويستوحش مع الله أحد ؟ ! وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول : من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه ، ومن لم يأنس بك فلا أنس . وقال الفضيل : طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه .(1/102)
وقال معروف لرجل : توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك . وقال ذو النون : علامة المحبين لله : أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه ، ثم قال : إذا سكن القلبَ حبُّ الله أنس بالله ؛ لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره . وقوله صلى الله عليه وسلم " اعبد الله كأنك تراه " إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته ، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه . وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة - كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية - فهو زعم باطل ؛ فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما ، وروي عن عائشة - أيضا - أنه حصل للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين . وروي في ذلك أحاديث مرفوعة - أيضا .
وكذا قال جماعة من التابعين : إنه يراه بقلبه ، منهم الحسن ، وأبو العالية ، ومجاهد و وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وإبراهيم التيمي وغيرهم . فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مزية له لا سيما وإنما قالوا : إنها حصلت له مرتين ؛ فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالا ومقاما دائما أو غالبا لهم ، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء ، ويتفرع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات ، والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم .
فهذه المقامات الثلاث " الإسلام والإيمان والإحسان يشملها اسم الدين ، فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار وإن دخلها بذنوبه ، ومن استقام ( 211 - ب / ف ) على الإحسان إلى الموت وصل على الله عز وجل ، وقال تعالى ?( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزيادة) ? [ يونس : 26 ] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله ...(1/103)
7-(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ159 إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) 160 آل عمران : )(1/104)
*ابن كثير … يقول تعالى مخاطباً رسوله, ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره, التاركين لزجره, وأطاب لهم لفظه {فبما رحمة من الله لنت لهم} أي: أي شيء جعلك لهم ليناً, لولا رحمة الله بك وبهم, وقال قتادة {فبما رحمة من الله لنت لهم} يقول فبرحمة من الله لنت لهم, وما صلة, والعرب تصلها بالمعرفة كقوله {فبما نقضهم ميثاقهم} وبالنكرة كقوله: {عما قليل} وهكذا ههنا قال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} أي برحمة من الله, وقال الحسن البصري هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به, وهذه الاَية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} وقال الإمام أحمد: حدثنا حيوة, حدثنا بقية, حدثنا محمد بن زياد, حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أبا أمامة إن مِن المؤمنين مَن يلين لي قلبه" تفرد به أحمد, ثم قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك} والفظ= الغليظ, والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك {غليظ القلب} أي لو كنت سيء الكلام, قاسي القلب عليهم لا نفضوا عنك وتركوك, ولكن الله جمعهم عليك, وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم, كما قال عبد الله بن عمرو: "إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة إنه ليس بفظ, ولا غليظ, ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويصفح", وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي, حدثنا عمار بن عبد الرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض" حديث غريب. ولهذا قال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} ولذلك كان رسول الله صلى الله(1/105)
عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه, كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير, فقالوا: يا رسول الله, لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك, ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك, ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون: ولكن نقول اذهب, فنحن معك, وبين يديك, وعن يمينك, وعن شمالك مقاتلون, وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل, حتى أشار المنذر بن عمرو المُعْنق ليموت, بالتقدم إلى أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو, فأشار جمهورهم بالخروج إليهم, فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ, فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة, فترك ذلك, وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق: إنا لم نجىء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين, فأجابه إلى ما قال, وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك "أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم, وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن ؟ والله ما علمت عليه إلا خيراً" واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجباً عليه أو من باب الندب تطييباً لقلوبهم ؟ على قولين. وقد قال الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي, حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر, حدثنا سعيد بن أبي مريم, أنبأنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر, وكانا حواريّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه, وأبوي المسلمين, وقد روى الإمام(1/106)
أحمد: حدثناوكيع, حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب, عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لأبي بكر وعمر "لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما" وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم ؟ فقال "مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم" وقد قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يحيى بن بكير عن شيبان, عن عبد الملك بن عمير, عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "المستشار مؤتمن" ورواه أبو داود والترمذي, وحسنه النسائي من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أسود بن عامر عن شريك, عن الأعمش, عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المستشار مؤتمن" تفرد به. وقال أيضاً: حدثنا أبو بكر, حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى, عن أبي الزبير, عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه" تفرد به أيضاً. وقوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه {إن الله يحب المتوكلين} وقوله تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وهذه الاَية كما تقدم من قوله: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} ثم أمرهم بالتوكل عليه, فقال {وعلى الله فليتوكل المؤمنون.}(1/107)
وقال ابن أبي حاتم ذ… قوله تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب = حدثنا ابي، ثنا احمد بن عبد الرحمن، ثنا عبد الله بن ابي جعفر عن ابيه، عن الربيع قوله: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك اي: والله قد طهره من الفظاظة والغلظة، وجعله رحيما قريبا رؤوفا بالمؤمنين. وروي عن قتادة مثل ذلك. قوله تعالى: لانفضوا من حولك = حدثنا محمد بن العباس، ثنا محمد بن عمرو، ثنا سلمة قال محمد ابن اسحاق: لانفضوا من حولك اي لتركوك. قوله تعالى: فاعف عنهم = وبه قال محمد بن اسحاق: فاعف عنهم اي: تجاوز عنهم. قوله تعالى: واستغفر لهم = وبه قال محمد بن اسحاق: واستغفر لهم اي استغفر لهم ذنوبهم. قوله تعالى: وشاورهم في الامر = حدثنا يونس بن عبد الاعلى قراءة، انبا ابن وهب قال: سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن معمر، عن ابن شهاب، عن ابي هريرة قال: ما رايت احدا اكثر مشورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . = حدثنا ابي، ثنا عبد الله بن رجاء، انبا عمران القطان، عن الحسن في قوله: وشاورهم في الامر قال: والله ما تشاور قط الا عزم الله لهم بالرشد والذي ينفع =حدثنا ابو سعيد، ثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك: في قوله: وشاورهم في الامر قال: ما امر الله نبيه بالمشورة الا لما يعلم فيها من الفضل. = حدثنا ابي، ثنا ابن ابي عمر، ثنا سفيان، عن ابن شبرمة، عن الحسن في قوله: وشاورهم في الامر قال: قد علم انه ليس به اليهم حاجة، وربما قال: ليس له اليهم حاجة، ولكن اراد ان يستنَّ به من بعده.= حدثنا ابي، ثنا احمد بن عبد الرحمن، ثنا عبد الله بن ابي جعفر عن ابيه عن الربيع بن انس قوله: وشاورهم في الامر قال: امر الله نبيه ان يشاور اصحابه في الامور، وهو ياتيه الوحي من السماء، لانه اطيب لانفسهم. = حدثنا محمد بن يحيى، انبا العباس بن يزيد، عن سعيد عن قتادة: مثل ذلك الا انه زاد: وان القوم اذا شاوروا بعضهم بعضا وارادوا بذلك وجه الله، عزم الله لهم(1/108)
على ارشده. = ذكر عن ابن المبارك، عن ابي اسماعيل يعني: جابر بن اسماعيل عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة وشاورهم في الامر قال: في الحرب. = حدثنا محمد بن العباس، ثنا محمد بن عمرو، ثنا سلمة قال محمد بن اسحاق في قوله: وشاورهم في الامر اي لتريهم انك تسمع منهم وتستعين بهم، وان كنت غنيا عنهم، تؤلفهم بذلك على دينهم. الوجه الثاني: =حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو ابن دينار قال: قرا ابن عباس: وشاورهم في بعض الامر. قوله تعالى: فاذا عزمت = حدثنا ابي، ثنا عمر الدوري، ثنا ابو عمارة يعني: حمزة بن القاسم، عن ابي تميلة، عن ابي منيب قال: سمعت جابر بن زيد وابا نهيك قريا: فاذا عزمت لك يا محمد على امر فتوكل على الله. =وروي عن الربيع بن انس قال: امره الله اذا عزم على امر ان يمضي فيه. وروي عن قتادة مثل ذلك. = حدثنا محمد بن العباس، ثنا محمد بن عمرو زنيج، ثنا سلمة قال: قال محمد بن اسحاق قوله: فاذا عزمت على امر جاءك مني، او امر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم الا ذلك، فامضِ على ما امرت به، على خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك. قوله تعالى: فتوكل على الله = وبه قال محمد بن اسحاق: فتوكل على الله اي ارض به من العباد ان الله يحب المتوكلين.
قوله تعالى: ان ينصركم الله فلا غالب لكم = وبه قال محمد بن اسحاق: ان ينصركم الله فلا غالب لكم اي ان ينصرك الله فلا غالب لكم من الناس، لن يضركم خذلان من خذلكم. قوله تعالى: وان يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده = وبه قال ابن اسحاق: اي لئلا تترك امري للناس، وارفض الناس لامري. قوله تعالى: وعلى الله فليتوكل المؤمنون = وبه قال ابن اسحاق: وعلى الله اي لا على الناس فليتوكل المؤمنون.(1/109)
* القرطبي… الآية: 159 {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}
قوله: "ما" صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة؛ كقوله: "عما قليل" [المؤمنون: 40] "فبما نقضهم ميثاقهم" [النساء: 155] "جند ما هنالك مهزوم" [ص: 11]. وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها.. ابن كيسان: "ما" نكرة في موضع جر بالباء "ورحمة" بدل منها. ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل: "ما" استفهام. والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم؛ فهو تعجيب. وفيه بعد؛ لأنه لو كان كذلك لكان "فبم" بغير ألف. "لنت" من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والأنثى فظة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ـ وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومعنى "لانفضوا" لتفرقوا؛ فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا؛ وأصل الفض الكسر؛ ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك.. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم.(1/110)
في قوله تعالى: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه،
-قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: "وأمرهم شورى بينهم" [الشورى: 38]. قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل.(1/111)
قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي؛ فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه (أن يشاور فيه أصحابه؛ فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله (والبكر تستأمر) تطيبا لقلبها؛ لا أنه واجب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم: فأمر الله تعالى؛ نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده. وفي قراءة ابن عباس: "وشاورهم في بعض الأمر"
ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الخفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه في قوله: (شاورهم)و (توكل)
جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن). قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله. فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه؛ قاله الخطابي وغيره.
وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير.(1/112)
- والشورى بركة. وقال عليه السلام: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار). وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي). وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى. قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها. وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى. وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم. وروي عن علّي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم).
-والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب؛ وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية.
قوله تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله" قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه (إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الأمر المُرَوَّى المنقَّح، وليس ركوب الرأي دون روِيَّة عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب(1/113)
- وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء؛ والله تعالى يقول: "وشاورهم في الأم فإذا عزمت ". فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم. وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: "فإذا عزمت" بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه؛ كما قال: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" [الأنفال: 17]. ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك "فتوكل على الله". والباقون بفتح التاء. قال المهلب: وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله). أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة. فلبسه لأمته صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا؛ دال على العزيمة. وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود، وكذلك عبدالله بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله ما حاربَنا قط عدوُّ في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبَنا. وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل).(1/114)
قوله تعالى: "فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله: "أو تكلت" قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها.
واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" [آل عمران: 160]. وهو الصحيح كما بيناه. وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله "لا تخافا". وقال: "فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف" [طه: 67 - 68]. وأخبر عن إبراهيم بقوله: "فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف" [هود: 70]. فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى. وسيأتي بيان هذا المعنى.
الآية: 160 {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون}
قوله تعالى: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تُغلبوا. "وإن يخذلكم" يترككم من معونته. "فمن ذا الذي ينصركم من بعده" أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم؛ لأنه قال: "وإن يخذلكم" والخذلان ترك العون. والمخذول: المتروك لا يعبأ به. وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها؛ فهي خذول
-وقيل: هذا من المقلوب؛ لأنها هي المخذولة إذا تركت. وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا. قال: وخذول الرجل من غير كسح ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل. والله أعلم.(1/115)
وقال عند تفسير قوله تعالى : "( وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران : 122 )122 فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل. والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير. وواكل فلان إذا ضَيّع أمره متكلا على غيره.
واختلف العلماء في حقيقة التوكل؛ فسئل عنه سهل بن عبدالله فقال: قالت فرقة الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب؛ فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يقول: "فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا" [الأنفال: 69] فالغنيمة اكتساب. وقال تعالى: "فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان" [الأنفال: 12] فهذا عمل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب العبد المحترف). وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السِرية. وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب؛ فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته؛ ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على حالين: الأول: حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر. الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والأذواق الحالية؛ فلا يزال(1/116)
كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.
فصل
التَّوَكُّل = وقفة مع ابن تيمية رحمه الله =
***ومن تحقيق التوحيد : أن يعلم أن الله ـ تعالى ـ أثبت له حقًا لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكل، والخوف والخشية، والتقوى، كما قال تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] . ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } [ الزمر : 2 ] . ، وقال تعالى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } [ الزمر : 11 ] . ، وقال تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } إلى قوله : { الشاكرين } [ الزمر : 64-66 ] . ، وكل من الرسل يقول لقومه : { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ هود : 61 ]
***وقد قال تعالى في التوكل : { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] . ، { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 11 ] . وقال : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] . ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] .(1/117)
فقال في الإتيان : { مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ } ، وقال في التوكل : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } ولم يقل : ورسوله؛ لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال، الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ الحشر : 7 ] وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كافٍ عبده، كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] . ، فهو وحده حسبهم كلهم، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] . ، أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين؛ إذ هو وحده كافٍ نبيه، وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول....(1/118)
***قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2-4 ] . هذا كله واجب؛ فإن التوكل على اللّه واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص للّه واجب، وحب اللّه ورسوله واجب . وقد أمر اللّه بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكل على غير اللّه، قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ التغابن : 13 ] ،وقال تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران : 160 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] .
***الحمد لله رب العالمين . اسم الإيمان يستعمل مطلقًا، ويستعمل مقيدًا، وإذا استعمل مطلقًا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه، وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم
ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك .(1/119)
***سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ عن قول علي ـ رضي الله عنه ـ : لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ما معنى ذلك ؟
فأجاب :
الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] ، وقال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا . مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 78، 79 ] .
فإن كثيرًا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي .
ثم المثبتة للقدر يحتجون بقوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فيعارضهم قوله : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } ، ونفاة القدر يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم : أن العبد يخلق جميع أعماله، ويعارضهم قوله : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } .(1/120)
وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي، وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] ، وقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ، وقوله تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } [ آل عمران : 120] ، وقوله تعالى : { وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ } [ غافر : 9 ] ونحو ذلك، وهذا كثير .
وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره، فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا : هذا من عند الله، وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا : هذا من عندك ـ يا محمد ـ بسبب الدين الذي أمرتنا به، كما قال قوم فرعون لموسى، وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى : { فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ،وكما قال الكفار لرسل عيسى : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [ يس : 18 ] .(1/121)
فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين،فبين الله ـ سبحانه ـ أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] ، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب ) ، وقد قال تعالى : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود : 2، 3 ] .
فبين : أن من وحده واستغفره متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث : ( يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار ) ، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .(1/122)
ولهذا قال تعالى : { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [ الأنعام : 42، 43 ] ، أي : فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجىء البأس التضرع، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ المؤمنون : 76 ] . قال عمر بن عبد العزيز : ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة؛ ولهذا قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 173- 175 ] .
فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه : لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله، كما في الأثر : ( يقول الله : أنا الله، مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم ) .(1/123)
أما قوله : لا يرجون عبد إلا ربه . فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] ، وقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ إبراهيم : 12 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران : 160 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] .(1/124)
فهؤلاء قالوا : حسبنا الله، أي : كافينا الله في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا : حسبنا في جلب النعماء، فهو ـ سبحانه ـ كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير،{ أليس الله بكاف عبده}، ومن توكل على غير الله ورجاه، خذل من جهته وحرم، { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } [ العنكبوت : 41 ] ، { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [ مريم : 81، 82 ] ، { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] ، { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } [ الإسراء : 22 ] ، وقال الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] .(1/125)
فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ النور : 39 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، وقال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] ،وقال تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] كما قيل في تفسيرها : كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وقال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .(1/126)
ومما يوضح ذلك : أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله ـ سبحانه ـ هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن، وإن شاءه الناس .
وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب، فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب ـ وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ لكان الواجب ألا يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه، حتى يحصل المقصود . ...(1/127)
ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب، فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له : هذا أيضًا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] .
فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو ـ سبحانه ـ خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يطلب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26-28 ] .(1/128)
+ والرب الذي يدعي ويسأل ويرجى ويتوكل عليه لابد أن يكون قيومًا يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] ، وقال : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255،آل عمران : 2 ] ، فهذا وغيره من أنواع النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه .
***وأما كونه لا يخاف إلا ذنبه، فلما علم من أنه لا تصيبه مصيبة إلا بذنوبه، وهذا يعلم بآيات الآفاق والأنفس، وبما أخبر في كتابه كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وبينا سر ذلك بما لا يحتمله هذا الموضع .
وهذا تحقيق ما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) . فبين أن كل ما يجده العبد من الخير فليحمد الله عليه، فإن الله هو الذي أنعم به، وإن ما يجده من الشر فلا يلومن فيه إلا نفسه .(1/129)
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ، فقوله : ( أبوء لك بنعمتك عليَّ ) اعتراف وإقرار بالنعمة، وقوله : ( وأبوء بذنبي ) إقرار بالذنب؛ ولهذا قال من قال من السلف : إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث بالنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، لكن الشكر يكون بعد النعمة والتوكل والرجاء يكون قبل النعمة، كما قال الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت : 17 ] ، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ) ، فجمع بين حمده والاستعانة به والاستغفار له، فقد تبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، وهو ظلم وجهل، وهذه حال من دعا غير الله وتوكل عليه .
++وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال : ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل، فهو بمنزلة من يقول : ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن، وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر، وإن كان الأول ليس مثل هذا في الضلال؛ إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، لكن لا ريب أن ما جعل الله الدعاء سببًا له، فهو بمنزلة ما جعل العمل الصالح سببًا له، وهو قادر على أن يفعله ـ سبحانه ـ بدون هذا السبب، وقد يفعله بسبب آخر .(1/130)
وكذلك من ترك الأسباب المشروعة المأمور بها أمر إيجاب أو استحباب من جلب المنافع أو دفع المضار قادح في الشرع خارج عن العقل، ومن هنا غلطوا في ترك الأسباب المأمور بها، وظنوا أن هذا من تمام التوكل، والتوكل مقرون بالعبادة في قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، والعبادة فعل المأمور، فمن ترك العبادة المأمور بها وتوكل، لم يكن أحسن حالا ممن عبده ولم يتوكل عليه، بل كلاهما عاص لله تاركًا لبعض ما أمر به .
-والتوكل يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة، قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] .(1/131)
فمن لم يفعل ما أمر به، لم يكن مستعينًا بالله على ذلك، فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها بترك التوكل في هذا الموضع أيضًا، وآخر يتوكل بلا فعل مأمور وهذا هو العجز المذموم، كما في سنن أبي داود : أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال المقضي عليه : حسبى الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل : حسبى الله ونعم الوكيل ) ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
\\فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، اصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . قال بعض السلف ـ إما ابن مسعود وإما علقمة ـ : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
***وكذلك من غلط فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظانًا أن ذلك من مقامات الخاصة ناظرًا إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(1/132)
فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء ألا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك وكما قال بعض العقلاء : الأمور أمران : أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه .
وفي سنن أبي داود أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه : حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ) ، وفي الحديث الآخر : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيَّ ) . رواه ابن ماجه والترمذي وقال : حديث حسن
وعن شدّاد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل . )ومن الناس من يصحفه فيقول : الفاجر، وإنما هو العاجز في مقابلة الكيس، كما في الحديث الآخر : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكيس )
* وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عما قاله أبو حامد الغزالي ـ في كتابه المعروف بـ [ منهاج العابدين ] في زاد الآخرة من العقبة الرابعة : وهي العوارض، بعد كلام تقدم في التوكل بأن الرزق مضمون ـ قال : فإن قيل : هل يلزم العبد طلب الرزق بحال، فاعلم أن الرزق المضمون، هو الغذاء والقوام، فلا يمكن طلبه إذ هو شيء من فعل الله بالعبد كالحياة والموت، لا يقدر العبد على تحصيله ولا دفعه .
وأما المقسوم من الأسباب، فلا يلزم العبد طلبه، إذ لا حاجة للعبد إلى ذلك، إنما حاجته إلى المضمون وهو من الله وفي ضمان الله .(1/133)
وأما قوله تعالى : { وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل ِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] ، المراد به العلم والثواب وقيل : بل هو رخصة إذ هو أمر وارد بعد الحظر، فيكون بمعنى الإباحة، لا بمعنى الإيجاب والإلزام .
فإن قيل : لكن هذا الرزق المضمون له أسباب، هل يلزم منا طلب الأسباب ؟ قيل : لا يلزم منك طلب ذلك، إذ لا حاجة بالعبد إليه، إذ الله سبحانه يفعل بالسبب، وبغير السبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب ؟ ثم إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا من غير شرط الطلب والكسب، قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] .
ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه؛ إذ لا يعرف أي سبب منها رزقه يتناوله لا عرف الذي صير سبب غذائه وتربيته لا غير ، فالواحد منا لا يعرف ذلك السبب بعينه، من أين حصل له ؟ فلا يصح تكليفه، فتأمل ـ راشدًا ـ فإنه بين، ثم حسبك أن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ والأولياء المتوكلين لم يطلبوا الرزق في الأكثر والأعم، وتجردوا للعبادة، وبإجماع أنهم لم يكونوا تاركين لأمر الله تعالى، ولا عاصين له في ذلك، فليس لك أن تطلب الرزق وأسبابه بأمر لازم للعبد .
فما الفرق بين هذا الكلام من هذا الإمام، والمنصوص عليه في كتب الأئمة، كالفقه وغيره ؟ وهو أن العبد يجب عليه طلب الرزق، وطلب سببه، وأبلغ من ذلك أن العبد لو احتاج إلى الرزق ووجده عند غيره فاضلاً عنه، وجب عليه طلبه منه، فإن منعه قهره، وإن قتله . فهل هذا الذي نص عليه في المنهاج يختص بأحد دون أحد ؟ فأوضحوا لنا ما أشكل علينا من تناقض الكلامين، مثابين، مأجورين، وابسطوا لنا القول .
فأجاب ـ رضي الله عنه :(1/134)
الحمد لله رب العالمين، هذا الذي ذكره أبو حامد قد ذهب إليه طائفة من الناس، ولكن أئمة المسلمين وجمهورهم على خلاف هذا، وأن الكسب يكون واجبا تارة، ومستحبا تارة، ومكروهًا تارة، ومباحًا تارة، ، ومحرمًا تارة، فلا يجوز إطلاق القول بأنه لم يكن منه شيء واجب، كما أنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس منه شيء محرم .
والسبب الذي أمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله . والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه، كما قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [ المزمل : 8، 9 ] ، وقال : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2، 3 ] ، والتقوى تجمع فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه . ويروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا أبا ذر، لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم ) .
ولهذا قال بعض السلف : ما احتاج تقي قط . يقول : إن الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجًا مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم، من حيث لا يحتسبون، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا، فليستغفر الله وليتب إليه، ولهذا جاء في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي أنه قال : ( من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب ) .(1/135)
والمقصود : أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر، وترك ما حذر، فمن ظن أنه يُرضي ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يُرضي الله عليه دون التوكل، كان ضالا، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض .
وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل، وإذا قرن أحدهما بالآخر، كان للتوكل اسم يخصه . كما في نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول، فإن التقوى إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول . وقد يعطف أحدهما على الآخر؛ كقول نوح عليه السلام : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [ نوح : 3 ] . وكذلك قوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [ الأحزاب : 70 ] وأمثال ذلك .
وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع؛ كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ، وقول شعيب : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] ، فإن الإنابة إلى الله والمتاب هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والعبد لا يكون مطيعًا لله ورسوله ـ فضلاً أن يكون من خواص أوليائه المتقين ـ إلا بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، ويدخل في ذلك التوكل .
وأما من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها ، فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله .(1/136)
وهذه المسألة مما سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة والنار " فقيل : يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : ( لا ! اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) وكذلك في الصحيحين عنه أنه قيل له : أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون، أفيما جفت الأقلام، وطويت الصحف ؟ ولما قيل له : أفلا نتكل على الكتاب ؟ قال : ( لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له )
وبين صلى الله عليه وسلم أن الأسباب المخلوقة والمشروعة ، هي من القدر، فقيل له : أرأيت رقى نسترقى بها ؟ وتقى نتقى بها ؟ وأدوية نتداوى بها هل ترد من قدر الله شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر الله ) .
فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله، لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها، فهو عاجز مفرط مذموم .(1/137)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) ، وفي سنن أبي داود : أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه : حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر، فقل : حسبنا الله ونعم الوكيل ) .
وقد تكلم الناس في حمل الزاد في الحج وغيره من الأسفار، فالذي مضت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وأكابر المشائخ هو حمل الزاد لما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وانتفاع الحامل ونفعه للناس .
وزعمت طائفة أن من تمام التوكل ألا يحمل الزاد، وقد رد الأكابر هذا القول كما رده الحارث المحاسبي في " كتاب التوكل " وحكاه عن شقيق البلخي، وبالغ في الرد على من قال بذلك، وذكر من الحجج عليهم ما يبين به غلطهم وأنهم غالطون في معرفة حقيقة التوكل، وأنهم عاصون لله بما يتركون من طاعته، وقد حُكي لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال بحقيقة التوكل كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه، ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب .(1/138)
وهذا وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته، ورحمته، وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها، فهو غالط، فالله سبحانه، وإن كان قد ضمن للعبد رزقه وهو لابد أن يرزقه ما عمر، فهذا لا يمنع أن يكون ذلك الرزق المضمون له أسباب تحصل من فعل العبد وغير فعله .
وأيضًا، فقد يرزقه حلالاً وحرامًا، فإذا فعل ما أمره به رزقه حلالاً، وإذا ترك ما أمره به، فقد يرزقه من حرام .
ومن هذا الباب : الدعاء والتوكل، فقد ظن بعض الناس أن ذلك لا تأثير له في حصول مطلوب، ولا دفع مرهوب، ولكنه عبادة محضة، ولكن ما حصل به حصل بدونه، وظن آخرون أن ذلك مجرد علامة، والصواب الذي عليه السلف والأئمة والجمهور، أن ذلك من أعظم الأسباب التي تنال بها سعادة الدنيا والآخرة .
وما قدره الله بالدعاء، والتوكل، والكسب، وغير ذلك من الأسباب، إذا قال القائل فلو لم يكن السبب ماذا يكون، بمنزلة من يقول : هذا المقتول لو لم يقتل هل كان يعيش ؟ وقد ظن بعض القدرية أنه كان يعيش، وظن بعض المنتسبين إلى السنة أنه كان يموت، والصواب أن هذا تقدير لأمر علم الله أنه يكون، فالله قدر موته بهذا السبب فلا يموت إلا به كما قدر الله سعادة هذا في الدنيا والآخرة بعبادته، ودعائه، وتوكله، وعمله الصالح، وكسبه، فلا يحصل إلا به، وإذا قدر عدم هذا السبب لم يعلم ما يكون المقدر، وبتقدير عدمه فقد يكون المقدر حينئذ أنه يموت، وقد يكون المقدر أنه يحيى والجزم بأحدهما خطأ .
ولو قال القائل : أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قدر حياتي فهو يحييني بدون الأكل والشرب، كان أحمق، كمن قال : أنا لا أطأ امرأتي فإن كان الله قدر لي ولدًا تحمل من غير ذكر .
فصل(1/139)
إذا عرف هذا : فالسالكون طريق الله منهم من يكون مع قيامه بما أمره الله به من الجهاد، والعلم، والعبادة، وغير ذلك عاجزًا عن الكسب، كالذين ذكرهم الله في قوله : { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [ البقرة : 273 ] ، والذين ذكرهم الله في قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .(1/140)
فالصنف الأول، أهل صدقات، والصنف الثاني، أهل الفيء، كما قال تعالى في الصنف الأول : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 271ـ273 ] ، وقال في الصنف الثاني : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ(1/141)
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 7- 9 ] . فذكر المهاجرين والأنصار وكان المهاجرون تغلب عليهم التجارة، والأنصار تغلب عليهم الزراعة، وقد قال للطائفتين : { أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } [ البقرة : 267 ] ، فذكر زكاة التجارة وزكاة الخارج من الأرض وهو العشر، أو نصف العشر، أو ربع العشر .
ومن السالكين من يمكنه الكسب مع ذلك وقد قال ـ تعالى ـ لما أمرهم بقيام الليل : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ المزمل : 20 ] ، فجعل المسلمين أربعة أصناف، صنفًا أهل القرآن والعلم والعبادة، وصنفًا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وصنفًا يجاهدون في سبيل الله، والرابع المعذورون .
وأما قول القائل : إن الغذاء والقوام هو من فعل الله، فلا يمكن طلبه كالحياة، فليس كذلك هو، بل ما فعل الله بأسباب يمكن طلبه بطلب الأسباب كما مثله في الحياة والموت، فإن الموت يمكن طلبه ودفعه بالأسباب التي قدرها الله، فإذا أردنا أن يموت عدو الله سعينا في قتله، وإذا أردنا دفع ذلك عن المؤمنين دفعناه بما شرع الله الدفع به، قال تعالى في داود عليه السلام : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] ، وقال تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } [ النحل : 81 ] ، وقال تعالى : { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } [ النساء : 102 ] ، وهذا مثل دفع الحر والبرد عنا هو من فعل الله، فاللباس، والاكتساب، ومثل دفع الجوع، والعطش، هو من فعل الله بالطعام والشراب .(1/142)
وهذا كما أن إزهاق الروح هو من فعل الله ويمكن طلبه بالقتل ، وحصول العلم والهدى في القلب هو من فعل الله ويمكن طلبه بأسبابه المأمور بها وبالدعاء .
وقول القائل : إن الله يفعل بسبب وبغير سبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب ؟
جوابه أن يقال له : ليس الأمر كذلك، بل جميع ما يخلقه الله ويقدره إنما يخلقه ويقدره بأسباب، لكن من الأسباب ما يخرج عن قدرة العبد، ومنها ما يكون مقدورًا له، ومن الأسباب ما يفعله العبد، ومنها ما لا يفعله .
والأسباب منها، معتاد، ومنها نادر، فإنه في بعض الأعوام قد يمسك المطر ويغذي الزرع بريح يرسلها، وكما يكثر الطعام والشراب بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل الصالح، فهو أيضًا سبب من الأسباب، ولا ريب أن الرزق قد يأتي على أيدي الخلق، فمن الناس من يأتيه برزقه جنى أو ملك أو بعض الطير والبهائم . وهذا نادر، والجمهور إنما يرزقون بواسطة بني آدم مثل أكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، أو نذرًا، وإما غير ذلك، مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا ابن آدم، إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسك الفضل شر لك، ولا يلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى ) ، وفي حديث آخر صحيح : ( يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى ) .
وبعض الناس يزعم أن يد السائل الآخذ هي العليا؛ لأن الصدقة تقع بيد الحق، وهذا خلاف نص رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر، أن يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى .
وقول القائل : إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا .
فيقال له : هذا لا يمنع وجوب الأسباب على ما يجب، فإن فيما ضمنه رزق الأطفال والبهائم والزوجات، ومع هذا، فيجب على الرجل أن ينفق على ولده وبهائمه وزوجته، بإجماع المسلمين ونفقته على نفسه أوجب عليه .(1/143)
وقول القائل : كيف يطلب مالا يعرف مكانه ؟
جوابه : أنه يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته؛ مثل الذي يشق الأرض، ويلقي الحب، ويتوكل علىالله في إنزال المطر، وإنبات الزرع، ودفع المؤذيات، وكذلك التاجر غاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها، وأما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا ليس مقدورًا للعبد، ومن فعل ما قدر عليه لم يعاقبه الله بما عجز عنه، والطلب لا يتوجه إلى شيء معين، بل إلى ما يكفيه من الرزق، كالداعي الذي يطلب من الله رزقه وكفايته من غير تعيين .
فصل
فإذا عرف ذلك، فمن الكسب ما يكون واجبًا، مثل الرجل المحتاج إلى نفقته على نفسه، أو عياله، أو قضاء دينه، وهو قادر على الكسب، وليس هو مشغولاً بأمر أمره الله به، هو أفضل عند الله من الكسب، فهذا يجب عليه الكسب باتفاق العلماء، وإذا تركه كان عاصيًا آثمًا .
ومنه ما يكون مستحبًا، مثل هذا إذا اكتسب ما يتصدق به، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( على كل مسلم صدقة " ، قالوا : يا رسول الله ! فمن لم يجد . قال : ( يعمل بيده ينفع نفسه ويتصدق ) . قالوا : فإن لم يجد . قال : ( يعين ذا الحاجة الملهوف ) . قالوا : فإن لم يجد، قال : ( فليأمر بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة ) .
فصل(1/144)
وأما قول القائل : إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقًا، فليس الأمر كذلك، بل عامة الأنبياء كانوا يفعلون أسبابًا يحصل بها الرزق، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) . وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه ) ، وكان داود يأكل من كسبه، وكان يصنع الدروع، وكان زكريا نجارًا، وكان الخليل له ماشية كثيرة حتى إنه كان يقدم للضيف الذين لا يعرفهم عجلاً سمينًا، وهذا إنما يكون مع اليسار .
وخيار الأولياء المتوكلين، المهاجرون والأنصار، وأبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أفضل الأولياء المتوكلين، بعد الأنبياء . وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها، كان الصديق تاجرًا، وكان يأخد ما يحصل له من المغنم، ولما ولى الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان، وقد أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما تركت لأهلك ؟ ) قال : تركت لهم الله ورسوله، ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئًا لا صدقة، ولا فتوحًا، ولا نذرًا، بل إنما كان يعيش من كسبه .
بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانًا أنه يقتدى بالصديق، وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة، فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق، بل في المسند : أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه، ولا يقول لأحد : ناولني إياه، ويقول : إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا . فأين هذا ممن جعل الكدية وسؤال الناس طريقًا إلى الله، حتى إنهم يأمرون المريد بالمسألة للخلق .(1/145)
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم مسألة الناس، إلا عند الضرورة، وقال : ( لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع ) وقال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] ، فأمره أن تكون رغبته إلى الله وحده .
ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصًا، وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم، وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات، وهو طريق أنبياء الله، وقد أمر العباد بسؤاله فقال : {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، ومدح الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة . ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم، كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب .
ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقى في النار قال له جبرائيل : هل لك من حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا، قال : سل . قال : ( حسبي من سؤالي علمه بحالي ) . وأول هذا الحديث معروف، وهو قوله : أما إليك فلا؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : حسبنا الله ونعم الوكيل، أنه قالها إبراهيم حين ألقي في النار . وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم .
وأما قوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي، فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل، وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة، كقولهم : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ البقرة : 201 ] ، ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها، فكيف يكون مجرد العلم مسقطًا لما خلقه وأمر به ؟ ! والله أعلم . وصلى الله على محمد وسلم .(1/146)
*** والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه، واكتسابه، ألهمه السعي، والاكتساب، وذلك الذي قدره له بالاكتساب، لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه، يأتيه به بغير اكتساب . والسعي سعيان، سعى فيما نصب للرزق؛ كالصناعة والزراعة والتجارة . وسعى بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
***وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد، وإن ارتقى مقامه
***.وأما المحبة للّه، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . ومن قال : إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق(1/147)
***ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى : خصوص وعموم، فللخاصة خاصها، وللعامة عامها . مثال ذلك أن هؤلاء قالوا : إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت، والخاص لا يناضل عن نفسه . وقالوا : المتوكل يطلب بتوكله أمرًا من الأمور، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئًا . فيقال : أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على اللّه في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه؛ ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88، الشورى : 10 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .
فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف : إن اللّه جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }(1/148)
***.والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة، فالاستعانة كالدعاء والمسألة . وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يقول اللّه عز وجل : يا بن آدم، إنما هي أربع : واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي . فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك ) .وكون هذا للّه وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء، فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائمًا له، واللّه ـ تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه، ويحب الوسيلة تبعًا لذلك، وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد، وكل ذلك يحبه اللّه ويرضاه، وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم .وأيضًا، التوكل من الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها، والزاهد فيها زاهد فيما يحبه اللّه ويأمر به ويرضاه(1/149)
***وأيضًا، فإن التوكل هو محبوب للّه مرضي له مأمور به دائمًا، وما كان محبوبًا للّه مرضيًا له مأمورًا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين، فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم : المتوكل يطلب حظوظه . وأما قولهم : إن الأمور قد فرغ منها، فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه؛ لأن المطلوب إن كان مقدرًا فلا حاجة إليه، وإن لم يكن مقدرًا لم ينفع الدعاء، وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا . وكذلك قول من قال : التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة، وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض، وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا، وكذلك قول من قال : إن الدعاء إنما هو عبادة محضة
فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد : وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة ـ أيضًا ـ تكون من العبد، ولم يعلموا أن اللّه سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد، وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية.
***فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام : قوم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي والعبادة والطاعة شاهدين لإلهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات اللّه ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة باللّه والتوكل عليه واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه الأمور .(1/150)
ولهذا قال بعض السلف : من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه . وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة : ( إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا صُمّا وقلوبًا غُلْفًا بأن يقولوا لا إله إلا اللّه ) .(1/151)
ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم : لا حول ولا قوة إلا باللّه . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنها كنز من كنوز الجنة ) . قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [ آل عمران : 173-175 ] ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ في قوله : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم وقسم ثان : يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم، غير ناظرين إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته، وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا ما يعملون على الأحوال التي يتصرفون بها في الوجود، ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه، وكثيرًا ما يغلطون، فيظنون أن معصيته هي مرضاته، فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي ويسمون هذا حقيقة، ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا . وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر اللّه ونهيه فليس من المتقين، فهم يقعون في بعض ما(1/152)
وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، واللّه ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } [ الأعراف : 28 ] ، وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه اللّه، وأن شرعوا ما لم يشرعه اللّه، وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، ونظيرها في النحل ويس والزخرف . وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا .وأما القسم الثالث : وهو من أعرض عن عبادة اللّه واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام . والقسم الرابع : هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] فاستعانوا به على طاعته . وشهدوا أنه إلههم الذي لايجوز أن يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله، وإنه ربهم الذي { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] ، وأنه { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] .(1/153)
ولهذا قال طائفة من العلماء : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشائخ ـ كصاحب [ علل المقامات ] وهو من أجل المشائخ، وأخذ ذلك عنه صاحب [ محاسن المجالس ] ـ وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط، وظنه أنه لا فائدة له في تحصيل المقصود، وهذه حال من جعل الدعاء كذلك، وذلك بمنزلة من جعل الأعمال المأمور بها كذلك، كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من الأسباب التي هي عبادة وطاعة مأمور بها، فإن غلط هذا في ترك الأسباب المأمور بها التي هي داخلة في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } كغلط الأول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] .(1/154)
لكن يقال : من كان توكله على اللّه ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص للّه ورسوله، بل خارج عن حقيقة الإيمان، فكيف يكون هذا المقام للخاصة، قال اللّه تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } [ آل عمران : 160 ] ، وقال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } [ إبراهيم : 11 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } إلى قوله : { قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] .(1/155)
وقد ذكر اللّه هذه الكلمة { حَسْبِي اللَّهُ } في جلب المنفعة تارة، وفي دفع المضرة أخرى . فالأولى في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } الآية [ التوبة : 59 ] . والثانية في قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وفي قوله تعالى : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 26 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } ، يتضمن بالرضا والتوكل .
والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة : ( اللّهم، بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم، إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللّهم، إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللّهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر(1/156)
***.سئل أحمد بن حنبل عن التوكل، فقال : قطع الاستشراف إلى الخلق، أي : لا يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشىء، فقيل له : فما الحجة في ذلك ؟ فقال : قول الخليل لما قال له جبرائيل : هل لك من حاجة ؟ فقال : ( أما إليك فلا ) .
***فمن تمام نعمة اللّه على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن .
***.ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله ـ تعالى ـ وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله . وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، لا ينقاضه وينافيه، كما قال جندب وابن عمر : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا
***.ومن أعمال أهل الجنة : الإخلاص للّه، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية اللّه ورجاء رحمته، والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه(1/157)
***.وفي الأثر : ( من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه ) . وعن سعيد بن جبير : ( التوكل جماع الإيمان ) ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، وقال : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } [ الأنفال : 9 ] ، وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضًا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار، فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا هو الغالب على ذوي الأحوال متشرعهم وغير متشرعهم، وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق الأمر، وتارة بما يخالفه
***وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على اللّه، والثقة بكفايته، وحسن الظن به . وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى اللّه ويدعوه، كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه : ( كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . ياعبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ) وفيما رواه الترمذي عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ) .
وقد قال اللّه تعالى في كتابه : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، وقال سبحانه : { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات .(1/158)
***.وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجاباً وغير إيجاب فى مواضع، كقوله فى آخر سورة هود : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقول العبد الصالح شعيب : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] ، وقول إبراهيم والذين معه : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ الممتحنة : 4 ] ، وقوله ـ سبحانه ـ إذ أمر رسوله أن يقول : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] . فأمر نبيه بأن يقول : على الرحمن توكلت وإليه متاب،كما أمره بهما فى قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] والأمر له أمر لأمته، وأمره بذلك فى أم القرآن وفى غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة للّه وامتثالا لأمره، ولا يتقدموا بين يدى اللّه ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من اللّه؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسناً أو عفواً، وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم، وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره، كالمنحرفين عن الصراط المستقيم(1/159)
وإلى هذين الأصلين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقصد فى عباداته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله فى الأضحية : ( اللهم هذا منك ولك ) ، فإن قوله : ( منك ) هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله : ( لك ) هو معنى العبادة، ومثل قوله في قيامه من الليل : ( لك أسلمت، وبك آمنت، وعلىك توكلت، وإليك أنَبْت ، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك،لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذى لا يموت، والجن والإنس يموتون ) إلى أمثال ذلك
*** وكذلك ما فى النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة . فإذا خلى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات
***ويحب التوكل عليه وخشيته ودعاءه، ويبغض التوكل على غيره وخشيته ودعاءه
***.والله ـ سبحانه ـ يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شىء منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شىء منه، والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به، سواء كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله ـ تعالى ـ والإقبال إليه والتوكل عليه، وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة، وحياء ومحبة وخشية
فهذا هو مقام الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل ـ عليه السلام ـ عن الإحسان : فقال : ( أن تَعْبُدَ الله كأنك تراه ) ، فإذا كان هذا هو الإحسان، فرحمته قريب من صاحبه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ يعنى : هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه، قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ هل جزاء من قال : لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة ؟(1/160)
وقد ذكر ابن أبى شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدى عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] ثم قال : ( هل تدرون ما قال ربكم ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ( هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ) .
***قال" يوسف عليه السلام للذي نجا من الفتيين الذين دخلا معه السجن " : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ، فكيف يكون قد أَنْسَى الشيطان يوسف ذكر ربه ؟ وإنما أنسى الشيطان الناجي ذكر ربه، أى : الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه، وهو أن يذكر عنده يوسف . والذين قالوا ذلك القول، قالوا : كان الأولى أن يتوكل على الله، ولا يقول : اذكرنى عند ربك، فلما نسى أن يتوكل على ربه جوزى بِلُبْثِه فى السجن بِضْعَ سنين .فيقال : ليس فى قوله : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ما يناقض التوكل، بل قد قال يوسف : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } [ يوسف : 40 ] ، كما أن قول أبيه : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } [ يوسف : 67 ] ، لم يناقض توكله، بل قال : { وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ يوسف : 67 ] وأيضًا، فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين، والمخلص لا يكون مخلصًا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن مشركًا لا فى عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه فى فعل نفسه بقوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } [ يوسف : 33 ] ، فكيف لا يتوكل عليه فى أفعال عباده .وقوله : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ، مثل قوله لربه : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [(1/161)
يوسف : 55 ] ، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضًا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة المنهى عنه،فكيف يكون قوله للفتى : { اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } مناقضًا لِلتَّوَكُّل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله ليتبين الحق، ويوسف كان من أثبت الناس .
***وأيضًا، فسالك طريق الله متوكل عليه . فلابد له من عبادته ومن التوكل عليه .
*** قال الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 2، 3 ] قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم ) ، وقوله : { مَخْرَجًا } عن بعض السلف : أي من كل ما ضاق علي الناس، وهذه الآية مطابقة لقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها؛ وذلك أن التقوي هي العبادة المأمور بها، فإن تقوي الله وعبادته وطاعته أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقي الله مثال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، ومن يتوكل علي الله مثال : { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، كما قال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال : { عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } [ الممتحنة : 4 ] ، وقال : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشوري : 10 ] . ثم جعل للتقوي فائدتين : أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من حيث لا يحتسب . والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق، كما قال : { أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 4 ] ؛ ولهذا قال النبي صلى(1/162)
الله عليه وسلم : ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ بدعائهم، وصلاتهم، واستغفارهم ) هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة .
وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي : كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] خلافا لمن قال : ليس في التوكل إلا التفويض والرضا . ثم إن الله بالغ أمره، ليس هو كالعاجز، { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 3 ]
***وأما قوله : ( يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم ) فيقتضي أصلين عظيمين-أحدهما : وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جَلْب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة . وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال : { وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } [ البقرة : 233 ] ، وقال : { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } [ النساء : 5 ] ، فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 14 : 16 ] ، وقوله : { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } [ الحج : 36 ] ، وقوله : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [ الحج : 28 ] ، وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر .(1/163)
ومن هنا، يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .
فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخَلَّ بواجب التوحيد؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب . فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال على - رضي الله عنه - : لا يرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه . وقد قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ فاطر : 2 ] ، وقال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } [ يونس : 107 ] ، وقال : { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] .(1/164)
وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لما أمر به من الأسباب فهو ـ أيضًا ـ جاهل ظالم، عاص لله بترك ما أمره، فإن فعل المأمور به عبادة لله . وقد قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه } [ هود : 123 ] ، وقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقال : { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ : { عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } [ هود : 88 ] ، وقال : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ } [ الشوري : 10 ] . وقال : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإليكَ أَنَبْنَا وَإليكَ الْمَصِيرُ } [ الممتحنة : 4 ] ، فليس من فعل شيئًا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما، مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب .
وقد روي أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بين رجلين . فقال المقضي عليه : حسبي الله ونعم الوكيل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإن غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ) .(1/165)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل : قَدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) ، ففي قوله صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) أمر بالتسبب المأمور به، وهو الحرص على المنافع . وأمر مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفي بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين، ونهى عن العجز الذي هو ضد الكيس . كما قال في الحديث الآخر : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس ) ، وكما في الحديث الشامي : ( الكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أَتْبَع نفسه هواها وتمني على الله ) ، فالعاجز في الحديث مقابل الكيس، ومن قال : العاجز هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه . ومنه الحديث : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ) .(1/166)
ومن ذلك ما روي البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقولون : نحن المتوكلون . فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي } [ البقرة : 197 ] ، فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجًا كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزْواد الحجيج، كَلًا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج، فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به -وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف؛طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوي في إخلاد النفس إلى البطالة؛ ولهذا تجد عامة هذا الضرب - التاركين لما أمروا به من الأسباب ـ يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح ، أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم، أو نحوه وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء ـ أيضًا ـ نقصًا وانقطاعًا عن الخاصة؛ ظنًا أن ملاحظة ما فرغ منه في القدر هو حال الخاصة .(1/167)
وقد قال في هذا الحديث : ( كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم ) وقال : ( فاستكسوني أكسكم ) وفي الطبراني ـ أو غيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعُ نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ) . وهذا قد يلزمه أن يجعل ـ أيضًا ـ استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقًا، بل دفع المخلوق والمأمور، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به، كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة، بناء على أن القدر قد سبق بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال في حديث على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعْشُم، وغيرهم .
ومنه حديث الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه . قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر الله ) .(1/168)
وطائفة تظن أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها، كالحب والرجاء والخوف والشكر، ونحو ذلك . وهذا ضلال مبين، بل جميع هذه الأمور فروض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، ومن تركها بالكليةفهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسنة طَافِحَة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور ـ علمًا وعملًا ـ بأقل لوما من التاركين لما أمروا به من أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها وفروعها التي لا تتم إلا بها .
***وأما مسائل التوكل والإخلاص والزهد، ونحو ذلك فهم يجتهدون فيها، فمن كان منهم متبعًا للرسول أصاب، ومن خالفه أخطأ .
***وأما ما يقصد لنفسه مثل معرفة اللّه، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، فهذه يشرع فيها الكمال، لكن يقع فيها سرف، وعدوان، بإدخال ما ليس منها فيها، مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل، أو يدخل استحلال المحرمات، وترك المشروعات في المحبة، فهذا هذا . واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .(1/169)
***وأما التوكل فعلي اللّه وحده، والرغبة فإليه وحده، كما قال تعالي : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } ولم يقل : ورسوله، وقالوا : { إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } ولم يقولوا هنا : ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7،8 ] ، وقال تعالي : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبنا اللّه ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين { قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . وقد قال تعالي : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] . أي : اللّه وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك .
ومن قال : إن اللّه والمؤمنين حسبك فقد ضل، بل قوله من جنس الكفرة، فإن اللّه وحده هو حسب كل مؤمن به . والحسب الكافي، كما قال تعالي : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ]
وللّه تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق؛ كالعبادات، والإخلاص والتوكل، والخوف، والرجاء، والحج، والصلاة، والزكاة، والصيام، والصدقة(1/170)
***إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذى خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول .
فهذا الوجه يقتضى : التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه . ويقتضى أيضا : محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه فى هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا فى الوجه الأول . ونظيره فى الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه .
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شىء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه .(1/171)
***فى وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو ـ سبحانه ـ الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك، بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره . ثم إذا احتجت إليه فى جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذى يأتى بالرزق لا يأتى به غيره، وهو الذى يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى : {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [ الملك : 20-21 ]
***فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذى هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئاً كان موحداً . ومن توحيد الله وعبادته : التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك .
***فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له، كما قال : {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [ النساء : 36 ] ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [ البينة : 5 ] ، وقد جمع بينهما فى مواضع، كقوله : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [ هود : 123 ] ، وقوله : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [ الفرقان : 58 ] ، وقوله : {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [ هود : 88 ] .(1/172)
وكذلك التوكل كما قال : {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [ إبراهيم : 12 ] ، وقال : {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [ الزمر : 38 ] ، وقال : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران : 173 ] .
***.فقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته : من المحبة والخوف، والرجاء، والأمر، والنهى . {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إشارة إلى ما اقتضته الربوبية ،من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذى يتصرف فى ملكه كما يشاء .(1/173)
فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ الملك : 1 ] فلا يرى نفعا، ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله ـ سبحانه وتعالى ـ فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه . فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية . والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات . فالتحقيق بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية . والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير السارى فى الأكوان، كما قال الله عز وجل : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [ النحل : 40 ] . فإذا تحقق العبد لهذا المشهد، ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه فى عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم، والجمال داخل فى مشهد الربوبية .
ولهذا قيل : إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم، وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة فى ذلك .(1/174)
***وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التى لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه . وسؤال الخلق فى الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] أى ارغب إلى الله لا إلى غيره، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله .
وأما فى الحسب فأمرهم أن يقولوا : {حَسْبُنَا اللّهُ} لا يقولوا : حسبنا الله ورسوله . ويقولوا : { إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] لم يأمرهم أن يقولوا : إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى فى الآية الأخرى : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده .
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( يا غلام، إنى معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جَفَّ القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن فى الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ) ، وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً .(1/175)
وقوله : ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ) هو من أصح ما روى عنه . وفى المسند لأحمد : أن أبا بكر الصديق كان يسقط السَّوط من يده فلا يقول لأحد : ناولنى إياه، ويقول : إن خليلى أمرنى ألا أسأل الناس شيئا . وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسرّ إليهم كلمة خفية : ( ألا تسألوا الناس شيئا ) . قال عوف : فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد : ناولني إياه .
وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ) ، وقال : ( هم الذين لا يَسْتَرقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ولا يَتَطَيَّرونَ وعلى ربهم يتوكلون ) ..........................................................................................................
خ - باب: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) /الطلاق: 3/.
وقال الربيع بن خثيم: من كل ما ضاق على الناس.
- حدثني إسحق: حدثنا روح بن عبادة: حدثنا شعبة قال: سمعت حصين بن عبد الرحمن قال: كنت قاعداً عند سعيد بن جبير فقال: عن ابن عباس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).
قال ابن حجر رحمه الله(1/176)
*-* قوله باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمنها الترغيب في التوكل وكأنه أشار الى تقييد ما أطلق في حديث الباب قبله وأن كلا من الاستغناء والتصبر والتعفف إذا كان مقرونا بالتوكل على الله فهو الذي ينفع وينجع وأصل التوكل الوكول يقال وكلت أمري الى فلان أي الجأته اليه واعتمدت فيه عليه ووكل فلان فلانا استكفاه امره ثقة بكفايته والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية {وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها} وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين لأن ذلك قد يجر الى ضد ما يراه من التوكل وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال هذا رجل جهل العلم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله (جعل رزقي تحت ظل رمحي )وقال( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) فذكر انها تغدو وتروح في طلب الرزق قال وكان الصحابة يتجرون ويعملون في تخيلهم والقدوة بهم انتهى
+ قوله وقال الربيع بن خثيم بمعجمة ومثلثة مصغر قوله من كل ما ضاق على الناس وصله الطبراني وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن منذر الثوري عن أبيه عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) }(الطلاق :2+ 3 ) -قال من كل شيء ضاق على الناس
+ قوله باب يدخل الجنة سبعون الفا بغير حساب فيه إشارة الى أن وراء التقسيم الذي تضمنته الآية المشار إليها في الباب الذي قبله أمرا آخر وان من المكلفين من لا يحاسب أصلا ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا ومنهم من يناقش الحساب(1/177)
قوله هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون الفا قدامهم لاحساب عليهم ولا عذاب في رواية سعيد بن منصور معهم بدل قدامهم وفي رواية حصين بن نمير ومع هؤلاء وكذا في حديث بن مسعود والمراد بالمعية المعنوية فإن السبعين الفا المذكورين من جملة أمته لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين الفا إليهم وقد وقع في رواية بن فضيل ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون الفا بغير حساب وفي رواية عبثر بن القاسم هؤلاء أمتك ومن هؤلاء من أمتك سبعون الفا والإشارة بهؤلاء الى الأمة لا الى خصوص من عرض ويحتمل أن تكون مع بمعنى من فتأتلف الروايات قوله قلت ولِمَْ بكسر اللام وفتح الميم ويجوز اسكانها يستفهم بها عن السبب وقع في رواية سعيد بن منصور وشريح عن هشيم ثم نهض أي النبي صلى الله عليه وسلم فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال هم الذين وفي رواية عبثر فدخل ولم يسألوه ولم يفسر لهم والباقي نحوه وفي رواية بن فضيل فأفاض القوم فقالوا نحن الذين آمنا بالله واتبعنا الرسول فنحن هم أو اولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال وفي رواية حصين بن نمير فقالوا أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله وبرسوله ولكن هؤلاء هم أبناؤنا وفي حديث جابر وقال بعضنا هم الشهداء وفي رواية له من رق قلبه للإسلام قوله كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات في حديث بن عباس وان كان عند البعض تقديم وتأخير وكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم وفي لفظ له سقط ولا يتطيرون هكذا في حديث بن مسعود وفي حديث جابر اللذين أشرت إليهما بنحو الأربع ووقع في رواية(1/178)
سعيد بن منصور عند مسلم ولا يرقون بدل ولا يكتوون وقد انكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم انها غلط من راويها واعتل بأن الراقي يحسن الى الذي يرقيه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقى النبي اصحابه واذن لهم في الرقى وقال من استطاع ان ينفع اخاه فليفعل والنفع مطلوب قال واما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه وتمام التوكل ينافي ذلك قال وانما المراد وصف السبعين بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ وقد اعتمده البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار اليه والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بان الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل فكذا يقال له والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي ان لا يمكنه منه لاجل تمام التوكل وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعى ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة لأنه في مقام التشريع وتبيين الاحكام ويمكن أن يقال انما ترك المذكورون الرقى والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه اليه وإلا فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة وانما منع منها ما كان شركا أو احتمله ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم اعرضوا علي رقاكم ولا بأس بالرقى ما لم يكن شرك ففيه إشارة الى علة النهى كما تقدم تقرير ذلك واضحا في كتاب الطب وقد نقل القرطبي عن غيره ان استعمال الرقى والكي قادح في التوكل بخلاف سائر أنواع الطب وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق عادة كالاكل والشرب فلا يقدح قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهوم والثاني أن الرقى بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء اليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه فلو(1/179)
كان ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقى وفعله السلف والخلف فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو اعلم وافضل ممن عداهم وتعقب بأنه بنى كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا وليس كذلك لما سأبينه وجوز أبو طالب بن عطية في موازنة الأعمال أن السبعين المذكورين هم المراد بقوله تعالى {والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} فان أراد انهم من جملة السابقين فمسلم والا فلا وقد اخرج أحمد وصححه بن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال اقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا بغير حساب واني لأرجو أن لا يدخولها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة )فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم انهم أفضل من غيرهم بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم وسأذكر بعد قليل من حديث أم قيس بنت محصن أن السبعين الفا ممن يحشر من مقبرة البقيع بالمدينة وهي خصوصية أخرى قوله ولا يتطيرون =والمراد أنهم لا يتشاءمون كما كانوا يفعلون في الجاهلية قوله وعلى ربهم يتوكلون يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرة لما تقدم من ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص لأن صفة كل واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك وقد مضى القول في التوكل في باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه قريبا(1/180)
-وقال القرطبي وغيره قالت طائفة من الصوفية لا يستحق اسم التوكل الا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج وحتى لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له وأبى هذا الجمهور وقالوا يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه واقع ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو باعداد السلاح واغلاق الباب ونحو ذلك ومع ذلك فلا يطمئن الى الأسباب بقلبه بل يعتقد انها لا تجلب بذاتها نفعا ولا تدفع ضرا بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته فإذا وقع من المرء ركون الى السبب قدح في توكله وهم مع ذلك فيه على قسمين واصل وسالك فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت الى الأسباب ولو تعاطاها وأما السالك فيقع له الالتفات الى السبب أحيانا الا انه يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية والاذواق الحالية الى ان يرتقى الى مقام الواصل(1/181)
-وقال أبو القاسم القشيري التوكل محله القلب وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من قِبَل الله فان تيسر شيء فبتيسيره وان تعسر فبتقديره ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه أفضل ما أكل الرجل من كسبه وكان داود يأكل من كسبه فقد قال تعالى{وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم }وقال تعالى {وخذوا حذركم }وأما قول القائل كيف تطلب مالا تعرف مكانه فجوابه أنه يفعل السببب المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته فيشق الأرض مثلا ويلقى الحب ويتوكل على الله في انباته وانزال الغيث له ويحصل السلعة مثلا وينقلها ويتوكل على الله في القاء الرغبة في قلب من يطلبها منه بل ربما كان التكسب واجبا كقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة فمتى ترك ذلك كان عاصيا وسلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال قوله لا يكتوون معناه الا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي وقوله ولايسترقون معناه بالرقى التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقى الجاهلية وما لا يؤمن ان يكون فيه شرك وقوله ولا يتطيرون أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية في عقائدهم قال فان قيل ان المتصف بهذا أكثر من العدد المذكور فما وجه الحصر فية وأجاب باحتمال ان يكون المراد به التكثير لا خصوص العدد قلت الظاهر أن العدد المذكور على ظاهره فقد وقع في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وصفهم بأنهم تضيء وجوهم اضاءة القمر ليلة البدر ومضى في بدء الخلق من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رفعه أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء اضاءة وأخرجه مسلم من طرق عن أبي هريرة منها رواية أبي يونس وهمام عن أبي هريرة على صورة القمر وله من حديث جابر فتنجو أول زمرة وجوهم كالقمر ليلة البدر سبعون الفا لا يحاسبون وقد وقع(1/182)
في أحاديث أخرى أن مع السبعين الفا زيادة عليهم ففي حديث أبي هريرة عند أحمد والبيهقي في البعث من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال( سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي ...)فذكر الحديث نحو سياق حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وزاد (فاستزدت ربي فزادني مع كل الف سبعين الفا )وسنده جيد وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حذيفة عند أحمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند بن أبي عاصم فهذه طرق يقوى بعضها بعضا وجاء في أحاديث أخرى أكثر من ذلك فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي امامة رفعه (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا مع كل الف سبعين الفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي )وفي صحيح بن حبان أيضا والطبراني بسند جيد من حديث عتبة بن عبد نحوه بلفظ (ثم يشفع كل الف في سبعين الفا ثم يحثى ربي ثلاث حثيات بكفيه ) وفيه فكبر عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ان السبعين الفا يشفعهم الله في آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم واني لأرجو ان يكون أدنى أمتي الحثيات) وأخرجه الحافظ الضياء وقال لا اعلم له علة قلت علته الاختلاف في سنده فان الطبراني أخرجه من رواية أبي سلام حدثني عامر بن زيد انه سمع عتبة ثم أخرجه من طريق أبي سلام أيضا فقال حدثني عبد الله بن عامر ان قيس بن الحارث حدثه ان أبا سعيد الأنماري حدثه فذكره وزاد قال قيس فقلت لأبي سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يستوعب مهاجري أمتي ويوفى الله بقيتهم من اعرابنا وفي رواية لابن أبي عاصم قال أبو سعيد فحسبنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعة آلاف الف وتسعمائة الف يعني من عدا الحثيات وقد وقع عند أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب نحو حديث عتبة بن عبد وزاد والخبيئة بمعجمة ثم موحدة وهمزة(1/183)
وزن عظيمة عند ربي وورد من وجه آخر ما يزيد على العدد الذي حسبه أبو سعيد الأنماري فعند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه بلفظ أعطاني مع كل واحد من السبعين الفا سبعين الفا وفي سنده راويان أحدهما ضعيف الحفظ والاخر لم يسم واخرج البيهقي في البعث من حديث عمرو بن حزم مثله وفيه راو ضعيف أيضا واختلف في سنده وفي سياق متنه وعند البزار من حديث أنس بسند ضعيف نحوه وعند الكلاباذي في معاني الاخبار بسند واه من حديث عائشة فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فإذا هو في مشربة يصلي فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار فلما قضى صلاته قال رأيت الأنوار قلت نعم قال ان آتيا أتاني من ربي فبشرني ان الله يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا بغير حساب ولا عذاب ثم أتاني فبشرني ان الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين الفا سبعين الفا بغير حساب ولا عذاب ثم أتاني فبشرني ان الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين الفا المضاعفة سبعين الفا بغير حساب ولا عذاب فقلت يا رب لا يبلغ هذا أمتي قال اكملهم لك من الاعراب ممن لا يصوم ولا يصلي قال الكلاباذي المراد بالأمة أولا امة الإجابة وبقوله آخرا أمتي امة الاتباع فان أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام أحدها أخص من الاخر أمة الاتباع ثم أمة الإجابة ثم أمة الدعوة فالأولى أهل العمل الصالح والثانية مطلق المسلمين والثالثة من عداهم ممن بعث إليهم ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو مقدار الحثيات فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة عن النضر بن أنس أو غيره عن أنس رفعه ان الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة الف فقال أبو بكر زدنا يا رسول الله فقال هكذا وجمع كفيه فقال زدنا فقال وهكذا فقال عمر حسبك ان الله ان شاء ادخل خلقه الجنة بكف واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق عمر وسنده جيد لكن اختلف على قتادة في سنده اختلافا كثيرا...اه(1/184)
+ وقال للذي سأله أعقل ناقتي أو أدعها قال اعقلها وتوكل فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل والله أعلم
حدثنا أبو حفص عمرو بن علي، حدثني يحيى بن سعيد القطان، أخبرنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك يقول:- " قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال اعقلها وتوكل"
قال عمرو بن علي، قال يحيى وهذا عندي حديث منكر. قال ألو عيس وهذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روى عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.
- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا المقرىء عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو توكلون على الله حق توكله لرزقكم الله كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا أحمد
ذكر الإخبار بأن المرء يجب عليه مع توكل القلب الاحتراز بالأعضاء ضد قول من كرهه
- أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أرسل ناقتي وأتوكل قال اعقلها وتوكل قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه يعقوب هذا هو يعقوب بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري من أهل الحجاز مشهور مأمون ابن حبان
ذكر الإخبار عما يجب على المرء من قطع القلب عن الخلائق بجميع العلائق في أحواله وأسبابه
- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا المقرىء عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو توكلون على الله حق توكله لرزقكم الله كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا ابن حبان + أحمد
باب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته(1/185)
- حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي أخبرنا أبي أخبرنا ابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "من قال يعني إذا خرج من بيته: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
- حدثنا محمود بن غيلان أخبرنا وكيعٌ أخبرنا سفيان عن منصور عن عامر الشعبي عن أم سلمة
- "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله توكلت على الله اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. الترمذي
8-(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين (المائدة : 13 )(1/186)
*ابن كثير … قوله "{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم, أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى, {وجعلنا قلوبهم قاسية} أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها, {يحرفون الكلم عن مواضعه} أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله, وتأولوا كتابه على غير ما أنزله, وحملوه على غير مراده, وقالوا عليه مالم يقل, عياذاً بالله من ذلك, {ونسوا حظاً مما ذكروا به} أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها, وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة, فلا قلوب سليمة, ولا فطر مستقيمة, ولا أعمال قويمة, {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم {فاعف عنهم واصفح} وهذا هو عين النصر والظفر, كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه, وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق, ولعل الله أن يهديهم, ولهذا قال تعالى: {إن الله يحب المحسنين} يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الاَية (فاعف عنهم واصفح) منسوخة بقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر} الاَية.
*القرطبي …الآية: 13 {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}
قوله تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم" أي فبنقضهم ميثاقهم، "ما" زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم؛ وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد .(1/187)
فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. "لعناهم" قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ. عطاء: أبعدناهم؛ واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة. "وجعلنا قلوبهم قاسية" أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله؛ والقاسية والعاتية بمعنى واحد. وقرأ الكسائي وحمزة: "قسيَّة" بتشديد الياء من غير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب. والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه. وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة؛ فمعنى "قسية" على هذا ليست بخالصة الإيمان، أي فيها نفاق. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره. يقال: درهم قسي (مخفف السين مشدد الياء) مثال شقي أي زائف .(1/188)
وقال الأصمعي وأبو عبيد: درهم قسي كأنه معرب قاشي. قال القشيري: وهذا بعيد؛ لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا؛ لأن ما قلت نقرته يقسوا ويصلب. وقرأ الأعمش: "قسية" بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية؛ من قسي يقسى لا من قسا يقسو. وقرأ الباقون على وزن فاعلة؛ وهو اختيار أبي عبيد؛ وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية. قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة. فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي؛ لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش. قال الراجز: قد قسوت وقست لداتيقوله تعالى: "يحرفون الكلم عن مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام. وقيل: معناه يبدلون حروفه. "ويحرفون" في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين. وقرأ السلمي والنخعي "الكلام" بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. "ونسوا حظا مما ذكروا به" أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.، وبيان نعته. "ولا تزال تطلع" أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف "على خائنة منهم" والخائنة الخيانة؛ قال قتادة. وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة. وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة. وقد تقع "خائنة" للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة؛ فخائنة على هذا للمبالغة؛ يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة(1/189)
قال ابن عباس: "على خائنة" أي معصية. وقيل: كذب وفجور. وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. "إلا قليلا منهم" لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في "خائنة منهم". "فاعف عنهم واصفح" في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة. والقول الآخر إنه منسوخ بآية السيف. وقيل: بقوله عز وجل "وإما تخافن من قوم خيانة" [الأنفال:58].
*السعدي …فبما نقضهم ميثاقهم " أي : بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات : الأولى : أن " لعناهم " أي : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة ، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم ، الذي هو سببها الأعظم . الثانية : قوله : " وجعلنا قلوبهم قاسية " أي : غليظة لا تجدي فيها المواعظ ، ولا تنفعها الآيات والنذر ، فلا يرغبهم تشويق . ولا يزعجهم تخويف . وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون قلبه بهذه الصفة ، التي لا يفيده معها ، الهدى ، والخير إلا شرا . الثالثة : أنهم " يحرفون الكلم عن مواضعه " أي : ابتلوا بالتغيير والتبديل ، فيجعلون الكلام الذي أراد الله له معنى ، غير ما أراد الله ، ولا رسوله . الرابعة : أنهم " فنسوا حظا مما ذكروا به "(1/190)
. فإنهم ذكروا بالتوراة ، وبما أنزل الله على موسى ، فنسوا حظا منه . وهذا شامل ، لنسيان علمه ، وأنهم نسوه ، وضاع عنهم ، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه ، عقوبة منه لهم . وشامل لنسيان العمل ، الذي هو الترك ، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به . ويستدل بهذا على أهل الكتاب ، بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم ، أو وقع في زمانهم ، أنه مما نسوه . الخامسة : الخيانة المستمرة التي " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " أي : خيانتهم لله ، ولعباده المؤمنين . ومن أعظم الخيانة منهم ، كتمهم الحق ، عن من يعظهم ، ويحسن فيهم الظن ، وإبقاؤهم على كفرهم ، فهذه خيانة عظيمة . وهذه الخصال الذميمة ، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم . فكل من لم يقم بما أمر الله به ، وأخذ به عليه الالتزام ، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب ، والابتلاء بتحريف الكلم ، وأنه لا يوفق للصواب ونسيان حظ مما ذكر به . وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة . نسأل الله العافية . وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا ، لأنه هو أعظم الحظوظ ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية . كما قال تعالى : " فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ". وقال في الحظ النافع : " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " . وقوله : " إلا قليلا منهم " أي : فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليهم فوفقهم ، وهداهم للصراط المستقيم . " فاعف عنهم واصفح " أي : لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى ، الذي يقتضي أن يعفى عنهم . واصفح ، فإن ذلك من الإحسان " والله يحب المحسنين " والإحسان : هو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك . وفي حق المخلوقين : بذل النفع الديني والدنيوي لهم .(1/191)
ابن عاشور…{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}
.......
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلة اكتراثهم بالدين ورقة اتباعهم ثلاثة أصول من ذلك: وهي التعمد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال، والغرور بسوء التأويل، والنسيان الناشئ عن قلة تعهد الدين وقلة الاهتمام به.
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتعظ من الوقوع في مثلها. وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدين من كل مسارب التحريف، فميزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقابا للتمييز بينها، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس: يجوز أن يقال: هو دين الله، ولا يجوز أن يقال: قاله الله.
وقوله {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفعل {لا تزال} يدل على الاستمرار، لأن المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنه في قوة أن يقال: يدوم اطلاعك. فالاطلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر، والاطلاع هنا كناية عن المطلع عليه، أي لا يزالون يخونون فتطلع على خيانتهم.
والاطلاع افتعال من طلع. والطلوع: الصعود. وصيغة الافتعال فيه لمجرد المبالغة، إذ ليس فعله متعديا حتى يصاغ له مطاوع، فاطلع بمنزلة تطلع، أي تكلف الطلوع لقصد الإشراف.
والمعنى: ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم.
والخائنة: الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة، كالعاقبة ، والطاغية. ومنه {يعلم خائنة الأعين}. وأصل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد، ولعل أصلها إظهار خلاف الباطن. وقيل: {خائنة} صفة لمحذوف، أي فرقة خائنة.(1/192)
واستثنى قليلا منهم جبلوا على الوفاء، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب، قال تعالى {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم}. وأمره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدينية، فلا يعارض هذا قوله في براءة {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} لأن تلك أحكام التصرفات العامة، فلا حاجة إلى القول بأن هذه الآية نسخت بآية براءة.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني
العفو : العفو له معنيان الأول : هو المحو والإزالة ، و العفو فى حق الله تعالى عبارة عن إزالة أثار الذنوب كلية
فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين ، ولا يطالبه بها يوم القيامة وينسيها من قلوبهم كيلا يخجلوا عند تذكرها ويثبت
مكان كل سيئة حسنة
المعنى الثانى : هو الفضل ، أى هو الذى يعطى الكثير ، وفى الحديث : ( سلوا الله العفو و العافية ) والعافية هنا دفاع
الله عن العبد ، والمعافاة أن يعافيك الله من الناس ويعافيهم منك ، أى يغنيك عنهم ويغنيهم عنك ، وبذلك صرف أذاك
عنهم وأذاهم عنك ... حظ العبد من الاسم أن يعفو عمن أساء إليه أو ظلمه وأن يحسن الى من أساء اليه .
قال الامام أبو حامد الغزالي رخمه الله:
ا لعفو: هو الذي يمحو السيئا ت ويتجا وز عن المعا صي ، وهو قريب من الغفور ولكنه أبلغ منه . فإن الغفران ينبيء عن الستر ، والعفو ينبيء عن المحو ، والمحو أبلغ من الستر . وحظ العبد من ذلك لا يخفى ، وهو أن يعفو
عن كل من ظلمه ، بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسنا في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة(1/193)
بل ربما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم.وإذا ناب عليهم محا سيئاتهم ،إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.وهذا غاية
المحو للجناية...=المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى=
- حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا جعفر بن سليمان الضبعي عن كهمس بن الحسن عن عبد الله ابن بريدة عن عائشة قالت:
- "قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال أبو عيسى: هَذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ.
شرح ـ قوله: (عن عبد الله بن بريدة) الأسلمي المروزي قوله: (أرأيت) أي أخبرني (إن علمت) جوابه محذوف يدل عليه ما قبله (أي ليلة) مبتدأ وخبره (ليلة القدر) والجملة سدت مسد المفعولين لعلمت تعليقاً قيل القياس آية ليلة فذكر باعتبار الزمان كما ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم: "أي آية من كتاب الله معك أعظم"؟ باعتبار الكلام واللفظ (ما أقول) متعلق بأرأيت (فيها) أي في تلك الليلة، قال الطيبي: ما أقول فيها جواب الشرط وكان حق الجواب أن يؤتي بالفاء ولعله سقط من قلم الناسخ وتعقب عليه القاري بأن دعوى السقوط من قلم الناسخ ليست بصحيحة وقد جاء حذف الفاء على القلة "أللهم إنك عفو" أي كثير العفو. قوله: (هذا حديث حسن صحيح) وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم … تحفة الاحوذي
- أخبرنا ابو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى قالا نا ابو العباس الأصم انا احمد بن عبد الجبار نا ابو معاوية عن أبي إسحاق عن عباس بن ذريع عن شريح بن هانئ عن عائشة قالت لو عرفت أي ليلة ليلة القدر ما سألت الله فيها إلا العافية .
+++ أخبرنا ابو عبد الله الحافظ وأبو سعد الشعيبي 1 قالا سمعنا ابا عمرو بن أبي جعفر الحيري يقول سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل كثيرا يقول في مجلسه وفي غير المجلس عفوك ثم يقول(1/194)
عفوك يا عفو في المحيا وعفوك في الممات وعفوك في القبور وعفوك عند النشور وعفوك عند تطاير الصحف وعفوك في القيامة وعفوك في مناقشة الحساب وعفوك عند ممر الصراط وعفوك عند الميزان وعفوك في جميع الأحوال وعفوك ياعفو عفوك
قال أبو عمرو ورؤي ابو عثمان في المنام بعد وفاته بأيام فقيل له بماذا انتفعت من أعمالك في الدنيا فقال بقولي عفوك عفوك .... لفظ ابي عبد الله … شعب الايمان
** قلت… ورد اسم الله العفو في القرآن الكريم في قوله عز وجل :
1-(ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (الحج : 60 )
2-(الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (المجادلة : 2 )
3-(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء : 43 )
4-(فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء : 99 )
5-(إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء : 149 )
** كما ورد فيه بصيغة الفعل وهو سبحانه فاعله في ست آيات:(1/195)
1-أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة : 187 )
2-(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران : 152 )
3-(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران : 155 )(1/196)
4-(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (المائدة : 95 )
5-(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (المائدة : 101 )
6-(عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة : 43 )
**وورد بصيغة الجمع في موضعين:
1-وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة : 51+52 )
2-(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً) (النساء : 153 )
وورد بصيغة المضارع في خمس آيات :
1-(لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ) (التوبة : 66 )(1/197)
2-(وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ) (الشورى : 32 + 33 + 34 )
3-(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء : 97 + 98 + 99 )
4-(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى : 25 )
5-(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى : 30 )
--- وكما أن الله العفو أمر رسوله الكريم( بالعفو والصفح بقوله تعالى( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) أمر المومنين بذلك ، قال :
1- (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور : 22)
تفسير :قال السعدي رحمه الله:(1/198)
" ولا يأتل " أي : لا يحلف " أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا " . كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه . وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله . فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ، لقوله الذي قال . فنزلت هذه الآية ، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه ، ويحثه على العفو والصفح ، ويعده بمغفرة الله ، إن غفرهو له فقال : " ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " إذا عاملتم عبيده ، بالعفو والصفح ، عاملكم بذلك ، فقال أبو بكر ـ لما سمع هذه الآية ـ : بلى ، والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع النفقة إلى مسطح . وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب ، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان ، والحث على العفو والصفح ، ولو جرى منه ما جرى من أهل الجرائم .
وقال ربنا عز وجل:
2-( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (الشورى : 40+41+42 )
تفسير :قال السعدي رحمه الله:
ذكر الله في هذه الآيات ، مراتب العقوبات ، وأنها على ثلاث مراتب : عدل ، وفضل ، وظلم . فمرتبة العدل : جزاء السيئة بسيئة مثلها ، لا زيادة ولا نقص . فالنفس بالنفس ، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها ، والمال يضمن بمثله . ومرتبة الفضل : العفو والإصلاح عن المسيء ، ولهذا قال : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله "(1/199)
يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا . وشرط الله في العفو الإصلاح فيه ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه ، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته ، فإنه في ـ هذه الحال ـ لا يكون مأمورا به . وفي جعل أجر العافي على الله ، ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به . فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل . وأما مرتبة الظلم : فقد ذكرها بقوله : " إنه لا يحب الظالمين " الذين يجنون على غيرهم ابتداء ، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ، فالزيادة ظلم " ولمن انتصر بعد ظلمه " أي :انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه " فأولئك ما عليهم من سبيل " أي : لا حرج عليهم في ذلك . ودل قوله : " والذين إذا أصابهم البغي " وقوله : " ولمن انتصر بعد ظلمه " أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه . وأما إرادة البغي على الغير ، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء ، فهذا لا يجازي بمثله ، وإنما يؤدب تأديبا ، يردعه عن قول ، أو فعل صدر منه " إنما السبيل " أي : إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية " على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق " وهذا شامل للظلم والبغي على الناس ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم . " أولئك لهم عذاب أليم " أي : موجع للقلوب والأبدان ، بحسب ظلمهم وبغيهم . " ولمن صبر " على ما يناله من أذى الخلق " وغفر " لهم ، بأن سمح لهم عما صدر منهم . " إن ذلك لمن عزم الأمور " أي : الأمور التي حث الله عليها وأكدها وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة ، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم ، وذوو الألباب والبصائر . فإن ترك الانتصار للنفس ، بالقول أو الفعل ، من أشق شيء عليها . والصبر على الأذى ، والصفح عنه ، ومغفرته ، ومقابلته بالإحسان ، أشق وأشق . ولكنه يسير على من يسره الله(1/200)
عليه وجاهد نفسه على الاتصاف به ، واستعان الله على ذلك . ثم إذا ذاق العبد حلاوته ، ووجد آثاره ، تلقاه برحب الصدر ، وسعة الخلق ، والتلذذ فيه .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد, حدثنا عثمان الشحام, حدثنا محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق منظرة, فأخذت حاجتي فانطلق بي إلى مروان بن المهلب, وهو أمير على البصرة فقال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت: حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي, قال: ومن أخو بني عدي ؟ قال العلاء بن زياد: استعمل صديقاً له مرة على عمل, فكتب إليه: أما بعد, فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف, وبطنك خميص, وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم, فإنك إذا فعلت ذلك, لم يكن عليك سبيل {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس, ويبغون في الأرض بغير الحق, أولئك لهم عذاب أليم} فقال مروان: صدق والله ونصح, ثم قال: ما حاجتك يا أبا عبد الله, قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي, قال: نعم, رواه ابن أبي حاتم, ثم إن الله تعالى, لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص, قال نادباً إلى العفو والصفح: {ولمن صبر وغفر}, أي صبر على الأذى, وستر السيئة {إن ذلك لمن عزم الأمور} قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر الله بها, أي لمن الأمور المشكورة, والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل, وثناء جميل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي, حدثنا مصمد بن يزيد خادم الفضيل بن عياض قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً, فقل: ياأخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى, فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو, ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل, فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو, فإنه باب واسع, فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله, وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل, وصاحب الانتصار يقلب الأمور.(1/201)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى يعني ابن سعيد القطان, عن ابن عجلان, حدثنا سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم, فلما أكثر رد عليه بعض قوله, فغضب النبي وقام, فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس, فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت, قال: "إنه كان معك ملك يرد عنك, فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ـ ثم قال ـ يا أبا بكر: ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها الله, إلا أعزه الله تعالى بها ونصره, وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة, وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة, إلا زاده الله عز وجل بها قلة وكذا رواه أبو داود عن عبد الأعلى بن حماد عن سفيان بن عيينة قال: ورواه صفوان بن عيسى كلاهما عن محمد بن عجلان, ورواه من طريق الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب مرسلاً, وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى, وهو مناسب للصديق رضي الله عنه...
حديث
* أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق ثنا يوسف بن يعقوب ثنا أبو الربيع ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال ولا زاد الله بالعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله رواه مسلم في الصحيح عن جماعة عن إسماعيل البيهقي
قال الامام النووي رحمه الله(1/202)
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال" ذكروا فيه وجهين: أحدهما معناه أنه يبارك فيه ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة. والثاني أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة. قوله صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً يعفو إلا عزاً) فيه أيضاً وجهان: أحدهما أنه على ظاهره وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاد عزه وإكرامه. والثاني: أن المراد أجره في الاَخرة وعزه هناك. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" فيه أيضاً وجهان: أحدهما يرفعه في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه: والثاني أن المراد ثوابه في الاَخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا. قال العلماء: وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة وقد يكون المراد الوجهين معاً في جميعها في الدنيا والاَخرة والله أعلم
* أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق الزكي أنبأ أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة ثنا إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي ثنا سعيد بن محمد الجرمي ثنا يعقوب بن أبي المتئد عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضى الله تعالى عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة تعفو عمن ظلمك وتعطي من رحمك وتصل من قطعك البيهقي(1/203)
* وحدثنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ثنا محمد بن شاذان الجوهري ثنا سعيد بن سليمان ثنا سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته قالوا من يا رسول الله ؟ قال :تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك تصل من قطعك قال:فإذا فعلت ذلك فما لي يا رسول الله ؟ قال: أن تحاسب حسابا يسيرا ويدخلك الله الجنة برحمته البيهقي+ الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
*حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن القاسم بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر رضى الله تعالى عنه قال لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرته فأخذت بيده وبدرني فأخذ بيدي فقال: يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ألا ومن أراد أن يمد في عمره ويبسط في رزقه فليصل ذا رحمه الحاكم
وروى الطبري مرسلا وابن مردويه موصولا من حديث جابر وغيره لما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف سأل جبريل فقال لا أعلم حتى أسأله ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك ابن حجر …فتح الباري(1/204)
وقال الراغب خذ العفو معناه خذ ما سهل تناوله وقيل تعاط العفو مع الناس والمعنى خذ ما عفى لك من أفعال الناس وأخلاقهم وسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا وهو كحديث يسروا ولا تعسروا ومنه قول الشاعر خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سوأتي حين أغضب وأخرج بن مردويه من حديث جابر وأحمد بن حديث عقبة بن عامر لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل فقال يا محمد ان ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة ؟ قالوا وما ذاك فذكره.
قال الطببي ما ملخصه : أمر الله نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر أمته بنحو ما أمره الله به ومحصلهما الأمر بحسن المعاشرة مع الناس وبذل الجهد في الإحسان إليهم والمدارة معهم والاغضاء عنهم. وبالله التوفيق ابن حجر …فتح الباري
باب الدعاء بالعفو والعافية
- حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي. حدثنا ابن أبي فديك. أخبرني سلمة ابن وردان عن أنس بن مالك؛ قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله! أي الدعاء أفضل؟
قال ((سل ربك العفو والعافية، في الدنيا والآخرة)) ثم أتاه في اليوم الثالث، فقال: يانبي الله! أي الدعاء أفضل؟
قال ((سل ربك العفو والعافية في الدنيا والآخرة. فلإذا أعطيت العفو والعافية، في الدنيا والآخرة، فقد أفلحت)).(1/205)
- حدثنا أبو بكر وعلي بن محمد، قالا: حدثنا عبيد بن سعيد؛ قال: سمعت شعبة عن يزيد بن خمير؛ قال: سمعت سليم بن عامر يحدث عن أوسط بن إسماعيل البجلي؛ أنه سمع أبا بكر، حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مقامي هذا، عام الأول. ((ثم بكى أبو بكر)) ثم قال ((عليكم بالصدق. فإنه مع البر. وهما في الجنة. وإياكم والكذب. فإنه مع الفجور. وهما في النار. وسلوا الله المعافاة. فإنه لم يؤت أحد، بعد اليقين، خيرا من المعافاة. ولا تحاسدوا. ولا تباغضوا. ولا تقاطعوا. ولا تدابروا. وكونوا، عباد الله! إخوانا)).
وفي الزوائد: قلت: رواه النسائي. في اليوم والليلة، من طرق: منها عن يحيى بن عثمان، عن عمر بن عبد الواحد، وعن محمود بن خالد عن الوليد، كلاهما عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن سليم بن عامر.
- حدثنا علي بن محمد. حدثنا وكيع عن هشام صاحب الدستوائي، عن قتادة، عن العلاء بن زياد العدوي، عن أبي هريرة؛ قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مامن دعوة يدعو بها العبد، أفضل من اللهم! إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة ـ))
في الزوائد: إسناد حديث أبي هريرة صحيح. رجاله ثقات. والعلاء بن زياد، ذكره ابن حبان في الثقات. ولم أر من تكلم فيه. وباقي رجال الإسناد لا يسأل عن حالهم لشهرتهم ابن ماجه(1/206)
9-( يَأَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الّذِينَ هِادُواْ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هََذَا فَخُذُوهُ وَإِن لّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ *)(41+42+43 المائدة)
قال القرطبي رحمه الله …قوله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك" الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
1- قيل نزلت في بني قريظة والنضير؛ قتل قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم، وإنما يعطونهم الدية على ما يأتي بيانه، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري، فساءهم ذلك ولم يقبلوا.
2-وقيل؛ إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح.(1/207)
3-وقيل: إنها نزلت في زني اليهوديين وقصة الرجم؛ وهذا أصح الأقوال؛ رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. قال أبو داود عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم (ائتوني بأعلم رجلين منكم) فجاؤوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى (كيف تجدان أمر هذين في التوراة)؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرور في المكحلة رجما. قال: (فما يمنعكم أن ترجموهما)، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما. وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبدالله قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه؛ فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم)، فقال ابن صوريا: فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية، والاعتناق زنية، والقبلة زنية، فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو ذاك). وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم) قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم) قال: لا - ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك - نجده الرم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم؛ فقال رسول الله صلى الله(1/208)
عليه وسلم: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) فأمر به فرجم؛ فأنزل الله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله: "إن أوتيتم هذا فخذوه" يقول: ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز وجل: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة 44] ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" [المائدة: 45] ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" [المائدة: 47] في الكفار كلها. هكذا في هذه الرواية (مر على النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي حديث ابن عمر: أتي بيهودي ويهودية فد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود، قال: (ما تجدون في التوراة على من زنى) الحديث. وفي رواية؛ أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زنيا. وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بيننا. ولا تعارض في شيء من هذا كله، وهي كلها قصة واحدة، وفد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك؛ قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه؛ فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: (أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن)، فقالوا: يحمم وجهه ويجبه ويجلد، والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف به؛ قال: وسكت شاب منهم، فلما(1/209)
رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة؛ فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. وساق الحديث إلى أن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإني أحكم بما في التوراة) فأمر به فرجما.
والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة. واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان. فهذه مسائل أربع. فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام؛ فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم، ومنعهم منه بلا خلاف. وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي، غير أن مالكا رأى الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم الإسلام. وقال الشافعي: لا يحكم بينهم في الحدود. وقال أبو حنيفة: يحكم بينهم على كل حال، وهو قول الزهري وعمر بن عبدالعزيز والحكم، وروي عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي؛ لقوله تعالى: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة: 49] على ما يأتي بيانه بعد، احتج مالك بقوله تعالى: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" [المائدة: 42] وهي نص في التخيير. قال ابن القاسم: إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير؛ لأن إنفاذ الحكم حق للأساقفة والمخالف يقول: لا يلتفت إلى الأساقفة. قال ابن العربي: وهو الأصح؛ لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ، ولم يعتبر رضا الحاكم. فالكتابيون بذلك أولى. وقال عيسى عن ابن القاسم: لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب. قال ابن العربي: وهذا الذي قال عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره: أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم المرأة الزانية بسرة، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا عن هذا، فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه، وإن أفتاكم به فاحذروه؛ الحديث. قال(1/210)
ابن العربي: وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا؛ وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم؛ فلا حجة لرواية عيسى في هذا؛ وعنهم أخبر الله تعالى بقوله: "سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" ولما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع؛ فكل من حكم رجلا في الدين وهي:
فأصله هذه الآية. قال مالك: إذا حكم رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه، إلا أن يكونوا جورا بينا. وقال سحنون: يمضيه إن رآه صوابا. قال ابن العربي: وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان؛ والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه، وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية، ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج الحمر، فلا بد من فاصل؛ فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج؛ وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة. وقال الشافعي وغيره: التحكيم جائز وإنما هو فتوى. وقال بعض العلماء: إنما كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم، لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به؛ ألا ترى أنه قال: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) وأن ذلك كان حين قدم المدينة، ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك. وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به. وقد يحتمل أن يكون حصول طريق العلم بذلك الوحي، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا قولهما مجردا؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بمشروعية الرجم، ومبدؤه ذلك الوقت، فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة، وبين أن ذلك حكم(1/211)
شريعته، وأن التوراة حكم الله سبحانه؛ لقوله تعالى: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا" [المائدة: 44] وهو من الأنبياء. وقد قال عنه أبو هريرة: (فإني أحكم بما في التوراة) والله أعلم.
والجمهور على رد شهادة الذمي؛ لأنه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر، وقد قبِل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذ لم يوجد مسلم ... فإن قيل: فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين: فالجواب؛ أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذا لا حاكما. وهذا على التأويل الأول، وعلى ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بالواقعة، إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك. والله أعلم.
قوله تعالى: "لا يحزنك" قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي. والحزن والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين، وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه، ومحزون بُني عليه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. واحتزن وأحزن بمعنى. والمعنى في الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر، فإن الله قد وعدك النصر عليهم.(1/212)
قوله تعالى: "من الذين قالوا آمنا بأفواههم" وهم المنافقون "ولم تؤمن قلوبهم" أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به ألسنتهم "ومن الذين هادوا" يعني يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام، ثم ابتدأ فقال "سماعون للكذب" أي هم سماعون، ومثله "طوافون عليكم" [النور: 58]. وقيل الابتداء من قوله: "ومن الذين هادوا" ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب، أي قابلون لكذب رؤسائهم من تحريف التوراة. وقيل: أي يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك، فكان فيهم من يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكذب عليه عند عامتهم، ويقبح صورته في أعينهم؛ وهو معنى قوله: "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" وكان في المنافقين من يفعل هذا. قال الفراء ويجوز سماعين وطوافين، كما قال: "ملعونين أينما ثقفوا" وكما قال: "إن المتقين في جنات ونعيم". [الطور: 17] ثم قال: "فاكهين" "آخذين". وقال سفيان بن عيينة: إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله: "سماعون لقوم آخرين لم يأتوك" ولم يعرض النبي صلى الله علبه وسلم لهم مع علمه بهم؛ لأنه لم يكن حينئذ تقرر الأحكام ولا تمكن الإسلام. ...قوله تعالى: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل؛ وبين أحكامه؛ فقالوا: شرعه ترك الرجم؛ وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله عز وجل. و"يحرفون" في موضع الصفة لقوله "سماعون" وليس بحال من الضمير الذي في "يأتوك" لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا، والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف. والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم، ولذلك كان حمل المعنى على "من الذين هادوا" فريق سماعون أشبه" "يقولون" في موضع الحال من المضمر في "يحرفون" "إن أوتيتم هذا فخذوه" أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد فأقبلوا وإلا فلا.(1/213)
قوله تعالى: "ومن يرد الله فتنته" أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة "فلن تملك له من الله شيئا" أي فلن تنفعه "أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم" بيان منه عز وجل أنه قضى عليهم بالكفر. ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ردا على من قال خلاف ذلك على ما تقدم؛ أي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم "لهم في الدنيا خزي" قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم، ثم أحضرت التوراة فوجد فيها الرجم وقيل: خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل. والله أعلم.
الآية: 42 {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين}
قوله تعالى: "سماعون للكذب" كرره تأكيدا وتفخيما، وقد تقدم. وقوله تعالى: "أكالون للسحت" على التكثير. والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة؛ قال الله تعالى: "فيسحتكم بعذاب". وقال الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف
كذا الرواية. أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى؛ لأن معنى لم يدع لم يبق. ويقال للحالق: اسحت أي استأصل. وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. وقال الفراء: أصله كلب الجوع، يقال رجل مسحوت المعدة أي أكول؛ فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. وقيل: سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان.(1/214)
قلت: والقول الأول أولى؛ لأن بذهاب الدين تذهب المروءة، ولا مروءة لمن لا دين له. قال ابن مسعود وغيره: السحت الرشا. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رشوة الحاكم من السحت. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به) قالوا: يا رسول الله ؛وما السحت؟ قال: (الرشوة في الحكم). وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها. وقال ابن خويز منداد: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها. ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام. وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك.
قلت: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله؛ لأن أخذ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه. والله أعلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن اله الراشي والمرتشي). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية. وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال: لا؛ إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقا فد لزمك؛ فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ؛ لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روي عن عبدالله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع؛ قال المهدوي: ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه.(1/215)
قلت: الصحيح في كسب الحجام أنه طيب، ومن أخذ طيبا لا تسقط مروءته ولا تنحط مرتبته. وقد روى مالك عن حميد الطويل عن أنس أنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجمه أبو طيبة فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه؛ قال ابن عبدالبر: هذا يدل على أن كسب الحجام طيب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل ثمنا ولا جعلا ولا عوضا لشيء من الباطل. وحديث أنس هذا ناسخ لما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمن الدم، وناسخ لما كرهه من إجارة الحجام. وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه. والسُحْت والسُحُت لغتان قرئ بهما؛ قرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمتين، والباقون بضم السين وحدها. وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع "أكالون للسحت" بفتح السين وإسكان الحاء وهذا مصدر من سحته؛ يقال: أسحت وسحت بمعنى واحد. وقال الزجاج: سحته ذهب به قليلا قليلا.(1/216)
قوله تعالى: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" هذا تخيير من الله تعالى؛ ذكره القشيري؛ وتقدم معناه أنهم كانوا أهل موادعة لا أهل ذمة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع اليهود. ولا يجب علينا الحكم بين الكفار إذا لم يكونوا أهل ذمة، بل يجوز الحكم إن أردنا. فأما أهل الذمة فهل يجب علينا الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؟ قولان للشافعي؛ وإن ارتبطت الخصومة بمسلم يجب الحكم. قال المهدوي: أجمع العلماء على أن على الحاكم أن يحكم بين المسلم والذمي. واختلفوا في الذميين؛ فذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة وأن الحاكم مخير؛ روي، ذلك عن النخعي والشعبي وغيرهما، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، سوى ما روي عن مالك في ترك إقامة الحد على أهل الكتاب في الزنى؛ فإنه إن زنى المسلم بالكتابية حد ولا حد عليها، فإن كان الزانيان ذميين فلا حد عليهما؛ وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وغيرهما. وقد روي عن أبي حنيفة أيضا أنه قال: يجلدان ولا يرجمان. وقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وغيرهم: عليهما الحد إن أتيا راضيين بحكمنا. قال ابن خويز منداد: ولا يرسل الإمام إليهم إذا استعدى بعضهم على بعض، ولا يحضر الخصم مجلسه إلا أن يكون فيما يتعلق بالمظالم التي ينتشر منها الفساد كالقتل ونهب المنازل وأشباه ذلك، فأما الديون والطلاق وسائر المعاملات فلا يحكم بينهم إلا بعد التراضي، والاختيار له ألا يحكم ويردهم إلى حكامهم. فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام. وأما إجبارهم على حكم المسلم فيما ينتشر منه الفساد فليس على الفساد عاهدناهم، وواجب قطع الفساد عنهم، منهم ومن غيرهم؛ لأن في ذلك حفظ أموالهم ودمائهم؛ ولعل في دينهم استباحة ذلك فينتشر منه الفساد بيننا؛ ولذلك منعناهم أن يبيعوا الخمر جهارا وأن يظهروا الزنى وغير ذلك من القاذورات؛ لئلا يفسد بهم سفهاء المسلمين. وأما الحكم فيما يختص به دينهم من الطلاق والزنى وغيره فليس يلزمهم أن(1/217)
يتدينوا بديننا، وفي الحكم بينهم بذلك إضرار بحكامهم وتغيير ملتهم، وليس كذلك الديون والمعاملات؛ لأن فيها وجها من المظالم وقطع الفساد. والله أعلم.
-وفي الآية قول ثان: وهو ما روي عن عمر بن عبدالعزيز والنخعي أيضا أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" وأن على الحاكم أن يحكم بينهم؛ وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. وروي عن عكرمة أنه قال: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" نسختها آية أخرى "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" [المائدة: 49]. وقال مجاهد: لم ينسخ من "المائدة" إلا آيتان؛ قوله: "فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" نسختها "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"؛ وقوله: "لا تحلوا شعائر الله" [المائدة: 2] نسختها "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة: 5]. وقال الزهري: مضت السنة أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. قال السمرقندي: وهذا القول يوافق قول أبي حنيفة أنه لا يحكم بينهم ما لم يتراضوا بحكمنا. وقال النحاس في "الناسخ والمنسوخ" له قوله تعالى: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل "وأن احكم بينهم بما أنزل الله". وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبدالعزيز والسدي؛ وهو الصحيح من قول الشافعي؛ قال في كتاب الجزية: ولا خيار له إذا تحاكموا إليه؛ لقوله عز وجل: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة: 29]. قال النحاس: وهذا من أصح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى قوله: "وهم صاغرون" أن تجرى عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم؛ فإذا وجب هذا فالآية منسوخة. وهو أيضا قول الكوفيين أبي حنيفة(1/218)
وزفر وأبي يوسف ومحمد، لا اختلاف بينهم إذا تحاكم أهل الكتاب إلى الإمام أنه ليس له أن يعرض عنهم، غير أن أبا حنيفة قال: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهم بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم.
وقال الباقون: يحكم؛ فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس؛ ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم، وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة، وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا، فاعلا ما لا يحل ولا يسعه. قال النحاس: ولمن قال بأنها منسوخة من الكوفيين قول آخر؛ منهم من يقول: على الإمام إذا علم من أهل الكتاب حدا من حدود الله عز وجل أن يقيمه وإن لم يتحاكموا إليه ويحتج بأن قول الله عز وجل: "وأن احكم بينهم" يحتمل أمرين: أحدهما: وأن احكم بينهم إذا تحاكموا إليك. والآخر: وأن احكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليك - إذا علمت ذلك منهم - قالوا: فوجدنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إقامة الحق عليهم وإن لم يتحاكموا إلينا؛ فأما ما في كتاب الله فقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" [النساء: 135]. وأما ما في السنة فحديث البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي قد جلد وحمم فقال: (أهكذا حد الزاني عندكم) فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: (سألت بالله أهكذا حد الزاني فيكم) فقال: لا. الحديث، وقد تقدم. قال النحاس: فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم ولم يتحاكموا إليه في هذا الحديث. فإن قال قائل: ففي حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ قيل له: ليس في حديث مالك أيضا أن اللذين زنيا رضيا بالحكم وقد رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر(1/219)
بن عبدالبر: لو تدبر من احتج بحديث البراء لم يحتج؛ لأن في درج الحديث تفسير قوله عز وجل: "إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا" [المائدة: 41] يقول: إن أفتاكم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، دليل على أنهم حكموه. وذلك بين في حديث ابن عمر وغيره. فإن قال قائل: ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكَّما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه. قيل له: حد الزاني حق من حقوق الله تعالى على الحاكم إقامته. ومعلوم أن اليهود كان لهم حاكم يحكم بينهم، ويقيم حدودهم عليهم، وهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
قوله تعالى: "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" روى النسائي عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله؛ فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" النفس بالنفس، ونزلت: "أفحكم الجاهلية يبغون" [المائدة: 50].
الآية: 43 {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين}
قوله تعالى: "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" قال الحسن: هو الرجم. وقال قتادة: هو القود. ويقال: هل يدل قوله تعالى: فيها حكم الله" على أنه لم ينسخ؟ الجواب: قال أبو علي: نعم؛ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وقوله: "وما أولئك بالمؤمنين" أي بحكمك أنه من عند الله. وقال أبو علي: إن من طلب غير حكم الله من حيث لم يرضى به فهو كافر؛ وهذه حالة اليهود.
فصل : وقفة مع سيد قطب رحمه الله … في ظلال القرآن ، عتد تفسير قوله تعالى :(1/220)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ(1/221)
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)(
قال رحمه الله
*** الحكم والشريعة والتقاضي ***
مقدمة الوحدة : الإقرار بألوهية الله وربوبيته(1/222)
يتناول هذا الدرس أخطر قضية من قضايا العقيدة الإسلامية , والمنهج الإسلامي . ونظام الحكم والحياة في الإسلام . . وهي القضية التي عولجت في سورتي آل عمران والنساء من قبل . . ولكنها هنا في هذه السورة تتخذ شكلا محدداً إنها قضية الحكم والشريعه والتقاضي - ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والايمان - والقضيه في جوهرها تتلخص في الاجابه على هذا السؤال:
أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها اصحاب الديانات السماويه واحده بعد الأخرى ; وكتبها على الرسل , وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم ? أم يكون ذلك كُله للأهواء المتقلبة , والمصالح التي لا ترجع الى أصل ثابت من شرع الله , والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال ? وبتعبير آخر:أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس ? أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله ?
الله - سبحانه - يقول:إنه هو الله لا آله إلا هو . وإن شرائعه التي سنها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له , وعاهدهم عليها وعلى القيام بها ; هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض , وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس , وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام . .
والله - سبحانه - يقول:إنه لا هوادة في هذا الأمر , ولا ترخص في شيء منه , ولا انحراف عن جانب ولو صغير . وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل , أو لما اصطلح عليه قبيل , مما لم يأذن به الله في قليلٍ ولا كثير !
والله - سبحانه - يقول:إن المسألة - في هذا كله - مسألة إيمان أو كفر ; و إسلام أو جاهلية ; وشرع أو هوى. وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح ! فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله - لا يخرمون منه حرفا ولا يبدلون منه شيئا - والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله .(1/223)
وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان . وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى مما لم يإذن به الله , فهم الكافرون الظالمون الفاسقون . وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون . . وإلا فما هم بالمؤمنين . . ولا وسط بين هذا الطريق وذاك ; ولا حجة ولا معذرة , ولا احتجاج بمصلحة . فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس ; ويضع شرائعة لتحقيق مصالح الناس الحقيقية . وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة . وليس لأحد من عباده أن يقول:إنني أرفض شريعة الله , أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله . . فإن قالها - بلسانه أو بفعله - فقد خرج من نطاق الإيمان . .
هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة . . ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة , ومناوراتهم ومؤامراتهم مع المنافقين: من الذين قالوا:( آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم). وما يوجه به رسول الله ( لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكُف عنه يهود , منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة . .(1/224)
والسياق القرآني في هذا الدرس يقرر أولا:توافى الديانات التي جاءت من عندالله كلها على تحتيم الحكم بما أنزله الله ; وإقامة الحياة كلها على شريعة الله ; وجعل هذا الأمر مفرق الطريق بين الإيمان والكفر ; وبين الإسلام والجاهلية ; وبين الشرع والهوى . . فالتوراة أنزلها الله فيها هدى ونور: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء). (وعندهم التوارة فيها حكم الله). . (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . .). الخ. والإنجيل آتاه الله عيسى بن مريم (مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه). . والقرآن أنزله الله على رسوله (بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)وقال له: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) .(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ). وكذلك تتوافى الديانات كلها على هذا الأمر , ويتعين حد الإيمان وشرط الإسلام , سواء للمحكومين أو للحكام والمناط هو الحكم بما أنزل الله من الحكام , وقبول هذا الحكم من المحكومين , وعدم ابتغاء غيره من الشرائع والأحكام . .(1/225)
والمسألة في هذا الوضع خطيرة ; والتشدد فيها على هذا النحو يستند إلى إسباب لا بد خطيرة كذلك . فما هي يا ترى هذه الأسباب ? إننا نحاول أن نتلمسها سواء في هذه النصوص أو في السياق القرآني كله , فنجدها واضحة بارزة . إن الاعتبار الأول في هذه القضية هو أنها قضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر - بلا شريك - أو رفض هذا الإقرار . . ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان , وجاهلية أو إسلام . والقرآن كله معرض بيان هذه الحقيقة . . إن الله هو الخالق . . خلق هذا الكون , وخلق هذا الإنسان . وسخر ما في السماوات والأرض لهذا الإنسان . . وهو - سبحانه - متفرد بالخلق , لا شريك له في كثير منه أو قليل . وإن الله هو المالك بما أنه هو الخالق . . (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ) فهو - سبحانه - متفرد بالملك . لا شريك له في كثير منه أو قليل . وإن الله هو الرازق . . فلا يملك أحد أن يرزق نفسه أو غيره شيئا . لا من الكثير ولا من القليل . . وإن الله هو صاحب السلطان المتصرف في الكون والناس . . بما أنه هو الخالق المالك الرازق . . وبما أنه هو صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر . وهو - سبحانه - المتفرد بالسلطان في هذا الوجود .(1/226)
والإيمان هو الإقرار لله - سبحانه - بهذه الخصائص . الألوهية , والملك , والسلطان . . . متفردا بها لا يشاركه فيها أحد . والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص . . هو إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة على الوجود كله - وحياة الناس ضمنا - والاعتراف بسلطانه الممثل في قدره ; والممثل كذلك في شريعته . فمعنى الاستسلام لشريعة الله هو - قبل كل شيء - الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه . ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة , واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة , هو - قبل كل شيء - رفض الاعتراف بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه . . ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول . . وهي من ثم قضية كفر أو إيمان ; وجاهلية أو إسلام . ومن هنا يجيء هذا النص (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). .(الظالمون). .(الفاسقون).
والاعتبار الثاني هو اعتبار الأفضلية الحتمية المقطوع بها لشريعة الله على شرائع الناس . . هذه الأفضلية التي تشير إليها الآية الأخيرة في هذا الدرس: (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ?). .
والاعتراف المطلق بهذه الأفضلية لشريعة الله , في كل طور من أطوار الجماعة , وفي كل حالة من حالاتها . . هو كذلك داخل في قضية الكفر والإيمان . . فما يملك إنسان أن يدعي أن شريعة أحد من البشر , تفضل أو تماثل شريعة الله , في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية . . ثم يدعي - بعد ذلك - أنه مؤمن بالله , وأنه من المسلمين . . إنه يدعي أنه أعلم من الله بحال الناس ; وأحكم من الله في تدبير أمرهم . أو يدعي أن أحوالا وحاجات جرت في حياة الناس , وكان الله - سبحانه - غير عالم بها وهو يشرع شريعته ; أو كان عالما بها ولكنه لم يشرع لها ! ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام . مهما قالها باللسان !(1/227)
فأما مظاهر هذه الأفضلية فيصعب إدراكها كلها . فإن حكمة شرائع الله لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجيال والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه هنا . . في الظلال . . فنكتفي منه ببعض اللمسات:
-إن شريعة الله تمثل منهجا شاملا متكاملا للحياة البشرية ; يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية ; في جميع حالاتها , وفي كل صورها وأشكالها . . وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني , والحاجات الإنسانية , وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان ; وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية . . ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة ; ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني ; ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية ; إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق . . الأمر الذي لا يتوافر أبدا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر ; وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة ; ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني ; ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض . والهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم .(1/228)
وهو منهج قائم على العدل المطلق . . أولا لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق . . وثانيا لأنه - سبحانه - رب الجميع ; فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع ; وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان , ذي الشهوات والميول , والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل والقصور - سواء كان المشرع فردا , أو طبقة , أو أمة , أو جيلا من أجيال البشر . . فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها ; فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد . .
وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله . لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله . صانع الكون وصانع الإنسان فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني , له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه ; بشرط السير على هداه , وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها . . ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه ; وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعا كونيا , ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب , ولا مع بني جنسه فحسب ! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض , الذي يعيش فيه , ولا يملك أن ينفذ منه , ولا بد له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم . ثم . . إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان . . ففي كل منهج - غير المنهج الإسلامي - يتعبد الناس الناس . ويعبد الناس الناس . وفي المنهج الإسلامي - وحده - يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك . .(1/229)
إن أخص خصائص الألوهية - كما أسلفنا - هي الحاكمية . . والذي يشرع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها . فهم عبيده لا عبيد الله , وهم في دينه لا في دين الله .
والإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده , يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ويعلن تحرير الإنسان . بل يعلن "ميلاد الإنسان " فالإنسان لا يولد , ولا يوجد , إلا حيث تتحرر رقبتة من حكم إنسان مثله وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعاً أمام رب الناس . .
إن هذه القضية التي تعالجها نصوص هذا الدرس هي أخطر وأكبر قضايا العقيدة. . إنها قضية الألوهيةوالعبودية . قضية العدل والصلاح . قضية الحرية والمساواة . قضية تحرر الإنسان - بل ميلاد الإنسان - وهي من أجل هذا كله كانت قضية الكفر أو الإيمان , وقضية الجاهلية أو الإسلام . .
والجاهلية ليست فترة تاريخية ; إنما هي حالة توجد كلما وجدت مقوماتها في وضع أو نظام . . وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر , لا إلى منهج الله وشريعته للحياة . ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد , أو أهواء طبقه , أو أهواء أمه , أو أهواء جيل كامل من الناس . . فكلها . . ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله . . أهواء . .
يشرع فرد لجماعه فإذا هي جاهليه . لأن هواه هو القانون . . أو رأيه هو القانون . . لا فرق إلا في العبارات ! وتشرع طبقه لسائر الطبقات فإذا هي جاهليه . لأن مصالح تلك الطبقه هي القانون - أو رأي الأغلبيه البرلمانيه هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات!
ويشرع ممثلو جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمه لأنفسهم فإذا هي جاهليه . . لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبداً من الأهواء , ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبداً من الجهل , هو القانون - أو لأن رأي الشعب هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات!(1/230)
وتشرع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية . لأن أهدافها القومية هي القانون - أو رأي المجامع الدولية هو القانون - فلا فرق إلا في العبارات!
ويشرع خالق الأفراد , وخالق الجماعات , وخالق الأمم والأجيال , للجميع , فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد . لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة , ولا لجيل من الأجيال . لأن الله رب الجميع والكل لديه سواء . ولأن الله يعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع , فلا يفوته - سبحانه - أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون تفريط ولا إفراط .
ويشرع غير الله للناس . . فإذا هم عبيد من يشرع لهم . كائناً من كان : فردا أو طبقة أو أمة أو مجموعة من الأمم . .
ويشرع الله للناس . . فإذا هم كلهم أحرار متساوون , لا يحنون جباههم إلا لله , ولا يعبدون إلا الله . ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان , وفي نظام الكون كله: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن). . فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج ، في النهاية ، عن نطاق الإيمان . بنص القرآن . .
الدرس الأول: ذم المنافقين لتحاكمهم إلى غير الله ورسوله(1/231)
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ ش َيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43 )( المائدة .
هذه الآيات تشي بأنها مما نزل في السنوات الأولى للهجرة ; حيث كان اليهود ما يزالون بالمدينة - أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل وقبل التنكيل ببني قريظة إن لم يكن قبل ذلك , أيام أن كان هناك بنو النضير وبنو قينقاع , وأولاهما أجليت بعد أحد والثانية أجليت قبلها - ففي هذه الفترة كان اليهود يقومون بمناوراتهم هذه ; وكان المنافقون يأرزون إليهم كما تأرز الحية إلى الجحر! وكان هؤلاء وهؤلاء يسارعون في الكفر ; ولو قال المنافقون بأفواههم:آمنا . . وكان فعلهم هذا يحزن الرسول ( ويؤذيه . .(1/232)
والله - سبحانه - يعزي رسوله( ويواسيه ; ويهون عليه فِعال القوم , ويكشف للجماعة المسلمة حقيقة المسارعين في الكفر من هؤلاء وهؤلاء ; ويوجه الرسول (إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه متحاكمين ; بعد ما يكشف له عما تآمروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , من الذين قالوا:آمنا , بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم , ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب , سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون:إن أوتيتم هذا فخذوه , وإن لم تؤتوه فاحذروا ). المائدة :
روي أن هذه الآيات نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم - تختلف الروايات في تحديدها - منها الزنا ومنها السرقة . . وهي من جرائم الحدود في التوراة ; ولكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها ; لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في مبدأ الأمر . ثم تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع , وأحلوا محلها عقوبات أخرى من عقوبات التعازير [ كما صنع الذين يزعمون أنهم مسلمون في هذا الزمان! ] . . فلما وقعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول ( تآمروا على أن يستفتوه فيها . . فإذا أفتى لهم بالعقوبات التعزيرية المخففة عملوا بها , وكانت هذه حجة لهم عند الله . . فقد أفتاهم بها رسول ! . . وإن حكم فيها بمثل ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه . . فدسوا بعضهم يستفتيه . . ومن هنا حكاية قولهم:
(إن أوتيتم هذا فخذوه , وإن لم تؤتوه فاحذروا). .(1/233)
وهكذا بلغ منهم العبث , وبلغ منهم الاستهتار , وبلغ منهم الالتواء أيضاً في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله ( هذا المبلغ . . وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد , فتقسو قلوبهم ; وتبرد فيها حرارة العقيدة , وتنطفيء شعلتها ; ويصبح التفصي من هذه العقيدة وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل ; ويبحث له عن "الفتاوي" لعلها تجد مخرجاً وحيلة ; أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون:إنهم مسلمون: (من الذين قالوا:آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)!
أليسوا يتلمسون الفتوى للاحتيال على الدين لا لتنفيذ الدين ? أليسوا يتمسحون بالدين احياناً لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقة عليها! فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه . . (يقولون:إن أوتيتم هذا فخذوه ; وإن لم تؤتوه فاحذروا) إنه الحال نفسه . ولعله لهذا كان الله - سبحانه - يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل , لتحذر منها أجيال "المسلمين" وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق .(1/234)
والله سبحانه - يقول لرسوله( في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر , وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب:_(لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ). فهم يسلكون سبيل الفتنة , وهم واقعون فيها , وليس لك من الأمر شيء , وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنة وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها: (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ).وهؤلاء دنست قلوبهم , فلم يرد الله أن يطهرها , وأصحابها يلجون في الدنس: (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم). وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخره: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم). فلا عليك منهم , ولا يحزنك كفرهم , ولا تحفل بأمرهم . فهو أمر مقضي فيه . ثم يمضي في بيان حال القوم , وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك , قبل أن يبين لرسول الله ( كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين..
(سماعون للكذب , أكالون للسحت . فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط , إن الله يحب المقسطين). .
كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصله لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل , وتنقبض لسماع الحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد , وعادة الأرواح حين تنطمس . . ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة , وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونة وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة !(1/235)
وهؤلاء (:سماعون للكذب . أكالون للسحت ). . والسحت كل مال حرام . . والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى في مقدمة ما كانوا يأكلون , وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان! وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركة ويمحقها . وما اشد أنقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة. كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله .
ويجعل الله الأمر للرسول( بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه - فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئاً - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط , غير متأثر بأهوائهم , وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . .
(إن الله يحب المقسطين). .
والرسول (والحاكم المسلم , والقاضي المسلم , إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ; وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا , وإذا انحرفوا , فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لإنه ليس عدلاً لهم ; وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام , في كل مكان وفي كل زمان .(1/236)
وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ; وهوألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ; وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم , كامتلاك الخنزير وأكله , وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء , لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً:مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . . .
وفي تلك الفترةالتي كان الحكم فيها على التخيير , كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله (; مثال ذلك ما رواه مالك , عن نافع , عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -:"إن اليهود جاءوا إلى رسول الله ( فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله ( ما تجدون في التوراه في شأن الرجم ? فقالوا:نفضحهم ويجلدون . قال عبدالله بن سلام:كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آية الرجم , فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبدالله بن سلام:ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم! . فقالوا:صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله ( فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأه يقيها الحجارة " . .
- أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري .(1/237)
ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال: "أنزلها الله في الطائفتين من اليهود , وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية , حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا , وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي ( فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا , فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة:وهل كان في حيين دينهما واحد , ونسبهما واحد , وبلدهما واحد , دية بعضهم نصف دية بعض ? إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا , وفرقا منكم . فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله ( حكما بينهم . ثم ذكرت العزيزة , فقالت:والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم , ولقد صدقوا , ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه , وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ! فدسوا إلى رسول الله ( ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله ( فلما جاءوا رسول الله ( أخبر الله رسوله ( بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر), إلى قوله:(الفاسقون). . ففيهم والله أنزل , وإياهم عنى الله عز وجل -أخرجه أبو داود من حديث أبى الزناد عن أبيه - . . وفي رواية لابن جرير عين فيها "العزيزة " وهي بنو النضير "والذليلة " وهي بنو قريظة . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم .(1/238)
وقد عقب السياق بسؤال استنكاري على موقف يهود - سواء كان في هذه القضية أو تلك فهو موقف عام منهم وتصرف مطرد - فقال: _(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك ) .فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله ( فيحكم بشريعة الله وحكم الله , وعندهم - إلى جانب هذا - التوراة فيها شريعة الله وحكمه ; فيتطابق حكم رسول الله ( .
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (43)
وما عندهم في التوراة ; مما جاء القرآن مصدقا له ومهيمنا عليه . . ثم من بعد ذلك يتولون ويعرضون . سواء كان التولي بعدم التزام الحكم ; أو بعدم الرضى به . . ولا يكتفي السياق بالاستنكار . ولكنه يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف: (وما أولئك بالمؤمنين). .
فما يمكن أن يجتمع الإيمان , وعدم تحكيم شريعة الله , أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة . والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم "مؤمنون" ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم , أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم إنما يزعمون دعوى كاذبة ; وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: (وما أولئك بالمؤمنين). فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب ; بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين , يخرجهم من دائرة الإيمان , مهما ادعوه باللسان .
وهذا النص هنا يطابق النص الآخر , في سورة النساء:( (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) ( 65 ). . فكلاهما يتعلق بالمحكومين لا بالحكام . وكلاهما يخرج من الإيمان , وينفي صفة الإيمان عمن لا يرضى بحكم الله ورسوله , ومن يتولى عنه ويرفض قبوله .(1/239)
ومرد الأمر كما قلنا في مطلع الحديث عن هذا الدرس . . أن القضية هي قضية الإقرار بألوهية الله - وحده - وربوبيته وقوامته على البشر . أو رفض هذا الإقرار . وأن قبول شريعة الله والرضى بحكمها هو مظهر الإقرار بألوهيته وربوبيته وقوامته ; ورفضها والتولي عنها هو مظهر رفض هذا الإقرار .
الدرس الثاني: وجوب الحكم بشرع الله في أحكام التوراة .
ذلك كان حكم الله على المحكومين الذين لا يقبلون حكم شريعة الله في حياتهم . . فالآن يجيء حكمه - تعالى - على الحاكمين , الذين لا يحكمون بما أنزل الله . الحكم الذي تتوافى جميع الديانات التي جاءت من عند الله عليه:
ويبدأ بالتوراة:
((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ( 44 ) (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (45 ) المائدة -(1/240)
لقد جاء كل دين من عندالله ليكون منهج حياة . منهج حياة واقعية . جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية , وتنظيمها , وتوجيهها , وصيانتها . ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ; ولا ليكون كذلك مجرد شعائر تعبدية تؤدي في الهيكل والمحراب . فهذه وتلك - على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتهما في تربية الضمير البشري - لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ; ما لم يقم على أساسهما منهج ونظام وشريعة تطبق عمليا في حياة الناس ; ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان ; ويؤاخذ الناس على مخالفتها , ويؤخذون بالعقوبات . والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد ; يملك السلطان على الضمائر والسرائر , كما يملك السلطان على الحركة والسلوك . ويجزي الناس وفق شرائعة في الحياة الدنيا , كما يجزيهم وفق حسابة في الحياة الآخرة .
فأما حين تتوزع السلطة , وتتعدد مصادر التلقي . . حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطة لغيره في الانظمة والشرائع . . وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا . . حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين , وبين اتجاهين مختلفين , وبين منهجين مختلفين . . وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). . (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن). .(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون). .(1/241)
من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة . وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى , أو لأمة من الأمم , أو للبشرية كافة في جميع أجيالها , فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة , إلى جانب العقيدة التي تنشى ء التصور الصحيح للحياة , إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله . . وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله . حيثما جاء دين من عند الله . لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة .
وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى , التي ربما جاءت لقرية من القرى , أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل , في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة . . وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى . . اليهودية , والنصرانية , والإسلام . .
ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة:
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور):
فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل , وإنارة طريقهم إلى الله . وطريقهم في الحياة وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد . وتحمل شعائر تعبدية شتى . وتحمل كذلك شريعة: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا , للذين هادوا , والربانيون والأحبار , بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء).(1/242)
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونورا للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب . ولكن كذلك لتكون هدى ونورا بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله , وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج . ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله ; فليس لهم في أنفسهم شيء ; إنما هي كلها لله ; وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية - وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل - يحكمون بها للذين هادوا - فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه - كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار ; وهم قضاتهم وعلماؤهم . وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله , وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء , فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم , بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته , كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم .
وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة , يلتفت إلى الجماعة المسلمة , ليوجهها في شأن الحكم بكتاب الله عامة , وما قد يعترض هذا الحكم من شهوات الناس وعنادهم وحربهم وكفاحهم , وواجب كل من استحفظ على كتاب الله في مثل هذا الموقف , وجزاء نكوله أو مخالفته:
(فلا تخشوا الناس واخشون ; ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). .(1/243)
ولقد علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه - في كل زمان وفي كل أمة - معارضة من بعض الناس ; ولن تتقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام . . ستواجهه معارضة الكبراء والطغاة وأصحاب السلطان الموروث . ذلك أنه سينزع عنهم رداء الألوهية الذي يدعونه ; ويرد الألوهية لله خالصة , حين ينزع عنهم حق الحاكمية والتشريع والحكم بما يشرعونه هم للناس مما لم يأذن به الله . . وستواجهه معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت . ذلك أن شريعة الله العادلة لن تُبقي على مصالحهم الظالمة . . وستواجهه معارضة ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال . ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها وسيأخذهم بالعقوبة عليها . . وستواجهه معارضة جهات شتى غير هذه وتيك وتلك ; ممن لا يرضون أن يسود الخير والعدل والصلاح في الأرض .
علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات ; وأنه لا بد للمستحفظين عليه والشهداء أن يواجهوا هذه المقاومة ; وأن يصمدوا لها , وإن يحتملوا تكاليفها في النفس والمال . . فهو يناديهم:
(فلا تخشوا الناس واخشون). .
فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله . سواء من الناس أولئك الطغاة الذين يأبون الاستسلام لشريعة الله , ويرفضون الإقرار - من ثم - يتفرد الله - سبحانه - بالألوهية . أو أولئك المستغلون الذين تحول شريعة الله بينهم وبين الاستغلال وقد مردوا عليه . أو تلك الجموع المضللة او المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها . . لا تقف خشيتهم لهؤلاء جميعا ولغيرهم من الناس دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة . فالله - وحده - هو الذي يستحق أن يخشوة . والخشية لا تكون إلا لله . .(1/244)
كذلك علم الله - سبحانه - أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين ; قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا ; وهم يجدون أصحاب السلطان , وأصحاب المال , وأصحاب الشهوات , لا يريدون حكم الله فيملقون شهوات هؤلاء جميعا , طمعا في عرض الحياة الدنيا - كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان وفي كل قبيل ; وكما كان ذلك واقعا في علماء بني إسرائيل . فناداهم الله:
(ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلًا). .
وذلك لقاء السكوت , أو لقاء التحريف , أو لقاء الفتاوي المدخولة !
وكل ثمن هو في حقيقته قليل . ولو كان ملك الحياة الدنيا . . فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقابا ومصالح صغيرة ; يباع بها الدين , وتشترى بها جهنم عن يقين ?!
إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن ; وليس أبشع من تفريط المستحفظ ; وليس أخس من تدليس المستشهد . والذين يحملون عنوان:"رجال الدين" يخونون ويفرطون ويدلسون , فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله , ويحرفون الكلم عن مواضعه , لموافأة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله . .
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (46)
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). .(1/245)
بهذا الحسم الصارم الجازم . وبهذا التعميم الذي تحمله(من)الشرطية وجملة الجواب . بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان , وينطلق حكما عاما , على كل من لم يحكم بما أنزل الله , في أي جيل , ومن أي قبيل والعلة هي التي أسلفنا . . هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله , إنما يرفض ألوهية الله . فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية . ومن يحكم بغير ما أنزل الله , يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب , ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر . . وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك ? وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان, والعمل- وهو أقوى تعبيرا من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان ?! إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل , لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة . والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه . . وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد .
وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله , يعود السياق , لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ل (يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا - بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ):
(وكتبنا عليهم فيها:أن النفس بالنفس , والعين بالعين , والأنف بالأنف , والأذن بالأذن , والسن بالسن , والجروح قصاص). .(1/246)
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام , وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين , التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام , لاعتبارات عملية بحتة ; حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة بتنفيذها وتطبيقها , بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة , للأزمان كافة , كما أرادها الله .
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى: (فمن تصدق به فهو كفارة له). .
ولم يكن ذلك في شريعة التوارة . إذ كان القصاص حتما ; لا تنازل فيه , ولا تصدق به , ومن ثم فلا كفارة . .
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال .
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص , هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس , فتقتص للنفس بالنفس , وتقتص للجوارح بمثلها , على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . .
النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .
إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد "الإنسان" الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة .
وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية , وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي .(1/247)
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ; لا فيما بينهم وبين الناس فحسب , حيث كانوا يقولون:"ليس علينا في الآميين سبيل" بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة , وبني النضير العزيزة ; حتى جاءهم محمد ( فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة . . ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء !
والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل , أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر , يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه , وما زينه له اندفاعه ; وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه , أو طبقته , أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ; وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا , أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن , والنقص في الكيان , والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ; والذي يذهب بحزازات النفوس , وجراحات القلوب , والذي يسكن فورات الثأر الجامحة , التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . .(1/248)
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو - عفو القادر على القصاص: (فمن تصدق به فهو كفارة له) من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [ والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص , أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي , إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تعزير القاتل بما يراه ] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها , فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ; يحط بها الله عنه .
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو , وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ; ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ? أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ? . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل , وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . .
روى الإمام أحمد قال :حدثنا وكيع , حدثنا يونس بن أبي إسحاق , عن أبي السفر , قال " كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال معاوية:سنرضيه . . فألح الأنصاري . .فقال معاوية:شأنك بصاحبك ! - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء:سمعت رسول الله ( يقول:" ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة , أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصارى:فإني قد عفوت " . .
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض . .
وتلك شريعة الله العليم بخلقة ; وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر , وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ; ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام .(1/249)
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة , التي صارت طرفا من شريعة القرآن , يعقب بالحكم العام:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). .
والتعبير عام , ليس هناك ما يخصصه ; ولكن الوصف الجديد هنا هو(الظالمون).
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده , وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم , الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة , وتعرضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد .
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط: (ومن لم يحكم بما أنزل الله). . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ; ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو(من)المطلق العام .
الدرس الثالث: وجوب الحكم بشرع الله في أحكام الإنجيل
ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة .
(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم , مصدقا لما بين يديه من التوراة . وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور , ومصدقا لما بين يديه من التوراة , وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه , ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ).(1/250)
فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل , ليكون منهج حياة , وشريعة حكم . . ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعا إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة . وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة , فاعتمد شريعتها - فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة . . وجعل الله فيه هدى ونورا , وهدى وموعظة . . ولكن لمن ? . .(للمتقين). فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة , هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور ; وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور . . أما القلوب القاسية الغليظة الصلده , فلا تبلغ إليها الموعظة ; ولا تجد في الكلمات معانيها ; ولا تجد في التوجيهات روحها ; ولا تجد في العقيدة مذاقها ; ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب . . إن النور موجود , ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة , وإن الهدى موجود , ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة , وإن الموعظة موجودة , ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي .
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونورا وموعظة للمتقين , وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل ،أي إنه خاص بهم , فليس رسالة عامة للبشر - شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول , قبل هذا الدين الأخير - ولكن ما طابق من شريعته - التي هي شريعة التوراة - حكم القرآن فهو من شريعة القرآن . كما مر بنا في شريعة القصاص
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (47)(1/251)
وأهل الإنجيل كانوا إذن مطالبين أن يتحاكموا إلى الشريعة التي أقرها وصدقها الإنجيل من شريعة التوراة: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه). فالقاعدة هي الحكم بما أنزل الله دون سواه . وهم واليهود كذلك لن يكونوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل - قبل الإسلام - وما أنزل إليهم من ربهم - بعد الإسلام - فكله شريعة واحدة , هم ملزمون بها , وشريعة الله الأخيرة هي الشريعة المعتمدة:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون). .
والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه . . وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل . وليست تعني قوما جددا ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى . إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها , لاصقة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل , ومن أي قبيل:
-الكفر برفض ألوهية الله ممثل في رفض شريعته . والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم . والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه . . فهي صفات يتضمنها الفعل الأول , وتنطبق جميعها على الفاعل . ويبوء بها جميعا دون تفريق .
الدرس الرابع: وجوب الحكم بشرع الله في الإسلام ورفض حكم الجاهلية(1/252)
وأخيرا يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة ; وإلى الشريعة الأخيرة . . إنها الرسالة التي جاءت تعرض "الإسلام" في صورته النهائية الأخيرة ; ليكون دين البشرية كلها ; ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعا ; ولتهيمن على كل ماكان قبلها وتكون هي المرجع النهائي ; ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها . المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها ; والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها ; وتستمد منها تصورها الاعتقادي , ونظامها الاجتماعي , وآداب سلوكها الفردي والجماعي . . وقد جاءت كذلك ليحكم بها , لا لتعرف وتدرس , وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر ! وقد جاءت لتتبع بكل دقة , ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة . . فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى . ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين . فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة . إنما يريد الله أن تحكم شريعته , ثم يكون من أمر الناس ما يكون:
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق , مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه , فاحكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم , فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا , فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم . واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم , وإن كثيرا من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون ). .(1/253)
ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير , وهذا الحسم في التقرير , وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء - ولو قليل - من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف . .
يقف الإنسان أمام هذا كله , فيعجب كيف ساغ لمسلم - يدعي الإسلام - أن يترك شريعة الله كلها , بدعوى الملابسات والظروف ! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله ! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم "مسلمين" ?! وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم , وهم يخلعون شريعة الله كلها ; ويرفضون الإقرار له بالإلوهية , في صورة رفضهم الإقرار بشريعته , وبصلاحية هذه الشريعة في جميع الملابسات والظروف , وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف !
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق). .
يتمثل الحق في صدوره من جهة الألوهية , وهي الجهة التي تملك حق تنزيل الشرائع , وفرض القوانين . . ويتمثل الحق في محتوياته , وفي كل ما يعرض له من شئون العقيدة والشريعة , وفي كل ما يقصة من خير , وما يحمله من توجيه .
(مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه). .
فهو الصوره الأخيره لدين الله , وهو المرجع الأخير في هذا الشأن , والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس , ونظام حياتهم , بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل .
ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه . سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماوية , أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة . أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم , فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياةكله هو هذا الكتاب .
ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير .
وتترتب على هذه الحقيقة مقتضياتها المباشرة:
(فاحكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). .(1/254)
والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله ( فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يبعثون إليه متحاكمين . ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب , بل هو عام . . وإلى آخر الزمان . . طالما أنه ليس هناك رسول جديد , ولا رسالة جديدة , لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير !
لقد كمل هذا الدين , وتمت به نعمة الله على المسلمين . ورضيه الله لهم منهج حياة وللناس أجمعين . ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله , ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر , ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى . وقد علم الله حين رضيه للناس , أنه يسع الناس جميعاً . وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً . وأنه يسع حياة الناس جميعاً , الى يوم الدين . وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة . يخرج صاحبه من هذا الدين . ولو قال باللسان ألف مره : إنه من المسلمين !
وقد علم الله أن معاذير كثيره يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين . . وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه , في بعض الملابسات والظروف . فحذر الله نبيه (في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين , ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه . .
وأولى هذه الهواجس:الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة , والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد . ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة , والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة , أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة !(1/255)
وقد روى أن اليهود عرضوا على رسول الله ( أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم . وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض . . ولكن الأمر - كما هو ظاهر - أعم من حالة بعينها وعرض بعينه . فهو أمر يعرض في مناسبات شتى , ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين . . وقد شاء الله - سبحانه - أن يحسم في هذا الأمر , وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعة للاعتبارات والظروف , وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء . فقال لنبيه:إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ; ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا ; وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة , وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا . وأن كلا منهم يسلك طريقه ; ثم يرجعون كلهم إلى الله , فينبئهم بالحقيقة , ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق . . وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج . . فهم لا يتجمعون: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا , ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم . فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).
بذلك أغلق الله - سبحانه - مداخل الشيطان كلها ; وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف ; بالتساهل في شيء من شريعة الله ; في مقابل إرضاء الجميع ! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف !
إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون ! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد , ولكل منهم مشرب , ولكل منهم منهج , ولكل منهم طريق . ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين . وقد عرض الله عليهم الهدى ; وتركهم يستبقون . وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه , وهم إليه راجعون .(1/256)
وإنها لتعلة باطلة إذن , ومحاولة فاشلة , أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله , أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها . فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئا إلا الفساد في الأرض ; وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم ; وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر ; وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض , واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . وهو شر عظيم وفساد عظيم . . لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون ; لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر ; ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع , والاتجاهات والمشارب . . وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير . وإليه المرجع والمصير . .
إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله , لمثل هذا الغرض , تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة ; لا مبرر لها من الواقع ; ولا سند لها من إرادة الله ; ولا قبول لها في حس المسلم , الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله . فكيف وبعض من يسمون أنفسهم "مسلمين" يقولون:إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر "السائحين" ?!!! أي والله هكذا يقولون !(1/257)
ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة , ويزيدها وضوحا . فالنص الأول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). . قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم ! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) (وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). .
فالتحذير هنا أشد وأدق ; وهو تصوير للأمر على حقيقته . . فهي فتنة يجب أن تحذر . . والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل الله كاملا ; أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر الله منها .
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر ; فيهون على رسول الله ( أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة , وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا ; أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله [ في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام ]:
(فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم . وإن كثيرا من الناس لفاسقون)(1/258)
فإن تولوا فلا عليك منهم ; ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته . ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك . . فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم . فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض:لا أنت ولا شريعة الله ودينه ; ولا الصف المسلم المستمسك بدينه . . ثم إنها طبيعة البشر: (وإن كثيرا من الناس لفاسقون)فهم يخرجون وينحرفون . لأنهم هكذا ; ولا حيلة لك في هذا الأمر , ولا ذنب للشريعة ! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق !
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ; ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة ; لغرض من الأغراض ; في ظرف من الظروف . . ثم يقفهم على مفرق الطريق . . فإنه إما حكم الله , وإما حكم الجاهلية . ولا وسط بين الطرفين ولا بديل . . حكم الله يقوم في الأرض , وشريعة الله تنفذ في حياة الناس , ومنهج الله يقود حياة البشر.. . أو أنه حكم الجاهلية , وشريعة الهوى , ومنهج العبودية فأيهما يريدون ?
(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ). .
إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص . فالجاهلية - كما يصفها الله ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر , لأنها هي عبودية البشر للبشر , والخروج من عبودية الله , ورفض ألوهية الله , والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله . .
إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان ; ولكنها وضع من الأوضاع . هذا الوضع يوجد بالأمس , ويوجد اليوم , ويوجد غدا , فيأخذ صفة الجاهلية , المقابلة للإسلام , والمناقضة للإسلام .(1/259)
والناس - في أي زمان وفي أي مكان - إما أنهم يحكمون بشريعة الله - دون فتنة عن بعض منها - ويقبلونها ويسلمون بها تسليما , فهم إذن في دين الله . وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر - في أي صورة من الصور - ويقبلونها فهم إذن في جاهلية ; وهم في دين من يحكمون بشريعته , وليسوا بحال في دين الله . والذي لا يبتغى حكم الله يبتغي حكم الجاهلية ; والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية , ويعيش في الجاهلية .
وهذا مفرق الطريق , يقف الله الناس عليه . وهم بعد ذلك بالخيار !
ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية ; وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله .
(ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ). .
وأجل ! فمن أحسن من الله حكما ? ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس , ويحكم فيهم , خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم ? وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ? أيستطيع أن يقول:إنه أعلم بالناس من خالق الناس ? أيستطيع أن يقول:إنه أرحم بالناس من رب الناس ? أيستطيع أن يقول:إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس ? أيستطيع أن يقول:إن الله - سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة , ويرسل رسوله الأخير ; ويجعل رسوله خاتم النبيين , ويجعل رسالته خاتمة الرسالات , ويجعل شريعته شريعة الأبد . . كان - سبحانه - يجهل أن أحوالاً ستطرأ , وأن حاجات ستستجد , وأن ملابسات ستقع ; فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه , حتى انكشفت للناس في آخر الزمان ?!
ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة , ويستبدل بها شريعة الجاهلية , وحكم الجاهلية ; ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب ,أو هوى جيل من أجيال البشر , فوق حكم الله , وفوق شريعة الله ?
ما الذي يستطيع أن يقوله . . وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين ?!(1/260)
الظروف ? الملابسات ? عدم رغبة الناس ? الخوف من الأعداء ? . . ألم يكن هذا كله في علم الله ; وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته , وأن يسيروا على منهجه , وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله ?
قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة , والأوضاع المتجددة , والاحوال المتغلبة ? ألم يكن ذلك في علم الله ; وهو يشدد هذا التشديد , ويحذر هذا التحذير ?
يستطيع غير المسلم أن يقول مايشاء . . ولكن المسلم . . أو من يدّعون الإسلام . . ما الذي يقولونه من هذا كله ثم يبقون على شيء من الإسلام ? أو يبقى لهم شيء من الإسلام ?
إنه مفرق الطريق , الذي لا معدى عنده من الاختيار ; ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال . .
إما إسلام وإما جاهلية . إما إيمان وإما كفر . إما حكم الله وإما حكم الجاهلية . .
والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون . والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين . .
إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم ; وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه ; والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء !
وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية , فلن يستقيم له ميزان ; ولن يتضح له منهج , ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل ; ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح . . وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس ; فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا "المسلمين" وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم . . اه
10-(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة : 93 )
قال ابن عطية رحمه الله(1/261)
- سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة يا رسول الله كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول فنزلت هذه الآية
-قال القاضي أبو محمد وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى ونزلت ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ولما كان أمر القبلة خطيرا ومعلما من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها والجناح الإثم والحرج وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي و ( طعموا ) معناه ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق والتكرار في قوله ( اتقوا ) يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال قوم الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك وهو الإحسان. -- وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن والثانية للحال والثالثة للاستقبال وقال قوم الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع والثاني في الكبائر والثالث في الصغائر(1/262)
- قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه وليست هذه الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها واتقى كل التقوى بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصيا أحيانا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه
-وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمر وكان ختن عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر فقال له عمر ومن يشهد معك فقال أبو هريرة فجاء أبو هريرة فقال له عمر بم تشهد قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء فقال له عمر لقد تنطعت في الشهادة ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه فقدم فقال الجارود لعمر أقم علي هذا كتاب الله فقال له عمر أخصم أنت أم شهيد قال بل شهيد قال قد أديت شهادتك فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال أقم على قدامة كتاب الله فقال له عمر ما أراك إلا خصما وما شهد معك إلا رجل واحد قال الجارود إني أنشدك الله قال عمر لتمسكن لسانك أو لأسوأنك فقال الجارود ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني فقال أبو هريرة إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها وهي امرأة قدامة فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله فأقامت الشهادة على زوجها فقال عمر لقدامة إني حادك فقال لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني قال عمر لم قال لأن الله تعالى يقول( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح) الآية فقال له عمر أخطأت التأويل إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك ثم حده عمر وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضا فأصبح يوما وقد عزم على جلده فقال لأصحابه ما ترون(1/263)
في جلد قدامة قالوا لا نرى ذلك ما دام وجعا فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إلي من أن ألقاه وهو في عنقي وامر بقدامة فجلد فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضبا له فلما كان عمر بالسقيا نام ثم استيقظ فقال عجلوا علي بقدامة فقد أتاني آت في النوم فقال سالم قدامه فإنه أخوك فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبي فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره .
وقال ابن عاشور
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم أتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)[93 - المائدة] هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها، إذ ظن بعض المسلمين أن شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبس بإثم لأن الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنها رجس من عمل الشيطان. فقد كان سبب نزول هذه الآية ما في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك، والبراء ابن عازب، وابن عباس، أنه لما نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر أو قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر. فأنزل الله (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية. وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار، وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها. فأنزل الله هذه الآيات.(1/264)
وقد يلوح ببادئ الرأي أن حال الذين توفوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقيا بأن يسأل عنه الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأن الله لا يؤاخذ أحدا بعمل لم يكن محرما من قبل فعله، وأنه لا يؤاخذ أحدا على ارتكابه إلا بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر مما ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلما نزل في الخمر والميسر أنهما رجس من عمل الشيطان خشوا أن يكون للشيطان حظ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتوفوا قبل الإقلاع عن ذلك أو ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدة إشفاقهم على إخوانهم. كما سأل عبد الله بن أم مكتوم لما نزل قوله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) فقال: يا رسول الله، فكيف وأنا أعمى لا أبصر فأنزل الله (غير أولي الضرر). وكذلك ما وقع لما غيرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس، فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم)، أي صلاتكم فكان القصد من السؤال التثبت في التفقه وأن لا يتجاوزوا التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم.(1/265)
ونفي الجناح نفي الإثم والعصيان. و(ما) موصولة. و(طعموا) صلة. وعائد الصلة محذوف. وليست (ما) مصدرية لأن المقصود العفو عن شيء طعموه معلوم من السؤال، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجناح هو على تقدير: في طعم ما طعموه. وأصل معنى(طعموا) أنه بمعنى أكلوا، قال تعالى (فإذا طعمتم فانتشروا). وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طعام. وليس الشراب من الطعام بل هو غيره، ولذلك عطف في قوله تعالى (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه). ويدل لذلك استثناء المأكولات في قوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به). ويقال: طعم بمعنى أذاق ومصدره الطعم بضم الطاء اعتبروه مشتقا من الطعم الذي هو حاسة الذوق. وتقدم قوله تعالى (ومن لم يطعمه فإنه مني)، أي ومن لم يذقه، بقرينة قوله (فمن شرب منه). ويقال: وجدت في الماء طعم التراب. ويقال تغير طعم الماء، أي أسن. فمن فصاحة القرآن إيراد فعل (طعموا)هنا لأن المراد نفي التبعة عمن شربوا الخمر وأكلوا لحم الميسر قبل نزول آية تحريمهما. واستعمل اللفظ في معنييه، أي في حقيقته ومجازه، أو هو من أسلوب التغليب.
وإذ قد عبر بصيغة المضي في قوله (طعموا) تعين أن يكون (إذا) ظرفا للماضي، وذلك على أصح القولين للنحاة، وإن كان المشهور أن(إذا)ظرف للمستقبل، والحق أن(إذا) تقع ظرفا للماضي. وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في مغني اللبيب. وشاهده قوله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم)، وقوله(وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها)، وآيات كثيرة. فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتقوا، ويؤول معنى الكلام: ليس عليهم جناح لأنهم آمنوا واتقوا فيما كان محرما يومئذ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلا قبل تحريمهما.(1/266)
هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسرين جاريا على ما ورد في سبب نزولها في الأحاديث الصحيحة.
ومن المفسرين من جعل معنى الآية غير متصل بآية تحريم الخمر والميسر. وأحسب أنهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنهم رأوا أن سبب نزولها لا يقصرها على قضية السبب بل يعمل بعموم لفظها على ما هو الحق في أن عموم اللفظ لا يخصص بخصوص السبب، فقالوا: رفع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم وحلالها إذا ما اتقوا ما حرم الله عليهم، أي ليس من البر حرمان النفس بتحريم الطيبات بل البر هو التقوى، فيكون من قبيل قوله تعالى (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى). وفسر به في الكشاف مبتدئا به.
وعلى هذا ا لوجه يكون معنى الآية متصلا بآية (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)، فتكون استئنافا ابتدائيا لمناسبة ما تقدم من النهي عن أن يحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم بنذر أو يمين على الامتناع.
وادعى بعضهم أن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب؛ ومنهم عثمان بن مظعون، ولم يصح أن هذا سبب نزولها. وعلى هذا التفسير يكون (طعموا) مستعملا في المعنى المشهور وهو الأكل، وتكون كلمة(إذا) مستعملة في المستقبل، وفعل(طعموا)من التعبير عن ا لمستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة (إذا)، كما في قوله تعالى (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون).
ويعكر على هذا التفسير أن الذين حرموا الطيبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء، اللهم إلا أن يقال: إن الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم.(1/267)
وقال الفخر: زعم بعض الجهال أن الله تعالى لما جعل الخمر محرمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر في آية تحويل القبلة، فقال(وما كان الله ليضيع إيمانكم) ولا شك أن (إذا)للمستقبل لا للماضي. قال الفخر: وهذا القول مردود بإجماع كل الأمة. وأما قولهم (إذا) للمستقبل، فجوابه أن الحل للمستقبل عن وقت نزول الآية في حق الغائبين.
والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ولذلك فعطف (وعملوا الصالحات) على (اتقوا) من عطف الخاص على العام، للاهتمام به، كقوله تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل)، ولأن اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنها مشتقة من التوقي والكف.
وأما عطف (وآمنوا) على(اتقوا) فهو اعتراض للإشارة إلى أن الإيمان هو أصل التقوى، كقوله تعالى(فَكُّ رَقَبَةٍ 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) البلد). والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجرد التنويه بالتقوى والإيمان والعمل الصالح، وليس المقصود أن نفي الجناح عنهم مقيد بأن يتقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات، للعلم بأن لكل عمل أثرا على فعله أو على تركه، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبل، وكان الإيمان عقدا عقليا لا يقبل التجدد تعين أن المراد بقوله (وآمنوا) معنى وداموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر.(1/268)
وجملة (ثم اتقوا وآمنوا) تأكيد لفظي لجملة (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) وقرن بحرف (ثم) الدال على التراخي الرتبي ليكون إيماء إلى الازدياد في التقوى وآثار الإيمان، كالتأكيد في قوله تعالى (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) ولذلك لم يكرر قوله (وعملوا الصالحات)لأن عمل الصالحات مشمول للتقوى.
وأما جملة (ثم اتقوا وأحسنو) فتفيد تأكيدا لفظيا لجملة(ثم اتقوا). وتفيد الارتقاء في التقوى بدلالة حرف(ثم)على التراخي الرتبي. مع زيادة صفة الإحسان. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله =أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك=. وهذا يتضمن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة (وآمنوا) هنا. ويشمل فعل (وأحسنوا) الإحسان إلى المسلمين، وهو زائد على التقوى، لأن منه إحسانا غير واجب وهو مما يجلب مرضاة الله، ولذلك ذيله بقوله (والله يحب المحسنين)...
وقد ذهب المفسرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية، ومرجعها جعل التكرير في قوله(ثم اتقوا) على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال.
وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى (إذا ما اتقوا)وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط. وفي جلبها طول.
التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات
وقفة مع الاملم ابن قيم الجوزية رحمه الله
* مدارج السالكين(1/269)
1- قال صاحب المنازل: الاعتصام بحبل الله هو المحافظة على طاعته مراقبا لأمره يريد بمراقبة الأمر القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها لا لمجرد العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه في التقوى = هى العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وهذا هو الإيمان والاحتساب المشار إليه فى كلام النبي كقوله من صام رمضان إيمانا واحتسابا ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له فالصيام والقيام هو الطاعة و الإيمان مراقبة الأمر وإخلاص الباعث هو أن يكون الإيمان الآمر لا شيء سواه و الاحتساب رجاء ثواب الله فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل والله أعلم
2- لفظة التقوى تقتضي عند إفرادها فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه وتقتضي عند اقترانها بفعل المأمور الانتهاء عن المحظور.
3- وقال بعض السلف لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس وقال بعض الصحابة كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام
4- قال الجريري من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة
5- قال الله تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها الشمس 710 فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدالة على الاعتدال والتمام ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه وهي التقوى ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور والله سبحانه وتعالى أعلم
6- وقال ابن عطاء على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين
7- وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين(1/270)
8- قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه والفقر والغنى ابتلاء من الله لعبده كما قال تعالى (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا) الفجر - أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته أكون قد أكرمته ولا كل من ضيقت عليه وقترت أكون قد أهنته فالإكرام أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والإهانة أن يسلبه ذلك قال يعني ابن تيمية ولا يقع التفاضل بالغني والفقر بل بالتقوى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة .
9- فإذا شام هذا البرق استقصر فيه الطويل من الأمل وتخيل في كل وقت أن المنية تعافصه وتفاجئه فاشتد حذره من هجومها مخافة أن تحل به عقوبةالله ويحال بينه وبين الاستعتاب والتأهب للقاء فيلقى ربه قبل الطهر التام فلا يؤذن له بالدخول عليه بغير طهارة كما أنه لم يؤذن له في دار التكليف بالدخول عليه للصلاة بغير طهارة وهذا يذكر العباد بالتطهر للموافاة والقدوم عليه والدخول وقت اللقاء لمن عقل عن الله وفهم أسرار العبادات فإذا كان العبد لا يدخل عليه حتى يستقبل بيته المحرم بوجهه ويستر عورته ويطهر بدنه وثيابه وموضع مقامه بين يديه ثم يخلص له النية فهكذا الدخول عليه وقت اللقاء لا يحصل إلا بأن يستقبل ربه بقلبه كله ويستر عوراته الباطنة بلباس التقوى ويطهر قلبه وروحه وجوارحه من أدناسها الظاهرة والباطنة ويتطهر لله طهرا كاملا ويتأهب للدخول أكمل تأهب وأوقات الصلاة نظير وقت الموافاة فإذا تأهب العبد قبل الوقت جاءه الوقت وهو متأهب فيدخل على الله وإذا فرط في التأهب خيف عليه من خروج الوقت قبل التأهب إذ هجوم وقت الموافاة مضيق لا يقبل التوسعة فلا يمكن العبد من التطهر والتأهب عندهجوم الوقت بل يقال له هيهات فات ما فات وقد بعدت بينك وبين التطهر المسافات\\(1/271)
=يريد أن البرق نور يقذفه الله في قلب العبد ويبديه له فيدعوه به إلى الدخول في الطريق.
*مفتاح دار السعادة
1**قال تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فباع المغبونونمنازلهم منها بأبخس الحظ وأنقص الثمن وباع الموفقون نفوسهم واموالهم من الله وجعلوها ثمنا للجنة فربحت تجارتهم ونالوا الفوز العظيم
2**قال بعض السلف الايمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم
3**تأمل هذه النخلة التي هي احدى آيات الله تجد فيها من الايات والعجائب ما يبهرك فإنه لما قدر ان يكون فيه اناث تحتاج الى اللقاح جعلت فيها ذكور تلقحها بمنزلة الحيوان واناثه ولذلك اشتد شبهها من بين سائر الاشجار بالانسان خصوصا بالمؤمن كما مثله النبي وذلك من وجوه كثيرة احدها ثبات اصلها في الارض واستقراره فيها وليست بمنزلة الشجرة التي اجتثت من فوق الارض مالها من قرار الثاني طيب ثمرتها وحلاوتها وعموم المنفعة بها كذلك المؤمن طيب الكلام طيب العمل فيه المنفعة لنفسه ولغيره الثالث دوام لباسها وزينتها فلا يسقط عنها صيفا ولا شتاء كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافي ربه .
طريق الهجرتين
1+وأما الجمع بين التقوى والتوكل ففي مثل قوله تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إلى قوله تعالى وتوكل على الله وكفىبالله وكيلا وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه
1--وجعله =أي الصبر= قرين التقوى كقوله إنه من يتق ويصبر(1/272)
**مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل ؟ وللناس فيها ثلاثة أقوال وهى التى حكاها أبو الفرج ابن الجوزى وغيره فى عموم الصبر والشكر أيهما أفضل؟ وقد احتجت كل فرقة بحجج وأدلة على قولها والتحقيق أن يقال أفضلهما أتقاهما لله تعالى فان فرض استواؤهما فى التقوى استويا فى الفضل فان الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافية والبلاء وانما فضل بالتقوى كما قال تعالى (ان أكرمكم عند الله أتقاكم) وقد قالرسول الله ( "لا فضل لعربى على عجمى ولا فضل لعجمى على عربى الا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب" والتقوى مبنيه على أصلين : الصبر والشكر وكل من الغنى والفقير لا بد له منهما فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل
-فان قيل فاذا كان صبر الفقير أتم وشكر الغنى أتم فأيهما أفضل ؟ قيل أتقاهما لله فى وظيفته ومقتضى حاله ولا يصح التفضيل بغير هذا البته فان الغنى قد يكون أتقى لله فى شكره من الفقير فى صبره وقد يكون الفقير أتقى لله فى صبره من الغنى فى شكره فلا يصح أن يقال هذا بغناه أفضل ولا هذا بفقره أفضل ولا يصح أن يقال هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر ولا بالعكس لأنهما مطيتان للايمان لا بد منهما بل الواجب أن يقال أقومهما بالواجب والمندوب هو الافضل فان التفضيل تابع لهذين الأمرين كما قال تعالى فى الاثر الالهى ((ما تقرب الى عبدى بمثل مداومة ما افترضت عليه ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه)) فأى الرجلين كان أقوم بالواجبات وأكثر نوافل كان أفضل.
-فان قيل فقد ثبت عن النبى أنه قال( يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة عام) قيل هذا لا يدل على فضلهم على الاغنياء فى الدرجة وعلو المنزلة وان سبقوهم بالدخول فقد يتأخر الغنى والسلطان العادل فى الدخول لحسابه فاذا دخل كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كسبق الفقير القفل فى المضائق وغيرها ويتأخر صاحب الاحمال بعده .(1/273)
- فان قيل فقد قال النبى للفقراء لما شكوا اليه زيادة عمل الاغنياء عليهم بالعتق والصدقه" ألا أدلكم على شئ اذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم "فدلهم على التسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة فلما سمع الاغنياء ذلك عملوا به فذكروا ذلك للنبى فقال" ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"
**قال الله تعالى( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهى حاله في الصبر مع خصمه والمرابطة وهى الثبات واللزوم والاقامة على الصبر والمصابرة فقد يصبر العبد ولا يصابر وقد يصابر ولا يرابط وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى وأن الفلاح موقوف عليها فقال( واتقوا الله لعلكم تفلحون) فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذى يخاف هجوم العدو منه في الظاهر فهى لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان فيزيله عن مملكته(1/274)
**إن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره كان ذلك سببا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل فان الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ ففوق هدايته هداية أخرى وفوق تلك الهداية هداية أخرى إلى غير غاية فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى وكلما فوت خطا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه فكلما اتقى زاد هداه وكلما اهتدى زادت تقواه قال تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )وقال تعالى( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب )وقال( سيذكر من يخشى) وقال (وما يتذكر إلا من ينيب) وقال( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) فهداهم أولا للإيمان فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية ونظير هذا قوله (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) وقوله تعالى( يا أيها الذين أمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل فسر الفرقان بهذا وبهذا وقال تعالى( إن في ذلك لآية لكل عبد منيب)
***قال تعالى في حقهم (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ(16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) (: 17 ) (محمد) فجمع لهم +أي للمعرضين المختوم على قلوبهم= بين اتباع الهوى والضلال الذي هو ثمرته وموجبه ، كما جمع للمهتدين بين التقوى والهدى.(1/275)
***ان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه (وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديد العقاب) وقد اشتملت هذه الاية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق فاما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها ان يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولاسعادة له الا بهما أي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله واذا افرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الاخر اما تضمنا واما لزوما ودخوله فيه تضمنا اظهر لان البر جزء مسمى التقوى وكذلك التقوى فانه جزء مسمى البر وكون احدهما لايدخل في الاخر عند الاقتران لايدل على انه لايدخل فيه عند انفراد الاخر و نظير هذا لفظ الايمان والاسلام و الايمان والعمل الصالح و الفقير والمسكين و الفسوق والعصيان و المنكر والفاحشة ونظائره كثيرة وهذه قاعدة جليلة من احاط بها زالت عنه اشكالات كثيرة اشكلت على كثير من الناس البر والتقوى ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدل به على غيره وهو البر والتقوى فان حقيقة البر هو الكمال المطلوب من الشئ والمنافع التي فيه والخير كما يدل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام ومنه البُر بالضم لمنافعه وخيره بالاضافة الى سائر الحبوب(1/276)
وقوته وفرحه بالايمان فإن للايمان فرحة وحلاوة ولذة في القلب فمن لم يجدها فهو فاقد الايمان او ناقصه وهو من القسم الذين قال الله عز وجل فيهم (قالت الاعراب امنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) فهؤلاء على اصح القولين مسلمون غير منافقين وليسوا بمؤمنين اذا لم يدخل الايمان في قلوبهم فيباشرها حقيقة وقد جمع الله خصال البر في قوله تعالى (ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرمن امن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين واتى المال على حبه ذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم اذا عاهدوا والصابرين في الباساء والضراء وحين البأس اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون ) فاخبر سبحانه ان البر هو الايمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وهذه هي اصول الايمان الخمس التي لاقوام للايمان الا بها وانها الشرائع الظاهرة من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والنفقات الواجبة
***واما عند اقتران احدهما بالاخر كقوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى) فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فان البر مطلوب لذاته اذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم واما التقوى فهي الطريق الموصل الى البر والوسيلة اليه ولفظها يدل على هذا فانها فعلى ومن وقى يقي وكان اصلها وقوى فقلبوا الواو تاء كما قالوا تراث من الوراثة وتجاه من الوجه وتخمة من الوخمة ونظائرها فلفظها دال على انها من الوقاية فان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية والوقاية من باب دفع الضر فالتقوى والبر كالعافية والصحة...(1/277)
11-(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)َ) (التوبة )
قال ابن كثير رحمه الله
سورة التوبة
( بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ )(1/278)
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري: حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول آخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وآخر سورة نزلت براءة, وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام, بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه, كما قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهيل بن يوسف قالوا: حدثنا عوف بن أبي جميلة, أخبرني يزيد الفارسي, أخبرني ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الاَية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا, وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن, وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها, وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال, وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه, والحاكم في مستدركه من طرق أخر عن عوف الأعرابي به, وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج, ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك وأنهم يطوفون بالبيت عراة, فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة(1/279)
ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا, وأن ينادي في الناس {براءة من الله ورسوله} فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له كما سيأتي بيانه.
فقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله} أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله {إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} اختلف المفسرون ههنا اختلافاً كثيراً, فقال قائلون: هذه الاَية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر, فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان, لقوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} الاَية, ولما سيأتي في الحديث. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته وهذا أحسن الأقوال وأقواها, وقد اختاره ابن جرير رحمه الله, وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} الاَية, قال: حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاءوا وأجل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى سلخ المحرم فذلك خمسون ليلة, فأمر الله نبيه إذا انسلخ الأشهر الحُرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام, وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الاَخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام.(1/280)
وقال أبو معشر المدني: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع, وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس, يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشراً من ربيع الاَخر, وقرأها عليهم في منازلهم وقال: لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان. وقال ابن أبي نجيح, عن مجاهد {براءة من الله ورسوله} إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم, فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ثم قال: "إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك" فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها, فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمّنوا أربعة أشهر فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الاَخر ثم لا عهد لهم, وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا, وهكذا روي عن السدي وقتادة وقال الزهري: كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم, وهذا القول غريب وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولهذا قال تعالى:
( وَأَذَانٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيَءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )(1/281)
يقول تعالى وإعلام {من الله ورسوله} وتقدم وإنذار إلى الناس {يوم الحج الأكبر} وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعاً {أن الله بريء من المشركين ورسولُه} أي بريء منهم أيضاً ثم دعاهم إلى التوبة إليه, فقال {فإن تبتم} أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال {فهو خير لكم, وإن توليتم} أي استمررتم على ما أنتم عليه {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته, {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي في الدنيا بالخزي والنكال وفي الاَخرة بالمقامع والأغلال, قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف, حدثنا الليث, حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة, قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة, وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ورواه البخاري أيضاً: حدثنا أبو اليمان, أخبرناشعيب عن الزهري, أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ويوم الحج الأكبر يوم النحر, وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر, فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك, هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد. وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {براءة من الله ورسوله} قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم زمن حنين اعتمر من الجعرانة ثم أمّر أبا بكر على تلك الحجة, قال معمر: قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث(1/282)
أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر, قال أبو هريرة: ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم علياً وأمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر على الموسم كما هو أو قال على هيئته. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد فأما أبو بكر إنما كان أميراً سنة تسع.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن مغيرة عن الشعبي عن محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال: ما كنتم تنادون ؟. قال: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر, فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسولُه, ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك, قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي, وقال الشعبي: حدثني محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي فكان إذا صحل ناديت فقلت: بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال بأربع, لا يطوف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. رواه ابن جرير من غير وجه عن الشعبي, ورواه شعبة عن مغيرة عن الشعبي به, إلا أنه قال: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى أربعة أشهر وذكر تمام الحديث. قال ابن جرير: وأخشى أن يكون وهماً من بعض نقلته لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه.(1/283)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد عن سماك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: "لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ورواه الترمذي في التفسير: عن بندار عن عفان وعبد الصمد كلاهما عن حماد بن سلمة به, ثم قال: حسن غريب من حديث أنس رضي الله عنه, وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن سليمان, ـ لُوَيْن ـ حدثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال: "أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم" فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, نزل فيّ شيء ؟ فقال "لا ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" هذا إسناد فيه ضعف, وليس المراد أن أبا بكر رضي الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء مبيناً في الرواية الأخرى. وقال عبد الله أيضاً: حدثني أبو بكر, حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط بن نصر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال: "لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت" قال: فإن كان ولا بد فسأذهب أنا, قال: "انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك" قال: ثم وضع يده على فيه.(1/284)
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع رجل من همدان, سألنا علياً بأي شيء بعثت ؟ يعني يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة, قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته, ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا, ورواه الترمذي عن قلابة عن سفيان بن عيينة وقال: حسن صحيح كذا قال, ورواه شعبة عن أبي إسحاق فقال: زيد بن يثيع وهم فيه, ورواه الثوري عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه عن علي رضي الله عنه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت براءة بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان, ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الأعلى عن ابن ثور عن معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: أمرت بأربع فذكره, وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيغ قال: نزلت براءة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ثم أرسل علياً فأخذها, فلما رجع أبو بكر قال: نزل فيّ شيء ؟ قال: "لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي" فانطلق إلى أهل مكة فقام فيهم بأربع لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته, وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله: لو بعثت إلى أبي بكر ؟ فقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي" ثم(1/285)
دعا علياً فقال "اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى, أنه لا يدخل الجنة كافر, ولا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته" فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور ؟ فقال بل مأمور, ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس, إنه لا يدخل الجنة كافر, ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان, ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته, فلم يحج بعد ذلك العام مشرك, ولم يطف بالبيت عريان, ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى.(1/286)
-وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد, أخبرنا حيوة بن شريح, أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علياً عن يوم الحج الأكبر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة, فلما قضى خطبته التفت إلي فقال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة, ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت البدنة ثم حلقت رأسي وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة, وقال عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق سألت أبا جحيفة عن يوم الحج الأكبر قال: يوم عرفة, فقلت: أمن عندك أم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: كل في ذلك, وقال عبد الرزاق أيضاً: عن ابن جريج عن عطاء قال: يوم الحج الأكبر يوم عرفة. وقال عمر بن الوليد الشّنّي: حدثنا شهاب بن عباد البصري عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا: سعيد بن المسيب فأتيته فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا سعيد بن المسيب فأخبرني عن صوم يوم عرفة, فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر أو ابن عمر, كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وهكذا روي عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير ومجاهد وعكرمة وطاووس أنهم قالوا: يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر.(1/287)
وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جريج, أخبرت عن محمد بن قيس عن ابن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال: "هذا يوم الحج الأكبر" وروي من وجه آخر: عن ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر" والقول الثاني أنه يوم النحر قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر, وقال إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور: سألت علياً رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر, وقال شعبة عن الحكم سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي رضي الله عنه أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته فسأله عن يوم الحج الأكبر فقال هو يومك هذا خل سبيلها, وقال عبد الرزاق: عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر, وروى شعبة وغيره عن عبد الملك بن عمير به نحوه. وهكذا رواه هشيم وغيره عن الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى. وقال الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال: هذا يوم الأضحى وهذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر, وقال حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الحج الأكبر يوم النحر, وكذا روي عن أبي جحيفة وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ونافع بن جبير بن مطعم والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة وأبي جعفر الباقر والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: يوم الحج الأكبر هو يوم النحر واختاره ابن جرير, وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى, وقد ورد في ذلك أحاديث أخر كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني سهل بن محمد الحساني, حدثنا أبو جابر الحرمي, حدثنا(1/288)
هشام بن الغازي الجرشي عن نافع عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: "هذا يوم الحج الأكبر" وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي جابر واسمه محمد بن عبد الملك به, ورواه ابن مردويه أيضاً من حديث الوليد بن مسلم عن هشام بن الغازي به, ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز عن نافع به, وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة فقال: "أتدرون أي يوم يومكم هذا ؟" قالوا: يوم النحر, قال: "صدقتم يوم الحج الأكبر".(1/289)
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن المقدام, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه, فقال: "أي يوم هذا ؟" قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه, فقال "أليس هذا يوم الحج الأكبر ؟" وهذا إسناد صحيح وأصله مخرج في الصحيح. وقال أبو الأحوص عن شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: "أي يوم هذا ؟" فقالوا: اليوم الحج الأكبر, وعن سعيد بن المسيب أنه قال: يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر رواه ابن أبي حاتم, وقال مجاهد أيضاً: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها, وكذا قال أبو عبيد. قال سفيان: يوم الحج ويوم الجمل ويوم صفين أي أيامه كلها, وقال سهل السراج: سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر ؟ فقال: ما لكم وللحج الأكبر ذاك عام حج فيه أبو بكر الذي استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج بالناس رواه ابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو أسامة عن ابن عون, سألت محمداً يعني ابن سيرين عن يوم الحج الأكبر, فقال: كان يوماً وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج أهل الوبر.
(إِلاّ الّذِينَ عَاهَدتّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمّوَاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىَ مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ )(1/290)
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت, فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء, إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها, وقد تقدمت الأحاديث ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته, وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسليمن أحداً أي يمالىء عليهم من سواهم, فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك, فقال {إن الله يحب المتقين} أي الموفين بعهدهم.
وقفة مع ابن حجر العسقلاني في شرح حديث :
سورة براءة
باب: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}
{أذان} /3/: إعلام. وقال ابن عباس: {أذن
* قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين}
سيحوا= سيروا.
* حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب. وأخبرني حميد بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال:بعثني أبو بكر في تلك الحجة، في مؤذنين بعثهم يوم النحر، يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
-قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي ابن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة.
-قال أبو هريرة: فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
- باب: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}
آذنهم: أعلمهم.(1/291)
* حدثنا عبد الله بن يوسف: حدثنا الليث: حدثني عقيل قال ابن شهاب: فأخبرني حميد بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة قال:بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
-قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، فأمره أن يؤذن ببراءة.
-قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
-باب: {إلا الذين عاهدتم من المشركين}
* حدثنا إسحاق: حدثقنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب: أن حميد بن عبد الرحمن أخبره: أن أبا هريرة أخبره:أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه، في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع، في رهط، يؤذن في الناس: أن لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة.
قوله: سورة براءة هي سورة التوبة وهي أشهر أسمائها ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة واختلف في ترك البسملة أولها فقيل لأنها نزلت بالسيف والبسملة أمان وقيل لأنهم لما جمعوا القرآن شكوا هل هي والانفال واحدة أو ثنتان ففصلوا بينهما بسطر لا كتابة فيه ولم يكتبوا فيه البسملة روى ذلك بن عباس عن عثمان وهو المعتمد وأخرجه أحمد والحاكم وبعض أصحاب السنن ...(1/292)
قوله:باب قوله( براءة من الله ورسوله الى الذين عاهدتم من المشركين) أذان إعلام قال أبو عبيدة في قوله تعالى وأذان من الله ورسوله قال علم من الله وهو مصدر من قولك أذنتهم أي أعلمتهم قوله وقال بن عباس إذن يصدق وصله بن أبي حاتم من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله (ويقولون هو أذن )يعني أنه يسمع من كل أحد قال الله( قل أذن خير لكم يؤمن بالله) يعني يصدق بالله وظهر أن يصدق تفسير يؤمن لا تفسير إذن كما يفهمه صنيع المصنف حيث اختصره .
قوله :باب (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ) فسيحوا سيروا هو كلام أبي عبيدة بزيادة قال في قوله تعالى (فسيحوا في الأرض )قال سيروا وأقبلوا وأدبروا
قوله حدثني الليث عن عقيل في الرواية التي بعدها حدثني الليث حدثني عقيل ولليث فيه شيخ آخر تقدم في كتاب الحج عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس قوله عن بن شهاب وأخبرني حميد قال الكرماني بواو العطف إشعارا بأنه أخبره أيضا بغير ذلك قيل فهو عطف على مقدر قلت لم أر في طرق حديث أبي هريرة عن أبي بكر الصديق زيادة الا ما وقع في رواية شعيب عن الزهري فإن فيه كان المشركون يوافون بالتجارة فينتفع بها المسلمون فلما حرم الله على المشركين أن يقربوا المسجد الحرام وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من التجارة فنزلت وأن خفتم عيلة الآية ثم أحل في الآية الأخرى الجزية الحديث أخرجه الطبراني وابن مردويه مطولا من طريق شعيب وهو عند المصنف في كتاب الجزية من هذا الوجه قوله أن أبا هريرة رضي الله عنه قال بعثني في رواية صالح بن كيسان عن بن شهاب في الباب الذي يليه أن أبا هريرة أخبره
قوله باب (وأذان من الله ورسوله إلى قوله المشركين) أورد فيه حديث أبي هريرة المذكور في الباب قبله من وجهين(1/293)
قوله بعثني أبو بكر في تلك الحجة في رواية صالح بن كيسان التي بعد هذه الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع وروى الطبري من طريق بن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج وأمره أن يقيم للناس حجهم فخرج أبو بكر.
قوله يؤذنون بمنى أن لايحج بعد العام مشرك في رواية بن أخي الزهري عن عمه في أوائل الصلاة في مؤذنين أي في جماعة مؤذنين والمراد بالتأذين الإعلام وهو اقتباس من قوله تعالى( واذان من الله ورسوله) أي إعلام وقد وقفت ممن سمي ممن كان مع أبي بكر في تلك الحجة على أسماء جماعة منهم سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه الطبري من طريق الحكم عن مصعب بن سعد عن أبيه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فلما انتهينا إلى ضجنان أتبعه عليا ومنهم جابر روى الطبري من طريق عبد الله بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه(1/294)
قوله أن لا يحج بفتح الهمزة وادغام النون في اللام قال الطحاوي في مشكل الآثار هذا مشكل لأن الأخبار في هذه القصة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا بكر بذلك ثم أتبعه عليا فأمره أن يؤذن فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى علي ثم أجاب بما حاصله أن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خلاف وكان علي هو المأمور بالتأذين بذلك وكأن عليا لم يطق التأذين بذلك وحده واحتاج إلى من يعينه على ذلك فأرسل معه أبو بكر أبا هريرة وغيره ليساعدوه على ذلك ثم ساق من طريق المحرر بن أبي هريرة عن أبيه قال كنت مع علي حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة فكنت أنادى معه بذلك حتى يصحل صوتي وكان هو ينادي قبلي حتى يعي وأخرجه أحمد أيضا وغيره من طريق محرر بن أبي هريرة فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر وكان ينادي بما يلقيه إليه على مما أمر بتبليغه قوله بعد العام أي بعد الزمان الذي وقع فيه الاعلام بذلك قوله ولا يطوف بفتح الفاء عطفا على الحج(1/295)
قوله قال حميد هو بن عبد الرحمن بن عوف ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي وأمره أن يؤذن ببراءة هذا القدر من الحديث مرسل لأن حميد لم يدرك ذلك ولا صرح بسماعه له من أبي هريرة لكن قد ثبت إرسال علي من عدة طرق فروى الطبري من طريق أبي صالح عن علي قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة وبعثه على الموسم ثم بعثني في أثره فأدركته فأخذتها منه فقال أبو بكر ما لي؟ قال" خير أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض غير أنه لا يبلغ عنى غيري أو رجل مني" ومن طريق عمرو بن عطية عن أبيه عن أبي سعيد مثله ومن طريق العمري عن نافع عن بن عمر كذلك وروى الترمذي من حديث مقسم عن بن عباس مثله مطولا وعند الطبراني من حديث أبي رافع نحوه لكن قال فأتاه جبريل فقال: أنه لن يؤديها عنك إلا أنت أو رجل منك وروى الترمذي وحسنه وأحمد من حديث أنس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم براءة مع أبي بكر ثم دعا عليا فأعطاها إياه وقال" لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي" وهذا يوضح قوله في الحديث الآخر لا يبلغ عني ويعرف منه أن المراد خصوص القصة المذكورة لا مطلق التبليغ وروى سعيد بن منصور والترمذي والنسائي والطبري من طريق أبي إسحاق عن زيد بن يثبع قال سألت عليا بأي شيء بعثت قال بأنه لا يدخل الجنة الا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع مسلم مع مشرك في الحج بعد عامهم هذا ومن كان له عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فاربعة أشهر واستدل بهذا الكلام الأخير على أن قوله تعالى (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) يختص بمن لم يكن له عهد مؤقت أو لم يكن له عهد أصلا وأما من له عهد مؤقت فهو إلى مدته فروى الطبري من طريق بن إسحاق قال هم صنفان صنف كان له عهد دون أربعة أشهر فأمهل إلى تمام أربعة أشهر وصنف كانت له مدة عهده بغير أجل فقصرت على أربعة أشهر وروى أيضا من طريق على بن أبي طلحة عن بن عباس أن الأربعة الأشهر(1/296)
أجل من كان له عهد مؤقت بقدرها أو يزيد عليها وأما من ليس له عهد فانقضاؤه إلى سلخ المحرم لقوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين )ومن طريق عبيدة بن سلمان سمعت الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد ناسا من المشركين من أهل مكة وغيرهم فنزلت براءة فنبذ إلى كل أحد عهده وأجلهم أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله انقضاء الأشهر الحرم ومن طريق السدي نحوه ومن طريق معمر عن الزهري قال كان أول الأربعة أشهر عند نزول براءة في شوال فكان آخرها آخر المحرم فبذلك يجمع بين ذكر الأربعة أشهر وبين قوله( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) واستبعد الطبري ذلك من حيث أن بلوغهم الخبر إنما كان عندما وقع النداء به في ذي الحجة فكيف يقال لهم سيحوا أربعة أشهر ولم يبق منها إلا دون الشهرين ثم أسند عن السدي وغير واحد التصريح بأن تمام الأربعة الأشهر في ربيع الأخر قوله أن يؤذن ببراءة يجوز فيه التنوين بالرفع على الحكاية وبالجر ويجوز أن يكون علامة الجر فتحة وهو الثابت في الروايات .(1/297)
قوله قال أبو هريرة فأذن معنا علي كذا للأكثر وفي رواية الكشميهني وحده قال أبو بكر فأذن معنا وهو غلط فاحش مخالف لرواية الجميع وإنما هو كلام أبي هريرة قطعا فهو الذي كان يؤذن بذلك وذكر عياض أن أكثر رواة الفريري وافقوا الكشميهني قال وهو غلط قوله قال أبو هريرة فأذن معنا علي هو موصول بالإسناد المذكور وكأن حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه علي من المدينة إلى أن لحق أبا بكر عن غير أبي هريرة وحمل بقية القصة كلها عن أبي هريرة وقوله فأذن معنا علي في أهل مني يوم النحر الخ قال الكرماني فيه إشكال لأن عليا كان مأمورا بأن يؤذن ببراءة فكيف يؤذن بأن لا يحج بعد العام مشرك ثم أجاب بأنه أذن ببراءة ومن جملة ما اشتملت عليه أن لا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى فيها (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا*) ويحتمل أن يكون أمر أن يؤذن ببراءة وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا قلت وفي قوله يؤذن ببراءة تجوز لأنه أمرأن يؤذن ببضع وثلاثين آية منتهاها عند قوله تعالى(ولو كره المشركون) فروى الطبري من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب وغيره قال وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع وبعث عليا بثلاثين أو أربعين آية من براءة وروى الطبري من طريق أبي الصهباء قال سألت عليا عن يوم الحج الأكبر فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج وبعثني بعده بأربعين آية من براءة حتى آتي عرفة فخطب ثم ألتفت إلى فقال يا علي قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت فقرأت أربعين آية من أول براءة ثم صدرنا حتى رميت الجمرة فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة قوله وأن لا يحج بعد العام مشرك هو منتزع من قوله تعالى( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام ولو لم يقصدوا الحج ولكن لما(1/298)
كان الحج هو المقصود الأعظم صرح لهم بالمنع منه فيكون ما وراءه أولى بالمنع والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله وأما ما وقع في حديث جابر فيما أخرجه الطبري وإسحاق في مسنده والنسائي والدارمي كلاهما عنه وصححه بن خزيمة وابن حبان من طريق بن جريج حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح فسمع رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا علي عليها فقال له أمير أم رسول فقال بلى أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس فقدمنا مكة فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس بمناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر كذلك ثم يوم النفر كذلك فيجمع بأن عليا قرأها كلها في المواطن الثلاثة وأما في سائر الأوقات فكان يؤذن بالأمور المذكورة أن لا يحج بعد العام مشرك الخ وكان يستعين بأبي هريرة وغيره في الأذان بذلك وقد وقع في حديث مقسم عن بن عباس عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر الحديث وفيه فقام على أيام التشريق فنادى: ذمة الله وذمة رسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان على ينادي بها فإذا قام أبو هريرة فنادى بها وأخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال" لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" فبعث بها مع على قال الترمذي حسن غريب ووقع في حديث يعلى عند أحمد لما نزلت عشر آيات من براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب فرجع أبو بكر فقال يا رسول الله نزل في شيء فقال: " لا -(1/299)
إلا أنه لن يؤدي أو لكن جبريل قال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك قال العماد بن كثير ليس المراد أن أبا بكر رجع من فوره بل المراد رجع من حجته قلت ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة وأما قوله عشر آيات فالمراد أولها( إنما المشركون نجس)
قوله حدثني إسحاق هو بن منصور كما جزم به المزي ويعقوب بن إبراهيم أي بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وصالح هو بن كيسان من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن بن أخي بن شهاب عن عمه فله فيه طريقان وسياقه عن بن أخي بن شهاب موافق لسياق عقيل وأما رواية صالح فوقع في آخرها فكان حميد يقول يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة وهذه الزيادة قد أدرجها شعيب عن الزهري كما تقدم في الجزية ولفظه :عن أبي هريرة بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصفر فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك انتهى وقوله يوم الحج الأكبر يوم النحر هو قول حميد بن عبد الرحمن استنبطه من قوله تعالى (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر فدل على أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر وليس كذلك فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيآن منع حج المشركين ومنع طواف العريان وأن عليا أيضا كان ينادي بهما وكان يزيد من كان له عهد فعهده إلى مدته وأن لا يدخل الجنة إلا مسلم وكأن هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها ولهذا قال العلماء إن الحكمة في إرسال على بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو(1/300)
من هو منه بسبيل من أهل بيته فأجراهم ذلك على عادتهم ولهذا قال لا يبلغ عنى إلا أنا أو رجل من أهلي بيتي وروى أحمد والنسائي من طريق محرر بن أبي هريرة عن أبيه قال كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله أربعة أشهر فإذا مضت فإن الله برئ من المشركين ورسوله ولا يحج بعد العام مشرك فكنت أنادى حتى صحل صوتي
-وقوله وإنما قبل الأكبر الخ في حديث بن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه أي يوم هذا قالوا هذا يوم النحر قال هذا يوم الحج الأكبر واختلف في المراد بالحج الأصغر فالجمهور على أنه العمرة وصل ذلك عبد الرزاق من طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي وعن مجاهد الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد وقيل يوم الحج الأصغر يوم عرفة ويوم الحج الأكبر يوم النحر لأن فيه تتكمل بقية المناسك وعن الثوري أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر كما يقال يوم الفتح وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة وكانت قريش تقف بالمزدلفة فإذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه وعن الحسن سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة ومن طريق سعيد بن جبير أنه النحر واحتج بأن يوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات وفي رواية الترمذي من حديث على مرفوعا وموقوفا يوم الحج الأكبر يوم النحر ورجح الموقوف(1/301)
-وقوله فنبذ أبو بكر الخ هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أبي بكر عنه ببراءة لأنها تضمنت مدح أبي بكر فأراد أن يسمعوها من غير أبي بكر وهذه غفلة من قائله حمله عليها ظنة أن المراد تبليغ براءة كلها وليس الأمر كذلك لما قدمناه وإنما أمر بتبليغه منها أوائلها فقط وقد قدمت حديث جابر وفيه أن عليا قرأها حتى ختمها وطريق الجمع فيه واستدل به على أن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة على خلاف المنقول عن مجاهد وعكرمة بن خالد وقد قدمت النقل عنهما بذلك في المغازي ووجه الدلالة أن أبا هريرة قال بعثني أبو بكر في تلك الحجة يوم النحر وهذا لا حجة فيه لأن قول مجاهد إن ثبت فالمراد بيوم النحر الذي هو صبيحة يوم الوقوف سواء كان الوقوف وقع في ذي القعدة أو في ذي الحجة نعم روى بن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانوا يجعلون عاما شهرا وعاما شهرين يعني يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ثم يحجون في الثالث في شهر آخر غيره قال فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمس وعشرين سنة فلما كان حج أبي بكر وافق ذلك العام شهر الحج فسماه الله الحج الأكبر(1/302)
تنبيه اتفقت الروايات على أن حجة أبي بكر كانت سنة تسع ووقع في حديث لعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في قوله تعالى ( براءة من الله ورسوله ) قال لما كان زمن خيبر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ثم أمر أبا بكر الصديق على تلك الحجة قال الزهري وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمره أن يؤذن ببراءة ثم أتبع النبي صلى الله عليه وسلم عليا الحديث قال الشيخ عماد الدين بن كثير هذا فيه غرابة من جهة أن الأمير في سنة عمرة الجعرانة كان عتاب بن أسيد وأما حجة أبي بكر فكانت سنة تسع قلت يمكن رفع الإشكال بان المراد بقوله ثم أمر أبا بكر يعني بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذكر من ولي الحج سنة ثمان فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة إلى أن جاء أوان الحج فأمر أبا بكر وذلك سنة تسع وليس المراد أنه أمر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة وقوله على تلك الحجة يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة.
12-(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة : 7 )
قال ابن كثير رحمه الله(1/303)
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر, ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى: {كيف يكون للمشركين عهد} أي أمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} يعني يوم الحديبية, كما قال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} الاَية, {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} أي مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين {فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون. استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ومالؤوا حلفاءهم وهم بنو بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً فعنذ ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة, فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء, وكانوا قريباً من ألفين, ومن استمر على كفره وفرّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء, ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما, ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام, والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.
