مَنابع الإثم الأفكار الحائمة حول الإسلام - عند الجاهلين به - تصوره ديناً غريباً عما قبله، محصورا فى نطاق قائم بذاته، وتصور أهله أتباع رجل ادعى النبوة-إن صدقا و إن كذبا - فهو يربطهم بشخصه فحسب! ويكره أن يأنسوا بغيره من النبيين الأولين، أو يعترفوا بما جاء على أيديهم من هدايات..!! وهذا تصور باطل. ربما وقف اليهودى فى إيمانه عند "موسى" وجحد من بعده، وقال فيهم السوء. وربما وقف النصرانى فى إيمانه عند "عيسى" وكذب من بعده ورفض الأخذ عنه. أما الإسلام فهو دين شامل. يأمر أهله أن يؤمنوا بـ "موسى" و "عيسى" و"محمد" على سواء، وأن يوثقوا أواصر القربى بينهم وبين سائر المرسلين، وأن يجعلوا ولاءهم لموسى وعيسى من ولائهم لمحمد نفسه. فلا تفرقة بين نبى ونبى. الكل ينقل عن الله، ويجتهد فى نفع عباده. والكل أدى واجبه فى إنقاذ البشرية من أهوائهم وقيادتهم إلى الخير والحق والمعروف. والله سبحانه وتعالى بعد أن عد جملة من أسماء النبيين الأكرمين قال لرسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين). وهذه الآية من القرآن العزيز تفيد أن الطريق واحدة، سبق فيها من الهداة من سبق، ثم جاء النبى الصالح "محمد بن عبد الله "مجدداً ما بلى-على الزمن- من أعلامها ومؤكدا ما بقي من حقائقها، ومتجرداً فى دعواته لا يطلب عليها أجرا، ولا يبغى بها مجادة أو فخرا... إنه مذكر فحسب يوقظ النيام، وينبه الغافلين..
ص _006(1/1)
وقد كره محمد -رسول الله- أن يفضل على أحد من إخوته المرسلين. روى ابن عباس عن النبى أنه قال: "ما ينبغى لعبد أن يقول: أنى خير من يونس ابن متى -ونسبه إلى أبيه-" . وفى رواية: "من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب". وقال عن يونس: "ذاك أخى كان نبياً وأنا نبى". هذا وصف العلاقة بينهما دون تزيد، وقد يحمق بعض الأتباع فيدخل فى مفاضلة بين الأنبياء لا نتيجة لها إلا إثارة الفتن، والمسلم الصالح يدع هذا الميدان، ويقبل على خاصة نفسه يتعهدها بما يؤهلها لرضوان الله، فذلك أجدى... *** روى أن يهوديا عرض سلعة له فى السوق. فساومه رجل على شرائها بثمن بخس. فقال اليهودى: لا أبيعها به والذى اصطفى موسى على البشر! وكان رسول الله قد هاجر إلى المدينة وأقام بها، فتغيظ أحد الأنصار من هذه اليمين وظنها تعريضاً بمحمد، فأقبل على اليهودى فلطمه، وقال له: تقول هذا ومحمد بين أظهرنا؟؟ فشكا اليهودى ما نزل به إلى رسول الله، وقال: يا أبا القاسم إن لى ذمة وعهدا. فغضب رسول الله من الأنصارى حتى عرف الغضب فى وجهه، ثم قال: " لا تفضلوا بين أنبياء الله "وذكر كليم الله موسى بخير، وأثنى عليه بما هو أهله.. إن الإسلام أرحب أفقا ، وأوسع دائرة، وأجمع لأطراف الزمن، وأوعب لأشتات الناس مما يتوهم الكثيرون القاصرون. وإذا كان الشمول عيبا والمرونة قدحا فإن الإسلام يؤتى من هذه الناحية. وما ينقم الإسلام على فرد أو جماعة من أهل الكتاب الأولين إلا أن تسوء صلتهم بربهم وأنبيائهم، ويتحولوا عن قواعدهم المحترمة إلى مسلك تنكره السماء وتفسد به الأرض... ما العمل إذا تحولت اليهودية إلى صهيونية آثمة تلغ فى الدماء والأعراض وتبنى وجودها على الفتك والغصب!؟ إن موسى! أول الناس براءة من هذه العربدة السياسية. ص _007(1/2)
والمسلمون إذا انتصبوا لمقاومتها، ومخاصمة أهل الأرض طرا فى سبيل القضاء عليها فهم مقدورون مشكورون، وليس ينكر عليهم عملهم هذا إلا سياسى أفاك، أو مغرض مفضوح الدخيلة.. لقد كنت ـ كأى مسلم ـ أشيع موسى بقلبى وهو هارب من بطش فرعون. وأصحبه بمشاعر متوجسة قلقة وقد خرج خائفا يترقب يقول: ( رب نجني من القوم الظالمين). (...رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير). فانظر إلى أتباع النبى الفار من الظلم، والممدود اليد إلى خير الله يستنزله فى ضراعة وخشوع!! إن هؤلاء الأتباع يقترفون اليوم أبشع مظلمة فى العالم. ويتنادون فى صفاقة لا نظير لها: أن اقتلوا العرب واستولوا على ديارهم وحقوقهم. ودعوهم يهيمون فى الصحراء الموحشة ليهلكوا من الانقطاع والضياع. إن هؤلاء الأتباع تحولوا إلى عصابات خليقتها الغدر، وراحتها البغى، وطعامها الربا، وريها عب الدماء من أجساد الضحايا، وأملها أن تشبع أثرتها أو ترى المدائن والقرى خرائب وأطلالا ينعق فوقها البوم!! أهذا ميراث موسى ؟ كذبوا. ما أبعد البون بينه وبينهم. إن حصد هؤلاء الطاغين قربان إلى موسى، وإلى سلفه إسرائيل وإلى ربهما ورب العالمين..!! وما يقال فى تحويل اليهودية إلى صهيونية، يقال فى تحول النصرانية إلى استعمار همجى لا ضمير له. وفى تحالفها مع اليهودية بغية استئصال شأفتنا واجتياح بقيتنا. هكذا يحلم بنو إسرائيل، وهكذا تشد أزرهم دول الاستعمار الغربى. ونتساءل: أليس الإسلام هو الذى حاد اليهود وأعلن أن غضبته عليهم (..وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ). بلى! ولكن الاستعمار الصليبى لا يكترث بشىء قدر ما يكترث لتدويخ المسلمين وإيرادهم موارد البوار. ص _008(1/3)
أما صلتهم بعيسى وإنجيله فقد حورتها الليالى التى تلد العجائب! كان عيسى رجلا رقيقا عامر الفؤاد جياش العاطفة. وكان ينكر على المتاجرين بالأديان غلظة طباعهم وجفاف الرحمة من قلوبهم. واليوم تتفرس فى فعال المنتسبين لاسمه، ومبلغ ما تذوق الشعوب من ويلاتهم، فلا ترى فى وجوههم إلا ملامح "تيمور لنك" و"هولاكو" وجحافل التتار وهى تنساب فى الدنيا لتعز من أذل الله وتذل من أعز الله... إن الطريقة التى أطفئت بها ثورات العرب فى فلسطين وفى طرابلس، وفى أقطار المغرب، قد تطوى صحائفها حيناً حتى لا تتقزز النفوس من أنبائها. ولكن الجراح تنكأ الجراح، ومآسى اليوم تذكر بمآسى الأمس. وهذه وتلك سوف يقدم الحساب عنها يوماً. قال " حافظ إبراهيم " يصف ما فعله " الطليان " بالمسلمين فى طرابلس: كبلوهم، قتلوهم، مثلوا... بذوات الخدر، طاحوا باليتامى! ذبحوا الأشياخ والزمنى ولم يرحموا طفلا، ولم يبقوا غلاما! أحرقوا الدور، استحلوا كل ما حرمت "لاهاى" فى العهد احتراما! بارك المطران فى أعمالهم فسلوه: بارك القوم علاما؟ أبهذا جاءهم إنجيلهم آمراً يلقى على الأرض سلاما؟ وقال " أحمد شوقى " يصف جيش الاستعمار : تمشى المناكر بين أيدى خيله أنى مشى. والبغى والإجرام! ويحثه باسم الكتاب أقسة نشطوا لما هو فى الكتاب حرام! ومسيطرون على الممالك سخرت لهم الشعوب كأنها أنعام! من كل جزار يروم الصدر فى نادى الملوك، وجده غنام! سكينه. ويمينه. وحزامه، والصولجان، جميعها آثام! حامل الآلام عن هذا الورى كثرت عليك باسمك الآلام خلطوا صليبك بالخناجر والمدى كل أداة للأذى وحمام ص _00 ص(1/4)
وقد تعقب الكتاب والشعراء حملات هذا الاستعمار. وكشفوا الغطاء عن مقاصده ومفاسده، ومنذ سبعين سنة وهم يلفتون أمتهم إلى طبيعة هذه الحملات، والروح التى تملى بشنها، وفى ذلك يقول "الكاشف": صليبية يا قوم؟ أم عنصرية حروبكم؟ والدين هذا أم الشرك؟ أجل إن الأحقاد التى اكتنفت الغزو الجديد، وقرنت بين الاستعمار والتبشير فى جبهة واحدة لم تخف على أحد. وبيت الكاشف الأخير قيل قبل خمسين سنة مما ذكره محرر " المصور " عن سياسة الإنجليز لتنصير جنوب السودان وهذه هى كلمته التى نشرها بعنوان: (هل قرأ الأزهرى-رئيس الحكومة- هذا المنشور؟) " لماذا يحب كثير من الناس أن يعتنقوا الإسلام؟ لأنه عقيدة سهلة، تسمح للناس بارتكاب خطايا كثيرة تلذ لهم. وتعلمهم احتقار الآخرين ". أ. هـ. ذلك السؤال وهذا الجواب، هما ترجمة المنشور المكتوب بلغة جنوب السودان (بحروف لاتينية) مع ترجمة بالإنجليزية. وليس هذا المنشور إلا واحدا من عدة منشورات يوزعها الإنجليز فى جنوب السودان، باسم التبشير، أما الغاية الكامنة وراء هذه الحملة التبشيرية، فهى التفرقة بين شمال السودان الإسلامى، وجنوبه الذى تسرح فيه جماعة المبشرين وتمرح، حتى ينفصل الشمال عن الجنوب من الناحية الروحية، فيتاح للمستعمر أن يحقق أحلامه فى الجنوب، ويضمه إلى إمبراطوريته السوداء. قال المحرر: " وقد عاد مندوبنا من رحلته الأخيرة فى السودان يحمل هذه المنشورات المسمومة، المليئة بالطعن فى الإسلام والقرآن، إليك ترجمة منشور آخر منها: "كيف نستطيع أن نعرف أن الإسلام ليس دينا صحيحا؟ لأنه ليس لهذا الدين (مخلص) يروى عنه، ثم إنه لا يمنح الناس قوة تقودهم إلى حياة جديدة، والقرآن ليس من عند الله"! ص _010(1/5)
وهذا منشور ثالث: "كيف يعرف أن القرآن ليس من عند الله!. لأنه يقصد أن يحل محل الإنجيل، ولأننا نجد فيه أشياء نعرف أنها غير صحيحة". إن هذه المنشورات تحت يدى وأنا أكتب هذه الكلمة... ولا أحسب أن السيد، إسماعيل الأزهرى، لم يرها ولم يسمع بها... فماذا فعل بإزائها؟ وإذا لم يكن قد فعل شيئا.. فماذا هو فاعل" أ. هـ. *** والحق أن الغزو الذى انسابت جيوشه فى بلاد الإسلام مطلع هذا القرن الهجرى أرخص كل شى فى سبيل ترسيخ أقدامه. والغريب أن الخسائر التى أصابت المسلمين فى مقاومته بعد ما احتل ديارهم أضعاف ما فقدوا إبان مواجهتهم هذا الغزو يوم بدأ.. ولنعترف -كارهين أو طائعين- أن أمتنا الكبيرة كانت قد انتهت إلى حال من الفوضى والتفسخ أغرى بها العدو وأضعف أمل الصديق. وجعل أوروبا تقتسم بينها الأسلاب وكأنها تستولى على ميراث ليس له صاحب. ثم إن الفاتح الجديد لم يضع وقته سدى! لقد رسم سياسة دقيقة بعيدة المدى لتفتيت الكيان الذى سقط فى يده وإماتة خصائص الحياة والإباء فيه. فرمى بأوزاره كلها على البلاد يحاول محق عروبتها، وطمس تاريخها، وتلويث ينابيعها الفكرية والعاطفية حتى تنشأ الأجيال الحديثة عليلة المزاج سقيمة التفكير. وأعانه على المضى فى خطته تلك ما أحرزه من سبق هائل فى العلوم والكشوف وآفاق الحياة الأخرى. وليس بعزيز أن يعثر كل غالب منتصر على أصناف من الناس تسايره فى رأيه وتتابعه على هواه. إما عن ذوبان وإعجاب، وإما عن ضعف وخيانة... ص _011(1/6)
والإلحاد والفساد والتخبط الذى مرضت به أكثر بلاد الإسلام جاء نتيجة محتومة لسياسة الغزو الاستعمارى الأخير..!! والحياة فى أوروبا تمتاز بأنها مادية مغرقة. وأن صلتها بالله واهية أو صورية أو مبتوتة. والإنسان فى الغرب يعبد الحياة وينحصر فى مطالبها. وقد تقول: لكنهم نصارى متمسكون بمذاهبهم. ومتعلقون بكنائسهم. والجواب أن التدين المنحرف المشوب يحتل من النفس الإنسانية جانباً منزوياً مهملا، لا يصدها عن شر، ولا يحضها على خير. وهو إن اختلط بالسلوك العام فلتسويغ خطيئة، أو لتسلية كربة. وقد ينتفع به -كأى تدين مصنوع- فى إلباس الجرائم ثوب الأعمال الصالحة. أو قد ينتفع به كعصبية عمياء تهيج بها الأحقاد ويكاد بها للخصوم.. والاستعمار الغربى يرتبط بالنصرانية لتخدم أغراضه فحسب. أما أوروبا وأمريكا بعد تعريتها من التزاويق والتهاويل التى تظهران بها، فقطعان من البشر لا تعرف لها رباً، ولا ترجو ثوابا ، ولا تخشى عقابا. كتب الأستاذ توفيق الحكيم يصف الفراغ الروحى فى الحضارة الغربية فقال: هل الإنسان وحده فى هذا الكون؟. لقد أجاب العصر الحديث فعلا بأن الإنسان وحده لا شريك له فى هذا الكون، وأنه إله هذا الوجود، وأنه حر تمام الحرية. وبهذا الجواب -الذى قضى على تعاليم الأديان- ختم العصر الحديث على نفسه بطابع المادية. وعلي الرغم من بقاء الدين فى كثير من البلاد المتحضرة ماضياً فى دعوته، محافظا على مظاهر قوته، إلا أن الناس جميعا حتى المتمسكين بالطقوس وروح النصوص قد سيطرت عليهم النزعة المادية، ودون إدراك منهم لأن جو العصر كله قد تشبع بها تشبعاً لا تجدى فى صده النوافذ المغلقة، ولا الأبواب الموصدة، فهواؤه يتسرب إلى النفوس وهى لا تفطن " أ. هـ. .. تلك هى علاقة الحضارة الحديثة بالله، وذلك مبلغ توجيه النصرانية لها. ولا عجب فهذه الديانة-ولو بقيت على أصولها الأولى - خلقت لعصر غير العصر وجو غير الجو. ص _012(1/7)
وما تلام السيارة الفارهة إذا عجزت عن جر سبعين عربة من عربات القطار السريع...!!! إن العصر للإسلام وحده لو كان له رجال ولو كان له دعاة. ويلاحظ على حضارة الغرب أيضا أنها أجابت رغبات النفوس، ويسرت منالها لعامة الناس وزادت شراهة الشهوات- الحرام والحلال معاً! فالزنا لا يحرمه قانون، وكذلك الخمر... ومتى يسر هذا وتلك، وقربا للطالبين بالمجان أو بالثمن الزهيد فإن الدخول فى مساخط الله -إن ذكره أحد !- أمسى يشبه الدخول فى الحدائق العامة، متعة مبذولة للراغبين..! وأحسب أن اللذائذ التى حظى بها الملوك الأقدمون، وانفردت بها قصورهم قد دخلت الآن أغلب البيوت. والعامل بأجر يومى يمكنه أن يدخل صالات الرقص ليخاصر النساء ويسمع الموسيقى والغناء ويسكر ويضحك دون مبالاة.. وعندما استعمرت أوروبا بلادنا، وهى متحللة من قيود الإيمان كما ترى اجتهدت أن تنقل إلينا صورة من حياتها هذه. فلما اصطدمت بتعاليم الإسلام الموروثة، وتقاليده الباقية بين أهله، عملت على إماتة هذا الدين بإبعاد شرائعه، واحتقار تقاليده.... والقانون الوضعى المنقول عن الغرب، والمطبق الآن فى أكثر بقاع الإسلام يبيح الزنا ما دام الرضا متبادلا بين الطرفين، فإذا زنت زوجة ورغب زوجها فى ابتلاع فعلتها فليس للمجتمع حق قبله، ولا للقانون سلطان عليها.. وانظر بعد البون بين بيت يقع فيه الزنا فيتغاضى المجتمع عنه، وبين بيت يقع فيه شقاق فيتدخل الإسلام لإعادة الوئام إليه (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما...). الشقاق رذيلة يخشاها المجتمع المسلم على الأسرة. ص _013(1/8)
أما الزنا فجريمة، لا، بل فعلة يسكت عنها القانون الأوروبى لأنها شأن لا يعنيه. وأما حق الله -من قبل ومن بعد- فى تطهير النفوس من الدنايا وإقامة الحدود لفطام المجتمعات عن المحرمات، فأمر غير معترف به.. وقد فشت المناكر فى بيئتنا عن طريقين: - تأثير الاستعمار الغربى فى الحياة العامة. - ومواريث الانحلال التى لحقتنا بعد تفكك الأمة الإسلامية أيام الأتراك. والبصر الناقد الحصيف لا يعوزه أن يرد عللنا الحاضرة إلى مصادرها التى أتت منها، وأن ينقذ أمته المتعبة من ازدواج هذه النكبة. والعلاج أن: - يحارب الاستعمار، وما اقترن به، وما اختفى وراءه. - وأن نرد لديننا رواءه الأول، وننفى عنه ما شانه من فساد فى عهود البلى والاضمحلال. وبذلك ننقذ الشرق من ظلمات الغرب. وننقذ أنفسنا من مهاوى التحلل والعصيان. *** ص _014(1/9)
بين العقل والعاطفة ربما قبلت بعض الآراء، والأوضاع، والأشخاص على إغماض ومساهلة ، فلست تريد التقصى فى التمحيص أو التثبيت من الحكم. لقد قبلت ما قبلت لأنك راغب عن الرفض، أو لأن ثمة مصلحة أرجح لديك، أو لأن سآمة غلبت عليك، أو لأن الإلف أنام تفكيرك، أو لعلل أخرى...!. وكثير من الناس يعيش فى الدنيا أسير ظنون غالبة، أو فى نطاق مذاهب موروثة. وقد تومض فى عقله لحظات شك سريع، ما إن تبرق حتى تنطفئ، ثم يعاود معيشته الساهية، ويأخذ الحياة كما هى !!!. والقرآن الكريم يعرِّض باتصال مواكب الجهل خلفا بعد سلف إذ يقول فى عبدة الأوثان: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى). والمرء إذا كان يقبل أمراً ما دون مبالاة وتدقيق، وإذا كان يسمح بمرور أشياء كثيرة فى " حاشية الشعور " أو " شبه الشعور " فإنه لا محيص أمامه من أن يوقظ انتباهه كله وما أوتى من ذكاء عندما يتعلق البحث بحاضره فى هذه الدنيا، ومستقبله فى الدار الأخرى. أى عندما يتعلق بدينه، وبنفسه، وماله، وما عليه لله رب العالمين.. إن الأمر -والحالة هذه- أخطر من أن ينظر فى ظلال الغفلة، وقلة الاكتراث. وليس يستكثر عليه إدمان النظر و إنعام الفكر آماداً طويلة حتى يستقر المرء على نهاية هى ثمرة ما لدية من وعى وحس، وإرادة و إخلاص... وتوجد جماهير غفيرة تحيا على ما تلقت من إيمان. بعضه خرافى، وبعضه حق، وبعضه مزيج من الحق والخرافة.. ص _015(1/10)
هؤلاء، وجدوا قلوبهم -على حين غفلة- ملآى، شحنها السابقون قبل أن يذهبوا. فهم مع مواريث التدين التى آلت إليهم، لا يحبون أن يغيروا منها شيئا.!!. وإذا حدث أن نقص هذا الإيمان أو ضاع فإن القلوب الفارغة تملأ مرة أخرى من النوع نفسه، دون خلجة من تفكير أو لفظة من وعى. روى " ديل كارنيجى " عن وليم جيمس ": "كانت مشيئة والدتى أن أكرس حياتى لخدمة الدين، وكثيرا ما فكرت أن أصبح مبشراً فى بلد أجنبى. ولكنى حين ذهبت إلى الجامعة طرأ على تغير كبير!.. فقد درست علم الأحياء والعلوم المختلفة، والفلسفة والأديان المقارنة. وقرأت كتباً كثيرة فى تفسير الكتاب المقدس، فبدأت أشك فى الكثير مما أكده الإنجيل، ورحت أرتاب فى العقائد المتزمتة التى يلقيها علينا وعاظ الريف، وتنازعتنى الحيرة، وأصبحت شغوفا بالتقصى والاستطلاع. تتزاحم داخلى أسئلة لا حصر لها. ". لم أدر ما أصدق؟ ولا بأى شىء أؤمن؟! وكففت عن الصلاة والعبادة، وأوشكت أن أكون ملحداً.. أ. هـ. هذا رجل ورث النصرانية عن ذويه وأوشك أن يكون من دعاتها. ثم تفتح عقله على علوم الكون والحياة، واشتبك مع معضلات الفلسفة والديانات الأخرى، فإذا نافذة من الريبة تنفتح على نفسه، و إذا هو يكفر بدينه أو يقترب من الكفر. إن الأسئلة المنبعثة من أعماق نفسه بعد استيقاظ فكره وحسه لا يجد لها جواباً!. ولكنه عطشان إلى اليقين والاستقرار فما عساه يفعل؟ ليتجاهل هذه الأسئلة كلها، وليهمل ما قبلها وما بعدها! فهذا طريق الإيمان والراحة! وهنا نجد خلطاً بين نوعين من الأسئلة متباينين أشد التباين. ص _016(1/11)
أحدهما ناشئ عن نهم العقل فى طلب المعرفة -القريبة والبعيدة- نهماً قد يعيبه إذ يكلفه فوق طاقته. والآخر ناشئ عن حق العقل فى طلب الحقيقة، وكشف الشبه المحيطة بها وتخليص جوهرها من كل شائبة تعلق به.. الأسئلة الأولى يجب استبعادها، ويستطيع المرء -عقلا- أن يكف عنها. أما الأخرى فإن تجاهلها طلباً للراحة جهل كثيف لا يقبل من إنسان، ولا يسوغ عليه إيمان... قد يعجز الكاهل أن يحمل ثقلا ما، ولكن العجز عن حمله لا يعنى عدمه. وقد يعجز العقل عن تفسير كائن ما، ولكن العجز عن تفسيره لا يبطل وجوده. أما أن يحكم العقل باستحالة صورة من الصور أو قضية من القضايا بطرقه العتيدة فى البحث والاستدلال فهذا ما لا يمكن تجاهله، ولا يقبل غض الطرف عنه، ولا يمكن سوقه فى صعيد واحد مع النوع الأول. والذين يخلطون بين النوعين وهم يؤمنون أو وهم يكفرون قوم جائرون. و " وليم جيمس " ينبئنا بأنه أهمل الأسئلة التى عرضت له كلها، وأسكت الشكوك التى جاشت فى نفسه، ورجع بعد رحلة طويلة من الريبة والقلق إلى نصرانيته الأولى. ثم قال يشرح نفسه وهو آيب إلى دينه: "أفترانى توصلت الآن إلى حلول لتلك الأسئلة؟ وشفاء لتلك الريب والشكوك التى تنازعتنى فى صباى؟ كلا. فما من أحد وسعه أن يفسر لغز الكون وسر الحياة!.. إننا محاطون بالألغاز والأسرار من كل جانب، فآلية جسدك سر من الأسرار، وكذلك الكهرباء التى تستضيء بها فى بيتك، والأزهار التى تزين حديقتك، والخضرة التى تتطلع عليها من نافذتك. بل لقد رصد "شارلس كزنج" المهندس العبقرى المشرف على معامل أبحاث شركة " جنرال موتورز " ثلاثين ألف دولار سنويا من جيبه الخاص لكلية " أنطاكية " عساها أن توفق إلى معرفة سر اخضرار الزرع. ص _017(1/12)
وصرح بقوله: إننا إذا عرفنا كيف يستطيع الزرع تحويل ضوء الشمس والماء والكربون إلى سكر يتغذى به لوسعنا أن نغير وجه المدنية تغييراً شاملا. غير أن جهلنا بأسرار أجسامنا، ومظاهر الكون حولنا لا يمنعنا من استخدامها والاستمتاع بها. ولن يكون جهلى بأسرار الدين مانعاً لى من الاستمتاع بالحياة الروحية السامية التى يهيئها لى. لقد وعيت أخر الأمر الحكمة البليغة القائلة " لم يخلق الإنسان فى الحياة ليفهمها: وإنما خلق ليحياها.. ". أ. هـ. ونحن نؤيد هذا المفكر الباحث فيما ساق من أمثلة وفيما استخلص من نتائج. - إدراك كنه المادة صعب.!! - وإدراك كنه الروح أصعب.!! - وإدراك كنه الذات العليا خلاقة المواد والأرواح جميعاً أوغل فى الصعوبة والامتناع..!!! - والوقوف عند الصفات الظاهرة فحسب لا يخدش اليقين. - وإسكات الأسئلة التى تهجس فى النفس من هذا القبيل بعض ما أوصى به الدين، بل هو بعض ما يوصى به العقل الرصين...!! غير أن ما ذكره " وليم جيمس " هو نصف الحقيقة، ولا يمكن أن نغفل عن النصف الآخر، فقد نسيغ السكوت على الأسئلة التى تتحدى قدرة الفكر البشرى. ولكن هناك أسئلة أخرى يجب أن تثور وأن نجيب نحن عنها. وذلك عندما تحتوى العقائد المتلقاة على التواءات يأباها الفكر المستقيم، أو على متناقضات يخرج العقل على نفسه لو سلم بها..! - وإكراه امرئ ما على " إمرار " هذه الأخطاء بحجة أن العقل لا يدرك كل شىء هو مغالطة واضحة . ص _018(1/13)
- والقول. بعد ذلك بأن " الدين " شئ و" العقل " شئ آخر هو مضى فى هذه المغالطة يتذرع به إلى ترويج الخرافات وإقرار الأباطيل. إن الشباب الذين فروا إلى الكهف كانوا معقولين عندما خرجوا على دين قومهم، وعندما احترموا الأسئلة التى ترددت فى ضمائرهم، وعندما طلبوا الدليل الصحيح على ما كلفوا به من اعتقاد (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا * هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا". السلطان البين هو الحجة المقبولة التى يعنو الفكر لقوتها ونصاعتها. وقد نظر أولئك الفتيان فيما وصل إليهم من دين، وعرضوه على عقول نيرة متحررة، فوجدوه خرافة لا يساندها منطق فرفضوا الأخذ به وولوا وجوههم شطر الحق حيث كان، وقبلوا فى سبيله المطاردة والاغتراب. *** إنه لا ارتباط بين الصحة العقلية لفكرة من الفكر أو مذهب من المذاهب، وبين الراحة النفسية لدى المؤمنين بهذه الفكرة أو المتشيعين لهذا المذهب... إن لدى الهندوس معابد مهولة تخشع القلوب فى رحابها وهى تقدس الهراء! وقد يبتهج الفاكهى من أولئك الهنود المؤمنين (!) وهو يرى عجلا مقدساً يدلف إلى محله ليقضم الثمار المعروضة وليلتهم منها ما يشاء..! ا إن العواطف كثيراً جداً ما تند عن ضوابط المنطق المحكم. ومن ثم قال علماؤنا: إن الانفعالات الوجدانية لا تدل على صدق حكم أو بطلانه، بل إن هذه الانفعالات نفسها هى التى يعرض عليها الحكم بالخطأ أو الصواب. واتجاهات القلوب لا تساوى فى ميزان الحقيقة شيئاً ما لم يؤيدها عقل منصف ونظر ثاقب... ص _01 ص(1/14)
إن الوثنيين يعيشون بقلوب تنعقد على مشاعر عميقة، فهل نسوى بين الإيمان بالباطل والإيمان بالحق، من أجل أن الإيمان المطلق يهب صاحبه قلباً مستقراً وفؤاداً راضياً؟ هذا ما نسأله " وليم جيمس " وهو يحدثنا عن متعته بالحياة الروحية التى أتاحها له الإيمان. بعد ما أسكت الأسئلة الشاكة التى هجست فى نفسه قديما وأوهت صلته بالكتاب المقدس.. ومن حق الرجل على كل حال أن يحدث الناس عن علاقته بديانته الأثيرة. فلنسمع له وهو يقول: " لقد عدت الآن.. كنت على وشك أن أقول: عدت إلى الدين. " ولكن هذا التعبير لا ينطبق فى الواقع على حقيقة ما حدث. الأصح أن أقول: إننى اتخذت نظرة جديدة إلى الدين. فلم تعد تهمنى الخلافات التى تفرق المسيحيين شيعا ومذاهب، و إنما يهمنى الآن ما يسديه إلى الدين من نعم. كما تهمنى النعم التى تسديها إلى الكهرباء والأغذية الجيدة، والمياه النقية. بل إن هذه تعيننى أن أحيا حياة رغدة ، أما الدين فهو يمدنى بدافع قوى لمواصلة الحياة.. ... الحياة الحافلة الرحبة السعيدة، إنه يمدنى بالإيمان والأمل والشجاعة. ويقصى عنى المخاوف والقلق والاكتئاب، ويزودنى بأهداف وغايات فى الوجود، ويعيننى على خلق واحة خصبة وسط صحراء حياتى.. ". أ. هـ. هذه لا ريب بعض آثار الثقة فى الله والتوكل عليه، وهى ما ينشده الرجل من الدين. أما الخلافات فى أصول العقيدة بين فرق النصارى، أو بين النصارى جميعاً وبين غيرهم من أصحاب الملل الأخرى فذلك مما لا يأبه له. إنه يبغى الوداعة فى ظل إيمان ما. ومثل هذه الرغبة يتطلع لها ويصل إليها ألوف من سكان القارات الخمس، من أتباع " بوذ ا " و" برا هما "، ومن أتباع " موسى " و" عيسى " و" محمد "، ومن ص _020(1/15)
أتباع الطلاسم الغامضة فى البقاع المجهولة والأوطان المتخلفة، ومن أتباع الفلسفات التقدمية فى أوروبا وأمريكا. ولكن يبقى قبل ذلك حق العقل الإنسانى الواعى فى أن يحق الحق ويبطل الباطل، وحق النفس الإنسانية فى أن تتساءل: هل آوت إلى ركن شديد، أم ركنت إلى وهم فارغ؟ ثم حق الإنسان نفسه: هل سلك إلى ربه صراطاً مستقيماً أم سار فى عكس الاتجاه؟. وترك هذه الأسئلة بلا جواب، على أساس أن العقل لا مجال له فى شئون الدين -على التعميم الذى يفهم من كلام " وليم جيمس "- لا يقبل البتة!! إن كل كلام فى فصل العقل عن الدين -مثل الطريقة التى رأيت- ليس إلا محاولة متعمدة لحماية العقائد الباطلة، و إلقاء ستار من المهابة المكذوبة يمنع الفكر الحر من هتك شناعتها وكشف جهالتها. ثم هو تغطية للميزة الأولى فى الإسلام أو إرخاص لقيمتها. فإن الإسلام يجعل العقل أساس رسالته، ومناط تعاليمه، وحارس دعوته. والصيحة الأولى للفت النظر إليه قول الله عز وجل: "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون"؟ وأسلوبه فى مجادلة خصومه أن يبسط لهم أدلته ثم يطالبهم بالرد عليها -إن أمكنهم-. شريطة أن يكون الرد مقروناً بالحجة والمعرفة، لا بالدعوى والإعراض "أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون". وأمام العقل، لكى يعرف ربه، مجالى الحياة فى أنحاء الأرض والسماء، يجب أن يروى من علومها، وأن يتابع التأمل فيها ! ص _021(1/16)
D ومن هذه المصادر الأصيلة يتكون الإيمان ويربو، يكوّنه بصر مفتوح لبصيرة واعية "(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)". أجل ما تغنى هذه، تلك؟ وما تجدى على الأغبياء والمغلقين؟ نعم، ومن قبل ذلك يقول (... ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون). إن أعداء الإسلام الألداء هم أولئك الذين آتاهم الله الحواس والمواهب لتصلهم بالكون وتنفذ بهم إلى أسراره فإذا هم مطمورون (لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) " إن حدة الذكاء، ويقظة الفكر. واستنارة الرأى. عناصر لا بد منها فى تكوين الإيمان الصحيح. فإن الإيمان معرفة بلغت حد اليقين وانتفت معها الريبة -وحيث لا يوجد الإدراك الواضح والفهم الناضج يصبح اليقين غير ذى موضوع. ولا يحسب أحد أننا بذلك نظلم البلهاء، أو نغمط الحمقى حقهم -إن صحت لهم حقوق- بل إننا نستوحى هذا الحكم من نصوص القرآن الكريم نفسه. فالعقول الذكية وحدها هى التى تستطيع اختراق أسرار الكون ومعرفة آيات الله فى شتى الأمكنة والأزمنة ! (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ( " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب".! ص _022(1/17)
والعقول الذكية وحدها. هى التى تميز الحق من الباطل وتعرف حقائق الوحى من نزغات الهوى وتلفيق الضلال: "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب"! والعقول الذكية وحدها هى التى تستفيد من عبر الماضى وتنتفع بتاريخ الإنسانية الطويل، وقصص الأبطال أو الأنذال من المصلحين أو المفسدين: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب...". ولا تكون الحكمة فى معالجة الأمور، والدقة فى الحكم على الأشخاص والمسائل، والبصر بالمقدمات والنتائج، إلا لأصحاب العقول الراجحة، والمدارك الواسعة، والمواهب الرائعة: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب". وتربية العقول، وإذكاء المواهب، وتفتيق الملكات الإنسانية ليس أمراً هيناً. فمراحل التعليم فى المدرسة، ومراحل التجريب فى الحياة، واستيراد الأفكار البعيدة، وضم ما لا تعرف إلى ما تعرف، والنظر فى الجديد نظرة تلطف وإيلاف. لا نظرة جمود واعتساف، والتطوف فى آفاق العوالم المادية والأدبية، هذه جميعاً وسائل لترقية الإنسان. ثم هى بعد وسائل العقل السليم لمعرفة الله وحس الإيمان به والإفادة من دينه. إن عمل العقول العليلة فى آيات الوحى، هو عينه عمل الحشرات القارضة فى أوراقه، عند ما يدب فيها البلى، تتلفها ولا تعرفها، وتظلمها ولا تنصفها. وذاك سر التدهور الاجتماعى بين جماهير الأميين من المسلمين وغيرهم. " أ. هـ . ص _023(1/18)
وإذا ذهبنا نستقصى الدلائل على مكانة العقل فى الإسلام فسنضطر إلى استعراض الإسلام كله. غير أن الغزو الثقافى الحديث لبلادنا هجم علينا بأفكار مستغربة قد تكون مألوفة فى البيئات التى وفد منها، ولكنها منكورة أشد النكر بالنسبة لما نعرف من طبيعة ديننا. إن هذا الغزو أطلق ألوفا من الألسنة تصيح بأن العقل شىء والدين شىء آخر. وبديهى أن الذين يحترمون أنفسهم لن يصيخوا إلا إلى صوت العقل، فإذا انعطفوا إلى الدين فى لحظة ضعف أو فراغ فهى زورة عابرة. وانظر ما يقول أديب مشهور فى صلة العقل بالدين. وانظر أى بعد بين هذا الكلام وبين ما قرأت من تعاليم الإسلام. يقول الأستاذ توفيق الحكيم: " أنا أحس بشعورى الداخلى أن الإنسان ليس وحده فى هذا الكون. وليس من حق أحد أن يطلب إلى الإيمان تعليلا أو دليلا. فإما أن نشعر أو لا نشعر، وليس للعقل هنا أن يتدخل ليثبت شيئاً. إن الذين يلجأون إلى العقل ومنطقه ليثبت لهم الإيمان إنما يسيئون إلى الإيمان نفسه: فالإيمان لا برهان له من خارجه. لكنى من جهة أخرى أفكر بعقلى لا لدعم إيماني بأنى لست وحدى، بل لأعرض المسألة أمام تفكيرى بعيداً عن الإيمان " أ. هـ. هل طالعت أيها المسلم هذا اللون من الأدب أو هذا اللغو من الحديث؟. هذا أثر الغزو الصليبى لأفكارنا فى هذا العصر الهازل. وهذا كلام منقول بحروفه عن الأدب الكنسى الملئ بالاعتذارات عما فى النصرانية من نقائض ترفضها العقول. ومثل هذا الكلام يعلم للعيال فى المدارس الأجنبية بين ظهرانينا، ويعلم للمبعوثين فى جامعات الغرب كى يجهلوا دينهم ويقبلوا غيره..!! ويمضى الأستاذ " الحكيم " فى فلسفته فيقول: " قد يقتنع العقل، وحتى إذا لم يقتنع فهو سيمضى يتصيد الأدلة والبراهين فى نطاق عالمه المعهود . ص _024(1/19)
أما القلب فهو مقتنع بغير دليل، ولا حاجة إلى الأدلة فى عالم القلب والإيمان، لأن الدليل هنا مفسد للإقناع (!) بل إن الاقتناع نفسه ليس من وظيفة القلب، لأن معناه أنه جاء بعد شك. والقلب لا يشك لأنه لا يفكر.. ". أ. هـ. لا أدرى كيف أصف هذا الكلام، وكيف لم يستح صاحبه من نشره على القراء؟؟ إن أبا الأنبياء إبراهيم طلب من ربه أدلة على بعث الموتى بعد أن تبلى جسومهم وترم عظامهم " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ". فهل كان شيخ الأنبياء شاذاً حين علق طمأنينة قلبه على شواهد من قدرة ربه؟ ثم ما معنى أن يقول إنسان يحترم تفكيره: إن الدليل يفسد الإقناع؟ وقلب من هذا الذى يقتنع بغير دليل؟ أو يجب عليه أن يقتنع بغير دليل؟ قلب عابد العجل؟ أو كاهن الخرافة؟ أو سادن القرابين؟ اللهم إن معرفتك -وأنت الفرد الصمد- لا تنقدح فى قلب ما، إلا إذا كان قلب رجل عميق الفكرة حصيف النظرة يجيل عقله هنا وهناك ثم يهتف مع الذين "... يتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار". بيد أن أدباءنا الذين نومهم الغزو الحديث لا يستحون أن يرددوا هراء لا يقصد منه هدم الإسلام فحسب، بل هدم " الإنسان " من حيث هو كائن راق كرمه الله فى الدنيا بألوان من المشاعر والمواهب ليستفتح بها طريقاً إلى الله، وليكتنز بها زادا إلى أخراه.. لقد عرف العالم أن الحضارة التى قادها الغرب ذات طابع خاص . إنها لا تؤمن بالله، ولا تتبع هداه، ولا تثق فى حياة أخرى، وهى لا تقيم العلائق بين الناس، ولا ترسم لهم أهداف الكفاح على ظهر الأرض إلا على أسس مادية محضة... ص _025(1/20)
وعلة الزيغ الذى أصاب هذه الحضارة، أنها قامت أول أمرها فى بيئة تفصل بين العقل والدين، أو بتعبير أدق فى بيئة يعلن الدين فيها حرباً على العقل. فلما انتصر العقل فى هذا الكفاح نشأت مع الحضارة التى كونها عقدة الزراية على الأديان جملة، والركض فى أنحاء الدنيا دون تزود بوحى أو احترام لإيمان. وإذا بدا للنظر المجرد أن فى الغرب معابد يتردد عليها حينا فهو تردد لا يحيا به قلب، ولا تهتز به عاطفة، ولا يستقيم به سلوك. نعم ولكن ما سبب هذا؟ هل سببه أن نشاط الدين يجب قصره على إصلاح القلب الإنسانى والابتعاد به عن المجال العقلى كما يفهم السيد " توفيق الحكيم "؟ كلا. إن العقائد التى تخلق الفضائل الكبرى والأعمال الرفيعة يستحيل أن تولد وتترعرع بعيدا عن العقل. وما طفحت بلاد الغرب بالشهوات المادية إلا لعجز الدين عن المواءمة بين أصوله وبديهيات الفكر الإنسانى. و إذا وهى الأصل فهيهات أن يقوم فوقه بناء. كيف يستنير القلب إذا لم يوقده شعاع من النظر الصائب والعقل السليم؟ كيف يمتلىء الصدر بالهواء إذا أغلق الأنف والفم؟ إننى أفكر أولا فى الحقائق التى تعرض على، فإذا صحت عندى آمنت بها. وإذا آمنت بها تحرك القلب بمشاعر الخشية والإجلال. وإذا نبض القلب بروح هذا الإيمان الوافد عليه من نظر سليم توقعت منه الإخلاص والتقوى والإيثار وسائر ما يفتقر إليه عصرنا من فضائل . أما أن تعرض على الإيمان بشركة من الآلهة مثلا ثم تقول لى: أغلق عينك وعقلك وازدرد هذه الجرعة المرة فإن الإيمان محله القلب لا العقل. فهذه هى الخدعة الباردة مهما روج لها المروجون! ولن يكون لمثل هذا الإيمان أثر كبير فى إصلاح فرد أو جماعة.. وهذا الذى تحدث عنه الأديب المشهور " توفيق الحكيم " إنما تأثر فيه خطا صديقه الدكتور " طه حسين " الذى ردد فى بلادنا مفتريات المستشرقين على ديننا وتراثنا.. فإن الدكتور ساعد فى نشر الفرية القائلة بأن الدين شىء، والعلم شىء آخر!..(1/21)
ص _026
واستمات فى إقناع الأجيال الناشئة بهذه الخرافة " الكنسية " حتى يفقد الإسلام بهذا أبرز ما ينضر وجهه، ويسند حقائقه. قال الدكتور فى دفاعه عن نفسه وهو ينكر بناء إبراهيم، وإسماعيل للكعبة: ".. فكل امرئ منا يستطيع إذا فكر قليلا أن يجد فى نفسه شخصيتين ممتازتين إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس، والأخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وترهب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا نستطيع أن نخلص من إحداهما، فما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ ". أ. هـ. وقد رد الأستاذ " محمد نور " رئيس النيابة العامة مفنداً هذه المزاعم فقال: "..الحقيقة أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين فى شخص واحد، فى وقت واحد.. بل لابد من أن تتخلى إحدى الحالتين عن الأخرى... ". وقد أشار الدكتور " طه حسين " نفسه فى موضع آخر من كلامه إلى الخلاف بين العلم والدين فقال: لا ليسا متفقين.. ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها! ". قال الأستاذ " محمد نور ": " أما توزيع الاختصاص الذى أجراه الدكتور بجعله العلم من اختصاص القوة العاقلة، والدين من اختصاص القوة الشاعرة فلسنا ندركه، والذى نفهمه أن العقل هو الأساس فى العلم والدين معا ". ونعود نحن إلى ما أكدناه من أن الخلاف بين العلم والدين خرافة انتقلت إلينا من أوروبا، وأن تطبيقها على الإسلام لون من السخف البالغ. وما يتهم به الدين فى الشرق الأقصى، أو عواصم أوروبا وأمريكا لا يجوز نقله إلى بلادنا التى تعرف الإسلام وحده ديناً يقوم على البرهان، والتى تعرف أن ما ينكره العقل يستحيل أن يكون دينا يأمر الله به عباده. *** والقارىء المسلم يجب أن يحذر هذه الكتابات، فإن جلة أدبائنا يقلدون الغرب فى(1/22)
أفكاره، وأحكامه دون نقد أو احتياط. ص _027
ولو أنهم درسوا الإسلام بالحفاوة التى يدرسون بها أموراً أخرى لكان لهم معه شأن أ كرم... ولكنهم زاهدون فى الدين الذى درجوا فى أمته المهزومة فهان عليهم. على حين ملئت قلوبهم إعجابا بالحضارة المنتصرة، والتقاليد التى تسير فى ركابها، ولو كانت هذه التقاليد أتفه ما احتوته هذه الحضارة. بل لو كانت آفتها التى تجرها إلى الهاوية. ولا يفهمن أحد أن تنويه الإسلام بالعقل وإعلاءه لقدره، يعنيان أن الإنسان ليس إلا عقلا، يسمو فيسمو المرء به، ويخبو فيخبو معه. كلا. إن فى الإنسان خليطاً ضخماً من عواطف فوارة لها أثر خطير فى توجيه سلوكه وتوجيه حياته. والمشاعر الوجدانية فيه تشبه أن تكون قسيما لمشاعره العقلية. فإذا ضبط هذه المشاعر كلها قلب حى -أو بتعبير الأخلاقيين الحدثين- ضمير يقظ فقد استوى على قمة الكمال... والنبى الكريم ينبه إلي هذه الحقيقة حين يقول: " التقوى ها هنا. التقوى ها هنا. التقوى ها هنا " -مشيرا إلى قلبه-. وقال رسول الله لـ وابصة بن معبد: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت: نعم! فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها فى صدرى ويقول: " يا وابصة استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إلية القلب، والإثم ما حاك فى القلب، وتردد فى الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". ولما كان بعض الناس يستغل علمه فى الإفساد، ويعرف شناعة الإثم. ومع ذلك يواقعه . ولما كانت شهوات الغى والكبرياء قد تزين الإعراض عن الآيات الواضحات لمن استبانت لهم، لا لشىء إلا لأنهم جحدوا بها وقد استيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً. لذلك حقر الإسلام العلم الذى لا ضمير معه، والعقل الذى لا يصحبه قلب سليم وعمل حكيم.. ص _028(1/23)
ويظهر أن هناك انفصالا نفسياً أو ارتباكا مرضياً فى نفوس هؤلاء الذين لديهم أكوام من العلوم المخزونة ثم هم لا يفيدون منها. رأيت مرة سيارة فارهة تلمع أبوابها وعجلاتها، ولكنها توقفت فى الطريق لخلل فى الجهاز الذى يمدها بالوقود مع كثرة البنزين فيها. فكان أن جرتها دابة قوية إلى حين..!! ذكرت مع هذا المنظر أولئك الذين تقودهم أهواؤهم الدنيا فتجرهم على الوحل جرأ مع أن لديهم من العدة ما يطيرون به فى الجو ويقطعون به الفيح!! هذا الفساد لا منجاة منه إلا بتصحيح القلب، وتغليب الضمير الزاكى على وساوس الرجس والانحلال. وذلك ما قاله النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب ". *** ولحكماء الإسلام حساسية شديدة بحركات القلوب، ولذا فهم يحرصون على سلامتها فى الوقت الذى يعالجون فيه أحكاماً نظرية بحتة. والاشتغال بالثقافة النفسية يساوق الاشتغال بالثقافة العقلية فى تراثنا الأدبى العام، إلا أن الانفصال بين التيارين أضر إضراراً كبيراُ بمناهج التربية وسير الحضارة الدينية عندنا.. ولم يقع هذا الانفصال وتتسع شقته إلا بعد انقضاء القرون الأولى وذهاب الفقهاء الصالحين. فجاء بعدهم من يخاطب العقل دون القلب أو القلب دون العقل، وقد لفت الأنظار فى مقدمة كتابى " عقيدة المسلم " إلى ما فى هذا المسلك من حيف. واكتفى بإيراد هذه النبذة: " والذى آخذه على منهج البحث فى علم الكلام -فى حدود ما درسنا من كتبه- أنه نظرى بحت ينظم المقدمات، ويستخلص النتائج، كما تصنع ذلك الآلات الحاسبة فى عصرنا هذا أو الموازين التى تضبط أثقال الأجسام ثم تسجل الرقم وتقذف به للطالبين. ص _02 ص(1/24)
كذلك سارت الاستدلالات فى هذا العلم الخطير، فتكلمت عن الله سبحانه وتعالى وعن صفاته الكريمة. وانتهت إلى حقائق جيدة يستريح إليها العقل الحصيف ، بيد أن الإسلام فى تكوينه للعقيدة يخاطب العقل والقلب، ويستثير العاطفة والفكر، ويوقظ الانفعالات النفسية مع إيقاظه للقوى الذهنية. وقد كنت أرقب عن كثب ما تخلفه دروس، التوحيد " من كتبه المقررة فما كنت أجد فارقاً يذكر لدى السامعين بينها وبين شروح المعادلات الجبرية مثلا!! كلاهما ترويض للعقل مبتوت الصلة بالفؤاد!!... فكان الطالب يذكر طائفة من الأدلة على الوجود الدائم " الواجب الوجود " ولا يستشعر فى قرارة نفسه عظمة الخالق المتعال، أو يختلج فى بدنه عرق من الرغبة أو الرهبة نحو من سوّاه، وألهمه فجوره وتقواه.. أفهكذا تدرس العقيدة؟. وقد فزع العامة إلى علوم التصوف يستكملون منها ما عز عليهم إدراكه فى علم، الكلام "، ولكن التصوف ميدان كثير المزالق، وشطحات السائرين فيه أكثر من سدادهم!. ولا شك أن هذا العلم أنعش عاطفة الحب الإلهى. وربط قلوب الناس ربطاً رقيقاً ببديع السموات والأرض، إلا أن مخاطر الشغل به تجعلنا نتوجس منه، وقد حاولت فى أثناء الكتابة عن عقيدة المسلم أن أرطب جفاف التفكير العقلى برشحات من المشاعر الحية، ولم أتكلف لذلك إلا أن جعلت نصوص الكتاب والسنة نصب عينى". أ. هـ. وأحسب التوفيق حالفنى فى هذا المنهج، وأحسب كذلك أن ما آخذت به علماء " الكلام " جاء من إسرافهم -أو بتعبير أدق- من انحصارهم فى النطاق العقلى الدقيق الذى يفرضه الإسلام على أصوله. فقد علمت أن الإسلام يجعل العقل حكماً فى أصول العقيدة، فما حكم العقل باستحالته وجب رفضه، وما اطمأن إلى صدق أدلته وجب التسليم به. ص _030(1/25)
إن هذه المغالاة بقيمة العقل جعلت علماءنا يسيرون معه حيث سار، لا فى شئون العقيدة فحسب، بل فى سائر فروع الشريعة، حاشا العبادات المحضة..!! إلا أن هذه المغالاة لا تنسينا بقية الملكات الأدبية التى زود بها الله أبناء آدم، وأشار فى قرآنه إلى ضرورة تزكيتها وتنميتها.. وهذا هو ما استدركناه عليهم. وقرأت أخيراً مقالا للأستاذ " عبد الكريم الخطيب " عن " التعقيد في العقيدة " وقفتنى فيه بعض العبارات. فقد أبدى الملاحظة نفسها التى أبديناها آنفا على علماء الكلام، إلا أنه فى سبيل وصل الإيمان بالعاطفة ندد أو كاد بأساليب الاستدلال العقلى فى إقامة العقيدة وحراستها، وزعم أن مجال الدين فى إثبات حقائقه غير مجال العلم فى إثبات حقائقه. الأول أساسه القلب والآخر أساسه العقل، وإليك طرفا من حديثة تستبين منه ما يريد: " المنهج الذى سلكه علماء المسلمين فى دراسة الشريعة الإسلامية، والوقوف على تعاليمها وأحكامها، منهج علمى قائم على استخدام الملكات العقلية استخداماً عنيفا مرهقا، لا هوادة فيه، فهو يدفع بالعقل دفعاً إلى النظر والبحث فى أصول العقيد ة الإسلامية، وفى أحكام الشريعة وأسرارها، وهو لهذا يديم النظر، ويطيل الوقوف، ويكثر من الافتراضات والتخيلات عن كل مسألة من مسائل هذا الدين حتى تستتم قواعد البحث العلمى الخاص، وتستقيم على منطقه. ومثل هذا المنهج من البحث جدير بالاحترام والتقدير حين يراد به العلم للعلم، وحين يطلب به الكشف عن حقائق الأشياء، والوصول إلى أسرار الكون، فإن هذا هو الصميم من رسالة العقل، وهو سبيل الإنسانية الكريمة الواعية التى تنشد العزة والقوة، وتطلب الترقى والكمال. أما أن يسلك هذا المسلك فى مجال الدين. ووصل الخلق بالخالق، فذلك ما تأباه طبيعة الدين-أى دين- وهذا الدين الحنيف على وجه خاص !!. فالدين يقوم أولا وقبل كل شىء على إثارة العاطفة وإشباعها، قبل أن يقوم ص _031(1/26)
على إيقاظ العقل وإقناعه.. ولن تجد العاطفة فى هذه الدراسات العقلية الجافة شيئاً يثيرها ويهز جوانبها، وإنما تتغذى العواطف من هذه الينابيع الثرة الصافية التى تتسرب إليها من وراء النظرات العميقة الحالمة فى رحاب هذا الكون العظيم، وما يزخر به من ألوان الجمال والحسن، وما يشتمل عليه من آيات العظمة والجلال". أ.هـ. ونقول: إن فى هذا الكلام شبهاً مما قاله الأستاذ " توفيق الحكيم "، وترديداً للنغمة التى تباعد بين الإيمان والمهاد العقلى الذى يجب له قبل أى شىء آخر، والفرق بين الرأيين أن الأستاذ الحكيم يقيم حجاباً بين الدين والعقل، فكلاهما يغاير الآخر فى نظره. أما الأستاذ الخطيب فيقيم الدين على المشاعر الوجدانية والنظرات الحالمة أولا... ثم يجىء دور العقل أخيراً ليستيقظ من قبله الفؤاد المفعم باليقين... ولك أن تسأل: فإذا استيقظ الفكر الغافى، فوجد نفسه أمام قلب آمن بالخرافة وخدعته الأوهام فما عساه يفعل؟ أينام على الضلال أم يطرد هذا الجهل المغير؟ إن الواجب المنوط بالعقل أن يمحص كل ما يعرض عليه من أفكار وآراء، فهو مصفاة تمنع القذى أن يرسب فى النفس، وتأذن بمرور ما اقتنع به فقط. ومن ثم فنحن نرفض رفضاً باتاً كل موقف يشل سلطان العقل عن النفاذ أو يؤخر ترتيبه ليقدم عليه غيره -كما فعل الأستاذ " الخطيب "- وهذا بداهة لا يعنى إغفال القلب الإنسانى أو قبول ما يبخسه حقه. وقد قرأت نقدنا لقيام علم الكلام فى معزل عنه. ثم نحن ننكر ما يقوله الأستاذ " الخطيب " من أن هناك منهجاً للبحث العلمى ومنهجا للبحث الدينى، فإن نشدان الحقيقة يعتمد عل منطق واحد، غايته العليا الوصول إلى اليقين، اليقين الذى تنتفى معه الظنون والهواجس وسائر الفروض التى يختلقها العقل ليتأدى منها إلى فرض واحد لا محيص عنه. وهو الفرض الذى تظاهره الأدلة الحاسمة... *** إن مظاهر النشاط الأدبى فى كل أمة، وفى أية حضارة تتشعب إلى مجالين، مجال الآداب والفنون(1/27)
وما إليها! ومجال العلوم الكونية والحيوية. ص _032
ويتميز المجال الأول بشيوع العواطف والأفكار الخاصة فى إنتاجه، وانطلاق الأدباء، والشعراء والفلاسفة فى أوديته الفسيحة. كل يهيم وراء ما يعتقد أو يهوى أو يحدس. أما المجال الأخر فإن العقل يخطو فيه بقدر، ويتحسس طريقه بين صخور الواقع الجاثم هنا وهناك لا يمكن نكرانه. والمعارف التى ينتهى إليها العقل فى هذا المجال خاضعة لضوابط صارمة من القواعد المنطقية المحكمة. والبشر لا غنى لهم عن جو أدبى يصيبون المتعة فى فسحته، كما أنه لا غنى لهم عن جو عقلى يصرفون أمورهم على حكمته.. فالإنسان كائن له عقله الدقيق وله عاطفته السائحة.. ونحن ـإذ نريد وصله بالإيمان وربطه بدين الله ـ نتساءل: * هل نضع الدين وتعاليمه بين الشعر والغناء والموسيقى وأخيلة الأدباء ومقالات الكاتبين؟. * أم نضعه فى المجال الآخر بين علوم الكون والحياة وما يلتحق بها من معارف تشريعية واجتماعية وخلقية؟. أم نوزعه على المجالين ليأخذ من كل بسبب؟. إن تحديد الوضع لا يهمنى بقدر ما يهمنى إعزاز الإيمان، وإحكام صلته بأوضح حقائق الحياة، ونفى ما يظن به من أنه أغنية محزون أو مسلاة فارغ، أو انفعال شاعر.. وثم أمر آخر، إن المسلمين الآن متأخرون عقلياً تأخراً يبعث على المعرة والخزى. فكل تهوين من آثار اليقظة العقلية -بزعم أن الإيمان لا يعتمد عليها أو لا يحتاج إليها- هو ضرب من الفوضى ينطلق خطأ أو عمدا فى طريق نهضتنا الحاضرة. وهذا ما نفزع له، فإن العراقيل التى توضع فى طريقنا كثيرة لا نحتاج معها إلى عبء جديد. *** ص _033(1/28)
مع الفكر المؤمن فى الحضارة الحديثة جوانب لا أجد بداً من احترامها وتزكيتها، بل أجدنى مسوقا بدوافع من دينى إلى الإعجاب بها، والتملى منها. وأبرز هذه الجوانب إدمان النظر فى الكون والبحث عن خواص الأشياء والتعرف على القوانين الدقيقة التى تسير عليها الحياة، وانتهاج خطة بعيدة عن الحدس والتخمين فى تقرير شتى الحقائق. إن أية حضارة تقترب من الفطرة فى بعض نواحيها، أشعر باقترابها من طبيعة الإسلام فى هذا البعض... ولو كانت غريبة عنى. وإن أية حضارة تجنح إلى التكلف أو التخرص أشعر بانحرافها عن دينى ولو كانت قريبة منى. وفى تراثنا الثقافى كتابات عن عالم الغيب لم تعتمد على الوحى. وكتابات عن عالم الشهادة لم تعتمد على التجربة والاستقراء. كلتا الكتابتين واهية العلاقة بخطة القرآن فى تكوين المعرفة الصحيحة. فالمعرفة المادية... لا سبيل لها إلا للنظر الصائب فى الكون وأسراره وقواه ـ وصلة الإنسان بربه أو بأخيه الإنسان لا سبيل لها إلا توقيف الشارع الحكيم. ومعنى هذا أن: علوم الطبيعة، والكيمياء، والفلك، والنبات، والحيوان، والطب والهندسة وما إلى ذلك... تقوم على استقصاء الحقائق من الواقع وحده، ولا مكان لفروض وهمية أو أوصاف شاعرية، أو حدود تقليدية، أو سلطات استبدادية. المجال للعقل الحر الدءوب، يداوم النظر ويتابع الجهد حتى يصل إلى ما يبغى دون ما قيد. وإنى لأقرر فى غير تحرج: أنى كنت أطالع بعض البحوث العلمية التى هديت إليها الحضارة الحديثة، فأشعر كأن مؤلفى هذه البحوث، كانوا يستجيبون ـ سواء شعروا أم لم يشعروا ـ لقوله تعالى : ص _034(1/29)
"أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ". إنه نداء الفطرة الإنسانية على كل حال. وقد صم عن هذا النداء من فتحوا عيونهم دون تدبر، أو من استعملوا ذكاءهم فى بحوث ما وراء المادة، فعادوا منها بقبض الريح، أو من كتبوا فى المادة نفسها فشطحوا مع الخرافات ونظروا فى كل شىء إلا فى الكون وآفاقه والعناصر وخصائصها. إن القرآن الكريم جعل مجالى الطبيعة مدارس الإيمان. وكلما استكثر المرء من حصيلة المعرفة الكونية ربا يقينه، وزادت بالله معرفته. وإنك لتعرف الشخص الذكى بآثاره العملية، ولا تفكر فى معرفة ذكائه بالكشف على تلافيف مخه. فإذا كان التعرف على قدر إنسان تبصره لا يتم بهذا الأسلوب فكيف بالتعرف على من "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير". إن ذلك لا يتم إلا بالتأمل فى آثاره، ومطالعة صفاته فى أرجاء خلقه الوسيع. ولعل درسا فى وظائف الأعضاء، أو فى دوران الأفلاك، يكون أنجع فى غرس الإيمان وأدنى إلى التعريف بعظمة الله من بعض القراءات النظرية، أو المقدمات الجدلية. فى الأيام الماضية مرت بى لحظتان مضيئتان: أولاهما: فى إحدى الحدائق وقد علقت عينى بزهرة لما يكمل تفتحها... كانت دقيقة من أسفلها، مستعرضة من أعلاها، والغلاف الأخضر منحسر عن أغلبها. ... إنها توشك -لو بقيت على ساقها يومين- أن تبرز بأوراقها وألوانها جميعاً. لكنى تعجلت فض الملفوف من كمها، لأقف مشدوها أمام ما بدا لى منها. كانت الأصباغ زاهية كأنما وضع المصور ريشته الآن من رسمها، وكانت هذه الأصباغ موزعة فى نقوش تبرق جدتها، ويستغرب المرء من أن الألوان المتناقضة المتجاورة لم يسح شىء منها على الآخر. ص _035(1/30)
ونظرت إلى الأرض السبخة الهامدة، وإلى الفلاح الساذج فوقها، وقلت: من أبدع هذه الزخارف الرائقة واستخرجها من بين هذه الأكوام؟ من؟. وانساب إلى قلبى شعور بالجمال الإلهى المتأنق فى ألوف مؤلفة من الأزهار والأثمار تزحم القارات الخمس " والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد". أما اللحظة الأخرى: فعلى شاطئ البحر الأبيض فى ليلة من ليالى العمل... أرسلت طرفى إلى البحر الهادر، وكنت أسمع ثوران الموج ولا أرى مده، والماء فى لون الحبر، والأفق معتكر فى أبعاد غير متناهية. ولم يجر فى خاطرى قول العقاد الشاعر: ولهذا الظلام خير من النور إذا كنت لا ترى وجه حر ذلك لأنى لم أك مهتما بأحوال البشر وقتئذ، فإن طنين الموج المستمر بقوى لا تنهد مع مضى الوقت جعلنى أتساءل: أما لهذا الحراك من توقف؟ وكان الجواب مزيداً من الهدير القادم من بعيد!... كلما تلاشى على رمال الشط حل محله آخر، وهكذا دواليك. إن البحر أضعاف اليابس على ظهر الأرض، وهذا الخلق العجيب عالم وحده. وغلبنى الكرى قليلا ثم عاودتنى اليقظة -أو الأرق- والموج الموار لا يزال يزأر. إن الله الذى لا تأخذه سنة ولا نوم وكل إلى شعاع من قدرته أن يهز هذا الركام الهائل من المياه هزأ يشمل المشارق والمغارب فى الرقعة المنداحة التى نسميها نحن بحاراً ومحيطات.. وسواء غفونا أم صحونا فعمل القدرة ماض فى طريقه، ينتبه إليه بين الحين والحين أولو الألباب ليسبحوا بحمد الله الكبير. *** قد يقال: إن حضارة الغرب التفتت بالفعل إلى الكون الكبير، واكتشفت من أسراره ما فات القرون الأولى. ص _036(1/31)
ولكن اهتمامها بالكون كان لارتفاقها منه، وانتفاعها به، لا لتتزود منه باليقين الواجب والإيمان المبرور.!! وفى هذا الكلام قدر من الصحة غير منكور... فإن عبادة الحياة هى الدين الشائع فى الحضارة الحديثة، تستوى فى ذلك: أحزاب الميسرة المجاهرة بإلحادها، وأحزاب الميمنة الخافتة به. والغرض من البحث الكونى الذى طلبه القرآن الانتقال من الكون إلى المكوّن، ومن المخلوق إلى الخالق. وشتان بين منهجين: أحدهما يتعرف إلى الله فى أرجاء العالم الذى أبدعه، والآخر يتعرف على أسرار العالم، ويحتبس داخلها فلا يعرف ربه.. والحضارة الحديثة يمكن أن تدان من هذا الجانب، بيد أن الأمر يحتاج إلى قليل من التفصيل، ومن يدرى؟ ربما كان أهل الإيمان هم الذين يدانون قبل غيرهم عندما تحدد التبعات وتنصب موازين العدالة...!! عندئذ يعرف أن السبب الأكبر فى شيوع الإلحاد، وهجر الدين، هو تصرف جمهور المتدينين وتفكيرهم. ما الذى يجعل الحضارة الحديثة -كما نطلب- تغالى بالإيمان وتتحمس للرحمن؟ * إذا نظرنا للمسيحية التى تسود الغرب وجدناها قبلت من الإضافات والبدع ما يستحيل على العقل البشرى قبوله. ومن حق هذا العقل أن يرفض النقائض ويعتزل دعاتها ويسير بعيدا عنهما. والحضارة الحديثة فى خصومتها للمسيحية معذورة. * وإذا نظرنا للإسلام وجدنا أهله أبعد الناس عنه، ومن حق الأحياء أن يطرحوا دينا زهد فيه أهله أنفسهم. إن المسلمين مع تقصيرهم فى جنب الإسلام علما وعملا يلاحظ عليهم من قديم الزمان تناقض غريب، فهم مؤمنون -دون خلاف- بعموم الرسالة الإسلامية، وأن محمداً رحمة للعالمين، وأن دعوته تحيط بالقارات الخمس. ومع ذلك فإن سياستهم العلمية جعلت الإسلام رسالة عربية وحسب. فهم لم يحسنوا تمكين الروابط الثقافية بين الأجناس الداخلة فى الإسلام، ولا بين الأجناس التى لم تدخل فيه . ص _037(1/32)
ومن الغفلة تعريب البشر كلهم ليسلموا إسلاماً كاملاً. ومن الغفلة أيضاً ترك الأعاجم يتعلمون الإسلام عن طريق تراجم لم يشرف عليها الدعاة العرب. والمعروف أن العرب لا يزيدون عن خمس المسلمين، وأن المسلمين جميعاً لا يبلغون خمس سكان الأرض. فماذا صنع الجهاز الإسلامى الذى يعرف عموم الرسالة الإسلامية ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ ماذا صنع ليربط المسلمين بدينهم وليعطى غير المسلمين فكرة صحيحة عن الإسلام؟ *** إننا لا نقول هذا الكلام اعتذاراً عن شرود الحضارة الحديثة، ولكنا نقوله اعترافا بقصورنا، ووخزاً للضمائر التى راحت فى نوم طويل ! على أن حقائق الإيمان ألصق بالفطرة، وأقرب إلى التناول من أن يعتذر عنها بتقصير الدعاة، خصوصا بالنسبة إلى مدنية بلغت مكانة مرموقة من التقدم كمدنية العصر الحديث. والواقع أن شيوع الإلحاد، وانتشار التحلل يرجعان إلى أسباب أخرى غير تفريط أصحاب الدين. * من بين هذه الأسباب: الغرور بالقليل من المعرفة، والتذرع به إلى الزيغ. وجمهرة المنكرين للدين من هذا القبيل، فهم يعرفون أبواباً معينة من العلوم المادية أو النظرية يبنون عليها كفرهم. ويجهلون أبواباً أخرى أكثر وأخطر لو أدركوها لردتهم إلى الله تائبين. ومعظم الذين قابلناهم أو قرأنا لهم من أولئك الشاكين، نعتبرهم أنصاف متعلمين مهما بلغت دعاواهم؟. * ومن بين هذه الأسباب غلبة الشهوات العاجلة من نفسية وبدنية. فإن سيطرة الشهوات على أصحابها تجعلهم يحكمون بالهوى لا بالعقل، وبالجور لا بالعدل. وقديماً كفر بنو إسرائيل بمحمد تمشياً مع هذه النزعة لا لغموض الدليل أو خفاء الدعوى. ص _038(1/33)
"أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون". وقد أشبه اليهود بهذا عدوهم فرعون الذى كفر بموسى هو وملؤه "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين". والبشر هم البشر فى كل زمان ومكان، لا يزال فيهم من يحارب الحق وهو يعرفه لشهوات تحكمت فيه واستبدت به. لقد شق الفكر الإسلامى الأول طريقه إلى الحياة والسيادة بقوة رائعة أمكنته أن يتشعب مع النشاط الإنسانى دون كلال. ونستطيع القول بأنه ترك فى الحضارة العالمية آثاراً خالدة. بل إننا -من غير تعصب- نقرر: أن الحرية العقلية ولدت أولا فى " القاهرة " و" دمشق " و" القدس " و" بغداد " و" مراكش "، قبل أن تولد فى " لندن " و" باريس " و" برلين " و" روما ". وأن الصليبيين الأقدمين عادوا إلى بلادهم بهذه الحرية العقلية المجلوبة من الشرق، ليغسلوا بها أوضارهم، ويجددوا حياتهم، ويتخلصوا من قيود هائلة، لو بقوا بها ما نالوا قط قسطا من تقدم أو رخاء. إن التفكير النير الخير تألق فى بلادنا دهراً طويلا. واستطاع فى ميدان التشريع والتربية وفى آفاق الحياة العامة أن يصنع العجائب. ومن المؤسف أن هذا التفكير الخصب قد احتبس تياره مع إغلاق باب الاجتهاد فى الفقه ومع الانحراف الذى وفدت به علينا فلسفة اليونان وغيرها. لكن هذه العوائق العارضة لا تبخسه حقه الأصيل ولا قدرته على صنع مستقبل زاهر. كيف وهو مرتكز على الفطرة الراشدة والعقل الحر؟ إن عظمة التفكير الإسلامى تقوم على أنه يقدم للعالم إيمانا يعمر الدنيا، ويمهد للأخرى، ويعد الوجود الأول والأخير وحدة كاملة . ص _03 ص(1/34)
ولا نريد فى هذه العجالة.. التحدث فى فكر العقيدة والشريعة الذى ألفه الناس بل نريد الإشارة السريعة إلى فكر الحياة نفسها، الذى يظن البعض أن المسلمين تخلفوا فيه، لأنه ينظر إلى أحوال المسلمين اليوم فيظنهم الصورة المثلى لتعاليم الإسلام. يقول الأستاذ المستشار" عبد الحليم الجندى " فى كتابه: (توحيد الأمة العربية) تحت عنوان " ألف عام من العلوم التطبيقية والفنية.. والرفاهية " واصفاً المجتمع الإسلامى القديم: "... وفى هذا المجتمع ازدهرت حضارة علمية أساسها العلوم التطبيقية البحتة، والهندسة المعمارية، والصناعات، والعلوم الاجتماعية، تعتبر الأولى من نوعها فى التاريخ، صبغت المدنية بصبغة علمية وتجريبية تقوم على: العلوم والفلك والطب والهندسة البحرية وما إليها.. وفى حين كانت حضارة اليونان حضارة فلسفية، ضعيفة الصلة بالواقع، وكانت حضارة الرومان حضارة مادية تقوم على القوة العسكرية أو على النظم الشكلية، كانت الحضارة العربية أول حضارة تقوم على العلوم والحريات -وهى التى أورثت الحضارة المعاصرة الكشوف العلمية والمنطق العلمى الذى استمرت به فى كشف أسرار الطبيعة. ولم تكد تظهر رسالة الإسلام، حتى تفردت العلوم الإنسانية بالوجود الإنسانى نحوا من ألف عام تهذبه وتهديه ". ويقول: "... وانطلق العرب بأفكارهم فى مهاب الرياح الأربع حتى أصبحوا كما يقول " راندال " لما يمثلون الطراز الفكرى العلمى فى الحياة العملية الصناعية، التى تضفى مثلها الآن على ألمانيا الحديثة. وعلى عكس الإغريق، لم ينصرفوا عن الاختبار المعملى والسير عليه فى مجال الطب وعلوم الآليات. وفى التحقيقات الفنية يلوح أنهم أخضعوا العلم لخدمة الحياة الإنسانية مباشرة . لقد ورثت عنها، أوروبا روح " بيكون " التى ترمى إلى مد سلطة الإنسان على الطبيعة، وتداولت العلوم العربية جامعات " مونبيليه " و" باريس " و" أكسفورد " و" فينيسيا " و" بادوا " و" فيرارا "، و" بارى "،(1/35)