وقال القرطبي رحمه الله
قوله تعالى: "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" كيف هنا للتعجب، كما تقول: كيف يسبقني فلان أي لا ينبغي أن يسبقني. و"عهد" اسم يكون. وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر، كما قال: أخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب(1/304)
التقدير: فكيف مات، عن الزجاج. وقيل: المعنى كيف يكون للمشركين عهد عند الله يأمنون به عذابه غدا، وكيف يكون لهم عند رسوله عهد يأمنون به عذاب الدنيا. ثم استثنى فقال: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام". قال محمد بن إسحاق: هم بنو بكر، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا. "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين
أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك ابن زيد: فلم يستقيموا فضرب لهم أجلا أربعة أشهر فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب...
وقفة مع ابن رجب الحنبلي في شرح حديث
+ عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر" خرجه البخاري ومسلم
-هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو بن العاص وخرجاه في الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وفي رواية له أيضا من علامات المنافق ثلاث وقد روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر(1/305)
-وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء وأنه قال حدثني به جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه وهذا كذب والمحرم شيخ كذاب معروف بالكذب وقد روى عن عطاء هذا لما بلغه من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق وقال حدث إخوة يوسف فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين وهذا لا يصح عن عطاء والحسن أم هذا من عنده وإنما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم لا شك في ثبوته وصحته والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:
-أحدهما النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار
-والثاني النفاق الأصغر وهو نفاق العمل وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالف ذلك وأصول هذا النفاق يرجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث وهي خمس:
1- أن يحدث بحديث لم يصدق به وهو كاذب له وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت به كاذب قال الحسن كان يقال النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل والمدخل والمخرج وكان يقال أس النفاق الذي بني عليه الكذب(1/306)
2-إذا وعد أخلف وهو على نوعين أحدهما أن يعِد ومن نيته أن لا يوفي بوعده وهذا أشر الخلق ولو قال أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل كان كذبا وخلفا قاله الأوزاعي الثاني أن يعد ومن نيته أن يفي ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف وخرج أبو داود والترمذى من حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وعد الرجل ونوي أن يفي به فلم يف فلا جناح عليه وقال الترمذي ليس إسناده بالقوي وخرج الإسماعيلي وغيره من حديث سلمان أن عليا لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال مالي أراكما ثقلين قالا حديث سمعناه من النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خلال المنافق إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان فأينا ينجو من هذه الخصال فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي تضعونه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أن يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أن يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أن يخون وقال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث من رواية سلمان وزيد بن أرقم الحديثان مضطربان والإسنادان مجهولان وقال الدراقطني الحديث مضطرب غير ثابت والله أعلم(1/307)
- وخرجه الطبراني والإسماعيلي من حديث علي مرفوعا العدة دين ويل لمن وعد ثم أخلف قالها ثلاثا وفي إسناده جهالة ويروى من حديث ابن مسعود قال لايعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة عطية وفي إسناده نظر وأوله صحيح عن ابن مسعود من قوله وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العدة هبة وفي سنن أبي داود عن مولي لعبد الله بن عامر بن ربيعة عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي فخرجت لألعب فقالت أمي ياعبد الله تعالى أعطك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماأردت أن تعطيه قلت أردت أن أعطيه تمرا فقال إن لم تفعلي كتبت عليك كذبة وفي إسناده من لا يعرف وذكر الزهري عن أبي هريرة قال من قال لصبي تعالى هاك تمرا ثم لايعطيه شيئا فهي كذبة
وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد فمنهم من أوجبه مطلقا وذكر البخاري في صحيحه أن ابن أشوع قضي بالوعد وهو قول طائفة من أهل الظاهر وغيرهم ومنهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضي نفعا للموعود وهو المحكي عن مالك وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقا...(1/308)
3- إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا وهذا مما يدعو إليه الكذب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وقال صلى الله عليه وسلم إنكم لتختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي على نحو مما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقال صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ويخيل للسامع أنه حق ويوهن الحق ويخرجه في صورة الباطل كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع وفي رواية له أيضا ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله
4- إذا عاهد غدر ولم يف بالعهد وقد أمر الله بالوفاء بالعهد فقال (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) الإسراء وقال (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا)النحل وقال (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) آل عمران.
-وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به وفي رواية إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال ألا هذه غدرة فلان وخرجاه أيضا من حديث أنس بمعناه .(1/309)
-وخرج مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء عند يوم القيامة يعرف به. والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره ولو كان المعاهد كافرا ولهذا في حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماخرجه البخاري
-وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها شيئا .وأما عهود المسلمين فيما بينهم فالوفاء بها أشد ونقضها أعظم إثما ومن أعظمها نقض عهد الإمام على من تابعه ورضي به
-وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فذكر منهم ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلا لم يف له ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها و كذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يعاهد العبد ربه عليه من نذر
-- التبرر ونحوه
5- الخيانة في الأمانة فإذا اؤتمن الرجل أمانة فالواجب عليه أن يردها كما قال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )النساء(1/310)
-وقال النبي صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك وقال في خطبته في حجة الوداع من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها قال الله عز وجل( ياآيها الذين أمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )الأنفال فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق وفي حديث ابن مسعود من قوله وروى مرفوعا القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الأمانة يؤتي بصاحب الأمانة فيقال له أد أمانتك فيقول من أين يارب وقد ذهبت الدنيا فيقول اذهبوا به إلى الهاوية فيهوي حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هناك كهيئتها فيحملها فيضعها على عنقه فيصعد بها في نار جهنم حتى إذا رأي أنه قد خرج منها زلت فهوي فيهوي هو في أثرها أبد الآبدين
قال والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد من ذلك الودائع
-وقد روى عن محمد بن كعب القرظي أنه استنبط ما في هذا الحديث أعني حديث آية المنافق ثلاث من القرآن وقال مصداق ذلك في كتاب الله تعالى(ِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون : 1 )) المنافقون وقال تعالى( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله فأعقبهم نقاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) التوبة وقال (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) 72+73 الأحزاب(1/311)
-وروى عن ابن مسعود نحو هذا الكلام ثم تلا قوله ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) ( 77) التوبة
***وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن وقال الحسن أيضا من النفاق اختلاف القلب واللسان واختلاف السر والعلانية واختلاف الدخول والخروج وقال طائفة من السلف خشوع النفاق أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع وقد روى معنى ذلك عن عمر وروى عنه أنه قال على المنبر إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم قالوا كيف يكون المنافق عليما قال يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال المنكر وسئل حذيفة عن المنافق فقال الذي يصف الإيمان ولا يعمل به وفي صحيح البخا ري عن ابن عمر أنه قيل له إنا ندخل على سلطاننا فنقول له بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عنده قال كنا نعد هذا نفاقا وفي المسند عن حذيفة قال إنكم لتكلمون كلاما إن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق وفي رواية قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقا وأني لأسمعها من أحدكم في اليوم أو في المجلس عشر مرات قال بلال بن سعد المنافق يقول ما يعرف ويعمل ماينكر ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه وسئل أبو رجاء العطاردي هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق فقال نعم إني أدركت منهم بحمد الله صدرا حسنا نعم شديدا نعم شديدا
-وقال البخاري في صحيحه وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه(1/312)
-ويذكر عن الحسن قال ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق انتهى وروى الحسن أنه حلف ما مضي مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق غير آمن وما مضي منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن وكان يقول من لم يخف النفاق فهو منافق
-وسمع رجل أبا الدرداء يتعوذ من النفاق في صلاته فلما سلم قال له ما شأنك وشأن النفاق فقال اللهم اغفر لي ثلاثا لا تأمن البلاء والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه
-والآثار عن السلف في هذا كثيرة جدا قال سفيان الثوري خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث فذكر منها قال نحن نقول نفاق وهم يقولون لا نفاق وقال الأوزاعي قد خاف عمر النفاق على نفسه قيل لهم إنهم يقولون إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حتى سأل حذيفة ولكن خاف أن يبتلي بذلك قبل أن يموت قال هذا قول أهل البدع يشير إلى أن عمر كان يخاف على النفاق على نفسه في الحال الظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف نفسه في الحال من النفاق الأصغر والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر كما أن المعاصي بريد الكفر وكما يخشي على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت كذلك يخشي على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقا خالصا وسئل الإمام أحمد ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق قال ومن يأمن على نفسه النفاق وكان الحسن يسمي من ظهرت منه أوصاف النفاق العملي منافقا وروى نحوه عن حذيفة وقال الشعبي من كذب فهو منافق وحكي محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقة من أهل الحديث وقد سبق في أوائل الكتاب ذكر الاختلاف عن الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر هل يسمي كافرا كفرا لا ينقل عن الملة أم لا واسم الكفر أعظم من اسم النفاق ولعل هذا هو الذي أنكره عطاء على الحسن إن صح ذلك عنه و من أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملا ويظهر أنه قصد به الخير وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سييء فيتم له ذلك ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ويفرح(1/313)
بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره ويتوصل به إلى غرضه السييء الذي أبطنه وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود فحكي عن المنافقين أنهم ((... اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة : 107 ) وأنزل في اليهود ((لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران : 188 )) وهذه الآية نزلت في اليهود سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم وما سئلوا عنه قال ذلك ابن عباس وحديثه مخرج في الصحيحين وفيهما أيضا عن أبي سعيد أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلافه فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غشنا فليس منا والمكر والخديعة في النار وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله ليس الدنيا إلا بدين وليس الدين إلا مكارم الأخلاق إنما المكر والخديعة في النا ر وهما من خصال أهل النفاق ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقا كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي أنه(1/314)
مر به أبو بكر رضي الله عنه وهو يبكي فقال مالك قال نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لكذلك فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا رسول الله وذكر له مثل ما قال لأبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافتحكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وفي مسند البزار عن أنس قال قالوا يا رسول الله إنا نكون عندك على حال فإذا فارقناك كنا على غيره قال كيف أنتم قالوا الله ربنا في السر والعلانية قال ليس ذاكم من النفاق وروى من وجه آخر عن أنس قال غدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هلكنا قال وما ذاك قالوا النفاق قال ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قالوا بلى قال فليس ذاك بالنفاق ثم ذكر يعني حديث حنظلة كما تقدم ...
13-( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 107 ) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( 108 )) (التوبة )
التفسير الميسر
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } التوبة107(1/315)
(و) منهم (الذين اتخذوا مسجداً) وهم اثنا عشر من المنافقين (ضراراً) مضارة لأهل مسجد قباء (وكفراً) لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الراهب ليكون معقلاً له يقدم فيه من يأتي من عنده وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر لقتال النبي صلى الله عليه وسلم (وتفريقاً بين المؤمنين) الذين يصلون بقباء بصلاة بعضهم في مسجدهم (وإرصاداً) ترقباً (لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي قبل بنائه وهو أبو عامر المذكور (وليحلفن إن) ما (أردنا) ببنائه (إلا) الفعلة (الحسنى) من الرفق بالمسكين في المطر والحر والتوسعة على المسلمين (والله يشهد إنهم لكاذبون) في ذلك ، وكانوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أي يصلي فيه فنزل
{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } التوبة108
108 - (لا تقم) تصل (فيه أبداً) فأرسل جماعة هدموه وحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيها الجيف (لمسجد أسس) بنيت قواعده (على التقوى من أول يوم) وضع يوم حللت بدار الهجرة ، وهو مسجد قباء كما في البخاري (أحق) منه (أن) أي بأن (تقوم) تصلي (فيه) ( فيه رجال) هم الأنصار (يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) أي يثيبهم ، فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء ، روى ابن خزيمة في صحيحه عن عويمر بن ساعدة أنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به ، قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي حديث رواه البزار فقالوا : نتبع الحجارة بالماء فقال : هو ذاك فعليكموه.(1/316)
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) التوبة 109
- (أفمن أسس بنيانه على تقوى) مخافة (من الله و) رجاء (رضوان) منه (خير أم من أسس بنيانه على شفا) طرف (جُرُف) بضم الراء وسكونها جانب (هار) مشرف على السقوط (فانهار به) سقط مع بانيه (في نار جهنم) خير تمثيل للبناء على ضد التقوى بما يؤول إليه والاستفهام للتقرير ، أي الأول خير وهو مثال مسجد قباء والثاني مثال مسجد الضرار (والله لا يهدي القوم الظالمين)..
وقفة مع ابن العربي في أحكام القرآن
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْحُسْنَى وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. التوبة107
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:(1/317)
1: ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي آيَاتٍ جُمْلَةٍ، ثُمَّ طَبَّقَهُمْ طَبَقَاتٍ عُمُومًا وَخُصُوصًا، فَقَالَ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا}. وَقَالَ: {وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا}. {وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ}؛ وَهَذَا مَدْحٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْفَاضِلُ مِنْ النَّاقِصِ وَالْمُحِقُّ مِنْ الْمُبْطِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ}. وَقَالَ: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أَيْ اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ وَتَحَقَّقُوا بِهِ. وَقَالَ: وَآخَرُونَ يَعْنِي عَلَى التَّوَسُّطِ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، ثُمَّ قَالَ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ، مِنْهُمْ أَبُو لُبَابَةَ، وَكَعْبٌ، وَمُرَارَةُ، وَهِلَالٌ، جَعَلَهُمْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَرَجَّأَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، مُشِيرًا إلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا}. أَسْقَطَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ مِنْهُمَا الْوَاوَ، كَأَنَّهُ رَدَّهُ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَزَادَ غَيْرُهُمَا الْوَاوَ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ صِنْفًا آخَرَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ إسْقَاطَ الْوَاوِ تَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ لِمَا تَقَدَّمَ وَصْفٌ، وَلَنْ يَحْتَاجَ إلَى إضْمَارٍ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ.(1/318)
2: فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ: رُوِيَ {أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ كُلُّهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى الْأَنْصَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بَنَوْا مَسْجِدًا ضِرَارًا بِمَسْجِدِ قُبَاءَ، وَجَاءُوا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَارِجٌ إلَى تَبُوكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُصَلِّيَ فِيهِ لَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ: إنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَشُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ. فَلَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ رَاجِعًا مِنْ سَفَرِهِ أَرْسَلَ قَوْمًا لِهَدْمِهِ، فَهُدِمَ وَأُحْرِقَ}.
3: قَوْله تَعَالَى {ضِرَارًا}: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: ضِرَارًا بِالْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ ضِرَارٌ، إنَّمَا هُوَ ضِرَارٌ لِأَهْلِهِ.
4: قَوْلُهُ: {وَكُفْرًا}: لَمَّا اتَّخَذُوا الْمَسْجِدَ ضِرَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ وَلَا لِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَرُوا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ.(1/319)
5: قَوْلُهُ: {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}: يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاحِدَةً فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا شَمْلَهُمْ فِي الطَّاعَةِ، وَيَنْفَرِدُوا عَنْهُمْ لِلْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَكْثَرَ وَالْغَرَضَ الْأَظْهَرَ مِنْ وَضْعِ الْجَمَاعَةِ تَأْلِيفُ الْقُلُوبِ، وَالْكَلِمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَقْدُ الذِّمَامِ وَالْحُرْمَةُ بِفِعْلِ الدِّيَانَةِ، حَتَّى يَقَعَ الْأُنْسُ بِالْمُخَالَطَةِ؛ وَتَصْفُوَ الْقُلُوبُ مِنْ وَضَرِ الْأَحْقَادِ وَالْحَسَادَةِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَفَطَّنَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالَ: " إنَّهُ لَا تُصَلِّي جَمَاعَتَانِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَلَا بِإِمَامَيْنِ، وَلَا بِإِمَامٍ وَاحِدٍ " خِلَافًا لِسَائِرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ تَشْتِيتًا لِلْكَلِمَةِ، وَإِبْطَالًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ، وَذَرِيعَةً إلَى أَنْ نَقُولَ: مَنْ أَرَادَ الِانْفِرَادَ عَنْ الْجَمَاعَةِ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، فَيُقِيمُ جَمَاعَتَهُ، وَيُقِيمُ إمَامَتَهُ؛ فَيَقَعُ الْخِلَافُ، وَيَبْطُلُ النِّظَامُ، وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُ مَعَهُمْ، وَهُوَ أَثْبَتُ قَدَمًا مِنْهُمْ فِي الْحِكْمَةِ، وَأَعْلَمُ بِمَقَاطِعِ الشَّرِيعَةِ.(1/320)
6: قَوْله تَعَالَى {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}: يُقَالُ: أَرْصَدْتُ كَذَا لِكَذَا إذَا أَعْدَدْتَهُ مُرْتَقِبًا لَهُ، وَالْخَبَرُ بِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، كَانَ قَدْ حَزَّبَ الْأَحْزَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا خَذَلَهُ اللَّهُ لَحِقَ بِالرُّومِ يَطْلُبُ النَّصْرَ مِنْ مَلِكِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتَبَ إلَى أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، يَأْمُرُهُمْ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ إذَا رَجَعَ، وَأَنْ يَسْتَعِدُّوا قُوَّةً وَسِلَاحًا؛ وَلِيَكُونَ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمْ لِلطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَأَرْسَلَ لِهَدْمِهِ وَحَرْقَهُ، وَنَهَاهُ عَنْ دُخُولِهِ، فَقَالَ وَهِيَ:
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. التوبة 108
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:(1/321)
1: قَوْله تَعَالَى {أَبَدًا}: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ: ظَرْفٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَظَرْفٌ مُبْهَمٌ عَلَى لُغَتِهِمْ، وَمُطْلَقٌ عَلَى لُغَتِنَا؛ كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ. وَالْأَبَدُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَمُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ فِيهِ هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمَلِ، وَهِيَ أَنَّ " أَبَدًا " وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا مُبْهَمًا لَا عُمُومَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِالنَّهْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ، لَا مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَاهُ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ لَكَفَى فِي الِانْكِفَافِ الْمُطْلَقِ، فَإِذَا قَالَ " أَبَدًا " فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَلَا فِي حِينٍ مِنْ الْأَحْيَانِ، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَضَى بِهِ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً.(1/322)
2: قَوْله تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}: اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ. وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وَمَسْجِدُ قُبَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أُسِّسَ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَشْهَبُ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ: الْمَسْجِدُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ إذْ كَانَ يَقُومُ رَسُولُ اللَّهِ وَيَأْتِيهِ أُولَئِكَ مِنْ هُنَالِكَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا} هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَنَزَعَ مَالِكٌ بِاسْتِوَاءِ اللَّفْظَيْنِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ تَقُومُ فِيهِ. وَقَالَ فِي هَذَا قَائِمًا؛ فَكَانَا وَاحِدًا، وَهَذِهِ نَزْعَةٌ غَرِيبَةٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: {تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ وَقَالَ آخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هُوَ مَسْجِدِي هَذَا}. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ،(1/323)
وَجَزَمَ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِمِثْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ، وَهِيَ:
3: فَقَوْلُهُ: {فِيهِ فِيهِ}: ضَمِيرَانِ يَرْجِعَانِ إلَى مُضْمَرٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ نِزَاعٍ، وَضَمِيرُ الظَّرْفِ الَّذِي يَقْتَضِي الرِّجَالَ الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ؛ فَذَلِكَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الرِّجَالِ الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ ضَمِيرُ مَسْجِدِ قُبَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}. قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ :{ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ قُبَاءَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ؛ فَمَا تَصْنَعُونَ ؟ فَقَالُوا: إنَّا نَغْسِلُ أَثَرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ}. قُلْنَا: هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الطَّهَارَةِ الْمُثْنَى بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ، كَالتَّطَهُّرِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ وَطْءِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ وَشَبَهِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ مُبْتَدَأِ تَأْسِيسِهِ أَيْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ، وَلَا وُضِعَ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ مِنْهُ إلَّا عَلَى اعْتِقَادِ التَّقْوَى. وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَتَطَهَّرُونَ، وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُمْلَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَحْتَاطُونَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالنَّظَافَةِ، فَيَمْسَحُونَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْحِجَارَةِ تَنْظِيفًا(1/324)
لِأَعْضَائِهِمْ، وَيَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ تَمَامًا لِعِبَادَتِهِمْ، وَكَمَالًا لِطَاعَتِهِمْ.
4: هَذَا ثَنَاءٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَحَبَّ الطَّهَارَةَ، وَآثَرَ النَّظَافَةَ، وَهِيَ مُرُوءَةٌ آدَمِيَّةٌ، وَوَظِيفَةٌ شَرْعِيَّةٌ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ ". وَفِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْمِلُ مَعَهُ الْمَاءَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ، فَكَانَ يَسْتَعْمِلُ الْحِجَارَةَ تَخْفِيفًا، وَالْمَاءَ تَطْهِيرًا}، وَاللَّازِمُ فِي نَجَاسَةِ الْمَخْرَجِ التَّخْفِيفُ، وَفِي نَجَاسَةِ سَائِرِ الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ التَّطْهِيرُ؛ وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي حَالَتَيْ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ. وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُسْتَجْمَرُ بِالْأَحْجَارِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ فَلِعُلَمَائِنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَقَالَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: يَجِبُ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ فِي حَالَتَيْ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ: ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلِ الْحَالَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: يَجِبُ فِي حَالَةِ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ؛ وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ قَوْله تَعَالَى {وَثِيَابَك(1/325)
فَطَهِّرْ}؛ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِطَهَارَةِ ثِيَابِهِ حَتَّى إنْ أَتَتْهُ الْعِبَادَةُ وَجَدْته عَلَى حَالَةٍ مُهَيَّأَةٍ لِأَدَائِهَا. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الثِّيَابَ كِنَايَةٌ، وَذَلِكَ دَعْوَى لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى سُقُوطِ طَهَارَتِهَا بِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَغُسِلَ بِالْمَاءِ؛ فَإِنَّ الْحَجَرَ لَا يُزِيلُهُ. قُلْنَا: هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَمَرَ بِهَا، وَعَفَا عَمَّا وَرَاءَهَا. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بُرْهَانُهُ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَنَّ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.
5: بَنَى أَبُو حَنِيفَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّجَاسَةَ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةً وَجَبَتْ إزَالَتُهَا، وَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً لَمْ تَجِبْ إزَالَتُهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ يَعْنِي كِبَارَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ عَلَى قَدْرِ اسْتِدَارَةِ الدِّينَارِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْرَبَةِ. وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا؛؛ فَلَا يُقْبَلُ هَذَا التَّقْدِيرُ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الَّذِي خُفِّفَ عَنْهُ فِي الْمَسْرَبَةِ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَالرُّخَصُ لَا يُقَاسَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ: فَلَا تُرَدُّ إلَيْهِ.(1/326)
6: قَوْله تَعَالَى: {أَحَقُّ}: هُوَ أَفْعَلُ مِنْ الْحَقِّ، وَأَفْعَلُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ، لِأَحَدِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ، فَيُحَلَّى بِأَفْعَلَ، وَأَحَدُ الْمَسْجِدَيْنِ وَهُوَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ بَاطِلٌ لَا حَظَّ لِلْحَقِّ فِيهِ، وَلَكِنْ خَرَجَ هَذَا عَلَى اعْتِقَادِ بَانِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ، وَاعْتِقَادُ أَهْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قُبَاءَ أَنَّهُ حَقٌّ، فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ، لَكِنَّ أَحَدَ الِاعْتِقَادَيْنِ بَاطِلٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْآخَرُ حَقٌّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}: يَعْنِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَلَا خَيْرَ فِي مَقَرِّ النَّارِ وَلَا مَقِيلِهَا، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى اعْتِقَادِ كُلِّ فِرْقَةٍ أَنَّهَا عَلَى خَيْرٍ، وَأَنَّ مَصِيرَهَا إلَيْهِ؛ إذْ كُلُّ حِزْبٍ فِي قَضَاءِ اللَّهِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، حَتَّى يَتَمَيَّزَ بِالدَّلِيلِ لِمَنْ عُضِّدَ بِالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِالْعِيَانِ لِمَنْ ضَلَّ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ هَذَا:
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ: قَوْله تَعَالَى {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وَهِيَ(1/327)
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ. وَمَعْنَاهُ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى اعْتِقَادِ تَقْوَى حَقِيقَةٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ؟ وَإِنْ كَانَ قَصَدَ بِهِ التَّقْوَى، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ، فَإِنَّ الْخَلَّ حُلْوٌ، كَمَا أَنَّ الْعَسَلَ حُلْوٌ؛ وَكُلُّ شَيْءٍ مُلَائِمٌ فَهُوَ حُلْوٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: احْلَوْلَى الْعِشْقُ، أَيْ كَانَ حُلْوًا، لِكَوْنِهِ إمَّا عَلَى مُقْتَضَى اللَّذَّةِ أَوْ مُوَافَقَةِ الْأُمْنِيَةِ ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُقَدِّمُ الْخَلَّ عَلَى الْعَسَلِ، مُفْرَدًا بِمُفْرَدٍ وَمُضَافًا إلَى غَيْرِهِ بِمُضَافٍ.(1/328)
1: قَوْله تَعَالَى {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: قِيلَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ، {وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَهُدِمَ رُئِيَ الدُّخَانُ يَخْرُجُ مِنْهُ}، مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ: حَتَّى رُئِيَ الدُّخَانُ فِي زَمَانِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ. وَقِيلَ: هَذَا مَجَازٌ، الْمَعْنَى أَنَّ مَآلَهُ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ، فَكَأَنَّهُ انْهَارَ إلَيْهِ، وَهَوَى فِيهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّارَ تَحْتُ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْت الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ جَابِرٌ رَافِعًا لِلْإِشْكَالِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اُبْتُدِئَ بِنِيَّةِ تَقْوَى اللَّهِ، وَالْقَصْدِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَهُوَ الَّذِي يَبْقَى، وَيَسْعَدُ بِهِ صَاحِبُهُ، وَيَصْعَدُ إلَى اللَّهِ وَيُرْفَعُ إلَيْهِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّك}.
14 (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( (الحجرات : 9+10 )(1/329)
قال الفخر الرازي رحمه الله
{ وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }. ) لما حذر الله المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق، أشار إلى ما يلزم منه استدراكا لما يفوت، فقال فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم، وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين، فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما {فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى } أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه، ثم إن الظالم إن كان هو الرعية، فالواجب على الأمير دفعهم، وإن كان هو الأمير، فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها، وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله تعالى: {وأن } إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين، فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم؟ نقول قوله تعالى: {وأن } إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادرا، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي، وكذلك {إن جاءكم فاسق بنبإ } (الحجرات: 6) إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلا، مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير، وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولا من قول الصادق الصالح. المسألة الثانية: قال تعالى: {وإن طائفتان } ولم يقل وإن فرقتان تحقيقا للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، ولهذا قال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } (التوبة: 122). المسألة الثالثة: قال تعالى: {من المؤمنين } ولم يقل منكم، مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى: { ياأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } (الحجرات: 6) تنبيها على قبح ذلك وتبعيدا له عنهم، كما يقول السيد لعبده: إن رأيت أحدا من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعا للمخاطب(1/330)
عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول: أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك ههنا قال: {وإن طائفتان من المؤمنين } ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد. المسألة الرابعة: قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ولم يقل: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين، مع أن كلمة { إن } اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة { إن } وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما، فإن قيل فلم لم يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم، أو إن أحد من الفساق جاءكم، ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه، وهو كونه فاسقا؟ نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقا، أو يزداد بسببه فسقه، فالمجيء به سبب الفسق فقدمه. وأما الاقتتال فلا يقع سببا للإيمان أو الزيادة، فقال: {إن جاءكم فاسق } أي سواء كان فاسقا أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقا به، ولو قال: وإن أحد من الفساق جاءكم، كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ. المسألة الخامسة: قال تعالى: {اقتتلوا } ولم يقل: يقتتلوا، لأن صيغة الاستقبال تنبىء عن الدوام والاستمرار، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك، يقال فلان يتهجد ويصوم. : قال: {اقتتلوا } ولم يقل اقتتلا، وقال: {فأصلحوا بينهما } ولم يقل بينهم، ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة، وكل أحد برأسه يكون فاعلا فعلا، فقال: {اقتتلوا } وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة، وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال: {بينهما } لكون الطائفتين حينئذ كنفسين ثم قال تعالى: {فإن بغت أحدهما } إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي، لأنه غير متوقع، فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة { إن } مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه،(1/331)
وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه، إذ كل واحد منهما لا يكون محسنا، فقوله { إن } تكون من قبيل قول القائل: إن طلعت الشمس، نقول فيه معنى لطيف، وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد، وهو خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلا كذا، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر، وعند ذلك يكون قد بغى فقال: {فإن بغت إحداهما على الاخرى } يعني بعد استبانة الأمر، وحينئذ فقوله {فإن بغت } في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع، وفيه أيضا مباحث الأول: قال: {فإن بغت } ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى: {اقتتلوا } ولم يقل يقتتلوا الثاني: قال: {حتى تفيء } إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث: هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حل القتال الرابع: هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمنا لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس: قوله تعالى: {إلى أمر الله } يحتمل وجوها أحدها: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم } (النساء: 59). وثانيها: إلى أمر الله، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم }، ثالثها: إلى أمر الله بالتقوى، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } (فاطر: 6)، السادس: لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن(1/332)
نادر، فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال: {فإن فاءت }؟ نقول قول القائل لعبده: إن مت فأنت حر، مع أن الموت لا بد من وقوعه، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلا للعتق بأن يكون باقيا في ملكه حيا يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك ههنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى: {فإن فاءت } بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا، وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبرا السابع: قال ههنا: {فأصلحوا بينهما بالعدل } ولم يذكر العدل في قوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا } نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح ههنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: {بالعدل } فكأنه قال: واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن: إذا قال: {فأصلحوا بينهما بالعدل } فأية فائدة في قوله {وأقسطوا } نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله {وأقسطوا } أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله، والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسط هو الجائر، والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضا غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط. { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون }. ثم قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } تتميما للإرشاد وذلك لأنه لما قال: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } (الحجرات: 9) كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم، فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح، وكذلك الأمر(1/333)
بالإصلاح هناك عند الاقتتال، وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال: {بين أخويكم } وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح. وقوله {واتقوا الله لعلكم ترحمون } فيه مسائل: المسألة الأولى: قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة } قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال: {إنما المؤمنون إخوة } تأكيدا للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب، قال قائلهم: ( أبي الإسلام لا أب لي سواه * إذا افتخروا بقيس أو تميم ) المسألة الثانية: عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا، وقال ههنا اتقوا مع أن ذلك أهم؟ نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى، وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال: {فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله } أو نقول قوله {فأصلحوا } إشارة إلى الصلح، وقوله {واتقوا الله } /إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر، لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "المسلم من سلم الناس من لسانه و يده)" لأن المسلم يكون منقادا لأمر الله مقبلا على عباد الله فيشغله عيبه عن عيوب الناس ويمنعه أن يرهب الأخ المؤمن، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم : "المؤمن من يأمن جاره بوائقه" يعني اتق الله فلا تتفرغ لغيره. المسألة الثالثة: {إنما } للحصر أي لا أخوة إلا بين المؤمنين، وأما بين المؤمن والكافر فلا، لأن الإسلام هو الجامع ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ولا يكون لأخيه الكافر، وأما الكافر فكذلك لأن في النسب المعتبر الأب الذي هو(1/334)
أب شرعا، حتى أن ولدي الزنا من رجل واحد لا يرث أحدهما الآخر، فكذلك الكفر كالجامع الفاسد فهو كالجامع العاجز لا يفيد الأخوة، ولهذا من مات على الكفر وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدين يجمعهم لكان مال الكافر للكفار، كما أن مال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث، فإن قيل قد ثبت أن الأخوة للإسلام أقوى من الأخوة النسبية، بدليل أن المسلم يرثه المسلمون ولا يرثه الأخ الكافر من النسب، فلم لم يقدموا الأخوة الإسلامية على الأخوة النسبية مطلقا حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوته من النسب؟ نقول هذا سؤال فاسد، وذلك لأن الأخ المسلم إذا كان أخا من النسب فقد اجتمع فيه أخوتان فصار أقوى والعصوبة لمن له القوة ألا ترى أن الأخ من الأبوين يرث ولا يرث الأخ من الأب معه فكذلك الأخ المسلم من النسب له أخوتان فيقدم على سائر المسلمين والله أعلم. المسألة الرابعة: قال النحاة (ما) في هذا الموضع كافة تكف إن عن العمل، ولولا ذلك لقيل: إنما المؤمنين إخوة، وفي قوله تعالى: {فبما رحمة من الله } (آل عمران: 159) وقوله {عما قليل } (المؤمنون: 4) ليست كافة. والسؤال الأقوى هو أن رُبَّ من حروف الجر والباء وعن كذلك، وما في رُب كافة وفي عما وبما ليست كافة، والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد ربما وإنما يكون تاما، ويمكن جعله مستقلا ولو حذف ربما وإنما لم يضر، فنقول ربما قام الأمير وربما زيد في الدار، ولو حذفت ربما وقلت زيد في الدار وقام الأمير لصح، وكذلك في إنما ولكيما، وأما عما وبما فليست كذلك، لأن قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم } لو أذهبت بما وقلت رحمة من الله لنت لهم، لما كان كلاما فالباء يعد تعلقها بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقة، ولكنما وإنما وربما لما استغنى عنها فكأنها لم يبق حكمها ولا عمل للمعدوم، فإن قيل إن إذا لم تكف بما فما بعده كلام تام، فوجب أن لا يكون له عمل تقول إن زيدا قائم ولو(1/335)
قلت زيد قائم لكفى وتم؟ نقول: ليس كذلك لأن ما بعد إن جاز أن يكون نكرة، تقول إن رجلا جاءني وأخبرني بكذا وأخبرني بعكسه، وتقول جاءني رجل وأخبرني، ولا يحسن إنما رجل جاءني كما لو لم تكن هناك إنما، وكذلك القول في بينما وأينما فإنك لو حذفتهما واقتصرت على ما يكون بعدهما لا يكون تاما فلم يكف ...
فصل
وقفة مع ثلة من المفسرين وقوله عز وجل :
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الأنفال : 1 )(1/336)
1* ابن كثير وقوله تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه{ وأطيعوا الله ورسوله} أي في قسمه بينكم على ما أراده الله, فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف, وقال ابن عباس: هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد, وقال السدي {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} أي لاتستبوا. ولنذكر ههنا حديثاً أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله , في مسنده فإنه قال: حدثنا مجاهد بن موسى, حدثنا عبد الله بن بكر, حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه, فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال: "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى, فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. فقال الله تعالى, أعط أخاك مظلمته, قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال: رب فليحمل عني من أوزاري". قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال "إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم, فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ, لأي نبي هذا ؟ لأي صديق هذا ؟ لأي شهيد هذا ؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه, قال رب ومن يملك ثمنه ؟ قال أنت تملكه, قال: ماذا يا رب ؟ قال: تعفو عن أخيك, قال: يا رب, فإني قد عفوت عنه, قال الله تعالى: خذ بيد أخيك, فادخلا الجنة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم, فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة".(1/337)
2* القرطبي قوله تعالى: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم" أمر بالتقوى والإصلاح، أي كونوا مجتمعين على أمر الله في الدعاء: اللهم أصلح ذات البين، أي الحال التي يقع بها الاجتماع. فدل هذا على التصريح بأنه شجر بينهم اختلاف، أو مالت النفوس إلى التشاح؛ كما هو منصوص في الحديث. وتقدم معنى التقوى، أي اتقوا الله في أقوالكم، وأفعالكم، وأصلحوا ذات بينكم. "وأطيعوا الله ورسوله" في الغنائم ونحوها. "إن كنتم مؤمنين" أي إن سبيل المؤمن أن يمتثل ما ذكرنا. وقيل: "إن" بمعنى "إذ".
3* الطبري القول في تأويل قوله تعالى: فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم, واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه, وأصلحوا الحال بينكم.
واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله:{ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فقال بعضهم: هو أمر من الله للذين غنموا الغنيمة يوم بدر وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في الغنيمة أن يردّوا ما أصابوا منها بعضهم على بعض.
ذكر من قال ذلك.
ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم}ْ قال: كان نبيّ الله ينفّل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفار إذا قتله, ثم أنزل الله: فاتّقوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أمرهم أن يردّ بعضُهم على بعض.(1/338)
ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل الرجل على قدر جِدّه وغَنائه على ما رأى, حتى إذا كان يوم بدر وملأ الناس أيديهم غنائم, قال أهل الضعف من الناس: ذهب أهل القوّة بالغنائم فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم, فنزلت: {قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ }ليردّ أهل القوّة على أهل الضعف.
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث البين, فقال بعض نحويي البصرة: أضاف ذات إلى البين وجعله ذاتا, لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث, وبعضا يذكر نحو الدار, والحائط أنث الدار وذكر الحائط. وقال بعضهم: إنما أراد بقوله: ذَاتَ بَيْنِكُمْ: الحال التي للبين فقال: وكذلك "ذات العشاء" يريد الساعة التي فيها العشاء. قال: ولم يضعوا مذكرا لمؤنث ولا مؤنثا لمذكر إلاّ لمعنى.
قال أبو جعفر: هذا القول أولى القولين بالصواب للعلة التي ذكرتها له.
وأما قوله: {وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ} فإن معناه: وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم, فقد بين لكم وجوهه وسبُله. إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقول: إن كنتم مصدّقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم. كما:
ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: {فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فسلموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا, ويضعانها حيث أرادا.
4* السيوطي وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله {وأطيعوا الله ورسوله} قال: طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة.(1/339)
وأخرج ابن أبي حاتم عن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم " أخبرك أن الله تبارك وتعالى وتقدس يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، فمن يدري أي الطرفين؟ فقالت: الله ورسوله أعلم...!ثم ينادي مناد من تحت العرش يا أهل التوحيد. فيشرئبون، ثم ينادي: يا أهل التوحيد. ثم ينادي الثالثة إن الله قد عفا عنكم، فيقوم الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظلامات الدنيا، ثم ينادي: يا أهل التوحيد يعفو بعضكم عن بعض وعلى الله الثواب".
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا أهل التوحيد إن الله قد عفا عنكم، فليعف بعضكم عن بعض وعلي الثواب".
5* الشوكاني وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "وأصلحوا ذات بينكم" قال: هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم حيث اختلفوا في الأنفال. وأخرج ابن أبي حاتم عن مكحول، قال: كان صلاح ذات بينهم أن ردت الغنائم، فقسمت بين من ثبت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من قاتل وغنم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: "وأطيعوا الله ورسوله" قال: طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة.
6* البغوي{ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} " ، أي : اتقوا الله بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة ، وتسليم أمر الغنيمة إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم . " {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين }"(1/340)
7* السعدي{ فاتقوا الله }" بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه . " وأصلحوا ذات بينكم " أي : أصلحوا ما بينكم من التشاحن ، والتقاطع ، والتدابر ، بالتوادد ، والتحاب ، والتواصل . فبذلك تجتمع كلمتكم ، ويزول ما يحصل ـ بسبب التقاطع ـ من التخاصم ، والتشاجر والتنازع . ويدخل في إصلاح ذات البين ، تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه ـ بذلك ـ يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء ، والتدابر . والأمر الجامع لذلك كله قوله :" وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " ، فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله ، كما أن من لم يطع الله ورسوله ، فليس بمؤمن . ومن نقصت طاعته لله ورسوله ، فذلك لنقص إيمانه . ولما كان الإيمان قسمين : إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء ، والفوز التام ، وإيمانا دون ذلك ، ذكر الإيمان الكامل فقال : إنما المؤمنون " الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان ." الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " أي : خافت ورهبت ، فأوجبت لهم خشية الله تعالى ، الانكفاف عن المحارم ، فإن خوف الله تعالى ، أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب ." وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " ، ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم ، لأن التدبر من أعمال القلوب ، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى ، كانوا يجهلونه ، ويتذكرون ما كانوا نسوه ، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير ، واشتياقا إلى كرامة ربهم ، أو وجلا من العقوبات ، وازدجارا عن المعاصي ، وكل هذا مما يزداد به الإيمان . " وعلى ربهم " وحده ، لا شريك له " يتوكلون " أي : يعتمدون في قلوبهم على ربهم ، في جلب مصالحهم ، ودفع مضارهم الدينية ، والدنيوية ، ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك . والتوكل هو الحامل للأعمال كلها ، فلا توجد ولا تكمل إلا به . " الذين يقيمون الصلاة " من فرائض ، ونوافل ، بأعمالها الظاهرة والباطنة ، كحضور القلب فيها(1/341)
، الذي هو روح الصلاة ولبها ." ومما رزقناهم ينفقون " النفقات الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، والنفقة على الزوجات والأقارب ، وما ملكت أيمانهم ، والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير . " أولئك " الذين اتصفوا بتلك الصفات " هم المؤمنون حقا " لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان ، بين الأعمال الباطنة ، والأعمال الظاهرة ، بين العلم والعمل ، بين أداء حقوق الله ، وحقوق عباده . وقدم تعالى أعمال القلوب ، لأنها أصل لأعمال الجوارح ، وأفضل منها ، وفيها دليل على أن الإيمان ، يزيد وينقص ، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها . وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه ، وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب الله تعالى ، والتأمل لمعانيه . ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال : " لهم درجات عند ربهم " أي : عالية بحسب علو أعمالهم ،" ومغفرة " لذنوبهم "ورزق كريم " وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ودل هذا ، على أن من لم يصل إلى درجتهم في الإيمان ـ وإن دخل الجنة ـ فلن ينال ما نالوا ، من كرامة الله التامة(1/342)
8* ابن أبي حاتم *عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدت معه بدرا. فلقينا المشركين فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في اثارهم يهزمون ويقتلون، واكبت طائفة في العسكر يحوزونه ويجمعونه، واحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصيب العدو منه غرة. قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناهم وجمعناها فليس لاحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم باحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين احدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لستم باحق بها منا، احدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخفنا ان يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت {يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم واطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين }فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين، وكان يقول: ليرد قوى المسلمين على ضعيفهم
*عن عبد الرحمن بن زيد بن اسلم في قول الله {واطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين} سلموا لله ورسوله، يحكمان فيها بما شاءا ويضعانها حيث ارادا. قوله تعالى: ان كنتم مؤمنين * عن سعيد بن جبير قوله: مؤمنين قال: مصدقين.
9* البيضاوي{ فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة{ وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم
بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول{ وأطيعوا الله ورسوله } فيه { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك أو أن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة طاعة الأوامر والاتقاء عن المعاصي وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان(1/343)
10* الألوسي ( وأصلحوا ذات بينكم )بالرد والمواساة فيما حل بأيديكم (وأطيعوا الله ورسوله) في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا -والمراد بقوله تعالى : ( فاتقوا الله ) الخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والإختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه(1/344)
-وعن السدي بعدم التساب -وعن عطاء كان الإصلاح بينهم أن دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : أقسموا غنائمكم بالعدل : فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا فقال عليه الصلاة والسلام : ليرد بعضكم على بعض و ( ذات ) كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف و ( بين ) إما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالا ذات إفتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم وقال الزجاج وغيره : إن ( ذات ) هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه إستعمال المتكلمين ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول : أسقني ذا إنائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه وذكر الإسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم + وذكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى وقال غير واحد : إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أولا لأن إختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالإمتثال وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة ( إن كنتم مؤمنين ) متعلق بالأوامر الثلاثة والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم وهو يكفي في التعليق بالشرط والمراد بالإيمان التصديق ولا خفاء في إقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة وقد يراد بالإيمان الإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الإتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم .(1/345)
11* ابن عطية( فاتقوا الله ) معناها في الكلام اجعل بينك وبين المحذور وقاية وقوله {وأصلحوا ذات بينكم} تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح و( ذات) في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته والذي يفهم من ( بينكم ) هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه وذلك في قوله ( عليم بذات الصدور ) و ( ذات الشوكة ) فإنها هاهنا مؤنثة قولهم الذئب مغبوط بذي بطنه وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة ويحتمل ذات البين أن تكون هذه وقد تقال الذات أيضا بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم ومنه قول الشاعر :( لا ينبح الكلب فيها غير واحدة * ذات العشاء ولا تسري أفاعيها ) + البسيط +
وقوله ( وأطيعوا الله ورسوله ) لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم وقوله ( إن كنتم مؤمنين ) أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلا فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم ( وأطيعوا ) هذا عند سيبويه ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط.(1/346)
12*ابن عاشور وتفريع (فاتقوا الله) على جملة (الأنفال لله والرسول) لأن في تلك الجملة رفعا للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال، أو في طلب التنفيل، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله، فقد وقع ذلك على كراهية كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها، تبعا لعوائدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها، وهذا كله من المقول.
وقدم الأمر بالتقوى لأنها جامع الطاعات.
وعطف الأمر بإصلاح ذات البين لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فأمرهم الله بالتصافح، وختم بالأمر بالطاعة، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت).
والإصلاح: جعل الشيء صالحا، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم، وهو فساد التنازع والتظالم.
و(ذات) يجوز أن تكون مؤنث ذو الذي هو بمعني صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو. ووقع في كلامهم مضافا إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما، يجرونه مجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) في سورة الكهف، على تأويل جهة وتقول: لقيته ذات ليلة، ولقيته ذات صباح، على تأويل المقدر ساعة أو وقت، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال، ويجوز أن تكون (ذات)أصلية الألف كما يقال: أنا أعرف ذات فلان، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته، كذا فسرها الزجاج والزمخشري، فهو كقول ابن رواحة
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فتكون كلمة مقحمة لتحقيق الحقيقة، جعلت مقدمة، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم جاءني بذاته ومنه يقولون: ذات اليمين وذات الشمال، كقوله تعالى (إنه عليم بذات الصدور) .(1/347)
فالمعنى: أصلحوا بينكم، ولذا فذات مفعول به على أن(بين) في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية، وجعل اسما متصرفا، كما قرئ (لقد تقطع بينكم) برفع بينكم في قراءة جماعة. فأضيفت إليه ذات فصار المعنى: أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحا غير فاسد، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل (أصلحوا) منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصدا للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير: وأوجدوا الصلاح بينكم كما قرأنا (لقد تقطع بينكم) بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم.
واعلم أني لم أقف على استعمال (ذات بين) في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن.
وجواب شرط (إن كنتم مؤمنين) دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله (فاتقوا الله) إلى أخرها، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعا إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية: إنا أمرناكم بما ذكر إن كنتم مؤمنين لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال، لظهور أن ليس المراد: فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أعل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال.
وليس الإتيان في الشرط بأن تعريضا بضعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورهم، بناء على أن شأن إن عدم الجرم بوقوع الشرط بخلاف إذا على ما تقرر في المعاني، ولكن اجتلاب إن في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي: التقوى الجامعة لخصال الدين، وإصلاح ذات بينهم، والرضى بما فعله الرسول، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صوره ومظاهره. ولذلك عقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) كما سيأتي.(1/348)
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد (إنما) من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جمل الأمر الثلاث السابقة، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من إنما أن من لم يجِل قلبُه إذا ذكر الله، ولم تزِده تلاوةُ آيات الله إيمانا مع إيمانه، ولم يتوكل على الله، ولم يقم الصلاة، ولم ينفق، لم يكن موصوفا بصفة الإيمان، فهذا ظاهر مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لا ينقضه إلا خلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى (أولئك هو المؤمنون حقا) فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عدم الواجبات العظيمة منزلة العدم، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية: شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن، وطوي ذكر المشبه به ورمز إليه بذكر لازمه وهو حصر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويؤول هذا إلى معنى: إنما المؤمنون الكاملون الإيمان، فالتعريف في (إنما المؤمنون) تعريف الجنس المفيد قصرا ادعائيا على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف أل فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال.
وقد تكون جملة(إنما المؤمنون) مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال سائل يثيره الشرط وجزاؤه المقدر في قوله(إن كنتم مؤمنين) بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل، وهل يمترى في أنهم مؤمنون، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطا هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته.
وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافين صح تحميل الآية إياهما توفيرا لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يسال عنه، وإن بيان العلة مما يصح كونه استئنافا بيانيا.(1/349)
وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وان اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين، والاعتبارات البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحققه حق تحققه.
والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها، فانه لما كان الكلام واردا مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها.
والذكر حقيقته التلفظ باللسان، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها، فالمراد من قوله(إذا ذكر الله) إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شؤونه، مثل أمره ونهيه، لأن ذلك لابد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته.
والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه.
وقد جاء فعل وجل في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فرح، وصدي، وهوي، وروي.
وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين.
وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالا بديعا ليناسب معنى الوجل، فذكر الله يكون: بذكر اسمه، وبذكر عقابه، وعظمته، وبذكر ثوابه ورحمته، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كمل المؤمنين، لأنه يحصل معه استحضار جلال الله وشدة باسه وسعة ثوابه، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقع حلول بأسه، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه .(1/350)
وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم بدر وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك، ناسب الاقتصار على وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله، والوجل حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب فطوى ذكره هنا اعتمادا على استلزام الوجل إياه لأن من الوجل أن يجل، من فوات الثواب أو نقصانه.
(وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا)التلاوة: القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه، وآيات الله القرآن، سميت آيات لأن وحيها إلى النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وعجز قومه، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات، ويسمى القرآن كله آية أيضا باعتبار دلالة جملته على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذلك في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه. وهذا الإسناد من المجاز العقلي إذ جعلت الآيات بمنزلة فاعل الزيادة في الإيمان.
فإنه لما لم يعرف الفاعل الحقيقي لزيادة الإيمان، إذ تلك الزيادة كيفية نفسية عارضة، لليقين لا يعرف فاعل انقداحها في العقل، وغاية ما يعرف أن يقال: ازداد إيمان فلان، أو ازداد فلان إيمانا، بطريق ما يدل على المطاوعة، ولا التفات في الاستعمال إلى أن الله هو خالق الأحوال كلها إذ ليس ذلك معنى الفاعل الحقيقي في العرف، ولو لوحظ ذلك لم ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز عقليين وإنما الفاعل الحقيقي هو من يأتي الفعل ويصنعه كالكاتب للكتابة والضارب بالسيف للقتل.(1/351)
والإيمان: تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء، أو بانتفاء نسبة شيء عن شيء، تصديقا جازما لا يحتمل نقيض تلك النسبة، وقد اشتهر اسم الإيمان شرعا في اليقين بالنسبة المقتضية وجود الله ووجود صفاته التي دلت عليها الأدلة العقلية أو الشرعية، والمقتضية مجيء رسول الله مخبرا عن الله الذي أرسله وثبوت صفات الرسول عليه الصلاة والسلام التي لا يتم معنى رسالته عن الله بدونها: مثل الصدق فيما يبلغ عن الله، والعصمة عن اقتراف معصية الله تعالى.(1/352)
ومعنى زيادة الإيمان: قوة اليقين في نفس الموقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه، وعن إعادة النظر فيها، ودفع الشك العارض للنفس، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة، وتفاوتها تدرج في الزيادة. ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصا لكنه نقص عن الزيادة، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الإيمان، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله باب زيادة الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيمانا، حتى يوصف بالنقص، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة، في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو بين. ولم يرد عن الشريعة ذكر نقص الإيمان، وذلك هو الذي يريده جمهور علماء الأمة إذا قالوا الإيمان يزيد كما قال مالك بن أنس الإيمان يزيد ولا ينقص، وهي عبارة كاملة، وقد يطلق الإيمان على الأعمال التي تجب على المؤمن وهو إطلاق باعتبار كون تلك الأعمال من شرائع الإيمان، كما أطلق على الصلاة اسم الإيمان في قوله تعالى(وما كان الله ليضيع إيمانكم) ولكن الاسم المضبوط لهذا المعنى هو اسم الإسلام كما يفصح عنه حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فالإيمان قد يطلق على الإسلام وهو بهذا الاعتبار يوصف بالنقص والزيادة باعتبار الإكثار من الأعمال والإقلال، ولكنه ليس المراد في هذه الآية ولا في نظائرها من آيات الكتاب وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يريده بعض علماء الأمة فيقول: الإيمان يزيد وينقص، ولعل الذي ألجأهم إلى وصفه بالنقص هو ما اقتضاه الوصف بالزيادة. وهذا مذهب أشار إليه البخاري في قوله باب من قال إن الإيمان هو العمل . وقال الشيخ ابن أبي زيد وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة(1/353)
الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة ، وهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر ألفاظ القرآن والسنة، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص.
وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان: أن دقائق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقينا بأنها من عند الله، فتزيده استدلالا على ما في نفسه، وذلك يقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي، حتى يحصل كمال التقوى، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي.
وحظ المقام المتعلق بأحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارئ بينهم في أنفس الأموال عندهم، وهو المال المكتسب من سيوفهم، فإنه أحب أموالهم إليهم. وفي الحديث وجعل رزقي تحت ظل رمحي وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله.(1/354)
(وعلى ربهم يتوكلون) صفة ثالثة للمؤمنون أو حال منه، وجعلت فعلا مضارعا للدلالة على تكرر ذلك منهم، ووصفهم بالتوكل على الله وهو الاعتماد على الله في الأحوال والمساعي ليقدر للمتوكل تيسيرا مرة ويعوضه عن الكسب المنهي عنه بأحسن منه من الحلال المأذون فيه.
ومناسبة هذا الوصف للغرض: انهم أمروا بالتخلي عن الأنفال، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكل على الله في تعويضه بأحسن منه.
وتقديم المجرور في قوله (وعلى ربهم يتوكلون)إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله، وإما للتعريض بالمشركين، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام، قال تعالى (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) فيكون الكلام مدحا للمؤمنين، وتعريضا بذم المشركين، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به، لتوهمهم أنهم إذا فوتوه فقد أضاعوا خيرا من الدنيا.
(الذين يقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون) وصفهم بأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله جاء بإعادة الموصول، كما أعيد في قوله (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) في سورة البقرة، وذلك للدلالة على الانتقال، في وصفهم، إلى غرض آخر غير الغرض الذي اجتلب الموصول الأول لأجله، وهو هنا غرض محافظتهم على ركني الإيمان: وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا علاقة للصلة المذكورة هنا بأحكام الأنفال والرضى بقسمها، ولكنه مجرد المدح، وعبر في جانب الصلاة بالإقامة للدلالة على المحافظة عليها وجيء بالفعلين المضارعين في(يقيمون)و(ينفقون)للدلالة على تكرر ذلك وتجدده.(1/355)
واعلم أن مقتضى الاستعمال في الخبر بالصلات المتعاطفة، التي موصولها خبر عن مبتدأ أن تعتبر خبرا بعدة أشياء فهي بمنزلة أخبار متكررة، ومقتضى الاستعمال في الأخبار المتعددة أن كل واحد منها يعتبر خبرا مستقلا عن المبتدأ فلذلك تكون كل صلة من هذه الصلات بمنزلة خبر عن المؤمنين وهي محصور فيها المؤمنون أي حالهم فيكون المعنى، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، إنما المؤمنون الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. وهكذا فمتى اختلت صفة من هذه الصفات اختل وصف الإيمان عن صاحبها، فلذلك تعين أن يكون المراد من القصر المبالغة الآيلة إلى معنى قصر الإيمان الكامل على صاحب كل صلة من هذه الصلات، وعلى صاحب الخبرين، لظهور أن أصل الإيمان لا يسلب من أحد ذكر الله عنده فلا يجل قلبه فإن أدلة قطعية من أصول الذين تنافي هذا الاحتمال فتعين تأويل(المؤمنون)على إرادة أصحاب الإيمان الكامل.
(أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجت عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) جملة مؤكدة لمضمون جملة (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله) إلى آخرها ولذلك فصلت.
وعرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات، فكان المخبر عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم.
وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله (إنما المؤمنون)حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان.
والحق أصله مصدر حق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى (وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا)(1/356)
ويطلق كثيرا، على الكامل في نوعه، الذي لا سترة في تحقق ماهية نوعه فيه، كما يقول أحد لابنه البار به: أنت ابني حقا، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشده ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة وآثارها، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع.
ولكل صيغة قصر: منطوق ومفهوم، فمنطوقها هنا أن الذين جمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقا، ومفهومها أن من انتفى عنه أحد مدلولات تلك الصلات لم يكن مؤمنا حقا أي لم يكن مؤمنا كاملا، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمنا كاملا، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا: أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملا.
ومناسبة هذا الوصف للغرض: انهم أمروا بالتخلي عن الأنفال، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكل على الله في تعويضه بأحسن منه.(1/357)
17-( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ( 1 ) إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 ) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 4 ) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 5 ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 6 ) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ(1/358)
غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 7 ) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 ) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 9 *) الممتحنة
السعدي ذكر كثير من المفسرين ، رحمهم الله ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزاة الفتح . فكتب حاطب إلى المشركين من أهل مكة ، يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ليتخذ بذلك يدا عندهم ، لا شكا ونفاقا ، وأرسله مع امرأة . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه ، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب . وعاتب حاطبا ، فاعتذر بعذر ، قبله النبي صلى الله عليه وسلم . وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم ، وإلقاء المودة إليهم ، وأن ذلك مناف للإيمان ، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو ، والذي لا يبقى من مجهوده في العداوة شيئا ، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه ، فقال تعالى :(1/359)
( يا أيها الذين آمنوا) ، أي : اعملوا بمقتضى إيمانكم ، من ولاية من قام بالإيمان ، ومعاداة من عاداه ، فإنه عدو لله ، وعدو للمؤمنين . (لا تتخذوا عدوي ) عدو الله ( وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) ، أي : تسارعون في مودتهم ، والسعي في أسبابها ، فإن المودة إذا حصلت ، تبعتها النصرة والموالاة ، فخرج العبد من الإيمان ، وصار من جملة أهل الكفران . وهذا المتخذ للكافر وليا ، عادم المروءة أيضا ، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه ، الذي لا يريد له إلا الشر ، ويخالف ربه ووليه ، الذي يريد به الخير ، ويأمره به ، ويحثه عليه ؟ ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار ، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة ، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ، وزعموا أنكم ضلال ، على غير هدى . والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، ومن رد الحق ، فمحال أن يوجد له دليل أو حجة ، تدل على صحة قوله ، بل مجرد العلم بالحق ، يدل على بطلان قول من رده وفساده . ومن عداوتهم البليغة أنهم ( يخرجون الرسول وإياكم) أيها المؤمنون من دياركم ، ويشردونكم من أوطانكم . ولا ذنب لكم في ذلك عندهم ، إلا (أن تؤمنوا بالله ربكم ) الذي يتعين على الخلق كلهم ، القيام بعبوديته ، لأنه رباهم ، وأنعم عليهم ، بالنعم الظاهرة والباطنة . فلما أعرضوا عن هذا الأمر ، الذي هو أوجب الواجبات ، وقمتم به ، عادوكم ، وأخرجوكم ـ من أجله ـ من دياركم . فأي دين ، وأي مروءة وعقل ، يبقى مع العبد إذا والى الكفار ، الذين هذا وصفهم ، في كل زمان أو مكان ؟ ولا يمنعهم منه إلا خوف ، أو مانع قوي . (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي) ، أي : إن كان خروجكم ، مقصودكم به الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وابتغاء رضاه ، فاعملوا بمقتضى هذا ، من موالاة أولياء الله ، ومعاداة أعدائه ، فإن هذا من أعظم الجهاد في سبيله ، ومن أعظم ما(1/360)
يتقرب به المتقربون إلى الله ، ويتبغون به رضاه . (تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) ، أي : كيف تسرون المودة للكافرين ، وتخفونها ، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون ، وما تعلنون ؟ ، فهو وإن خفي على المؤمنين ، فلا يخفى على الله تعالى ، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم ، من الخير والشر . (ومن يفعله منكم) ، أي : موالاة الكافرين بعدما حذركم الله منها ( فقد ضل سواء السبيل ) ، لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل ، والمروءة الإنسانية . ثم بين تعالى شدة عداوتهم ، تهييجا للمؤمنين على عداوتهم ، فقال : "( إن يثقفوكم) " ، أي : يجدوكم ، وتسنح لهم الفرصة في أذاكم . (يكونوا لكم أعداء) ظاهرين ( ويبسطوا إليكم أيديهم) بالقتل والضرب ، ونحو ذلك (وألسنتهم بالسوء) ، أي : بالقول الذي يسوء ، من شتم وغيره . (وودوا لو تكفرون) فإن هذا غاية ما يريدون منكم . فإن احتججتم وقلتم نوالي الكفار ، لأجل القرابة والأموال ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم) من الله شيئا (يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ) . فلذلك حذركم من موالاة الكافرين الذين تضركم موالاتهم .( قد كانت لكم) يا معشر المؤمنين (أسوة حسنة ) ، أي : قدوة صالحة وائتمام ينفعكم . " (في إبراهيم والذين معه) " من المؤمنين ، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا . ( إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ) ، أي : إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ، ومن معه من المؤمنين ، من قومهم المشركين ، ومما يعبدون من دون الله . ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح ، فقالوا : (كفرنا بكم وبدا) ، أي : ظهر وبان ( بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ) أي : البغض بالقلوب ، وزوال مودتها ، والعداوة بالأبدان ، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد ، بل ذلك " أبدا " ما دمتم مستمرين على كفركم ( حتى تؤمنوا بالله وحده) ، أي : فإذا آمنتم بالله وحده ، زالت(1/361)
العداوة والبغضاء ، وانقلبت مودة وولاية . فلكم أيها المؤمنون أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد ، ولوازم ذلك ومقتضياته ، وفي كل شيء تعبدوا به الله وحده . (إلا في خصلة واحدة وهي (قول إبراهيم لأبيه) آزر المشرك ، الكافر المعاند ، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد ، فامتنع فقال إبراهيم له : (لأستغفرن لك و) الحال أني (ما أملك لك من الله من شيء) ، ولكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا . فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم ، في هذه الحالة ، التي دعا بها للمشرك . فليس لكم أن تدعوا للمشركين ، وتقولوا : إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله : {( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة : 113 + 114 ) ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه ، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ، واعترفوا بالعجز والتقصير ، فقالوا : (ربنا عليك توكلنا) ، أي : اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ، ودفع ما يضرنا ، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك . (وإليك أنبنا ) ، أي : رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك ، وجميع ما يقرب إليك ، فنحن في ذلك ساعون ، وبفعل الخيرات مجتهدون ، ونعلم أنا إليك نصير ، فنستعد للقدوم عليك ، ونعمل ما يزلفنا إليك . (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ) ، أي : لا تسلطهم علينا بذنوبنا ، فيفتنونا ، ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان ، ويفتنون أيضا بأنفسهم ، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة ، ظنوا أنهم على الحق ، وأنّا على الباطل ، فازدادوا(1/362)
كفرا وطغيانا . (واغفر لنا) ما اقترفنا من الذنوب والسيئات ، وما قصرنا به من المأمورات . ( ربنا إنك أنت العزيز ) القاهر لكل شيء . ( الحكيم ) الذي يضع الأشياء مواضعها ، فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا ، واغفر لنا ذنوبنا ، وأصلح عيوبنا . ثم كرر الحث على الاقتداء بهم ، قال :(لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ) . وليس كل أحد ، تسهل عليه هذه الأسوة ، وإنما تسهل ( لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) فإن الإيمان ، واحتساب الأجر والثواب ، يسهل على العبد كل عسير ، ويقلل لديه كل كثير ، ويوجب له الاقتداء بعباد الله الصالحين ، والأنبياء والمرسلين ، فإنه يرى نفسه مفتقرا مضطرا إلى ذلك غاية الاضطرار .( ومن يتول ) عن طاعة الله والتأسي برسل الله ، فلن يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئا . ( فإن الله هو الغني) الذي له الغنى التام المطلق ، من جميع الوجوه ، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه بوجه من الوجوه . الحميد " في ذاته وصفاته وأفعاله ، فإنه محمود على ذلك كله . ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر بها المؤمنين للمشركين ، ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا على شركهم وكفرهم ، وأنهم إن انتقلوا إلى الإيمان ، فإن الحكم يدور مع علته ، والمودة الإيمانية ترجع . فلا تيأسوا أيها المؤمنون من رجوعهم إلى الإيمان .(1/363)
( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ) سببها رجوعهم إلى الإيمان . ( والله قدير) على كل شيء ، ومن ذلك ، هداية القلوب ، وتقليبها من حال إلى حال . ( والله غفور رحيم) لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولا عيب أن يستره ، { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} . وفي هذه الآية إشارة وبشارة بإسلام بعض المشركين ، الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين ، وقد وقع ذلك ، ولله الحمد والمنة . ولما نزلت هذه الآيات الكريمات ، المهيجة على عداوة الكافرين ، وقعت من المؤمنين كل موقع ، وقاموا بها أتم القيام ، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه . فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم ، فقال :( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين )، أي : لا ينهاكم الله عن البر والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينصبوا لقتالكم في الدين ، والإخراج من دياركم . فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة ، لا محذور فيها ولا تبعة ، كما قال تعالى في الأبوين الكافرين ، إذا كان ولدهما مسلما :{ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} . وقوله : ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) ، أي : لأجل دينكم ، عداوة لدين الله ، ولمن قام به ( وأخرجوكم من دياركم وظاهروا) ، أي : عاونوا غيرهم( على إخراجكم ) . نهاكم الله ( أن تولوهم) بالنصر والمودة ، بالقول والفعل . وأما بركم وإحسانكم ، الذي ليس بتول للمشركين ، فلم ينهكم الله عنه ، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين ، وغيرهم (ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) ، وذلك(1/364)
الظلم يكون بحسب التولي . فإن كان توليا تاما ، كان ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام ، وتحت ذلك من المراتب ، ما هو غليظ ، وما هو دونه..