وأنشأ الإمبراطور " فردريك الثانى " فى القرن الثالث عشر جامعة فى " نابولى " لنقل العلوم العربية. واليوم ص _040
تشهد " باريس" صورتى " الرازى " و " ابن سينا " على حوائط كلية الطب، وأثر المساهمة التى شارك بها المهندسون العرب فى بناء كنيسة نوتردام " فى باريس ". كما تشهد الكتابة الكوفية والعربية فى النقوش الإنجليزية وأبواب الزخرفة والمعمار العربية فى مناطق كثيرة فى أوروبا. .. إن الصيدلة علم عربى، والكيمياء علم عربى. والفلك والطب والميكانيكا والرياضيات والطبيعة والجغرافيا، ما تزال تحمل الأسماء العربية الفصحى، هكذا ساد الروح العلمى الأمة العربية. وقال " ديورانت ": ربما ملك الصاحب " ابن عباد" من الكتب فى القرن العاشر ما يقدر حينئذ بما كان فى مكتبات أوروبا مجتمعة. وكنت تجد فى ألف مسجد منتشرة من قرطبة إلى سمرقند، علماء لا يحصيهم العدد، كانت تدوى أركانها بفصاحتهم. ويقول المؤرخ الفرنسى " روبير بريفو ": كانت أوروبا فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر تتجه إلى العرب باحثة عما استجد عندهم من صناعات وعلوم وفنون وخاصة بالملاحة، منقبة عن كشوفهم فى علوم الرياضة والفلك والطب والكيمياء، وكانت تبحث عندهم عن آثار " أرسطو " و" ابن سينا " و" ابن رشد "، وكان علماؤها من أمثال.. يلتمسون عند العرب حصاد عالم جديد من الفكر والعلم. ووجد " ريجيو مونتاوس " عندهم من المعارف التي مكنت "هنرى الملاح " "وفاسكودى جاما " -مكتشف طريق رأس الرجاء الصالح- و" كرستوف كولومبس "- مكتشف أمريكا- من ارتياد المحيطات والوصول إلى أطراف العالم، وعثر " دى باث " فى قرطبة على النسخة الوحيدة في العالم من مخطوط " أوسيليد " الذى ظل يلقن للطلبة فى مدارس أوروبا حتى سنة 1533، وطاف كل من، " أفلاطون لوبيزون" و" فيبارناس " أرجاء أسبانيا ليتزودوا بالعلوم الرياضية لا سيما الجبر والتقويم واللوغاريتم . بل إن الكنيسة نفسها التجأت إلى العرب لتجد(1/36)
عندهم ما يعينها على إقامة صرح الفكر المدرسى. وبحث كل من " البير الأكبر " و" توماس الأكوينى " عن فلسفة العقيدة الكاثوليكية نفسها فى بلنسية عند " الفارابى "، وفى الوقت الذى أنشد فيه الشعراء التروبادور شعرهم على عتبة أسبانيا العربية صرح -روجير بيكون "- فى أكسفورد (إنجلترا) بأن وجود الفكر الأوروبى والعلم الأوروبى كان ص _041
مستحيلا لولا وجود المعارف العربية ـ لقد دعيت أوروبا فجأة إلى الحياة بعد أن ظلت فى ظلمات الجهل طوال خمسة قرون. وهى مدينة للعرب بكل تقدمها " أ.هـ. ترى.. أيعرف المسلمون قدرهم؟.. ويستأنفون أداء رسالتهم؟ إن ذلك ما نرجوه.. وما يفتقر إليه العالم الآن.. *** مفهوم " الدين " كما يشيع فى أذهان المعاصرين أنه علاقة مبهمة بقوى الغيب تجعل لصاحبها مسلكا لا يضبطه المنطق، ولا يتحكم فيه العقل!! إنه انفعال نفسى يصبغ الوجدان بمشاعر الولاء لمجهول أو لمعلوم. ويسير السلوك فى طريق ملىء بالمراسم العسيرة الفهم أو القريبة الفهم. ويجعل الشخص فى أحكامه على القضايا العارضة كثير الشطحات، غير مقيد بالأسباب الظاهرة والمقدمات الملموسة.. وهذا المفهوم " للدين " وافد من خارج الأقطار الإسلامية كلها، لم تعرفه ثقافتنا القديمة ولا الحديثة، وإنما نقله بعض المتأثرين بالآداب الغربية وما شابهها.. وحدث أن أحرجنى أحد هؤلاء فى نقاش عابر دار بيننا حول " مشكلة زيادة النسل " فى مصر والعالم أجمع. قلت له -وأنا خالى البال-: إن الذى خلق هذه الأرض قدر فيها أقواتها، فلن تبرز إلى الوجود نسمة لتواجه الضياع أبداً. فأجابنى متهكما: لعلك ممن يقولون:" وفى السماء رزقكم وما توعدون "! فشعرت بغضب جارف وقلت له: إننى وفق التفكير المادى البحت أرسل هذا الحكم، وأنا أدرى متانة ركائزه العقلية. .. إن البشر يجمدون أغلب حصيلة الأرض فى إعداد أسلحة الدمار، ولو أنفقوا أثمان هذا السلاح فى موارد التغذية لكفت ضعف عددهم الآن. وذلك ما يحدث(1/37)
فى الجانب الذكى من الأرض. أما فى الجانب القاعد اللاغى، ففى الوطن العربى وحده مائة مليون فدان لم تزرع بعد. أضاعها أنصاف العقلاء أمثالكم ممن قصرت هممهم عن السعى، وطالت ألسنتهم فى الإيمان وأهله . ص _042
ثم استطردت أقول له: إننى مسلم أربط فكرى بالحقائق، وأعتمد فى أحكامى على العقل الدقيق. وتصورك أننى " غيبى " أذهل عن الواقع، وبالتالى أعجز عن حل مشاكله لأنى " متدين " والتدين عاطفة تسبح مع الخيال، وتسرح مع الوهم، وتتعلق بالمجهول- هذا التصور بعض ما تركه الغزو الثقافى لهذه البلاد المحروبة.. إن من دان بالإسلام يجب أن يوقظ فكره إن كان غافيا، وأن يحركه إن كان ساكنا. فالإيمان لا يصح مع عقل وسنان، ولا يربو مع تفكير آسن خامد. بالعقل عرفنا الله ووثقنا به رباطنا. وبالعقل توكلنا عليه واستندنا إليه فيما ينوبنا. هب أننا فى صراع مع الأعداء مجهول النتائج، فأى ضير فى أن ننتظر من خالق الكون أن يؤيدنا، وأن يكمل بقواه ما نبذل من طاقتنا. إن الإيمان بالغيب من نصر، أو رزق ، حقيقة لا وهم. و إذا كان الماديون يظنون أن الوجود هو المادة وحدها، فنحن نستحمقهم فى هذا الظن، ونوقن بأن المادة تستمد وجودها من الخالق الأعلى. وهذا اليقين وليد براهين حاسمة، لا وليد حدس مريض كما هى الحال عند جمهرة الملحدين. ليس الدين بعض المشاعر الوجدانية الرجراجة كما يتخيل نفر من الناس فى بلادنا صنعهم الغزو الثقافى. .. إنما هو مواهب الإنسان فى أرقى وأزكى أحوالها. هو العقل الحصيف الذكى. والقلب السليم المستقيم. والسيرة العفة النبيلة. والاستعداد بالجسم والروح لملاقاة خالق الجسم والروح، بعد الفترة التى نقضيها فى هذه الحياة. وفى علاقة الإسلام بالعقل يسرنا أن نضمن كتابنا هذا بحثا نفيسا للأستاذ الشيخ " نديم الجسر " مفتى لبنان الشمالى قال فيه : ص _043(1/38)
" نوطىء للبحث بطرح السؤال الآتى: ما هى أعظم مزية يمتاز بها دين الإسلام عن الأديان السماوية الأخرى؟ لا ريب عند المسلم فى أن الأديان السماوية كلها من عند الله، ولا ريب عند العاقل أن هذه الأديان السماوية الثلاثة القائمة اليوم على الأرض هى " فى أصلها الذى أنزله الله" تتلاقى جميعاً على كل معانى الحق والخير بلا أدنى خلاف. فالتفاضل بين دين سماوى ودين سماوى إنما هو تفاضل بالكم والكيف لا فى الجوهر، وهو كالتفاضل الذى يكون بين قانونين أرضيين وضعتهما الدولة فى فترتين مختلفتين، ولكن كان أولهما مختصرا قليل المواد وكان الثانى مطولا كثير المواد. بل الأصح أن نقول: كان أولهما بسيطا يسرد المواد من غير أن يتبسط بذكر المبادئ والأسباب الموجبة التى يرتكز عليها القانون، والثانى يضع إلى جانب المواد الأساسية التى يرتكز عليها القانون جملا مفصلة وبفتح باب الفهم العميق لكل مادة من هذا القانون، كما يفتح باب الاستنباط لكل مادة إضافية تقضى الحاجة أو الضرورة بوضعها فى المستقبل. هكذا كان شأن الإسلام بين الأديان السماوية الأخرى، وبهذا قضت حكمة الله حين أنزل هذه الشريعة الخاتمة الكاملة التى أكد سبحانه كمالها بقوله : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ". ذلك أن الإنسان، كما قلت فى كلمتى أمام مجمع البحوث عن " فلسفة الحرية فى الإسلام " قد خلق، بحكمة الله البالغة، وهو يحمل فى باطنه رغبتين: - رغبة الغرائز التى خلقها الله فيه ليعيش وينتصر فى معركة البقاء. - ورغبة العقل الذى خلقه الله فيه ليدرك، الحق " إدراكاً واضحاً يتم له به الإيمان بالله وعبادته، ويتاح له به أن يتحكم فى تلك الغرائز، ويلجمها حتى لا تجمح وتتعدى حدود الحق والخير. ذلك أن هذه الغرائز التى سلح بها الفرد لخيره وخير المجتمع تنقلب إلى شر مستطير على الفرد والجماعة حين تترك مطلقة جامحة لا يقيدها العقل بقيد الحكمة: فتصبح: -(1/39)
غريزة البحث عن الطعام. شرهاً وبطنة !.. ص _044
* وغريزة الإنسال: زنى وفسقا وعدوانا!.. * وغريزة الادخار والاقتناء: طمعاً وشحاً وسرقة!.. * وغريزة حب الظهور والسيطرة: خيلاء وكبرا واستبداداً!.. * وغريزة الغضب والمقاتلة: جنوناً وسفكا للدماء بدلا من الدفاع عن النفس والحق والوطن!.. * وغريزة حب الاستطلاع: تجسساً وبحثاً دنيئاً عن عيوب الناس! ولكن العقل فى معركته مع الغرائز لم يكن دائما " هو الظافر؛ لأن الغرائز تخلق فى الإنسان كاملة بكل قوتها، ومتساوية فى الأفراد، بينما العقل يتكامل تدريجياً مع التجارب الطويلة التى يمر بها الفرد وتمر بها المجتمعات، ولذلك لا تتحقق فيه المساواة بين الأفراد والأجيال، فكان لا بد من اختلاف العقول قوة وضعفاً، ولابد من اختلاف الآراء سداداً وأفناً، وكان لا بد من عون السماء. ولما كانت الإنسانية فى عصورها الأولى غير مستعدة، بعقولها وتجاربها لإدراك حدود الحق والخير إدراكا كاملا، كان الوحى يتولى هذا التحديد بأوامره ونواهيه على لسان الرسل فترة بعد أخرى. ولما بلغ عقل الإنسانية فى التطور والتكامل الحد الذى تستطيع معه أن تعتمد على فكرها فى معرفة الحق والخير، أنزل الله آخر كتبه على آخر رسله، بشريعة كاملة، لا من حيث إنها وضعت لكل جزئية من جزئيات الحياة حكما خاصا، فهذا لا يمكن... إذ أن أحداث الحياة فى تجدد مستمر، والله سبحانه أحكم من أن يخاطب الناس بحكم فى أمور لا يعرفونها، ولكن هى شريعة كاملة من حيث إنها تنطوى على أسس ومبادئ أصلية تصلح أن تكون منبعا للأحكام التى يمكن استنباطها فى المستقبل وتقدرنا على مواجهة وقائع جديدة لم ينزل بها أى نص صريح. والآن نعود إلى السؤال: ما هى أعظم مزية يمتاز بها دين الإسلام عن غيره من الأديان السماوية الأخرى؟ * رب مجيب منكم يرى أن هذا الذى ذكرناه (من وضع المبادئ الأساسية التى تتفرع عنها الأحكام الجزئية المنصوص عليها وغير المنصوص عليها) هو(1/40)
المزية العظمى لدين الإسلام. ص _045
ولكن هذه المزية، مع كونها من أعظم مزايا الإسلام، ليست أعظمها على الإطلاق. ففى القانون الرومانى فتاوى بمثابة قواعد و إن لم تكن شاملة أو جامعة أو مخيطة بكل أمر كما هى المبادئ الأساسية فى الإسلام، إلا أنها -أى الرومانية- على كل، قواعد كانوا يرجعون إليها فى تفسير بعض المواد وزيادة بعض المواد الجديدة. * ورب قائل يرى أن أعظم مزية للإسلام هو التوحيد المطلق المبرأ من كل شوائب الشرك الخفى والجلى. وجواب هذا أن الأديان السماوية الصحيحة كلها مبنية، فى أصلها، على التوحيد بداهة لأنها من عند الله، والله واحد أحد فرد صمد. * ورب قائل يقول -أخذا بظاهر الحصر فى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "- إن المزية العظمى للإسلام أنه أكمل وأتم مكارم الأخلاق. ولكن هذا الإتمام، على جلالة قدره، ليس أعظم المزايا. فمكارم الأخلاق موجودة فى كل الأديان والإسلام قد أتمها. وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إنما " لا يراد به الحصر الحقيقى لأنه من أعظم غايات الرسالة المحمدية تطهير الوحدانية من أدران الشرك، وهذا التطهير هو الأساس لمكارم الأخلاق. - رب قائل يقول: إن مزية الإسلام العظمى هى أنه جمع فى الحكم بين الدين والدولة. ولكن ما هذا الجمع بمزية خاصة بالإسلام. فالمسيحية الأصلية لم تكن جمعت فى الحكم بين الدين والدولة لأن ظهورها كان فى وسط دولة قائمة قوبة متسلطة، فإن اليهودية، فى عهد (سليمان) و" داود" كانت تجمع بين الدين والدولة. إذن ما هى أعظم مزية يمتاز بها الإسلام على الأديان السماوية؟ إنها المزية الآتية:- ... إن الله فى شريعة الإسلام قد جعل للعقل السلطان الأعلى فى فهم أحكام النصوص المنزلة، وفى استنباط أحكام لما لم ينزل به نص خاص صريح لا فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله. وهذا العقل الذى أمرنا الله فى آيات كثيرة أن نحتكم إليه عند جدلنا بين أنفسنا فى(1/41)
معركة الشك واليقين، وفى جدلنا مع غيرنا من المخالفين، يشمل بسلطانه كل معنى فى الوجود ابتداء من أتفه الأشياء، كإماطة الأذى عن الطريق، إلى أعظم معنى فى الوجود وهو الألوهية والوحدانية. ص _046
وقبل أن يتعجل على معترض بأى اعتراض أبادر إلى تفصيل هذا السلطان العقلى الذى أمرنا الله أن نحتكم إليه وبيان مداه، وأضع أمام الباحث خمس حقائق لا يجوز أن تغيب عن ذهنه طرفة عين: * الحقيقة الأولى- أن هذا العقل الذى خلقه الله لنا، وأمرنا أن نحتكم إليه له سلطانان، سلطان مطلق ليس له قيود سوى قيود العقل السليم وحده، وسلطان نسبى مقيد بقيود المبادئ الأساسية التى قررها الإسلام. فكما أن المبادئ الأساسية المنصوص عليها بالآيات المحكمات، أو المستنبطة من الآيات المحكمات، نحن مأمورون أن نحتكم فيها إلى سلطان العقل المطلق مع أنفسنا فى عقائدنا، ومع غيرنا من أصحاب العقائد المخالفة، فإن الأحكام الجزئية التى يمكن أن نفسرها أو نستنبطها ضمن حدود تلك المبادئ الأساسية، تقع بالتالى تحت سلطان " العقل " الذى سميناه سلطان العقل النسبى المقيد. لأنها بنى على المعقول فهو معقول. * الحقيقة الثانية -أن السلطان العقلى المطلق الذى أمرنا الله أن نحتكم إليه -حتى فى الآيات اللواتى هن أم الكتاب- ليس معناه أن يحتكم كل فرد إلى عقله، فالعقول تختلف قوة وضعفا، فتصيب وتخطئ، ولكن معناه أن نحتكم إلى الأحكام العقلية القاطعة التى تتفق عليها العقول السليمة... كل العقول السليمة اتفاقا عاماً لا خلاف فيه. * الحقيقة الثالثة- كل نص قطعى واضح لا يسبب تناقضا عقليا فى الذهن " وهذا شأن الآيات المحكمات كلها بلا استثناء " فمن الواجب الإيمان به ولو كان تصور معناه عسيراً على الذهن لأن " التعقل " غير " التصور ". وكل نص يوجب تناقضاً عقلياً فى الذهن فمن الواجب تأويله تأويلا يرتفع به التناقض العقلى . * الحقيقة الرابعة- أن الآيات المتشابهات التى تعجز عقولنا عن(1/42)
تأويلها يجب أن نردها إلى، أم الكتاب " وما دامت " المحكمات أم الكتاب " غير متناقضة مع العقل فإن المتشابهات التى تهيمن عليها " المحكمات أم الكتاب " تكون ولابد معقولة وإن عجزنا عن تأويلها: " فالمحكمات " من عند الله، " والمتشابهات " من عند الله، ولكن " المحكمات أم الكتاب " هى الأصول التى تسيطر على ص _047
المتشابهات. وما دامت الأصول معقولة نستطيع فهمها وإدراك حكمتها فلابد أن تكون المتشابهات الواقعة تحت سيطرتها معقولة وإن لم نستطع تأويلها. وهذا معنى قوله تعالى: " والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب". - الحقيقة الخامسة- التى يحسن ذكرها ( للمبتدئين) هى أنه يوجد فرق كبير.. وكبير جداً بين المستحيل العقلى والمستحيل العادى.. فالمستحيل العقلى هو الذى يوجب تصور وجوده أو تصور عدمه تناقضاً عقلياً في الذهن. أما المستحيل العادى فلا يوجب تصور حصوله أو عدم حصوله تناقضاً عقليا فى الذهن أبداً، ولكن جرت عادتنا نحن البشر أن نعده مستحيلا فى العادة كخرق النواميس الكونية بالمعجزات. فإذا كان النص الدينى يتناول هذا النوع من المستحيلات العادية فلا مجال لإنكاره أو لتأويله أبدأ.. " حتى ولا لتعليله على أساس نواميس كونية أخرى كما يفعل العلماء عن حسن نية " بل يجب التصديق به. لأن القول باستحالته عقلياً هو القول الذى يوجب تناقضاً عقليا. فالنواميس والطبائع فى الأشياء من خلق الله، والذى خلقها قادر على خرقها والقول بغير هذا هو الذى يوجب تناقضاً عقلياً. هذه هى " الحقائق الخمس " التى نحن فى نطاقها مأمورون من الله بالاحتكام إلى العقل، بين أنفسنا فى عقائدنا ومع غيرنا من المخالفين عند تعقلنا لمعنى الإيمان بالله ووحدانيته وصفات كماله، فضلا عن الجزئيات الأخرى. وإليكم بعض الأمثلة: 1- قضية وجود الخالق لهذا الكون. هى حقيقة ورد بها النص. وعند عرضها على العقل كما أمرنا الله نجد أن(1/43)
إقرارها لا يشكل تناقضاً عقلياً، بل إنكارها هو الذى يشكل تناقضاً عقلياً لأنه يجعل العالم الممكن الحادث المعلول حادثا بغير علة ولا فاعل وهذا مستحيل عقلا "أم خلقوا من غير شيء ". أو يجعل المعلول نفس العلة وهذا أيضا مستحيل عقلا "أم هم الخالقون" صدق الله العظيم . ص _048
2- والوحدانية حقيقة ورد بها النص. وعند عرضها على العقل كما أمرنا الله، نجد أن إقرارها لا يوجب تناقضاً عقلياً بل إنكارها والقول بتعدد الآلهة أو المزج بين الألوهية والبشرية هو الذى يشكل تناقضاً عقلياً "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "، " ليس كمثله شيء "، " و لم يكن له كفوا أحد".
3- والمعجزات التى ورد بها النص. عند عرضها على العقل لا نجد أن تصور حصولها يوجب تناقضاً عقلياً لأنها من الممكنات، بل ادعاء استحالتها استحالة عقلية هو الذى يوجب تناقضاً عقلياً: لأن الذى خلق النواميس والطبائع من البديهى أن يستطيع خرقها.
4- قضية البعث التى ورد بها النص. عند عرضها على العقل، كما أمرنا الله، لا نجد أن تصورها يوجب تناقضاً عقلياً بل القول باستحالة حدوث البعث استحالة عقلية هو الذى يوجب تناقضاً عقلياً "أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ".
5- كذلك زعم القائلين بولادة الله لولد أو بولادته من والد. قد ورد النص باستحالة هذا الزعم. وعند عرض القضية على العقل كما أمرنا الله، نجد أن تصور ولادة الله من والد يوجب تناقضاً عقلياً لأنه يؤدى إلى أن يكون الله حادثا وممكنا وله كفؤ، والعقل يقطع أنه سبحانه قديم وواجب الوجود وليس له كفوا " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد و لم يولد * و لم يكن له كفوا أحد".
كما أن تصور ولادة الله لولد يوجب تناقضاً عقلياً لأنه يجعل الله جزءا وبجعله متغيرا ويجعل له مثلا "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه " - " ليس كمثله شيء" صدق الله العظيم(1/44)
6- ولكن فى آية مثل قوله تعالى عن ذى القرنين "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة " نجد أن نص هذه الآية، إذا أخذ ظاهره اللفظى،
ص _04 ص
يشكل تناقضا عقليا: لأنه من الثابت فى العلم ثبوتاً عقلياً قاطعاً لا ريب فيه أن الأرض أصغر من الشمس بمليون وثلاثمائة ألف مرة. ومن البديهيات العقلية أن الجسم الكبير لا يدخل فى الصفير، فلابد هنا من تأويل هذا النص تأويلا يرتفع به التناقض العقلى فنقول كما قال العلماء الأعلام من قبلنا أن معناه: أن ذا القرنين رأى الشمس وهى تغرب وراء البحر كأنها تغرب فى عين حمئة كما يرى أحدنا الشمس تغرب فى النيل وهو يعلم أنها تغرب وراء الأرض لا فى النيل. فمن هذه الآيات الكثيرة وسواها كقوله تعالى: " لعلكم تعقلون- لقوم يعقلون- لقوم يفقهون- لقوم يتفكرون.. " يظهر بجلاء لا مجال للشك فيه أن الله هو الذى أمرنا بالاحتكام إلى العقل فى إدراك وجوده ووحدانيته وصفات كماله، فضلا عن إدراك ما هو أقل أهمية وخطراً من ذلك من شتى الجزئيات. فإنكار الاحتكام إلى العقل فى نطاق الحقائق الخمس التى ذكرناها لا يجوز أن يسمى خطأ بل هو إنكار للنصوص الصريحة ويدخل عند الإصرار فى باب الكفر لأنه إنكار وإعراض عن البراهين العقلية التى خاطبنا الله بها. قانون العلية إن عقولنا التى خلقها الله لنا مفطورة فطرة على قانون العلية أو (قانون السببية) كما نسميه نحن البشر بالنسبة للمخلوقات، وهو الشىء الذى نسميه الحكمة بالنسبة إلى خلق الله وأوامره ونواهيه. قد يقول الملحدون المنكرون للصانع إن عقولنا اكتسبت هذا القانون بحكم العادة لأنها كانت ترى الظاهرة تحدث عقب ظاهرة فتربط بينها برباط السببية فتسمى الأولى علة أو سببا وتسمى الثانية معلولا أو مسبباً، وبرد عليهم المؤمنون أن الفطرة من صنع الله. والذى يهمنا على كل حال كمسلمين أن نقرر أن قانون العلية موجود فى عقولنا وأن الله سبحانه وتعالى قد أكد هذا القانون.(1/45)
هذا التأكيد من قبل الله لقانون السببية " فيما يقع من أحداث الكون وهو ما نسميه (حكمة الله) لما يقع من أفعال الله وأحكامه فى الخلق والتدبير والتكليف والعقاب والمثوبة " أمره ظاهر فى آيات كثيرة لا تعد ولا تحصى. ويكفى لإثبات هذا القانون الذى اتخذه الله جل شأنه برهانا على وجوده وخلقه للعالم وللإنسان قوله: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون". ص _050
فالبرهان الذى يسوقه الله للعقول من صميم فطرتها بقوله: "أم خلقوا من غير شيء " هو بذاته دليل على اعتبار السببية فى دين الإسلام. فالكون حادث والإنسان الذى أتى عليه " حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" حادث، فلابد لوجوده من سبب وعلة، وفاعل خالق هو الله سبحانه. كذلك يقال عن حكمة إرادته القديمة فى خلق الجن والإنس ليعبدوه. فالله سبحانه كتب على نفسه الحكمة وهى التى نسميها نحن: " داعيا " و" سببا " و" علة ". وقد يصرح الله بحكمة أفعاله وأحكامه وأوامره ونواهيه فيذكر سبب الحكم وعلته وحكمته، وقد لا يصرح وبترك لنا أن نستنبطها من خلال الأحكام بعقولنا على قدر ما نستطيع بدون أن نتحكم على الله أن ما استنبطناه هو الحكمة أو هو وحده الحكمة والسبب والعلة. فما ورد فيه التصريح بذكر العلة أو الحكمة آيات كثيرة نذكر على سبيل المثال منها: * (1) كل آيات العقاب والثواب فى الدنيا والآخرة. * (ب) قوله تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" ولا يخفى أن كلمة أمرنا هى فى قراءة أمرنا أى كثرنا. فعلة التدمير هى كثرة المترفين وما ينتج عن هذه الكثرة من الفسق والفجور وخور العزائم، فتقضى نواميس الله الاجتماعية (وهى نواميس لا تختلف أبداً كالنواميس الطبيعية) بأن تدمر هذه القرية من عدو خارجى أو من قبل فتنة داخلية بين المترفين والصعاليك. * (ج) قوله تعالى: "ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا" فيه بيان لبعض وجوه العلة فى(1/46)
تحريم الزنى. * (د) قوله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما". فيه بيان لعلة الحجر على السفهاء. ص _051
* (هـ) قوله تعالى فى مال الفىء وحصره بالمهاجرين الفقراء والمحتاجين دون الأنصار الأغنياء " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ففى هذا بيان صريح لعلة عدم إعطاء الأرض إلى الأغنياء الذين عندهم أراض كثيرة. * (و) قوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". فيه بيان صريح لعلة تغيير نعمة الله على خلقه: * (ز) حتى العبادات كالصلاة والصيام والحج ورد النص صريحاً بذكر بعض حكمتها، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم مدعاة للتقوى، والحج فيه منافع للناس، والزكاة حكمتها أكثر من أن تعد. * (ح) والذين أمرنا أن نكتبه مع بيان الحكمة، والاكتفاء بالزوجة الواحدة وكونه أدنى ألا نعول، وشهادة امرأتين لتذكر إحداهما الأخرى.. إلى غير ذلك مما لو أردنا إحصاءه لاحتجنا إلى وقت كبير. وخلاصة القول: أن أفعال الله وأحكامه سبحانه مبنية على حكم وأسباب منها ما هو صريح ومنها ما هو باطن، ولكن ليس بمحظور علينا نحن أن نستنبط وجوه الحكمة من طريق العقل، قد يكون هنالك ما يعجز العقل عن استنباط علته وسببه وحكمته فنتوقف دون أن نزعم أنه بلا حكمة بل نقول خفيت علينا حكمته. من يدرى؟ فقد يكشف الغد عن هذه الحكمة فتظهر لنا كما ظهرت فى كثير من أفعال الله فى مخلوقاته وفى أحكامه "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ". والقول بأن أحكام الله لا يجب أن تعلل، صحيح على معنى أننا نتبعها ولو لم نفهم علتها وحكمتها، ولكن لا يجوز أن نعتقد أنها بدون حكمة!! فإذا تقرر هذا قلنا إنه ليس لعالم عاقل أن ينكر على المسلمين أنهم يستطيعون ضمن نطاق (المبادئ الأساسية) للإسلام وهى الآيات المحكمات أن يستعملوا عقولهم فى استنباط بعض وجوه الحكمة فى الأحكام الموجودة. وفى استنباط الأحكام الجديدة(1/47)
للحوادث المستجدة من طريق القياس أو الاستحسان، لأن ص _052
القول بعدم وجود حكمة للأحكام الإلهية يتناقض مع الدين والعقل، كما أن الجمود عن استنباط الأحكام للأحداث المستجدة هو تعطيل للدين وحكم بنقصانه وهو الدين الكامل بشهادة الله نفسه. وهكذا نرى أن أعظم مزية يمتاز بها الإسلام على غيره من الأديان السماوية أنه يجعل لـ " العقل " السلطان الأعلى فى إدراك كل معنى فى الوجود، ويأمرنا أن نحتكم إليه حتى فى الإيمان بوجود الله ووحدانيته والإيمان بالرسل. وما كانت هذه المزية أعظم المزايا إلا لأنها هى الأصل لكل برهان ذكره الله لإثبات وجوده ووحدانيته وصدق رسله. فلولا العقل لما عرفنا الله ، ولما استطعنا أن نفهم أدلة الله وبراهينه التى كررها فى كتابه ليبرهن على وجوده، ووحدانيته، وطلب منا أن نتفكر فيها وندركها ونعقلها، ولما استطعنا بالتالى أن نؤمن بأحقية الأحكام التى بلغنا إياها الرسول، وما فيها من الهدى والخير. ولما استطعنا أن نستنبط الأحكام المستجدة بطريق القياس، ولتعطلت أحكام الدين فى الوقائع التى لم يرد بها نص. وهذا ما لا يقول به عاقل من العوام فضلا عن العاقل من العلماء الأعلام. فالله سبحانه يقول لنا: "اليوم أكملت لكم دينكم " وهو يعلم أن هناك على كر الدهور القادمة وقائع وأحداثاً ستأتى ولم ينزل سبحانه حكما خاصا فلابد -عقلا- أن يكون قد أجاز أن نستنبط الأحكام على أساس العقل من طريق قانون العلية الذى ندرك به علة الحكم، وحكمة الله فيه ضمن دائرة المبادئ الأساسية التى أنزلها الله فى الآيات المحكمات التى هى أم الكتاب. أما ذلك المسلم المستشرق الذى قال لى إن إيماننا بالله نفسه وصفاته لا يرتكز على العقل ولكنه ينبع الروح فإنه إما أن يكون جاهلا لمثل هذه المعانى وإما أن يكون منافقاً يريد جر المسلمين إلى الإيمان بالأسرار التى اخترعت فى أديان أخرى لتغطية التناقض العقلى فيها، والاضطراب الموجب للشرك التى وقعت(1/48)
فيه تلك الديانات عند تصور معنى الوحدانية . ص _053
وسواء كان صاحبها من الجاهلين أو المنافقين فإنى لأقول له: " ليس عندنا فى الإسلام شىء يسمى تفكيرا روحياً أو إيمانا روحيا لا يعتمد على العقل، وليس عندنا أسرار، وليس عندنا خرافات. بل عندنا عقل..، ولنا رب حكيم عليم خاطبنا بأدلة العقل وحدها، لأن الإيمان تصديق، والتصديق يسبقه تصور، والتصور والتصديق والاستنتاج والحكم كلها من أعمال العقل وحده. وما ذلك الإيمان الروحانى الذى يسمون إيمان العجائز إلا نوع من الطمأنينة القلبية والسكينة النفسية اللتين يتمتع بهما المؤمن إذا امتلأ عقله الباطن بالإيمان بالله، والخشوع أمام قدرته العظمى والإدراك لحكمته البالغة والفرح برحمته الواسعة . فإذا لم يكن الإيمان مستندا فى الأصل إلى الاستنتاج العقلى، وكان عبارة عن استهواء روحانى خيالى تظله الأسرار ويتعثر فى ظلمته العقل ذهب ذلك الإيمان الروحانى مع الريح عند أول أزمة من أزمات النفس أو شدة من شدائد الحياة. وهو بعد ليس بالإيمان الذى يرضاه الإسلام من قوم يتفكرون ويقرأون البراهين العقلية البديهية التى ذكرها الله فى كتابه، وصاغها بأسلوب يفهمه البدوى الساذج فى القرن السابع، والعالم الفيلسوف فى القرن العشرين " أ. هـ. *** ص _054(1/49)
عروبة وإسلام شرائع الله كلها تسوى بين الناس جميعاً فى الحقوق والواجبات العامة، ليس فيها فرق بين لون ولون، أو جنس وجنس. والبشر أمام ربهم الأعلى خلائق يمحصهم الامتحان المسلط عليهم من المحيا إلى الممات، وسيحشرون فى ساحة مبهمة غفل مستوية - كقرصة النقى- لا معلم فيها لأحد، ولا شارة فيها لفرد. حفاة عراة عانية وجوههم لجبار السماوات والأرض. فمن آمن وعمل صالحاً نجا.. ولو كان فى الدنيا أخنع أهلها وأقلهم شأناً!... ومن جحد وفسد هوى، ولو كان ملكا يزين جبينه التاج وتنساب بين يديه المواكب..! هذه حقيقة لا يعرف النبيون غيرها- وإن زاغ أتباعهم عنها- وقد جاء الإسلام فرسخ قواعدها، وأمد رواقها، وبين بالتطبيقات الواضحة والتعليمات الحاسمة أن: " الرومى " و" الفارسى " و" الزنجي " و" العربى " لا يتفاضلون بشىء إلا بتقوى الله عز وجل. *** وإلى جانب هذه الحقيقة - وفى غير خلاف معها- نذكر أن القرآن الكريم قد اختارت الأقدار له لغة معينة فنزل بها، وتكون وعاء لهداياته، وهى العربية. قال الله سبحانه وتعالى: "وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين". وقال " إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم". وأى قرآن يترجم إلى لسان آخر فهو قرآن على المجاز لا على الحقيقة، إذ هو ص _055(1/50)
تفسير أجنبى للوحى العربى، أو نقل لما تيسر من معانى القرآن نفسه إلى اللغات الأخرى... أما القرآن نفسه - أصل الإسلام ومعجزة نبيه وسياج دعوته - فإن الأسلوب العربى بخصائصه الثابتة جزء لا ينفصم عن جوهره، ولا يمكن التجاوز عنه بتة. ومقتضى هذا، أن العرب أدنى الناس إلى فقه الرسالة وإدراك مراميها، ولعل ذلك معنى الآية: "وكذلك أنزلناه حكما عربيا ً". سواء كان الحكم بمعنى الحكمة، أو بمعنى السلطة. ولا أعنى بالعرب دماً مخصوصاً، بل أعنى كل مجيد للعربية، ضليع فى آدابها، خبير بأسرار البلاغة وفنون الكتابة. فمن أعوزته هذه المواهب ولو ولد فى بطحاء مكة فليس بأهل للعروبة. ومن استجمعها من الزنوج فهو عربى أصيل لا يعيبه لون ولا يؤخره جنس. وقد قامت الأمة الإسلامية منذ العصور الأولى على جعل الاستعراب موردا لا يغيض فى إمدادها بالحياة والنماء، لا فى دينها فحسب، بل فى أدبها من شعر ونثر. فنبغ فى علوم الدين وفنون الأدب جم غفير من الأعاجم، وتولى مناصب الفتوى والقضاء والإدارة والحكم رجال منهم كثير. والتبريز فى العربية ضرورة لا محيص عنها لترشيح أصحاب الكفايات النفسية والعقلية كيما يخدموا الإسلام خدمة راشدة واعية فإن الاستهداء بالكتاب والسنة لا يقدر عليه إلا الراسخون فى هذه اللغة التى نزل بها الوحى، وتكلم بها الرسول.. وقد أسلم خلق لا يحصون من أجناس العالم الأخرى، وحسنت عقائدهم وأعمالهم، إلا أن عجزهم عن فقه الإسلام من ينابيعه الأصلية شاب حماستهم بالحدة المنفرة، وإخلاصهم بالقصور المقعد . فلا معانى القرآن نقلت إليهم، ولا هدى النبوة شرح لهم، ولا هم أجادوا اللسان العربى ليتصلوا دون وساطة بينابيع الإسلام. فكان أن عاشوا ينتسبون للإسلام ويتخبطون فى العمل به والدعوة إليه. ص _056(1/51)
والأتراك شاهد صدق على هذه الحالة المحزنة، ومصير الخلافة الإسلامية، - أو بتعبير أصح الدولة القائمة على شئون المسلمين، فى وصاية هؤلاء الأتراك- كان مصيراً فاجعا مخزيا. * * * * إن نزعة الإسلام فى عدم التفريق بين الأجناس مكنت كل داخل فى الإسلام أن يصل إلى مكان الصدارة دون نكير...!! بيد أن هذه النزعة الشريفة يجب أن يراعى فيها توافر الكفاية الأدبية عند من يتصدون لهذه المناصب الثقيلة. ومن المستغرب أن يعد للإسلام حاكم محدود الفقه فى كتاب ربه، محدود الدراية بسنن رسوله لأنه أعجمى!! حقاً إن الإسلام أذاب كل اعتداد بالأنساب والدماء، ولكنه لم يذب شروط الاستحقاق للولايات العامة، وطبيعى أن يكون الجديرون بها عرباً أو متعربين من غير تفريق بين هؤلاء وأولئك. وليس فى هذا إيثار للعرب أو غض من غيرهم، ما دام أساس الاختيار تفاضل الكفايات لا تفاضل الألوان. لقد كان " أبو حنيفة " كبير فقهاء الرأى، و" البخارى " سيد نقلة الأثر. ودانت الأمة الإسلامية على اختلاف أجناسها للرجلين دون أقل التفات إلى عنصرهما الأول . بيد أننا نذكر هنا- محزونين آلمين- أن العرب نظروا إلى مكانة لغتهم، وانبعاث الرسالة من بينهم، فذهبوا بأنفسهم، وخامرهم الغرور، وتكلموا عن بقية الشعوب بما لا خير فيه. كما أن غيرهم من معتنقى الإسلام نظروا إلى طبيعة هذا الدين، ومساواته بين أبناء آدم قاطبة، وتقديمه للأتقياء وحدهم. فأخذ ينال من العرب ويندد بماضيهم وأحوالهم. وتحركت العصبيات الضيقة وراء تلك المهاجاة والادعاءات، فأضرت بالإسلام وأمته أفدح الضرر، ووسعت الشقة بين العرب والفرس، وبين الترك والعرب، ثم بين ص _057(1/52)
الترك والفرس أنفسهم ، ثم عادت اللجاجة مرة أخرى تقسم الأمة الإسلامية ، وتمزق شملها حتى كان النزاع بين العرب والترك فى هذا العصر سبباً مباشراً فى القضاء على الدولة الإسلامية كلها. إن هذه العصبيات الطائشة لم تكتف بتفريق الأمة الكبيرة إلى أجناس متشاحنة، بل فرقت القطر الواحد إلى أقاليم متنابزة. وبرز الساسة والأدباء الذين لا يحيون إلا على الفتن فلقحوا هذه الجاهلية الجديدة حتى آل أمرنا إلى بوار !.. ذلك أن الطامعين فى الحكم، وحملة الأقلام الذين يخدمون أغراضهم، أججوا نيران هذه العصبيات، من عربية وشعوبية. ولم يدركوا وهم يقترفون هذا الشطط أنهم يعكرون مستقبل رسالة كبيرة، ويزرعون الضغائن ليجنى ثمرها المر أحفاد مظلومون. أما التستر بُمثل عليا إخفاء لهذه النزعات فمسلك بين العوار وما أصدق قول الدكتور زكى مبارك: " سيأتى يوم يعرف فيه المسلمون أن حضارتهم العظيمة لم تقوضها غير الأقلام الباغية، أقلام الكتُاب والمؤلفين الذين غفلوا عن أخطار الغيبة الاجتماعية فحبروا الفصول الطوال فى المفاضلات بين الأمم الإسلامية حتى شطروها إلى عناصر يبغى بعضها على بعض بلا تورع ولا استحياء. وثورة الأمة الفارسية على اللغة العربية كانت لها أسباب من هذا النوع. " وثورة الأمة التركية على الحروف العربية كانت لها دواع من هذا القبيل. ولن تزول آثار هذه أ الغيبة القلمية إلا يوم يمن الله على المسلمين بكتاب حكماء يعرفون كيف يقتلعون جذور هذه الفتن من الأفئدة والقلوب. ولكن متى يأتى ذلك اليوم؟؟. إن الأقلام تقدم ما تشاء من الألوان وهى تبغى على العدل والسلام بلا حق، بل تأخذ الأجر على خدمة البغى والإثم والعدوان " أ. هـ. *** وفى أعقاب الانهيار الذى أصاب الدولة الإسلامية، وتواثب الذئاب من كل ناحية لانتهاش ما أمكن من جسدها المثخن، أخذ كل شعب مسلم يدفع عن نفسه ويذود ما وسعه الذود عن حياضه. ص _058(1/53)
وكان عقد الأمة الكبيرة قد انفرط، فلم يلو أحد على آخر. إنهم شعروا بغتة أن النار تشتعل حولهم فثارت فى دمائهم غرائز النجاة فقط، وشرعت مصر وحدها، وتونس وحدها، والعراق وحدها، تكافح طغيان الاستعمار النازل بها. ثم شعر العرب بأن تكاتفهم فى ميدان الجهاد أجدى على قضاياهم المتشابهة فأسسوا الجامعة العربية ووكلوا إلى المصالح القومية والعزة الجنسية أن تقيم بناءها وترفع لواءها. ونحن ـ إنصافاً للحقيقة ـ نشيد آمالا كباراً على تحرر العرب جميعاً، فإن العروبة عقل الإسلام وقلبه، ويوم تضمحل وتنتهى فذلك إيذان بأن شمس الإسلام إلى أفول . وأعداء هذا الدين يدركون أن إضاعة العربية، وإماتة آدابها، وإفناء مميزاتها، وإنشاء أخلاف متنكرين لتراثهم وتاريخهم هو الخطوة الخطيرة نحو إضاعة الإسلام نفسه، وتضييع كتابه وإلحاق أمته كلها بمن باد واختفى من الأقدمين الهالكين... وإنك لتلمح فى سياسة الاستعمار التعليمية هذه النية مجسمة. فالتجهيل فى اللغة العربية والاعتماد على غيرها فى الوظائف والمكاتبات الحلية والعالمية عنصر ثابت. وحيثما نجحت هذه السياسة وجدت رطانة الأعاجم قد حلت محل اللسان العربى المضطهد. هكذا فعلت فرنسا بالمغرب ولبنان، وهكذا فعلت إنجلترا بالهند وباكستان، وعلى نسقهما تصنع سائر الدول الصليبية الغازية.. فإذا قام العرب للذياد عن كيانهم وتراثهم فنحن بدوافع الدين والدنيا معاً نشد أزرهم ونحمى ظهرهم. ولو لم نكن عرباً نغضب لأنفتنا ونستقتل فى حماية ذمارنا وصيانة مروءاتنا لكنا باسم الإسلام نكافح من أجل كرامة العروبة وحفظ مهابتها. فالأمر يمس صميم رسالتنا لأنه كما قيل: إذا ذل العرب ذل الإسلام!. ومعروف أن من العرب من يعتنق النصرانية على اختلاف مذاهبها، إلا أن اختلاف العرب من مسلمين ونصارى لا يمنع تجمعهم على إعزاز الأمة العربية ورد العدوان عنها مهما كانت ديانة المهاجم عليها. ص _05 ص(1/54)
فإن العربى بطبيعة عنصره يأبى الضيم ويكره الدنية ويرخص دمه فى سبيل شرفه... وثم أمر لا يمكن إغفاله، إن الكثرة الكبرى من نصارى المشرق عايشوا المسلمين معايشة كريمة على مر العصور، فلم يحاول العربى المسلم أن يضيم أخاه النصرانى ـ ولا اليهودى ـ بل أكرم صحبته وأحسن عشرته ولو لم يرع هذه الأصرة ، لرعى له حق الجوار، فبذل نفسه دونه.. على عكس ما وقع فى بلاد الغرب، فإن أرقى عواصم " أوروبا " شهدت من مآسى التعصب ما ترعد له الفرائص. كان الفرنسى الكاثوليكى يذبح الفرنسى البروتستانتى، وهو نشوان بخمرة التشفى والغل. ولو أن العرب النصارى - وأغلبهم أرثوذكس- سايروا صلة الدين، ونزحوا إلى الغرب لاستؤصلت شأفتهم وأضحوا أساطير يرويها التاريخ.. والفضل فى هذه السماحة التى تسود بلادنا، إلى تعاليم الإسلام وحدها، التعاليم التى جعلت للنصارى ذمة ورحماً، فهم- وإن كانوا قلة بين جماهير غفيرة - يحيون وافرين آمنين..!!! كتب الأستاذ " أسامة عيتانى " يقول : " لقد شعر الروم الأرثوذكس ـ وهم العرب الأقحاح ـ أن مصيرهم أصبح مرتبطاً بالبلاد العربية وليس بروسيا أو أثينا، وأن مصالحهم الحيوية مشتركة مع طوائف البلاد - لا سيما المسلمين منهم- فهم الذين تربطهم بهذه الطائفة روابط عريقة تمتد جذورها إلى العهد الأول للإسلام، وهم الذين ساعدوا المسلمين على فتح هذه البلاد، وهم الذين آزروا الأمويين ورافقوهم إلى الأندلس، ثم أخرجوا معهم منها، وهم الذين قال " بطريركهم " حين حاصر محمد الفاتح القسطنطينية واشترط البابا لمساعدة الروم انضمام كنيستهم لروما- قال: " كلا... عمامة محمد ولا قلنسوة البابا "!!! وظل الروم كما يحدثنا المؤرخ الألمانى " بروكلن " بعد فتح القسطنطينية يتمتعون بحرية مطلقة. وكان " لبطريركهم " من القوة والسلطان فى عهد ص _060(1/55)
العثمانيين أكثر مما كان له فى عهد بيزنطة نفسها، وكانت طقوس التعميد والزواج والدفن والأعياد والمواسم تقام علناً فى أبهة وعظمة. وانتقل مركز الكرسى البطريركى لروم الشرق إلى دمشق... ودمشق قلب العروبة النابض، وجناحها الخفاق فتلقح الكرسى بقوتها.. وكان أبناء الطائفة فى سوريا ولبنان ـ ولا يزالون فى طليعة المجاهدين ـ أصحاب العقيدة العربية الصادقة، الذين يفهمون جوهر العقيدة وحقيقتها التاريخية" أ. هـ. وأشهد أنى التقيت فى القدس ودمشق برجال من النصارى يتوقدون غيرة على مستقبل فلسطين، وقد أعجبتنى حميتهم للعروبة وغضبتهم لنكبتها. وأحسست بتجاوب العاطفة بينى وبينهم، حتى إن كثيراً من المقترحات التى فكرت فى إعدادها لمواساة اللاجئين رأيتهم قد سبقوا إلى نظائرها، وكنا نختلف أحيانا على صياغة عبارة أوثر فيها اللطف ويؤثرون فيها العنف. ولا ريب أن هؤلاء النصارى عرب أنقياء، وأن خصائص هذا الجنس النزاع إلى الحرية، المتأبى على الضيم باقية فى دمائهم لم ينل الزمن من وهجها وعظمتها. والعربى الصحيح ـ وإن لم يكن مسلماً ـ له موقف كريم من اخوته المسلمين يجب أن نشرحه، لأنه صدى عروبته، ووحى طبيعته.. هو إن لم ينظر إلى القرآن على أنه وحى من عند الله نظر إليه على أنه وثيقة أدبية عالية خلدت لغته وأودعتها من المعانى والأساليب ما يقيم الألسنة ويزكى الأفئدة. وهو إن وقف إيمانه بالنبوة إلى عيسى بن مريم، فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه بوصفه سيد رجالات العروبة ومؤسس نهضتها الكبرى. وقد كان مشركو الجاهلية الأولى ـ عند كفرهم بالرسالة ـ يقدرون شخص صاحبها ويعترفون بعبقريته.. والعربى المسيحى، له من عروبته خلق الوفاء، وينبغى أن يكون له من دينه حب العدالة . وبهاتين الخلتين يستحى أن يحقد على الإسلام الذى ألقى عليه كنفه قروناً متطاولة لم يرزأ خلالها فى دم أو مال. على حين كانت الفق تحصد المختلفين من أبناء النصرانية فى مواطن أخرى. ص _061(1/56)
بيد أن الاستعمار الغربى فى سبيل أغراضه الخبيثة يبذل محاولات لا تهدأ كيما يهدم العروبة والإسلام معاً. وهو يجتهد فى صفاقة غريبة متلمساً الطريق بين العرب أنفسهم لبلوغ مأربه. وإنه ليشجع على اقتراف الخيانات وإشاعتها، حتى يمزق صفوف العرب ويهدم حاضرهم ومستقبلهم. فهل نجح فى تحقيق هذه الأهداف؟ أو هل خطا نحوها خطوة ؟ لننظر... ... أجل، لننظر كيف يحيك المؤامرات الخفية. لا. بل كيف يعقد الاتفاقات العلنية كى يحقق مأربه القديمة، فى هذه الأيام...!!! * * * * بعد قيام حكومة الثورة بثلاث سنين دعيت للمشاركة فى مؤتمر الخريجين العرب المنعقد بالقدس القديمة.. وقد لبيت الدعوة، مع قريب من ثلاثمائة جامعى مصرى قرروا حضور جلساته، وأعرف أن هناك مؤتمرات مريبة تنعقد بين الحين والحين لطعن أمتنا وإسقاط رسالتها، ولكن الداعين إلى انعقادها يجيدون التستر على مقاصدهم وراء ألفاظ سياسية رجراجة. وبعض أولى الغيرة على الإسلام يرفضون الذهاب إلى هذه المؤتمرات، وقد كنت أستطيع أن أفعل فعلهم ولكنى أثرت أن أذهب وأن أزيح النقاب عما يراد بأمتنا وديننا... *** ص _062(1/57)
مؤتمر الخريجين قبل أن تشترك فيه مصر المؤامرات ضد العروبة والإسلام تحيكها سياسات حذرة متأنية، ومع مهارة المدبرين لها فإن كشفها لا يحتاج إلى ذكاء. ذاك أنها وصلت إلى مرحلة اضطرت معها إلى الإسفار عن نياتها وإزاحة النقاب عن مأربها البعيدة. ولئن كان التوجس من أصحابها يعتبر قديماً سوء ظن لقد أصبح اليوم سلوكا يدعو إليه الحزم والإشفاق على مستقبل أمتنا الكبيرة. إن الاستعمار الغربى بعد أن يئس من تحول مصر إلى الفرعونية، ومن العراق إلى الأشورية. ومن تحول لبنان إلى الفينيقية... الخ، اعترف مكرها بعروبة هذه الأقطار كلها ثم شرع يثير فى جو هذه العروبة من الغيوم ما يؤمن أهدافه ويحقق أطماعه، أو قل: ما يشبع أحقاده القديمة الجديدة ضد هذه العروبة، وما يمكن أن يعيش فى ظلالها من دين . والأسس التى يبنى عليها الاستعمار الغربى علائقه بالأمة العربية تقوم على النقط الآتية: 1- ربط دويلاتها بسياسة الغرب، وخلق أحوال روحية، وثقافية، واجتماعية تضمن دوام هذا الاتجاه. 2- تشجيع " العلمانية " أو " اللادينية " أو بتعبير صريح إطفاء مناورات الإسلام فى نواحى الحياة العامة. 3- تخدير الوعى العربى المناهض لليهود، والتسويف فى معالجة قضية فلسطين، حتى يتم انسجام إسرائيل مع جيرانها العرب بعد أن يتطوروا وفق مناهج السياسة الغربية ونشاط عملائها الذين لبسوا أزياء العروبة وترهبوا لخدمة قضاياها..!!! ونحن لا نلقى التهم جزافا، ولا نلتمس للأبرياء العيوب، ولكننا نسوق الأدلة أمام الأعين الناقدة، ونترك لها أن تحكم بما تستبين. ص _063(1/58)
اجتمع لفيف من خريجى الجامعات الأمريكية فى الشرق، وقرروا عقد مؤتمر دائم لبحث قضايا الوطن العربى، وقد اطلعت على الرسائل التى طبعوها لتكون موضع مناقشات المؤتمر فى جلساته، فاستغربت الروح الشائع فى أغلب هذه النشرات، كما استنكرت كثيراً من المقالات التى لمح كتبتها أو صرحوا بضرورة الاتجاه إلى الغرب، ونبذ الإسلام!!!. ومع دهاء مصدرى هذه الرسائل، فإن تعصبهم لما يعتقدون كان يغلب عليهم. وكثيراً ما جرت أقلامهم بما ينم عن كراهية شديدة للإسلام وحده.. لماذا؟ لا أدرى..!! كتب السيد " ماجد فخرى " مندداً بالشيخين " محمد عبده "، و " محمد رشيد رضا " ومفنداً رأيهما فى صلاحية النظام الإسلامى لعالمنا الحاضر. فقال: " وما ينشأ تخلف العالم الإسلامى عن قافلة المدنية عندهم - أى عند الشيخين- إلا بسبب تقاعس المسلمين وقصورهم عن الامتثال لما رسمه الإسلام من قواعد للحياة الفضلى، لا للفساد الجوهرى فى الجهاز الإسلامى ذاته، وفى الأنظمة الفكرية والتشريعية التى أقرها! وهكذا فطريق الإصلاح عند هؤلاء طريق واضحة، تقتصر على إحياء الإسلام بشرائعه ومراسيمه وتطبيقها على حياة المسلمين عامة والعرب خاصة تطبيقاً تاماً، أى تقتصر باختصار على العودة إلي الشريعة الإسلامية بحذافيرها كما " خلقها " صاحب الدعوة منذ أربعة عشر قرنا!. ثم قال: " وليس يعنينا البند الأول من هذه الدعوة " أى القول بأصالة النظام الفكرى الإسلامى المطلق " لأنه من القضايا التى يصعب التدليل عليها تدليلاً قاطعاً.. بل إن أقل ما يقال فى أصحاب هذه الدعوة أنهم فقدوا الوعى التاريخى جملة فنظروا إلى أحقاب التاريخ بعين واحدة. لا فرق بين اللاحق منها والسابق. فمثلهم كمثل المرء الذى ينظر إلى الطفل وإلى الكهل نظرة واحدة، فيقيس أفعال هذا وأقواله بنفس المقاييس التى يقيس بها أفعال ذلك وأقواله . وكل ذلك ضرب من الجهل بسق الحياة المتبدلة، وأحوالها وحاجاتها المتجددة أبداً". ص _064(1/59)
ويضرب السيد " ماجد فخرى " مثلا لتخلف الإسلام، وفساد أجهزته التشريعية وعدم غنائها مع تطور العصور فيقول: " ولما كان المجتمع القديم يختلف عن مجتمعنا فى تركيبه لم تعد قوانين الميراث القديمة ذات غناء اليوم، بل فقد الكثير منها معناه أصلا - فمن الدول الاشتراكية اليوم من ألغى مبدأ الملكية الفردية، كروسيا التى لم يعد لقوانين الوراثة عندها معنى قط، ومنها من استبقى من هذا المبدأ طرفه الفردى البحت - كبريطانيا- فبات لا يلحق الوريث اليوم من ميراث أبيه إلا النزر اليسير، لأن حقه فى الملكية الفردية بات مقصوراً على ما يكسبه هو بعرق الجبين. أما النصيب الأكبر من الميراث فبات يعود على الدولة أو المجتمع. وإذا ذكرنا أيضاً أن عامة الأعم المتمدنة اليوم تقر حق المساواة بين الرجل والمرأة، وجدنا أن التشريع الإسلامى الخاص بالميراث مجحف بحق المرأة ـ فلا يصلح للمجتمعات التى ساوت بينها وبين الرجل فى الحقوق والواجبات المدنية ـ وفى فرص تحصيل المعاش وجزاء العمل... إلخ. فاقتضى أن تتغير هذه الأحكام بتغير الأزمان وبتغير ظروف الحياة العامة ". وماذا يبغى السيد " ماجد فخرى " بعد هذه الحملة على الإسلام وهذه البرهنة على انتهاء رسالته؟. إنه يبغى أن نولى وجوهنا شطر الغرب لنستمد منه أفكارنا وننشىء حضارتنا. وأى غرب ؟ أمريكا وإنجلترا وفرنسا ومن دار فى فلكها، واسمع إليه منوها بهذا الغرب العظيم: "… خيل إلينا أن الاستقلال عن الغرب سياسيا يعنى الاستقلال عنه فكريا وحضاريا ـ وهذا أيها السادة وهم فاضح ـ فالدول الشيوعية نفسها كروسيا والصين ودول أوروبا الشرقية ما زالت كلها عالة على الغرب فى ميدان العلم والفن والفلسفة، ألم يكن حلم بانى روسيا الحديثة " بطرس الأكبر نفسه: "تغريب" روسيا فى القرن السابع عشر؟؟ ألم ينتج " ماركس " أهم آثاره الفلسفية والاقتصادية فى زاوية من زوايا المتحف البريطانى. وتتلمذ أول أمره على " هيكيل " زعيم(1/60)
المدرسة الألمانية؟؟ أليس الطابع الغالب على أروع الآثار الأدبية الروسية " كالأخوان كارامازوف " و" الحرب والسلام، طابعا روحياً مسيحياً "؟؟ ص _065
أرأيت هذا الحماس فى الاتجاه إلى دول الغرب والإشادة بروائعها المادية والأدبية، والحط من قيمة " روسيا " الحديثة والدول الضالعة معها؟ إذن، فلتسمع إلى تتمة إيماءة التكريم للطابع الروحى " المسيحى " !!!! هذه الإيماءة التى أبان فيها الكاتب عن جوهر نفسه. إنه يقول عقبها: " أو ليست الثورة الشيوعية نفسها تعتبر تعبيراً عن الروح المسيحية الداعية إلى العدل والحرية والمساواة باسم المحبة؟ ". يا عجباً!! "إن الإسلام دين انتهى زمنه، وبجب أن تنفض الأيدى منه، أما المسيحية فهى بعد عشرين قرنا لا تزال ينبوع الإلهام لأحدث النظم فى الدنيا.." أ. هـ. أهذا بحث علمى أم بحث تبشيرى؟ إننى أحترم التفكير العلمى المجرد، المحايد بين الأديان كلها. أما أن يجىء كاتب فيبلغ به الغلو فى تمجيد النصرانية إلى اعتبارها مصدر المثل العليا فى النظام الشيوعى - وهذا كلام يستحى العلماء من التفوه به- ويبلغ به الضغن على الإسلام فيصفه بفساد الأجهزة.. فهذا ما لا يطاق. ولكن هذا. ما كان سيعرض للمناقشة فى جلسات مؤتمر الخريجين. قوامه احترام للغرب الصليبى، وتمجيد لروح النصرانية، ونقد لشرائع الإسلام، وذلك كله باسم العروبة... *** ولندع هذا الكاتب دون مناقشة لما كتب، ولنقرأ مقترحات السيد " جبران شامية " عضو المكتب الدائم للمؤتمر. إنه يجرى شوطه فى نسق واحد مع زميله، ويسير محاذياً له - وإن اختلفت الطريق- حتى يصل إلى الغاية نفسها.. لقد دعا فى صراحة إلى سلب الدين كل سلطة، وإلى جعل الحكم " علمانياً " بحتاً وهو يقول: " العلمانية نتيجة محتومة للحرية الفكرية، وصفة ملازمة لها، لأننا متى سلمنا بحق الفرد أن يفكر مستقلا فى جميع القضايا - ومن جملتها أمور ص _066(1/61)
دينية - وأن يتوصل إلى النتائج التى يوحيها إليه عقله، وجب أن نرفض منح هذا الحق أية جماعة - حتى الدولة - لكى تفرض على الفرد آراء ونظمأ دينية معينة..". وهو يرد نكبة فلسطين وسائر عقابيل الاستعمار التى يضطرب الشرق العربى بين عقدها إلى أننا ما زلنا نحيا على التراث الدينى الذى خلفته لنا القرون الوسطى. يقول: " لقد استثمر الغربيون فى استعمارهم البلاد العربية، والصهيونيون فى اعتدائهم على فلسطين، إمكانات العقلية الأوروبية المتحررة العملية والمجتمع القومى المتماسك الحديث، على حين واجهناهم نحن بعقلية محافظة متواكلة، ومجتمع دينى لا قومى خلفته لنا القرون الوسطى. ولم تحفزنا بعد مصائب الاستعمار، وكارثة فلسطين إلى وثبة تحطم القيود الفكرية والخلافات الدينية، وتدفعنا إلى آفاق الاتحاد القومى، تلك التى تفتحها لنا العلمانية.. ولا تزال كثرتنا مكبلة بقيود الفكر المحافظ تتلمس طريقها بتردد بين الدولة الدينية والدولة القومية العلمانية ". وبديهى أن يذكر الأستاذ " جبران شامية " فى هذا المجال " مصطفى كمال " ليقول عنه: " كان مصطفى كمال ورفاقه الذين وضعوا أسس نهضة تركيا الحديثة مقتنعين بضرورة اللحاق بمجرى المدنية الغربية، وبأن هذا اللحاق يقتضيهم التخلص من القيود الدينية، ففرضوا العلمانية، واستبقوا تكامل الوعى الشعبى الذى يتطلبها ". وظاهر من هذه الشواهد التى نقلناها أن المقصود بالدين هو الإسلام. فهو دين الكثرة التى تقطن الشرق العربى . وهو الميراث الروحى والسياسى الذى تلقيناه عن العصور الوسطى ص _067(1/62)
ثم هو الدين الذى تنكر له القائد التركى " مصطفى كمال " وأقصى شرائعه كلها عن الدولة. وبذلك أسس نهضة باركتها دول الغرب وحنت عليها بعد طول خصام.. ومطلوب منا ـ لكيما نظفر بالثمرات التى جنتها تركيا ـ أن نجنح إلى العلمانية وأن نطلق هذا الإسلام تطليقة لا عودة فيها.. وقبل أن أنظر فى هذا الطلب الذى يعرضه السيد " جبران شامية " أحب أن أقول كلمة سريعة: إن التاريخ يوم يكتب على حقيقته سوف يعلم الناس أن " مصطفى كمال " هذا ليس إلا خرافة سياسية كبيرة . وأنه ورث تركيا- وإن هزمت- دولة عظيمة، يعدها العالم فى مصاف دوله الأولى، فصيرها دويلة من التوابع التى تحيا على تسول الإعانات وعلى خدمة أغراض القراصنة والمستعمرين. ومن الخير أن نثبت هنا كلمة للأستاذ " أسامة عيتانى ". قال: " فى الآستانة جماعة من المسلمين الأتراك أصلهم من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام ظاهراً فى " سلانيك " وبقوا متمسكين بيهوديتهم الهدامة ". إنهم يعرفون " بالدونمة " ويعتزون كثيراً بـ " أتاتورك " ويعتقدون اعتقاداً راسخاً أنه منهم!!. وحجتهم فى ذلك أن " أتاتورك " أسفر عن نياته ضد الإسلام حين تولى الحكم ورسخت أقدامه فيه.! فقد ألغى التعليم الدينى، أغلق عدداً كبيراً من المساجد وهدم أحدها فى " هبيلى أغا " لأن العازفين على الموسيقى وقفوا عزفهم احتراماً للأذان..!! .. هؤلاء " الدونمة " يسميهم الأتراك المسلمون (الطابور الخامس) إنهم يتمسكون بشعائر الدين ظاهراً فى سبيل مصالحهم الخاصة بيد أنهم لا يتوانون عن الدس والتهديم كلما سنحت لهم فرصة " أ. هـ. إذن فقد عرف الدور الذى قام به مصطفى كمال!! ص _068(1/63)
إنه ـ و إن سمى مصطفى ـ فهو صنو: " وايزمان " " وشاريت " وأمثالهما من قادة الصهيونية العالمية. وإذا كان ساسة اليهود العلنيون قد اقتطعوا فلسطين من كياننا الدامى الجريح فإن رفاق القائد التركى اليهودى هم الذين يمونونهم اليوم ويمدون أسباب البقاء لإسرائيل، كى تغالب ما حولها من كفاح. وقد قلنا فى موضع آخر: إن الجيش التركى الذى طوح بالغزاة فى البحر كانت مشاعر الإسلام وحدها هى التى تعمل فى نفوسه وصفوفه. وإن مصطفى كمال أرسله السلطان - وكان ياورا له- ليقود المجاهدين فى الأناضول. وإن الأمداد والأعوان وأمال المسلمين فى كل مكان كانت تلتقى فى هذا الميدان الحاسم، حتى إن العوام فى شوارع القاهرة كانوا يسيرون فى مظاهرات تردد نشيداً شعبياً، مطلعه: انهضى يا مصر كى تحمى الهلال لبى نداء المصطفى الغازى كمال وعندما انتصر مصطفى كمال قال شوقى: الله أكبركم فى الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب فلما استقر الأمر له، قلب ظهر المجن وأرى الأتراك والمسلمين وجهاً لم يعرفوه من قبل، وسار فى أمته سيرة لم تربح منها إلى اليوم شيئاً يذكر. *** وبعد ثلاثين سنة من هذا الانقلاب اليهودى التركى يجىء السيد " جبران شامية " ليوصينا أن نصنع صنيعه وأن نتحلل من نصوص ديننا، لأنها لا تلائم هذا العصر. ثم يذكر أن هناك عشرات الموانع تحول دون قيام نظام إسلامى عالمى، أو نظام إسلامى عربى على الأقل. ولو ذهبت تتأمل فى هذه الموانع التى ذكرها لما وجدت إلا أوهاماً جسمها الغرض، وخيالات تمسكها الرغبة الخاصة فحسب. وقبل أن نفند بعض هذه الموانع، نلفت الأنظار إلى خطأ ما يشاع من أن دول الغرب تخلت عن الكنيسة. ص _06 ص(1/64)
فإن إنجلترا لم تفصل الكنيسة عن الدولة بل هى حامية: " البروتستانت ". كما أن فرنسا ابنة الكنيسة الكاثوليكية وحامية: " الكثلكة " فى العالم !.. والسيد " جبران شامية " لبنانى مارونى، والقطر الذى يعيش فيه يعتبر من أبرز الأمثلة على سيادة هذه الطائفة المسيحية وفتكها بحقوق الطوائف الأخرى. يقول السيد " أسامة عيتانى ": ".. لقد جلت فرنسا عن لبنان، ولكن روح الموظفين الذين لازموا عهدها ونعموا بخيراته لا تزال تسيطر على الدوائر الحكومية وتوجه سياسة الدولة بعيداً عن العدل الاجتماعى. توجيهاً يثير الطوائف الأخرى ويشعر بالغبن والتعصب والمصالح الشخصية.. فإذا كان " الموارنة " فى لبنان يرغبون فى التعاون مع مواطنيهم المسلمين.. فما عليهم إلا أن يقلعوا عن سياسة الوطن المارونى المسيحى ويؤمنوا بأن لبنان للجميع، وأن يقولوا ذلك فى بيوتهم وكنائسهم لا بأفواههم وخطبهم ". ويؤسفنا أن العكس هو الذى يقع. فإن الذى يقال - للمسلمين وحدهم- أن العلمانية وتخلى الإسلام عن شئون الدولة هو طريق الرقى وأساس التقارب بين المسلمين وغيرهم. لحساب من يعرض فى مؤتمر الخريجين العرب هذا الاقتراح الخسيس: أن يتنازل أتباع دين كبير عن شريعتهم، ويتناسوا تطبيقها؟! وفى أية ظروف؟ فى أيام يتنادى بنو إسرائيل فيها: أن تجمعوا تحت راية العصبية الدينية وحدها!! وفى أى بلد؟ فى لبنان حيث يتكاثف ثلث السكان الكاثوليك لفرض سطوتهم على بقية الشعب اللبناني دائبين على بناء الوطن القومى لهذه الطائفة وحدها وناهجين فى الداخل والخارج سياسة افتيات وتنكر للكثرة المسحوقة وللجيران المنهوكين...! فى هذه الظروف يعرض على بساط البحث أمام خريجى الجامعات الأمريكية العرب أن تتجه أمتنا إلى العلمانية، لينخلع المسلمون فحسب عن دينهم! وكان الأستاذ " جبران شامية " يدافع عن الوضع القائم فى لبنان ـ برغم مخالفته للعقل والعدل - فيقول: "العلمانية لا تمنع أن يكون رئيس الدولة من(1/65)
مذهب معين ! فكثير من دول الغرب التى وصلت فيها العلمانية إلى درجة تقارب الكمال ـ ص _070
مثل دول أوروبا الشمالية ـ تنص دساتيرها أو تقاليدها على أن يكون رئيسها من مذهب خاص!!!". وفى لبنان يجب أن يكون الرئيس الأعلى من المارون، الذين يزعمون أنهم أكبر طوائف البلاد عدداً! وهذا زعم لا يسانده الواقع! وإحساس المارون بأنهم ليسوا الطائفة الكبرى حملهم على فرض أنفسهم بقوى كثيرة. وإنك لتراهم يمنحون الجنسية اللبنانية على عجل لكل من يطلبها من جلدتهم ولو لم يقطن لبنان إلا أياماً. أما المسلم الذى يقطنها أعواماً طويلة فهو نازح غريب. ومع هذه المحاولات لتكثير طائفتهم فهم ليسوا الطائفة الأولى، فإن المسلمين أكثر منهم عدداً بمراحل بعيدة. بل إن الذين ينتمون إلى " السنة " وحدهم أكبر من المارون. فكيف إذا انضاف إليهم سائر المسلمين، وبقية النصارى العرب من أتباع الكنيسة الشرقية....؟ وخير ما نعلق به على طلب السيد " جبران شامية " أن نكون علمانيين هو ما كتبه الأديب اللبنانى المسلم " أسامة عيتانى ": " إن الوضع الاجتماعى والاقتصادى فى لبنان مبنى على الإقطاع والنفوذ الطائفى !!. هذه حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، ومنصب الرئاسة الأولى فى لبنان يجب أن يكون من حق الطوائف الكبرى وأولاها " الطائفة السنية ". نحن لا نشك فى إخلاص الرئيس! الحالى لقضية البلاد، ورغبته فى إقامة ميزان العدل بين الطوائف، ولكننا فى بلد ديمقراطى كل المناصب فيه عرضة للتغيير والتبديل، ومن حقنا ، كمسلمين أن نطالب بأن تكون الرئاسة الأولى دورية، مرة للسنة ومرة للموارنة، وأن تكون نيابة الرئاسة أو الوزارة لطائفة ثالثة، فالواقع أن نفوذ الرئاسة الأولى يطغى فى كل الأدوار التى عرفها لبنان، على نفوذ الوزارات مهما اختلف رجالها.. ص _071(1/66)
قد يحتج الذين يريدون بقاء هذا الكيان مبنيا على الطائفية بأن الموارنة يشكلون أكثرية فى البلاد، " قل: هاتوا برهانكم "... .. وتعالوا إلى إحصاء دقيق تجريه لجنة من الخبراء الدوليين لا مصلحة لأعضائها فى الموضوع، يعاونهم موظفون نزيهون من بقية الطوائف على قدم المساواة.. ونحن على استعداد لقبول نتائج هذا الإحصاء . .. ويتبع منصب الرئاسة الأولى بقية المناصب ذات الشأن فى هذه الدولة الفتية، لقد فقد المسلمون فى عهد الانتداب بسلبيتهم وتمردهم وابتعادهم عن التعاون مع الفرنسيين أرفع المناصب وأكثر الوظائف، فهل يجوز أن يظلوا محرومين من حقوقهم فى عهد استقلال بنى على نضالهم وجهادهم وتضحيتهم بمصالحهم فى سبيل التخلص من الاستعمار؟. إن مركز الرئاسة الأولى يتبعه مركز قيادة الجيش والأمن العام والمديرون الذين يبلغون العشرين فى جهاز الدولة.. فهل نال المسلمون حقوقهم الشرعية فى هذه المناصب؟؟.. تعالوا أيضاً إلى إحصاء دقيق لهذه المراكز الكبيرة وموظفيها، ونحن مستعدون للتفاهم على ضوء النتائج العادلة التى يفرضها هذا الإحصاء... ". وفى موطن آخر يقول:، غبطة البطريرك يحمل لقب سيد لبنان.. لماذا يا سادة؟؟ إنه سيد طائفته لا سيد لبنان، فللمسلمين مفتيهم، وللشيعة مجتهدهم وللدروز شيخ عقلهم، وللروم الكاثوليك بطريركهم.. وللروم الأرثوذكس كذلك. فلكل راع، وكل راع مسئول عن رعيته.. ويتحرك موكب " سيد لبنان " من " الديمان " إلى، بكركى للإشتاء.. ومن " بكركى " إلى " الديمان " للاصطياف.. فتتحرك معه الدولة بما فيها من محافظين وقائمقامين وموظفين، وتتحرك القوى والأرياف، فتنصب أقواس النصر ، ويحتشد الألوف على الطرقات التى سيمر بها الموكب ويوضع البروتوكول الخاص فيتقيد به محافظ المنطقة وقائمو مقاميها وكبار موظفيها!!. ويسير الموكب كما كانت تسير مواكب الغزاة الرومانيين أيام الإمبراطورية. وينتقل سماحة المفتى من مشتاه فى " بيروت " إلى مصيفه فى(1/67)