الشوكاني لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادتهم فصل القول فيمن يجوز بره منهم ومن لا يجوز فقال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) أي لا ينهاكم عن هؤلاء(أن تبروهم)هذا بدل من الموصول بدل اشتمال. وكذا قوله: (وتقسطوا إليهم) يقال أقسطت إلى الرجل: إذا عاملته بالعدل. قال الزجاج: المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد(إن الله يحب المقسطين)أي العادلين، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم. ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل. قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتار ثم نسخ. قال قتادة: نسختها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهمْ}وقيل هذا الحكم كان ثابتاً في الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل هي خاصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينهم عهد قاله الحسن. وقال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقال مجاهد: هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا، وقيل هي خاصة بالنساء والصبيان. وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة.(1/365)
ثم بين سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته فقال: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم) وهم صناديد الكفر من قريش (وظاهروا على إخراجكم) أي عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم، وقوله: (أن تولوهم) بدل اشتمال من الموصول كما سلف (ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)أي الكاملون في الظلم لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدواً لله ولرسوله ولكتابه وجعلوهم أولياء لهم. وقد أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس(إلا قول إبراهيم لأبيه)قال: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه، وقوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولون لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه(لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة) قال: في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه، وهو مشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: (لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) قال:لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب وفيه نزلت هذه الآية:( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذا الخمار مرتداً، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين. قال: وهو فيمن قال الله فيه: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة). وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي ابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال: كانت المودة التي جعل بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة(1/366)
بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين: فصار معاوية خال المؤمنين. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال:يا رسول الله ثلاث أعطنيهن. قال: نعم، قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها" الحديث. وأخرج الطيالسي وأحمد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب وأقط وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته. فأنزل الله :(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ فأنزل الله: "(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، فقال: نعم صلي أمك".
من آيات النهي عن موالاة الكفار والمشركين
(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء : 115 )(1/367)
(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكسِبون)َ (الأنعام : 129 )
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) المجادلة : 14 + 15 )
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) (الممتحنة : 13 )
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة : 51 )
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة : 23 )
(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة : 9 )(1/368)
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة 78 + 79 + 80 + 81 )
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية : 18+19 )
(وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) (النساء : 89 )
(لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران : 28 )
(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) (النساء 138+ 139 )(1/369)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً) (النساء : 144 )
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة : 57 )
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال : 72 )
(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد : 16 )
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت : 41 )(1/370)
(وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( 7 +8 + 9 + 10 ) الجاثية
وقفة مع ابن تيمية قدس الله سره = الموالاة والمعاداة = الفتاوى الكبرى
*** والموالاة ضد المعاداة، ولا ريب أنه يجب موالاة المؤمنين على سواهم .
*** ظن المرجئة أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل، وحال، وحركة، وإرادة، ومحبة، وخشية في القلب، هذا من أعظم غلطهم مطلقًا، فإن [ أعمال القلوب ] التي يسميها بعض الصوفية أحوالاً ومقامات أو منازل السائرين إلى اللّه أو مقامات العارفين أو غير ذلك، كل ما فيها مما فرضه اللّه ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه ولم يفرضه، فهو من الإيمان المستحب، فالأول لابد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين، وذلك مثل حب اللّه ورسوله، بل أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، بل أن يكون اللّه ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله، ومثل خشية اللّه وحده دون خشية المخلوقين، ورجاء اللّه وحده دون رجاء المخلوقين، والتوكل علي اللّه وحده دون المخلوقين، والإنابة إليهمع خشيته،كما قال تعالى : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ ق : 32 ،33 ] ، ومثل الحب في اللّه والبغض في اللّه والموالاة للّه والمعاداة للّه .(1/371)
***والله ـ سبحانه ـ أمر ألا يعبد إلا إياه ولا يكون الدين إلا له، وتكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به .
***فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك . وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال : ( لعلك أغضبتهم لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ) . فقال لهم : يا إخوتي، هل أغضبتكم ؟ قالوا : لا، يغفر اللّه لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا : ما أخذت السيوف من عدو اللّه مأخذها، فقال لهم أبو بكر : أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا للّه؛ لكمال ما عندهم من الموالاة للّه ورسوله، والمعاداة لأعداء اللّه ورسوله .(1/372)
***تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافيًا لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتًا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على اللّه، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقًا في علمه وقصده في شهادته، وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا باللّه ـ تعالى ـ ذاكرًا له عارفًا به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محبًا للّه، معظمًا له، عابدًا له، راجيًا له خائفًا منه، مواليًا فيه، معاديًا فيه، مستعينًا به، متوكلًا عليه، ممتنعًا عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية اللّه ـ سبحانه وتعالى .
*** في الولاية والعداوة
فإن المؤمنين أولياء الله، وبعضهم أولياء بعض، والكفار أعداء الله، وأعداء المؤمنين . وقد أوجب الموالاة بين المؤمنين، وبين أن ذلك من لوازم الإيمان ، ونهى عن موالاة الكفار، وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين، وبين حال المنافقين في موالاة الكافرين .(1/373)
فأما [ موالاة المؤمنين ] فكثيرة، كقوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 55 ـ 56 ] . وقوله : { ِإنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ* وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * } [ الأنفال : 72-75 ] . وقال تعإلى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62،63 ] .(1/374)
وقال : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } إلى آخر السورة [ سورة الممتحنة ] . وقوله : { لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } [ الممتحنة : 13 ] . وقال : { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّوُرِ } [ البقرة : 257 ] . وقال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَي لَهُمْ } [ محمد : 11 ] . وقال : { وَإِن تَظَاهَرَا عليه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] . وقال : { فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 98 ] . وقال : { َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 23، 24 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ(1/375)
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 51-57 ] . إلى تمام الكلام . وقال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَي كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عليهمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ(1/376)
وَمَا أُنزِلَ إليه مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 78- 81 ] .
فذم من يتولي الكفار من أهل الكتاب قبلنا، وبين أن ذلك ينافي الإيمان : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ النساء : 138 ـ 141 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عليكم سُلْطَانًا مُّبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [ النساء : 144-145 ] .(1/377)
وقال عن المنافقين : { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ } [ البقرة : 14 ] ، كما قال عن الكفار المنافقين من أهل الكتاب : { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عليكم لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 76 ] . وقال : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عليهم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ } ، نزلت فيمن تولي إليهود من المنافقين وقال : { مَّا هُم مِّنكُمْ } ، ولا من إليهود، { وَيَحْلِفُونَ على الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ *إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ(1/378)
أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 22 ) } [ المجادلة : 14 ـ 22 ] . وقال : { َلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ * لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ * لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الحشر : 11-14 ] إلى تمام القصة، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا على أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَي الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَي لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } [ محمد : 25، 26 ] .(1/379)
وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم؛ ولهذا ذكر في [ سورة المائدة ] أئمة المرتدين عقب النهى عن موالاة الكفار قوله : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] . وقال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } [ المائدة : 41 ] .
فذكر المنافقين، والكفار المهادنين، وأخبر أنهم يسمعون لقوم آخرين لم يأتوك، وهو استماع المنافقين والكفار المهادنين للكفار المعلنين الذين لم يهادنوا، كما أن في المؤمنين من قد يكون سماعا للمنافقين كما قال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 47 ] .
وبعض الناس يظن أن المعني : سماعون لأجلهم، بمنزلة الجاسوس ، أي : يسمعون ما يقول وينقلونه إليهم، حتى قيل لبعضهم : أين في القرآن الحيطان لها آذان ؟ قال : في قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } . وكذلك قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب } [ المائدة : 42 ] . أي : ليكذبوا : إن اللام لام التعدية، لا لام التبعية؛ وليس هذا معني الآيتين، وإنما المعني فيكم من يسمع لهم، أي : يستجيب لهم ويتبعهم . كما في قوله : [ سمع اللّه لمن حمده ] استجاب اللّه لمن حمده، أي : قبل منه، يقال : فلان يسمع لفلان، أي : يستجيب له ويطيعه .(1/380)
وذلك أن المسمع وإن كان أصله نفس السمع الذي يشبه الإدراك، لكن إذا كان المسموع طلبًا، ففائدته وموجبه الاستجابة والقبول . وإذا كان المسموع خبرا، ففائدته التصديق والاعتقاد، فصار يدخل مقصوده وفائدته في مسماه نفيا وإثباتا،فيقال : فلان يسمع لفلان، أي : يطيعه في أمره، أو يصدقه في خبره . وفلان لا يسمع ما يقال له، أي : لا يصدق الخبر ولا يطيع الأمر، كما بين اللّه السمع عن الكفار في غير موضع، كقوله : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } [ البقرة : 171 ] ، وقوله : { وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء } [ الأنبياء : 45 ] ؛ وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس بالحركة، وإيجاب علم القلب حركة القلب، فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه، والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه . فحيث انتفي موجب ذلك، دل على انتفاء مبدئه؛ ولهذا قال تعإلى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَي يَبْعَثُهُمُ اللّهُ } [ الأنعام : 36 ] .(1/381)
ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة، أي : يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان، لا يسمعون ما فيها ـ من تأليف الحروف المتضمنة للمعاني ـ السمع الذي لابد أن يكون بالقلب مع الجسم، فقال تعإلى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } ، يقول : هم يستجيبونّ { لِقَوْمٍ آخَرِينَ } ، وأولئك { لَمْ يَأْتُوكَ } ، وأولئك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } يقولون لهؤلاء الذين أتوك : { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } ، كما ذكروا في سبب نزول الآية : أنهم قالوا في حد الزنا، وفي القتل : اذهبوا إلى هذا النبي الأمي، فإن حكم لكم بما تريدونه، فاقبلوه، وإن حكم بغيره، فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه ؟ !
فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه ولو كانوا بمنزلة الجاسوس، لم يخص ذلك بالسماع، بل يرون ويسمعون، وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه ، لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم .
يبين ذلك أنه قال : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 47 ] أي : لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم، ثم قال : وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعني : وفيكم من تجسس لهم، لم يكن مناسبا، وإنما المقصود أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة، وفيكم من يسمع منهم، حصل الشر . وأما الجس، فلم يكونوا يحتاجون إليه، فإنهم بين المؤمنين، وهم يوضعون خلالهم .(1/382)
مما يبين ذلك أنه قال : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } [ المائدة : 42 ] ، فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام، وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام : غذاء الجسوم، وغذاء القلوب، فإنهما غذاءان خبيثان : الكذب والسحت . وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه، يسمع الكذب، كشهادة الزور؛ ولهذا قال : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ المائدة : 63 ] .
فلما كان هؤلاء يستجيبون لغير الرسول، كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم، لم يجب عليه الحكم بينهم، فإنهم متخيرون بين القبول منه، والقبول ممن يخالفه، فكان هو متخيرا في الحكم بينهم، والإعراض عنهم . وإنما يجب عليه الحكم بين من لابد له منه من المؤمنين .
وإذا ظهر المعني، تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب كالمستأمن، والمهادن، والذمي، فإن فيه نزاعا مشهوراً بين العلماء . قيل : ليس بواجب للتخير . وقيل : بل هو واجب، والتخيير منسوخ بقوله : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] . قال الأولون : أما الأمر هنا : أن يحكم بما أنزل اللّه إذا حكم، فهو أمر بصفة الحكم، لا بأصله، كقوله : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 42 ] ، وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [ النساء : 58 ] ، وهذا أصوب، فإن النسخ لا يكون بمحتمل، فكيف بمرجوح ؟ وقيل : يجب في مظالم العباد دون غيرها . والخلاف في ذلك مشهور في مذهب الإمام أحمد، وغيره من الأئمة .(1/383)
وحقيقة الآية : إن كان مستجيبا لقوم آخرين، لم يأتوه، لم يجب عليه الحكم بينهم، كالمعاهد : من المستأمن وغيره، الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم، وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم، فيكون متخيراً بين الطاعة لحكم اللّه ورسوله، وبين الإعراض عنه . وأما من لم يكن إلا مطيعاً لحكم اللّه ورسوله، ليس عنه مندوحة، كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه، وليس له من ينصره من أهل دينه، فهذا ليس في الآية تخيير . وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب، فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولي أن يوجب ذلك .
وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة،وبين ترك ذلك، لم يجب عليه الحكم بينهم . وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم .
ومن هذا الباب : من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق، بل غرضه من يوافقه على هواه، كائنا من كان، سواء كان صحيحاً أو باطلا . فهذا سماع لغير ما بعث اللّه به رسوله، فإن اللّه إنما بعث رسوله بالهدي ودين الحق، فليس على خلفاء رسول اللّه أن يفتوه ويحكموا له، كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين، لم يستجيبوا للّه ورسوله .(1/384)
ومن جنس موالاة الكفار التي ذم اللّه بها أهل الكتاب والمنافقين : الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب اللّه، كما قال تعإلى : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَي مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] . وقد عرف أن سبب نزولها شأن كعب بن الأشرف ـ أحد رؤساء إليهود ـ لما ذهب إلى المشركين، ورجح دينهم على دين محمد وأصحابه . والقصة قد ذكرناها في [ الصارم المسلول ] لما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذي اللّه ورسوله ) .
ونظير هذه الآية قوله ـ تعالى ـ عن بعض أهل الكتاب : { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية [ البقرة : 101، 102 ] . فأخبر أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب اللّه، كما يفعله كثير من إليهود، وبعض المنتسبين إلى الإسلام من اتباعهم ومن السحرة ـ أعداء إبراهيم وموسى ـ ومن المتفلسفة ونحوهم ،وهو كإيمانهم بالجبت والطاغوت، فإن الطاغوت هو : الطاغي من الأعيان، والجبت : هو من الأعمال والأقوال، كما قال عمر بن الخطاب : الجبت السحر، والطاغوت الشيطان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( العرافة والطيرة، والطرق من الجبت ) . رواه أبو داود .(1/385)
وكذلك ما أخبر عن أهل الكتاب بقوله : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عليه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [ المائدة : 60 ] أي : ومن عبد الطاغوت ، فإن أهل الكتاب كان منهم من أشرك، وعبد الطواغيت .
فهنا ذكر عبادتهم للطاغوت، وفي [ البقرة ] ذكر اتباعهم للسحر، وذكر في [ النساء ] إيمانهم بهما جميعا بالجبت والطاغوت .
وأما التحاكم إلى غير كتاب اللّه، فقد قال : { أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إلىكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } [ النساء : 60، 61 ] .
والطاغوت : فعلوت من الطغيان . كما أن الملكوت : فعلوت من الملك . والرحموت، والرهبوت، والرغبوت : فعلوت من الرحمة،والرهبة، والرغبة . والطغيان : مجاوزة الحد، وهو الظلم والبغي . فالمعبود من دون اللّه إذا لم يكن كارها لذلك : طاغوت؛ ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال : ( ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت ) . والمطاع في معصية اللّه، والمطاع في اتباع غير الهدي ودين الحق ـ سواء كان مقبولا خبره المخالف لكتاب اللّه، أو مطاعا أمره المخالف لأمر اللّه ـ هو طاغوت؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه، من حاكم بغير كتاب اللّه طاغوت، وسمى اللّهُ فرعونَ وعاداً طغاة وقال في صيحة ثمود : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } [ الحاقة : 5 ] .(1/386)
فمن كان من هذه الأمة موإلياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب، ببعض أنواع الموالاة، ونحوها : مثل إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم، وفعالهم الباطل، كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك، وذلك مثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم، كنحو أقوال الصابئة وأفعالهم، من الفلاسفة ونحوهم، المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال إليهود، والنصاري، وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة، ونحو أقوال المجوس والمشركين وأفعالهم المخالفة للكتاب والسنة .
ومن تولي أمواتهم، أو أحياءهم، بالمحبة والتعظيم والموافقة، فهو منهم كالذين وافقوا أعداء إبراهيم الخليل : من الكِلدانيين وغيرهم من المشركين، عبَّاد الكواكب أهل السحر، والذين وافقوا أعداء موسى، من فرعون وقومه بالسحر . أو ادعي أنه ليس ثم صانع غير الصنعة، ولا خالق غير المخلوق، ولا فوق السموات إله، كما يقوله الاتحادية، وغيرهم من الجهمية . والذين وافقوا الصابئة والفلاسفة فيما كانوا يقولونه في الخالق ورسله و في أسمائه وصفاته ، والمعاد، وغير ذلك .
ولا ريب أن هذه الطوائف، وإن كان كفرها ظاهراً، فإن كثيرا من الداخلين في الإسلام، حتى من المشهورين بالعلم، والعبادة، والإمارة، قد دخل في كثير من كفرهم، وعظمهم، ويري تحكيم ما قرروه من القواعد ونحو ذلك . وهؤلاء كثروا في المستأخرين، ولبَّسوا الحق الذي جاءت به الرسل بالباطل الذي كان عليه أعداؤهم .(1/387)
واللّه ـ تعإلى ـ يحب تمييز الخبيث من الطيب، والحق من الباطل، فيعرف أن هؤلاء الأصناف منافقون، أو فيهم نفاق ، وإن كانوا مع المسلمين، فإن كون الرجل مسلما في الظاهر لا يمنع أن يكون منافقاً في الباطن، فإن المنافقين كلهم مسلمون في الظاهر، والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم . وإذا كانوا موجودين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي عزة الإسلام، مع ظهور أعلام النبوة، ونور الرسالة، فهم مع بُعدهم عنهما أشد وجودا، لاسيما وسبب النفاق هو سبب الكفر، وهو المعارض لما جاءت به الرسل .
وَسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره، أو كلاهما للّه تعإلى ؟ وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره للّه ـ تعإلى ـ من الشروط ؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا ؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الرد عليه أم لا ؟ وهل يستمر البغض والهجران للّه ـ عز وجل ـ حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها أم يكون لذلك مدة معلومة ؟ فإن كان لها مدة معلومة، فما حدها ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب :
الهجر الشرعي نوعان : أحدهما : بمعني الترك للمنكرات . والثاني : بمعني العقوبة عليها .
فالأول : هو المذكور في قوله تعإلى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 68 ] . وقوله تعإلى : { وَقَدْ نَزَّلَ عليكم فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] .(1/388)
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة، مثل قوم يشربون الخمر، يجلس عندهم . وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك . بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره؛ ولهذا يقال : حاضر المنكر كفاعله . وفي الحديث : ( من كان يؤمن باللّه وإلىوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر ) . وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات . كما قال صلى الله عليه وسلم : ( المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه ) .
ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر اللّه به، ومن هذا قوله تعإلى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [ المدثر : 5 ] .
النوع الثاني : الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا، حتى أنزل اللّه توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير،وإن كان منافقاً . فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير .
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات، وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع .(1/389)
وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة : إن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلى خلفهم، ولا يُؤخذ عنهم العلم، ولا يُناكحون . فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات، فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى اللّه، مع علمه بحال كثير منهم؛ ولهذا جاء في الحديث : ( إن المعصية إذا خفيت، لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر، ضرت العامة ) . وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم اللّه بعقاب منه ) .
فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة .
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله . فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعا . وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر .
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين . كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح .(1/390)
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل؛ ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه .
وإذا عرف هذا، فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله . فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابا، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به، كان خارجا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة لله .
والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) . فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث، كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك باللّه شيئاً، إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا ) . فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت . وكما رخص في هجر الثلاث .(1/391)
فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق اللّه،وبين الهجر لحق نفسه . فالأول مأمور به . والثاني منهي عنه؛ لأن المؤمنين إخوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللّه إخواناً، المسلم أخو المسلم ) ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن : ( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؟ ) قالوا : بلي يا رسول اللّه ! قال : ( إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول : تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين ) . وقال في الحديث الصحيح : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذ اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر ) .
وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية . فهو من جنس الجهاد في سبيل اللّه . وهذا يفعل لأن تكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدين كله للّه . والمؤمن عليه أن يعادي في اللّه، ويوإلى في اللّه، فإن كان هناك مؤمن، فعليه أن يوإليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعإلى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَي فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات : 9، 10 ] ، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم .(1/392)
فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدي عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك . فإن اللّه ـ سبحانه ـ بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله للّه، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه .
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطي من بيت المال ما يكفيه لحاجته .
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقا للثواب فقط، وإلا مستحقا للعقاب فقط . وأهل السنة يقولون : إن اللّه يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم . واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ....
18- (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ *) الصف
ابن كثير(1/393)
يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي منيع الجناب {الحكيم} في قدره وشرعه
وقوله:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون )إنكار على من يعد عدة، أو يقول قولاً لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" وفي الحديث الآخر في الصحيح: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها" -فذكر منهن إخلاف الوعد ... ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)
-وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم [في بيتنا] وأنا صبي قال: فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أردت أن تعطيه؟". قالت: تمرا. فقال: "أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة"(1/394)
-وذهب الإمام مالك، رحمه الله، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غرم على الموعود وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: "تزوج ولك علي كل يوم كذا". فتزوج، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرضية الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) [النساء : 77، 78]. وقال تعالى:( َيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ( 20 ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ([محمد : 20+21] وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله -عز وجل-دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به. فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) ؟. وهذا اختيار ابن جرير .(1/395)
-وقال مقاتل بن حيان: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به. فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا )فبين لهم، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنزل الله في ذلك:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) ؟ وقال: أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.
-ومنهم من يقول: أنزلت في شأن القتال، يقول الرجل: "قاتلت"، ولم يقاتل وطعنت" ولم يطعن و "ضربت"، ولم يضرب و "صبرت"، ولم يصبر.
-وقال قتادة، والضحاك: نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون: "قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا". ولم يكونوا فعلوا ذلك.
-وقال ابن يزيد: نزلت في قوم من المنافقين، كانوا يعدون المسلمين النصر، ولا يفون لهم بذلك.
-وقال مالك، عن زيد بن أسلم:( لم تقولون ما لا تفعلون) ؟، قال: في الجهاد.
-وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لم تقولون ما لا تفعلون إلى قوله: كأنهم بنيان مرصوص فما بين ذلك: في نفر من الأنصار، فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله، لعملنا بها حتى نموت. فأنزل الله هذا فيهم. فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت. فقتل شهيدا.
-وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل، كلهم قد قرأ القرآن، فقال. أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أني قد حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة.(1/396)
ولهذا قال الله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
-وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هشيم، قال مجالد أخبرنا عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال".
-ورواه ابن ماجة من حديث مجالد، عن أبي الوداك جبر بن نوف، به .
-وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا الأسود -يعني ابن شيبان-حدثني يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: قال مطرف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديث، فكنت أشتهي لقاءك، فقال : لله أبوك ! فقد لقيت، فهات. فقلت: كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة؟ قال: أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم. قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله؟ قال: رجل غزا في سبيل الله، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل، ثم قرأ (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص )وذكر الحديث.(1/397)
-وعن كعب الأحبار أنه قال: يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "عبدي المتوكل المختار ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال، وفي كل منزلة، لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر، يوضون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة". ثم قرأ: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص )رعاة الشمس، يصلون الصلاة حيث أدركتهم، ولو على ظهر دابة" رواه بن أبي حاتم.
-وقال سعيد بن جبير في قوله( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال: وقوله: كأنهم بنيان مرصوص ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال.+
-وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض.
-وقال ابن عباس: كأنهم بنيان مرصوص مثبت، لا يزول، ملصق بعضه ببعض.
-وقال قتادة: كأنهم بنيان مرصوص ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل [يحب أن] لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به. أورد ذلك كله ابن أبي حاتم.
-وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني، حدثنا بقية بن الوليد، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض، لقول الله عز وجل: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) قال: وكان أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني التفت في الصف فجثوا في لحيي..
وقفة مع الامام النووي رحمه الله في شرح ثلاثة أحاديث في فضل الجهاد وثوابه واستحباب طلبه
1*باب فضل الجهاد والخروج في سبيل اللّه(1/398)
*وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ (وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ) عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَضَمّنَ اللّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلاّ جِهَاداً فِي سَبِيلي، وَإِيمَاناً بِي، وَتَصْدِيقاً بِرُسُلِي. فَهُوَ عَلَيّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنّةَ. أَوْ أَرْجِعَهُ إلَىَ مَسْكَنِهِ الّذِي خَرَجَ مِنْهُ. نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللّهِ، إلاّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ. وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَشُقّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللّهِ أَبَداً. وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ. وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً. وَيَشُقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنّي. وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللّهِ فَأُقْتَلُ. ثُمّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ. ثُمّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ".
*وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ.(1/399)
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَامِيّ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَكَفّلَ اللّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ. لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلاّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ. بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنّةَ. أَوْ يَرْجِعَهُ إلَىَ مَسْكَنِهِ الّذِي خَرَجَ مِنْهُ. مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ".
حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ، وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إلاّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ، اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرّيحُ رِيحُ مِسْكٍ".
*وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللّهِ. ثُمّ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إذَا طُعِنَتْ تَفَجّرُ دَماً. اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ". وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ فِي يَدِهِ لَوْلاَ أَنْ أَشُقّ عَلَىَ الْمُؤْمِنِينَ مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللّهِ. وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ. وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتّبِعُونِي. وَلاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي".(1/400)
*وحدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرِيرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيّةٍ" بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ. وَبِهَذَا الإِسْنَادِ "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ. ثُمّ أُحْيَىَ" بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
*وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الوَهّابِ (يَعْنِي الثّقَفِيّ). ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. كُلّهُمْ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقّ عَلَىَ أُمّتِي لأَحْبَبْتُ أَنْ لاَ أَتَخَلّفَ خَلْفَ سَرِيّةٍ" نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَضَمّنَ اللّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ" إلَىَ قوله: "مَا تَخَلّفْتُ خِلاَفَ سَرِيّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللّهِ تَعَالَىَ".(1/401)
-قوله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً إلى قوله: أن أدخله الجنة" وفي الرواية الأخرى: "تكفل الله" ومعناهما أوجب الله تعالى له الجنة بفضله وكرمه سبحانه وتعالى، وهذا الضمان والكفالة موافق لقوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} الاَية. قوله سبحانه وتعالى: "لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي"هكذا هو في جميع النسخ جهاداً بالنصب وكذا قال بعده: "وإيماناً بي وتصديقاً" وهو منصوب على أنه مفعول له، وتقديره لا يخرجه المخرج ويحركه المحرك إلا للجهاد والإيمان والتصديق. قوله: "لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي وإيماناً بي وتصديقاً برسلي" معناه لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى. قوله في الرواية الأخرى: (وتصديق كلمته) أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله في الأخبار بما للمجاهد من عظيم ثوابه. قوله تعالى: "فهو علي ضامن" ذكروا في ضامن هنا وجهين: أحدهما: أنه بمعنى مضمون كماء دافق ومدفوق، والثاني: أنه بمعنى ذو ضمان. قوله تعالى: "أن أدخله الجنة" قال القاضي: يحتمل أن يدخل عند موته كما قال تعالى في الشهداء: (أحياء عند ربهم يرزقون) وفي الحديث: (أرواح الشهداء في الجنة) قال: ويحتمل أن يكون المراد دخوله الجنة عند دخول السابقين والمقربين بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب، وتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما صرح به في الحديث الصحيح. قوله: (أو أرجعه إلى مسكنه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة) قالوا معناه ما حصل له من الأجر بلا غنيمة إن لم يغنم، أو من الأجر والغنيمة معاً إن غنموا، وقيل: إن أو هنا بمعنى الواو أي من أجر وغنيمة، وكذا وقع بالواو وفي رواية أبي داود، وكذا وقع في مسلم في رواية يحيى بن يحيى التي بعد هذه بالواو، ومعنى الحديث أن الله تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال خيراً بكل حال، فإما أن يستشهد فيدخل الجنة، وإما أن يرجع بأجر، وإما أن يرجع(1/402)
بأجر وغنيمة. قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك" أما الكلم بفتح الكاف وإسكان اللام فهو الجرح، ويكلم بإسكان الكاف أي يجرح، وفيه دليل على أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا غيره، والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلته وبذله نفسه في طاعة الله تعالى، وفيه دليل على جواز اليمين وانعقادها بقوله: (والذي نفسي بيده) ونحو هذه الصيغة من الحلف بما دل على الذات ولا خلاف في هذا، قال أصحابنا: اليمين تكون بأسماء الله تعالى وصفاته أو ما دل على ذاته. قال القاضي: واليد هنا بمعنى القدرة والملك. قوله: (والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله) أي خلفها وبعدها، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المسلمين والرأفة بهم، وأنه كان يترك بعض ما يختاره للرفق بالمسلمين، وأنه إذا تعارضت المصالح بدأ بأهمها، وفيه مراعاة الرفق بالمسلمين والسعي في زوال المكروه والمشقة عنهم. قوله: (لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل) فيه فضيلة الغزو والشهادة، وفيه تمني الشهادة والخير وتمني ما لا يمكن في العادة من الخيرات، وفيه أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين. قوله صلى الله عليه وسلم: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" هذا تنبيه على الإخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، قالوا: وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من خرج في سبيل الله في قتال البغاة وقطاع الطريق، وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وجرحه يثعب" هو بفتح الياء والعين وإسكان المثلثة بينهما، ومعناه يجري متفجراً أي كثيراً وهو بمعنى الرواية الأخرى(1/403)
يتفجر دماً. قوله صلى الله عليه وسلم: "تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت"
الضمير في كهيئتها يعود على الجراحة، وإذا طعنت بالألف بعد الذال كذا في جميع النسخ. قوله صلى الله عليه وسلم: "والعرف عرف المسك" هو بفتح العين المهملة وإسكان الراء وهو الريح
2* باب بيان ما أعده اللّهِ تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات
*حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلاَنِيّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحُبُلِيّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِيَ بِاللّهِ رَبّاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، وَبِمُحَمّدٍ نَبِيّاً، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّةُ" فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ. فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيّ. يَا رَسُولَ اللّهِ فَفَعَلَ. ثُمّ قَالَ: "وَأُخْرَىَ يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنّةِ. مَا بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ" قَالَ: وَمَا هِيَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ. الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ"(1/404)
قوله صلى الله عليه وسلم: "وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله" قال القاضي عياض رضي الله عنه: يحتمل أن هذا على ظاهره وأن الدرجات هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة كما جاء في أهل الغرف أنهم يتراؤون كالكوكب الدري، قال: ويحتمل أن المراد الرفعة بالمعنى من كثرة النعيم وعظيم الإحسان مما لم يخطر على قلب بشر ولا بصفة مخلوق، وأن أنواع ما أنعم الله به عليه من البر والكرامة يتفاضل تفاضلاً كثيراً، ويكون تباعده في الفضل كما بين السماء والأرض في البعد، قال القاضي: والاحتمال الأول أظهر وهو كما قال والله أعلم ...
3*باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى
*حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ. حَدّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ طَلَبَ الشّهَادَةَ صَادِقاً، أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ".
* حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ (وَاللّفْظُ لِحَرْمَلَةَ) (قَالَ أَبُو الطّاهِرِ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ: حَرْمَلَةُ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ). حَدّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ أَنّ سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ حَدّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَنْ سَأَلَ اللّهَ الشّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلّغَهُ اللّهُ مَنَازِلَ الشّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَىَ فِرَاشِهِ" وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الطّاهِرِ فِي حَدِيثِهِ "بِصِدْقٍ
".(1/405)
قوله صلى الله عليه وسلم: "من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه"وفي الرواية الأخرى: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" معنى الرواية الأولى مفسر من الرواية الثانية، ومعناهما جميعاً أنه إذا سأل الشهادة بصدق أعطي من ثواب الشهداء وإن كان على فراشه، وفيه استحباب سؤال الشهادة واستحباب نية الخير. اه
+++ حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الأزدي حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش وأخبرنا أبو زكريا العنبري واللفظ له حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا إسحاق أنبأ جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت والحكم بن عتيبة عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل رضى الله تعالى عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقد أصاب الحر فتفرق القوم حتى نظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقربهم مني قال فدنوت منه فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار . قال:" لقد سألت عن عظيم وأنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال "وإن شئت أنبأتك بأبواب الجنة" قلت: أجل يا رسول الله . قال: الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله" قال ثم قرأ هذه الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } قال:" وإن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه " قلت :أجل يا رسول الله .قال:" أما رأس الأمر فالإسلام وأما عموده فالصلاة وأما ذروة سنامه فالجهاد في سبيل الله وإن شئت أنبأتك بملاك ذلك كله فسكت فإذا راكبان يوضعان قبلنا فخشيت أن يشغلاه عن حاجتي فقلت: ما هو يا رسول الله ؟ قال فأهوى بإصبعه إلى فيه قال فقلت :يا رسول الله وإنا لنؤاخذ بما نقول بألسنتنا ؟ قال : ثكلتك أمك بن(1/406)
جبل هل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم هذا لفظ حديث جرير ولم يذكر أبو إسحاق الفزاري في حديثه الحكم بن عتيبة هذا حديث. صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه الحاكم
19 (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )(آل عمران31 + 32 )
ابن كثير هذه الاَية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي, والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله, كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ولهذا قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم, وهو أعظم من الأول, كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب, إنما الشأن أن تَُحَب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله, فابتلاهم الله بهذه الاَية, فقال {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} --وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا عبيد الله بن موسىَ عن عبد الأعلى بن أعين, عن يحيى بن أبي كثير, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم <<وهل الدين إلا الحب والبغض >> ِِقال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}
- قال أبو زرعة عبد الأعلى هذا منكر الحديث.(1/407)
ثم قال تعالى: {ويغفر لكم ذنوبكم, والله غفور رحيم} أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه وسلم, يحصل لكم هذا كله من بركة سفارته, ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام {قل أطيعوا الله والرسول} {فإن تولوا} أي خالفوا عن أمره {فإن الله لا يحب الكافرين} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر, والله لا يحب من اتصف بذلك, وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين: الجن والإنس, الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه, والدخول في طاعته, واتباع شريعته...
القرطبي الحب: المحبة، وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب؛ مثل الخِدن والخَدين؛ يقال أحبه فهو محب، وحبه يحبه (بالكسر) فهو محبوب. قال الجوهري: وهذا شاذ؛ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر. قال أبو الفتح: والأصل فيه حَبُب كظرف، فأسكنت الباء وأدغمت في الثانية. قال ابن الدهان سعيد: في حَبّ لغتان: حَبّ وأحَبّ، وأصل "حب" في هذا البناء حَبُب كظرف؛ يدل على ذلك قولهم: حَبُبْت، وأكثر ما ورد فعيل من فعل. قال أبو الفتح: والدلالة على أحب قوله تعالى: "يحبهم ويحبونه" [المائدة: 54] بضم الياء. و"اتبعوني يحببكم الله" [آل عمران: 31] و"حَبّ" يرد على فعل لقولهم حبيب. وعلى فعل كقولهم محبوب: ولم يرد اسم الفاعل من حب المتعدي، فلا يقال: أنا حاب. ولم يرد اسم المفعول من أفعل إلا قليلا؛ كقوله: مني بمنزلة المحب المكرم
-وحكى أبو زيد: حببته أحبه. وأنشد: فوالله لولا تمره ما حببته ولا كان أدنى من عويف وهاشم
-وأنشد: لعمرك إنني وطلاب مصر لكالمزداد مما حب بعدا
-وحكى الأصمعي فتح حرف المضارعة مع الياء وحدها. والحب الخابية، فارسي معرب، والجمع حِباب وحِبَبَة؛ حكاه الجوهري.(1/408)
-والآية نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادعوه في عيسى حب لله عز وجل؛ قاله محمد بن جعفر بن الزبير. -وقال الحسن وابن جريج: نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الذين نحب ربنا. وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا؛ فأنزل الله عز وجل: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني". قال ابن عرفة: المحبة عند العرب إرادة الشيء على قصد له. وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما؛ قال الله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني". ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران؛ قال الله تعالى: "إن الله لا يحب الكافرين" [آل عمران: 32] أي لا يغفر لهم. وقال سهل بن عبدالله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة؛ وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة.(1/409)
-وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" قال: (على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس) خرجه أبو عبدالله الترمذي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض). .... وقرأ أبو رجاء العطاردي (فاتبَعوني) بفتح الباء، "ويغفر لكم" عطف على "يحببكم".
- وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من "يغفر" في اللام من "لكم". قال النحاس: لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في اللام، وأبو عمرو أجل من أن يغلط في مثل هذا، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة.
-قوله تعالى: "قل أطيعوا الله والرسول" أمر بطاعته جل وعز أولاَ، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه."فإن تولوا" شرط، إلا أنه ماض لا يعرب. والتقدير فإن تولوا على كفرهم وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله "فإن الله لا يحب الكافرين" أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم كما تقدم. وقال "فإن الله" ولم يقل "فإنه" لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره؛ وأنشد سيبويه: لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا...(1/410)
البغوي قوله تعالى:"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله وإحباؤه.وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش ، وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها (الشنوف) وهم يسجدون لها ، فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم ابرهيم واسماعيل فقالت له قريش انما نعبدها حباً لله ليقربونا الى الله زلفى ، فقال الله تعال :( قل )يامحمد (أن كنتم تحبون الله) وتعبدون الأصنام ليقربوكم إليه( فاتبعوني يحببكم الله) فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم ، أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله ، فحب المؤمنين لله اتباعهم امره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته ، وحب الله المؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى :"ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم".
- وقيل لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لأصحابه أن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم. فنزل قوله تعالى:(قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا ) اعرضوا عن طاعتهما (فإن الله لا يحب الكافرين ) لايرضى فعلهم ولا يغفر لهم.(1/411)
- أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا احمد بن عبد الله النعيمي،أنا محمد بن يوسف،أنامحمد بن إسماعي،أنامحمد بن سنان،أنا فليح،أنا هلال بن علي عنعطاء بن يسار عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:<كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى> قالوا ومن يأبى ؟ قال <من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى> -أخبرنا عبد الواحد المليحي،أنااحمد بن عبد الله النعيمي،أنامحمد بن يوسف،أنا محمد اسماعيل أنا محمد بن عبادة ، أنايزيد،أنا سليم بن حيان (واثنى عليه )، أنا سعيد بن ميناء قال: حدثنا او سمعت جابر بن عبد الله يقول: "جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم .فقال بعضهم : إنه نائم وقال بعضهم : إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً ، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ،فقالوا: أولوها له يفقهها ، فقالوا: أما الدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله ومن عصى محمداً فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس"...
السعدي قوله تعالى :( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين )(1/412)
هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى مجردة فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقا إلى محبته ورضوانه فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه فكأنه قيل ومع ذلك فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها فأجاب بقوله( قل أطيعوا الله والرسول) بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخير فإن تولوا عن ذلك فهذا هو الكفر والله لا يحب الكافرين...
ابن عطية اختلف المفسرون فيمن أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول له هذه المقالة:
- فقال الحسن بن أبي الحسن وابن جريج إن قوما قالوا للنبي عليه السلام يا محمد إنا نحب ربنا فنزلت هذه الآية في قولهم جعل الله فيها اتّباع محمد علما لحبه(1/413)
-وقال محمد بن جعفر بن الزبير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لنصارى نجران أي إن كان قولكم في عيسى وغلوكم في أمره حبا لله ( فاتبعوني )ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدعون أنهم يحبون الله ويحبهم ألا ترى أن جميعهم قالوا _( نحن أبناء الله وأحباؤه ) المائدة 18 ولفظ أحباؤه إنما يعطي أن الله يحبهم لكن يعلم أن مرادهم ومحبوه فيحسن أن يقال لهم ( قل إن كنتم تحبون الله) وقرأ الزهري فاتبعونّي بتشديد النون وقرأ أبو رجاء يَحبُبكم بفتح الياء وضم الباء الأولى من حب وهي لغة قال الزجاج حببت قليلة في اللغة وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت وعليها استعمل محبوب والمحبة إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد وقد تكون الإرادة المجردة فيما يكره المريد والله تعالى يريد وقوع الكفر ولا يحبه ومحبة العبد لله تعالى يلزم عنها ولا بد أن يطيعه وتكون أعماله بحسب إقبال النفس وقد تمثل بعض العلماء حين رأى الكعبة فأنشد ( هذه داره وأنت محب * ما بقاء الدموع في الآماق ) ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهديا مسددا ذا قبول في الأرض فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عز وجل وذكر الزجاج أن أبا عمرو قرأ يغفر لكم بإدغام الراء في اللام وخطأ القراء وغلط من رواها عن أبي عمرو فيما حسبت وذهب الطبري إلى أن قوله ( قل أطيعوا الله والرسول ) خطاب لنصارى نجران وفي قوله ( فإن الله لا يحب الكافرين ) وعيد ويحتمل أن يكون بعد الصدع...
أبو بكر جابرالجزائري من هداية الآيتين:
1- محبة العبد للرب تعالى واجب وإيمان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:< أحبوا لله تعالى لما يغذوكم به، من النعم وأحبونى بحب الله تعالى > وقوله صلى الله عليه وسلم <لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما >(1/414)
2- محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولوا العلم في الحياة.
3- طريق الحصول على محبّة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإِيمان بما جاء به واتباع شرعه وطاعته في المَنْشَط والمكره، للآية { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } إذ ليس الشأن أن يُحِبَّ العبد، وإنما الشأن أن يُحَبّ!
4- دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة وصاحبها خاسر لا محالة.
وقفة مع القاضي عياض رحمه الله في كتابه : الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم
في لزوم محبته (
قال الله تعالى : (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين )[ سورة التوبة / 9 ، الآية : 24 ] .
فكفى بهذا حضاً و تنبيهاً و دلالة و حجة على إلزام محبته ، و وجوب فرضها ، و عظم خطرها ، و استحاقه لها (، إذ قرَّع تعالى من كان مالُه و أهله و ولده أحبَّ إليه من الله و رسوله ، و أوعدهم بقوله تعالى :( فتربصوا حتى يأتي الله بأمره )[ سورة التوبة / 9 ، الآية : 24 ] .
ثم فسَّقهم بتمام الآية ، و أعلمهم أنهم ممن ضل و لم يهده الله .
- عن أنس رضي الله عنه ـ أن رسول الله أن رسول الله ( قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده و والده و الناس أجمعين .
-وعن أنس أيضا ، عنه ( : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، و أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار .
-وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : لأنت أحب إلي من شيء إلا نفسي التي بين جنبي .
فقال النبي ( : لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه .(1/415)
فقال عمر : و الذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي .
فقال النبي ( : الآن يا عمر .
-قال سهل : من لم ير ولاية الرسول عليه في جميع الأحوال ، و يرى نفسه في ملكه ( لا يذوق حلاوة سنته ، لأن النبي ( قال " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه .
في ثواب محبته (
- عن أنس رضي الله عنه -أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : متى الساعة يا رسول الله ؟ قال : ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها من كثير صلاة و لا صوم و لا صدقة ، و لكني أحب الله و رسوله . قال : أنت مع من أحببت .
-وعن صفوان بن قدامة : هاجرت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، ناولني يدك
أبايعك . فناولني يده ، فقلت يا رسول الله ، إني أحبك . قال : المرء مع من أحب .
-وعن علي أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ بيد حسن و حسين ، فقال : من أحبني و أحب هذين و أباهما و أمهما كان معي في درجتي يوم القيامة .
-وروي أن رجلاً أتى النبي ( فقال : يا رسول الله ، لأنت أحب إلي من أهلي و مالي ، و إني لأذكرك فما أصبرحتى أجيء فأنظر إليك ، و إني ذكرت موتي و موتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، و إن دخلتها لا أراك . فأنزل الله تعالى : (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )فدعا به فقرأها عليه .
وفي حديث آخر : كان رجل عند النبي ( ينظر إليه لا يطرف ، فقال ما بالك ؟ قال : بأبي و أمي ! أتمتع من النظر إليك ، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله ، فأنزل الله الآية .
و في حديث أنس رضي الله عنه : من أحبني كان معي في الجنة .
فصل
فيما روي عن السلف و الأئمة من محبتهم للنبي ( و شوقهم له
- عن أبي هريرة رضي الله عنه -أن رسول الله ( قال من أشد أمتي لي حباً يكونون بعدي ، يود أحدهم لو رآني بأهله و ماله .(1/416)
-و قد تقدم حديث عمر رضي الله عنه ، و قوله للنبي ( : لأنت أحب إلى من نفسي . و ما تقدم عن الصحابة في مثله
-وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه : ما كان أحد أحب إلي من رسول الله (
-وعن عبدة بنت خالد بن معدان ، قالت : ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا و هو يذكر من شوقه إلى رسول الله ( وإلى أصحابه من المهاجرين و الأنصار يسميهم و يقول : هم أصلي و فصلي ، و إليهم يحن قلبي ، طال شوقي ، فعجل رب قبضي إليك ، حتى يغلبه النوم .
-وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للنبي ( : و الذي بعثك بالحق لَإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه - يعني أباه أبا قحافة ، و ذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك .
ونحوه عن عمر بن الخطاب ، قاله للعباس رضي الله عنه : أن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، لأن ذلك أحب إلى رسول الله ( .
-وعن ابن إسحاق ان امرأة من الأنصار قتل أبوها و أخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله ( ، فقالت : ما فعل رسول الله صلىالله عليه و سلم ؟ قالوا : خيراً ، هو بحمد الله كما تحبين . قالت : أرونيه حتى أنظر إليه . فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل .
-وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف كان حبكم لرسول الله ( ؟ قال : كان و الله أحب إلينا من اموالنا و أولادنا و أبائنا و أمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظمأ .
-وعن زيد بن أسلمك : خرج عمر رضي اللله عنه ليلة يحرس الناس ، فرأى مصباحاً في بيت ، و إذا عجوز تنفش صوفاً ، و تقول :
على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواماً بكاً بالأسحار يا ليت شعري و المنايا أطوار
هل تجمعني و حبيبي الدار
تعني النبي (. فجلس عمر رضي الله عنه يبكي ، و في الحكاية طول .
-وروي أن عبد الله بن عمر خدرت رجله تعالى فقيل له : اذكر أحب الناس إليك يزل عنك . فصاح : يا محمداه ! فانتشرت .(1/417)
-ولما احتضر بلال رضي الله عنه نادت امرأته : و احزناه ! فقال : واطرباه ! غداً ألقى الأحبهْ . محمداً و حزبهْ .
-و يروى أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : اكشفي لي قبر رسول الله ( ، فكشفته لها فبكت حتى ماتت .
و لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه قال ابو سفيان ابن حرب : أنشدك بالله يا زيد ، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه ، و إنك في أهلك ؟
فقال زيد : و الله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة و إني جالس في أهلي .
فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ! .
وعن ابن عباس : كان المرأة إذا أتت النبي صلى الله عليه و سلم حلفها بالله : ما خرجت من بغض زوج و لا رغبة بأرض عن ارض ، وما خرجت إلا حباً لله ورسوله .
ووقف ابن عمر على ابن الزبير رضي الله عنهما بعد قتله فاستغفر له ، و قال : كنت و الله ما علمتُ صواماً قواماً تحب اللهَ ور سولَه .
فصل
في علامة محبته (
اعلم أن من أحب شيئاً آثره و آثر موافقته ، و إلا لم يكن صادقاً في حبه ، و كان مدعياً . فالصادق في حب النبي ( من تظهر علامة ذلك عليه ، و أولها الاقتداء به ، و استعمال سنته ، و اتباع أقواله و أفعاله ، و اجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه في عسره و يسره ، و منشطه و مكرهه ، و شاهد هذا قوله تعالى : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )[ سورة آل عمران /3 ، الآية : 31 ] .
وإيثار ما شرعه و حض عليه على هوى نفسه و موافقة شهوته ، قال الله تعالى : (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) [ سورة الحشر /59 ، الآية : 9 ] .
و إسخاط العباد في رضا الله تعالى .(1/418)
- عن سعيد بن المسيب ، قال : قال أنس ب ن مالك رضي الله عنه : قال لي رسول الله ( : يا بني ، إن قدرت أن تصبح و تمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل .
ثم قال لي : يا بني ، و ذلك من سنتي ، و من أحيا سنتي فقد أحبني ، و من أحبني كان معي في الجنة .
فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله و رسوله ، و من خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ، و لا يخرج عن اسمها .
و دليله قوله ( للذي حده في الخمر فلعنه بعضهم ، و قال : ما أكثر ما يؤتى به !
فقال النبي ( : لا تلعنه ، فإنه يحب الله و رسوله .
-و من علامات محبة النبي ( كثرة ذكره له ، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره .
-ومنها كثرة شوقه إلى لقائه ، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه .
-وفي حديث الأشعريين عند قدومهم المدينة أنهم كانوا يرتجزوون : غداً نلقى الأحبهْ . محمداً و صحبهْ .
-ومن علاماته مع كثرة ذكره رسول الله تعظيمه له و توقيره عند ذكره و إظهار الخشوع و الإنكسار مع سماع إسمه .
قال إسحاق التجيبي : كان أصحاب النبي ( بعده لا يذكرونه إلا خشعوا و اقشعرت جلودهم و بكوا .
و كذلك كثير من التابعين منهم من يفعل ذلك محبة له و شوقاً إليه ، و منهم من يفعله تهيباً و توقيراً .
و منها محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه و سلم ، ومن هو بسببه من آل بيته و صحابته من المهاجرين و الأنصار ، و عداوة من عاداهم ، و بغض من أبغضهم و سبهم ، فمن أحب شيئاً أحب من يحبه .
و قد قال النبي ( في الحسن و الحسين : اللهم إني أحبهما فأحبَّهما .
و في رواية -في الحسن : اللهم إني أحبه فأحبَّ من يحبه .
و قال : من أحبهما فقد أحبني ، و من أحبني فقد أحب الله ، و من أبغضهما فقد أبغضني ، و من أبغضني فقد أبغض الله
-وقال : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله ، و من آذى الله يوشك أن يأخذه .(1/419)
و قال رسول الله ( في فاطمة رضي الله عنها : إنها بضعة مني ، يغضبني ما أغضبها .
و قال لعائشة في أسامة بن زيد : أحبِّيه فإني أحبه .
و قال : آية الإيمان حب الأنصار ، و آية النفاق بغض هم .
و في حديث ابن عمر : من أحب العرب فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ،
فبالحقيقة من أحب شيئاً أحب كل شيء يحبه .
و هذه سيرة السلف حتى في المباحات و شهوات النفس .
و قد قال أنس حين رأى النبي ( يتتبع الدباء من حوالي القصعة : فما زلت أحب الدباء من يومئذ .
و هذا الحسن بن علي ، و عبد الله بن عباس ، وابن جعفر ـ أتوا سلمى و سألوها أن تصنع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و كان ابن عمر يلبس النعال السبتية ، و يصبغ بالصفرة ، إذ رأى النبي ( يفعل نحو ذلك .
-ومنها بغض من أبغض الله ورسوله ، ومعاداة من عاداه ، ومجانبة من خالف سنته و ابتدع في دينه ، و استثقاله كل أمر يخالف شريعته ، قال الله تعالى :( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله )[ سورة المجادلة /58 ، الآية : 22 ] .
-وهؤلاء أصحابه ( قد قتلوا أحباءهم ، و قاتلوا آباءهم و أبناءهم في مرضاته .
و قال له عبد الله بن عبد الله بن أبي : لو شئت لأتيتك برأسه -يعني أباه .
-ومنها ان يحب القرآن الذي أتي به ( ، و هذي به و اهتدى ، و تخلق به حتى قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن، و حبُّه للقرآن تلاوتُه ، و العملُ به و تفهمه .
ويُحبّ سنتَه ، و يقِف عند حدودها .
قال سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبي (، وعلامة حب النبي صلى الله عليه و سلم حب السنة ، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا ألا يدخر منها إلا زاذاً وبلغة إلى الآخرة .
-وقال ابن مسعود : لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله .(1/420)
-ومن علامة حبه للنبي ( شفقته على أمته ، ونصحه لهم ، وسعيه في مصالحهم ، ورفع المضار عنهم ، كما كان الرسول ( بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً .
-ومن علامة تمام محبته زهد مدعيها في الدنيا ، وإيثار الفقر ، واتصافه به .
وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد الخدري : إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي ، أو الجبل إلى أسفله .
-وفي حديث عبد الله بن مغفل : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم يا رسول الله ، إني أحبك . فقال : انظر ما تقول . قال : والله إني أحبك ـ ثلاث مرات . قال : إن كنت تحبني فأعد للفقر تجفافاً .
ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد بمعناه .
فصل
في معنى المحبة للنبي ( وحقيقتها
اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه و سلم ، وكثرت عباراتهم في ذلك ، و ليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ، و لكنها اختلاف أحوال :
-فقال سفيان : المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم ، كأنه التفت إلى قوله تعالى :( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )[ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 31 ] .
-وقال بعضهم : محبة الرسول اعتقاد نصرته ، والذب عن سنته ، والانقياد لها ، و هيبة مخالفته .
-و قال بعضهم : المحبة : دوام الذكر للمحبوب .
-و قال آخر : إيثار المحبوب .
-و قال بعضهم : المحبة الشوق إلى المحبوب .
-و قال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب ، يحب ما أحب ، ويكره ما كره .
-و قال آخر : المحبة ميل القلب إلى موافق له .
-و أكثر العبارت المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها .(1/421)
-و حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان ، و تكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه ، كحب الصور الجميلة ، -والأصوات الحسنة ، والأطعمة والأشربة اللذيذة ، وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله و قلبه معاني باطنة شريفة ، كمحبة الصالحين و العلماء و أهل المعروف ، و المأثور عنهم السيَر الجميلة و الأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم ، و التشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان ، و هتك الحرم ، و احترام النفوس ، أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له و إنعامه عليه ، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها .
فإذا تقرر هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه ( فعلمت أنه ( جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة :
أما جمال الصورة و الظاهر ، و كمال الأخلاق و الباطن ، فقد قررنا منها قبل فيما مر في الكتاب ما لا يحتاج إلى زيادة .
و أما إحسانه و أنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله تعالى له من رأفته بهم ، و رحمته لهم ، و هدايته إياهم ، و شفقته عليهم ، و استنقاذهم به من النار ، و أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، و رحمة للعالمين ، و مبشراً و نذيراً ، و داعياً إلى الله بإذنه و سراجاً منيراً ، و يتلوا عليهم آياته ، و يزكيهم ، و يعلهم الكتاب و الحكمة ، و يهديهم إلى صراط مستقيم .
فأي إحسان أجل قدراً ، و أعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟ و أي إفضال أعم منفعة و أكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين ، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية ، و منقذهم من العماية ، و داعيهم إلى الفلاح ، و وسيلتهم إلى ربهم ، و شفيعهم والمتكلم عنهم ، و الشاهد لهم ، و الموجب لهم البقاء الدائم و النعيم السرمد .(1/422)
فقد استبان لك أنه ( مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً بما قدمناه من صحيح الآثار ، و عادة و جبلةً بما ذكرناه آنفاً ، لأفاضته الإحسان ، و عمومه الإجمال ، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرةً أو مرتين معروفأً ، أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع ـ فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ، و وقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب .
و إذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته ، أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته ، أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته ـ فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب ، و أولى بالميل .
و قد قال علي رضي الله عنه في صفته ( : من رآه بديهةً هابه ، و من خالطه معرفةً أحبه .
و ذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لايصرف بصره عنه محبةً فيه ...
فصل
في وجوب مناصحته (
قال الله تعالى : ((لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [ سورة التوبة / 9 ، الآية : ( 91 )] .
قال أهل التفسير : إذا نصحوا لله و رسوله : إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر و العلانية .
- عن تميم الداري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :< إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . إن الدين النصيحة . > قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال :< لله و لكتابه و لرسوله ، و لأئمة المسلمين و عامتهم>
-قال أئمتنا : النصيحة لله و لرسوله و أئمة المسلمين و عامتهم واجبة .
-قال الإمام سليمان البستي : النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له ، و ليس يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة تحصرها . و معناها في اللغة الإخلاص ، من قولهم : نصحت العسل ، إذا خلصته من شمعه .(1/423)
-وقال أبو بكر بن أبي إسحاق الخفاف : النصح فعل الشيء الذي به الصلاح و الملاءمة ، مأخوذ من النصاح ، و هو الخيط الذي يخاط به الثوب .
فنصيحة الله تعالى صحة الاعتقاد له بالوحدانية ، و وصفه بما هو أهله ، و تنزيهه عما لا يجوز عليه ، و الرغبة في محابه ، و البعد من مساخطه ، و الإخلاص في عبادته .
و النصيحة لكتابه الإيمان به ، و العمل بما فيه ، و تحسين تلاوته ، و التخشع عنده ، و التعظيم له ، و تفهمه و التفقه فيه ، و الذب عنه من تأويل الغالين ، و طعن الملحدين .
والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه ، قاله أبو سليمان .
-وقال أبو بكر : و مؤازرته ونصرته وحمايته حياً و ميتاً ، و إحياء سنته بالطلب ، والذب عنها ، و نشرها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة .
-وقال أبو إبراهيم [ إسحاق ] التجيبي : نصيحة رسول الله ( التصديق بما جاء به ، و الاعتصام بسنته ، و نشرها ، و الحض عليها ، و الدعوة إلى الله و إلى كتابه و إلى رسوله ، و إليها و إلى العمل بها .
-وقال أحمد بن محمد : من مفروضات القلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله ( .
-قال أبو بكر الآجري و غيره : النصح له يقتضي نصحين : نصحاً في حياته ، ونصحاً بعد مماته ، ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه و معاداة من عاداه ، والسمع والطاعة له ، و بذل النفوس والأموال دونه ، كما قال الله تعالى : (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 23 ] .
و قال : (وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون )[ سورة الحشر / 59 ، الآية : 8 ] .(1/424)
و أما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير و الإجلال ، و شدة المحبة له ، و المثابرة على تعلم سنته و التفقه في شريعته ، و محبة آل بيته و أصحابه ، و مجانبة من رغب عن سنته و انحرف عنها ، و بغضه و التحذير منه ، و الشفقة على أمته ، و البحث عن تعرف أخلاقه و سيره و آدابه ، و الصبر على ذلك .
فعلى ما ذكره تكون النصيحة إحدى ثمرات المحبة ، و علامة من علاماتها كما قدمنا .
-و حكى الإمام أبو القاسم القشيري أن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان و مشاهير الثوار المعرف بالصفار ـ رئي في النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي ، فقيل : بماذا ؟ قال : صعدت ذروة جبل يوماً فأشرفت على جنودي ، فأعجبتني كثرتهم ، فتمنيت أني حضرت رسول الله ( فأعنته ونصرته ، فشكر الله لي ذلك و غفر لي .
-و أما النصح لأئمة المسلمين فطاعتهم في الحق ، و معونتهم فيه ، وأمرهم به ، و تذكيرهم إياه على أحسن وجه و تنبيههم على ما غفلوا عنه و كُتِم عنهم من أمور المسلمين ، و ترك الخروج عليهم ، و تضريب الناس و إفساد قلوبهم عليهم .
-و النصح لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم ، و معونتهم في أمر دينهم و دنياهم بالقول و الفعل ، و تنبيه غافلهم ، و تبصير جاهلهم ، و رفد محتاجهم ، و ستر عوراتهم ، و دفع المضار عنهم ، و جلب المنافع إليهم .
الباب الثالث
في تعظيم أمره و وجوب توقيره و بره
قال الله تعالى : (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا.لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه و توقروه )[ سورة الفتح / 48 ، الآية : 9 ] .