" بحمدون " وبالعكس، دون أن يعلم به أحد، ودون أن يتحرك له ركاب رسمى أو غير رسمى. وهكذا شيخ العقل للدروز، وقاضى المذهب الجعفرى للشيعة، وبطريرك السريان والروم وغيرهم من كبار رجال الدين. امتيازات واستقبالات تمنح للبعض وبحرم منها البعض الآخر " أ. هـ. *** ص _072
فى هذا الجو الخانق بدخان التعصب، القائم فعلا على تسخير الدولة لطائفة معينة يقال لنا وحدنا كونوا علمانيين وأبعدوا الإسلام عن كل سلطة. ويمضى السيد " جبران شامية أ ليسوق الحجج القاطعة على استحالة قيام دولة عربية إسلامية فيقول: " تتجمع العقبات دون قيام الدولة العربية الإسلامية فى أن الإسلام نفسه ينقسم سياسيا!! !إن كان متحداً روحياً!! فهناك الانقسام الرئيسى بين السنة والشيعة والخوارج. والانقسام الفرعى بين الفرق التابعة لكل مذهب... " أ. هـ. هكذا يقول السيد " جبران " وهذه الانقسامات المهولة احتمى المسلمون بها وبرئ النصارى منها، ولذا صح قيام وطن قومى مارونى من القلة القاطنة فى لبنان، واستحال قيام نظام إسلامى من الكثرة المهضومة. ولا أدرى كيف أصف هذه العوائق الموهومة، أو كيف أزن هذا الدليل.. فلأتركه لعقول الناس . وثم مانع آخر من قيام الدولة العربية الإسلامية يذكره لنا الباحث المنصف. هو أن الإسلام يستهدف! خضوع غير المسلمين للمسلمين فى النواحى المدنية والسياسية والاجتماعية، ويجعل منهم طبقة غير مساوية للمسلمين فى الحقوق والواجبات، وغير قادرة على الاندماج فى المجتمع الإسلامى إلا إذا تخلت عن دينها.. ". وهذه عبارات مليئة بالسموم والجرأة على الحق، ولا يعدل ما فيها من باطل إلا ما فيها من كنود. فإن غير المسلمين ظلوا دهوراً بين الجماهير المسلمة وهم فى الحقوق والواجبات العامة على قدم المساواة مع المسلمين.. فى أحلك العصور ظلاماً وأوغلها فى التعصب، نجا اليهود والنصارى من المجازر التى كانت تجتاح إخوانهم فى أوروبا. بل إن نصارى لبنان خاصة آخر من(1/68)
يشكو معاملة المسلمين، فإن هناك عرباً وسلاجقة تنصروا ليفروا من قسوة سلاطين الترك على خصومهم السياسيين، ولينعموا بالامتيازات التى يستمتع بها النصارى المسمون أهل الذمة. ص _073
من هؤلاء أسرة آل شهاب المعروفة جيدا فى لبنان . فهل عقبى تدليل القلة المجاورة لنا من أهل الكتاب أن نؤوب أخيرا بوصف نحن أبعد الناس عنه، وهو أننا نتعصب ضدهم؟؟. قال " أحمد محرم لما يصف الإسلام وينصفه ويدعو إلى الوئام والاتحاد: هذى مواقفنا فى الدهر ناطقة فاستنبئوها تريحونا من التهم لا تظلموا الدين إن الدين يأمرنا بما علمتم من الأخلاق والشيم منا ومنكم رجال لا حلوم لهم ولا يفيئون للأديان والحرم أنتم لنا إخوة لا شىء يبعدنا عنكم على عنت الأقدار والقسم! ليس اللجاج بمدن من رغائبنا ولا الشقاق بمجدينا سوى الندم يا قوم ماذا يفيد الخلف فاتفقوا وقوموا أمركم بالحزم يستقم صونوا العهود وكونوا أمة عرفت معنى الحياة فلم تعسف ولم تهم وقال أيضا: كذب الوشاة وأخطأ اللوام أنتم أولو عهد ونحن كرام حب تجد الحادثات عهوده وتزيد فى حرماته الأيام وقال أيضا: يا أمة الإنجيل آمنا به ما بالنبى ولا المسيح جحود الدين فى أمر ونهى واحد والله جل جلاله المعبود دنيا الممالك لا تحدو دينها وقف على ديانها محدود " وقال حافظ إبراهيم " فيما يشبه هذه القضية التى يقف فيها " المارون " موقف التعصب والتحامل رغبة فى الاستئثار بالأمر فى لبنان: فهموا من الأديان ما لا يرتضى دين ولا يرضى به من يفهم ماذا دعا قبطى مصر فصده عن ود مسلمها وماذا ينقم؟ وعلام يخشى المسلمين وكيدهم والمسلمون عن المكايد نوم!! قد ضمناكم الحياة وكلنا يشكو، فنحن على السواء وأنتم إنى ضمين المسلمين جميعهم أن يخلصوا لكمو إذا أخلصتم! ص _074(1/69)
ولكن قبح الله الغزو الأوروبى فهو الذى جيش ضدنا هذه المفتريات وأغرى المتعلمين فى معاهده أن يعاملونا بهذا الأسلوب النابى. *** وأخطر ما ينتهى به هذا المسلك موقف العرب من قضية فلسطين، فإن السيد " جبران شامية " يقترح لحلها أن تقوم سياستنا على " تقدير الحاجة الدولية إلينا تقديراً مضبوطاً فلا نشتط بمطالب لا يمكن تحقيقها، ولا نبخس قيمتنا فنبيع أنفسنا بيعاً رخيصاً". ومن ثم فهو يقترح ما يأتى: (أ) " تجميد الوضع الفلسطينى على حالته الحاضرة والكف عن المحاولات المستمرة لإجراء صلح بيننا وبين إسرائيل حتى ينشأ الاتحاد العربى الكفيل بحل القضية الفلسطينية. (ب) التوقف عن مساعد ة إسرائيل عسكرياً ومالياً واقتصادياً وسياسياً مساعدة لا تتناسب مع عدد سكانها أو مع مواردها والإقرار بأنها لا يمكن أن تعيش إلا برضانا" أ. هـ. إن السموم المتفشية فى هذه العبارات لا تخفى على ذى بصر، ولكل عربى مخلص فى عروبته وفى لمستقبلها أن يتساءل: ما معنى أن تعيش إسرائيل برضانا؟ ما معنى " أن تساعد بنسبة عدد سكانها ومواردها عسكرياً واقتصادياً؟ ما معنى تجميد الوضع الفلسطينى على حالته الحاضرة؟ ودعك من الفضول التى حشى بها الكلام ليخف ألم وقعه على الضمائر الحية.. أهذا ما عقد المؤتمر الدائم للخريجين العرب كى يقتنع به ثم يقنع العرب والمسلمين بجدواه؟ نعم. هو ذاك عندما كان فى حضانة حفنة من الرجال المؤمنين بالغرب، المرتبطين روحياً وثقافياً بمصالحه وقضاياه.. ص _075(1/70)
هل عرفت سر الدعوة إلى العلمانية ؟ إن جوها المحلول المائع هو الذى يتيح لإسرائيل أن تبقى فى ضمانة من رضانا نحن العرب..!! وعندما تبقى فى حدودها الآن، أى عند خطوط الهدنة فلا بأس أن تعان بما لا يمكنها من توسع جديد.. والذى يعينها هو الذى أوجدها، وقد ينضم إليه من رضى بوجودها كذلك...!! والحق أن عبارة تجميد الوضع الفلسطينى، هى تعبير يرادف ما صرح به السيد " إميل البستانى " الأمين العام لمؤتمر الخريجين، فقد ذكر فى كتاب (العرب والغرب) أن قضية فلسطين ينبغى أن توضع على الرف - وإن تعلل لهذا الوضع على الرف - بأنه إلى أن يستكمل العرب قواهم!! ولما كان طريق استكمال القوة عنده لا يجىء إلا من الغرب، والغرب وحده...!!! ولما كان هذا الغرب هو الذى خلق إسرائيل، وهو الذى يمدها ويغريها ويدفع عنها ويخاصمنا من أجلها فالنتيجة المحتومة أن قضية فلسطين ستركن على الرف إلى الأبد، أو ستجمد ـ كما يقول السيد "جبران " ـ داخل المصير الذى انتهت إليه عند خطوط الهدنة . إننا نطالب رجالات لبنان فى ميدان الثقافة والسياسة أن يكونوا عربا مخلصين للعروبة ولقضاياها، وأن يسرى فى أفئدتهم الحزن الذى يشملنا للعرب اللاجئين، والغضب الذى يجمعنا لتأمر الأقوياء على إضاعة فلسطين. إن اتجاههم الروحى إلى الغرب خروج تام على مقتضيات العروبة فى أيام قرر الغرب فيها أن يناصر اليهود، وأن يقيم دولتهم على أنقاضنا. إن كل مشتغل بالشئون العربية لاحظ ما فى مسلك لبنان من ريبة. وقد غمز الأستاذ " محمد التابعى " هذا المسلك بكلمة جاء فيها: " إن لبنان لم يسفر بعد - حتى اليوم- عن سياسة محددة صريحة. لأنه لا يزال (يتريث)!. ص _076(1/71)
وسياسة (التريث) هذه سياسة مبتكرة وردت أول ما وردت على لسان وزير خارجية لبنان الأسبق السيد " ألفريد نقاش ".. ثم وردت فى بلاغ رسمى أو شبه رسمى عقب الجلسة التى عقدها مجلس وزراء لبنان منذ شهر تقريباً برئاسة فخامة الرئيس " كميل شمعون "- وقد تغيب عن الجلسة رئيس الوزراء السيد! رشيد كرامى!. وقال البلاغ الرسمى يومها: إن مجلس الوزراء قرر (التريث) فى عقد الميثاق العسكرى الثنائى مع سوريا.. ولا يزال (التريث) قائما حتى ساعة كتابة هذه السطور! ". وأحب أن ألخص هنا الحالات التى (تريث) فيها لبنان.. والحالات التى لم (يتريث) فيها: * تريث فى عقد الميثاق الثنائى العسكرى مع سوريا!.. * وتريث فى مكافحة تهريب البضائع الإسرائيلية!.. * ولكنه لم يتريث فى وضع حد لنشاط الفدائيين الذين كانوا يتسللون من أراضى لبنان إلى إسرائيل ليقوموا فيها بعمليات تخريب واسعة النطاق. لم تتريث هنا حكومة لبنان بل بادرت فوراً وحشدت جيشها على طول الحدود وأمرت بإطلاق النار على كل من يحاول التسلل عبر الحدود. * ولم تتريث حكومة لبنان فى الاستجابة إلى طلب حكومة إسرائيل الخاص بالسماح لقصاصى الأثر بدخول لبنان وتتبع آثار الفدائيين . لم تتريث حكومة لبنان بل بادرت، وأذنت، وسمحت على الفور! *** والآن قارنوا بين الحالات التى (تريثت) فيها حكومة لبنان. والحالات التى رفضت أن (تتريث) فيها.. واخرجوا بالجواب على هذا السؤال.. أى النفوذين أو أى الكلمتين أعلى وأقوى فى لبنان؟ " أ. هـ. ص _077(1/72)
وهؤلاء القوم يصطنعون الخبرة الواسعة والإدراك الدقيق لواقع العالم العربى والسياسة الغربية. ويسخرون من مشاعر الحماس والرجاء التى تدفع الأمة العربية إلى رفض الاستسلام للواقع المر، والإصرار على تحقيق مطالبها مهما تعرضت له فى سبيلها... وقد كتب السيد " لبيب زويا " رسالة مبهمة فى التنديد بما أسماه " السياسة العاطفية " أعدت هى الأخرى للمناقشة فى الدورة الثانية، لولا أن الله سلم، ختمها بهذه الجمل: "... إذا كنا واقعيين فى نظرتنا إلى العلاقات الدولية ـ ويجب أن نكون كذلك ـ يصبح من الضرورى أن نفهم واقع العلاقات الدولية، وأهمية العمل العقلى فى تسييرها والنتائج العملية الصادرة عن ذلك: فالعلاقات الدولية هى علاقات قوى بنيت فى أساسها على المصالح. والعمل العقلى هو الطريقة الصحيحة لتعيين هذه المصالح وتحقيقها. إن النظرة الواقعية كفيلة بأن تكسر الدائرة المفرغة التى ندور ضمنها. فنبدأ حيث يجب أن نبدأ، أى من مصالحنا. معتمدين على العمل العقلى وحده. .. عند ذلك يكون لموقفنا السياسى وزن ومعنى " أ. هـ. ولست أدرى بالضبط هل تختلف مصالح العرب عن مبادئهم؟! أو هل تختلف عواطفهم عما يقتضيه المنطق السديد؟! إننا بعقولنا وقلوبنا نمقت العدوان اليهودى. ونمقت الصليبية الغربية التى تغذيه وتنميه . ونكره كل محاولة لجعل الشرق الأوسط ذنباً لدول الميثاق الثلاثى. ونستنكر نيات الغدر المبيتة لديننا وعروبتنا. وخير ما نعلق به على كلام السيد " لبيب زويا " كلمة الأستاذ " أحمد حسن الباقورى " رئيس الوفد المصرى الذى حضر الدورة الثانية لهذا المؤتمر إذ قال: ص _078(1/73)
" لقد كسب العرب من وراء هذا المؤتمر أن اختفت تلك الصيحات التى كانت تهتف دائماَ بما يسمى الواقعية، وتحكيم العقل، والتخلص هن أحكام العواطف. فإن كثيراً من ساسة العرب كانوا يرددون فى بلادهم وبين شعوبهم كلمات احترام العقل الوقور والخضوع للواقع الرشيد ". وقد كانت هذه الكلمات من أشد ما يثير نفوس المتحررين ويدفع بها إلى أشد الضيق. والحق أنه لا توجد فى دنيا الناس كلمة آلم للنفوس من كلمة احترام الواقع، فلو كان كل واقع يجب احترامه لوجب أن نحترم اغتصاب اليهود فلسطين، فإن هذا الاغتصاب أمر واقع. ثم لوجب أن نحترم التفرقة بين الأجناس والألوان مع تساوى المعنى الإنسانى فى أنفس عباد الله جميعا، لأن هذه التفرقة أمر واقع . ثم لوجب أيضاً احترام احتلال الأقوياء للأمم الضعيفة واستغلال مواردهم، واستعباد نفوسهم، لأن هذا كله من الأمور الواقعة... ولا نظن أن دعاة احترام الواقع يقولون بهذا القول أو يسلكون هذا السلوك، فإن معنى ذلك الدعوة الصريحة إلى استسلام الضعفاء للأقوياء والمغتصبين للمغتصبين، ولا يوجد عقل يحترم هذا المنطق، لأنه لا يوجد لسان يقول هذا المقال. وهذا ما يتوقع من الأستاذ " الباقورى " فى الرد على ما رأى من رضا بالهزيمة، واستهانة بقضايا العروبة. *** كان خريجو الجامعات الأمريكية يبغون تسيير دفة المؤتمر المشتغل بقضايا العروبة فى اتجاه يستريح له ساسة الغرب. وفى سبيل هذا طلبوا من الأمة الإسلامية أن تقتفى أثر تركيا فى " العلمانية " المجردة. وتركيا هى التى تؤيد بقاء إسرائيل فى الشرق الأوسط، وهى التى خذلت الجزائر العربية المجاهدة ونصرت عليها فرنسا التى تريد " تغريبها وتنصيرها ". إن أول نتائج العلمانية، أن نخون تاريخنا ولغتنا ونتخلى عن آمالنا وقضايانا، ونطرح ـ قبل ذلك ـ ديننا ورسالتنا!! ص _07 ص(1/74)
إن العلمانية التى يطبل لها فريق من الصحفيين المريبين تعنى ـ فيما يتبادر إلى الأذهان ـ إطراح الأديان جانباً والإقبال على تنمية المصالح القومية المشتركة، على أساس المغالاة بالخصائص الجنسية الواحدة.. ودعك من أن إطراح الأديان هنا لا تفسير له إلا إطراح الإسلام وحده.. ولننظر: هل أولئك العلمانيون مخلصون فى عروبتهم نفسها أم أن الأمر كله لا يعدو الخادعة لنقل بلادنا إلى الغرب، أو نقل الغرب إلى بلادنا على حساب العربية والتضحية بها؟. إن الدكتور " طه حسين " تحدث فى الإذاعة عن ضرورة استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية . وتبعه فى صحيفة الأخبار الخواجة " سلامة موسى " الذى أخذ يستهزئ ببعض قواعد التصريف فى لغتنا، ويصف اللغة اللاتينية بأنها لغة العلوم والفنون... هؤلاء، هم العلمانيون، وهذا مدى تعلقهم بالعروبة.. ومن أحقر المقارنات التى رأيتها المقارنة التى عقدها " سلامة موسى " بين قواعد التصغير فى لغتنا وبين تفجير الذرة، مشيراً بهذا إلى تأخرنا!! كأن اللغة الفرنسية وغيرها ليست متخمة بالقواعد الكثيرة وعشرات الحروف التى لا تنطق مع وجوب كتابتها. تلك هى العلمانية وهذه نيتها نحو العروبة. *** ومع أن الوفد المصرى أنقذ المؤتمر من هذه المنكرات، إلا أن لى ملاحظات على الطريق التى سار فيها. لقد رفع راية العروبة، وهذا حسن، فإن المحافظة على هذه العروبة- كما أوضحنا آنفاً- يدفعنا إليها، نحن المسلمين، تمسكنا بأصلنا، وتعصبنا للغتنا وتاريخنا.. ويدفعنا إليها كذلك حرصنا على إسلامنا وقرآننا. والنصارى العرب يشركوننا فى المعنى الأول، ولا مكان لتفاضل فيه بين فريق وفريق، بل نستطيع التعاون فى ظله إلى مدى بعيد. ص _080(1/75)
وهذا التعاون ليس مستحدثا فى هذا العصر، بل هو امتداد لما كان فى أعصار مضت... بيد أن العروبة لا تفرض على المخلص لها أن يترك نصرانيته أو إسلامه. وقد كنت أستغرب من الرياسة الجديدة للمؤتمر ومن هيئة المكتب المشرفة على نظامه أنها شديدة الحرص على إبعاد أية شاردة دينية عنه. سبحان الله! ما أزهدنا فى إسلامنا وفى شعائرنا كلها..!! فما ذكر اسم الله حتى فى كتاب أعمال المؤتمر، على حين كان يجب أن تفتتح الجلسات باسم الله، وأن يستعان به كلما احتدم النقاش، وتوترت الأعصاب، وأن يحمد أخيراً على ما وصل إليه المؤتمر من قرارات وأن... وأن... لكن الله ما ذكر فى صلاة، ولا شأن من الشئون. وعلى كل حال، فإن الحفاظ على أمانى العرب وحراسة بلادهم من الاستعمار كسب وإن كان محدوداً فهو جدير بالتنويه والثناء. *** لندع حديث المؤتمرات التى خاصمت الإسلام بهذا الأسلوب الأدبى اللطيف، ولنلق نظرة سريعة على ميدان آخر يذبح الإسلام فيه بالسيف. ومن الخير تذكير قرائنا أن هذا الكتاب طبع لأول مرة من نيف وعشرين عاماً، ومع مرور هذه السنين فإن أحكامنا لم تتغير ونظراتنا إلى الأمور لم تزدها الأيام إلا صدقا. ص _081(1/76)
دسائس الاستعمار الغربى منذ قرن ليس شىء أحق بالزراية من حروب الفتح والتوسع. سواء كانت هذه الحروب إشباعاً لنزوات فرد مغرور كما حدث فى العصور الأولى، أم كانت إشباعا لمزاعم شعب طامع كما يقع فى حروب الاستعمار الحديث. إن سفك الدم الواحد جريمة تهتز لها الأرض والسماء، فكيف بمن يشعل المعارك الطاحنة، ويسوق لخوضها الألوف المؤلفة، ولا يبالى أن تتمخض عن جماهير غفيرة من الضحايا واليتامى والأيامى ؟ إن الله برىء من هؤلاء الجزارين، وإن لعنته الكبرى لتتبعهم إلى يوم الدين. وقد بليت الأديان بنفر من أولئك الحكام الغلاظ، استهوتهم الأمجاد الخاصة وأغراهم السلطان المطلق، فأداروا رحى القتال فى ميادين شتى ولم يعجزهم أن يستروا أثرتهم هذه وراء أستار من النيات الحسنة والمقاصد المشروعة. والله يعلم أنهم ما أحسنوا فى حرب ولا سلم ، وأنهم ما أرضوه فيما تحت أيديهم من أرض ورعية. فكيف يرضونه فيما هو أبعد من ذلك متناولا..!! هل تعرف خديوى مصر " إسماعيل " باشا؟. إنه الرجل الذى مهد وادى النيل للاحتلال الأجنبى، واجتاح أموال العباد ليهلكها فى شهواته ومباذله، ونظر إلى أوروبا نظرة الحيوان المنهوم، فلم يرقه منها إلا الفسق عن أمر الله، فقرر أن يجعل مصر قطعة من أوروبا. ليس لهذا الرجل صلة تذكر بالدعوة الإسلامية. والبلاد التى فتحها أو حاول فتحها، هى أرض يزين بها تاجه، ويرضى بها تطاوله، مهما ضاع فى هذه السبيل من رجال وأموال. ولقد وقفت طويلا عند حملاته العسكرية على الحبشة فأسفت لها، وحزنت للضحايا البريئة التى ذهبت هدراً فى هذه البلاد. ص _082(1/77)
وآذانى أن ألوفا من فلاحينا الطيبين يقادون إلى حتوفهم على النحو المخزى الذى رسمه " التبشير الفرنسى " و" النفوذ الأمريكى " و" الجشع التركى ". أجل فإن هلاك جيشنا فى جبال الحبشة تم نتيجة مؤامرة محكمة، اشتركت فيها هذه الأطراف كلها، وباءت عند الله والناس بإثمها!!! أعرف أن فى الحبشة كثرة مسلمة مضطهدة، وأن التعصب الحالك يحرمها أيسر الحقوق، وأنها بحاجة إلى قن يكشف عنها ما ينزل بها من كروب . ولكن شيئاً من ذلك ما كان يجول فى خاطر الخديوى وهو يغزو الحبشة. ذلك أنه كان يوقع بالمصريين أمثال هذه المظالم. والمستبدون -وهم يضخمون نفوذهم- لا يكترثون بالأديان وتعاليمها ولا بالأمم ومذاهبها. إن الأتراك فتحوا القاهرة يوم كانت عاصمة إسلامية، كما فتحوا القسطنطينية يوم كانت عاصمة نصرانية. والقول بأن هذا التفوق الحربى لون من الجهاد فى سبيل الله، هو لا شك ضرب من الهراء. فالجهاد شأن آخر، له شروطه، وله أهله، وله مجاله، وله ثمراته على الحالين، من نصر أو هزيمة، وفى الحياتين من معاش أو معاد....!! أمر الخديوى " إسماعيل " بغزو الحبشة، وأرسل جيشاً مصرياً مكوناً من ثلاث فرق، جعل قائده العام " راتب " باشا. وأوصى الخديوى قائده أن يتقيد برأى الجنرال " لورنج " رئيس أركان الحرب. وهو "أمريكى" التحق مع نفر من بنى جنسه بخدمة الخديوى لأغراض استعمارية فكان دوره فى الجيش المصرى كدور الجنرال " جلوب " فى الجيش العربى. كلهم أروغ من ثعلب!! ما أشبه الليلة بالبارحة!! وكان الضابط المصرى " أحمد عرابى " مشتركا فى هذه الحملة. وعن مذكراته التى نشرتها " دار الهلال " نسوق وقائع وجيزة عن هذه المأساة أو المهزلة. ص _083(1/78)
".. زحف الجيش وروحه المعنوى فى الحضيض! ما الذى يغريه بالقتال؟ إن الأقوات التى يحملها، والدواب التى تنقله، أخذت اغتصاباً من الفلاحين المساكين! ". وهؤلاء الجنود جمعتهم السلطة الباطشة على كره، فما يبغى أحدهم أن يسير فى هذا الوجه. وللناس فى ظل الاستبداد السياسى أحوال متناقضة، كل امرئ منهم ناقم مغيظ إذا خلا بنفسه، فإذا اجتمع بغيره رسبت ثورته فى أعماقه وأظهر مكانها الرضا، فهم كما قيل: على الذم باتوا مجمعين وحالهم -من الذعر- حال المجمعين على الحمد أما القائد " الأمريكى " المأجور فقد عرف وظيفته جيداً، عرف أنه مكلف بسوق هذا الجيش كله إلى المجزرة. ومن ثم لم يرسم له خطة حرب ولا خطة نجاة: قال أحمد عرابى: " وكان أحد القسس الفرنسيين المبشرين فى بلاد الأحباش يتردد كل يوم على رئيس أركان الحرب " الجنرال لورنج " مستطلعاً أحوال الجيش المصرى حتى علم بمقداره، واتفق معه على الحركة الحربية التى تؤدى إلى هلاك الفرق المصرية عند الصدمة الأولى ". وعن طريق هذا القسيس المبشر تصل المعلومات العسكرية إلى الملك " يوحنا " ملك الحبشة. وعلى ضوئها يتقرر مكان المعركة وزمانها. قال أحمد عرابى: " فلما علم الجنرال بأن الملك " يوحنا " فرغ من ترتيب جيشه على مقربة من " قياخور" طلب من القائد العام الخروج من قلعة " فرع " فى صباح يوم 13 سبتمبر سنة 1876 م. فخرجت سبع فرق مشاة وبطاريتان من المدفعية إلى النقطة التى اتخذت ميداناً للقتال وهى على بعد ميلين من "قياخور". وكان ترتيب فرقة المشاة على شكل طابور من المدفعية على اليمين، ووراءهم جبل، وأمامهم خور عميق، لا ماء فيه، كأنه خندق طبيعى. ص _084(1/79)
وكان هذا الخور ملتفاً حول الجبل من الميمنة والميسرة. فظنوا أنهم بهذا الخور فى حرز منيع من هجوم العدو عليهم. وكان " مكلس بك الطليانى " من أركان الحرب، قد توجه من قبل بالفرقة الأولى من آلاى عثمان بك غالب وبكباشى أحمد أفندى شعبان، وعسكر خلف الجبل المذكور، بحيث لا يرى ميدان القتال، ولا يعلم أحد سبب وضع فرقته خلف ذلك الجبل!! واستعد جميع أركان الحرب الأوروبيين والأمريكيين للملحمة، فألقوا جانبا طرابيشهم الرسمية، ولبسوا قبعاتهم، ثم ربطوا فى أعناقهم مناديل بيضاء إشارة إلى أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم الخطر عند اختلاط الجيشين على حسب الاتفاق مع القسيس السابق ذكره..!! وبعد أن أخذ كل من الجيشين مكانه ورتب رجاله ابتدأ جيش الحبش بإطلاق المدافع، وكان معه ثمانية مدافع أهديت إلى الملك " يوحنا " من رئيس الحملة الإنجليزية مكافأة له على مساعدته الإنجليز فى محاربة الأحباش فى عهد الملك، "تيودور" الذى انتحر فى قلعة (مجدلة) بعد انخذال جيشه. وخلفه " يوحنا " على عرش الحبشة ـ وإن لم يكن من بيت الملك ـ بل كان رئيساً للأشقياء وقطاع الطرق. وكان معه كذلك ستة مدافع مصرية غنمها فى هجومه على " أراكيل " بك، فآخذت المدفعية المصرية فى قذف الأحباش بنار حامية. وعندئذ قسم الملك " يوحنا " جيشه إلى ثلاثة أقسام : فذهب قسم إلى خور يخفيه عن عدوه، ثم دار على يمين المصريين بالأسلحة البيضاء. وقسم ذهب شمال المصريين فى خور أيضاً، ومعه الحراب والسيوف. وقسم مسلح بالبنادق، قصد القلب مستتراً بالأشجار الملتفة وأعواد الخيزران المتشعبة. جرى كل هذا تحت مرمى المدافع المصرية الساكتة!. ولم تكد الأحباش تقترب من العساكر المصرية حتى أطلقوا عليهم ناراً شديدة. ص _085(1/80)
ثم اشتبك الجيشان فى قتال عنيف هجمت فيه ميسرة الجيش على ميمنة المصريين بالسلاح الأبيض من خلفهم بقوة عظيمة، فأفنوا رجال المدفعية فى طرفة عين، واختلطوا بالألاى الأول اختلاطاً هائلا، فانهزمت العساكر المصرية، وسلموا ظهورهم لحراب العدو، واندفعوا إلى الشمال بدون انتظام..!! وأحاطت الأحباش بفرقة " أحمد شعبان " التى كانت خلف الجبل على حين غرة. فقاتل برجاله قتال الأبطال حتى فركت ذخيرتهم الحربية. ثم قاتلوا بالسونكى (أى حراب البنادق) حتى ضعفت قواهم وخارت عزائمهم، واشتد بهم العطش فأفناهم عن آخرهم. وكان رصاص بنادق الفرق المذكورة يصل إلى خط القتال، فأصاب كثيراً من المصريين من بينهم المرحوم (راشد باشا راتب) رحمه الله تعالى . أما " محمد جبر " حكمدار الآلاى الأول ، فقد انضم إلى فرقة البكباشى " محمد أفندى على " الذى ثبت فى مكانه، ورتب رجاله على شكل قلعة، ثم قاتلوا الأحباش بشجاعة مدهشة، حتى فرغت ذخيرتهم الحية، فاستعملوا حراب بنادقهم حتى خارت قواهم واختلط بهم الأحباش، فأفنوهم جميعهم. رحمهم الله تعالى!!! وأما باقى الفرق فكانت مندفعة فى هزيمتها كالسيل الجارف، والسيف يعمل فى فى أعناق رجالها من خلفهم. ومن ألقى بنفسه فى الخور المذكور، قتله الحبش من القسم المعين للميسرة. وما زالوا كذلك حتى أفنوهم عن آخرهم إلا من كان على رأسه قبعة أو فى عنقه منديل من أركان الحرب أو من أسرع به جواده كـ"راتب باشا "و" حسن باشا"ابن الخديوى "إسماعيل". واغتنم الأحباش الأسلحة، والذخائر الحربية، والأموال، وملابس العساكر، وما معهم من حلى وساعات ونقود، بعد أن قتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا " أ. هـ. *** ص _086(1/81)
وهكذا اندحر الجيش المصرى، بل هكذا فنى رجاله الأبرياء فى معركة أشرف عليها أولا وآخراً زبانية الاستعمار الغربى . قائد أمريكى خائن، ومبشر فرنسى جاسوس، وحاكم تركى غر، وأحقاد صليبية يقظة... وبعيداً عن مصر بآلاف الأميال كان أبناء الفلاحين الملتاعين بين الخامسة عشرة والثلاثين سنة يذبحون جماعات جماعات، ويتساقطون كورق الخريف اليابس هبت عليه رياح هوج.. مسكينة أمتنا هذه كم لقيت من عسف الملوك..!! لم هذا الإرخاص الدنىء للرجال والأموال؟. قد تقول ـ ومن حقك أن تقول ـ : إن الأحباش دافعوا عن أرضهم، وردوا بالسيف من حاول العدوان على وطنهم. ليكن ذلك! فإذا تيقظ أهل مصر، ورأوا الخلاص من الملك الذى جر عليهم هذه المحن، فما تدخل الإنكليز وأحلافهم لحماية العرش الفاسد، وإكراه أهل مصر على الخضوع له؟؟. عندما تمرد الجيش على الخديوى " توفيق " أسرعت إنجلترا إلى إنزال قواتها بأرضنا لإرغامنا على قبول هذا اللون من الحكم الفاسد. ما السر فى ذلك؟ ما بواعث هذه السياسة الفاجرة؟. الواقع أن تصرفات " إسماعيل " وابنه، وأمثالهما من حكام الشرق الإسلامى تدور داخل الحدود التى يرسمها الاستعمار الأجنبى، وأن حملة الحبشة وغيرها لم تكن إلا بعض الخطط المبيتة المدروسة لتضليل سعينا وبعثرة قوانا، وإماتة نهضتنا. ولا شك فى أن إغراء كثيراً أحاط: " بالخديوى " المغرور، ليرسل الجيش إلى مصرعه بالحبشة على النحو الذى رأيت. وأن إنجلترا وفرنسا وأمريكا تحمل الوزر الأكبر فى تدويخ المسلمين، وملء طريقهم بالعقبات الكؤود. كلما نجوا من واحدة ارتطموا بأخرى. ص _087(1/82)
ولولا المتاعب الهائلة التى ترمينا بها هذه الدول لأحرزنا من التقدم فى أعوام، ما عجزنا عن نيله بعد قرن من الزمان. وإليك مثلا من مساندة الأمريكان الخفية والجلية للضغط الأجنبى على بلادنا. " قدم " تيودور روزفلت " رئيس الولايات المتحدة الأسبق إلى مصر فى مارس سنة 1 ص 10 بعد أن زار السودان، وبعد أن ألقى فى عاصمته " الخرطوم " خطبة سياسية خطيرة أثنى فيها على الإنجليز، ومجد احتلالهم لوادى النيل.. وكان الرجال الأحرار فى هذه الآونة العصيبة يكافحون بطش الدولة المعتدية ويند دون بآثامها، ويرفعون عقائرهم بضرورة خروجها، وينشدون لبلادهم حرية فى الداخل والخارج، تقضى على كل بقية للاستبداد السياسى، وتقيم نظاماً ديمقراطياً جديداً ينعم الجميع فى ظلاله..!!! لكن الرئيس الأمريكى لم يستح من إلقاء خطبة أخرى فى الجامعة المصرية يعارض فيها حركة المطالبة بالدستور، ويقول: " إن تربية الشعب -لكى يصبح صالحا لحكم نفسه- تتطلب أجيالاً متتابعة. وقبل أن تتم هذه التربية فستكون نصوص الدستور حبراً على ورق.. " والذى يقوم على تربية الشعوب لتصلح للنظام الدستورى هم- فى نظر الرئيس الأمريكى- المستعمرون المعتدون، والحكام القاسطون..!! إن الأمة تمرن على الحرية فى ظل الحرية لا فى ظل الكبت. وتعرضها للخطأ والصواب هو الذى ينادى بها إلى الرشد فى نهاية الطريق وقد كانت حجة الاستعمار فى فرض وصايته على الأمم المستضعفة أنها دون المستوى المطلوب للحرية . ولعل أدل شىء على صدق حجته أنه ما دخل بلداً فيه نبت للتقدم إلا اقتلعه وأنه يحول الأمم المنكوبة به إلى قطعان تكدح له وتموت من أجله.. والغريب أن الجامعة المصرية منحت الرئيس الأمريكى لقب الدكتوراه الفخرية! مما أثار هياج الجماهير فانطلقت المظاهرات تنادى بسقوطه حيث كان ينزل فى فندق " شبرد ". ص _088(1/83)
وظلت تتابعه حتى سافر من الإسكندرية عائداً إلى الولايات المتحدة حليفة الديمقراطية الكبرى وحارسة الحريات فى العالم..! *** ويمكن القول: إن جولة الرئيس الأمريكى " تيودور روزفلت " فى ربوع وادى النيل كانت تبشيرية. وإن الضغائن التى انتقلت من أوروبا إلى العالم الجديد -ضد الإسلام وأهله- كانت تتبع هذا الرجل وهو يتحدث فى الخرطوم وفى القاهرة. وتستطيع أن تتفرس فى أعماله وأقواله سيرة الجنرال الأمريكى الخائن " لورنج " بطل مآسى الحبشة. ذلك أن مجيئه حرك العناصر المريبة، وأمدها بقوة جديدة فى التحرش بالإسلام وأمته. وليس من قبيل الاغتباط أن يلقى هذا الرجل خطبته الآنفة ثم تكتب " جريدة مصر " الطائفية المعروفة مقالا فى تأييدها له بدأته بهذه العبارة: " لم يدو فى جو مصر خطاب أبلغ من الخطاب الذى ألقاه المستر " روزفلت " أمس فى الجامعة المصرية، ولا أصرح منه عبارة ولا أنفع لها فى الحال والاستقبال. وقد قوبل من جميع الطبقات بالإعجاب التام، لأنه صدر عن إخلاص صحيح، ورغبة تامة فى خير البلاد..!! " ولم تكن الصحف الوطنية الإسلامية -وهى تخاصم الاحتلال الأجنبى- بجاهلة هذه التيارات الرديئة، أو غافلة عن التيارات التى يلقح بعضها بعضا. فى كراهية الإسلام، والتآمر على مستقبله. فشنت حملة شعواء على مؤيدى التدخل الأمريكى، وفضحت ما يعتمل فى نفوسهم من تعصب ذميم. ومع ذلك عادت " جريدة مصر " تثرثر بدفاع مريض، عن الأشخاص الذين اتصلوا " بروزفلت " أو اتصل بهم " روزفلت " وأوحوا إليه أن يقول ما يقول... ص _08 ص(1/84)
وها قد مضت تسعون سنة على مهلك جيشنا فى الحبشة، وخمسون على هجمة روزفلت الأول ضد حريتنا.... فهل نسى القوم على مر السنين هذى السخائم؟. من عشر سنين كان الشعار الذى يتصايح به اليهود فى أرجاء الولايات المتحدة: ادفع دولاراً تقتل عربياً! وبين تأييد وتشجيع مائة وسبعين مليون مسيحى هناك، استطاع إخوان القردة أن يرموا بأثقالهم على فلسطين، فإذا أهلها العرب حيارى فى العراء، وإذا اليهود - بمعاضدة أمريكا وحلفائها - هم أصحاب البلاد.. وفى هذه السنة يتحرك عرب المغرب لاستنقاذ أنفسهم من وطأة الكابوس الفرنسى الآخذ بخناقهم يبغى إزهاق أرواحهم. ولا ترى فرنسا معاذا تجنح إليه فى إطفاء ثورة المغاربة الأحرار إلا الاستعانة بقوات حلف الأطلسى براً وبحراً. وهى القوات التى عبأتها " أمريكا " لحرب الشيوعية. ولكن الظاهر إلّى الآن، أن الاستعمار الغربى يرى الإسلام عدواً أحق بالقتال من الشيوعية. ويرى قتل الشعوب المسلمة أهم لديه من خضد شوكة الروس ومن معهم. إننا - بداهة - نعرف ما أسلفت الشيوعية لإخواننا من أسى فى بقاع شتى. بيد أنه قليل إذا قيس بما صنعه ويصنعه الاستعمار الغربى. إنه استعمار النقمة على الإسلام، بادى الإصرار على محقه. وليس هذا شعور رجل يقظ الحساسية لما يقع على دينه من اضطهاد، وعلى إخوانه من غبن. ولكنها الحقيقة التى أبصرها أناس لم يعرفوا يوما بالحمية للإسلام، ولا الكآبة لما يصيب قضاياه من وكس وهوان. كتب الأستاذ " محمد التابعى " تعليقاً على سياسة فرنسا فى المغرب ما يلى: ص _0 ص 0(1/85)
" تُرى هل كان الغرب المسيحى أو دول العالم الكبرى المسيحية.. هل كانت تسكت على الفظائع التى ترتكبها فرنسا فى الجزائر ومراكش لو أن أهل هذين البلدين كانوا مسيحيين.. ولم يكونوا مسلمين؟ هل كانت أمريكا وبريطانيا ودول أوروبا المسيحية ودول أمريكا الجنوبية، وهل كان الفاتيكان وربه قداسة البابا صاحب الكلمة المسموعة المحترمة فى دنيا المسيحية.. هل كان هؤلاء وهؤلاء يسكتون على حرب الإبادة الدينية التى تشنها فرنسا على قرى وأبناء مراكش والجزائر، لو كان هؤلاء من المسيحيين؟ .. و (حرب الإبادة الدينية) عبارة اقتبستها من رسالة كتبها فرنسى مسيحى - لا عربى مسلم- أرسلته جريدة فرنسية لموافاتها بوصف الحالة فى الجزائر ومراكش وأنباء المعارك التى تدور فى البلدين بين الثوار المجاهدين وجند فرنسا. والجريدة الفرنسية هى " لموند " ومندوبها -إذا صدقتنى الذاكرة- هو مسيو سابليه.. فقد قال الرجل فى إحدى مقالاته: " إن ما يجرى فى القطرين العربيين هو حرب إبادة دينية بمعناها الحقيقى. قرى تدكها قنابل الطائرات الفرنسية.. ودور تهدمها الدبابات الفرنسية على رءوس ساكنيها المسلمين.. وجماعات تحشد وراء الأسلاك وتحصدها المدافع الرشاشة. والعالم المسيحى يرى ويسمع... ويسكت! والقليلون فيه هم الذين يرفعون أصواتهم بالاحتجاج! لأن مراكش والجزائر قطران عربيان مسلمان !". وفى أوائل القرن الحاضر، أو منذ خمسين عاما، ثارت أرمينيا ضد الحكم التركى.. وقمع سلطان تركيا -وهو يومئذ عبد الحميد الثانى- قمع ثورة الأرمن بالحديد والنار.. ومع أن الجنود الأتراك لم يرتكبوا من المذابح نصف ما ارتكبه الفرنسيون فى الجزائر ومراكش. ولم يدكوا قرى الأرمن بالقنابل أو يحصدوا الأرمن أنفسهم بالمدافع. فإن العالم المسيحى كله- فى أوروبا وأمريكا ومعه الفاتيكان- فزع ونفر لنجد ة أرمينيا. ص _0 ص 1(1/86)
وعلا صراخ الاحتجاج فى عواصم القارتين المسيحيتين: أمريكا وأوروبا. وتسابق سفراء الدول الكبرى المسيحية إلى " الباب العالى " يقدمون احتجاج دولهم على المذابح التى تجرى فى أرمينيا، والدماء التى تراق فى قرى أرمينيا. وخلعت صحافة العالم المسيحى يومئذ على سلطان تركيا لقب (السلطان الأحمر) فأصبح اسمه "عبد الحميد الأحمر". لأنه قد صبغ اسمه وحربته بالدماء. واليوم يجرى فى مراكش والجزائر أضعاف -ما وقع- فى أرمينيا، فلا يتحرك العالم المسيحى ولا يغضب ولا يحتج . لأن أرمينيا بلد مسيحى، والأرمن مسيحيون!!، أما مراكش والجزائر فقطران عربيان مسلمان ! وهذا هو الفرق كل الفرق ولا فرق سواه. فالثورة فى أرمينيا، كانت من أجل التحرير والاستقلال، والثورة فى الجزائر ومراكش من أجل التحرير والاستقلال. وانظر إلى خريطة العالم وابحث: هل تجد فيها بلداً أو شعباً مسيحياً محكوماً أو خاضعاً لحكم أجنبى؟ لن تجد، ولكنك ستجد بلداناً وشعوباً كثيرة تدين بغير المسيحية -بالإسلام مثلا أو بغيره من الأديان- وهى خاضعة للحكم الأجنبى. وذلك أن الدول المسيحية تضافرت منذ أوائل القرن الماضى " التاسع عشر " على تحرير الشعوب المسيحية من حكم المسلمين. لا لسبب إلا لأن هؤلاء مسيحيون، وهؤلاء مسلمون. وهكذا تكاتف الغرب المسيحى على تحرير اليونان، وبلغاريا ورومانيا، والصرب، من حكم آل عثمان!!! لا لأن حكم الأتراك كان سيئاً -وقد كان فعلا كذلك- وإنما لأن هذه الأقطار أرض مسيحية، سكانها مسيحيون. ولو كان الحكم السيىء هو سبب التحرير لوجب تحرير الأقطار العربية التى كانت خاضعة يومئذ لحكم الأتراك. ص _0 ص 2(1/87)
ولكن العالم المسيحى، لم يهتم يومئذ بتحرير العرب ؛ لأنهم مسلمون! ولما قامت الحرب العالمية الأولى وثار العرب ضد تركيا، لم يتركهم العالم المسيحى ينعمون باستقلالهم، بل تقاسمتهم دول المسيحية فيما بينها. .. ما بين مناطق نفوذ ومناطق انتداب..!!! وهكذا، تعصب دينى أعمى، يعمل على تحرير المسيحى من المسلم، ويعمل ـ فى الوقت نفسه ـ على إخضاع المسلم للمسيحى. وإلا هل كانت اليونان وبلغاريا مثلا، أهلاً للاستقلال والحرية، فى النصف الأول من القرن التاسع عشر؟. .. والجزائر ومراكش ليستا أهلا للحرية والاستقلال فى النصف الثانى من القرن العشرين؟. كلا. فما من شك فى أن عرب شمال أفريقيا اليوم أوفر حظاً من الرقى والحضارة والعلوم والمعارف، من شعب اليونان أو بلغاريا فى أوائل القرن الماضى .. ولكن! ولكن الجزائر ومراكش قطران عربيان مسلمان خاضعان لحكم دولة مسيحية. .. واليونان وبلغاريا قطران أوروبيان مسيحيان، كانا خاضعين لحكم دولة مسلمة. إن هذا لهو الفرق...!!! الحرية والاستقلال للمسيحيين وحدهم. والاستعمار والاستعباد لغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى! هذه هى الحقيقة التى يجب أن يعرفها الشرق عامة، والعرب والمسلمون بوجه خاص.. وهى أن عالم المسيحية -وهو اليوم العالم الأقوى- لا يستطيع أن ينسى دينه، أو يتحرر من تعصب الدين، وهو يعالج قضايا الحرية والاستقلال.. ". أ. هـ. *** إن جذور التعصب للنصرانية، والحقد على الإسلام. لم تهدأ على مر الأيام. ص _0 ص 3(1/88)
بل لعل مر الأيام كان ينفخ فيها ليزيدها وهجاً ولذعاً. وعندما كانت الدولة الإسلامية تترنح إبان تضعضع الخلافة التركية وذهاب ريحها، كان الورثة يترقبون بصبر نافد، أن يتدخلوا. باسم المسيحية. لنهب ما يمكن نهبه. وفى ذلك يروى المؤرخون: أنه عندما أصبحت الدولة العثمانية تسمى " رجل أوروبا المريض " بدأ من كانوا يعدون أنفسهم لوراثتها فى حصر التركة، فتدخلت فرنسا لحماية رعايا الإمبراطورية من الكاثوليك. وتدخلت روسيا لحفظ مصالح الكنيسة الأرثوذكسية. وطالبت ألمانيا برعاية أتباع المذهب الثالث من النصرانية وهم البروتستانت. ولم يكن قد تبقى بلا حماية أجنبية من رعايا الإمبراطورية المتداعية سوى اليهود، فسارعت بريطانيا إلى احتضانهم. ذكر أحد رواد كبار الصهيونية " ل. ج. جرينبرج "، أن اللورد " كرومر " المعتمد البريطانى بمصر قال لأعضاء البعثة الصهيونية التى زارت مصر فى أوائل القرن العشرين، لتفقد منطقة العريش وصحراء سيناء تمهيداً لمنحها اليهود: " عندما تتهاوى الإمبراطورية العثمانية -وستتهاوى إن عاجلا أو آجلا- يجب أن نحصل على فلسطين !. هذه هى أمم الغرب التى تخفى مخالبها وراء قفاز من حرير، وتستر سخائمها السود فى ألفاظ معسولة من السماحة والمرونة، والبراءة من التمسك ـ بله التعصب ـ لأى دين!!. ويجب أن نضم إلى المعلومات السابقة، أن دول الغرب لم تسمح بالإبقاء على تركيا، ولم تزودها بالسلاح، إلا بعد أن تلقت وعداً مؤكداً أن تركيا قد تخلت عن الإسلام أبدا، وأنها لن تخاصم، بل ستساعد الصليبية والصهيونية على أن تصنعا ببقية بلاد الإسلام ما تبغيان . ص _0 ص 4(1/89)
عدالة العصر إن للقوة الباغية منطقاً تحار فيه الألباب، لأنه يسخر من أولى الألباب ويقصيهم عن طريقه، ويسير بدوافعه الخاصة غير مكترث بشىء.. هجمت عصابات اليهود -بإيعاز من الدول الكبرى وإمداد- على فلسطين العربية فاجتاحت أرضها ورمت بأهلها فى العراء. وتركتهم يرقدون على الثرى وبيوتهم يسكنها أعداؤهم. ويتكففون الناس وأموالهم يبعثرها اليهود كيف يشاءون. واستمر هذا البغى سنة، ثم سنتين، ثم سنين.. وكان صراخ الضحايا يتردد فى آفاق العالمين، ويصل صداه إلى مجلس الأمن، وهيئة الأمم. ولكن الهوى كان قد طمس على الآذان ونسج غشاوته على الأعين. فإذا الساسة الكبار والصغار يفغرون أفواههم لما يرونه من مآس، ثم يطبقونها دون أن ينبسوا بكلمة. وشرع جيران القطر المنهوب يتحركون للدفاع عن إخوانهم، وإعادة ما سرق من أقواتهم وحرياتهم، وحاضرهم ومستقبلهم.. ودار الجدل بين العرب المحروبين من جهة وبين اليهود المغيرين، والسادة الذين خلقوهم من جهة أخرى على هذا النحو المدهش. يقول العرب: أعيدوا اللاجئين إلى ديارهم، وأسكنوهم بيوتهم التى طردوا منها، وردوا إليهم أعمالهم وأموالهم..!!! ويصيح رؤساء اليهود: لن ننزل عن شراء من حقوقنا، إن دول العرب تتحدانا وهذا ما لا يمكن السكوت عليه.. ويجىء الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة فيقول: إن إسرائيل ولدت لتحيا! ويعاود اليهود غدرهم، فيهجمون على حدود مصر، ليفسدوا فيها ويسفكوا الدماء. ص _0 ص 5(1/90)
وتشعر مصر بما يبيت لها فتستورد السلاح وتعبىء قواها لمواجهة الخطر. وهنا تطوف بالعالم كله دوامة من الإرجاف والذعر المفتعل. ويصيح اليهود: هذه بوادر العدوان علينا!! وعلى العالم الحر أن يتقدم لنجدتنا. وتجىء " أمريكا " لتقول: ينبغى أن يستقر السلام فى هذه المنطقة، فإن الحرب تضر مصالحنا..! *** وترجع العصابات المسلحة إلى دأبها فتتستر بالليل لتشن غاراتها على سوريا تارة، وعلى الأردن تارة، وعلى مصر تارات وتارات. ويسارع المصريون إلى الرد العنيف على هذه المناوشات.. وتنطلق صيحات الإفك من حناجر اليهود مرة أخرى. الهدنة تعرضت للضياع، العرب يثيرون الفتن ويلعبون بالنار،.!! وهنا يتدخل الإنجليز مشفقين مصلحين، يعرضون على الفريقين المتنازعين، أو على الشريكين المتشاكسين أن يتقاسما فلسطين. لصاحب البيت حصة، وللمغير الفاتك حصة أخرى!!! ويقول اليهود على عجل: كلا كلا، لن ننزل عن شبر أرض من بلادنا. ويدور العرب بأعينهم فى كل مكان، فلا يجدون إلا ذئاباً كشرت عن أنيابها وتواطأت على افتراس الضعاف. *** وما وقع فى الجزائر قريب مما وقع فى فلسطين. فقد شنت " فرنسا " هجوما شاملا على هذا البلد الوادع فزلزلت كيانه وصدعت أركانه. ثم وضعت خطة هائلة لمحو أعلام العروبة والإسلام منه، وتخطيط أرضه على نحو يجعل لفرنسا المكان الأول والأخير فيه. ص _0 ص 6(1/91)
وتنفيذاً لهذه السياسة الفاجرة شرع الفرنسيون يرحلون من وطنهم إلى المهجر الجديد حتى بلغوا قرابة المليون. أما بقية السكان العرب ـ وهم يربون على عشرة ملايين ـ فقد تقرر إذلال جمهرتهم وردهم إلى الصحراء ليهلكوا فيها، أو ليفسحوا الطريق للغزاة الوافدين من وراء البحر... وأحس الجزائريون أن مصيرهم الهلاك المؤكد ـ إن هم قبلوا هذا الضيم ـ فحملوا السلاح وبدأوا عهداً طويلا من الجهاد المضنى. إنهم لو لم يقاتلوا عن أمجادهم المهدرة لوجب عليهم أن يقاتلوا عن أقواتهم ومعايشهم... * * * ومقاتلة الفرنسيين عبء باهظ، فهذا الشعب تهيجه عقدة الضعة إلى أن يبطش بمن يقع فى قبضته بطش الجبابرة. وعلة ذلك أن فرنسا ظلت عشرين سنة تحصن الحدود بينها وبين الألمان وتجيش الجيوش وراءها حاملة آخر ما أنتجه الذكاء الإنسانى من أسلحة وعتاد. فلما وقعت الواقعة وهجم الألمان على فرنسا لم تمكث الحرب إلا سبعة عشر يوماً ثم ركع الفرنسيون على الركب أمام " هتلر "، وسلموا له بما يريد!! هذه الهزيمة التى جللت بالخزى وجوه القوم حملتهم على أن يتظاهروا بالقوة فى الميادين التى يلتقون فيها بالأمم المكافحة عن حرياتها، وكأنهم يقولون: لا تظنوا بنا ضعفاً، لأننا فزمنا..!! فهم كما قيل: أسد على وفى الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر!! ثم إن مجاهدى الجزائر كتب عليهم أن يكافحوا فى دائرة مغلقة فإن السياج الذى أقامه الاستعمار حولهم حبس عن العالم أنباءهم أمدا. ومن ثم فهم يضحون فى صمت، ويقاومون جبروت الصليبية الضاغطة على أعناقهم دون أن يلبى لهم صريخ أو تسمع لهم استغاثة..!!! ص _0 ص 7(1/92)
ومع ذلك فقد ثابروا فى الميدان، وذرعوا الطريق إلى، نهايته حتى تعالى ضجيج العراك الناشب بين الأبطال والأنذال، وأحست الدنيا أن مسلمى الجزائر يكتبون بدمائهم سطور حرياتهم، ويرفضون هذا الإجهاز الدنىء على دينهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم... * * * وسعى العرب حتى بلغوا بقضية. الجزائر هيئة الأمم المتحدة. وهنا تقع المهزلة الكبرى، فإن فرنسا قالت فى صفاقة نادرة، إن البحث فى مشكلة الجزائر لا يجوز! لماذا ؟.. لأن فرنسا ترى الجزائر جزءاً من الوطن الفرنسى..!!! بالضبط، كما يضع النشال يده فى جيبك، ويختلس حافظتك ثم يضعها فى جيبه، ثم يسير فى طريقه كأن لم يحدث شىء. فإذا قلت: مالى! مالى! قال اللص فى هدوء: تحدث فى أمر آخر، فإن هذا المال غدا ملكى إلى الأبد.. كذلك فعلت فرنسا. وبقيت فى الميدان الدولى بقية خير، جعلت هيئة الأمم ترى من حقها بحث هذه القضية، ولو لم يتمخض بحثها عن شىء...!! وزمجرت فرنسا، وطلبت ألا تبحث هذه القضية ألبته!!. وتصارعت المداهنة مع بقية الحياء. فإذا سبع وعشرون دولة يرون ألا تبحث، وثمانية وعشرون يقبلون مجرد البحث!! وصرخ مندوب فرنسا يقول: " إن هيئة الأمم تتجاوز اختصاصها، إنها تتدخل فيما لا يعنيها، إنها تخرج على المواثيق المأخوذة عليها ألا تقحم نفسها فى الشئون الخاصة للأمم!!!! ". وظل المندوب الفرنسى ينبح ويتوعد ثم قرر بعدئذ الانسحاب. ولم تمض إلا أيام قلائل حتى تبخرت بقية الحياء فى الميدان الدولى. فإذا قضية الجزائر تستبعد. و إذا فرنسا بعد أن أرضيت تعود. تعود وفى جيبها مستقبل أمة التهمتها على رؤوس الأشهاد!!! ص _0 ص 8(1/93)
وقالوا: قد جننت؟ فقلت كلا وربى ما جننت، ولا انتشيت ولكنى ظلمت، فكدت أبكى من الظلم المبين، أو بكيت!! فإن الماء ماء أبى وجدى وبئرى ذو حفرت وذو طويت تسألنى ما علاج هذا المنطق السافل؟ إنه السيف وحده الذى يجتز هذه النواصى الكاذبة الخاطئة: السيف أصدق أنباء من الكتب فى حده الحد بين الجد واللعب! إن أولئك المغالطين المكابرين لا يردهم إلى الصواب شىء إلا ما يفرى الأعناق، ويرغم على الإقرار بالحق. والمضحك أن المسلمين عندما يتهيأون لهذا المسلك يقول الصليبيون الجدد: ألم نقل إن الإسلام انتشر بالسيف، وإن المسلمين يسيئون استخدام القوة؟؟ أجل، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت... *** وبعد إحدى الطبعات التى صدرت من هذا الكتاب ثبت السيف استقلال الجزائر، وتحرر المناضلون الشرفاء فى أعقاب عراك قدموا فيه من خيرة أبطالهم مليوناً ونصف مليون شهيد. ص _0 ص ص(1/94)
تيارات متدافعة طالما قلنا: إنه قرن الأحزان والمذلة هذا القرن الرابع عشر للهجرة. أو تلك هى بدايته التى اكتنفتها الهزائم والدنايا. وما ندرى كيف تكون نهايته الخطيرة، ولا خواتيم الصراع الناشب الآن فى شتى بقاعه بين المغيرين والمدافعين... لقد انهزم الإسلام عسكريا فى أغلب الميادين أو فيها كلها، وتساقطت بلاده بلدا بلدا تحت أقدام الغزو الحديث. ولم يكن بد من هذا المصير الكئيب، فقد كانت دولته ضعيفة بالغة الإعياء، وكان خصومه أقوياء شديدى البطش. ولولا أصالة فى بعض الأجسام تغالب بها العلل الوافدة وتنجو بها من الموت لكانت الأمة الإسلامية الكبيرة قد تلاشت من الحياة إثر ما حل بها من كوارث وأخذت طريق البائدين الدارسين من أهل القرون الأولى... وليس الانهيار العسكرى الشامل هو أفدح ما أصاب أمتنا خلال هذا العصر بل ما أعقب هذا الانهيار من سياسات بعيدة المدى رسمها الأقوياء القاهرون وشرعوا فى تنفيذها على مهل. والغاية المرجوة منها حل عرا هذا الدين، وصرف النفوس والأفكار عنه. وإنشاء أجيال تتجهم لتعاليمه وتتجاهل مطالبه أو تجهلها كل الجهل !! والظروف المواتية لهذا المحق كثيرة، فإن المنهزم: فؤاده مزعزع وأمره فرط. وبيد المنتصر من وسائل الإغراء ـ بل فى حالته نفسها ـ ما يجعل شئون المجتمع المهزوم تتمسح به وترجو رضاه. وقد أقبل موكب الصليبية الهاجمة هذه المرة فى ألوان زاهية من العلم والكشوف والتقدم، واقتحم أرضا تكاد تكون غفلا من هذا كله. شتان بين تفوقه اليوم وبين ضالة أمره فى العصور الوسطى... ص _100(1/95)
فلا عجب إذ طمع الفاتحون الجدد فى الإتيان على قواعد الإسلام بعد ما قدروا على هزم جيوشه فى ميادين القتال.. وخطتهم التى وضعوها واضحة.. يجب أولا إبعاد الإسلام عن أن يكون رباطاً عاماً بين بنيه فى مشارق الأرض ومغاربها. فعن طريق إحياء النزعات الوطنية فى كل إقليم مستعمر تموت الجامعة الإسلامية من تلقاء نفسها... هذه الضربة النازلة بالإسلام -كرباط سياسى- يجب أن تلحقها ضربة أخرى تنال منه كموجه شخصى وجماعى. وذلك يتم بإضعاف وارع التقوى وإشاعة ضروب الشهوات. والسبيل إلى ذلك: * فصل الدين عن مناهج الدراسة كلها. * وفصله عن تقاليد المجتمع. * وفصله عن آفاق الحياة النابضة. * ثم تركه يذوى بعيداً حتى تخمد أنفاسه بين الوحشة والضياع. هذه هى سياسة الغرب التى نفذتها انجلترا وأمريكا وفرنسا وهولندا وروسيا وسائر الدول التى أتيح لها أن تحتل شبراً من أرض الشرق الإسلامى. وقد تفاوتت أساليب التنفيذ، كما تفاوتت ضروب المقاومة التى أبدتها الشعوب المغلوبة. أجل، فإن جماهير المسلمين لم تستسلم لهذا الإفناء المبيت فنشطت عشرات الطوائف والهيئات لمكافحته. على أن المستعمرين لم يباغتوا بهذه المقاومة، فمضوا فى طريقهم يستعينون بالزمن على إخماد كل حماسة، ويستغلون سيطرتهم على الحكم لتدويخ الحركات الشعبية حتى يدركها القنوط فتسكت أو تدركها الهزيمة فتبيد... والزمن يقف إلى جانب المهاجم عندما تخور قوى المحصور، وتنسد أمامه منافذ الأمل ويقبع فى مكانه منتظراً مصيره الحتم...!!! ص _101(1/96)
كالمصباح الذى قل زيته وجفت ذبالته، إن لم يطفئه نفخ الريح أطفأه نفاد الوقود... ومن ثم قررت الصليبية الحديثة أن تهتبل الفرصة السانحة وأن تحكم الخناق حول الإسلام حتى يسقط ويتفرق أتباعه عنه. نعم، استيقن المستعمرون أن مآربهم فى استعباد الشرق وانتهاب خيراته لن تخلص لهم إلا إذا: * قضوا على الإسلام روحاً ونصاً، وأجهزوا على بقاياه حكومة وشعباً. * وأقاموا الحجب الكثيفة بين أمسه ويومه، وبين يومه وغده. * ثم قسموه بينهم أشلاء متناثرة لا يأوى أحدها على الآخر، ولا يعرف وشيجة تربطه فى الأولين والآخرين. وقد حشدوا مهارتهم كلها واحتيالهم كله لإدراك هذه الغاية، بعد ما أخذوا يحسون أنهم يعالجون أمرا صعباً، وأنهم لا ينجحون فى جهة إلا أخفقوا فى أخرى، ولا يتقدمون خطوة إلا وسط مقاومة مشوبة بالدم حينا والبغضاء حينا آخر... قال الأستاذ " محمد حسين " أستاذ الأدب العربى بجامعة الإسكندرية يصف سياسة الإنجليز فى مصر وغيرها من أجزاء الوطن الإسلامى الكبير: " كان للإنجليز هدف واحد هو إضعاف العصبية الدينية، وتمزيق أوصال المسلمين فى مستعمراتهم حتى يستطيعوا أن يواجهوهم واحداً واحدً ". " فالمصريون أحفاد الفراعنة، واللبنانيون أحفاد الفينيقيين، والعراقيون أحفاد الأشوريين، والحجازيون أحفاد العرب وأحق الناس بالقيام على خلافة الإسلام. وذلك إغراء لهم بالانتفاض على الترك ومعاونة إنجلترا على إسقاط الدولة العثمانية. وكانت الدولة العثمانية، برغم ما بليت به من انحلال، قوة روحية عظيمة. وكانت قادرة على جمع كلمة الشعوب باسم الدين ضد بريطانيا وشقيقاتها من دول الاستعمار الأخرى... وأدرك اللورد " كرومر " ما تنطوى عليه تعاليم الإسلام من حث على الجهاد، ودعوة إلى الأخذ بأسباب القوة، ومن إعلاء لمرتبة المجاهدين وحط من شأن القاعدين. ص _102(1/97)
فاتخذ من ذلك مادة للطعن على الإسلام وتشويه مقاصده فقال فى كتابه " مصر الحديثة ": إن المسلمين أنصاف همج!!، محبون للحروب، بعداء عن التسامح!!.. .. وإن دينهم يجعل عاطفة الانتقام أساس العلاقة العامة بين الإنسان وأخيه الإنسان، واستشهد لكلامه هذا بدعاء أئمة المساجد على الكفار يوم الجمعة!، وبالآية المعروفة " "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ". أ. هـ. نقول: والآية واضحة فى أنها تذكر المقاتل بواجبه خلال المعركة الناشبة وتأمره بالاستبسال والشجاعة. أما لماذا يدور القتال وتنشب المعارك فإن الإسلام لا يسأل عن ذلك لأنه يخوض الحروب مدافعاً لا مهاجماً. وذلك مصداق الآية الأخرى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين". ومن شدة الصفاقة وقلة الحياء أن يتحدث الإنجليز عن العدوان وأن يتهموا غيرهم به، وبلادهم وكر لأضخم عصابة عرفتها الدنيا فى السلب والنهب. وأما خطباء المساجد الذين يدعون على الكفار فهم ملومون، لا على دعائهم المملول، بل على اكتفائهم بالكلام دون التسلح والانطلاق إلى الميادين لذبح المعتدين وإفناء الغاصبين المحتلين.. ولنعد إلى دعاوى لورد "كرومر " وحملاته على الإسلام، وإلى تفنيد الأستاذ "محمد حسين" لها قال: عمل الإنجليز على إخماد العاطفة الإسلامية حين رأوها مصدر خطر محقق، وأنها المعين الفياض ببغضهم الدافق بالتأليب عليهم والتحريض على قتالهم. وظلوا يتهمون المصريين بالتعصب الدينى ويكررون هذه التهمة فى كل مناسبة، بل فى غير مناسبة، حتى توهم المصريون أن التعلق بالدين عيب ذميم، ينبغى أن يبرأوا منه. ص _103(1/98)
وظل عدد من الصحف يتحدث عن التسامح، وفي الإنسانية، حتى توهم السذج أن سعة الأفق ورحابة الصدر أن تحب الخلق جميعا. حتى المعتدين منهم على بلادك!! وآلك!!! ولم يزل هؤلاء المستعمرون يحدثون المصريين عن مصالحهم الخاصة حتى نزلوا بالوطنية من درجة العقيدة إلى مرتبة مادية لا تعلق بها أية قداسة لأنها لا تعدو السعى وراء القوت ومحاولة تحسين الأحوال!! " أ. هـ. هذه هى الوطنية التى يعشقها الإنجليز، وينشدون بقاءها فى المستعمرات. عصبية تنسلخ عن الدين -أى عن الإسلام- وتقوم على المنفعة المجردة. وحول هذه المنفعة يصح أن يوجد ما يطلق عليه اسم " الأمة ". ولذلك أوعزوا إلى " أصدقائهم " فى السودان أن يكونوا حزباً يحمل هذا العنوان كما أوعزوا إلى أتباعهم فى مصر أن يؤلفوا حزبا يحمل الاسم نفسه فى أخريات القرن الماضى... إن خطتهم هى هى على تغير المكان والزمان لأنهم يصدرون عن مشاعر قلما يهذبها الزمن. والمؤلم أن هذه الشراك وقع فيها الألوف، وانطلى محالها على الكثير. فتحولت الأجيال الناشئة إلى المجرى الذى شقه لها الاستعمار ووهت أواصرها بالدين وهديه..! لماذا؟ ا لأنها تكره أن توصم بالتعصب والرجعية...!!! وشيوع هذا الفساد فى الأذهان والأذواق كسب للصليبية أنكى على الإسلام من اندحاره أمامها فى سلسلة من المعارك الكبيرة! ألم يضح أبناؤه وهم ينفضون عنه ويستحيون من الأخذ به وإقامة شعائره؟ لأن تقوى الله رجعية، والوقوف عند حدوده نوع من الجمود على القديم ومن التخلف عن الحضارة والتعصب للموروثات التى عفى عليها الزمن؟ أى إهانة تلحق بالإسلام أشد من هذه الإهانة...؟ والحق أن سوءات التعصب كلها لا تتجه إلينا بقدر ما تتجه إلى أولئك الغزاة الأوروبيين.. ص _104(1/99)
إن كان التعصب جحد الحق بعدما تبين فهو رذيلة تقترفها " أوروبا " بإصرار. وإن كان التعصب احترام التقاليد القديمة وإن جانبت الصواب وخالفت العقل فأوروبا أولى بهذه الوصمة حين تحالف الصهيونية، وتمد الصليبية الحاقدة بما يشبع نحيزتها على الإسلام وأهله.. أما أن يدافع الإنسان عن بيته وقد سطا اللصوص عليه وحاولوا اقتحام منافذه فيقال له: ألق السلاح! لا تكن متعصباً! فهذا هو السخف! ويعجبنا قول الشيخ " عبد المجيد سليم " فى الحفز على هذا التعصب، ودحض شبهات الذين يرونه مخالفاً للرقى والحضارة... قال طيب الله ثراه: "... وإن كان المراد بالتعصب: الغيرة على ما يراه المرء حقاً، وبذل الجهد فى الدفاع عنه، وعدم التسامح فيه، فذلك محمود، بل واجب بالشرع والعقل فإنه لابد للحق من مستمسك به، مدافع عنه. ولو ساغ أن يتطابق الناس جميعاً على التسامح فى شأن الحق، والفتور عنه، لبطل الحق، وعمى على الناس وجهه، والتبس بالباطل فى كثير من الشئون. ولهذا لا يصلح مجتمع يخلو من المستمسكين بالحق، المدافعين عنه، الذين لا يترخصون فيه ولا يتسامحون. وإن جميع الدعوات الصالحة الخيرة ما رسخت أصولها، ولا سمقت فروعها، إلا باستمساك أهلها بها، وصدقهم فى النضال عنها، لأنهم آمنوا بها إيماناً ثابتاً لا يتزلزل. ولولا هذا الإيمان الصادق القوى المتماسك لماتت -والعياذ بالله- دعوة الإسلام فى مهدها، ولفسد المجتمع الإسلامى من أول الأمر بما يسميه المتحللون مساهلة أو مياسرة، ونسميه نحن انحلالا أو اضمحلالاً. وقد أمر الله المؤمنين بأن يكونوا أقوياء فى الحق، يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ومدح الذين " يمسكون بالكتاب " ولعل هذه الصيغة إنما ص _105(1/100)
اختيرت للتعبير عن معنى القوة في الأخذ، وهو ما صرح به في مثل قوله تعالى "يا يحيى خذ الكتاب بقوة " ولنبيه موسى : " فخذها بقوة ". كما أمر المؤمنين بأن يكونوا " قوامين لله" والقوام بالشىء غير القائم به إذ هو مبالغة فى القيام تقتضى القوة فى الاستمساك والتشبث. وذلك كله ينافى التراخى عن الحق والمساهلة فيه. هذا والناس إنما يفقدون الحماسة للحق، والحرارة فى الدفاع عنه، لواحد من أمرين: إما جهل به يصرفهم عنه، فهم لم يذوقوا حلاوته، ولم يباشروا بشاشته، فأنى لهم أن يعبأوا به فضلا عن أن يغاروا عليه؟. وإما شغل بغيره يملأ القلب، ولا يترك مجالا للنضال عن الحق، والكفاح فى سبيله، وأولئك هم الذين يعرفون الحق وبشغلهم عنه ما آثروه من أنفسهم ومصالحهم، فهم يتظاهرون بأن تركهم مناصرة الحق إنما هو لتركهم التعصب، وكراهيتهم التزمت والتشدد، والله يعلم أن ذلك منهم نكول ونكوص وإيثار لعاجل الدنيا على آجل الآخرة. وأشد ما تصاب به الأعم فى علمائها وأهل الرأى فيها، هو التحايل للخروج من تبعات الكتمان بالتأويل والتضليل. وبهذا يتبين أن التعصب ليس مذموما كله، وأن اتخاذ أمره مقياسا للرقى أو الانحطاط يجب أن يتلقى بحذر، ويقدر بقدر " أ. هـ. *** مضى التياران المتناقضان كل إلى وجهته، وطال النضال بينهما، وتزاحم أنصارهما بالمناكب يبغى كل فريق أن ينفرد بالحياة دون صاحبه.. أنصار التيار الغربى المقبل من وراء البحار تؤيده القوة القاهرة والكشوف الباهرة وحاجات الأجيال المعاصرة. والمعجبون به يريدون أن يقبلوه كلاً لا يتجزأ، وأن يذوقوا خيره وشره وحلوه، ومره، وأن ينسلخوا عن إهابهم القديم جملة لأنه طور انقضى وذهب أوانه.. ص _106(1/101)
وقد استطاع هذا التيار أن يجتاح المدائن والقرى، وأن يدخل الأكواخ والقصور، وأن يترك ميسمه على أنحاء المجتمع المختلفة ما يكاد يفلت منه شىء. أما التيار الإسلامى فإن الرائى يظنه مقاتلا فى معركة انسحاب. وإن كان يتراجع ببطء حينا، ويتشبث حيناً آخر ببعض القلاع المكينة ليكافح عندها أمداً ثم ينحسر عنها ويدعها تسقط!! ولكن المجالات التى يخسرها هذا التيار لا تذهب غنيمة باردة إلى خصمه، فما أكثر أن يدع فيها من عناصر المقاومة ما يجعل استسلامها للطابع الغربى البحت أمراً عسيراً. والحياة فى بلادنا الآن خليط هائل من الكفر والإيمان، ومن المحافظة والتحلل من القديم والجديد، ومن العقل والشهوة، من الشرق والغرب.. وكلا التيارين لا يزال مزوداً بأسباب البقاء، ولذلك فهو يجاهد ليحيا وينتصر، وينفرد بقيادة الأمة إلى ما يبغى... من عشرين سنة كتب الدكتور " زكى مبارك " يصف القاهرة ـ ويتحدث بأسلوبه الساخر عما يتجاور فيها من نقائض ويضطرب فيها من صور ونزعات ـ والدكتور نفسه أحد أسباب الانحلال الأدبى فى مصر. وهذا الوصف المنقول عنه يكشف عن مجرى التيارين السابقين وآثارهما الخافية والبادية، قال: " القاهرة اليوم مدينة خطرة جداً : ففيها يشتبك الجد والهزل ويصطرع الهدى والضلال!!! فى القاهرة طوائف من المغفلين، وطوائف من المحنكين، ويكفى أن يكون فيها الأزهر والجامعة المصرية!! .. فى القاهرة أقطاب الملحدين وأقطاب المؤمنين. .. فى القاهرة خلفاء حسن البصرى وخلفاء إبليس. .. فى القاهرة أتباع القرآن والتوراة والإنجيل. .. فى القاهرة أبناء الدنيا وأبناء الآخرة والموعودون بالنعيم والجحيم. ص _107(1/102)