و قال( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 1 ] .(1/425)
وقال :( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم * إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون )[ سورة الحجرات / 49 ، الآية 2،4 ].
و قال تعالى :( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا )[ سورة النور /24 ، الآية : 63 ] .
فأوجب الله تعالى تعزيزه و توقيره ، و ألزم إكرامه و تعظيمه .
-قال ابن عباس : تعزروه : تجلوه .
-و قال المبرد : تعزروه : تبالغوا في تعظيمه .
-و قال الأخفش : تنصرونه . و قال الطبري :تعينونه .
-و قرىء : تعززوه ـ بزايين ـ من العز .
ونهي عن التقدم بين يديه بالقول ، و سوءالأدب بسبقه بالكلام ، على قول ابن عباس و غيره ، و هو اختيار ثعلب .
-قال سهل بن عبد الله : لا تقولوا قبل أن يقول ، و إذا قال فاستمعوا له و أنصتوا .
ونهوا عن التقدم و التعجل بقضاء أمر قبل قضائه فيه ، و أن يفتاتوا يشيء في ذلك من قتال أو غيره من أمر دينهم ، و لا يسبقوه به .
و إلى هذا يرجع قول الحسين ، و مجاهد ، و الضحاك ، و السدي ، و الثوري .
ثم وعظهم و حذرهم مخالفة ذلك ، فقال : (واتقوا الله إن الله سميع عليم)
قال الماوردي : اتقوا ـ يعني في التقدم .
-وقال السلمي : اتقوا الله في إهمال حقه و تضييع حرمته ، إنه سميع لقولكم ، عليم بفعلكم .
ثم نهاهم عن رفع الصوت فوق صوته ،و الجهر له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض و يرفع صوته .
و قيل : كما ينادي بعضهم بعضاً باسمه .
-قال أبو محمد مكي : أي لا تسابقوه بالكلام ، و تغلظوا له بالخطاب ، و لا تنادوه باسمه نداء بعضكم بعضاً ، و لكن عظموه و نادوه بأشرف ما يحب أن ينادى به : يا رسول الله ، يا نبي الله .(1/426)
و هذا كقوله في الآية الأخرى :( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا )على أحد التأويلين .
و قال غيره لا تخاطبوه إلا مُستفهِمين .
ثم خوفهم الله تعالى بحبط أعمالهم إن هم فعلوا ذلك ، و حذرهم منه .
-وقيل : نزلت الآية في وفد بني تميم ـ و قيل : في غيرهم ، أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فنادوه : يا محمد ، يا محمد ، اخرج إلينا . فذمهم الله تعالى بالجهل ، و وصفهم بأن أكثرهم لا يعقلون .
-وقيل : نزلت الآية في محاورة كانت بين أبي بكر و عمر بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم ، و اختلاف جرى بينهما ، حتى ارتفعت أصواتها .
-وقيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي صلى الله عليه و سلم في مفاخرة بني تميم ، و كان في أذنيه صمم ، فكان يرفع صوته ، فلما نزلت هذه الآية أقام في منزله ، و خشي أن يكون حبط عمله ، ثم أتى النبي ( فقال : يا نبي الله ، لقد خشيت أن أكون هلكت ، نهانا الله أن نجهر بالقول ، و أنا امرؤ جهير الصوت .
فقال النبي ( : أما ترضى أن تعيش حميداً ، و تقتل شهيداً ، و تدخل الجنة ! فقتل يوم اليمامة .
-وروي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : و الله يا رسول الله ، لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .
وأن عمر كان إذا حدثه كأخي السرار ، ما كان يسمع رسول الله ( بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، فأنزل الله تعالى فيهم :( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم )[ سورة الحجرات /49 ، الآية : 3 ] .
و قيل : نزلت : ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات )ـ في غير بني تميم ، نادوه باسمه .
-وروى صفوان بن عسال : بينا النبي ( في سفر إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري : يا محمد . قلنا له : اغضض من صوتك ، فإنك قد نهيت عن رفع الصوت .
-وقال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 104 ] .(1/427)
قال بعض المفسرين : هي لغة كانت في الأنصار ، نهوا عن قولها تعظيماً للنبي ( ، و تبجيلا له ، لأن معناها : ارعَنا نرعَك ، فنهوا عن قولها ، إذا مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، بل حقه أن يُرعى على كل حال .
و قيل : كانت اليهود تعرض بها للنبي ( بالرعونة ، فنهى المسلمون عن قولها ، قطعاً للذريعة ، و منعاً للتشبيه بهم في قولها ، لمشاركة اللفظة . و قيل غير هذا .
فصل
في عادة الصحابة في تعظيمه و توقيره وإجلاله
- عن عمرو ابن العاص، قال : و ما كان أحد أحب إلي من رسول الله ( ، و لا أجل في عيني منه ، و ما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، و لو سئلت أن أصفه ما أطقت ، لأني لم أكن أملا عيني منه .
-وروى الترمذي عن أنس ـ أن رسول الله ( كان يخرج على أصحابه من المهاجرين و الأنصار و هم جلوس ، فيهم أبو بكر ، و عمر ، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر و عمر ، فإنهما كانا ينظران إليه و ينظر إليهما ويتبسمان إليه و يبتسم إليهما .
-وروى أسامة بن شريك ، قال أتيت النبي ( وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير .
وفي حديث صفته : إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير .
-وقال عروة بن مسعود ـ حين و جهته قريش عام القضية إلى رسول الله ( ، و رأى من تعظيم أصحابه له ما رأى ، و أنه لا يتوضأ إلا ابتدروا و ضوءه ، و كادوا يقتتلون عليه ، و لا يبصق بصاقاً ، و لا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها و جوههم و أجسادهم ، و لا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها ، و إذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ،و إذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، و ما يحدون إليه النظر تعظيماً له .
فلما رجع إلى قريش قال : يا معشر قريش ، إني جئت كسرى في ملكه ، و قيصر في ملكه و النجاشي في ملكه ، و إني و الله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه .(1/428)
-وفي رواية : إنْ رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمداً أصحابه . و قد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً .
-وعن أنس : لقد رأيت رسول الله ( والحلاق يحلقه ، و قد أطاف به أصحابه ، فما يريدون أن تقع شعره إلا في يد رجل .
-ومن هذا لما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجهه النبي ( إليهم في القضية أبى ، و قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله (
-وفي حديث طلحة : إن أصحاب رسول الله ( قالوا لأعرابي جاهل : سلْه عمن قضى نَحْبَه ـ و كانوا يهابونه و يوقرونه ، فسأله ، فاعرض عنه ، إذ طلع طلحة ، فقال رسول الله ( : هذا ممن قضى نحْبَه .
-وفي حديث قيلة : فلما رأيت رسول الله ( جالساً القرفصاء أرعدت من الفرق و ذلك هيبة له و تعظيماً .
-وفي حديث المغيرة : كان أصحاب رسول الله ( يقْرعون بابَه بالأظافير .
-وقال البراء بن عازب : لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله ( عن الأمر فأؤخره سنين من هيبته .
فصل
في تعظيم النبي بعد موته
و اعلم أن حرمة النبي ( بعد موته ، و توقيره و تعظيمه ، لازم كما كان حال حياته ، و ذلك عند ذكره صلى الله عليه و سلم ، و ذكر حديثه و سنته ، و سماع اسمه و سيرته ، و معاملة آله و عترته ، و تعظيم أهل بيته و صحابته .
-وقال أبو إبراهيم التجيبي : واجب على كل مؤمن متى ذكره ، أو ذكر عنده ـ أن يخضع و يخشع ، و يتوقر و يسكن من حركته ، و يأخذ في هيبته و إجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ، و يتأدب بما أدبنا الله به .
-قال القاضي أبو الفضل : و هذه كانت سيرة سلفنا الصالح و أئمتنا الماضين رضي الله عنهم .(1/429)
- حدثنا ابن حميد ، قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله تعالى أدب قوماً فقال : (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 2 ] . ومدح قوماً فقال : (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم )[ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 3 ] .
و ذم قوماً فقال : (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون )وإن حرمته ميتا كحرمته حياً .
فاستكان لها أبو جعفر ، و قال : يا أبا عبد الله ، أأستقبل القبلة و أدعوا أم أستقبل رسول الله ( ؟ فقال : و لم تصرف وجهك عنه و هو وسيلتك و وسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله و استشفع به ، فيشفعك الله ، قال الله تعالى :( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) [ سورة النساء / 4 ، الآية : 64 ] .
-وقال مالك ـ وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه :
و قال : وحج حجتين ، فكنت أرمقه ولا أسمع منه ، غير أنه كان إذا ذكر النبي ( بكى حتى أرحمه .
فلما رأيت منه ما رأيت ، و إجلاله للنبي ( كتب عنه .
و قال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي ( يتغير لونه ، و ينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوماً في ذلك ، فقال لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ، و لقد كنت أرى محمد ابن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه .
و لقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق ، و كان كثير الدعابة و التبسم ، فإذا ذكر عنده النبي ( اصفر . و ما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا على طهارة .(1/430)
و قد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصلياً ، و إما صامتاً ، و إما يقرأ القرآن ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه ، و كان من العلماء و العباد الذين يخشون الله عز و جل .
-ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ( فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم ، و قد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله (.
-ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذ ا ذكر عنده النبي ( بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع .
-ولقد رأيت الزهري ـ و كان من أهنأ الناس و أقربهم ، فإذا ذكر عنده النبي ( فكأنه ما عرفك و لا عرفته .
-ولقد كنت آتي صفوان بن سليم ، و كان من المتعبدين المجتهدين ، فإذا ذكر النبي ( بكى ، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه و يتركوه .
وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل و الزويل .
-ولما كثر على مالك الناس قيل له : لو جعلت مستملياً يسمعهم ؟ فقال : قال الله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) و حرمته حياً و ميتاً سواء .
-وكان ابن سيرين ربما يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي ( خشع
-وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي ( أمرهم بالسكوت ، و قال : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، و يتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله .
فصل
في سيرة السلف في تعظيم رواية حديث الرسول و سننه
-عن عمرو بن ميمون ، قال : اختلفت إلى ابن مسعود سنةً ، فما سمعته يقول : قال رسول الله ( ، إلا أنه حدث يوماً فجرى على لسانه : قال رسول الله ( ، ثم علاه كرب ، حتى رأيت العرق يتحدر عن جبهته ، ثم قال : هكذا إن شاء الله ، أو فوق ذا ، أو ما دون ذا ، أو ما هو قريب من ذا .
وفي رواية : فتربد وجهه .
وفي رواية : و قد تغرغرت عيناه ، و انتفخت أوداجه .(1/431)
-وقال إبراهيم بن عبد الله بن قريم الأنصاري قاضي المدينة : مر مالك بن أنس على أبي حازم ، و هو يحدث ، فجازه ، و قال : إني لم أجد موضعاً أجلس فيه ، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله ( و أنا قائم .
-وقال مالك : جاء رجل إلى ابن المسيب ، فسأله عن حديث و هو مضطجع ، فجلس و حدثه ، فقال له الرجل : و ددت أنك لم تتعنَّ ، فقال : إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا مضطجع .
- وروي عن محمد بن سيرين أنه قد يكون يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي صلى الله عليه و سلم خشع
-وقال أبو مصعب : كان مالك بن أنس لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا و هو على وضوء ، إجلالاً له .
-وحكى مالك ذلك عن جعفر بن محمد .
-وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك بن أنس إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم توضأ و تهيأ ، و لبس ثيابه ، ثم يحدث . قال مصعب : فسئل عن ذلك ، فقال : إنه حديث رسول الله ( .
قال مطرف : كان إذا أتى الناسُ مالكاً خرجت إليهم الجاريةُ فتقول لهم : يقول لكم الشيخ : تريدون الحديث أو المسائل ؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم ، و إن قالوا الحديث دخل مغتسله ، و اغتسل و تطيب ، و لبس ثياباً جدداً ولبِس ساجَه و تعمّم ، ووضع على رأسه رداء ، و تلقى له منصة ، فيجرخ فيجلس عليها ، و عليه الخشوع ، و لا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله (.
قال غيره : و لم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله (.
قال ابن أبي أويس : فقيل لمالك في ذلك ، فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله (، و لا أحدث به إلا عن طهارة متمكناً . قال : و كان يكره أن يحدث في الطريق ، أو و هو قائم ، أو مستعجل .
و قال : أحب أن أفهم حديث رسول الله ( .
- قال ضرارة بن مرة : كانوا يكرهون أن يحدثوا بحديث على غير وضوء .
و نحوه عن قتادة .
-وكان الأعمش إذا حدث و هو على غير وضوء تيمم .(1/432)
-وكان قتادة لا يحدث إلا على طهارة ، ولا يقرأ حديث النبي ( إلا على وضوء.
-قال عبد الله بن مبارك : كنت عند مالك ، و هو يحدثنا ، فلدغته عقرب ست عشرة مرةً ، و هو يتغير لونه و يصفر و لا يقطع حديث رسول الله ( .
فلما فرغ من المجلس ، و تفرق الناس عنه قلت له : يا أبا عبد الله ، لقد رأيت اليوم منك عجباً . قال: نعم ، لدغتني عقرب ست عشرة مرة ، و أنا صابر في جميع ذلك ، و إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله (
-قال ابن مهدي : مشيت يوماً مع مالك إلى العقيق ، فسألته عن حديث ، فانتهزني و قال لي : كنت في عيني أجل من أن تسأل عن حديث رسول الله ( و نحن نمشي .
-وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي عن حديث و هو قائم ، فأمر بحبسه ، فقيل له : إنه قاضٍ . قال : القاضي أحقُّ من أُدِّب .
و ذكر أن هشام بن هشام بن الغازي سأل مالكاً عن حديث و هو واقف فضربه عشرين سوطاً ، ثم أشفق عليه ، فحدثه عشرين حديثاً ، فقال هشام : وددت لو زادني سياطاً و يزيدني حديثاً .
-قال عبد الله بن صالح : كان ماك و الليث لا يكتبان الحديث إلا وهما طاهران .
-وكان قتادة يستحب ألا تقرأ أحاديث النبي ( إلا على وضوء ، و لا يحدث إلا على طهارة .
و كان الأعمش إذا أراد أن يحدث و هو على وضوء تيمم .
فصل
في توقيره ، و بر آله ، و ذريته ، و أمهات المؤمنين أزواجه
ومن توقيره ( وبره ـ بر آله و ذريته و أمهات المؤمنين أزواجه ، كما حض عليه ( ، و سلكه السلف الصالح رضي الله عنهم .
-قال الله تعالى : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )[ الأحزاب - الآية : 33 ] .(1/433)
-وقال تعالى : ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) [ سورة الأحزاب الآية : 6 ] .
- عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله ( :< أنشدكم الله أهل بيتي > ثلاثاً . قلنا لزيد : من أهل بيته ؟ قال : آل علي ، و آل جعفر ، و آل عقيل ، و آل العباس .
-وقال ( : <إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا : كتاب الله ، و عترتي أهل بيتي ، فانظر وا كيف تخلفوني فيهما .>
-وقال ( : معرفة آل محمد ( براءة من النار ، و حب آل محمد( جواز على الصراط ، و الولاية لآل محمد ( أمان من العذاب .
-قال بعض العلماء : معرفتهم هي معرفة مكانهم من النبي ( ، و إذا عرفهم بذلك عرف وجوب حقهم و حرمتهم بسببه .
-وعن عمر بن أبي سلمة : لما نزلت : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ـ و ذلك في بيت أم سلمة ـ دعا فاطمة و حسنا و حسينا ، فجللهم بكساء ، و علي خلف ظهره ، ثم قال : < اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، و طهرهم تطهيرا . >
-وعن سعد بن أبي وقاص : لما نزلت آية المباهلة دعا النبي ( عليا و حسناً و الحسين و فاطمة ، و قال : اللهم هؤلاء أهلي .
-وقال النبي ( في علي :< من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه ، و عادِ من عاداه . >
و قال فيه : لا يحبك إلا مؤمن ، و لا يبغضك إلا منافق .
-وقال للعباس <والذي نفسي بيده ، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله و لرسوله . و من آذى عمي فقد آذاني ، و إنما عم الرجل صنو أبيه . >(1/434)
-وقال العباس :< اغدُ علي يا عمّ مع ولدك >، فجمعهم و جللهم بملاءته ، و قال : < هذا عمّي وصنوُ أبي وهؤلاءأهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم > فأمَّنتْ أسكفَّةُ الباب و حوائطُ البيت : آمين . آمين .
-وكان يأخذ أسامة بن زيد ، و الحسن ، و يقول :< اللهم إني أحبهما فأحبهما . >
و قال أبو بكر : ارقبوا محمداً( في أهل بيته .
وقال أيضاً : و الذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ( أحب إلي أن أصِل من قرابتي .
-وقال ( :< أحب الله من أحب حسناً و حسيناً . >
و قال : من أحبني و أحب هذين ـ و أشار إلى حسن و حسين ـ وأباهما و أمهما كان معي في درجتي يوم القيامة .
-وقال ( : من أهان قريشاً أهانه الله .
-وقال (: قدموا قريشاً و لا تقدموها .
-وقال ( لأم سلمة : لا تؤذيني في عائشة .
-وعن عقبة بن الحارث : رأيت أبا بكر رضي الله عنه ، و جعل الحسن على عنقه و هو يقول : بأبي شبيهٌ بالنبي ، ليس شبيهاً بعليّ ـ و علي رضي الله عنه يضحك .
-وروي عن عبد الله بن الحسن بن حسين ، قال : أتيت عمر بن عبد العزيز في حاجة ، فقال : لي : إذا كانت لك حاجة فأرسل إلي أو اكتب ، فإني أستحيي من الله أن يراك على بابي .
-وعن الشعبي : صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه ، ثم قربت له بغلته ليركبها ، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه ، فقال زيد : خل عنه يا بن عم رسول الله . فقال : هكذا نفعل بالعلماء . فقبل زيد يد ابن عباس ، و قال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .
و رأى ابن عمر محمد بن أسامة بن زيد ، فقال : ليت هذا عبدي ، فقيل له : هو محمد بن أسامة . فطأطأ ابن عمر رأسه و نقر بيده الأرض ، و قال : لو رآه رسول الله ( لأحبه .(1/435)
-وقال الأوزاعي : دخلت بنت أسامة بن زيد صاحب رسول الله ( على عمر بن عبد العزيز و معها مولى لها يمسك بيدها ، فقام لها عمر ، و مشى إليها حتى جعل يدها بين يديه ، و يداه في ثيابه ، و مشى بها حتى أجلسها على مجسله ، و جلس بين يديها ، و ماترك لها حاجةً إلا قضاها .
-ولما فرض عمر بن الخطاب لابنه عبد الله في ثلاثة آلاف ، و لأسامة بن زيد في ثلاثة آلاف و خمسمائة ـ قال عبد الله لأبيه : لم فضلته ، فوالله ما سبقني إلى مشهد ؟ فقال له : لأن زيداً كان أحب إلى رسول الله ( من أبيك و أسامة أحب إليه منك ، فآثرت حب رسول الله ( على حبي .
-وبلغ معاوية أن كابس بن ربيعة يشبه برسول الله( ، فلما دخل عليه من باب الدار قام عن سريره و تلقاه
و قبل بين عينيه ، و أقطعه المرغاب لشبهه صورة رسول الله (
-وروي أن مالكاً رحمه الله لما ضربه جعفر بن سليمان ، و نال منه ما نال ، و حمل مغشياً عليه دخل عليه الناس فأفاق ، فقال : أشهدكم أني جعلت ضاربي في حل .
فسئل بعد ذلك ، فقال : خفت أن أموت ، فألقى النبي ( ، فأستحي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي .
-وقيل : إن المنصور أ قاده من جعفر ، فقال له : أعوذ بالله ! و الله ما ارتفع منها سوط عن جسمي إلا و قد جعلته في حل لقرابته من رسول الله (
-وقال أبو بكر بن عياش : لو أتاني أبو بكر و عمر و علي لبدأت بحاجة علي قبلهما ، لقرابته من رسول الله ( ولأن أخِرَّ من السماء إلى الأرض أحبّ إلي من أن أقدمه عليهما .
وقيل لابن عباس : ماتت فلانة ـ لبعض أزواج النبي ( ، فسجد ، فقيل له : أتسجد هذه الساعة ؟ فقال : أليس قال رسول الله ( : إذا رأيتم آيةً فاسجدوا و أي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي (
-وكان أبو بكر وعمر يزوران أم أيمن مولاة النبي ( ، ويقولان : كان رسول الله ( يزورهما .
-ولما وردت حليمة السعدية على النبي ( بسط لها رداءه و قضى حاجتها ، فلما توفي وفدت على أبي بكر و عمر فصنعا بها مثل ذلك .
فصل(1/436)
من توقيره و بره توقير أصحابه و برهم
ومن توقيره و بره ( ـ توقير أصحابه و برهم و معرفة حقهم ، و الاقتداء بهم ، و حسن الثناء عليهم ، و الاستغفار لهم و الإمساك عما شجر بينهم ، و معاداة من عاداهم ، و الإضراب عن أخبار المؤرخين ، و جهلة الرواة ، و ضلال الشيعة و المبتدعين القادحة في أحد منهم ، و أن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات ، و يخرج لهم أصوب المخارج : إذ هم أهل ذلك ، و لا يذكر أحد منهم بسوء ، و لا يغمص عليه أمر ، بل تذكر حسناتهم و فضائلهم ، و حميد سيرتهم ، و يسكت عما وراء ذلك ، كما ( : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .
*قال الله تعالى :(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما )[ سورة الفتح / 48 ، الآية : 29 ] .
*وقال : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 100 ] .
*وقال الله تعالى :( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة )[ سورة الفتح / 48 ، الآية : 18] .
*وقال : (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 23 ] .
- عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ( : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، و عمر .
و قال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم .
-وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( : مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام ، لا يصلح الطعام إلا به .(1/437)
-وقال ( : الله لله في اصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله ، و من آذى الله يوشك أن يأخذ .
-وقال ( : لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه .
-وقال ( : من سب أصحابي فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً .
-وقال( : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .
-وقال (ـ في حديث جابر : إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي ، وفي أصحابي كلهم خير .
-وقال : من أحب عمر فقد أحبني ، ومن أبغض عمر فقد أبغضني .(1/438)
-وقال مالك بن أنس ، وغيره : من أبغض الصحابة و سبهم فلبيس له في فيء المسلمين حق ، و نزع بآية الحشر : (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 ) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 9 ) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[ الحشر- الآيات : 5 - 10 ] .(1/439)
-وقال : من غاظه أصحاب محمد فهو كافر ، قال الله تعالى : ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [ الفتح ، الآية : 29 ] .
-وقال عبد الله بن المبارك : خصلتان من كانتا فيه نجا : الصدق ، وحب أصحاب محمد( .
-قال أيوب السختياني : من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، و من أحب عمر فقد أوضح السبيل ، و من أحب عثمان فقد استضاء بنور الله ، و من أحب علياً فقد أخذ بالعروة الوثقى ، و من أحسن الثناء على أصحاب محمد ( فقد برئ من النفاق ، و من انتقض أحداً منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح ، وأخاف ألا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعاً ، ويكون قلبه سليماً .
-وفي حديث خالد بن سعيد أن النبي ( قال : أيها الناس ، إني راض عن أبي بكر فاعرفوا له ذلك . أيها لناس ، إني راض عن عمر ، و عن علي ، و عن عثمان ، و طلحة ، و الزبير ، و سعد ، و سعيد ، و عبد الرحمن بن عوف ، فاعرفوا لهم ذلك . أيها الناس ، إن الله غفر لأهل بدر و الحديبية ، أيها الناس ، احفظوني في أصحابي وأصهاري وأختاني ، لا يطالبنكم أحد منهم بمظلمة ، فإنها مظلمة لا توهب في القيامة غداً .
-وقال رجل للمعافى بن عمران : أين عمر بن عبد العزيز من معاوية ؟ فغضب و قال : لا يقاس بأصحاب النبي ( أحد ، معاوية صاحبه وصهره ، وكاتبه وأمينه على وحي الله .
-وأتي النبي ( بجنازة رجل فلم يصل عليه ، وقال : كان يبغض عثمان ، فأبغضه الله .
وقال ( في الأنصار : اعفوا عن مسيئهم ، و اقبلوا من محسنهم .(1/440)
-وقال صلى الله عليه و سلم: احفظوني في أصحابي و أصهاري ، فإنه من حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا و الآخرة ، و من لم يحفظني فيهم تخلى الله منه ، و من تخلى الله منه يوشك أن يأخذه .
-وعنه ( : من حفظني في أصحابي كنت له حافظاً يوم القيامة .
-وقال( : من حفظني في أصحابي و رد علي الحوض ، و من لم يحفظني في أصحابي لم يرد علي الحوض ، و لم يرني إلا من بعيد .
-قال مالك =رحمه الله =: هذا النبي مؤدب الخلق الذي هدانا الله به ، و جعله رحمة للعالمين ، يخرج في جوف الليل إلى البقيع فيدعو لهم و يستغفر كالمودع لهم ، و بذلك أمره الله ، و أمر النبي بحبهم ، و موالاتهم ، و معاداة من عاداهم .
-وروى عن كعب : ليس أحد من أصحاب محمد ( إلا له شفاعة يوم القيامة .
وطلب من المغيرة بن نوفل أن يشفع له يوم القيامة .
-قال سهل بن عبد الله التسترى : لم يؤمن بالرسول من لم يوقر أصحابه ، و لم يعز أوامره .
فصل
و من إعظامه و إكباره
ومن إعظامه و إكباره إعظام جميع أسبابه ، و إكرام مشاهده و أمكنته من مكة و المدينة ، و معاهده ، و ما لمسه (، أو عُرف به .
-وروي عن صفية بنت نجدة ، قالت : كان لأبي محذورة قُصَّة في مقدم رأسه إذا قعد وأرلسها أصابت الأرض . فقيل له : ألا تحلقها ؟ فقال : لم أكن بالذي أحلقها ، و قد مسها رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده .
-وكانت في قلنسوة خالد بن الوليد شعرات من شعره (، فسقطت قلنسوته في بعض حروبه ، فشد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبي ( كثرة من قتل فيها ، فقال : لم أفعلها بسبب القلنسوة ، بل لما تضمنه من شعره ( لئلا أسلب بركتها و تقع في أيدي المشركين .
-ورئي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي ( من المنبر ، ثم وضعها على وجهه .
و لهذا كان مالك رحمه الله لا يركب بالمدينة دابة وكان يقول : أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله بحافر دابة .(1/441)
-وروي عنه أنه وهب للشافعي كراعاً كثيراً كان عنده ، فقال له الشافعي : أمسك منها دابة . فأجابه بمثل هذا الجواب .
-وقد حكى أبو عبد الرحمن السلمي عن أحمد بن فضلويه الزاهد وكان من الغزاة الرماة ـ أنه قال : ما مسست القوس بيدي إلا على طهارة منذ بلغني أن النبي ( أخذ القوس بيده .
-وقد أفتى مالك فيمن قال : تربة المدينة ردية ـ يضرب ثلاثين درة ، و أمر بحبسه ، و كان له قدر ، و قال : ما أحوجه إلى ضرب عنقه ! تربة دفن فيها النبي ( يزعم أنها غير طيبة .
و في الصحيح أنه قال ( ـ في المدينة : من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً .
-وحكي أن جهجاها الغفاري أخذ قضيب النبي ( من يد عثمان رضي الله عنه ، و تناول ليكسره على ركبته ، فصاح به الناس ، فأخذته الأكله في ركبته فقطعها ، و مات قبل الحول .
-وقال ( : من حلف على منبري كاذباً فليتبوأ مقعده من النار .
-وحدثت أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائراً ، و قرب من بيوتها ترجل و مشى باكياً منشداً :
ولما رأينا رسم من لم يدع لنا فؤاداً لعرفان الرسوم و لا لباً
نزلنا عن الأكوار نمشي كرا مةً لمن بان عنه أن نلم به ركباً
-وحكى عن بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة الرسول أنشد يقول متمثلاً [ 161 ] :
رفع الحجاب لنا فلاح لناظر قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطي بنا بلغن محمداً فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من يخر من وطيء الثرى ولها علينا حرمة و ذمام
-وحكي عن بعض المشايخ أنه حج ماشياً ، فقيل له في ذلك ، فقال : العبد الآبق لا يأتي إلى بيت مولاه راكباً ! لو قدرت أن أمشي على رأسي ما مشيت على قدمي .(1/442)
قال القاضي : و جدير لمواطن عمرت بالوحي و التنزيل ، و تردد بها جبريل و ميكائيل ، و عرجت منها الملائكة و الروح ، و ضجت عرصاتها بالتقديس و التسبيح ، و اشتملت تربتها على جسد سيد البشر ، و انتشر عنها من دين الله و سنة رسوله ما انتشر ، مدارس آيات ، و مساجد و صلوات ، و مشاهد الفضائل و الخيرات ، و معاهد البراهين و المعجزات ، و مناسك الدين ، و مشاعر المسلمين ، و مواقف سيد المرسلين ، و متبوأ خاتم النبيين ، حيث انفجرت النبوة ، و أين فاض عبابها ، و مواطن مهبط الرسالة ، و أول أرض مس جلد المصطفى ترابها ـ أن تعظم عرصاتها ، و تتنسم نفحاتها ، و تقبل ربوعها و جدرانها :
يا دار خير المرسلين و من به هدي الأنام و خص بالآيات
عندي لأجلك لوعة و صبابة وتشوق متوقد الجمرات
وعلي عهد إن ملأت محاجري من تكلم الجدران و العرصات
لاعفرن مصون شيبي بينها من كثرة التقبيل و الرشفات
لولا العوادي ، و الأعادي زرتها أبدا و لو سحباً على الوزجنات
لكن سأهدي من حفيل تحيتي لقطين تلك الدار و الحجرات
أزكى من المسك المفتق نفحةً تغشاه بالآصال و البكرات
وتخصه بزواكي الصلوات و نوامي التلسيم و البركات
20-( ٌيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ *) 54 - 56 المائدة(1/443)
ابن كثير يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته, فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه, وأشدّ منعة, وأقوم سبيلاً, كما قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}. وقال تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}. أي بممتنع ولا صعب. وقال تعالى ههنا {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} أي يرجع عن الحق إلى الباطل.
- قال محمد بن كعب: نزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن البصري: نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: في قوله {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} هم أهل القادسية. وقال ليث بن أبي سليم, عن مجاهد: هم قوم من سبأ وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن عمرو, عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: ناس من أهل اليمن, ثم من كندة, من السّكُون.
-وحدثنا أبي, حدثنا محمد بن المصفى, حدثنا معاوية يعني ابن حفص, عن أبي زياد الحلفاني, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}. قال "هؤلاء قوم من أهل اليمن, ثم من كندة, ثم من السكون, ثم من تجيب", وهذا حديث غريب جداً.(1/444)
-وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شبة, حدثنا عبد الصمد يعني ابن عبد الوارث, حدثنا شعبة عن سماك, سمعت عياضاً يحدث عن أبي موسى الأشعري, قال: لما نزلت {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هم قوم هذا". ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه. وقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه, متعززاً على خصمه وعدوه, كما قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال, فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.
وقوله عز وجل {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله, وإقامة الحدود, وقتال أعدائه, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, لا يردهم عن ذلك راد, ولا يصدهم عنه صاد, ولا يحيك فيهم لوم لائم, ولا عذل عاذل,
-قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا سلام أبو المنذر عن محمد بن واسع, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر, قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم, وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني, ولا أنظر إلى من هو فوقي, وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت, وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً, وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً, وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم, وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله, فإنهن من كنز تحت العرش.(1/445)
-قال البخاري تفرّد ابن المبارك بهذا الحديث, وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقرراً ولم ينسخ, كما هو المشهور عن الجمهور, وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي, وأكثر الأصحاب بهذه الاَية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة, رواه ابن أبي حاتم:
-وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه, ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره: وصحح منها عدم الحجية, نقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالاً عن الشافعي, وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا, فالله أعلم.
-وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله في كتابه "الشامل", إجماع العلماء, على الاحتجاج بهذه الاَية على ما دلت عليه, وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الاَية الكريمة, وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم "أن الرجل يقتل بالمرأة", وفي الحديث الاَخر "المسلمون تتكافأ دماؤهم", وهذا قول جمهور العلماء,
-وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية, لأن ديتها على النصف من دية الرجل, وإليه ذهب أحمد في رواية, وحكي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي, {والله واسع عليم} أي واسع الفضل, عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه.(1/446)
وقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} أي ليس اليهود بأوليائكم, بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين. وقوله {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام,وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين والمساكين. وأما قوله {وهم راكعون} فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله {ويؤتون الزكاة} أي في حال ركوعهم, ولو كان هذا كذلك, لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره, لأنه ممدوح, وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى, وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الاَية نزلت فيه, وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه.
-وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي, حدثنا أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم في قوله {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} قال: هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب, وحدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول, حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل, قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع, فنزلت {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}, وقال ابن جرير: حدثني الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا غالب بن عبيد الله, سمعت مجاهداً يقول في قوله {إنما وليكم الله ورسوله} الاَية. نزلت في علي بن أبي طالب, تصدق وهو راكع, وقال عبد الرزاق: حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله {إنما وليكم الله ورسوله} الاَية, نزلت في علي بن أبي طالب, عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.(1/447)
-وروى ابن مردويه من طريق سفيان الثوري, عن أبي سنان, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كان علي بن أبي طالب قائماً يصلي, فمر سائل وهو راكع, فأعطاه خاتمه, فنزلت {إنما وليكم الله ورسوله} الاَية, الضحاك لم يلق ابن عباس. وروى ابن مردويه أيضاً من طريق محمد بن السائب الكلبي, وهو متروك, عن أبي صالح, عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد, وإذا مسكين يسأل, فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: "أعطاك أحد شيئاً ؟" قال: نعم. قال "من ؟" قال: ذلك الرجل القائم. قال "على أي حال أعطاكه ؟" قال: وهو راكع, قال "وذلك علي بن أبي طالب". قال, فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} وهذا إسناد لا يُفرح به.
ثم رواه ابن مردويه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه, وعمار بن ياسر وأبي رافع, وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها, ثم روى بإسناده عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس في قوله {إنما وليكم الله ورسوله} نزلت في المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم,
-وقال ابن جرير: حدثنا هناد, حدثنا عبدة عن عبد الملك, عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الاَية {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} قلنا: من الذين آمنوا ؟ قال: الذين آمنوا. قلنا بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب, قال: علي من الذين آمنوا,
-وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الاَية في جميع المؤمنين, ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد, فأعطاه خاتمه.(1/448)
-وقال علي بن أبي طلحة الوالبي, عن ابن عباس: من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا, رواه ابن جرير, وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الاَيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود, ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين, ولهذا قال تعالى بعد هذا كله {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} كما قال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز, لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاَخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين, فهو مفلح في الدنيا والاَخرة, ومنصور في الدنيا والاَخرة, ولهذا قال تعالى في هذه الاَية الكريمة {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.(1/449)
السعدي يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين ، وأنه من يرتد عن دينه ، فلن يضر الله شيئا ، وإنما يضر نفسه . وأن لله ، عبادا مخلصين ، ورجالا صادقين ، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم ، ووعد بالإتيان بهم ، وأنهم أكمل الخلق أوصافا ، وأقواهم نفوسا ، وأحسنهم أخلاقا . أجل صفاتهم أن الله " يحبهم ويحبونه " . فإن محبة الله للعبد ، هي أجل نعمة أنعم بها عليه ، وأفضل فضيلة ، تفضل الله بها عليه . وإذا أحب الله عبدا ، يسر له الأسباب ، وهون عليه كل عسير ، ووفقه لفعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وأقبل بقلوب عباده إليه ، بالمحبة والوداد . ومن لوازم محبة العبد لربه ، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ظاهرا وباطنا ، في أقواله وأعماله ، وجميع أحواله . كما قال تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " . كما أن من لوازم محبة الله للعبد ، أن يكثر العبد من التقرب إلى الله ، بالفرائض والنوافل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله : " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه " . ومن لوازم محبة الله ، معرفته تعالى ، والإكثار من ذكره فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا ، بل غير موجودة ، وإن وجدت دعواها . ومن أحب الله أكثر من ذكره . وإذا أحب الله عبدا ، قبل منه اليسير من العمل ، وغفر له الكثير من الزلل . ومن صفاتهم أنهم " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " . فهم للمؤمنين أذلة ، من محبتهم لهم ، ونصحهم لهم ، ولينهم ، ورفقهم ، ورأفتهم ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم ، وقرب الشيء الذي يطلب منهم . وعلى الكافرين بالله ، المعاندين لآياته ، المكذبين لرسله ـ أعزة قد اجتمعت(1/450)
هممهم وعزائمهم ، على معاداتهم ، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم . قال تعالى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " . وقال تعالى : " أشداء على الكفار رحماء بينهم " فالغلظة الشديدة على أعداء الله ، مما يقرب العبد إلى الله ، ويوافق العبد ربه ، في سخطه عليهم . ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة ، دعوتهم ، إلى الدين الإسلامي ، بالتي هي أحسن . فتجتمع الغلظة عليهم ، واللين في دعوتهم ، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم . " يجاهدون في سبيل الله " بأموالهم وأنفسهم ، بأقوالهم وأفعالهم . " ولا يخافون لومة لائم "بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين . وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم ، فإن ضعيف القلب ، ضعيف الهمة ، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين ، وتفتر قوته ، عند عذل العاذلين . وفي قلوبهم تعبد لغير الله ، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم ، على أمر الله . فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله ، حتى لا يخاف في الله لومة لائم . ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم من الصفات الجميلة ، والمناقب العالية ، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير ـ أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه ، لئلا يعجبوا بأنفسهم ، وليشكروا الذي من عليهم بذلك ليزيدهم من فضله ، وليعلم غيرهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب ، فقال : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " أي : واسع الفضل والإحسان ، جزيل المنن ، قد عمت رحمته كل شيء ، ويوسع على أوليائه من فضله ، ما لا يكون لغيرهم . ولكنه عليم بمن يستحق الفضل ، فيعطيه ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا . " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " لما نهى عن ولاية الكفار ، من اليهود والنصارى(1/451)
وغيرهم ، وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين ، أخبر تعالى من يجب ويتعين توليه . وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال : " إنما وليكم الله ورسوله " . فولاية الله ، تدرك بالإيمان والتقوى . فكل من كان مؤمنا تقيا ، كان لله وليا ، ومن كان لله وليا ، فهو ولي لرسوله . ومن تولى الله ورسوله ، كان تمام ذلك ، تولي من تولاه ، وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ، ظاهرا وباطنا ، وأخلصوا للمعبود ، بإقامتهم الصلاة ، بشروطها ، وفروضها ، ومكملاتها ، وأحسنوا للخلق ، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم . وقوله : "وهم راكعون "أي : خاضعون لله ذليلون . فأداة الحصر في قوله :" إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين ، والتبري من ولاية غيرهم . ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال : " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " أي : فإنه من الحزب المضافين إلى الله ، إضافة عبودية وولاية ، وحزبه الغالبون ، الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى: " وإن جندنا لهم الغالبون " وهذه بشارة عظيمة ، لمن قام بأمر الله ، وصار من حزبه وجنده ، أن له الغلبة . وإن أديل عليه في بعض الأحيان ، لحكمة يريدها الله تعالى ، فآخر أمره ، الغلبة والانتصار ، ومن أصدق من الله قيلا .
وقفة مع ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين : المحبة والشوق(1/452)
***أجل مقامات العارف إذا تحقق في الشوق له عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه وإنما يظهر سر المسألة بذكر فصلين الأول في حقيقةالشوق والثاني في الفرق بينه وبين المحبة ويتبع ذلك خمس مسائل إحداها هل يجوز إطلاقه على الله كما يطلق عليه أنه يحب عباده أم لا الثانية هل يجوز إطلاقه على العبد فيقال يشتاق إلى الله كما يقال يحبه الثالثة أنه هل يقوى بالوصول والقرب أم يضعف بهما فأي الشوقين أعلى شوق القريب الداني أم شوق البعيد الطالب الرابعة ما الفرق بينه وبين الاشتياق فهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق الخامسة في بيان مراتبه وأقسامها ومنازل أهله فيه(1/453)
الفصل الأول في حقيقة الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه بحيث لا يقر قراره حتى يطفر به ويحصل له وقيل هو لهيب ينشأ بين أثناء الحشا سببه الفرقة فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب وقيل الشوق هبوب القلب إلى محبوب غائب وقال ابن خفيف الشوق ارتياح القلوب نحو المحبوب من غير منازع ويقال الشوق انتظار اللقاء بعد البعاد فهذه الحدود ونحوها مشتركة في أن الشوق إنما يكون مع الغيبة من المحبوب وأما مع حضوره ولقائه فلا شوق وهذه حجة من جعل المحبة أعلى منه فإن المحبة لا تزول باللقاء وبهذا يتبين الكلام في الفصل الثاني وهو الفرق بينه وبين المحبة الفرق بينهما فرق ما بين الشيء وأثره فإن الحامل علىالشوق هو المحبة ولهذا يقال لمحبتي له اشتقت إليه وأحببته فاشتقت إلى لقائه ولا يقال لشوقي إليه أحببته ولا اشتقت إلى لقائه فأحببته فالمحبة بذر في القلب والشوق بعض ثمرات ذلك البذر وكذلك من ثمراتها حمد المحبوب والرضى عنه وشكره وخوفه ورجاؤه والتنعم بذكره والسكون والأنس به والوحشة بغيره وكل هذه من أحكام المحبة وثمراتها وهو حياتها فمنزلة الشوق من المحبة منزلة الهرب من البغضاء والكراهة فإن القلب إذا أبغض الشيء وكرهه جد في الهرب منه وإذا أحبه جد في الهرب إليه وطلبه فهو حركة القلب في الظفر بمحبوبه ولشدة ارتباط الشوق بالمحبة يقع كل واحد منهما موقع صاحبه ويفهم منه ويعبر عنه.
*فصل وأما المسائل الخمس فإحداها هل يجوز إطلاقه على الله ؟
-فهذا مما لم يرد به القرآن ولا السنة بصريح لفظه قال صاحب منازل السائرين وغيره وسبب ذلك أن الشوق إنما يكون لغائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة ولهذا السبب عندهم لم يجىء في حق الله ولا في حق العبد وجوزت طائفة إطلاقه كما يطلق عليه- سبحانه- المحبة، ورووا في أثر انه يقول طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق .(1/454)
-قالوا وهذا الذي تقتضيه الحقيقة وإن لم يرد به لفظ صريح فالمعنى حق فإن كل محب فهو مشتاق إلى لقاء محبوبه
-قالوا وأما قولكم إن الشوق إنما يكون إلى الغائب وهو سبحانه لا يغيب عن عبده ولا يغيب العبد عنه فهذا حضور العلم وأما اللقاء والقرب فأمر آخر فالشوق يقع بالاعتبار الثاني وهو قرب الحبيب ولقاؤه والدنو منه وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله قال تعالى (من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لأت )قال أبو عثمان الحيري هذا تعزية للمشتاقين معناه إني أعلم أن اشتياقكم إلي غالب وأنا أجلت للقائكم أجلا وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه والصواب أن يقال إطلاقه متوقف على السمع ولم يرد به فلا ينبغي إطلاقه وهذا كلفظ العشق أيضا فإنه لما لم يرد به سمع فإنه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه واللفظ الذي اطلقه سبحانه على نفسه وأخبر به عنها أتم من هذا وأجل شأنا هو لفظ المحبة فإنه سبحانه يوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعلاها فيوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بإرادته كما قال تعالى (فعال لما يريد) وبإرادة اليسر لا العسر كما قال( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده كقوله (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما )فإرادة التوبة لله وإرادة الميل لمبتغي الشهوات وقوله تعالى (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) وكذلك الكلام يصف نفسه منه بأعلى أنواعه كالصدق والعدل والحق وكذلك الفعل يصف نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة وهكذا المحبة وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها فقال ( يحبهم ويحبونه) وقال( يحب التوابين ويحب المتطهرين) وقال (يحب المحسنين)وقال(يحب الصابرين )ولم يصف نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها فإن مسمى المحبة أشرف وأكمل من هذه(1/455)
المسميات فجاء في حقه إطلاقه دونها وهذه المسميات لا تنفك عن لوازم ومعان تنزه تعالى عن الاتصاف بها وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنى ولفظا مما لم يطلقه فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف والكريم الجواد أكمل من السخي والخالق البارىء المصور أكمل من الصانع الفاعل ولهذا لم تجىء هذه في أسمائه الحسنى والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه مالم يكن مطابقا لمعنى أسمائه وصفاته وحينذ فيطلق المعنى لمطابقته له دون اللفظ ولا سيما إذا كان مجملا أو منقسما إلى ما يمدح به وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدا وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقا مقيدا أطلقه على نفسه كقوله تعالى( فعال لما يريد)وقوله (ويفعل الله ما يشاء )وقوله(صنع الله الذي أتقن كل شيء )فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم ولهذا المعنى والله أعلم لم يجىء في الأسماء الحسنى المريد كما جاء فيها السميع البصير ولا المتكلم ولا الآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في إشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا فأدخله في أسمائه الحسنى فاشتق له اسم الماكر والخادع والفاتن والمضل والكاتب ونحوها من قوله (ويمكر الله )ومن قوله (وهو خادعهم) ومن قوله( لنفتنهم فيه )ومن قوله( يضل من يشاء )وقوله تعالى (كتب الله لأغلبن )وهذا خطأ من وجوه أحدها أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء فإطلاقها عليه لا يجوز الثاني أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق الثالث أن مسمى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به وإلى ما يذم فيحسن في موضع ويقبح(1/456)
في موضع فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل الرابع أن هذه ليست من الأسماء الحسنى الذي يسمى بها سبحانه كما قال تعالى (ولله الأسماء الحسنى) وهي التي يحب سبحانه أن يثني عليه ويحمد بها دون غيرها الخامس أن هذا القائل لو سمي بهذه الأسماء وقيل له هذه مدح وثناء عليك فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون به علوا كبيرا السادس أن هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه اللاعن والجائي والآتي والذاهب والتارك والمقاتل والصادق والمنزل والنازل والمدمدم والمدمر وأضعاف ذلك فيشتق له اسما من فعل أخبر به عن نفسه إلا تناقض تناقضا بينا ولا أحد من العقلاء طرد ذلك فعلم بطلان قوله والحمد لله رب العالمين
*فصل وأما المسألة الثانية وهي هل يطلق على العبد أنه يشتاق إلى الله وإلى لقائه ؟ فهذا غير ممتنع فقد روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وغيرهما من حديث حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه قال صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها فقلت خففت يا أبا اليقظان فقال وما علي من ذلك ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين فهذا فيه إثبات لذة النظر إلى وجهه الكريم وشوق أحبابه إلى لقائه فإن حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه(1/457)
-قال أبو القاسم القشيري سمعت الأستاذ أبا علي يقول في لقائه أسألك الشوق إلى لقائك قال كان الشوق مائة جزء فتسعة وتسعون له وجزء متفرق في الناس فأراد أن يكون ذلك الجزء له أيضا فغار أن تكون شظية من الشوق في غيره قال وسمعته يقول في قول موسى وعجلت إليك رب لترضى قال معناه شوقا إليك فستره بلفظ الرضى وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه وقيل إن شعيبا بكى حتى عمي بصره فأوحى الله إليه إن كان هذا لأجل الجنة فقد أبحتها لك وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها فقال لا بل شوقا إليك وقال بعض العارفين من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء وقال بعضهم قلوب العاشقين منورة بنور الله فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض فيعرضهم الله على الملائكة فيقول هؤلاء المشتاقون إلي أشهدكم أني إليهم أشوق وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه فهو من أشرف مقامات العبيد وأجلها وأعلاها ومن أنكر شوق العبد إلى ربه فقد أنكر محبته له لأن المحبة تستلذ الشوق فالمحب دائما مشتاق إلى لقاء محبوبه لا يهدأ قلبه ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه فأما قوله إن الشوق عند الخواص علة عظيمة لأن الشوق إنما يكون إلى غائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة فيقال المشاهدة نوعان مشاهدة عرفان ومشاهدة عيان وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان ولا ريب أن مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس بالمعرفة ورسوخهم فيها وليس للمعرفة نهاية تنتهي إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب بل كلما وصل منها إلى معلم ومنزلة اشتد شوقه إلى ما وراءه وكلما ازداد معرفة ازداد شوقا فشوق العارف أعظم الشوق فلا يزال في مزيد من الشوق ما دام في مزيد من المعرفة فكيف يكون الشوق عنده علة عظيمة هذا من المحال البين بل من عرف الله اشتاق إليه وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها فشوق العارف لا نهاية له هذا مع الشوق الناشىء عن(1/458)
طلب اللقاء والرؤية والمعرفة العيانية فإذا كان القلب حاضرا عند ربه وهو غير غائب عنه لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقا إلى لقائه ورؤيته بل هذا يكون أتم لشوقه وأعظم فظهر أن قوله وإن الشوق علة عظيمة في طريق الخواص كلام باطل على كل تقدير وإن الشوق بالحقيقة إنما هو شوق الخواص العارفين بالله والعبد إذا كان له مع الله حال أو مقام وكشف له عما هو أفضل منه وأجل اشتاق إليه بالضرورة ولم يكن شوقه علة له ونقصا في حاله بل زيادة وكمالا ويكون ترك الشوق هو العلة وقد تقدم أن لا غاية للمعرفة تنتهي إليها فيبطل الشوق بنهايتها بل لا يزال العارف في مزيد من معرفته وشوقه والله المستعان(1/459)
* فصل وأما المسألة الثالثة وهي هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى ؟ فقالت طائفة الشوق يزول باللقاء لأنه طلب فإذا حصل المطلوب زال الطلب لأن تحصيل الحاصل محال ولا معنى للشوق إلى شيء حاصل وإنما يكون الشوق إلى شيء مراد الحصول ، محبوب الإدراك ، وقالت طائفة أخرى ليس كذلك بل الشوق يزيد بالوصول واللقاء ويتضاعف بالدنو ولهذا قال القائل : وأعظم ما يكون الشوق يوما إذ دنت الديار من الديار . ولهذا قال بعضهم شوق أهل القرب أتم من شوق المحبوبين واحتجت هذه الطائفة بأن الشوق من آثار الحب ولوازمه فكما أن الحب لا يزول باللقاء فهكذا الشوق الذي لا يفارقه قالوا ولهذا لا يزول الرضى والحمد والإجلال والمهابة التي هي من آثار المحبة باللقاء فهكذا الشوق يتضاعف ولا يزول والقولان حق وفصل الخطاب في المسألة أن المحب إذا اشتاق إلى لقاء محبوبه فإذا حصل له اللقاء زال ذلك الشوق الذي كان متعلقا بلقائه وخلفه شوق آخر أعظم منه وأبلغ إلى ما يزيد قربه والحظوة عنده وأما إذا قدر أنه لقيه ثم احتجب عنه ازداد شوقه إلى لقاء آخر ولا يزال يحصل له الشوق كلما احتجب عنه فهذا لا ينقطع شوقه أبدا فهو إذا رآه بل شوقه برؤيته وإذا زال عنه الطرف عاوده الشوق كما قيل ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته حتى يعود إليه الطرف مشتاقا وإنما الشأن في دوام الشوق حال الوصول واللقاء فاعلم أن الشوق نوعان شوق إلى اللقاء فهذا يزول باللقاء وشوق في حال اللقاء وهو تعلق الروح بالمحبوب تعلقا لا ينقطع أبدا فلا تزال الروح مشتاقة إلى مزيد فيبطل الشوق بنهايتها بل لا يزال العارف في مزيد من معرفته وشوقه والله المستعان ... إن لهذا التعلق وقوته اشتياقا لا يهدأ وقد أفصح بعض المحبين للمخلوق عن هذا المعنى بقوله أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها وهل بعد العناق تدان وألثم فاها كي تزول صبابتي فيشتد ما ألقى من الهيمان فالشوق في حال الوصل والقرب إلى مزيد من النعيم واللذة لا ينقطع(1/460)
والشوق في حال السير إلى اللقاء ينقطع ونستغفر الله من الكلام فيما لسنا بأهل له فالخوف أولى بالمسيء إذا تأله والحزن والحب يجمل بالتقى وبالبقاء من الدرن لكن إذا ما لم يحب بكم المسيء إذن فمن وإذا تخون فعلنا فعل المحبة مؤتمن أيحب شيء غيركم وحياتكم كلا ولن أيحب من تأتي محبته بأنواع المحن والسعد فيها ذابح والقلب فيها ممتحن دون الذي في حبه نيل السعادة والمنن ومحل بدر كمالها سعد السعود هو الوطن والقلب حين يحل في تلك المنازل والدمن يمسي ويصبح من رضاه ومن مناه في وطن أيحبهم قلب ويخشىأن يضام فلا إذن
*فصل وأما المسألة الرابعة وهي الفرق بين الشوق والاشتياق فقال أبو عبدالرحمن السلمي سمعت النصر أباذي يقول للخلق كلهم مقام بن الشوق وليس لهم مقام الاشتياق ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار وهذا يدل على أن الاشتياق عنده غير الشوق.(1/461)
ولا ريب أن الاشتياق مصدر اشتاق يشتاق اشتياقا كما أن التشوق مصدر تشوق تشوقا والشوق في الأصل إسم مصدر شاقه يشوقه شوقا مثل شاقه شوقا إذا دعاه إلى الاشتياق فالاشتياق مطاوع شاقة يقال شاقني فاشتقت إليه ثم صار الشوق اسم مصدر الاشتياق وغلب عليه حتى لا يفهم عند الإطلاق إلا الاشتياق القائم بالمشوق والمشوق هو الصب المشتاق والشائق هو الذي قام به وادعى الشوق فههنا ألفاظ الشوق والاشتياق والتشوق والشائق والمشوق والشيق فهذه ستة ألفاظ أحدها الشوق وهو في الأصل مصدر الفعل المتعدي شاقة يشوقه ثم صار اسم مصدر الاشتياق اللفظ الثاني الاشتياق وهو مصدر اشتاق اشتياقا والفرق بينه وبين الشوق هو الفرق بين المصدر واسم المصدراللفظ الثالث التشوق وهو مصدر تشوق إذا اشتاق مرة بعد مرة كما يقال تجرع وتعلم وتفهم وهذا البناء مشعر بالتكلف وتناول الشيء على مهلةاللفظ الرابع الشائق وهو الداعي للمشوق إلى الاشتياق اللفظ الخامس المشوق وهو المشتاق الذي قد حصل له الشوق اللفظ السادس الشيق وهو فيعل بمنزلة هين ولين وهو المشتاق فهذه فروق ما بين هذه الألفاظ وأما كون الاشتياق أبلغ من الشوق فهذا قد يقال فيه إنه الأصل وهو أكثر حروفا من الشوق وهو يدل على المصدر الفاعل وأما المشوق ففرع عليه لأنه اسم مصدر وأقل حروفا وهو إنما يدل على المصدر المجرد فهذه ثلاثة فروق منها والله أعلم .
*فصل وأما المسألة الخامسة وهي في مراتب الشوق ومنازله فقال صاحب منازل السائرين وهو على ثلاث درجات -الدرجة الأولى شوق العابد إلى الجنة ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل
-والدرجة الثانية شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب الذي ينبت على حافات المنن تعلق قلبه بصفاته المقدسية واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعلامة فضله وهذا شوق تغشاه المبار وتخالجه المسار ويقارنه الاصطبار .(1/462)
-والدرجة الثالثة نار أضرمها صفو المحبة فنغصت العيش وسلبت السلو ولم يهنأ لها مقر دون اللقاء .
-قلت الدرجة الأولى هي شوق إلى فضل الله وثوابه والثانية شوق إلى لقائه ورؤيته والثالثة شوق إليه لا لعلة ولا لسبب ولا ملاحظة فيه غير ذاته فالأول حظ المشتاق من إفضاله وإنعامه والثاني حظه من لقائه ورؤيته والثالث قد فنيت فيه الحظوظ واضمحلت فيه الأقسام
وقوله في الدرجة الأولى ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل هذه ثلاثة فوائد ذكرها في هذا الشوق أمن الخائف وفرح الحزين والظفر بالأمل فهذه المقاصد لما كانت حاصلة بدخول الجنة كانت مصورة للنفس أشد الشوق إلى حصول هذه المطالب وهي الفوز والفرح وجماع ذلك أمران أحدهما النجاة من كل مكروه والثاني الظفر بكل محبوب فهذان هما المشوقان إلى الجنة(1/463)
وقوله في الثانية شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب قد تقدم أن الشوق ثمرة الحب وقوله الذي ينبت على حافات المنن أي انشأه الفكر في منن الله وأياديه وأنعامه المتواترة وفيه إشارة إلى أن هذا الحب الذي هو نابت على الحافات والجوانب بعده حب أكمل منه وهو الحب الناشىء من شهود كمال الأسماء والصفات وذلك ليس من نبات الحافات ولكن من الحب الأول يدخل في هذا كما تقدم ولهذا قال تعلق قلبه بصفاته المقدسة وقوله واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعلامة فضله يشير به غلى ما يكرم الله به عبده من أنواع كراماته التي يستدل بها على أنه مقبول عند ربه ملاحظ بعنايته وأنه قد استخدمه وكتبه في ديوان أوليائه وخواصه ولا ريب أن العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات قوي قلبه وفرح بفضل ربه وعلم أنه أهل فطاب له السير ودام اشتياقه وزالت عنه العلل وما لم ينعم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيبا حزينا خائفا أن يكون ممن لا يصلح لذلك الجناب ولم يصل لتلك المنزلة وقوله وهذا شوق تغشاه المبار هي جمع مبرة وهي البر أي أن هذا الشوق مشحون بالبر مغشي به وهو إما بر القلب وهو كثرة خيره فهذا القلب أكثر القلوب خيرا فيفعل البر تقربا إلى من هو مشتاق إليه فهو يجيش بأنواع البر وهذه من فوائد المحبة أن قلب صاحبها ينبع منه عيون الخير وتنفجر منه ينابيع البر يريد به أن مبار الله ونعمه تغشاه على الدوام وقوله وتخالجه المسار يخالطه السرور في غضون أشواقه فإنها أشواق لا وحشة معها ولا ألم بل هي محشوة بالمسرات وقوله ويقارنه الاصطبار أي صحابه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه لشوقه إليه وإنما يضعف الصبر لضعف المحبة والمحب من أصبر الخلق كما قيل نفس المحب على الآلام صابرة لعل مسقمها يوما يداويها وقوله في الدرجة الثالثة إنها نار أضرمها صفو المحبة يعني أن هذا الشوق يتوقد من خالص المحبة التي لا تشوبها علة فهو أشد أنواع الشوق ولهذا نغصت العيش أي كدرته(1/464)
ونغصت المشتاق فيه لأنه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه فهو يترقب مفارقته وقوله وسلبت السلو يعني أن صاحبه لم يبق له مطمع في سلوه أبدا وهذا أعظم ما يكون من الحب والشوق أن المحب آيس من السلو وانتقطع طمعه منه كما أيس من الأمور الممتنعة كرجوع أيام الشباب عليه وعوده طفلا ونحو ذلك وقوله ولم ينهنهها مقر دون اللقاء أي أن هذه النار لا يبردها ولا يفتر حرها مقصود ولا مطلب ولا مراد دون لقاء محبوبه فليس لا سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاء محبوبه.
21- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ *) (التوبة : 23+24)
السعدي يقول تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا) اعملوا بمقتضى الإيمان ، بأن توالوا من قام به ، وتعادوا من لم يقم به . و(1/465)
(لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم ) الذين هم أقرب الناس إليكم ، وغيرهم من باب أولى وأحرى ، فلا تتخذوهم " أولياء (إن استحبوا )أي : اختاروا على وجه الرضا والمحبة ( الكفر على الإيمان)- (ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ) لأنهم تجرأوا على معاصي الله ، واتخذوا أعداء الله أولياء ، وأصل الولاية : المحبة والنصرة . وذلك أن اتخاذهم أولياء ، موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله ، ومحبتهم على محبة الله ورسوله . ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك ، هو أن محبة الله ورسوله ، يتعين تقديمها على محبة كل شيء ، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال : ( قل إن كان آباؤكم ) ومثلهم الأمهات (وأبناؤكم وإخوانكم ) في النسب والعشيرة( وأزواجكم وعشيرتكم) أي : قراباتكم عموما( وأموال اقترفتموها) أي : اكتسبتموها ، وتعبتم في تحصيلها . خصها بالذكر ، لأنها أرغب عند أهلها ، وصاحبها أشد حرصا عليها ، ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كد ( وتجارة تخشون كسادها ) أي : رخصها ونقصها ، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات ، من الأثمان ، والأواني ، والأسلحة ، والأمتعة ، والحبوب ، والحروث ، والأنعام ، وغير ذلك .( ومساكن ترضونها) من حسنها وزخرفتها ، وموافقتها لأهوائكم ، فإن كانت هذه الأشياء( أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله) فأنتم فسقة ظلمة .(1/466)
( فتربصوا ) أي : انتظروا ما يحل بكم من العقاب(حتى يأتي الله بأمره ) الذي لا مرد له .( والله لا يهدي القوم الفاسقين )أي : الخارجين عن طاعة الله ، المقدمين على محبة الله ، شيئا من المذكورات . وهذه الآية الكريمة ، أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله ، وعلى تقديمها على محبة كل شيء ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد ، على من كان شيء من المذكورات أحب إليه من الله ورسوله ، وجهاد في سبيله . وعلامة ذلك أنه إذا عرض عليه أمران ، أحدهما يحبه الله ورسوله ، وليس لنفسه فيها هوى ، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ، ولكنه يفوت عليه محبوبا لله ورسوله ، أو ينقصه ، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه ، على ما يحبه الله ، دل على أنه ظالم ، تارك لما يجب عليه .
البغوي- قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء)
-قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها=( الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) = نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة.
-وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: قال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا. فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.(1/467)
-وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عنه ولايتهم، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء" بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم وتؤرثون المقام معهم على الهجرة، (إن استحبوا)اختاروا(الكفر على الإيمان)- (ومن يتولهم منكم) فيطلعهم على عورة المسلمين ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، (فأولئك هم الظالمون)وكان في ذلك الوقت لا يقيل الإيمان إلا من مهاجر، فهذا معنى قوله: "فأولئك هم الظالمون".