.. فى القاهرة أحياء باريسية، وأحياء بغدادية وأحياء دمشقية. فيها مشابه من جميع البقاع وجميع البلاد. فيها منازل لا يدخلها الفأر بسبب النعمة، ومنازل لا يدخلها الفأر بسبب الجوع. فى القاهرة ناس يموتون من الظمأ وناس يموتون من الشراب. فى القاهرة خدود تجرحها خطوات النسيم، وفيها وجوه تعجز عن لفحها النيران. ومن الذى يصدق أن إبليس يقف مبهوتا أمام حيل الفجور فى القاهرة؟ من الذى يصدق أن رضوان ينتظر أن لا يجد مكانا فى الجنة بعد أن يحتلها القاهريون؟ * * * تنظر فى شوارع القاهرة فترى شيخاً يهطع لإلقاء عظة فى مسجد، وترى فتى متأنقاً يمضى إلى موعد غرام فى مصر الجديدة أو حلوان، وترى رجلا يحمل أوراقه ليناقش الميزانية فى مجلس النواب، وترى فتاة تصاولك بعينين مصوغتين من السحر الحرام أو الحلال، وترى فقيراً مسكيناً يستجدى لقمة يتبلع بها فى الصباح أو فى المساء. .. القاهرة!. .. لطف الله بأهل القاهرة!. .. فى القاهرة مئات من الأندية الخصوصية والعمومية، وفيها ألوف من الزوايا والمساجد والحانات. ومن الذى يستطيع أن يتعقب حركات العقول والأهواء فى القاهرة؟. " من الذى يستطيع أن يحاور فى الصباح والمساء رجال الصحف الصباحية والمسائية؟. من الذى يصدق أن فى القاهرة ألف خطيب فى فصاحة سحبان ـ وألف خطيب لا يحسنون ضبط كلمة؟. من الذى يصدق أن الأمان ذهب من القاهرة بسبب الإفراط فى المنافسة والنضال؟ " أ. هـ. ص _108(1/103)
والأستاذ " محمد حسين " فى تأريخه للاتجاهات الفكرية من سبعين سنة يصور هذا النزاع الحاد بين الإسلام المدافع عن كيانه، وبين الغرب الزاحف بأطماعه وماضيه وثاراته، بين المستمسكين ببقايا الإيمان ووصايا الكتاب فى بيوتهم وأعمالهم، وبين المفتونين ببريق الحضارة المنتصرة وإيحائها المتحرر فى الشئون الخاصة والعامة. فيقول : " انقسم زعماء الإصلاح كما رأينا إلى فريقين، فريق ينظر إلى قديم الشرق والمسلمين، يتغنى به ويستوحيه، وفريق ينظر إلى ما حقق الغرب فى حاضره من تفوق فهو يزينه للمصريين ويدعوهم إلى احتذائه والسير على خطاه. وسرى هذان الأسلوبان فى كل شئون الحياة، فأصبحنا أمام فريقين متقابلين. فريق يدعو الناس إلى الثورة على الماضى، يدفعهم إلى الجد دفعا لا رفق فيه ولا هوادة، وبحملهم عليه حملا لا تدرج فيه. وفريق آخر يريد أن يوقظ ضمائر الناس ووعيهم عن طريق الدين، ثم يتركهم بعد ذلك للتطور الطبيعى، محذراً مما تنطوى عليه الطفرة من أخطار لا يؤمن معها العثار، مناديا بأن أى بناء لا يقوم على أساس تنقية النفس وإحياء الضمير هو بناء فوق رمال، لا يعلو إلا لينهار. ... ظهرت آثار هذين التيارين فى السياسة، فكان أنصار الجامعة القومية يمثلون الفريق الأول، وكان أنصار الجامعة الإسلامية يمثلون الفريق الآخر. وظهرت فى الأدب وفى الفن، فكان هناك فريق يتخذ مثله الفنية من الأوروبيين. وكان فريق آخر يستمد قيمه من قديم العرب ومن تقاليد الشرق. وظهرت فى التعليم، فكانت هناك مدارس عصرية تأخذ بأساليب الدراسة الأوروبية ومدارس أوروبية للجاليات الأجنبية أقبل عليها أبناء الأغنياء من المصريين، وكان إلى جانبها معاهد دينية تقتصر على العلوم الشرعية والإسلامية وما يتصل بها. وظهرت فى المجتمعات وفى سائر شئون الحياة، فكان هناك مجددون، أو مقلدون إن شئت، يبغضون إلى الناس قديمهم البالى ويصرفونهم عنه داعين إلى مسايرة العصر والأخذ بكل مستحدث(1/104)
طريف، وكان هناك المحافظون فى الأزياء وفى آداب الاجتماع وفى أساليب العيش وأنماط الحياة. وقد نشأ عن هذين التيارين المتباينين تناقض فى الحياة المصرية، التى جمعت ص _10 ص
بين المحافظة المتزمتة، وبين التطرف فى الأخذ بأسباب المدنية الغربية ، وبين التوسط الذى يأخذ من كل من الاتجاهين بنصيب. وبدأ التناقض فى قصر الخديوى " عباس "، وسوى منه إلى بيوت الأغنياء والمترفين. فكان " عباس " يحتفل فى قصره بشهر رمضان احتفالا عظيما، فيدعو إلى مائدته مختلف الطوائف، ويحضر مع حاشيته دروس التفسير منذ السنة الأولى لحكمه، ولكنه كان يقيم مع ذلك حفلا راقصا فى عابدين كل عام منذ سنة 18 ص 5، يمتد فيه السهر إلى الصبح، وكان يسمى (ليلة البللو). وقد حج " عباس " مع والدته إلى بيت الله الحرام سنة 1 ص 0 ص . ولكنه كان يسافر مع ذلك فى رحلة طويلة إلى أوروبا كل عام. وقد وضح أثر هذا التناقض فى شعر شوقى ـ شاعر القصر ـ فتجاور فى ديوانه وصف المرقص والخمر، مع مدائح الرسول وتمجيد الإسلام. وكانت هذه الصيحات المتباينة المتنافرة التى تأخذ الناس من كل جانب تفزع كثيراً من المصلحين وأصحاب الرأى، لما ينشأ عنها من بلبلة الأفكار واختلاط القيم فى أذهان الناس " أ. هـ. *** وهذا أولا: وصف صادق لطبيعة الحياة المنبثقة من بيئتنا وطبيعة الحياة الوافدة علينا مع الغرب الغالب المستعلى. ثم هو ثانيا: إيماء سريع إلى تبدد القوى هباء بين الطبيعيتين المتصارعتين وفقدان النهضة الشاملة التى تندفع إليها الأمة كلها عن اقتناع ومحبة بإعزاز.. فى حرب فلسطين كنت أرى شباباً تلمع فى أعينهم بوارق اليقين، وتظهر فى كلماتهم محبة الاستشهاد. خرجوا من ديارهم راكبين فى ثواب الله وحده يقاتلون اليهود المغيرين لأنهم يريدون استنقاذ أرض الإسلام من أعداء الإسلام... كان هذا النفر من الناس يسمع فى استغراب - أو قل فى استنكار- إنه خرج من أجل عصبية ما، أومن أجل شخص ما..(1/105)
وكان يندهش لما يتحدث به الساسة المسئولون عن فلسطين من أن هذه الحرب الناشبة يبن اليهود والعرب ليست حرباً دينية ولا صلة لها بدين. هذه الفجوة القائمة بين الجماهير والساسة تولد معها حركات الأمة ضعيفة أو ميتة ص _110
أما حيث الفكرة الواحدة والعاطفة الواحدة والروح الذى يمضى بالعامة والخاصة فى طريق مأنوسة مدروسة فإن النتائج تأتى مضعفة الثمار.. والحق أن المحاولات الناشطة لصرف الناس عن دينهم، و إقامة حضارة جديدة تتجاهل تاريخ أربعة عشر قرناً مرت على هذه البلاد، هى جهد فاشل، أو جهد لا ينتهى بخير أبدا. والتيار الغربى الناقم على الإسلام ليس ذوبانا فقط فى أهواء الفاتحين، بل لقد تبين أنه ينطوى على خيانات وطنية فزع لها الرجال القوميون أنفسهم فاستيقظوا أخيراً ليعلنوا مقاومتها ويحذروا مغبتها. أجل فإن الإلحاد ليس كفرا بالله يرجأ حسابه إلى ما بعد هذه الحياة. ومن ثم فلا خطر منه على دنيا الناس..!! كلا.. إنه كذلك انطلاق جامح عربيد يجب أن يراقب وأن تتقى أخطاره العاجلة. وقد مرت سنوات طوال -منذ سقط الشرق الإسلامى فريسة الاستعمار الحديث- وهذا التيار يقوى ولا يضعف ويقدم ولا يحجم فقدحت ضراوته وزادت شراهته. وسقط الستار فجأة عن أفاعيله بالشباب المتعلم فإذا هو قد فتك بأصول الأخلاق بينهم بعد ما خرب أفئدتهم من حقائق الإيمان وحرمات الدين. هذا الشباب المتعلم -كما يوصف- يصل إلى العشرين من عمره ويحتل مقاعده فى مدرجات الجامعات، وهو لم يتلق من المعارف الإسلامية شيئاً يذكر. ذلك أن الغزو الصليبى وضع مناهج الدراسة قديماً وهو يقصد عمداً أن يجهل الطلبة فى دينهم ليشبوا غرباء عنه. أو قل: أعداء له، وإذا وقع هؤلاء الضحايا فى أيد تزين لهم الإلحاد وتفرش لهم مزالق الرجس بالأزهار، وتوهمهم أن المشاركة فى الحضارة، والتطور مع الرقى لا يتمان إلا بهذا الضلال فكيف تكون الحال!. كتب الأستاذ " أحمد قاسم جودة ": " إذا كان لهؤلاء(1/106)
الطلاب عذر فى شرودهم وانحرافهم، فما عذ ر الذين وضعتهم الأقدار موضع التدريس والأستاذية؟ ماذا يمكن أن يلتمس من أعذار لأستاذ يمزح مع الطلبة على حساب دينهم وإيمانهم فيقول لهم: إنه سوف يعطى درجات إضافية فى الامتحان للذين يفطرون فى رمضان؟؟ ص _111
لقد سمعت هذه الرواية بأذنى من بعض الطلاب... " أ. هـ. ونتساءل نحن: هل هذا مزاح؟ فأين الفجور إذن؟ "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ". واسمع منه أيضاً هذه الوخزة: " إذا وصفت إنسانا بأنه صفر من الأخلاق فإنه سيثور لكرامته حتما، إلا في حالة واحدة، هى أن يكون هذا الإنسان " وجوديا " فإنه سيعتبر ذلك فخرا واعترافاً بوجوديته. لست أتجنى ولا أبالغ. ولكنى أقرر الحقيقة منقولة عن الرجل الذى يعتبر حجة الفلسفة الوجودية فى مصر.. وهو الدكتور، عبد الرحمن بدوى " الأستاذ بجامعة عين شمس. اسمعوا بالله ما يقول فى رسالة بقلمه صدرت بالقاهرة سنة 1 ص 53 بعنوان: هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟ " إما أن تقول بالأخلاق فتفقد ذاتك، وإما أن تقول بأن لا أخلاق فتخاطر بوجودك. لكن " الوجودى " الحق هو الذى يفضل أن يخاطر بوجوده على أن يفقد ذاته!! ". واسمعوا من فضلكم أيضاً: الوجودى الحق.. أعدى أعدائه القانون، إنه الحرية نفسها، فلا معنى للواجب فى عالمها. ولا تقييد لمدى انطباقها وانطلاقها، إنه الفعل الدائم أيا كان نوعه ونتائجه، فإن معانى الإثم والصواب كلها لا مفهوم لها فى هذا الباب. إننا معاشر الوجوديين لا نريد أن ننساق فى أحلام البراءة والبكارة والطهارة، بل نصيح ملء فينا: افعلوا! افعلوا! حتى لو أدى ذلك إلى الخطأ.. " إلى هؤلاء الأساتذة نكل الصفوف العليا من طلبة العلم. وإلى تبجحهم الهائل -باسم المعرفة الحرة- نتوقع منهم أن يقدموا لبلادهم جيلاً سليم المعدن صلب الرجولة أ. هـ. ص _112(1/107)
ويحدث هذا لدينا فى الوقت الذى لا تزال فيه أغلب الجامعات الغربية محافظة على تقاليد التدين وشارات العصور الوسطى. حتى لتتصل أبنية الجامعات بأبنية الكنائس وأبراجها وصلبانها. * * * وإليك مثل آخر ينطبق بفساد التوجيه عندنا، وانفلات التيار الإباحى إلى غاياته الوضيعة دون مبالاة أو استحياء. نشرت مجلة الثورة فى عدد قريب نبأ رحلة قام بها بعض طلبة كلية الحقوق وطالباتها.. بإشراف أحد الأساتذة.. وقالت المجلة: " إن الرحلة سادتها فوضى الاختلاط بين الطلبة والطالبات فرقص طالب وطالبة، وقعد الآخرون بعضهم مع بعض فى أوضاع شتى. وجاء أهل القناطر الخيرية لينظروا الطالب يرقص مع الطالبة، ليروا فتياننا مع فتياتنا فى أوضاع غير لائقة!! ". قال مندوب المجلة: " فذهبت إلى الأستاذ المشرف على الرحلة وأخبرته بما يستنكره الشعب من الطلبة والطالبات فلم يعبأ بما أقول ". ونشرت المجلة مع هذا النقد اللاذع صورة للطالب وهو يراقص الطالبة وقد التصق جسمه بجسمها وصدره بصدرها!!!. ونشرت صوراً أخرى عن ذكريات " الرحلة البريئة " لمجموعة من الشباب والشابات، ظهر فيها فتى وفتاة وقد أسند كل منهما ظهره إلى ظهر الآخر، بعد أن مد ساقه إلى الأمام أرخى ظهره إلى الخلف بعض الشىء.. وفيها ظهرت بنت أخرى ممددة أمام فتى آخر يبادلها مختلف الأحاديث، وثالثة، ورابعة... إلخ. كل ذلك أمام أنظار إخواننا الريفيين من أهل القناطر الخيرية. ونحن لا ننكر على الفتاة أن تطلب العلم، فطلب العلم فريضة.. أما رقص الفتى مع الفتاة على هذه الصورة من تحدى التقاليد والآداب.. فهو ما نريد أن نسأل عنه المشرفين على الجامعة.. فإن فتياتنا لم يذهبن إلى الجامعة ليتعلمن الرقص، ولم يذهبن إليها لتنظم لهن الرحلات العابثة والمخاصرة مع شباب متحلل لا يعرف دينه ولا يحترم آداب قومه. ص _113(1/108)
والواقع أن أولئك المشرفين الخائنين لأمانة التربية والعلم فريقان: * فريق شيوعى: يتوسل بالإلحاد لإشاعة الفوضى وخدمة مذهبه فى الحياة، وهذا الفريق يجب أن نفضح خبيئه، وأن نزن قيمته، فإن الشيوعية فى الصين فلسفة مثالية، وفى روسيا نهضة قومية، وفى مصر والشرق الأوسط نساء وخمر ولهو ولعب، أى أن الشيوعيين فى بلادنا هم أحقر شيوعيى العالم أجمع. * أما الفريق الآخر، فهو قوم احتل الاستعمار نفوسهم وتوطن مشاعرهم، فلو جلت جيوشه عن أرضنا فإن تعاليمه لا تجلو عن نفوس هؤلاء ومشاعرهم. بل إن ما يهون كارثة الجلاء على الإنجليز والفرنسيين وأشباههم أنهم يخرجون بأشخاصهم ويتركون خلفهم أولئك الهجناء المائلين إليهم والمعجبين أبداً بهم... ولذلك حق على الأحرار أن يغسلوا الوطن من أدرانهم وأن يطاردوهم حيث كانوا. إنهم أمساخ صنعهم الغرب ثم سيبهم هنا وهناك ليشفى بهم غليله على الإسلام، ويهدم بهم معاقل المقاومة الحقيقية ضده. وما شكونا منه قديماً فى مصر شكا منه إخواننا فى لبنان، إذ المؤامرة الاستعمارية واحدة. قال أسامة عيتانى: " ولكن السياسة الداخلية والخارجية فى عهد الاستقلال ما لبثت أن انقلبت إلى أسوأ مما كانت عليه فى عهد الانتداب. فإذا هى فى الدوائر والمؤتمرات والمهاجر لا تستهدف إلا غاية واحد ة إظهار لبنان كدولة مارونية مسيحية تنظر إلى السورى أو المصرى أو العراقى كما تنظر إلى اليابانى والصينى والهندى، ولا نقول الفرنسى مثلا أو الإيطالى..!! وإذا هذه السياسة تحافظ على أوضاع الانتداب الفرنسى القديمة فى التوجيه والتوظيف والمظاهر الشعبية كلها ". ويقول: " سل أى طالب تخرج من معهد أجنبى فرنسى فى لبنان عن نهر فى فرنسا، وعن موقع أى بلد شئت، وعن الصادرات والواردات، وعن القادة والشعراء والأدباء، وعن تاريخ تلك البلاد وجغرافيتها فإنه يجيبك بالتفصيل! وسله عن أقرب بلد عربى إليه، سله عن سوريا وعن العراق وعن مصر، بل سله عن لبنان(1/109)
نفسه تجده جاهلا كل الجهل بهذا العالم الذى يعيش فيه...!!! وهكذا قل فى الطالب الذى ينشأ فى المدارس التبشيرية الإنجليزية والأمريكية والإيطالية. ص _114
إن سيطرة أوروبا الثقافية لا تزال تحتل المركز الأول فى حياتنا العقلية وثقافتنا الوطنية، ومناهج تفكيرنا، فكيف تريدون أن تخلق تلك المدارس مواطنين صادقين يتحلون بالنزعة الوطنية الصادقة والإحساس القومى العميق. إن الوطنية الصادقة والإيمان القومى لا ينبثقان إلا من اللغة وآدابها، ومن التاريخ والتربية الوطنية، فكلما درس الناشىء لغته كلما أحبها وآمن بقدرتها على الحياة والخلود، وكلما عرف تاريخ بلاده ازداد تعلقاً بها وإيماناً بكرامتها.. لقد دخلت البعثات الأجنبية بلادنا منذ قرن، وهى تحمل رسالة تبشيرية استعمارية فاتخذت العلم ستاراً لها.. وأصبحنا أمام مدارس إيطالية وفرنسية وإنكليزية وألمانية وروسية وأمريكية مسئولة عن هذا التبلبل الفكرى والقومى الذ ى نراه بيننا، أحيت العصبيات الطائفية أو حنطتها حتى جعلت تفكيرنا، ومصالحنا المشتركة، ووحدتنا الاجتماعية رهينة هذه النزعات الملية، وحتى اضطرت المخلصين من أهل البلاد إلى إنشاء معاهد تقاوم هذا التيار الأجنبى الجارف، وتقف فى وجهه لتحفظ على قسم كبير من أهل البلاد دينهم وعروبتهم وتاريخهم، فكانت هذه المؤسسات نفسها تبشيرية وطنية، وظلت فى نزاع عقائدى وثقافى، مع المعاهد الأجنبية حتى يومنا هذا. إن المعاهد الأجنبية فى لبنان هى اليوم مراكز دعاية استعمارية لدولها، ومبعث تفرقة وتباغض لسكان البلاد.. ولقد أدركت خطورتها بعض البلاد العربية منذ أمد قريب فقاومتها بالأساليب الوطنية الفعالة حتى قضت أو كادت تقضى عليها ". ثم قال: " لا يجب أن نفرح بجلاء الجيوش الأجنبية عن بلادنا، بل يجب أن نبتهج ونفرح بجلاء المعاهد الأجنبية عن تفكيرنا وأرواحنا. فالجلاء عن الفكر والروح هو الجلاء الحقيقى.. ". أ. هـ. * * * حقاً إن للمعاهد(1/110)
الأجنبية رسالة بعيدة الأهداف، تمشى إليها فى خطوات حثيثة وتقطع إليها المراحل فى نجاح، لأن المخدوعين فيها جم غفير، ولأنها تحت عنوان العلم الذى لا وطن له تلقى العون فى أداء مهمتها، أى فى بلوغ مآربها..!! ص _115
ومآربها متصلة أوثق الاتصال بعمل الدول الغربية فى ربوع الشرق الذى احتلته بقواتها وأخضعته لاستغلالها وأرسلت أبناءها وعملاءها فى ثياب شتى ليمهدوا لها باللطف ما عز بلوغه بالعنف. وقريب من عمل هذه المعاهد الأجنبية عمل المدارس المدنية التى تضع مناهج مبتوتة الأواصر بالدين واللغة، أى بالإسلام والعروبة، ويبدو أن الاستعمار الأوروبى يريد تكوين شعوب على درجة كبيرة من الأمية العقلية والاجتماعية، وعلى درجة أكبر من الأمية الدينية والتاريخية، ومن ثم فهو يضلل سياسة التعليم فى كثير من البلاد التى وقعت فى قبضته حتى يشب أبناؤها غرباء على بيئتهم وتاريخهم، ثم هو يشحن أذهانهم بمعارف قليلة الجدوى حتى لا يبقى فيها متسع للصالح المفيد.. وتأخر البلاد العربية فى مضمار الحياة العامة لا يعدله إلا تأخرها فى دراسة دينها، والإفادة من روحه فى بعث نهضتها.. وقد شكت " الجمهورية " من انهيار المستوى الثقافى بين من يحملون إجازات عليا، وألحت فى الإسراع بعلاج هذه الحال المؤسفة. وإليك ما كتبه أحد محرريها مندداً بالحصيلة العلمية للخريجين الجدد: " إن السيد المسيح، ولد منذ خمسمائة عام!. والذى بنى قلعة القاهرة، هو نابليون بونابرت والقناطر الخيرية موجودة فى أسوان!.. والمسافة بينها وبين القاهرة، هى مائة كيلومتر! أما الزكاة فهى نظام اقتصادى اخترعه أبو حنيفة!.. وسعر الجنيه المصرى هو 12 دولاراً.. "! والذين جرت على ألسنتهم هذه المعلومات القيمة، ليسوا نجوم " ساعة لقلبك " أو غيرهم من أبطال الفكاهة والتنكيت.. كما قد يتبادر إلى الذهن.. وليسوا أيضاً من تلامذة رياض الأطفال الذين لم يبدأ تعليمهم بعد.. ولكنهم مجموعة من حملة(1/111)
الشهادات العليا الذين أتموا تعليمهم وتخرجوا فى الجامعات.. والمفروض أنهم حصلوا على قدر كبير من التعليم!! وقد خرجت هذه " الدرر " من أفواههم ردا على الأسئلة التى وجهتها إليهم اللجنة ص _116
التى شكلت مؤخراً بمصلحة الاستعلامات لامتحان المتقدمين إلى شغل الوظائف الخالية بمصلحة السياحة! ومنذ أسابيع أجرت محطة الإذاعة امتحاناً لاختيار عدد من المذيعين الجدد... أظهر فيه بعض المتقدمين إليه ـ من حملة الشهادات العليا أيضاً ـ سعة إطلاع مماثلة للتى أظهرها زملاؤهم الذين اشتركوا فى امتحان مصلحة الاستعلامات.. وأذكر أن أحدهم قال يومها إن عاصمة لبنان هى.. يافا!! نعم إنه يخطئ فى معرفة عاصمة لبنان ولكنه لا يخطئ فى معرفة عاصمة إنجلترا، إنه يعرف كل شيء إلا بلاده وتاريخه ولغته ودينه!! والنتيجة؟؟ لقد فحشت نسبة الخارجين على الدين بين طلاب الجامعات حتى أن إحدى المجلات المشتغلة بالحياة الجامعية أجرت إحصاء زعمت بعده أن نسبة المؤمنين ص % وأن نسبة الملحدين 32%. والبقية؟ إنها تضطرب فى الفراغ الموحش بين إسلام موروث وإلحاد معروض وتوجيه خبيث ورعية متروكة للذئاب. قالت " الجمهورية ": " إن الملاحدة فى الجامعة كثرة غالبة، وهى لا تعترف بالخالق بل تعترف بالمخلوق، إنها تغالى بعظمة الإنسان المجرد، وحريته وحضارته وجبروته، ولا تفكر فيمن خلق الإنسان ولا تصل بوجوده شيئاً من الأشياء. وقد تجلت العبقرية على تلميذ فى كلية الحقوق -ذكرت الصحيفة اسمه- فصرح بأن الأديان فلسفات أدت دورها فى مرحلة معينة ثم انتهت رسالتها وأخلت الطريق للعلم "!! وأرسل فيلسوف آخر -يشتغل تلميذاً بكلية الآداب بجامعة القاهرة- هذا التصريح، وقد نشرته " الجمهورية " مقروناً باسمه، قال: " إن الدين فى نظرى إيحاء خرافى! والأديان فاشلة.. وأنا لا أستعملها!! ولا أتبع تعاليمها لأنها تعطلنى وأنا أومن بالوجودية وشعارى سأعلم ابنى كيف يصبح بلطجيا: وابنتى كيف تصبح(1/112)
فاجرة إن شاءت..!!!. وكتبت بنت أخرى فى كلية الآداب أيضا تقول: " إن الدين لا قيمة له؟ لأن الشىء يعرف بآثاره ولا أرى فى المجتمع أثراً يدل على الدين ". ص _117
ومن الإنصاف أن ننوه بحملة الاستنكار التى شنتها " الجمهورية " على جراثيم هذا الفساد العريض، ولعلها تحسن البقاء على هذه الخطة!!! وقد تسأل : هل تلاشى الإسلام، أو هان أمره إلى حد انفساح المجال كله أمام التيار الآخر يصنع فيه ما يشاء؟ وأقول: إن التيار الإسلامى قائم فعلا، وإن الركود الذى عراه غيمة عارضة، انعقد دخانها من الدخلاء عليه إذ أثاروا فتنة ما كانوا فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، فخذلتهم أسباب الأرض وتخلت عنهم عناية السماء. وإنى لأنظر إلى علماء الدين وتراخيهم فى إبلاغ رسالات الله، بل إلى قصورهم فى فقهها على وجهها.. فأتشاءم من المستقبل. بيد أن تأصل الإيمان فى طباعنا وغور جذوره فى تربيتنا ويقظة الراشدين من الكتاب والمربين.. كل ذلك يرد على النفس الأمل. ذلك إلى أن تطوراً كبيراً حدث فى سياسة مصر وأكثر الدول العربية وهو إعلان سياسة الحياد، ورفض التبعية التقليدية لجبهة الاستعمار الغربى. إن هذا التطور هزيمة نكراء لعملاء الغزو الثقافى والاجتماعى، وقطع لموارد الحياة والتحدى عنهم. فهل يحسن الدعاة إلى الله أن يستغلوا هذا الموقف؟ ص _118(1/113)
الغزو الثقافى 1- ينبغى أن نفرق بين الثقافة الذاتية لأمة ما، وبين العلم الذى لا وطن له والذى يشيع بين الناس دون عائق! نعم هناك معارف تتصل بالكون والحياة يتناولها الناس حيث كانت، بل لعلهم يدفعون المال والجهد لتحصيلها.. وآثار هذه المعرفة متشابهة كالجسر الذى يبنى على شاطئ نهر فى الصين، لا يختلف كثيراً عن زميله الذى يبنى فى أوروبا، وقواعد الهندسة التى تحكمهما واحدة.. والجراحة التى تجرى للجسم الإنسانى فى أمريكا هى هى التى تجرى له فى أى مستشفى آخر متقدم، والتعليمات الطبية المقررة لا تختلف هنا وهناك! والناس يتسابقون إلى إحراز الكثير من هذه العلوم، بل لعل الروس مثلا يتجسسون على خصومهم فى الغرب ليروا: هل سبقوا إلى تقدم ذرى أو تفوق فنى فى أى مجال لينقلوه عنهم!! لكن هل ينقلون عن خصومهم الفكر الاقتصادى أو التنظيم الاجتماعي أو فلسفة القيمة والعمل؟ لا..! إن الثقافة الذاتية للأمة شىء آخر غير العلم العام! هذه الثقافة هى التى تصنع "شخصية" الأمة وتبرز معالمها وتحدد خصائصها وتقرر تقاليدها وقوانينها وتستحسن لها أشياء وتستهجن أخرى، بل هى التى تكون مزاج الأمة العام وأدبها وغناءها وما يطربها أو يشجيها، ثم تخط لها مجراها الخاص فى الحياة الإنسانية... ولا نزعم أن كل ثقافة ذاتية لأمة تستند إلى أساس صحيح، ولكنا نؤكد أن كل أمة ترى فى هذه الثقافة الخاصة كيانها الأدبى وملامحها المميزة وتعتبرها ذاتها، ثم تدافع عن ذاتها بما تملك.. وبالنسبة لنا نحن المسلمين عامة والعرب خاصة ننظر إلى ثقافتنا الذاتية نظرة أخرى، لأنها تراث نزل من السماء ولم ينبت من الأرض، إنها جملة العقائد والعبادات والقوانين والأخلاق والحدود والحقوق والقيم والمُثل التى حوتها رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ، وهى كذلك جملة الآداب والصور الفنية التى أثرت عن العرب، لأن اللغة العربية هى لغة الوحى الإلهى الباقى، ومن ثم ضبطنا مفاهيم الألفاظ وصور(1/114)
التراكيب وديباجة الأداء فى الشعر والنثر، لأن خلود هذه اللغة سياج لخلود الرسالة الإسلامية، ومعنى ذلك ص _11 ص
جميعه أن ثقافتنا الذاتية هى ديننا ودنيانا، وماضينا ومستقبلنا، هى أصلنا الذى انبثقنا منه وفرعنا الذى نمتد معه، ونحن نتزود بجميع ألوان المعرفة الإنسانية كى نحسن الحفاظ على ثقافتنا الذاتية والعيش بها وتقديمها للآخرين نموذجاً حياً لطريقتنا الأثيرة فى الحياة وفق ما أراد الله لنا وطلب منا، إن العرب لا يمثلون قومية خاصة وإنما يمثلون رسالة سماوية، وكل زعم وراء ذلك فهو إفك!!. 2- وطبيعى أن يكون لهذا الخط الإسلامى أعداء يضيقون به عن جهل أو جحود، ولكن هذه العداوات لن تنل منه! فقد بدأت الأمة الإسلامية من هذه الجزيرة مجتمعا وسيم الملامح جميل القسمات مبارك الآثار، واستطاع هذا المجتمع القوى الغنى أن يطوى الوثنيات القائمة فتلاشت! وأن يكسر العسكرية اليهودية فتبددت! وأن يطارد الاستعمار الرومانى فعاد إلى أوروبا من حيث جاء! بل لاحقه المسلمون هنالك، ولو صدقوا النية والعزم لاجتثوه من جذوره.. على أية حال استطاع الإسلام تكوين أمة بين المحيطين الهادى والأطلسى، لها ثقافة عامرة وتقاليد شريفة أسدت للإنسانية خيرا لا حدود له، و إن شابت هذا كله أخطاء شتى ربما بدأت تافهة ثم نمت على مر الزمان فجرت على الأعقاب الكوارث الشداد..!! ... ونظرة عجلى إلى الماضى، لقد أبى الأوروبيون التسليم بالهزيمة التى أصابت الدولة الرومانية وأنزلت أعلامها عن إفريقية وآسيا، وانتهزوا فرصة من غفوة المسلمين واسترخائهم فشنوا حرباً صليبية طويلة الآماد، هجمت فيها ألوف مؤلفة من المتعصبين القساة، كلما انتهى زحف تبعه آخر فى حركات متشنجة مشبوبة الحقد ميتة الضمير، وظلت كذلك مائتى عام دون جدوى، فإن المسلمين الذين انهزموا أولاً واحتلت أرضهم توارثوا المقاومة المستميتة فأمكنهم بعد بلاء شديد أن يصدوا العدوان ويغسلوا كل ما خلف. والغريب أن(1/115)
المسلمين الذين انتصروا لم يستفيدوا من هذا النصر ولم يأخذوا منه العبر الواضحة، أما الصليبيون الذين انهزموا فقد درسوا أسرار الهزيمة وقررا أن يتلافوها في هجوم آخر يدكون به أسوار الإسلام! وأكد ذلك "لويس التاسع" في وصيته. ويسوءنى أن أقول: إننى ما كنت أعرف شيئاً عن وصية "لويس" التاسع حتى الأربعين من عمرى، ومن أين أعرف ودراستنا للتاريخ رديئة كل الرداءة، ثم قرأت ترجمة للوصية المذكورة في كتاب عن "العلاقات بين الشرق والغرب من الحروب ص _120(1/116)
الصليبية إلى اليوم " فعرفت العلل الكامنة وراء كثير من المصائب الاجتماعية والعلمية التى نواجهها. إن لويس التاسع يرى أن يؤخر دور السيف ويقدم دور الخديعة، وأن يجند جيش كثيف من المبشرين لتحويل المسلمين عن إيمانهم، وعلى أوروبا أن تنظم هذا الجيش وتحميه. ويرى لويس التاسع أن المعالنة بالقضاء على الإسلام خطأ، ويوصى قومه باستبطان ذلك وإظهار غيره، ويرى ضرورة دراسة الشرق الإسلامى وأحواله -أى إنشاء طائفة المستشرقين- لتيسر وضع اليد الصليبية عليه، كما يرى ضرورة الانتفاع بنصارى الشرق فى الكيد للمسلمين عموما..!! وقد قُتل " لويس " فى حملة صليبية على تونس بعد فشل حملته الصليبية على مصر، ولكن خطته التى وصى بها تعتبر الأساس الدبلوماسى والعسكرى للسياسة الأوروبية من قرون طوال، ورأيى أن الرجل الفاشل هو الذى وضع دعائم الغزو الثقافى ليحقق انتصاراً أعياه نيله فى ميادين القتال، فلننظر إلى اتجاهات هذا الغزو الخطير لنعرف ما حقق، وكيف يسير..؟ فإن أوروبا فى علاقاتها بالعالم الإسلامى سارت على خطة علمية مدروسة لا مرتجلة تغزو بالسيف والقلم، وتجمع بين اللطف والعنف، تعرف هدفها وتسير إليه فى ثبات ودهاء.. 3- استطاع الغرب أن يضع يده على العالم الإسلامى كله منذ قرن أو أكثر، وكان المسلمون فى حال يرثى لها من التخلف المادى والأدبى، على حين كانت النهضة الصناعية مزدهرة فى أقطار أوروبا وتيقظت معها علوم وفلسفات إنسانية كثيرة، فلما قدم الصليبيون الجدد كانت الأرض ممهدة لهم كى يصنعوا ما شاءوا وقد شرعوا لفورهم يعملون ضد الإسلام فمزجوا الختل بالقتل ومشى الغزو العسكرى بين طلائع من الغزو الفكرى، وأحكم المغيرون خطتهم هذه المرة فإذا الغارة الجديدة تفتك بالإسلام فتكا ذريعا، وتحقق فى القرن العشرين ما لم تحققه فى حروبها من عشرة قرون، ونريد أن نذكر صورا من المحو أو التشويه الذى أصاب الإسلام وأمته فى شتى الميادين، نتيجة لنجاح هذا(1/117)
الخطط.. 4- ظهرت فى العالم الإسلامى بدعة ازدواج التعليم، وانقسامه إلى دينى ومدنى. فالتعليم الدينى يقوم على مخلفات بالية أو قشور من الفكر الإسلامى ص _121
واللغة العربية، ويحرم من دراسة العلوم الحديثة أو يأخذ منها أنصبة تافهة، ويكتفى فى هذا التعليم المحدود بحفظ ألفاظ القرآن كلا أو بعضا، وبدراسة العلوم الشرعية واللغوية على نحو سقيم ويوزع خريجو هذا التعليم على... نواح جانبية من المجتمع الإسلامى ريثما يتم الخلاص منهم ومن قصورهم الملحوظ. أما التعليم المدنى فتتوفر فيه دراسة الكون والحياة، وتتسع فيه الدراسات الإنسانية المجردة، وربما حصل الطالب العربى على أنصبة ضخمة من هذه المعارف المحترمة تساوى ما يحصل عليه زميله فى " موسكو " أو " لندن "، أما العلوم الدينية والعربية فإن الطالب لا يكلف بها ولا يتناول أنصبة محترمة منها. وإذا قدم له شىء تحت ضغط ظروف معينة فذرا للرماد فى العيون، ويكاد التعليم الثانوى والجامعى أن يقفر كل الإقفار من المعرفة الإسلامية النافعة، ومن هنا يتخرج المهندسون والأطباء والكيماويون والضباط والمحاسبون وغيرهم وهم لا يدرون شيئاً طائلا عن دينهم، بل إن دارسى الحقوق لا يعرفون عن الشريعة الإسلامية إلا مثل ما يعرفون عن القانون الرومانى البائد. وقد نشأ عن ذلك أن قادة المسلمين ـ وجملتهم من هؤلاء ـ يحيون مقطوعى الصلات بدينهم، بل قد يضيقون به ويعملون ضده، أما من يتسمون علماء الدين فهم صرعى قصورهم وانقطاعهم، وقلما يصلحون لعرض الإسلام والحديث عنه، والفجوة بين التعليم الدينى والمدنى تعمق على مر الزمن. والهدف الذى خطط له الغزو الثقافى أن يتلاشى التعليم الدينى وتتحول جامعاته الكبرى إلى جامعات مدنية، وأمله ـ إن لم يقع ذلك قريبا ـ أن يكون المنتسبون إلى الدين موضع الإهمال والزراية بضحالتهم وعجزهم وتنكر الدنيا لهم.. ونرى أنه لن تنتهى هذه المأساة إلا إذا محت بشكل حاسم بدعة ازدواج(1/118)
الثقافة، وتقرر أن يكون كل متعلم حاصلا على حظ معقول من علوم الدين واللغة يربطه بتراثه وحضارته ومثله العليا، ويجعله يحيا لأمته لا لأعدائها، يحيا لدينه وتراثه لا ذنبا يتبع كل تيار، ويصدق كل ناعق. 5- واتجه الغزو الثقافى إلى لغة القرآن فأصابها إصابات قاتلة، إذ عزل هذه اللغة عزلا تاما عن تدريس العلوم، فلا وجود للغة العربية فى كليات الطب أو الصيدلة أو الهندسة أو العلوم أو غيرها من الكليات التى تدرس الكون والحياة. واللغة الإنجليزية ص _122(1/119)