ثم قال تعالى: (قل) يا محمد للمتخلفين عن الهجرة: (إن كان آباؤكم)، وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل:(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم) قرأ أبو بكر عن عاصم: عشيراتكم بالألف على الجمع، والآخرون بلا ألف على التوحيد، لأن جمع العشيرة عشائر:(وأموال اقترفتموها) اكتسبتموها (وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها) أي: تستطيبونها يعنى القصور والمنازل، (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا) فانتظروا،(حتى يأتي الله بأمره) قال عطاء: بقضائه. وقال مجاهد ومقاتل: بفتح مكة وهذا أمر تهديد، "والله لا يهدي" لا يوفق ولا يرشد(القوم الفاسقين) الخارجين عن الطاعة...
قلت: كيف يكون الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن أحب للمؤمن من الله ورسوله
والجهاد في سبيل الله وهو يقرأ هذه الآيات المحكمات البينات :(1/468)
1- (فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ ( 33 ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ( 34 ) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ( 35 ) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ( 36 ) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( 37 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ( 38 ) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ( 39 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ( 40 ) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ( 41 ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( 42 )= عبس=
2- ( يوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ( 88 ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 89) =الشعراء=
3- (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) =الممتحنة : 3 =
4-(يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) =الدخان : 41 =
5-(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) =لقمان : 33=
6-(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) =التغابن : 14=
7-(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) =فاطر : 18 =(1/469)
8-(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) =آل عمران : 14=
9-أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( 1 ) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) = التكاثر=
10-كمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 25 ) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( 26 ) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ( 27 ) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ( 28 ) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ( 29 )=الدخان=
11-إِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ( 34 ) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ( 35 ) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ( 36 ) فَأَمَّا مَن طَغَى ( 37 ) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 38 ) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ( 39 ) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( 40 ) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ( 41 ) =النازعات=
12-(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) =طه : 128=
13-(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ)=السجدة : 26 =(1/470)
14-يوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( 18 ) =المعارج=
15- وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ( 1 ) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ ( 2 ) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ( 3 ) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) =الهمزة=
16-(وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) =الأنفال : 28 =
17-(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) =سبأ : 37 =
18-(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) =المنافقون 9=
19-(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) =الحديد : 20 =(1/471)
20-(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)=يونس : 24 =
21-(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً)=الكهف : 45 =
22-(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف : 46 )
***والآيات القرآنية في هذا كثير.. وفيها عِبَر لمن وفّقه اللهُ فاعتبر وأحب الله فتقرب إليه بما يحب ويرضى ، وأحب رسوله ( فاتَّبعه واهتدى بهديه ،وأحب في الله عباده الصالحين فسلك مع السالكين طريق التجارة المُنجية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 10 ) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 11 ) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (13 )=الصف=(1/472)
وسمع قول الباري عز وجل : (إن الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) =فاطر 29+30 = فعمل ليكون في زمرة هؤلاء الراجين .
وجعل همَّه الأول أن يكون غدا في ثلة الرجال الذين قال فيهم الغفور الغفار: ( ِرِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) =النور 37+38 =
وحقق الصفقة الرابحة المربحة ببيعه النفس والنفيس لله تعالى.
(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 111 )(1/473)
22.(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة : 165 +166+167 )(1/474)
أبو السعود- قوله تعالى: ( ومن الناس من يتخذ من دون الله ) بيان لكمال ركاكة آراء المشركين أثر تقرير وحدانيته سبحانه وتحرير الايات الباهرة الملجئة للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضة باستحالة أن يشاركه شئ من الموجودات في صفة من صفات الكمال فضلا عن المشاركة في صفة الألوهية ...و(من دون الله )متعلق ب (يتخذ) أي من الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت شئونه الجليلة وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات عن تعيينه بالصفات (أندادا ) أي أمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون لاسيما في الأوامر والنواهي كما يفصح عنه ماسيأتى من وصفهم بالتبرى من المتبعين وقيل هي الأصنام وإرجاع ضمير العقلاء إليها في قوله عز وعلا ( يحبونهم) مبنى على آرائهم الباطلة في شأنها من وصفهم بما لا يوصف به إلا العقلاء والمحبة ميل القلب من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها والفعل منها حب على حد مَدَّ لكن الاستعمال المستفيض على أحب حبا ومحبة فهو محب وذاك محبوب ومحَب قليل وحاب أقل منه ومحبة العبد لله سبحانه إرادة طاعته في أوامره ونواهيه والاعتناء بتحصيل مراضيه فمعنى يحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملة في حيز النصب إما صفة ل( أندادا) أو حالا من فاعل يتخذ وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراده باعتبار لفظها ( كحب الله ) مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر مؤكد للفعل السابق ومن قضية كونه مبنيا للفاعل كونه أيضا كذلك والظاهر اتحاد فاعلهما فإنهم كانوا يقرون به تعالى أيضا ويتقربون إليه فالمعنى يحبونهم حبا كائنا كحبهم لله تعالى أي يسوون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم وقيل فاعل الحب المذكور هم المؤمنون فالمعنى حبا كائنا كحب المؤمنين له تعالى فلا بد من اعتبار المشابهة بينهما في أصل الحب لا في وصفه كماً أو كيفاً لما سيأتي من التفاوت البين وقيل هو مصدر من المبنى للمفعول أي كما(1/475)
يحب الله تعالى ويعظم وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس وأنت خبير بأنه لا مشابهة بين محبتهم لأندادهم وبين محبوبيته تعالى ... وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيم المضاف وإبانة كمال قبح ما ارتكبوه ( والذين آمنوا أشد حبا لله )جملة مبتدأة جئ بها توطئة لما يعقبها من بيان رخاوة حبهم وكونه حسرة عليهم والمفضل عليه محذوف أي المؤمنين أشد حبا له تعالى منهم لأندادهم ومآله ان حب اولئك له تعالى أشد من حب هؤلاء لأندادهم فيه من الدلالة على كون الحب مصدرا من المبنى للفاعل مالا يخفى وإنما لم يجعل المفضل عليه حبهم لله تعالى لما أن المقصود بيان انقطاعه وانقلابه بغضا وذلك إنما يتصور في حبهم لأندادهم لكونه منوطا بمبانٍ فاسدة ومبادٍ موهومة يزول بزوالها قيل ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد الى الله سبحانه وكانوا يعبدون صنما أياما فإذا وجدوا آخر رفضوه إليه وقد اكلت باهلة إلهها عام المجاعة وكان من حيس وأنت خبير بأن مدار ذلك اعتبار اختلال حبهم لها في الدنيا وليس الكلام فيه بل في انقطاعه في الآخرة عند ظهور حقيقة الحال ومعاينة الاهوال ... بل اعتباره مخل بما يقتضيه مقام المبالغة في بيان كمال قبح ما ارتكبوه وغاية عظم ما اقترفوه وإيثار الإظهار في موضع الإضمار لتفخيم الحب والإشعار بعلته (ولو يرى الذين ظلموا ) أي باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود(إذ يرون العذاب )المُعَد لهم يوم القيامة أي لو علموا اذا عاينوه وإنما أوثر صيغة المستقبل لجريانها مجرى الماضي في الدلالة على التحقيق في إخبار علام الغيوب ( أن القوة لله جميعا ) ساد مسد مفعولي يرى ( وأن الله شديد العذاب ) عطف عليه وفائدته المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان إما لعدم الإحاطة بكنهه وإما لضيق(1/476)
العبارة عنه وإما لإيجاب ذكره مالا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر والتفجع عليه أي لو علموا اذ راوا العذاب قد حل بهم ولم ينقذهم منه احد من اندادهم ان القوة لله جميعا ولا دخل لاحد في شئ اصلا لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرئ ولو ترى بالتاء الفوقانية على ان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم او لكل احد ممن يصلح للخطاب فالجواب حينئذ لرأيت امرا لا يوصف من الهول والفظاعة وقرئ اذ يرون على البناء للمفعول(وأن الله شديد العذاب ) على الاستئناف وإضمار القول ( إذ تبرأ الذين اتبِعوا ) بدل من اذ يرون أي اذ تبرأ الرؤساء (من الذين اتبَعوا ) من الاتباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا ويدعونهم اليه من فنون الكفر والضلال واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول ابليس اني كفرت بما اشر كتموني من قبل وقرئ بالعكس أي تبرأ الاتباع من الرؤساء والواو في قوله عز وجل (ورأوا العذاب ) حالية وقد مضمرة وقيل عاطفة على تبرأ والضمير في رأوا للموصوفين جميعا ( وتقطعت بهم الأسباب ) والوصل التي كانت بينهم من التبعية والمتبوعية والاتفاق على الملة الزائغة والاغراض الداعية الى ذلك واصل السبب الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه معطوفة على تبرأ وتوسيط الحال بينهما للتنبيه على علة التبرى وقد جوز عطفها على الجملة الحالية ( وقال الذين اتبعوا ) حين عاينوا تبرؤ الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا(لو أن لنا كرة )أي ليت لنا رجعة الى الدنيا ( فنتبرأ منهم ) هناك ( كما تبرؤوا منا) اليوم ( كذلك )اشارة الى مصدر الفعل الذي بعده لا الى شئ آخر مفهوم مما سبق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار اليه وبعد منزلته مع كمال تميزه عما عداه وانتظامه في سلك الامور المشاهدة والكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أي ذلك الإراء الفظيع ( يريهم الله(1/477)
أعمالهم حسرات عليهم ) أي ندامات شديدة فإن الحسرة شدة الندم والكمد وهي تألم القلب وانحساره عما يؤلمه واشتقاقها من قولهم بعير حسير أي منقطع القوة وهي ثالث مفاعيل يرى ان كان من رؤية القلب والا فهي حال والمعنى أن اعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم ( وما هم بخارجين من النار) كلام مستأنف لبيان حالهم بعد دخولهم النار والاصل وما يخرجون والعدول الى الاسمية لإفادة دوام نفي الخروج والضمير للدلالة على قوة أمرهم فيما اسند اليهم .(1/478)
السعدي ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 ) فإنه تعالى لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين المزيلة لكل شك ذكر هنا أن " من الناس " مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي : نظراء ومثلاء يساويهم في الله بالعبادة والمحبة والتعظيم والطاعة ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله مشاق له أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته فليس له أدنى عذر في ذلك بل قد حقت عليه كلمة العذاب وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير وإنما يسوونهم به في العبادة فيعبدونهم ليقربوهم إليه وفي قوله : " اتخذوا " دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له تسمية مجردة ولفظا فارغا من المعنى كما قال تعالى : " (وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول) "" (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن) "(1/479)
فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق وغيره مخلوق والرب الرازق ومن عداه مرزوق والله هو الغني وأنتم الفقراء وهو الكامل من كل الوجوه والعبيد ناقصون من جميع الوجوه والله هو النافع الضار والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء فعلم علما يقينا بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا سواء كان ملكا أو نبيا أو صالحا أو صنما أو غير ذلك وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة والذل التام فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله :(1/480)
( والذين آمنوا أشد حبا لله) أي : من أهل الأنداد لأندادهم لأنهم أخلصوا محبتهم له وهؤلاء أشركوا بها ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا ومحبته عين شقاء العبد وفساده وتشتت أمره فلهذا توعدهم الله بقوله ( ولو يرى الذين ظلموا ") باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله وسعيهم فيما يضرهم(إذ يرون العذاب)أي : يوم القيامة عيانا بأبصارهم ( أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ) أي : لعلموا علما جازما أن القوة والقدرة لله كلها وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء فيتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها لا كما اشتبه عليهم في الدنيا وظنوا أن لها من الأمر شيئا وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه فخاب ظنهم وبطل سعيهم وحق عليهم شدة العذاب ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع بل يحصل لهم الضرر منها من حيث ظنوا نفعها وتبرأ المتبَعون من التابعين وتقطعت بينهم الوصل التي كانت في الدنيا لأنها كانت لغير الله وعلى غير أمر الله ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له فاضمحلت أعمالهم وتلاشت أحوالهم وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها انقلبت عليهم حسرة وندامة وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا فهل بعد هذا الخسران خسران ؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو وتعلقوا بغير متعلق فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها فضرتهم غاية الضرر وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين وأخلص العمل لوجهه ورجا نفعه فهذا قد وضع الحق في موضعه فكانت أعماله حقا لتعلقها بالحق ففاز بنتيجة عمله ووجد جزاءه عند ربه غير منقطع كما قال تعالى : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا(1/481)
وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرؤوا من متبوعيهم بأن يتركوا الشرك بالله ويقبلوا على إخلاص العمل لله وهيهات فات الأمر وليس الوقت وقت إمهال وإنظار ومع هذا فهم كذبة (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) وإنما هو قول يقولونه وأماني يتمنونها حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرؤوا منهم والذنب ذنبهم فرأس المتبوعين على الشر إبليس ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر :"(إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) "
وقفة مع الامام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في الزواجر عن اقتراف الكبائر(1/482)
( الْكَبِيرَةُ1 : الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ ) أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَخَتَمَ لَنَا بِالْحُسْنَى فِي عَافِيَةٍ بِلَا مِحْنَةٍ إنَّهُ أَكْرَمُ كَرِيمٍ وَأَرْحَمُ رَحِيمٍ . اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِمَرْضَاتِهِ وَأَجْزَلَ عَلَيْنَا هَوَاطِلَ جُودِهِ وَسَوَابِغَ هِبَاتِهِ أَنَّهُ مَرَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَعَارِيفِ الْكَبِيرَةِ السَّابِقَةِ ظَاهِرُهُ إنَّمَا هُوَ تَعْرِيفٌ لِلْكَبِيرَةِ الْمُصَاحِبَةِ لِلْإِيمَانِ ، فَلِذَلِكَ بَدَأَ كَثِيرُونَ فِي تَعْدَادِهَا بِمَا يَلِي الْكُفْرَ وَهُوَ الْقَتْلُ ، وَلَمْ نُجْرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ عَلَى سَائِرِ مَا قِيلَ : إنَّهُ كَبِيرَةٌ مَعَ بَيَانِ مَرَاتِبِهَا وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ . وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ يُبْسَطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحْكَامِهِ فَنَقُولَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ(1/483)
الْمُوبِقَاتِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ } . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ } الْحَدِيثَ . وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَوْلُ الزُّورِ } ، وَكَوْنُهُ أَكْبَرَهُنَّ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهَا كَالشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا . وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ وَأَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ . وَالطَّبَرَانِيُّ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ . وَالْبَزَّارُ : { إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعُ الْفَحْلِ } . وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلُ الزُّورِ } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ . وَذَكَرَ مِنْهَا الْأَعْرَابِيَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالْبُخَارِيُّ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ } . وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ(1/484)
صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ إلَّا جُعِلَتْ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَالطَّبَرَانِيُّ . : { مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ وَمَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ يَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، وَيُؤْتِي زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ أَيَحْتَسِبُهَا وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ؟ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : هِيَ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَالسِّحْرُ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لَا يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إلَّا رَافَقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّةٍ ؛ أَبْوَابُهَا مَصَارِيعُ الذَّهَبِ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اذْهَبْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَفِي رِوَايَةٍ قُمْ يَا عُمَرُ فَنَادِ فِي النَّاسِ : إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا ابْنَ عَوْفٍ ارْكَبْ فَرَسَك ثُمَّ نَادِ إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِمُؤْمِنٍ } رَوَاهُ(1/485)
أَبُو دَاوُد . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ إنَّهُ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَالشَّيْخَانِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ { مَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ { أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْت كَارِهًا } . وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالضِّيَاءُ : { آمُرُكُمْ بِثَلَاثٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَتُطِيعُوا لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : قِيلَ وَقَالَ : وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ } . وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ { أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ إلَيْهِ فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهَا فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا وَإِنْ أَبَتْ فَاسْبِهَا } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا خِلَافُهُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ أَوْ(1/486)
رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ } يَعْنِي النَّارَ . وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَةَ عَبْدٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، أَيْ مَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ } . وَابْنُ حِبَّانَ { مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا } يَعْنِي النَّارَ . وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ ، وَإِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّهُ } .(1/487)
**تَنْبِيهَاتٌ مِنْهَا : بَيَانُ الشِّرْكِ وَذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا فِي النَّاسِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا كَذَلِكَ ، فَإِذَا بَانَ لَهُمْ بَعْضُهَا فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا لِئَلَّا تَحْبَطَ أَعْمَالُهُمْ وَيُخَلَّدُوا فِي أَعْظَمِ الْعَذَابِ وَأَشَدِّ الْعِقَابِ ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدًّا ، فَإِنَّ مَنْ ارْتَكَبَ مُكَفِّرًا تَحْبَطُ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْوَاجِبِ مِنْهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَدْ تَوَسَّعَ أَصْحَابُهُ فِي الْمُكَفِّرَاتِ وَعَدُّوا مِنْهَا جُمَلًا مُسْتَكْثَرَةً ، جِدًّا وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ وَبِأَنَّ مَنْ ارْتَدَّ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، فَمَعَ هَذَا التَّشْدِيدِ الْعَظِيمِ بَالَغُوا فِي الِاتِّسَاعِ فِي الْمُكَفِّرَاتِ فَتَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ ذِي مُسْكَةٍ مِنْ دِينِهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَالُوهُ حَتَّى يَجْتَنِبَهُ . وَلَا يَقَعَ فِيهِ فَيُحْبِطَ عَمَلَهُ ، وَيَلْزَمَهُ قَضَاؤُهُ ، وَتَبِينَ زَوْجَتُهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ، بَلْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرِّدَّةَ وَإِنْ لَمْ تُحْبِطْ الْعَمَلَ لَكِنَّهَا تُحْبِطُ ثَوَابَهُ فَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ إلَّا فِي الْقَضَاءِ فَقَطْ ، وَالْأَكْثَرُونَ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدُوهُمْ لَكِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِلدِّينِ وَالنَّفْسِ الْمَأْمُورَ بِهِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ وَمُرَاعَاةَ الْخِلَافِ مَا أَمْكَنَ سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ الضَّيِّقِ الشَّدِيدِ الْحَرَجِ(1/488)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ لَا أَشَدَّ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْتُ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ مِمَّا هُوَ مُعْتَمَدٌ وَغَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَهُمْ ، وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي كِتَابِي الْآتِي ذِكْرُهُ أُشِيرُ هُنَا إلَى جُمْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ أَرَادَ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْفُرُوعِ فَعَلَيْهِ بِالْكِتَابِ الْمَذْكُورِ .
9
فَمِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ أَنْ يَعْزِمَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي زَمَنٍ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِاللِّسَانِ أَوْ الْقَلْبِ عَلَى شَيْءٍ وَلَوْ مُحَالًا عَقْلِيًّا فِيمَا يَظْهَرُ فَيَكْفُرُ حَالًا أَوْ يَعْتَقِدُ مَا يُوجِبُهُ أَوْ يَفْعَلُ أَوْ يَتَلَفَّظُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَصَدَرَ عَنْ اعْتِقَادٍ أَوْ عِنَادٍ أَوْ اسْتِهْزَاءٍ كَأَنْ يَعْتَقِدَ قِدَمَ الْعَالَمِ وَلَوْ بِالنَّوْعِ . أَوْ نَفْيَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَإِنْكَارِ أَصْلٍ نَحْوُ عِلْمِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ أَوْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّ ، أَوْ إثْبَاتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ كَذَلِكَ كَاللَّوْنِ ، أَوْ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ ، أَوْ خَارِجٌ عَنْهُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نِزَاعٍ . وَتَفْصِيلُ حَاصِلِهِ : أَنَّ النَّقْصَ إمَّا أَنْ يُعْتَقَدَ اتِّصَافُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ وَتَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - بِهِ صَرِيحًا أَوْ لَازِمًا ، فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ إجْمَاعًا ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ ، الْأَصَحُّ مِنْهُ عِنْدَنَا عَدَمُ الْكُفْرِ ، فَعُلِمَ أَنَّ نَحْوَ الْمُجَسِّمِ أَوْ الْجَوْهَرِيِّ لَا يُكَفَّرُ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ مَقَالَتِهِ مِنْ النَّقْصِ إلَّا إنْ اعْتَقَدَهُ أَوْ صَرَّحَ بِهِ ،(1/489)
وَكَأَنْ يَسْجُدَ لِمَخْلُوقٍ كَالشَّمْسِ إنْ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عُذْرِهِ وَيَأْتِي هَذَا الْقَيْدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ : كَالْمَشْيِ إلَى الْكَنَائِسِ مَعَ أَهْلِهَا بِزِيِّهِمْ مِنْ الزَّنَانِيرِ وَغَيْرِهَا ، أَوْ يُلْقِي وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ فِي نَجَاسَةٍ . قَالَ بَعْضُهُمْ : أَوْ قَذَرٍ طَاهِرٍ كَمَنِيٍّ أَوْ مُخَاطٍ أَوْ بُصَاقٍ ، أَوْ يُلَطِّخَ ذَلِكَ أَوْ مَسْجِدًا بِنَجَسٍ وَلَوْ مَعْفُوًّا عَنْهُ أَوْ يَشُكُّ فِي نُبُوَّةِ نَبِيٍّ أُجْمِعَ عَلَيْهَا لَا كَالْخَضِرِ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ أَوْ فِي إنْزَالِ كِتَابٍ كَذَلِكَ : كَالتَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ أَوْ زَبُورِ دَاوُد أَوْ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ فِي آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ، أَوْ فِي تَكْفِيرِ كُلِّ قَائِلٍ قَوْلًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ ، أَوْ تَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ . أَوْ فِي مَكَّةَ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي صِفَةِ الْحَجِّ أَوْ هَيْئَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَكَذَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ ، أَوْ فِي حُكْمٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مَعْلُومٍ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَتَحْرِيمِ الْمَكْسِ . وَمَشْرُوعِيَّةِ السُّنَنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ ، أَوْ اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا كَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ بِخِلَافِهَا مَعَ نَجَاسَةٍ لِلْخِلَافِ فِيهَا ، وَكَإِيذَاءِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ(1/490)
ذِمِّيٍّ بِلَا مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ لِاعْتِقَادِهِ ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ أَوْ يَقُولُ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ ، أَوْ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ ، أَوْ لَيْسَ بِقُرَشِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ أَوْ إنْسِيٍّ ، لِأَنَّ وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ ؛ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ أَجْمَعُوا عَلَى ثُبُوتِهَا لَهُ يَكُونُ إنْكَارُهَا كُفْرًا كَمَا لَوْ جَوَّزَ بَعْثَةَ نَبِيٍّ بَعْدَهُ ، أَوْ قَالَ : لَا أَدْرِي أَهُوَ الَّذِي بُعِثَ بِمَكَّةَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرُهُ ، أَوْ النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ ، أَوْ أَنَّ رُتْبَتَهَا يُوصَلُ إلَيْهَا بِصَفَاءِ الْقَلْبِ ، أَوْ الْوَلِيُّ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ ، أَوْ إنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ نُبُوَّةً أَوْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، أَوْ يَعِيبُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ وَالْمَلَائِكَةِ . أَوْ يَلْعَنُهُ أَوْ يَسُبُّهُ أَوْ يَسْتَخِفُّ أَوْ يَسْتَهْزِئُ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ كَلَحْسِ الْأَصَابِعِ ، أَوْ يُلْحِقُ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ فِعْلِهِ ، أَوْ يُعَرِّضُ ذَلِكَ أَوْ يُشَبِّهُهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ الْإِزْرَاءِ أَوْ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ أَوْ الْغَضِّ مِنْهُ ، أَوْ تَمَنَّى لَهُ مَضَرَّةً أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ أَوْ عَبِثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنْ الْكَلَامِ وَهَجْرٍ وَمُنْكَرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٍ أَوْ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنْ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ ، أَوْ غَمَصَهُ بِبَعْضِ(1/491)
الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ فَيُكَفَّرُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ إجْمَاعًا فَيُقْتَلُ . وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ قَتَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ قَالَ : لَهُ عِنْدَ صَاحِبِكُمْ وَعَدَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَنْقِيصًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَوْ يَرْضَى بِالْكُفْرِ وَلَوْ ضِمْنًا كَأَنْ يُشِيرَ عَلَى كَافِرٍ بِأَنْ لَا يُسْلِمَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ ؛ أَوْ يَقُولَ لَهُ : لَقِّنِّي كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ فَيُؤَخِّرَ ، كَأَنْ يَقُولَ خَطِيبٌ اصْبِرْ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِي ، بِخِلَافِ الدُّعَاءِ ، نَحْوُ لَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ أَوْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ سَلَبَهُ عَنْ فُلَانٍ الْمُسْلِمِ إنْ أَرَادَ بِتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ الرِّضَا أَوْ سُؤَالَ الْكُفْرِ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ رِضًا بِهِ ، أَوْ يَقُولُ لِمُسْلِمٍ : يَا كَافِرُ بِلَا تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا ، أَوْ يَسْخَرُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَبِيِّهِ كَأَنْ يُصَغِّرَهُ أَوْ بِأَمْرِهِ أَوْ نَهْيِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ كَأَنْ يَقُولَ لَوْ أَمَرَنِي بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْهُ أَوْ لَوْ جَعَلَ الْقِبْلَةَ هُنَا مَا صَلَّيْتُ إلَيْهَا أَوْ لَوْ أَعْطَانِي الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا اسْتِخْفَافًا أَوْ عِنَادًا أَوْ لَوْ آخَذَنِي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ مَا بِي مِنْ الشِّدَّةِ وَالْمَرَضِ ظَلَمَنِي . أَوْ قَالَ ظَالِمٌ لِمَظْلُومِهِ الْقَائِلِ هَذَا الظُّلْمُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ : أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ أَوْ لَوْ شَهِدَ عِنْدِي مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ مَا صَدَّقْتُهُ أَوْ لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا مَا آمَنْتُ بِهِ(1/492)
أَوْ إنْ كَانَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صِدْقًا نَجَوْنَا أَوْ كَفَّرَ مُكَذِّبَهُ لِأَنَّ فِيهِ تَنْقِيصًا لِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ . أَوْ قِيلَ لَهُ قَلِّمْ أَظْفَارَك فَإِنَّهُ سُنَّةٌ ، فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً اسْتِهْزَاءً أَوْ قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْأَذْكَارِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، أَوْ الْمُؤَذِّنُ يَكْذِبُ أَوْ : صَوْتُهُ كَالْجَرَسِ ، وَأَرَادَ تَشْبِيهَهُ بِنَاقُوسِ الْكُفْرِ أَوْ الِاسْتِخْفَافَ بِالْأَذَانِ ، . أَوْ سَمَّى اللَّهَ عَلَى مُحَرَّمٍ كَخَمْرٍ اسْتِهْزَاءً أَوْ لَا أَخَافُ الْقِيَامَةَ اسْتِهْزَاءً أَيْضًا ، أَوْ قَالَ عَنْ اللَّهِ : إنَّهُ لَا يَتْبَعُ السَّارِقَ نَاسِبًا الْعَجْزَ إلَيْهِ ، أَوْ تَشَبَّهَ بِالْعُلَمَاءِ أَوْ الْوُعَّاظِ أَوْ الْمُعَلِّمِينَ عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ حَتَّى يَضْحَكُوا أَوْ يَلْعَبُوا اسْتِخْفَافًا ، أَوْ قَالَ قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ اسْتِخْفَافًا أَيْضًا ، أَوْ قَالَ مَنْ اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَوْ مَاتَ وَلَدُهُ إنْ شِئْت تَوَفَّنِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَوْ أَخَذْت وَلَدِي فَمَا بَقِيَ لَمْ تَفْعَلْهُ ، أَوْ قِيلَ لَهُ يَا كَافِرُ فَقَالَ نَعَمْ نَاوِيًا غَيْرَ مُجَرَّدِ الْإِجَابَةِ . أَوْ تَمَنَّى كُفْرًا ثُمَّ إسْلَامًا حَتَّى يُعْطَى دَرَاهِمَ مَثَلًا أَوْ تَمَنَّى حِلَّ مَا لَمْ يَحِلَّ فِي زَمَنٍ قَطُّ كَالْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا أَوْ الظُّلْمِ . أَوْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى إلَى جَوْرٍ فِي التَّحْرِيمِ ، أَوْ لَبِسَ زِيَّ كَافِرٍ مَيْلًا لِدِينِهِ . أَوْ قَالَ : الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا : النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ ، إلَّا إنْ أَرَادَ(1/493)
حَقِيقَتَهَا . أَوْ قَالَ لِمَنْ شَمَّتَ كَبِيرًا يَرْحَمُك اللَّهُ : لَا تَقُلْ لَهُ هَكَذَا قَاصِدًا أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الرَّحْمَةِ أَوْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ ، أَوْ قَالَ قِنٌّ : لَا أُصَلِّي فَإِنَّ الثَّوَابَ يَكُونُ لِمَوْلَايَ عَلَى نَظَرٍ فِيهِ ، وَوَاضِحٌ جَهْلُ أَكْثَرِ الْأَرِقَّاءِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورٍ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِمْ بَلْ فِي عَالِمٍ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ . وَحِينَئِذٍ فَلَا نَظَرَ فِيهِ . أَوْ قِيلَ لَهُ : مَا الْإِيمَانُ ؟ فَقَالَ : لَا أَدْرِي اسْتِخْفَافًا ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِ اللَّهِ ، وَأَرَادَ مَحَبَّةَ التَّعْظِيمِ لَا الْمَيْلِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ . أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ ، أَوْ قَذْفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا ، أَوْ قَالَ : إنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ، أَوْ قَالَ : أَنَا اللَّهُ وَلَوْ مَازِحًا أَوْ لَا أَدْرِي حَقَّهُ جَحْدًا لِلْوَاجِبَاتِ ، أَوْ قَالَ : اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ لِنِسْبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إلَى الْجَهْلِ . أَوْ قَالَ اسْتِخْفَافًا شَبِعْت مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ الْمَحْشَرُ أَوْ جَهَنَّمُ ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْتُ وَقَدْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ أَعْمَلُ بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ وَقَدْ أُمِرَ بِحُضُورِهِ ، أَوْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ إنْ لَمْ يُرِدْ الِاسْتِغْرَاقَ ، وَإِلَّا لَمْ يُشْتَرَطْ اسْتِخْفَافٌ لِشُمُولِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ أَوْ(1/494)
أَلْقَى فَتْوَى عَالِمٍ أَوْ قَالَ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا الشَّرْعُ ؟ وَقَصَدَ الِاسْتِخْفَافَ ، أَوْ قَالَ : فِي حَقِّ فَقِيهٍ : هَذَا هُوَ شَيْءٌ مُسْتَخِفًّا بِالْعِلْمِ ، أَوْ قَالَ الرُّوحُ قَدِيمٌ ، أَوْ قَالَ إذَا ظَهَرَتْ الرُّبُوبِيَّةُ زَالَتْ الْعُبُودِيَّةُ وَعَنَى بِذَلِكَ رَفْعَ الْأَحْكَامِ ، أَوْ أَنَّهُ فَنِيَ مِنْ صِفَاتِهِ النَّاسُوتِيَّةِ إلَى اللَّاهُوتِيَّةِ أَوْ أَنَّ صِفَاتِهِ تَبَدَّلَتْ بِصِفَاتِ الْحَقِّ ، أَوْ أَنَّهُ يُرَادُ عِيَانًا فِي الدُّنْيَا أَوْ يُكَلِّمُهُ شِفَاهًا ، أَوْ أَنَّهُ يَحِلُّ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ أَوْ أَنَّهُ أُسْقِطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ ، أَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : دَعْ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةَ الشَّأْنِ فِي عَمَلِ الْأَسْرَارِ ، أَوْ سَمَاعُ الْغِنَاءِ مِنْ الدِّينِ أَوْ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ أَكْبَرَ مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ الْعَبْدُ يَصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ ، أَوْ الرُّوحُ مِنْ نُورِ اللَّهِ فَإِذَا اتَّصَلَ النُّورُ بِالنُّورِ اتَّحَدَ . وَبَقِيَتْ فُرُوعٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ بَيَّنْتُهَا مَعَ بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا وَعَلَى جَمِيعِ مَا مَرَّ بِقُيُودِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْبَحْثِ وَمَعَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ، بَلْ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا قِيلَ بِأَنَّهُ كُفْرٌ وَلَوْ عَلَى الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ فِي كِتَابِي الْإِعْلَامِ بِمَا يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ ] وَهُوَ كِتَاب حَافِلٌ لَا يَسْتَغْنِي طَالِبُ عِلْمٍ عَنْهُ
10(1/495)
وَمَرَّ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَا كَافِرُ كَفَرَ بِشَرْطِهِ ، وَكَذَا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا مَرِيدًا أَنَّ لِلنَّجْمِ تَأْثِيرًا . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ الَّذِي قِيلَ لَهُ كَافِرًا فَهُوَ كَافِرٌ وَإِلَّا رَجَعَ عَلَى مَنْ قَالَ } . وَالْخَرَائِطِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ : { مَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِكُفْرٍ إلَّا بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فَقَدْ كَفَرَ بِتَكْفِيرِهِ إيَّاهُ } . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا سِتْرٌ مِنْ اللَّهِ ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ هُجْرًا هَتَكَ سِتْرَ اللَّهِ ، وَإِذَا قَالَ : يَا كَافِرُ فَقَدْ كَفَرَ أَحَدُهُمَا } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَهُوَ كَقَتْلِهِ ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } . وَأَبُو دَاوُد { أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَفَّرَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَإِلَّا كَانَ هُوَ الْكَافِرُ } . وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ قَالَ : إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } . وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { كُفُّوا عَنْ أَهْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا تُكَفِّرُوهُمْ بِذَنْبٍ ، فَمَنْ كَفَّرَ أَهْلَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ } . وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ { أَيُّمَا(1/496)
امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ } . وَابْنُ حِبَّانَ { مَا كَفَّرَ رَجُلٌ رَجُلًا قَطُّ إلَّا بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } . وَمُسْلِمٌ { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إلَّا وَأَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ ، يُنْزِلُ اللَّهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ : مُطِرْنَا بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا } . وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { أَلَمْ تَرَوْا مَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالَ : مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ الْكَوْكَبُ وَبِالْكَوْكَبِ } . وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ : { هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ اللَّهُ : أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ } . وَالشِّيرَازِيُّ : { لَا تَزَالُ أُمَّتِي فِي مَسَكَةٍ مِنْ دِينِهَا مَا لَمْ تُضِلَّهُمْ النُّجُومُ } . وَأَحْمَدُ : { أَصْبَحَ مِنْ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ فَقَالُوا : هَذِهِ رَحْمَةٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَقَدْ صَدَقَنَا نَوْءُ كَذَا وَكَذَا } وَمِنْهَا : مَرَّ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَبِهِ يُخَصُّ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَبِالْآيَتَيْنِ جَمِيعًا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ(1/497)
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ - مُؤْمِنًا فَاسِقًا - تَحْتَ الْمَشِيئَةِ ، فَإِنْ شَاءَ تَعَالَى عَذَّبَهُ كَمَا يُرِيدُ ، ثُمَّ مَآلُهُ إلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ فَيُخْرِجَهُ مِنْ النَّارِ وَقَدْ اسْوَدَّ فَيَنْغَمِسَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يَعُودَ لَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ الْجَمَالِ وَالنَّضَارَةِ وَالْحُسْنِ ، ثُمَّ يُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَيُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لَهُ بِسَابِقِ إيمَانِهِ وَمَا قَدَّمَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ كَمَا صَحَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْهُ ابْتِدَاءً فَسَامَحَهُ وَأَرْضَى عَنْهُ خُصَمَاءَهُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ النَّاجِينَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْخَوَارِجِ : إنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ . وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ حَتْمًا ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ عِقَابُ الْمُطِيعِ ، فَهُوَ مِنْ تَقَوُّلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ ؛ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِمَا مَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ حِينَئِذٍ التَّأْبِيدَ فِي النَّارِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْخُلُودُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْبِيدَ كَمَا تَشْهَدُ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَوَادُّ اللُّغَوِيَّةُ : أَيْ فَهَذَا جَزَاؤُهُ إنْ عُذِّبَ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَعْفُو تَعَالَى عَنْهُ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ(1/498)
: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ ، مُرَادُهُمْ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْ الْقَتْلِ ، وَإِلَّا فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَهُ تَوْبَةٌ كَالْكَافِرِ بَلْ أَوْلَى . وَأَمَّا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ : لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ ، فَهُوَ مِنْ افْتِرَائِهِمْ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا وَرَدَ مِمَّا قَدْ يُؤَيِّدُهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ ظَاهِرُهُ بِدَلِيلِ نُصُوصٍ أُخَرَ قَاطِعٍ بُرْهَانُهَا وَاضِحٍ بَيَانُهَا ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ لِمَا أَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ كُفْرٌ ، إذْ هُوَ صَرِيحٌ فِي تَكْذِيبِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ . وَمِنْهَا : نَقْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً كُفِّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ وَسْوَسَةٌ فَتَرَدَّدَ فِي الْإِيمَانِ أَوْ الصَّانِعِ ، أَوْ تَعَرَّضَ بِقَلْبِهِ لِنَقْصٍ أَوْ سَبٍّ وَهُوَ كَارِهٌ لِذَلِكَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا إثْمٌ ، بَلْ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى دَفْعِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ لِمَا كَرِهَهُ . ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ .
11(1/499)
وَمِنْهَا : لَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ مِنْ كَافِرٍ أَصْلِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ إلَّا بِنُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِإِحْدَاهُمَا ، وَلَوْ أَبْدَلَ الْإِلَهَ فِي : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِالْبَارِئِ أَوْ الرَّحْمَنِ أَوْ الْمَلِكِ أَوْ الرَّزَّاقِ جَازَ ، وَكَذَا لَوْ أَبْدَلَ لَا بِمَا مِنْ فَقَالَ : مَا مِنْ إلَهٍ ، أَوْ إلَّا بِغَيْرٍ أَوْ سِوَى أَوْ عَدَا ، أَوْ الْجَلَالَةَ بِالْمُحْيِي الْمُمِيتِ وَهُوَ غَيْرُ طَبَائِعِيٍّ أَوْ بِالرَّحْمَنِ أَوْ الْبَارِئِ ، أَوْ مَنْ آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَوْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْمَلِكِ أَوْ الرَّزَّاقِ بِخِلَافِ سَاكِنِ السَّمَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنَّ الْأَوَّلَ نَصٌّ فِي الْجِهَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا وَعَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَالْقَوْلُ بِالْجِهَةِ كُفْرٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْكُفْرِ ، بِخِلَافِ مَنْ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ ؛ إذْ الْمُرَادُ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ ، وَلِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ الْمُؤَوَّلِ عِنْدَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ . فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِفِرْقَةٍ ضَالَّةٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّا نُعَيِّنُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ وَلَا نَصْرِفُ الظَّاهِرَ إلَيْهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَلَفِ أَوْ نُؤَوِّلُ إجْمَالًا وَلَا نُعَيِّنُ شَيْئًا ، بَلْ نُفَوِّضُ عِلْمَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ(1/500)
الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ تَفْضِيلًا فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ تَعْيِينَ التَّأْوِيلِ بِأَنْ قَرُبَ مِنْ الظَّاهِرِ وَشَهِدَتْ لَهُ قَوَاعِدُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ كَانَ أَوْلَى وَإِلَّا فَالتَّفْوِيضُ أَوْلَى ، وَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ وَجَدَهَا شَاهِدَةً لِلتَّأْوِيلِ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا بِدُونِهِ يُوهِمُ التَّنَاقُضَ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ صَوْنًا عَنْ ذَلِكَ الْإِيهَامِ . أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } مَعَ قَوْلِهِ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }- { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } وَمَعَ خَبَرِ : { لَوْ أَدْلَيْتُمْ حَبْلًا لَوَقَعَ عَلَى اللَّهِ } فَأَحَدُ تِلْكَ النُّصُوصِ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ؛ إذْ لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ بِظَوَاهِرِ تِلْكَ النُّصُوصِ جَمِيعِهَا ، وَإِذَا وَجَبَ تَأْوِيلُ بَعْضِهَا وَجَبَ تَأْوِيلُ كُلِّهَا . إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ عَلَى أَنَّ الْخَلَفَ لَمْ يَنْفَرِدُوا بِذَلِكَ بَلْ أَوَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَمَالِكٍ وَجَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا . وَالْحَاصِلُ : أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَرَّرْتُهُ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ اعْتِقَادُهُ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ نَقْصٍ صَرِيحًا أَوْ اسْتِلْزَامًا ، بَلْ وَعَنْ كُلِّ مَا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا اتَّصَفَ بِأَكْمَلِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ فِي ذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ وَسَائِرِ شُؤُونِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ : فَيَجُوزُ أَنْ(2/1)
يُبَدِّلَ مُحَمَّدًا فِيهَا بِأَحْمَدَ أَوْ أَبِي الْقَاسِمِ ، وَالرَّسُولَ بِالنَّبِيِّ ، وَيُشْتَرَطُ تَرْتِيبُ الشَّهَادَتَيْنِ . فَلَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَمْ يَسْلَمْ إلَّا الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا وَلَا النُّطْقُ بِهِمَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فَهْمُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ ، ثُمَّ مَنْ كَانَ كُفْرُهُ بِإِنْكَارِ أَصْلِ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاهُ الشَّهَادَتَانِ أَوْ بِتَخْصِيصِهَا بِالْعَرَبِ ، كَالْعِيسَوِيَّةِ اُشْتُرِطَ أَنْ يَقُولَ : رَسُولُ اللَّهِ إلَى كَافَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَإِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كَالنُّطْقِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ بِغَيْرِ مَا مَرَّ كَقَوْلِهِ : آمَنْتُ فَقَطْ أَوْ آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ ، أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ أَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَنَا أُحِبُّهُ أَوْ أَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ مِثْلُهُمْ أَوْ دِينُهُمْ حَقٌّ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ آمَنْت بِاَللَّهِ أَوْ أَسْلَمْت لِلَّهِ أَوْ اللَّهُ خَالِقِي أَوْ رَبِّي ثُمَّ أَتَى بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا ؛ وَيُنْدَبُ أَمْرُ كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ بِالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ ، وَيُشْتَرَطُ لِنَفْعِ الْإِسْلَامِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ مَا مَرَّ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَإِنْ آمَنَ بِذَلِكَ بِأَنْ صَدَّقَ بِهِ بِقَلْبِهِ ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا ، كَمَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، لَكِنْ اُعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ(2/2)
قَوْلًا لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إنَّ إيمَانَهُ يَنْفَعُهُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عَاصٍ ، وَإِنْ تَلَفَّظَ بِهِمَا بِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ كَافِرٌ إجْمَاعًا ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا فَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً ثُمَّ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُجَدِّدَ النِّكَاحَ بَعْدَ إسْلَامِهِ .
12(2/3)
وَمِنْهَا : مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ ، وَلَا عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } نَعَمْ . يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ قَوْمُ يُونُسَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ } بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ ، وَأَنَّ إيمَانَهُمْ كَانَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ اسْتِثْنَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ كَرَامَةً وَخُصُوصِيَّةً لِنَبِيِّهِمْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَبَوَيْهِ لَهُ حَتَّى آمَنَا بِهِ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ حَافِظُ الشَّامِ وَغَيْرُهُمَا فَنَفَعَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُصُوصِيَّاتُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي خَبَرِ إحْيَاءِ أَبَوَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطَالَ فِيهِ بِمَا رَدَدْته عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى ، وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُمَا : لَمْ تَزَلْ فَضَائِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصَائِصُهُ تَتَوَالَى وَتَتَتَابَعُ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ ، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا فَضَّلَهُ اللَّهُ(2/4)
تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ ، وَلَيْسَ إحْيَاؤُهُمَا ، وَإِيمَانُهُمَا بِهِ مُمْتَنِعًا عَقْلًا ، وَلَا سَمْعًا فَقَدْ أَحْيَا قَتِيلَ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى أَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ، وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمَوْتَى ، وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ إحْيَائِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّمْسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا حَتَّى صَلَّى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الْعَصْرَ ، فَكَمَا أُكْرِمَ بِعَوْدِ الشَّمْسِ وَالْوَقْتِ بَعْدَ فَوَاتِهِ ، فَكَذَلِكَ أُكْرِمَ بِعَوْدِ الْحَيَاةِ وَوَقْتِ الْإِيمَانِ بَعْدَ فَوَاتِهِ إكْرَامًا لَهُ أَيْضًا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } نَزَلَتْ فِي أَبَوَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْنِي سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَوْلَا كَرَامَتُك . وَخَبَرُ مُسْلِمٍ : { أَبِي وَأَبُوك فِي النَّارِ } . إمَّا كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِ أَوْ قَالَهُ تَطْمِينًا ، وَإِرْشَادًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ ، فَإِنَّهُ تَغَيَّرَ لَمَّا قَالَ أَبُوك فِي النَّارِ ، وَأَخَذَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَمُجْتَهِدُوهَا الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْمُعَوَّلُ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَعْنِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } إجْمَاعَهُمْ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ(2/5)
طَرِيقَيْنِ وَقَالَ فِي إحْدَاهُمَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَفِي الْأُخْرَى حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا } . وَأَمَّا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَزَّ قَائِلًا : { حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَهُوَ لَا يَنْفَعُهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى عَقِبَ ذَلِكَ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } وَسَبَبُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ كَرَّرَ الْإِيمَانَ مَرَّتَيْنِ بِنَاءً عَلَى فَتْحِ أَنَّ وَثَلَاثًا بِنَاءً عَلَى كَسْرِهَا أَنَّهُ إنَّمَا آمَنَ عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ ، وَالْإِيمَانُ حِينَئِذٍ غَيْرُ نَافِعٍ لِمَا تَقَرَّرَ ، وَأَيْضًا فَإِيمَانُهُ إنَّمَا كَانَ تَقْلِيدًا مَحْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } فَكَأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّ لِلْعَالَمِ إلَهًا فَآمَنَ بِذَلِكَ الْإِلَهِ الَّذِي سَمِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِهِ فَآمَنَ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِوُجُودِ الصَّانِعِ ، وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَبِيثِ الْبَالِغِ نِهَايَةَ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ لَا يَزُولُ بِتَقْيِيدٍ مَحْضٍ ، بَلْ لَا بُدَّ فِي مُزِيلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا بُدَّ فِي(2/6)
إسْلَامِ الدَّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ كَانَ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ أَنْ يُقِرَّ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ ، فَلَوْ قَالَ : آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُ مُسْلِمًا كَمَا مَرَّ وَفِرْعَوْنُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبُطْلَانِ مَا كَانَ كَفَرَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الصَّانِعِ ، وَإِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } لَا يُدْرَى مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ ، فَإِذَا صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ فِي " آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ " بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ لِاحْتِمَالِهِ فَكَذَا فِيمَا قَالَهُ . وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ ، فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ آمَنَ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا هُوَ لَمْ يُؤْمِنُ بِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا تَعَرَّضَ لَهُ حِينَئِذٍ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ نَافِعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ أُلُوفًا مِنْ الْمَرَّاتِ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ الَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَقُولَ : وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَإِنْ قُلْت : السَّحَرَةُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي إيمَانِهِمْ لِلْإِيمَانِ بِمُوسَى وَمَعَ ذَلِكَ قُبِلَ إيمَانُهُمْ . قُلْت : مَمْنُوعٌ بَلْ تَعَرَّضُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ حِينَئِذٍ إيمَانٌ بِمُعْجِزَةِ مُوسَى وَهِيَ الْعَصَا الَّتِي تَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا ، وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمُعْجِزَةِ الرَّسُولِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ فَهُمْ(2/7)
آمَنُوا بِمُوسَى صَرِيحًا بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ صَرِيحًا ، وَلَا إشَارَةً ، بَلْ ذِكْرُهُ بَنِي إسْرَائِيلَ دُونَ مُوسَى مَعَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقُّ الْعَارِفُ بِالْإِلَهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَالْهَادِي إلَى طَرِيقِهِ فِيهِ إشَارَةٌ مَا إلَى بَقَائِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ . فَإِنْ قُلْت : قَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الْقَاضِي عَبْدُ الصَّمَدِ الْحَنَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَلَوْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ قَدِيمٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوَائِلَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ : الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ رَأْسُ الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الثَّلَاثُمِائَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ سَاغَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ؟ . قُلْت : لَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا ، وَلَمْ يَخْتَلَّ بِهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ، لِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِكُفْرِهِ لِأَجْلِ إيمَانِهِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَحَسْبُ ، بَلْ لِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُوسَى أَصْلًا فَلَا يَرُدُّ مَا حُكِيَ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا . فَإِنْ قُلْت : قَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ(2/8)
الْمُحَقِّقُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي فُتُوحَاتِهِ الْمَكِّيَّةِ بِصِحَّةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ : مَا حَاصِلُهُ لَمَّا حَالَ الْغَرَقُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ أَطْمَاعِهِ لَجَأَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ ، فَقَالَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ ، كَمَا قَالَتْ السَّحَرَةُ لَمَّا آمَنَتْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } لِرَفْعِ الِارْتِيَابِ ، وَإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ ثُمَّ قَالَ : { وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَخَاطَبَهُ بِلِسَانِ الْعَتْبِ {آلْآنَ} أَظْهَرْتَ مَا كُنْتَ قَبْلُ عَلِمْتَهُ { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } فِي اتِّبَاعِك { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } فَبَشَّرَهُ قَبْلَ قَبْضِ رُوحِهِ { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَك آيَةً } أَيْ لِتَكُونَ النَّجَاةُ عَلَامَةً لَهُ إذَا قَالَ مَا قُلْتَهُ كَانَتْ لَهُ النَّجَاةُ مِثْلَ مَا كَانَتْ لَك إذْ الْعَذَابُ مَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِظَاهِرِك ، وَقَدْ أَرَيْتُ الْخَلْقَ نَجَاتَهُ مِنْ الْعَذَابِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْغَرَقِ عَذَابًا وَصَارَ الْمَوْتُ فِيهِ شَهَادَةً خَالِصَةً ، كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } فَكَلَامٌ مُحَقَّقٌ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ فَإِنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ فَمَا نَفَعَهُمْ إلَّا اللَّهُ ،(2/9)
وقَوْله تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } يَعْنِي الْإِيمَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْيَأْسِ ، وَإِنَّمَا قَبَضَ فِرْعَوْنَ ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ فِي أَجَلِهِ فِي حَالِ إيمَانِهِ لِئَلَّا يَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَى . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ } فَمَا فِيهِ نَصٌّ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا مَعَهُمْ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ } ، وَلَمْ يَقُلْ أَدْخِلُوا فِرْعَوْنَ ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ حَيْثُ أَنْ لَا يَقْبَلَ إيمَانَ الْمُضْطَرِّ ، وَأَيُّ اضْطِرَارٍ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِ فِرْعَوْنَ فِي حَالِ الْغَرَقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } فَقَرَنَ لِلْمُضْطَرِّ إذَا دَعَاهُ الْإِجَابَةَ وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْغَرَقِ فِي الْمَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ . فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرٌ أَوْ مَرْدُودٌ فَمَا وَجْهُ رَدِّهِ ؟ قُلْت : لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرًا ، وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ جَلَالَةَ قَائِلِهِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ . ، وَلَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ فِي النَّارِ ، ، وَإِذَا اخْتَلَفَ كَلَامُ إمَامٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِمَا يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ وَيُعْرَضُ عَمَّا خَالَفَهَا ، بَلْ قَدْ مَرَّ لَك أَنَّ(2/10)
الْآيَةَ وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ الصَّحِيحَ صَرِيحَانِ فِي بُطْلَانِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَلَا يُلْتَفَتُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا مَرَّ مِنْ تَأْوِيلِ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ } بِأَنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ ، وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إضَافَةُ الْأَشْيَاءِ إلَى أَسْبَابِهَا . فَإِذَا قِيلَ : لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ، وَأَيُّ مَعْنًى مُسَوِّغٍ لِهَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَخُصَّ نَفْعَ اللَّهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ وُقُوعِ الْعَذَابِ مَعَ النَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَلَوْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ لَمَا اسْتَأْصَلَهُمْ بِالْعَذَابِ . وقَوْله تَعَالَى : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ } أَنَّهُمْ بَاقُونَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَكَفَى بِتَفْسِيرِ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ الْمُوَافِقِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقَيْنِ الْآيَةَ بِمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؟ ، وَإِذَا ثَبَتَ وَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُ الْيَأْسِ ثَبَتَ أَنَّ إيمَانَ فِرْعَوْنَ لَا يَصِحُّ ، عَلَى أَنَّنَا قَدَّمْنَا أَنَّنَا لَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إيمَانِ الْيَأْسِ ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ إيمَانِهِ بِمُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ بِخِلَافِ السَّحَرَةِ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ صِيغَةَ إيمَانِهِمْ(2/11)
الْمَحْكِيَّتَيْنِ عَنْهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلِمَ اتِّضَاحَ مَا بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ فَلَا يَصْغَ إلَى قِيَاسِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَجَأَ إلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ عَجِيبٌ ، وَأَيُّ ذِلَّةٍ وَافْتِقَارٍ كَانَ عَلَيْهِمَا بَاطِنُهُ وَهُوَ يُنْكِرُ رُبُوبِيَّةَ رَبِّ الْأَرْبَابِ ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِلَهَ الْمُطْلَقَ وَالرَّبَّ الْأَكْبَرَ يُؤْذِي مُوسَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُعَانِدُهُ ، فَهَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ إلَّا كَأَبِي جَهْلٍ . وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّ بَاطِنَهُ كَانَ عَلَيْهِمَا فَأَيُّ نَفْعٍ لَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَحَمْلُ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } عَلَى الْعَتْبِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ إذْ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ ، وَإِيمَانُهُ لَكَانَ الْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْفَضْلِ الَّذِي طَمَحَ إلَيْهِ نَظَرُ الشَّيْخِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : الْآنَ نَقْبَلُك وَنُكْرِمُك لِاسْتِلْزَامِ صِحَّةِ إيمَانِهِ رِضَا الْحَقِّ عَنْهُ . وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الرِّضَا الْأَكْبَرُ لَا يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ رِعَايَةِ مَقَامِ الْفَضْلِ جَوَابًا لِإِيمَانِهِ الصَّحِيحِ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى رَوِيَّةٍ وَسَلِيقَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ لَا الْمَرْضِيُّ عَنْهُ ، وَتَخْصِيصُ { وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } بِمَا مَرَّ يَأْبَاهُ هَذَا الْبَيَانُ الَّذِي تَقَرَّرَ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ إيمَانُهُ مُحِيَ عَنْهُ مَا عَصَاهُ(2/12)
وَأَفْسَدَهُ فِي أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ الْمَحْوِ الْعَظِيمِ يُعَاقَبُ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ التَّأْنِيبِ الْمَحْضِ وَالتَّقْرِيعِ الصِّرْفِ وَالتَّوْبِيخِ الْحَقِّ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إلَّا لِإِقَامَةِ أَعْظَمِ نَوَامِيسِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ ، وَتَذْكِيرِهِ بِقَبَائِحِهِ الَّتِي قَدَّمَهَا ، وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي مَنَعَتْهُ عَنْ النُّطْقِ بِالْإِيمَانِ إلَى آخِرِ رَمَقٍ مِنْهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ النُّطْقُ بِهَا حِينَئِذٍ . سِيَّمَا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِرَسُولِهِ وَعِنَادِهِ لِآيَاتِهِ ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ جَنَابِهِ ، وَتَخْصِيصُ النَّجَاةِ ، بِالْبَدَنِ أَعْظَمُ وَأَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهَا إلَّا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِغَرَقِهِ سِيَّمَا مَعَ دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَمُوتُ فَأُلْقِيَ بِنَجْوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَيْ رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ لِيُعْرَفَ بِهَا ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْبَدَنَ عَلَى الدِّرْعِ وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ يُعْرَفُ بِهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ بِأَبْدَانِك أَيْ دُرُوعِك ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كَثِيرًا مِنْهَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَهُوَ عُرْيَانٌ لَا شَيْءَ يَسْتُرُهُ أَوْ أَنَّهُ بَدَنٌ بِلَا رُوحٍ ، وَلَا تُنَافِيهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ لِأَنَّهُ عَلَيْهَا جُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بَدَنًا عَلَى حَدِّ : شَابَتْ مَفَارِقُهُ . وَقُرِئَ شَاذًّا أَيْضًا نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ نُلْقِيك بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : رَمَاهُ إلَى جَانِبِ الْبَحْرِ كَالثَّوْرِ لِيَكُونَ لِمَنْ(2/13)
خَلْفَهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَامَةً عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ مِمَّنْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْصَمَ وَيُؤْخَذَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ ، لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ طَرِيقَتِهِ مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ قَوْمِهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِدْقِ مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ ، ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ عَزَّ قَائِلًا : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } زَجْرًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّلَائِلِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } . وَمِنْهَا : دَلَّتْ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ فِي جَهَنَّمَ دَائِمٌ مُؤَبَّدٌ وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إلَّا مَا شَاءَ رَبُّك إنَّ رَبَّك فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } فَظَاهِرُهُ أَنَّ مُدَّةَ عِقَابِهِمْ مُسَاوِيَةٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا يَكُونُونَ فِيهِ خَالِدِينَ فِيهَا ، وَقَدْ أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِنَحْوِ عِشْرِينَ وَجْهًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ التَّقْيِيدِ بِمُدَّةِ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَبَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَعْنَاهُ . فَمِنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمُرَادَ سَمَوَاتُ الْجَنَّةِ وَأَرْضُهَا ؛ إذْ السَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاك ، وَالْأَرْضُ كُلُّ مَا(2/14)
اسْتَقْرَيْتَ عَلَيْهِ ، وَكَوْنُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَهُمَا سَمَاءٌ وَأَرْضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، فَانْدَفَعَ التَّنْظِيرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَمَوَاتِ الدُّنْيَا وَأَرْضِهَا ، وَأُجْرِيَ ذَلِكَ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ دَوَامِ الشَّيْءِ وَتَأْبِيدِهِ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ كَقَوْلِهِمْ : لَا آتِيك مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، أَوْ مَا جَنَّ لَيْلٌ وَسَالَ سَيْلٌ ، أَوْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، أَوْ مَا طَمَا الْبَحْرُ ، أَوْ مَا قَامَ الْجَبَلُ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ أَصْلُهَا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ ، وَأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إلَى النُّورِ الَّذِي خُلِقَا مِنْهُ وَهُمَا دَائِمَانِ أَبَدًا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ ، ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ التَّقْيِيدِ بِدَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ إلَّا بِقَدْرِ مُدَّةِ دَوَامِهِمَا مِنْ حِينِ إيجَادِهِمَا إلَى إعْدَامِهِمَا ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَتَى كَانَتَا دَائِمَتَيْنِ كَانَ كَوْنُهُمَا فِي النَّارِ بَاقِيًا ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَهُوَ دَوَامُهُمَا حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَهُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الشَّرْطُ(2/15)
يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ ، وَنَظِيرُهُ أَنَّك إذَا قُلْت : إنْ كَانَ هَذَا إنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ ، ثُمَّ قُلْت : لَكِنَّهُ إنْسَانٌ ، أَنْتَجَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ ، أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ هَذَا بِإِنْسَانٍ لَمْ يُنْتِجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ عَقِيمٌ ، فَكَذَا هُنَا إذَا قُلْنَا : مَا دَامَتَا بَقِيَ عِقَابُهُمْ ، ثُمَّ قُلْنَا : لَكِنَّهُمَا دَائِمَتَانِ لَزِمَ دَوَامُ عِقَابِهِمْ . أَوْ لَكِنَّهُمَا مَا بَقِيَتَا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ . لَا يُقَالُ : إذَا دَامَ عِقَابُهُمْ بَقِيَتَا أَوْ عُدِمَتَا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّقْيِيدِ بِدَوَامِهِمَا . لِأَنَّا نَقُولُ : بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَائِمًا طَوِيلًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِقَدْرِ طُولِهِ وَامْتِدَادِهِ ، فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ آخِرٌ أَمْ لَا ؟ فَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَهُوَ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَأْبِيدِ خُلُودِهِمْ الْمُسْتَلْزِمِ أَنَّهُ لَا آخِرَ لَهُ . وَمِنْ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَنْ فِيهَا لِأَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ إلَى الزَّمْهَرِيرِ ، وَإِلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ ثُمَّ يَعُودُونَ فِيهَا فَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا إلَّا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ ، فَإِنَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَوْقَاتَ عَذَابٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا حِينَئِذٍ فِيهَا حَقِيقَةً أَوْ أَنَّ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ كَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضَمِيرِ خَالِدِينَ مُتَّصِلًا بِنَاءً عَلَى شُمُولِ شَقُوا لَهُمْ أَوْ مُنْقَطِعًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شُمُولِهِ لَهُمْ(2/16)
وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، وَإِلَّا بِمَعْنَى سِوَى : أَيْ مَا دَامَتَا سِوَى مَا شَاءَ رَبُّك زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ ، وَبَقِيَتْ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْتُ عَنْهَا لِبُعْدِهَا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا } . لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مَنْ قَالُوا فِيهِ : إنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَصَاحِبُ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ ، نَعَمْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٍ . وَذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى . وَيَرُدُّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَسَنِ قَوْلَ غَيْرِهِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ ، قَالَ ثَابِتٌ : سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ هَذَا فَأَنْكَرَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ . وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ كَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ . أَمَّا مَوَاضِعُ الْكُفَّارِ فَهِيَ مُمْتَلِئَةٌ بِهِمْ لَا يُخْرَجُونَ عَنْهَا أَبَدًا ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ . قَالَ قَوْمٌ : إنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعٌ ، وَلَهُ نِهَايَةٌ ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَبِ { لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا }(2/17)
وَبِأَنَّ مَعْصِيَةَ الظُّلْمِ مُتَنَاهِيَةٌ ، فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا بِمَا لَا يَتَنَاهَى ظُلْمٌ انْتَهَى . وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ مَرَّ وقَوْله تَعَالَى : { أَحْقَابًا } لَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ نِهَايَةً لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ بِهِ وَبِنَحْوِهِ عَنْ الدَّوَامِ ، وَلَا ظُلْمَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ حَيًّا فَعُوقِبَ دَائِمًا فَهُوَ لَمْ يُعَاقَبْ بِالدَّائِمِ إلَّا عَلَى دَائِمٍ ، فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ إلَّا جَزَاءً وِفَاقًا . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا ظَاهِرَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { غَيْرَ مَجْذُوذٍ } فَيُؤَوَّلُ بِنَظِيرِ مَا مَرَّ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا إذَا جَعَلْنَاهَا بِمَعْنًى مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوهَا إلَّا بَعْدُ ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أَيْ مَقْطُوعٍ ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ . [ خَاتِمَةٌ ] أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْكَعْبَةِ { مَا أَطْيَبَك وَأَطْيَبَ رِيحَك ، مَا أَعْظَمَك وَأَعْظَمَ حُرْمَتَك ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْك مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إلَّا خَيْرًا } . وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَتَّقِي الْكَبَائِرَ فَإِنَّ لَهُ(2/18)
الْجَنَّةَ ، قَالُوا : وَمَا هِيَ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ } الْحَدِيثَ . وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ . وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ - أَيْ أَسْفَلِهَا - وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا ، وَلَا مِنْ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ } . وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ مَاتَ وَاَللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ } . وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا أَفْضَى إلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يُقْبَلُ إيمَانٌ بِلَا عَمَلٍ ، وَلَا عَمَلٌ بِلَا إيمَانٍ } . وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ : { إنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُك وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ ، إنَّمَا مَثَلُك وَمَثَلُ أُمَّتِك كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ ، فَاَللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ وَالْبَيْتُ(2/19)
الْجَنَّةُ ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ ، مَنْ أَجَابَك دَخَلَ الْإِسْلَامَ ، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا } . وَأَبُو نُعَيْمٍ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْمُوَحِّدِينَ فِي جَهَنَّمَ بِقَدْرِ نُقْصَانِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ خُلُودًا دَائِمًا أَبَدًا بِإِيمَانِهِمْ } . وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : { طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّيَالِسِيِّ : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ } . وَمُسْلِمٌ : { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ }.اه
+ أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن واصل، عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله قال:-قلت يارسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم ماذا؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم ماذا، قال: أن تزاني بحليلة جارك... النسائي
23-(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم : 96)(2/20)
السعدي هذا من نعمه على عباده ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، أن يجعل لهم ودا أي : محبة وودادا في قلوب أوليائه ، وأهل السماء والأرض ، وإذا كان لهم من الخيرات ، والدعوات ، والإرشاد ، والقبول ، والإمامة ، ما حصل ، ولهذا ورد في الحديث الصحيح : " إن الله إذا أحب عبدا ، نادى جبريل : إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض " . وإنما جعل الله لهم ودا ، لأنهم ودوه ، فوددهم إلى أوليائه وأحبابه
ومن أسماء الله الحسنى الودود ورد في قوله تعالى :
---(وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود : 90 )
---(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (البروج : 14 )
ابن كثير والودود قال بن عباس وغيره هو الحبيب
القرطبي "الودود" أي المحب لأوليائه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة. وعنه أيضا "الودود" أي المتودد إلى أوليائه بالمغفرة، وقال مجاهد الواد لأوليائه، فعول بمعني فاعل. وقال ابن زيد: الرحيم، وحكى المبرد عن إسماعيل بن إسحاق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قول الشاعر:
وأركب في الروع عريانة ذلول الجناح لقاحا ودودا
أي لا ولد لها تحن إليه، ويكون معنى الآية: إنه يغفر لعباده وليس له ولد يغفر لهم من أجله، ليكون بالمغفرة متفضلا من غير جزاء. وقيل: الودود بمعنى المودود، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون ويحبونه.
الطبري وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ )يقول تعالى ذكره: وهو ذو المغفرة لمن تاب إليه من ذنوبه, وذو المحبة له.
الجلالين (وهو الغفور) للمذنبين المؤمنين (الودود) المتودد إلى أوليائه بالكرامة(2/21)
البغوي (وهو الغفور)"، لذنوب المؤمنين، "الودود"، المحب لهم، وقيل: معناه المودود، كالحلوب والركوب، بمعنى المحلوب والمركوب. وقيل: يغفر ويود أن يغفر، وقيل: المتودد إلى أوليائه بالمغفرة.
السعدي ( الودود) " الذي يحبه أحبابه ، محبة لا يشبهها شيء . فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال ، والمعاني والأفعال ، فمحبته في قلوب خواص خلقه ، التابعة لذلك ، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب . ولهذا كانت محبته أصل العبودية ، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها ، وإن لم يكن غيرها تبعا لها ، كانت عذابا على أهلها . وهو تعالى الودود ، الواد لأحبابه ، كما قال تعالى : " يحبهم ويحبونه "
- والمودة هي المحبة الصافية . وفي هذا سر لطيف ، حيث قرن " الودود " بالغفور ، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب ، إذا تابوا إلى الله وأنابوا ، غفر لهم ذنوبهم ، وأحبهم ، فلا يقال : يغفر ذنوبهم ، ولا يرجع إليهم الود ، كما قال بعض الظالمين . بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب ، من رجل على راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، وما يصلحه ، فأضلها في أرض فلاة مهلكة ، فأيس منها ، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت . فبينما هو على تلك الحال ، إذا راحلته على رأسه ، فأخذ بخطامها ، فالله أعظم فرحا بتوبة العبد ، من هذا براحلته ، وهذا أعظم فرح يقدر . فلله الحمد والثناء ، وصفو الوداد ، ما أعظم بره ، وأكثر خيره ، وأغزر إحسانه ، وأوسع امتنانه .
+ (إن ربي رحيم ودود) " هود 90 .. لمن تاب وأناب ، يرحمه فيغفر له ، ويتقبل توبته ويحبه . ومعنى الودود من أسمائه تعالى ، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه ، فهو " فعول " بمعنى " فاعل " ومعنى " مفعول " .(2/22)
السمرقندي قال عز وجل ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم ( سيجعل لهم الرحمن ودا ) يعني يحبهم ويحببهم إلى الناس وقال كعب الأحبار رضي الله عنه قرأت في التوراة أنها لم تكن محبة لأحد إلا كان بدؤها من الله عز وجل ينزلها إلى أهل السماء ثم ينزلها إلى أهل الأرض ثم قرأت القرآن فوجدته فيه وهو قوله( سيجعل لهم الرحمن ودا ) يعني محبة في أنفس القوم
-روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال= إذا أحب الله تعالى عبدا نادى جبريل عليه السلام قد أحببت فلانا فأحبوه فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض وإذا أبغض الله تعالى عبدا نادى جبريل قد أبغضت فلانا فينادي في أهل السماء ثم تنزل له البغضاء في أهل الأرض ...
الحديث 1
البخاري *باب: ذكر الملائكة.حدثنا محمد بن سلام: أخبرنا مخلد: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وتابعه أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن أبي هريرة،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).
*باب: المقة من الله تعالى.حدثنا عمرو بن علي: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن أبي هريرة،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض).(2/23)
*باب: كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة. حدثني إسحق: حدثنا عبد الصمد: حدثنا عبد الرحمن، هو ابن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحِبَّه، فيُحِبُّه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض
ابن حجر قوله باب المقة من الله أي ابتداؤها من الله المِقَة بسكر الميم وتخفيف القاف هي المحبة وقد ومق يمق والأصل الومق والهاء فيه عوض عن الواو كعدة ووعد وزنة ووزن وهذه الترجمة لفظ زيادة وقعت في نحو حديث الباب في بعض طرقه لكنها على غير شرط البخاري فأشار إليها في الترجمة كعادته أخرجه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة من طريق محمد بن سعد الأنصاري عن أبي ظبية بمعجمة عن أبي أمامة مرفوعا قال المقة من الله والصيت من السماء فإذا أحب الله عبدا الحديث وللبزار من طريق أبي وكيع الجراح بن مليح عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه ما من عبد إلا وله صيت في السماء فإن كان حسنا وضع في الأرض وإن كان سيئا وضع في الأرض والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية بعدها مثناة أصله الصوت كالريح من الروح والمراد به الذكر الجميل وربما قيل لضده لكن بقيد(2/24)
- قوله أبو عاصم هو النبيل وهو من كبار شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة مثل هذا فقد علقه في بدء الخلق لأبي عاصم وقد نبهت عليه ثم قوله عن نافع هو مولى بن عمر قال البزار بعد أن أخرجه عن عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري فيه لم يروه عن نافع إلا موسى بن عقبة ولا عن موسى إلا بن جريج قلت وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان عند أحمد والطبراني في الأوسط وأبو أمامة عند أحمد ورواه عن أبي هريرة أبو صالح عند المصنف في التوحيد وأخرجه مسلم والبزار قوله إذا أحب الله العبد وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها ففي حديث ثوبان إن العبد ليلتمس مرضاة الله ولا يزال بذلك فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي عليه فيقول جبريل رحمة الله على فلان ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السموات السبع ثم تهبط له إلى الأرض.أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط ويشهد له حديث أبي هريرة الآتي في الرقاق ففيه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه الحديث(2/25)
-قوله ان الله يحب فلانا فأحبَّه بفتح الموحدة المشددة ويجوز الضم ووقع في حديث ثوبان فيقول جبريل رحمة الله على فلان وتقوله حملة العرش قوله فينادي جبريل في أهل السماء الخ في حديث ثوبان أهل السماوات السبع قوله ثم يوضع له القبول في أهل الأرض زاد الطبراني في حديث ثوبان ثم يهبط إلى الأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدا) وثبتت هذه الزيادة في آخر هذا الحديث عند الترمذي وابن أبي حاتم من طريق سهيل عن أبيه وقد أخرج مسلم إسنادها ولم يسق اللفط وزاد مسلم فيه وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فساقه على منوال الحب وقال في آخره ثم يوضع له البغضاء في الأرض ونحوه في حديث أبي أمامة عند أحمد وفي حديث ثوبان عند الطبراني وان العبد يعمل بسخط الله فيقول الله يا جبريل إن فلانا يستسخطني فذكر الحديث على منوال الحب أيضا وفيه فيقول جبريل سخطة الله على فلان وفي آخره مثل ما في الحب حتى يقوله أهل السماوات السبع ثم يهبط إلى الأرض وقوله يوضع له القبول هو من قوله تعالى( فتقبلها ربها بقول حسن )أي رضيها قال المطرزي القبول مصدر لم أسمع غيره بالفتح وقد جاء مفسرا في رواية القعنبي فيوضع له المحبة والقبول والرضا بالشيء وميل النفس إليه وقال بن القطاع قبل الله منك قبولا والشيء والهدية أخذت والخبر صدق وفي التهذيب عليه قبول إذا كانت العين تقبله والقبول من الريح الصبا لأنها تستقبل الدبور والقبول أن يقبل العفو والعافية وغير ذلك وهو اسم للمصدر أميت الفعل منه وقال أبو عمرو بن العلاء القبول بفتح القاف لم أسمع غيره يقال فلان عليه قبول إذا قبلته النفس وتقبلت الشيء قبولا ونحو لابن الأعرابي وزاد قبلته قبولا بالفتح والضم وكذا قبلت هديته عن اللحياني قال بن بطال في هذه الزيادة رد على ما يقوله القدرية ان الشر من فعل العبد وليس من خلق الله انتهى والمراد بالقبول في حديث الباب قبول(2/26)
القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه ويؤخذ منه أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله ويؤيده ما تقدم في الجنائز أنتم شهداء الله في الأرض والمراد بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له وبمحبة الملائكة استغفارهم له وإرادتهم خير الدارين له وميل قلوبهم إليه لكونه مطيعا لله محبا له ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وارادتهم دفع الشر عنه ما أمكن وقد تطلق محبة الله تعالى للشيء على إرادة إيجاده وعلى إرادة تكميله والمحبة التي في هذا الباب من القبيل الثاني وحقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه والحب على ثلاثة أقسام إلهي وروحاني وطبيعي وحديث الباب يشتمل على هذه الأقسام الثلاثة فحب الله العبد حب إلهي وحب جبريل والملائكة له حب روحاني وحب العباد له حب طبيعي.
مسلم باب إِذَا أَحَب اللّه عبداً، حببه إلى عباده
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهَ، إِذَا أَحَبّ عَبْداً، دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنّي أُحِبّ فُلاَناً فَأَحِبّهُ. قَالَ: فَيُحِبّهُ جِبْرِيلُ. ثُمّ يُنَادِي فِي السّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنّ اللّه يُحِبّ فُلاَناً فَأَحِبّوهُ. فَيُحِبّهُ أَهْلُ السّمَاءِ. قَالَ: ثُمّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنّي أُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضْهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ. ثُمّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السّمَاءِ: إِنّ اللّهَ يُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضُوهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ. ثُمّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ".(2/27)
النووي قال العلماء: محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته ، وبغضه إرادة عقابه أو شقاوته ونحوه، وحب جبريل والملائكة يحتمل وجهين: أحدهما: استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم. والثاني: أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين وهو ميل القلب إليه واشتياقه إلى لقائه وسبب حبهم إياه كونه مطيعاً لله تعالى محبوباً له، ومعنى يوضع له القبول في الأرض أي الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه فتميل إليه القلوب وترضى عنه، وقد جاء في رواية فتوضع له المحبة.
السيوطي - إن اللّه تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحببه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن اللّه يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن اللّه يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض(2/28)
المناوي- (إن اللّه تعالى إذا أحب عبداً) أي رضي عنه وأراد به خيراً وهداه ووفقه (دعا جبريل) أي أذن له في القرب من حضرته (فقال) له (إني أحب فلاناً فأحببه) أنت يا جبريل وهو بهمزة قطع مفتوحة فحاء مهملة ساكنة على الفك (فيحبه جبريل) فالضمير في نادى إلى اللّه تعالى يعني إذا أراد اللّه تعالى إظهار محبة عبد يعلمها أولاً (ثم ينادي) أي جبريل (في السماء) أي في أهلها (فيقول إن اللّه) وفي رواية بدون يقول وعليها هو بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعند الكوفيين على أن في النداء معنى القول (يحب فلاناً فأحبوه) بتشديد الموحدة أنتم (فيحبه أهل السماء) أي الملائكة (ثم يوضع له القبول في) أهل (الأرض) أي يحدث له في القلوب مودة ويزرع له فيها مهابة فتحبه القلوب وترضى عنه النفوس من غير تودد منه ولا تعرض للأسباب التي تكتسب لها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة كما يقذف في قلوب أعدائه الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم ذكره الزمخشري. قال بعضهم: وفائدة ذلك أن يستغفر له أهل السماء والأرض وينشأ عندهم هيبة وإعزازهم له {وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين} قال العارف ابن عربي رضي اللّه تعالى عنه: وإذا وقع النداء بمحبته قبلته جميع البواطن وإن أنكرته الظواهر من بعض الناس فلأغراض قامت بهم وهم في هذا كسجودهم للّه كل من في العالم ساجد وكثير من الناس ما قال كلهم وهكذا حال هذا العبد تحبه بقاع الأرض كلها وجميع ما فيها وكثير من الناس على أصلهم في السجود للّه تعالى وفي تاريخ الخطيب في ترجمة خير النساج عنه إذا أحبك ذلك وعافاك وإذا أحببته أتعبك وأبلاك. قال ابن الأثير: والقبول بفتح القاف المحبة والرضى بالشيء وميل النفس إليه. قال الغزالي رضي اللّه تعالى عنه: لا تستبعد رضى اللّه عن العبد مما يغضب به على غيره، ألا ترى إلى قول موسى عليه الصلاة(2/29)
والسلام {إن هي إلا فتنتك} {ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون} وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لكن من أقيم مقام الأنس يتلاطف ويحتمل ولم يحتمل من يونس عليه الصلاة والسلام ما دون ذلك لكونه أقيم مقام القبض والهيبة فعوقب بما عوقب به وذلك الاختلاف إما لاختلاف المقامات أو لما سبق في الأزل من التفاضل. وانظر كيف احتمل إخوة يوسف عليه السلام ما فعلوه بيوسف عليه السلام ولم يحتمل للعزيز كلمة واحدة سأل عنها في القدر وكان بلعم بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك وكان آصف من المسرفين فعفى عنه أوحى اللّه إلى سليمان عليه الصلاة والسلام يا رأس العابدين ويا محجة الزاهدين إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عنه لئن أخذته لأتركنه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده فخرج آصف حتى علا كثيباً ثم رفع رأسه وقال إلهي وسيدي أنت أنت وأنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب عليّ وكيف أعتصم إن لم تعصمني فأوحى اللّه إليه صدقت يا آصف قد تبت عليك وأنا التواب الرحيم. قال الغزالي رضي اللّه عنه: هذا كلام مدل به عليه وهارب منه إليه فهذه سنة اللّه في عباده بالتقديم والتأخير على ما سبقت به المشيئة الأزلية (وإذا أبغض عبداً) أي أراد به شراً أو أبعده عن الهداية (دعا جبريل فيقول إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل) يحتمل أن يريد عدم استغفاره له وعدم دعائه له ويحتمل إرادة المعنى الحقيقي وهو عدم الميل القلبي والنفرة منه (ثم ينادي في أهل السماء إن اللّه يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض) أي فيبغضه أهل الأرض جميعاً فلا تميل إليه قلوبهم بل تميل عنه وينظرون إليه بعين النقص والإزراء وتسقط مهابته من النفوس وإعزازه من الصدور من غير صدور إيذاء منه لهم ولا جناية عليهم. وقيل: إن بغضه يلقى في الماء فلا يشربه أحد إلا أبغضه(1).(2/30)
(تنبيه) قال في الحكم: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق العمل فيك ونسبه إليك لا نهاية لمذامك إذا أرجعك إليك ولا تفرغ مدابحك إن أظهر جوده عليك لو أنك لا تصل غليه إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبداً إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ونعتك بنعته فوصلك إليه بما منه إليك لا بما منك إليه.
- (م) في الأدب (عن أبي هريرة) زاد الطبراني ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {سيجعل لهم الرحمن وداً} ورواه البخاري بدون ذكر البغضاء.
- قال العلماء محبة اللّه لعبده إرادته الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته وبغضه إرادته عقابه وشقاوته ونحوه وحب جبريل والملائكة يحتمل وجهين أحدهما استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم له والثاني أنه على ظاهره المعروف من الخلق وهو ميل القلب إليه واشتياقه إلى لقائه وسبب ذلك كونه مطيعاً للّه محبوباً له ومعنى يوضع له القبول في الأرض أي الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه.
السيوطي إذا أحب الله عبداً قذف حبه في قلوب الملائكة وإذا أبغض الله عبداً قذف بغضه في قلوب الملائكة(ثم يقذفه في قلوب الآدميين =الجامع الصغير =(2/31)
المناوي- (إذا أحب الله عبداً) أي أراد توفيقه وقدر إسعاده (قذف) أي ألقى وأصل القذف الرمي بسرعة فالتعبير به أبلغ منه بالإلقاء (حبه في قلوب) لم يقل في قلب وإن كان المفرد المضاف يعم لأنه أنص على كل فرد فرد (الملائكة) فيتوجه إليه الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة إذ كل منهم تبع لمولاه فإذا والى ولياً والوه، وناهيك بهذا المقام الجليل الذي يلحظ الملأ الأعلى صاحبه بالتبجيل، وعليه فمحبة الملائكة على ظاهرها المتعارف بين الخلق ولا مانع منه فلا ملجأ إلى القول بأن المراد به ثناؤهم عليه واستغفارهم له (وإذا أبغض الله عبداً) وضع الظاهر موضع الضمير تفخيماً للشأن (قذف بغضه في قلوب الملائكة) فيتوجه إليه الملأ الأعلى بالبغض (ثم يقذفه) أي ثم يقذف ما ذكر من الحب أو البغض (في قلوب الآدميين) ومن ثمرات المقام الأول وضع القبول لمن أحبه الله للخاص والعام فلا تكاد تجد أحداً إلا مائلاً إليه مقبلاً بكليته عليه وإذا أحب الله عبداً استنارت جهاته وأشرقت بنور الهداية ساحاته وظهرت عليه آثار الإقبال وصار له سيما من الجمال فنظر الخلق إليه بعين المودّة والتكريم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} وحكم عكسه عكس حكمه وفيه حث عظيم على تحري ما يرضي الله وتجنب ما يسخطه.
- (حل) وكذا الديلمي (عن أنس) وفيه يوسف بن عطية الوراق أو الصفار وكلاهما ضعيف ... لكن له شواهد. =فيض القدير=
السيوطي إن اللّه تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الشر لم يعمله(2/32)
المناوي (إن اللّه تعالى إذا رضي عن العبد أثنى) أي أعلم ملائكته فيثنون عليه ثم يقذف ذلك في قلوب أهل الأرض فيثنون (عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله) يعني أنه يقدر له التوفيق لفعل الخير في المستقبل ويثني عليه به قبل صدوره منه بالفعل. قال في الكشاف في تفسير {ولينصرن اللّه من ينصره} وعن عثمان هذا واللّه ثناء قبل بلاء يريد أن اللّه قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. إلى هنا كلامه، وقال الصوفية الجناية لا تضر مع العناية، وفي تفسير البغوي أن داود عليه السلام سأل اللّه أن يريه الميزان فأراه كل كفة كما بين المشرق والمغرب، فقال: يا رب ومن يستطيع يملأ هذه حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت على عبدي ملأتها بتمرة (وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الشر لم يعمله) هذا ينبئك بأن الثناء من اللّه على عبده بسريرته فيما بينه وبينه وبما قسم له بعد لأن الخلق إنما عاينوا علانية والحق يثني عليهم بما غاب عنهم وبما سيكون منه وإنما يثني عليه بأضعاف ما لم يعمله لما سيكون منه وذلك لأنه كما بين الرزق تفاوت في القسمة بين الثناء والثناء فقسمة الرزق على التدبير في الظاهر وقسمة الثناء ومقابلة على منازل العباد عند خالقهم في الباطن قال ابن أقبرس: الثناء أعم من المدح والحمد ومقتضاه كونه ذكراً لسانياً كالمدح والحمد أو لسانياً وخارجياً كالشكر وكل ذلك محال عليه تعالى فالثناء منه بضرب تجوز وفيه حجة لمن قال إن الثناء استعمل في الخير والشر (تتمة) قال الدقاق رحمه اللّه تعالى: مر بشر بجمع من الناس فقالوا هذا رجل لا ينام الليل ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام مرة فبكى وقال: إني لا أذكر أني سهرت ليلة كاملة ولا صمت يوماً لم أنظر من ليلته ولكن اللّه يلقي في القلوب أكبر مما يفعله العبد تفضلاً وتكرماً.
- (حم،حب) وكذا أبو يعلى (عن أبي سعيد) الخدري قال الهيثمي: رجاله وثقوا على ضعف في بعضهم انتهى
الحديث 2(2/33)
البخاري باب: التواضع.
حدثني محمد بن عثمان بن كرامة: حدثنا خالد بن مخلد: حدثنا سليمان بن بلال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته).
ابن حجر قوله باب التواضع بضم الضاد المعجمة مشتق من الضعة بكسر أوله وهي الهوان والمراد بالتواضع إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه وقيل هو تعظيم من فوقه فضله وذكر في حديثين أحدهما حديث أنس في ذكر الناقة لما سبقت - حدثنا مالك بن إسماعيل: حدثنا زهير: حدثنا حميد، عن أنس رضي الله عنه: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة.
قال: وحدثني محمد: أخبرنا الفزاري وأبو خالد الأحمر، عن حميد الطويل، عن أنس قال:(2/34)
كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء، وكانت لا تُسبَق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سُبِقَت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن حقاً على الله أن لا يَرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه). ...وزعم بعضهم أنه لا مدخل له في هذه الترجمة وغفل عما وقع في بعض طرقه عند النسائي بلفظ حق على الله ان لا يرفع شيء نفسه في الدنيا الا وضعه فإن فيه إشارة الى الحث على عدم الترفع والحث على التواضع والاعلام بأن أمور الدنيا ناقصة غير كاملة قال بن بطال فيه هوان الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة وأن كل شيء هان على الله فهو في محل الضعة فحق على كل ذي عقل أن يزهد فيه ويقل منافسته في طلبه وقال الطبري في التواضع مصلحة الدين والدنيا فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة قلت وفيه أيضا حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه لكونه رضى ان اعرابيا يسابقه وفيه جواز المسابقة. وزهير في السند الأول هو بن معاوية أبو خيثمة الجعفي ومحمد في السند الثاني هو بن سلام وجزم به الكلاباذي ووقع كذلك في نسخة من رواية أبي ذر والفزاري هو مروان بن معاوية ووهم من زعم أنه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث نعم رواية أبي إسحاق الفزاري له قد تقدمت في الجهاد وأبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان .
الحديث الثاني(2/35)
- قوله محمد بن عثمان بن كرامة بفتح الكاف والراء الخفيفة هو من صغار شيوخ البخاري وقد شاركه في كثير من شيوخه منهم خالد بن مخلد شيخه في هذا الحديث فقد أخرج عنه البخاري كثيرا بغير واسطة منها في باب الاستعاذة من الجبن في كتاب الدعوات وهو أقربها الى هذا قوله عن عطاء هو بن يسار ووقع كذلك في بعض النسج وقيل هو بن أبي رباح والأول أصح نبه على ذلك الخطيب وساق الذهبي في ترجمة خالد من الميزان بعد أن ذكر قول أحمد فيه له مناكير وقول أبي حاتم لا يحتج به وأخرج بن عدي عشرة أحاديث من حديثه استنكرها هذا الحديث من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه وقال هذا حديث غريب جدا لولا هيبة الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد فإن هذا المتن لم يرو الا بهذا الإسناد ولا خرجه من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد قلت ليس هو في مسند أحمد جزما وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن الا بهذا الإسناد مردود ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضا وهو راوي حديث المعراج الذي زاد فيه ونقص وقدم وأخر وتفرد فيه بأشياء لم يتابع عليها ... ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أن له أصلا منها عن عائشة أخرجه أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها وذكر بن حبان وابن عدي أنه تفرد به وقد قال البخاري انه منكر الحديث لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد عن عروة وقال لم يروه عن عروة الا يعقوب وعبد الواحد ومنها عن أبي امامة أخرجه الطبراني والبيهقي في الزهد بسند ضعيف ومنها عن علي عند الإسماعيلي في مسند علي وعن بن عباس أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف وعن أنس أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني وفي سنده ضعف أيضا وعن حذيفة أخرجه الطبراني مختصرا وسنده حسن غريب وعن معاذ بن جبل أخرجه بن ماجة أبو نعيم في الحلية مختصرا وسنده ضعيف أيضا وعن وهب بن منبه مقطوعا(2/36)
أخرجه أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية وفيه تعقب على بن حبان حيث قال بعد إخراج حديث أبي هريرة لا يعرف لهذا الحديث الا طريقان يعني غير حديث الباب وهما هشام الكناني عن أنس وعبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة وكلاهما لا يصح وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة -
-قوله ان الله تعالى قال الكرماني هذا من الأحاديث القدسية ... قلت وقد وقع في بعض طرقه ان النبي صلى الله عليه وسلم حدث به عن جبريل عن الله عز وجل وذلك في حديث أنس قوله من عادى لي وليا المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته وقد استشكل وجود أحد يعاديه لأن المعاداة انما تقع من الجانبين ومن شأن الولي الحلم والصفح عمن يجهل عليه وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلا بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر والمبتدع في بغضه للسني فتقع المعاداة من الجانبين أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله وأما من جانب الآخر فلما تقدم وكذا الفاسق المتجاهر ببغضه الولي في الله وببغضه الاخر لانكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته وقد تطلق المعاداة ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل ومن الاخر بالقوة قال الكرماني قوله لي هو في الأصل صفة لقوله وليا لكنه لما تقدم صار حالا وقال بن هبيرة في الإفصاح قوله عادى لي وليا أي اتخذه عدوا ولا أرى المعنى الا انه عاداه من أجل ولايته وهو وان تضمن التحذير من ايذاء قلوب أولياء الله ليس على الإطلاق بل يستثنى منه ما إذا كانت الحال تقتضي نزاعا بين وليين في مخاصمة أو محاكمة ترجع الى استخراج حق أو كشف غامض فإنه جرى بين أبي بكر وعمر مشاجرة وبين العباس وعلي الى غير ذلك من الوقائع انتهى ملخصا موضحا. وتعقبه الفاكهاني بأن معاداة الولي لكونه وليا لا يفهم الا ان كان على طريق الحسد الذي هو تمنى زوال ولايته وهو بعيد جدا في حق الولي فتأمله. قلت والذي(2/37)
قدمته أولى أن يعتمد قال أبن هبيرة ويستفاد من هذا الحديث تقديم الاعذار على الإنذار وهو واضح.
- قوله فقد آذنته بالمد وفتح المعجمة بعدها نون أي اعلمته والايذان الاعلام ومنه أخذ الأذان قوله بالحرب في رواية الكشميهني بحرب ووقع في حديث عائشة من عادى لي وليا وفي رواية لأحمد من آذى لي وليا وفي أخرى له من آذى وفي حديث ميمونة مثله فقد استحل محاربتي وفي رواية وهب بن منبه موقوفا قال الله من أهان ولي المؤمن فقد استقبلني بالمحاربة وفي حديث معاذ فقد بارز الله بالمحاربة وفي حديث أبي امامة وأنس فقد بارزني وقد استشكل وقوع المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين مع أن المخلوق في أسر الخالق والجواب أنه من المخاطبة بما يفهم فإن الحرب تنشأ عن العداوة والعداوة تنشأ عن المخالفة وغاية الحرب الهلاك والله لا يغلبه غالب فكأن المعنى فقد تعرض لاهلاكي إياه فأطلق الحرب وأراد لازمه أي اعمل به ما يعمله العدو المحارب قال الفاكهاني في هذا تهديد شديد لان من حاربه الله أهلكه وهو من المجاز البليغ لان من كره من أحب الله خالف الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة فمن والى أولياء الله أكرمه الله وقال الطوفي لما كان ولي الله من تولى الله بالطاعة والتقوى تولاه الله بالحفظ والنصرة وقد أجرى الله العادة بأن عدو العدو صديق وصديق العدو عدو فعدو ولي الله عدو الله فمن عاداه كان كمن حاربه ومن حاربه فكأنما حارب الله قوله وما تقرب الي عبدي بشيء أحب الي مما افترضت عليه يجوز في أحب الرفع والنصب ويدخل تحت هذا اللفظ جميع فرائض العين والكفاية وظاهره الاختصاص بما ابتدأ الله فرضيته وفي دخول ما أوجبه المكلف على نفسه نظر للتقييد بقوله افترضت عليه الا ان أخذ من جهة المعنى الأعم ويستفاد منه أن أداء الفرائض أحب الأعمال الى الله قال الطوفي الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل(2/38)
في الامرين وان اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل فلهذا كانت احب الى الله تعالى وأشد تقريبا وأيضا فالفرض كالاصل والأس والنفل كالفرع والبناء وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الآمر وتعظيمه بالانقياد اليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية فكان التقرب بذلك أعظم العمل والذي يؤدي الفرض قد يفعله خوفا من العقوبة ومؤدى النفل لا يفعله الا إيثار للخدمة فيجازى بالمحبة التي هي غاية مطلوب من يتقرب بخدمته(2/39)
-قوله وما زال في رواية الكشميهني وما يزال بصيغة المضارعة قوله يتقرب الي التقرب طلب القرب قال أبو القاسم القشيري قرب العبد من ربه يقع أولا بايمانه ثم بإحسانه وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه وفي الآخرة من رضوانه وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه ولا يتم قرب العبد من الحق الا ببعده من الخلق قال وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس وباللطف والنصرة خاص بالخواص وبالتأنيس خاص بالأولياء ووقع في حديث أبي امامة يتحبب الي بدل يتقرب وكذا في حديث ميمونة قوله بالنوافل حتى أحببته في رواية الكشميهني أحبه ظاهره أن محبة الله تعالى للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل وقد استشكل بما تقدم أولا ان الفرائض احب العبادات المتقرب بها الى الله فكيف لا تنتج المحبة والجواب ان المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها ويؤيده أن في رواية أبي أمامة: ا بن آدم انك لن تدرك ما عندي الا بأداء ما افترضت عليك وقال الفاكهاني معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على اتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرها أفضى به ذلك الى محبة الله تعالى وقال بن هبيرة يؤخذ من قوله ما تقرب الخ أن النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة انما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب انتهى. وأيضا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة بخلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته الحديث بمعناه فتبين أن المراد من التقرب النوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها كما قال بعض الأكابر من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن(2/40)
الفرض فهو مغرور قوله فكنت سمعه الذي يسمع زاد الكشميهني به قوله وبصره الذي يبصر به في حديث عائشة في رواية عبد الواحد عينه التي يبصر بها وفي رواية يعقوب بن مجاهد عينيه التي يبصر بهما بالتثنية وكذا قال في الإذن واليد والرجل وزاد عبد الواحد في روايته وفؤاده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به ونحوه في حديث أبي امامة وفي حديث ميمونة وقلبه الذي يعقل به وفي حديث أنس ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره الخ والجواب من أوجه أحدها أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى كنت سمعه وبصره في ايثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح ثانيها أن المعنى كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه الا الى ما يرضيني ولا يرى ببصره الا ما أمرته به ثالثها المعنى أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره الخ رابعها كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه خامسها قال الفاكهاني وسبقه الى معناه بن هبيرة هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع الا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك الخ سادسها قال الفاكهاني يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه لان المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان املي بمعنى مأمولي والمعنى انه لا يسمع الا ذكري ولا يلتذ الا بتلاوة كتابي ولا يأنس الا بمناجاتي ولا ينظر الا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده الا فيما فيه رضاي ورجله كذلك وبمعناه قال بن هبيرة أيضا وقال الطوفي اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده واعانته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الالات التي يستعين بها ولهذا وقع في رواية فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي قال والاتحادية زعموا أنه على حقيقته وأن الحق عين العبد واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية قالوا فهو روحاني(2/41)
خلع صورته وظهر بمظهر البشر قالوا فالله اقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقال الخطابي هذه أمثال والمعنى توفيق الله لبعده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الاصغاء الى اللهو بسمعه ومن النظر الى ما نهى الله عنه ببصره ومن البطش فيما لا يحل له بيده ومن السعي الى الباطل برجله والى هذا نحا الداودي ومثله الكلاباذي وعبر بقوله أحفظه فلا يتصرف الا في محابي لأنه إذا أحبه كره له ان يتصرف فيما يكرهه منه سابعها قال الخطابي أيضا وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب وذلك أن مساعي الإنسان كلها انما تكون بهذه الجوارح المذكورة وقال بعضهم وهو منتزع مما تقدم لا يتحرك له جارحة الا في الله ولله فهي كلها تعمل بالحق للحق وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه كنت أسرع الى قضاء حوائجه من سمعه في الاسماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي وحمله بعض متأخري الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو وأنه الغاية التي لا شيء وراءها وهو أن يكون قائما بإقامة الله له محبا بمحبته له ناظرا بنظره له من غير ان تبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بأمر أو توصف بوصف ومعنى هذا الكلام أنه يشهد إقامة الله له حتى قام ومحبته له حتى أحبه ونظره الى عبده حتى أقبل ناظرا اليه بقلبه وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا في شهوده وان لم تعدم في الخارج وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين(2/42)
بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث ولئن سألني ولئن استعاذني فإنه كالصريح في الرد عليه .
-قوله وان سألني زاد في رواية عبد الواحد عبدي قوله اعطيته أي ما سأل قوله ولئن استعاذني ضبطناه بوجهين الأشهر بالنون بعد الذال المعجمة والثاني بالموحدة والمعنى اعذته مما يخاف وفي حديث أبي امامة وإذا استنصر بي نصرته وفي حديث أنس نصحني فنصحت له ويستفاد منه أن المراد بالنوافل جميع ما يندب من الأقوال والافعال وقد وقع في حديث أبي امامة المذكور وأحب عبادة عبدي الى النصحية وقد استكشل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا والجواب ان الإجابة تتنوع فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة فيه وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو اصلح منها وفي الحديث عظم قدر الصلاة فإنه ينشأ عنها محبة الله للعبد الذي يتقرب بها وذلك لأنها محل المناجاة والقربة ولا واسطة فيها بين العبد وربه ولا شيء أقر لعين العبد منها ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع وجعلت قرة عيني في الصلاة أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته وانما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب فإن السالك غرض الافات والفتور وفي حديث حذيفة من الزيادة ويكون من أوليائي واصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا لا يلتفت الى شيء من ذلك الا إذا وافق الكتاب والسنة والعصمة انما هي للأنبياء ومن عاداهم فقد يخطأ فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع اليه(2/43)
ويترك رأيه فمن ظن أنه يكتفى بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ وأما من بالغ منهم فقال حدثني قلبي عن ربي فإنه أشد خطأ فإنه لا يأمن أن يكون قلبه انما حدثه عن الشيطان والله المستعان. قال الطوفي هذا الحديث أصل في السلوك الى الله والوصول الى معرفته ومحبته وطريقه إذ المفترضات الباطنة هي الإيمان والظاهرة وهي الإسلام والمركب منهما وهو الإحسان فيهما كما تضمنه حديث جبريل والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها وفي الحديث أيضا أن من اتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاؤه لوجود هذ الوعد الصادق المؤكد بالقسم وقد تقدم الجواب عما يتخلف من ذلك وفيه أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبا لله لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية ...(2/44)
- قوله وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن وفي حديث عائشة ترددي عن موته ووقع في الحلية في ترجمة وهب بن منبه اني لأجد في كتب الأنبياء ان الله تعالى يقول ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن الخ قال الخطابي التردد في حق الله غير جائز والبداء عليه في الأمور غير سائغ ولكن له تأويلان أحدهما أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه وفاقه تنزل به فيدعو الله فيشفيه منها ويدفع عنه مكروهها فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه والثاني أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء انا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن كما روى في قصة موسى وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده اليه مرة بعد أخرى قال وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه وقال الكلاباذي ما حاصله انه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات أي عن الترديد بالتردد وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب الى أن تنتقل محبته في الحياة الى محبته للموت فيقبض على ذلك قال وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق اليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه الى الموت فضلا عن إزالة الكراهة عنه فأخبر أنه يكره الموت ويسوءه ويكره الله مساءته فيزيل عنه كراهية الموت لما يورده عليه من الأحوال فيأتيه الموت وهو له مؤثر واليه مشتاق قال وقد ورد تفعل بمعنى فعل مثل تفكر وفكر وتدبر ودبر وتهدد وهدد والله اعلم وعن بعضهم يحتمل أن يكون تركيب الولي يحتمل أن يعيش خمسين سنة وعمره الذي كتب له سبعون فإذا بلغها فمرض دعا الله بالعافية فيحييه عشرين أخرى مثلا فعبر عن قدر التركيب وعما انتهى اليه بحسب الاجل المكتوب بالتردد وعبر بن الجوزي عن الثاني بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح وأضاف الحق(2/45)
ذلك لنفسه لأن ترددهم عن أمره قال وهذا التردد ينشأ عن إظهار الكراهة فإن قيل إذا أمر الملك بالقبض كيف يقع منه التردد فالجواب أنه يتردد فيما لم يحد له فيه الوقت كأن يقال لا تقبض روحه الا إذا رضي ثم ذكر جوابا ثالثا وهو احتمال أن يكون معنى التردد اللطف به كأن الملك يؤخر القبض فإنه إذا نظر الى قدر المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه فلم يبسط يده اليه فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بدا من امتثاله وجوابا رابعا وهو أن يكون هذا خطابا لنا بما نعقل والرب منزه عن حقيقته بل هو من جنس قوله ومن أتاني يمشي أتيته هرولة فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديبا فتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما ولو كان غير الوالد كالمعلم لم يتردد بل كان يبادر الى ضربه لتأديبه فأريد تفهيمنا تحقيق المحبة للولي بذكر التردد وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج بخلاف سائر الأمور فإنها تحصل بمجرد قول كن سريعا دفعه.(2/46)
- قوله يكره الموت وأنا أكره مساءته في حديث عائشة أنه يكره الموت وأنا أكره مسائته زاد بن مخلد عن بن كرامة في آخره ولا بد له منه ووقعت هذه الزيادة أيضا في حديث وهب وأسند البيهقي في الزهد عن الجنيد سيد الطائفة قال الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه وليس المعنى أني أكره له الموت لأن الموت يورده الى رحمة الله ومغفرته انتهى. وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي وهو مفارقة الروح للجسد ولا تحصل غالبا الا بألم عظيم جدا كما جاء عن عمرو بن العاص أنه سئل وهو يموت فقال كأني اتنفس من خرم ابرة وكأن غصن شوك يجر به من قامتي الى هامتي وعن كعب أن عمر سأله عن الموت فوصفه بنحو هذا فلما كان الموت بهذا الوصف والله يكره أذى المؤمن اطلق على ذلك الكراهة ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة الى طول الحياة لأنها تؤدي الى ارذل العمر وتنكس الخلق والرد الى أسفل سافلين وجوز الكرماني ان يكون المراد أكره مكرهه الموت فلا أسرع بقبض روحه فأكون كالمتردد قال الشيخ أبو الفضل بن عطاء في هذا الحديث عظم قدر الولي لكونه خرج عن تدبيره الى تدبير ربه وعن انتصاره لنفسه الى انتصار الله له وعن حوله وقوته بصدق توكله قال ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى وليا ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله فقد تكون مصيبته في غير ذلك ما هو أشد عليه كالمصيبة في الدين مثلا قال ويدخل في قوله افترضت عليه الفرائض الظاهرة فعلا كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات وتركا كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات والباطنة كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه وغير ذلك وهي تنقسم أيضا إلى أفعال وتروك قال وفيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات باطلاع الله تعالى له ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله تعالى (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول) فإنه لا يمنع دخول بعض اتباعه معه بالتبعية لصدق قولنا(2/47)
ما دخل على الملك اليوم الا الوزير ومن المعلوم أنه دخل معه بعض خدمه.- قلت الوصف المستثنى للرسول هنا ان كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لأحد من اتباعه فيه الا منه والا فيحتمل ما قال والعلم عند الله تعالى تنبيه أشكل وجه دخول هذا الحديث في باب التواضع حتى قال الداودي ليس هذا الحديث من التواضع في شيء وقال بعضهم المناسب ادخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله تعالى وبذلك ترجم البيهقي في الزهد فقال فصل في الاجتهاد في الطاعة وملازمة العبودية والجواب عن البخاري من أوجه أحدها أن التقرب الى الله بالنوافل لا يكون الا بغاية التواضع لله والتوكل عليه ذكره الكرماني ثانيها ذكره أيضا فقال قيل الترجمة مستفادة مما قال كنت سمعه ومن التردد قلت ويخرج منه جواب ثالث ويظهر لي رابع وهو انها تستفاد من لازم قوله من عادى لي وليا لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى الا بغاية التواضع إذ منهم الأشعث الاغبر الذي لا يؤبه له وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة لكن ليس شيء منها على شرطه فاستغنى عنها بحديثي الباب منها حديث عياض بن حمار رفعه ان الله تعالى أوحى الى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما ومنها حديث أبي هريرة رفعه وما تواضع أحد لله تعالى الا رفعه أخرجه مسلم أيضا والترمذي ومنها حديث أبي سعيد رفعه من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين الحديث أخرجه بن ماجة وصححه بن حبان.
قال ابن القيم رحمه الله(2/48)
**وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال الله تعالى (وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) فهذا قربه من داعيه وقال تعالى (إن رحمت الله قريب من المحسنين) فذكر الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة إيذانا بقربه تعالى من المحسنين فكأنه قال إن الله برحمته قريب من المحسنين وفي الصحيح عن النبي قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وأقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل فهذا قرب خاص غير قرب الإحاطة وقرب البطون(2/49)
-وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنهم كانوا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال أيها الناس اربعوا على أنفسكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب الى أحدكم من عنق راحلته فهذا قربه من داعيه وذاكره يعني فأي حاجة بكم إلى رفع الأصوات وهو لقربه يسمعها وإن خفضت كما يسمعها إذا رفعت فإنه سميع قريب وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده فإن لم يكن عنده معرفة صحيحة بالله وما يجب له وما يستحيل عليه وإلا طرق باب الحلول إن لم يلجه وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة واستيلاء المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة ما سواه وفي مثل هذه الحال يقول سبحاني أو ما في الجبة إلا الله ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال فالتعبد بهذا الاسم =القريب= هو التعبد بخالص المحبة وصفوة الوداد وأن يكون الإله أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه مع كونه ظاهرا ليس فوقه شيء ومن كثف ذهنه وغلط طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحا إلى ما هو أولى به فقد قيل إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة ومعرفة بقرب المحبوب من محبه غاية القرب وإن كان بينهما غاية المسافة ولا سيما إذا كانت المحبة من الطرفين وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها فإن المحب كثيرا ما يستولي محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إليه وبينهما من البعد ما بينهما وفي هذه الحال يكون في قلبه وجوده العلمي وفي لسانه وجوده اللفظي فيستولي هذا الشهود عليه ويغيب به فيظن أن في عينه وجوده الخارجي لغلبة حكم القلب والروح كما قيل خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في(2/50)
قلبي فأين تغيب .....
.... والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه هم وإرادة وحب يقابله فهو إناء واحد والأشربة متعددة فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره وإنما يمتلىء الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليا فأما إذا صادفه ممتلئا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه كما قال بعضهم أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة لأن كل شراب مسكر ولا بد وما أسكر كثيره فقليله حرام وأين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة ولكن رضي المسكين بالدون وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخس الثمن صفقة خاسر مغبون فسيعلم أي حظ أضاع إذا فاز المحبون وخسر المبطلون
السيوطي: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء.
المناوي : (إذا أحب الله عبداً حماه) أي حفظه من متاع (الدنيا) أي حال بينه وبين نعيمها وشهواتها ووقاه أن يتلوث بزهرتها لئلا يمرض قلبه بها وبمحبتها وممارستها ويألفها ويكره الآخرة (كما يحمي) أي يمنع (أحدكم سقيمه الماء) أي شربه إذا كان يضره، وللماء حالة مشهورة في الحماية عند الأطباء بل هو منهي عنه للصحيح أيضاً إلا بأقل ممكن فإنه يبلد الخاطر ويضعف المعدة ولذلك أمروا بالتقليل منه وحموا المريض عنه فهو جلّ اسمه يذود من أحبه عنها حتى لا يتدنس بها وبقذارتها ولا يشرق بغصصها، كيف وهي للكبار مؤذية وللعارفين شاغلة وللمريدين حائلة ولعامة المؤمنين قاطعة والله تعالى لأوليائه ناصر ولهم منها حافظ وان أرادوها.(2/51)
(ت ك) في الطب (هب عن قتادة بن النعمان) بضم النون زيد ابن عامر بن سوار بن ظفر الظفري الأنصاري بدري من أكابر الصحابة أصيبت عينه يوم بدر أو أحد أو الخندق فتعلقت بعرق فردّها المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه قال الحاكم صحيح وأقره الذهبي وقال الترمذي حسن غريب وقال المنذري حسن ولم يرمز له المؤلف بشيء.
ونختم هذه الجولة المباركة عبر كتب تفسير القرآت العظيم وشرح حديث النبي الرؤوف الرحيم عليه وعلى ءاله الآطهار وصحابته الآبرار أزكى الصلاة وأطيب التسليم بنخبة من الآحاديث
التي ورد فيها ذكر عباد يحبهم الغفار
1-حدثنا حرملة بن يحيى. حدثنا عبد الله بن وهب. أخبرني ابن لهيعة عن عيسى ابن عبد الرحمن، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب؛ أنه خرج يوما إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد معاذ بن جبل قاعدا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يبكي. فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إن يسير الرياء شرك. وإن من عادى لله وليا، فقد بارز الله بالمحاربة. إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين ، إذا غابوا، لم يفتقدوا. وإن حضروا، لم يعرفوا. قلوبهم مصابيح الهدى. يخرجون من كل غبراء مظلمة)).
في الزوائد: في إسناده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف. ابن ماجه في كتاب الفتن
2-حدثنا عبيد الله بن يوسف الجبيري. حدثنا حماد بن عيسى. حدثنا موسى بن عبيدة. أخبرني القاسم بن مهران عن عمران بن حصين؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إن الله يحب عبده المؤمن، الفقير، المتعفف، أبا العيال)).****
في الزوائد: في إسناده القاسم بن مهران، قال العقيلي: لا يثبتع سماعه من عمران. وموسى بن عبيدة، متروك
ابن ماجه في كتاب الزهد(2/52)
3- حدثني عمرو الناقد. حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة، الماجشون عن سهيل بن أبي صالح. قال:كنا بعرفة. فمر عمر بن عبدالعزيز وهو على الموسم. فقام الناس ينظرون إليه. فقلت لأبي: يا أبت! إني أرى الله يحب عمر بن عبدالعزيز. قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس. فقال: بأبيك! أنت سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر بمثل حديث جرير عن سهيل.
مسلم كتاب البر والصلة والآداب
4- حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعباس بن عبدالعظيم - واللفظ لإسحاق - (قال عباس: حدثنا. وقال إسحاق: أخبرنا) أبو بكر الحنفي. حدثنا بكير بن مسمار. حدثني عامر بن سعد قال:
كان سعد بن أبي وقاص في إبله. فجاءه ابنه عمر. فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب. فنزل. فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: اسكت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي".
مسلم كتاب الزهد والرقائق
5- أخبرنا أبو كريب. حدثنا إسحاق بن سليمان عن مغيرة بن مسلم، عن يونس، عن الحسن، عن أبي هريرة،
- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء".
هذا حديث غريب. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن يونس، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
الترمذي في أبواب البيوع
6 - حدثني عباس بن محمد الدوري حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا إسرائيل، عن زيد بن عطاء بن السائب، عن محمد بن المنكدر عن جابر قال:
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " غفر الله لرجل كان قبلكم. كان سهلا إذا باع. سهلا إذا اشترى. سهلا إذا اقتضى". هذا حديث غريب صحيح حسن من هذا الوجه الترمذي في أبواب البيوع(2/53)
7- حدثنا بشر بن معاذ العقدي البصري أخبرنا حماد بن واقد عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج". هكذا روى حماد ابن واقد هذا الحديث. وحماد بن واقد ليس بالحافظ وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح.
الترمذي في أبواب الدعوات
8- أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى قال حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال حدثنا أبو محصن حصين بن نمير قال حدثنا هشام بن حسان عن عكرمة عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ابن حبان كتاب البر والإحسان(2/54)
9- فحدثنا بصحة حاله فيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ثنا أحمد بن مهدي بن رستم ثنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة القرشي حدثني أبي عن الزهري أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر إذ جاءه رجل من أهل العراق فقال يا أبا عبد الرحمن أني والله لقد حرصت أن اتسمت بسمتك وأقتدي بك في أمر فرقة الناس وأعتزل الشر ما استطعت وأني أقرأ آية من كتاب الله محكمة قد أخذت بقلبي فأخبرني عنها أرأيت قول الله عز وجل { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } أخبرني عن هذه الآية فقال عبد الله مالك ولذلك انصرف عني فانطلق حتى توارى عنا سواده وأقبل علينا عبد الله بن عمر فقال ما وجدت في نفسي من شيء في أمر هذه الآية ما وجدت في نفسي أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل هذا باب كبير قد رواه عن عبد الله بن عمر جماعة من كبار التابعين وإنما قدمت حديث شعيب بن أبي حمزة عن الزهري واقتصرت عليه لأنه صحيح على شرط الشيخين وأما ما ذكر من إمساك أسامة بن زيد عن القتال = حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عوف الطائي ثنا المغيرة ثنا أبو بكر بن أبي مريم ثنا ضمرة بن حبيب عن أبي الدرداء رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب كل قلب حزين هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة رضى الله تعالى عنهم
10- حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عوف الطائي ثنا المغيرة ثنا أبو بكر بن أبي مريم ثنا ضمرة بن حبيب عن أبي الدرداء رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب كل قلب حزين هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه الحاكم في كتاب الرقاق(2/55)
11-وقد روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ أبو بكر محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى عن حسن بن صالح عن خالد بن الفزر حدثنيأنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
البيهقي في كتاب السير
12 -أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو الوليد الفقيه ثنا إبراهيم بن محمود قال سأل إنسان يونس بن عبد الأعلى عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أقروا الطير على مكناتها فقال إن الله يحب الحق إن الشافعي كان صاحب ذا سمعته يقول في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم أقروا الطير على مكناتها فقال كان الرجل في الجاهلية إذا أتى الحاجة أتى الطير في وكره فنفره فإن أخذ ذات اليمين مضى لحاجته وإن أخذ ذات الشمال رجع فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال وكان الشافعي رحمه الله نسيج وحده في هذه المعاني
البيهقي في كناب الضحايا(2/56)
13-أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد قال حدثنا أبي قال حدثنا حيوة بن شريح قال سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول حدثني أسلم أبو عمران مولى لكندة قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم وخرج إليهم مثله أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح به الناس وقالوا سبحان الله تلقي بيدك إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار إنا لما أعزَّ الله الإسلام وكثَّر ناصريه قلنا بعضنا لبعض سرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصريه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منا فانزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يردعلينا ما قلنا (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) فكانت التهلكة الإقامة في أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو قال وما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم ابن حبان في كتاب السير
14-حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثنا أبو عبد الله مسلمة الرازي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب أبو يعلى في مسند علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه(2/57)
15-أخبرني أحمد بن محمد العنزي حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الأسود بن شيبان السدوسي عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أبي العلاء عن مطرف بن عبد الله قال كان يبلغني عن أبي ذر حديث فكنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك قال لله أبوك فقد لقيتني قال قلت حدثني بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثك قال إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة قال فلا أخالني أكذب على خليلي قال قلت من هؤلاء الذين يحبهم الله قال رجل غزا في سبيل الله صابرا محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقاتل حتى قتل وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ثم قرأ هذه الآية إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص قلت ومن قال رجل له جار سوء يؤذيه فيصبر على إيذائه حتى يكفيه الله إياه أما بحياة أو موت قلت ومن قال رجل يسافر مع قوم فادلجوا حتى إذا كانوا من آخر الليل وقع عليهم الكرى والنعاس فضربوا رؤوسهم ثم قام فتطهر رهبة لله ورغبة لما عنده قلت فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله قال المختال الفخور وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل أن الله لا يحب كل مختال فخور قلت ومن قال البخيل المنان قال ومن قال التاجر الحلاف أو البائع الحلاف هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه الحاكم في كتاب الجهاد(2/58)
16-حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك إملاء في مسجده ببغداد حدثنا إبراهيم بن هيثم البلدي حدثنا محمد بن كثير حدثني أبو سلمة حدثني عبد الله بن سلام رضى الله تعالى عنه قال قعدنا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عملنا فأنزل الله تعالى { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص إلى } آخر السورة وقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد محمد بن كثير في حديثه وقال لنا الأوزاعي قرأها علينا يحيى بن أبي كثير هكذا قال محمد بن كثير وقرأها علينا الأوزاعي هكذا قال إبراهيم وقرأها علينا محمد بن كثير إلى آخر السورة هكذا قال أبو عمرو بن السماك وقرأها علينا إبراهيم بن الهيثم إلى آخر السورة هكذا قال الحاكم وقرأها علينا أبو عمرو بن السماك من أول السورة إلى آخرها هكذا وقرأها علينا الحاكم من أول السورة إلى آخرها هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
17- أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ثنا سعيد بن مسعود ثنا عبيد الله بن موسى أنبأ علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال كانت قريظة والنضير وكان من أشراف قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة قالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } النفس بالنفس ثم نزلت { أفحكم الجاهلية يبغون } هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
الحاكم في كتاب التفسير(2/59)
18- أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ثنا سعيد بن مسعود ثنا عبيد الله بن موسى أنبأ علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال كانت قريظة والنضير وكان من أشراف قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة قالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } النفس بالنفس ثم نزلت { أفحكم الجاهلية يبغون } هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
19-أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ثنا سعيد بن مسعود ثنا عبيد الله بن موسى أنبأ علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال كانت قريظة والنضير وكان من أشراف قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة قالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } النفس بالنفس ثم نزلت { أفحكم الجاهلية يبغون } هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
الحاكم في كتاب الحدود
20 - أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس الدوري ثنا روح ثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة عن أبي رجاء العطاردي قال خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف خز فقلنا يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبس هذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه البيهقي في كتاب صلاة الخوف(2/60)
21- حدثنا سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبي حدثنا بكر بن مضر عن عمارة بن غزية عن حرب بن قيس وزعم عمارة أنه رضى عن نافع عن بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تترك معصيته ابن خزيمة في كتاب الصيام
22-حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا بكير بن مسمار عن عامر بن سعد أن أباه سعدا كان في إبل له وغنم فجاءه ابنه عمر فلما رآه قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فلما انتهى اليه قال أرضيت أن اكون أعرابيا في إبلك وغنمك والناس بالمدينة يتنازعون الملك قال فضرب صدره بيده وقال يا بني اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي أبو يعلى في مسند سعد بن أبي وقاص
23- حدثنا مصعب حدثني بشر بن السري عن مصعب بن ثابت عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه حدثنا مصعب حدثني بشر بن السري عن مصعب بن ثابت عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه أبو يعلى في الجزء السابع
24-أبو كريب حدثنا إسحاق بن سليمان عن المغيرة بن مسلم عن يونس عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء أبو يعلى في الجزء الحادي عشر
25- حدثنا علي أنا سفيان قال قال الشعبي التائب من الذنب كمن لا ذنب له ثم تلا ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) مسند أبي الجعد(2/61)
26- حدثنا بشر بن مفضل عن مغيرة بن حبيب قال : سألت سالما عن المبارزة فأكب هنيهة ثم رفع رأسه فقال : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } . ( 165 ) حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن أبي صالح عن ابن عباس : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال : أنفق في سبيل الله ولو بمشقص . ( 66 ) حدثنا وكيع نا سفيان عن عثمان بن الاسود عن مجاهد قال : إذا لقيت فانهد قائما فإنما نزلت هذه الآية في النفقة ابن أبي شيبة قي كتاب فضل الجهاد
27- حدثنا أبو بكر قال حدثنا ابن إدريس عن الاعمش عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب الحيي العفيف الحليم ، ويبغض الفاحش البذئ السائل الملحف ) . ( 7 ) حدثنا أبو بكر قال حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن * ( هامش ) * ( 3 / 1 ) إماطة الاذى عن الطريق : إبعاد ما يؤذي من وسط الطريق . كي لا يضر الناس وإفساحا لطريقهم . ( 3 / 6 ) السائل الملحف : الذي يلح في الطلب . ( * ) أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحياء من الايمان ، والايمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء ، والجفاء في النار ابن أبي شيبة قي كتاب الادب
28- حدثنا عبد الله حدثني عبد الأعلى بن حماد الترسي حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثنا أبو عبد الله مسلمة الرازي عن أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
-إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب. أحمد في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه
29- - حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا محمد بن سلمة عن ابن اسحاق عن داود ابن حصين عن عكرمة عن ابن عباس:(2/62)
-في قوله عز وجل: فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين قال: كان بنو النضير إذا قتلوا قتيلا من بني قريظة أدوا اليهم نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير قتيلا أدوا اليهم الدية كاملة فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم الدية. أحمد في مسند أهل البيت رضوان الله عليهم أجمعين
30- حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمارة بن غزية عن نافع عن ابن عمر قال
-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تؤتى معصيته. أحمد في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما-
31-حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا بهز حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
-كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف إن الله يحب أن ترى نعمته على عبده. أحمد في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما -
32- حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا يزيد أنبأنا الأسود بن شيبان عن يزيد بن العلاء عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: بلغني عن أبي ذر حديث فكنت أحب أن ألقاه فلقيته فقلت له:(2/63)
-يا أبا ذر بلغني عنك حديث فكنت أحب أن ألقاك فأسألك عنه فقال: قد لقيت فسأل قال: قلت: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثلاثة يحبهم الله عز وجل وثلاثة يبغضهم الله عز وجل قال: نعم فما أخالني أكذب على خليلي محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثا يقولها قال: قلت: من الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل قال: رجل غزا في سبيل الله فلقي العدو مجاهدا محتسبا فقاتل حتى قتل وأنتم تجدون في كتاب الله عز وجل {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا} ورجل له جار يؤذيه فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يكفيه الله إياه بموت أو حياة ورجل يكون مع قوم فيسيرون حتى يشق عليهم الكرى أو النعاس فينزلون في آخر الليل فيقوم إلى وضوءه وصلاته قال: قلت: من الثلاثة الذين يبغضهم الله قال: الفخور المختال وأنتم تجدون في كتاب الله عز وجل: {إن الله لايحب كل مختال فخور} والبخيل المنان والتاجر والبياع الحلاف قال: قلت: يا أبا ذر ما المال قال: فرق لنا وذرد يعني بالفرق غنما يسيره قال: قلت: لست عن هذا أسأل إنما أسألك عن صامت المال قال: ما أصبح لا أمسى وما أمسى لا أصبح قال: قلت: يا أبا ذر مالك ولأخوتك قريش قال: والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين الله تبارك وتعالى حتى ألقى الله ورسوله ثلاثا يقولها. أحمد في مسند الانصار(2/64)
33- أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان ثنا عبد الله بن وهب أخبرني الليث بن سعد عن عياش بن عباس القتباني عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر خرج إلى المسجد يوما فوجد معاذ بن جبل عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي فقال ما يبكيك يا معاذ قال يبكيني حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة هذا حديث صحيح ولم يخرج في الصحيحين وقد احتجا جميعا بزيد بن أسلم عن أبيه عن الصحابة واتفقا جميعا على الاحتجاج بحديث الليث بن سعد عن عياش بن عباس القتباني وهذا إسناد مصري صحيح ولا يحفظ له علة الحاكم قي كتاب الإيمان
***وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع مَنْ أحب ) فهو من أصح الأحاديث، وقال أنس فما فَرِحَ المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يحشرني الله معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم،وكذلك : ( أوثق عُرَي الإسلام الحب في الله، والبغض في الله )
لكن هذا بحيث أن يحب المرءُ ما يحبه الله، ومَنْ يحبه الله . فيحب أنبياء الله كلهم؛ لأن الله يحبهم، ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم؛ كالذين يشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وغيرهم من أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان .....
تم والحمد لله رب العالمين
يوم 15 من شهر شوال عام 1426
الموافق ليوم 20-11-2005
وجمعه العبيِّد الفقيِّر الراجي عفو ربه العفو الغفور
أبو يوسف محمد زايد.(2/65)