هى لغة العلم فى البلاد التى خضعت للاستعمار الإنجليزى، واللغة الفرنسية هى لغة العلم فى البلاد التى خضعت للاستعمار الفرنسى، واللغة الروسية طبعاً هى لغة العلم لملايين المسلمين الذين عاشوا أو ذابوا فى الاتحاد السوفيتى. وكما أميتت اللغة العربية فى هذا الميدان أميتت فى ميدان التقدم الحضارى على اختلاف أبعاده المدنية والعسكرية والمنزلية والاجتماعية، فإن الألفاظ الأجنبية وحدها التى تستخدم لألوف الأجهزة والسلع والمصطلحات الحديثة. وزاد الطين بلة أن لغة التخاطب والحوار أخذت تتجه بقوة إلى اللهجات العامية، واستطاع الغزو الثقافى فى كثير من الإذاعات والصحف أن يبعد العربية عن هذا المجال كذلك! بل إن بعض الزعماء أخذ يخطب بالعامية المحلية لقطره، ويدع الحديث بالعربية وإذا تحدث بها فبعد إعلان حرب شعواء على قواعد اللغة وضوابطها، إنه يستحى من أى خطأ يقع فيه لو تكلم بالإنكليزية أو الفرنسية ويرى ذلك نقصا شائنا. أما اللغة العربية فإن الخطأ فيها لا حرج فيه لأنه لا مكانة لها.. والمقصود بعد موت اللغة العربية ـ لا قدر الله ـ أن يوضع القرآن فى المتاحف، لأنه لا يوجد بعد ذلك من يفهمه!!. واقتضيت الحرب المعلنة على اللغة أن يحقر أدبها العالى وشعرها الرصين فأهيل التراب على أسماء شوقى وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، وأحمد محرم، وعزيز أباظة، وظهر شىء آخر دميم الصورة والسريرة اسمه الشعر المنثور، وانضم إليه الزجل والموال وغير ذلك من الهراء الذى سقطت به مكانة الفن العربى وانقطعت به العلاقات بين أدبنا القديم والحديث.. وأحب أن أعالن بأن الحفاظ على لغة العرب من شعائر الإسلام، وأن دحرجة هذه اللغة إلى منزلة ثانوية خيانة لله ورسوله، وإن تعلم النحو والصرف كتعلم التفسير والحديث، وأن إقرار الأخطاء اللغوية كإقرار المعاصى الدينية سواء بسواء. 6-واتجه الغزو الثقافى إلى الشريعة الإسلامية ليخلع عن رأسها التاج ويعزلها عن مكان الصدارة(1/120)
لقد كانت هذه الشريعة تحكم فى الدماء والأموال والأعراض وتحرس الحقوق الخاصة والعامة، وتقرر الحدود فى العلاقات المحلية والعالمية، والمدهش أن الرومان يفخرون بقانونهم ويخلدون مبادئه ومواده! ص _123
وما القانون الرومانى إلى جانب الشرع الإسلامى؟ إنه كبئر آسنة إلى جانب النيل أو الفرات أو كأكوام تراب إلى جانب الجبال الشم!! إن الفقه الإسلامى استبحر فى حضارتنا واستوعب من مصالح الدنيا والدين ما يبهر ويعجب، وقد كتب الفقهاء المسلمون ألوفا مؤلفة من المجلدات التى عمرت بالآراء الذكية والاجتهاد الحر، وظل هذا الفقه يحكم المسلمين وغيرهم بين الأطلسى والهادى حكما راشدا كافيا مغنيا حتى دخل الاستعمار الحديث فأخذ ينفس عن حقده على الإسلام بمكر وخبث، فألغيت شرائع الحدود والقصاص، وعطلت المقررات الإسلامية فى شتى القضايا الحساسة وتركت إلى حين قوانين الأسرة وها قد بدأت فى بعض البلاد صيحات العملاء لتغيير أنصبة المواريث وتنصير بقية الصلات العائلية!!! لقد اتفقت جميع الدول الاستعمارية على إلغاء التشريع الإسلامى وقصدت بذلك إلى أمرين: أولهما إبعاد الإسلام عن الحياة العامة وتجريده من سلطة الأمر والنهى واتهامه بعدم الصلاحية للبت فى شئون الناس. والأمر الثانى تمزيق الضمير الدينى عند الرجل المسلم لأنه إذا رأى أمر الله معطلا فى شأن من الشئون هان عليه أن يعطل في شأن آخر.. فإذا قرأ قوله تعالى: " كتب عليكم القصاص " ورأى هذا المكتوب لا ينفذ سهل عليه أن يقرأ قوله تعالى: " كتب عليكم الصيام " دون أن ينفذ هذا المكتوب أيضا. والواقع أن الاحتلال القانونى الأجنبى لم يدمر الشريعة وحدها، وإنما دمر كذلك عقائد وعبادات. وماذا كسب المسلمون، بل ماذا كسب الناس كلهم من تعطيل الأحكام السماوية؟ لا شىء إلا انتشار الفوضى والمفاسد، لقد أبيح الزنا والربا والخمر والقمار، واختلطت حرية الفكر بحرية الهوى والقانون الوضعى وراء هذا كله. 7- ودراسة(1/121)
العلوم الإنسانية تحتاج إلى شىء من التأمل، وهذه العلوم هى علم الأخلاق والتربية والاجتماع والنفس والاقتصاد والسياسة وغير ذلك، وتسميتها علوما ضرب من التجوز فهى فروع فلسفية تعتمد على الفكر أكثر من اعتمادها على التجربة، وموضوعها الإنسان وملكاته ورسالاته فى هذه الحياة، وهذا الموضوع أشبعه الإسلام دراسة وأغناه بجملة وافرة من الأحكام والمبادئ والتطبيقات. ولكن العلوم الإنسانية تدرس فى أوروبا ثم تترجم هذه الدراسة إلينا، فإذا الوالد ص _124(1/122)
الذى يذكر لها كلها هو اليونان، إن جرثومتها الأولى لم تعرف لها من أرض الله وطنا إلا اليونان، ثم تقفز هذه الدراسة مسافة ألف سنة لتظهر فى أوروبا وتبدأ عملها هناك! عجباً أين كانت خلال هذه القرون، كانت فى بغداد ودمشق والقاهرة ومراكش؟ إن الجواب معروف ولكن لا يجوز النطق به، لأن العرب والمسلمين لا يجوز أن ينسب لهم فضل ولا أن يعرفوا بين الناس بخير!! ليس لعلماء المسلمين أى جهد فى ميدان العلوم الإنسانية، هكذا يكذب الاستعمار الثقافى ويريد إفهام الناس أن علماء المسلمين لم يسهموا بشىء فى مجال العلوم أو الفلسفة، ثم أطلق إشاعة سرت للأسف بين بعض القاصرين عندنا، وهى أن العصور الوسطى عصور ظلام، لقد كانت عصور ظلام فى أوروبا حقاً، لكن هذه العصور كانت تتألق بالسنا فى عواصم الإسلام، إن المدن العظام فى آسيا وإفريقية كانت عامرة بالجامعات والمكتبات، وكانت تتأنق فى ألبسة زاهية من التفوق الحضارى العالمى. وقد استفاد الأوروبيون معرفتهم بالعلوم الإنسانية والعلوم التجريبية من الحضارة الإسلامية الغلابة فى هذه العصور، ولكن الحقد الأعمى يريد تزوير التاريخ وإنكار الحق.. ثم يجئ دور الغزو الثقافى فى هذه الأيام العجاف يحاول إفهامنا أننا لسنا بشىء وأن آباءنا ما كانوا شيئاً؟! فإذا قلت للأوروبيين لقد مكثتم ـ قبل عصر الإحياء ـ خمسة عشر قرنا تأكلون خشاش الأرض وتعصف بكم الأوبئة لكثرة ما يحف بمساكنكم من أوحال وقمامات فمن أين تعلمتم ونهضتم؟ لقالوا تعلمنا من " المريخ " أو من "الزهرة" ولأبوا أن يعترفوا بالفضل لأهله ويقولوا: هو فضل العرب علينا وعلى الناس!! وللمستشرقين دور كبير فى تزوير التاريخ وتحريف حقائقه؟ وهناك نفر من الأدباء الذين اتصلوا بهم وتلقوا عنهم شاركوا فى خدمة الاستعمار الثقافى وهدم الكيان الإسلامى، ولكن سرعان ما ضبط بعضهم، ونحن إن شاء الله ماضون فى القبض على الباقين.. إننى أرفض التعاظم بالآباء ولكن إذا كانت(1/123)
الأمم التى لا تاريخ لها تصنع لنفسها تاريخا يكون منطلقاً لنشاطها، والأمم التى لها تاريخ حافل بالتعصب والمآسى تستر أخطاءها وتحاول الاعتذار عنها فهل المسلمون وحدهم هم الذين يستباح تاريخهم وينكر جميلهم وتلتمس العيوب لتراثهم؟ ذاك ما يريده الغزو الثقافى، إنه يريد أن يعرف أولادنا الكثير عن نابليون، وواشنطن، ومونتجمرى، ولا يعرفون شيئاً عن خالد أو صلاح الدين أو قطز وبيبرس... ص _125
8- وفى بعض الأقطار الإسلامية ظروف اجتماعية واقتصادية معقدة، أمكنت التبشير أن يتوغل فيها ويستفيد منها، بل إنه رتع فيها كما يرتع الداء فى جسم لا مناعة له ولا تماسك به!! وهو يستغل المال الكثير المبذول كى يربى اللقطاء ويكفل اليتامى ويزيغ بهم جميعاً عن الصراط المستقيم. وقد وضع يده على الألوف من الأطفال فى أعقاب الانقلاب الشيوعى الفاشل فى " إندونيسيا " ولعله الآن يتلمظ ليضع يده على عشرات الألوف من اليتامى العرب الذين قتل آباؤهم فى الحرب اللبنانية الأخيرة. وظاهر أن الاستعمار التبشيرى يتوسل بالخدمات الاجتماعية والتعليمية، كى ييسر الارتداد على أبناء المسلمين، والغزو الثقافى هنا كما يبرز فى ملجأ أو مستشفى يبرز فى مدرسة حضانة، أو دار نشر، أو معهد فنى، أو رواية تمثيلية. ونحن لا نلوم الآخرين على انتهاز الفرص لخدمة ما يعتقدون، ولكنا نلوم أنفسنا إذ تركنا فراغا امتد فيه غيرنا. ومن ترك باب داره مفتوحا لا يلوم اللصوص إذا سرقوا مدخراته، وقديماً قيل: ومن رعى غنماً فى أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد!! وهذا يجرنا إلى الحديث عن المقاومة الإسلامية للغزو الثقافى وضرورة تقوية حصوننا المهددة. ص - الإسلام جدير بسيادة الدنيا لو وجد رجالا يجيدون عرضه كما جاء من عند الله دون نقص أو تزيد. وقد كان العلماء فى العصور الزاهرة كثرة تسر. وكان معارضو الإسلام قانطين من مواجهته فى ميدان فكرى. لأنه يجتاحهم اجتياحا، لكن الجبهة الإسلامية(1/124)
اليوم تتسم بالعجز أو القصور فى الميدان العلمى حتى طمع فيها من لا يدفع نفسه، والحديث مستفيض عن الأزمات التى يعانيها الإسلام فى الدعاة وفى الفقهاء، وهى أزمات -إن بقيت- فالعاقبة وخيمة. ومن ربع قرن كان لدينا علماء يعرفون جوانب حسنة من الإسلام. وأذكر أن أحدهم وهو من شيوخ الأزهر المحترمين اعترض خطبة لى كنت حبذت فيها الإشهاد على الطلاق، وعدم وقوع الطلاق البدعى، قال لى كيف قلت هذا الكلام؟ قلت: مذهب إسلامى أعجبنى ورأيته يعالج بعض مشكلات الأسرة! ص _126(1/125)
قال: هذا مذهب مهجور، والفتوى عندنا على مذهب أبى حنيفة!! قلت له: أنا ألتمس العلاج فى أى مذهب إسلامى، ولأن نعتمد فى التشريع على مذهب إسلامى قديم خير من أن يستورد النساء مذهبا كفرانيا من أوروبا. واستتليت: إن قوى الكفر كلها تحارب الإسلام فينبغى أن يدافعها الإسلام بمجتهديه ومفكريه كلهم، لا بواحد منهم وحسب. إن الإسلام هو الذى صنع أبا حنيفة وغيره من الرجال، وليسوا هم الذين صنعوا الإسلام.. كان ذاك من سنين وفى العالم الإسلامى فقهاء يعرفون جوانب محدودة من دينهم، والأن يوجد متحدثون عن الإسلام يتمنى المرء لو سكتوا فما قالوا حرفا، إن فقرهم مدقع فى الكتاب والسنة.. والقليل الذى عرفوه لم يفهموه على وجهه الصحيح، وإدراكهم لتراث الأئمة المتبوعين فى الفقه وغيره ضعيف، وإدراكهم للكون الذى يعيشون فيه، والإنسانية التى تعمره أضعف.. ولا أدرى كيف أتيح لهؤلاء التحدث عن الإسلام وهم دون ذلك المستوى. إن حديثهم عنه يكاد يكون ضربا من الصد عن سبيل الله.. إن المذاهب المادية والأديان الخرافية رزقت دعاة على درجة ملحوظة من الذكاء والقدرة فاستكثرت من الأتباع وأغرت الكثير بالدخول فيها. وإذا انتصر الإلحاد على الإيمان فى معركة فليس العيب فى الإيمان، ولكن فى أتباعه والمنتسبين إليه.. ونعود إلى سماسرة الغزو الثقافى فى بلادنا لنكشف خباياهم ونحذر منهم. قال حذيفة ": كان الناس يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أقع فيه! قلت: يا رسول الله لقد كنا فى جاهلية وشر حتى بعثك الله بالخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخل. قلت: وما دخله؟ قال: أناس يهدون بغير سنتى تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : نعم.. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. وقلت: ما تأمرنى إن أدركتهم؟ قال : اعتزل هذه الفرق كلها.(1/126)
ولو أن تعض على أصل شجرة حتى تموت على ذلك خير لك.. ". ص _127
فى ميدان التشريع إن نبذ شرائع الإسلام واستجلاب قوانين مما صنع الأجانب لأنفسهم كى تحل مكانها، لم يتم دفعة واحدة. بل كان نتيجة أخيرة لسلسلة من التحلل والاستهانة وقعت فى أعصار متطاولة ثم انتهت بهذا الختام المعتم. والذى أتصوره أن الحكام والقضاة والمفتين تراخوا أولا فى تطبيق ما كتب الله من ذلك رعاية للأكابر مثلا، أو اتباعاً لبعض الأهواء. ثم تطور هذا الإهمال إلى غض من حرمة النصوص، وجرأة على وقفها. وأعان على هذا التطور فساد الملوك والولاة، وتكاسلهم عن فعل ما أمر الله وترك ما نهى عنه فى شئون العبادات الأخرى.. وأعان عليه أيضا كساد سوق العلم واختفاء الفقهاء المجتهدين من ربوع العالم الإسلامى، وانشغال العامة بقشور مما خلف الأقدمون لا تحفظ حياة أمة بله أن تطيل بقاءها وتقوى ثمارها. فكان ما لابد منه، وماتت شرائع الحدود والقصاص فى أيدى أخلاف عتت عن أمر ربها ورسله.. وما دام الإيمان الحق -وهو ملاك النظم كلها- قد ضعف وهان فهيهات أن تتماسك بعده أمة. ولا تستغربن عندئذ ما يقع فيها ولا ما يقع منها. أضف إلى ذلك أن الصليبية الغربية بالمرصاد، وهى نهازة للفرص، فإذا وجدت ثغرة تنفذ منها إلى النيل من الإسلام وإصابة مقاتله فهى تهتبلها لا محالة. وفى الغزو الثقافى والاجتماعى الذى رمتنا به كان حرصها بادياً على ضرورة إقصاء التشريع الإسلامى وإحلال القوانين الغربية محله.. وقد بدأ ذلك فى مصر- فى عهد محمد على باشا رأس الأسرة المالكة التى قضت عليها الثورة باسم الإسلام وتحت شعار المصحف الشريف. ص _128(1/127)
ومحمد على هذا قائد تركى خان دولته واستقل بمصر، لا ليقيم عوج الأمور فيها بل ليجعل منها مزرعة تدر عليه وعلى أولاده!.. وقد أجمع مؤرخو عصره على أنه بلغ المدى فى القسوة والجبروت. ووجدت فرنسا ـ عدو تركيا يومئذ ـ أن مصالحها تقضى عليها بمساعدة الوالى الثائر بتغليب كفته على دولة الخلافة توسيعاً لفتوق فى كيانها فأمدت محمد على باشا بالعون العسكرى والعلمى والتشريعى أيضا!! وكان هذا التدخل (الأدبى) بداية انتشار الثقافة الفرنسية وما يتبعها فى مصر وجاراتها. قال الدكتور عبد العزيز عامر: " إن المسلك الذى كان يجدر بمحمد على لعلاج الفوضى فى البلاد أن يصلح الأداة القائمة على تطبيق الشريعة الإسلامية مع الإبقاء على هذه الشريعة مصدراً أصيلاً لكل تقنين تدعو إليه الحاجة، لا أن يلجأ إلى القانون الفرنسى الصادر سنة 1810 فيجعله أساساً لما سن من تشريعات.. ولم تكن شريعتنا لتتخلف عن أى إصلاح منشود، فلماذا يعدل عنها؟ لكن الذى وقع من " محمد على " باشا أنه فتح الطريق لنقل القوانين التى استحدثت فى عهده ثم التى جدت حتى " سنة 1883 " من قانون العقوبات الفرنسى!! فجاءت خليطاً منكراً متنافراً من تشريعات مختلفة لا تمت بسبب إلى بيئتنا الإسلامية. بل جاءت علاجاً لا قيمة له فى محاربة الجريمة وعقاب أصحابها، ولم تزد البلاد إلا خبالاً. هذا من ناحية موضوعها أما من ناحية الشكل فقد جاءت يسودها الارتجال فى الأحكام والاضطراب فى التنظيم والتبويب كما جاءت خالية من الأفكار العامة فى مكافحة الجريمة وأسلوب العقاب " أ. هـ. وظاهر أن الفرنسيين استغلوا حاجة " محمد على " إليهم على نطاق واسع، إنه دفع ثمن الخبراء والموظفين -الذين دعموا حكمه- من صلة البلاد بالإسلام وتمسكها بتعاليمه.. ص _12 ص(1/128)
والفرنسيون الذين أُسر مليكهم فى مصر إبان الحروب الصليبية الأولى ظلوا حتى أيام " نابليون بونابرت " طامعين فى إعادة الكرة على الشرق. فإذا فشلوا حربياً فى هزيمة الإسلام، فيجب ألا يفشلوا سياسياً وثقافياً، وذاك ما أغراهم بمساندة " محمد على " وتمهيد طريق الإلحاد أمامه. ولم يكن الرجل على نصيب من التقوى يعصمه من هذه الشراك فما لبث أن انزلق. وهكذا أصيب التشريع الإسلامى بضربة موجعة منذ خمسين ومائة سنة.. وتفلّت المسلمين من قيود التشريع الإلهى، ليسى بدعا فى تاريخ الأمم، فإن اليهود والنصارى جميعاً سبقوا المسلمين إلى هذه المهارب. والعلة التى جمعت بينهم فى العصيان أن تشريعات السماء صارمة، هدفها تطهير الأرض من الجراثيم الخلقية وصيانة الأموال والدماء والأعراض بأسلوب حاسم. فكيف يحتال البشر لارتكاب ما يشتهون أو كيف يتخلصون من ورطات الجريمة إذا سقطوا فيها؟. ليشرع بعضهم لبعض، ولن يكون المشرع ـ مهما ارتقت منزلته ـ إلا إنساناً منهم، تسبح فى دمه جراثيم الخطيئة، فهو إن لم يواقعها رفيق بمن يقارفونها. إنه يتصور نفسه فى موقف المجرم المعاقب فيصوغ مواد القانون وبها من المرونة وتقدير الملابسات ما يفسح المجال للمتهم كى ينجو أو يخلص من سقطته بعقوبة يسيرة. وذلك سر جعل الزنا عملا لا نكر فيه، وكذلك الخمر. وهو السر فى إبطال القصاص بالنسبة للعاهات والأطراف وما إليها، وتضييق القصاص فى جرائم القتل إلى حد مستغرب، وإحاطته بشروط ما أنزل الله بها من سلطان كالترصد وسبق الإصرار!! ونحن نوافق كل رقيق القلب على رحمته بالناس وتلمس الأعذار الملطفات لزلاتهم. بيد أننا ذهلنا عن أصل ضخم جداً. وهو أن الله أبر بعباده.. وأستر،..وأغير على حرماتهم وحقوقهم من أى مشرع آخر، فعندما شرع القصاص مثلا قال مبيناً حكمته: " في القصاص حياة ". ص _130(1/129)
أى أن تخفيض عدد الجرائم، وحماية الألوف من أخطارها، ورحمة الجماهير من مغبتها نتائج يضمنها حتما تنفيذ " القصاص ". أما هذه الرقة التى تثور ابتداء فهى رقة لو تملكت قلب كل طبيب قبل إجراء الجراحات المطلوبة للشفاء فلن يصح عليل أبداً ولن يستأصل مرض!!! على أن اعتبار المجرم إنساناً تطلب له السلامة ويدرأ عنه العقاب، ويفرح بستره وبراءته، وتوضع النظم لإقالته من عثرته، أمر لم يفت الفقه الإسلامى ولم ينسه العلماء فى شروحهم وفتاويهم. بل أظن التوسع فى ذلك بغير فقه كان الذريعة الأولى لتعطيل أحكام السماء. فإن ملاحظة جانب المخطئ تحولت إلى فوضى ثم إلى جحود، ومكنت للهوى أن يعيث فساداً فى أغلب أقطار العالم إن لم يكن فيها كلها.. وقد حرص الأجانب فى علاقتهم بالأمة الإسلامية -خصوصاً إبان ضعفهم- أن يتخلصوا من أحكام الله ولو وردت فى كتبهم التى بين أيديهم. *** " وفى سنة 1883 أسست المحاكم الأهلية ووكل إليها أن تطبق قوانين العقوبات بعد أن أخذت صورة متناسقة بالنسبة إلى التشريعات السابقة. واعتمد الواضعون لهذه القوانين على التشريع الفرنسى الذى سبق أن استمد عنه " محمد على " باشا. وترك للمحاكم الشرعية يومئذ أن تحكم فى الأحوال الشخصية والحسية وشئون الوقف وما شابه ذلك..!!! ثم عدلت قوانين العقوبات سنة 1 ص 54 تعديلا شاملا، وانضم إلى التشريع الفرنسى كمصدر أول للتشريع، القانون البلجيكى الصادر سنة 1867، والقانون الإيطالى الصادر سنة 18 ص ص والقانون الهندى الصادر سنة 1862 والقانون السودانى الصادر سنة 18 ص ص والأخيران مقتبسان من القانون الإنجليزى. وهكذا تسولت أمة مسلمة مادة فقهها العملى من كل قطر كأنها نبتت على صعيد الدنيا بغتة فليس لها ماضٍ تستمد منه، ولا تاريخ مشحون بالذخائر الرائعة... تاريخ لو كان لأمة أخرى لكاثرت الناس به وأغرتهم أن يلجأوا إليه..!! ص _131(1/130)
.. لا أن تقبع هى تحت موائدهم تنتظر الفتات " أ. هـ. وقد تساءل الدكتور عبد العزيز عامرعن السبب الذى ألجأ المشرع المصرى إلى هذه المصادر الأجنبية. تاركا الشريعة الإسلامية التى ظلت تلبى حاجة الأجيال قرونا طويلة؟. قال: " والذى يريد تقصى الحقيقة يجب أن يرجع إلى محضر الجلسة التى عقدها مجلس النظار فى 21-2-1882 لمناقشة ناظر " الحقانية " عندما أمر بتشكيل لجنة لترتيب المحاكم الأهلية وتحضير القوانين التى تتبع. فقد رأى " رياض باشا " أن تكون القوانين المطبقة فى المحاكم المختلطة هى نفسها التى تطبق فى المحاكم الأهلية. وأيده فى ذلك " خيرى باشا " الذى شرح مزايا هذا الرأى بأنه الخطوة التى ستوحد القانون فى البلد، والتى يعقبها إمكان الاستغناء عن المحاكم المختلطة إذ تصبح لا مكان لها بعد أن قامت لها نظائر تؤدى عملها.!! ". وكلام هؤلاء (الباشوات) يستدعى التأمل. فالمحاكم المختلطة تنظر فى قضايا الأجانب ومن يشتبكون معهم، وقانونها يمثل البلاد التى نزح منها أولئك الأجانب المدللون. وبدلا من أن يخضعوا لشريعة البلاد التى انتقلوا إليها، أو يتركوها إلى غير عودة، ننتقل نحن وتنتقل بلادنا معنا إلى شراء البلاد التى رمت بهم! وبذلك يمكن الخلاص من المحاكم المختلطة والامتيازات الأجنبية القضائية!! أرأيت مبلغ ذوبان الشخصية الإسلامية وسقوط اعتبارها؟. أرأيت طريقة القوم فى الحصول على الاستقلال ومكافحة الاستعمار الغربى؟ إننا نسوق هذا الحوار ليعرف القارئ المسلم أن عناصر الإيمان بالله، والانصياع لأمره، والأخذ عن كتابه والاعتماد على نشره.. كانت قد ذبلت أشد الذبول فى هذه النفوس الفارغة. فلا غرو إذا انساح المستعمرون فى بلادنا لا يرون كيداً ولا يخشون صداً. على أن ذكر الإسلام قد جرى فى " مجلس النظار " مرة أخرى كما تجرى التوبة على بال امرئ أحاطت به خطيئته فما يستطيع من حصارها فكاكا. ص _132(1/131)
ذلك أن التفكير اتجه إلى سن قانون مدنى من أحكام الشريعة الإسلامية ومثل ذلك الصنيع ميسور، ووجوه الشبه قريبة بين ما يجىء من الخارج وبين ما يستنبط من أحكام الإسلام. ومن ثم فالاعتراض عليه مستبعد أو قد يمر سليم العواقب.. والحق أن القانون المدنى الحاضر لو حذفت منه المواد الربوية لأمكن جعله إسلامياً، ورد أصوله وفروعه إلى مذاهبنا الفقهية العتيدة، ولأصبح الحكم به عبادة متقبلة. ولكن للربا أنصار كثيرون، وهم بدل أن يفيئوا إلى أمر الله فيه، حاولوا أن يؤولوا نصوص الكتاب والسنة، وأن يحرفوا الكلم عن مواضعه.. ولو أن القانون المدنى سوى فى التحريم بين الربا الفاحش واليسير، وأقره " مجلس النظار " القديم على صورته الباقية لفزنا بنصف تشريعنا إسلامياً. ولكنهم خشوا أن يقال: لم اعتمدتم على الإسلام هنا، واستوردتم مواد العقوبات والجنايات من الخارج؟ والذى يقول هذا بداهة هم أهل البلاد المحافظون على عقيدتهم وشريعتهم. وفكر " مجلس النظار " ثم رأى أن يدع الإسلام جانباً مخافة قوة أكبر من قوة الأهلين، هى قوة جيش الاحتلال البريطانى. إن الإنكليز يأبون أن تكون هناك حركة تدلى على أن فى الإسلام بقية حياة، فلتطبق إذن التشريعات الأجنبية التى بدأ بالتعويل عليها " محمد على " باشا ساكن الجنان!!! والغريب أن المجلس الموقر عندما قرر صرف النظر عن التشريع الإسلامى اختشى أن يرد ذلك إلى ضرورات الاحتلال، بل قال: إن ذلك " بالنسبة للحالة الجارية بين الأهالى "...!!! وإليك فقرات ملخصة من مذكرة " ناظر الحقانية " إلى " مجلس النظار " فى 26 محرم سنة 1355 و 7 ديسمبر سنة 1882 " قال: " عند انعقاد " القومسيون " الأول تقرر اتخاذ القوانين المختلطة للتشريع المصرى على أن تعدل وفق طباع الأهلين ومعاملاتهم. ثم إن الحكومة رأت بعد ذلك وضع قانون مدنى مطابق للشريعة الإسلامية، وأحيل عمله على " قدرى " باشا ولم يتم عمل هذا القانون إلى الآن " ص _133(1/132)
وأرى أنه إذا قيل بلزوم جعل القانون المدنى مطابقاً للشريعة الإسلامية فربما يقال - من باب أولى- بلزوم أن يكون الحكم فى الجنايات وسير المرافعات ونظر الدعاوى على مقتضى الشريعة الإسلامية.. ". وقال: " وفى هذا ما لا يحتاج لتعريف من الصعوبات بالنسبة للحالة الجارية بين الأهالى (وإن المترائى )- يعنى ما يراه- أن تأخذ القوانين المصرية الموجودة فى ذلك الوقت أساسا للعمل بالمحاكم. وبعد مناقشة هذه المذكرة بمجلس النظار المنعقد فى 21 ديسمبر سنة 1882 تمت الموافقة على الإسراع فى تشكيل المحاكم الأهلية المستجدة على أن يكون التقاضى أمامها حسب قانونى العقوبات وتحقيق الجنايات المعمول بهما فى المحاكم المختلطة بعد تعديلهما بما يلائم حالة البلد ـ وحسب القانون المدنى المعمول به من غير تعديل " قال الدكتور عبد العزيز عامر: " والذى نستنتجه من هذه الوقائع التاريخية أن الدافع الذى حدا بأولى الأمر إلى التأسى فى تشريعهم الجنائى والمدنى بالقانون المختلط (أى بالقانون الفرنسى الذى هو مصدره) ما كانت عليه البلاد من ضعف شديد أمام الأجانب لوجود الامتيازات الأجنبية العامة، والاحتلال العسكرى البريطانى. وذلك واضح فى مذكرة " ناظر الحقانية " إذ قال رداً على القول بجعل الشريعة الإسلامية أساسا لقانون العقوبات: إن فى ذلك ما لا يحتاج لتعريف من الصعوبات للحالة الجارية بين الأهالى !!! وإذا كان مما يرقى إلى مرتبة اليقين أن ليس المقصود بهذه العبارة عادات الناس والعرف السائد بينهم وظروف بيئتهم، إذ أن ذلك كله يلح أن تكون الشريعة الإسلامية أساس التقنين لبلد دينه الإسلام: فلم يبق إلا أن المقصود هو الاحتلال البريطانى ونفوذ الأجانب الذى لا حد له فى هذه البلاد، خصوصا أنها كانت فى مستهل عهدها الأسود، عهد الاحتلال البغيض " أ. هـ. وقد ذهب الاحتلال العسكرى، وانقضت سطوة الاستعمار، غير أن الإلف جعل للغريب نسباً وللبغيض مودة!! فإن التشريع(1/133)
الغربى له عشاق يدفعون عنه ويعيشون به. ولو لم يكن لانتصار " أوروبا " على بلاد الإسلام من أثر إلا أن أبناء الإسلام ينفضون أيديهم منه ومن تشريعه لعد ذلك نجاحاً للصليبية الحديثة لم تظفر فى تاريخها بمثله.. ص _134
ومعروف أن " أوروبا " اشترطت على مصر وهى تلغى الامتيازات الأجنبية أن تحكم بقوانين تشبه قوانينها. وهذه الشروط بقية من إملاء القوى على الضعيف، فما لأحد أن يلزم أمة من الأمم أن تهدر كتابها وتترك دينها وتتبع أهواء الآخرين. *** إن القانون الذى يحكم بلداً ما يعتبر الحارس الحى لما يسود هذا البلد من قيم روحية وتقاليد اجتماعية وأخلاق ومثل رفيعة يلتزمها، وعقائد وشعائر يحرص عليها. ففى بلد مثل روسيا تسوده الفلسفة المادية لا ينتظر من القانون أن يرجو لله وقارا، أو يرى إنكاره جريمة، أو رفض طاعته إثماً!! بل إن القانون قد يعد الصلاة تمرداً والصيام ردة منكورة!!! وفى العالم الحر ـ كما يتسمى ـ تشيع نظرة معينة إلى الخطيئة، إنها نداء الطبيعة الذى لابد منه، والهوى الذى يطاع دون حرج، بل إن المصارحة بهذه الخطايا لا يجوز استغرابها ولا اعتراضها...!! ونشأ ـ مع خفوت صوت الدين ـ أن علت صيحات التحلل، ثم طال إلفها، واستطال أصحابها، وقام مجتمع يألف شرب الخمر مع كل طعام، ويسهل اختلاط الجنسين بالليل والنهار. والقانون الذى صنعه الناس لأنفسهم يقر هذه الفوضى إقراراً مطلقاً. ومطلوب منا نحن المسلمين أن نستريح إليه، وألا نشغب عليه!!! والمهم أن نستيقظ نحن لنعرف نفاسة ما عندنا ووضاعة ما عند الآخرين. تأمل فى الذى نشرته صحف الصباح فى 1-12-1 ص 51 تحت عنوان " فضيحة فى إنجلترا ": " اعترفت " مارجانيتا لأسكى " وهى مؤلفة قصصية مشهورة وأم لطفلين، بأن 60% من جميع الزوجات البريطانيات كن على علاقات مع أزواجهن قبل أن يتم الزواج، وقالت: إن هذه النسبة ترتفع إلى 70% بالنسبة لمن هن دون العشرين من أعمارهن. وقد ألقت " مارجانيتا(1/134)
" بتصريحها هذا فى اجتماع المجلس الأهلى للنساء غير ص _135
المتزوجات وقالت: إنها لا ترى فى هذا العمل أى خطأ يدعو إلى اللوم ما دام ينتهى إلى الزواج! وفسرت هذا بقولها: إنه من العادات المعروفة من قديم الأزل بالنسبة للشباب غير المتزوجين، أن تنشأ بينهم علاقات جنسية ما دامت لديهم النية الصادقة فى الزواج. وقالت: إن 30% من الفتيات الإنجليزيات يتزوجن.. وهن حوامل، وأن هذا الرقم يرتفع إلى 50% بين من هن دون العشرين من أعمارهن. وقد أقر مستشار الجمعية القانونى رأى " مارجانيتا "، وأقرها على رأيها المستشار الصحى لمجلس بلدية لندن. وعلق رئيس محكمة الأحداث السابق على خطاب " مارجانيتا " بقوله: إنه يجب على الفتيات أن يحافظن على أنفسهن استعدادا للزواج، وإن فتيات العصر الحاضر لا يفكرن فى هذا الأمر كثيراً... وإن الشبان يسيرون فى الطريق الذى تقودهم إليه الفتيات.. " أ. هـ. هذه صورة لا يختص بها المجتمع الإنجليزى فهى شائعة فى أغلب أمم الغرب. وهذا إحصاء آخر نشرته جريدة " الجمهورية " عن المرأة الأوروبية فى إيطاليا: " هزأت الممثلة الإيطالية " جينا لولو بريجيدا " بالعالم والأخصائى الأمريكى الكبير الدكتور " كينسى " فى حديث لها مع أحد الصحفيين الذين سألوها عن رأيها فيما يعتزمه الدكتور من عمل إحصاء عن المرأة الأوروبية فى النواحى الجنسية.. ويروى لنا هذا الصحفى ما تم فى هذه المقابلة فيقول: " ذهبتُ إلى فندق " رافاييل " حيث تقيم " جينا " فى أثناء تصوير الفيلم الأمريكى "ترابيزة" ولم يبد عليها أى تأثير أو اهتمام لهذا النبأ بل قالت ببساطة : من هو هذا الدكتور كينسى؟ ولما أجبتها بأنه عالم وأستاذ وباحث فى الأخلاق الجنسية، للرجال والنساء، قالت: وماذا ينتظر أن يكتشفه عن الأوروبيات؟ .. إنى لا أظن أنه من اللائق أن يتدخل فى حياتنا الخاصة، وعلاوة على ذلك فهل سيغير اكتشافه هذا شيئاً؟ .. قلت لها: إن دكتور " كينسى " يريد أن(1/135)
يخرج بإحصاء عن حالة المرأة الأوروبية من الناحية الجنسية.. فأجابت " جينا " بعصبية: وهل يعقل أن تحدثه ص _136
المرأة هنا عن أدق أسرار حياتها الخاصة بصراحة؟ لا. إن القبيحات سيبالغن فى هذه الناحية، والجميلات سيحاولن الإقلال منها!. .. والنساء عادة يكذبن على أزواجهن فلماذا لا يكذبن على الغرباء!. ولما سألتها: وهل توافقين على أن يستجوبك الدكتور كينسى؟ قالت بشدة: طبعاً لا.. إن هذه الناحية سر من أسرار المرأة.. ولن أقول الحقيقة لهذا الرجل مهما فعل، والإحصاءات لا تفيد مطلقاً فى هذا الميدان. إنى أفهم أن يعمل الطبيب إحصاء لمرضى السرطان حتى يخرج بنتيجة، أما المسائل الجنسية وأمور الغرام فهذه فى نظرى لم تتغير وسائلها منذ أربعة آلاف سنة. .. فهل ينتظر هذا الدكتور أن يغيرها فى شهور بهذا الإحصاء؟. .. ثم ماذا نتج عن استجوابه للمرأة الأمريكية؟ إنى واثقة أنه استخلص أن المرأة فى أمريكا رديئة وسيئة السيرة.. فهل يود أن يقول ذلك عن المرأة الأوروبية. وإذا قال إن ص 0% من النساء المتزوجات لهن عشاق.. فهل سيساعد هذا الإحصاء المرأة أم الزوج أم العشيق؟!.. إنه لن يساعد أحداً بل سيعقد الأمور!!!!". إن الممثلة الإيطالية لا تريد أن تزيح الستار عن حياة المرأة الأوروبية لأن الأمر كما قيل قديماً: الستر دون الفاحشات وما يلقاك دون الخير من ستر!! ودعك من أن هذه الحياة ترضى " عيسى " وربه، فإن القوم أبعدوا الدين عن هذا الميدان، وعدوا الاتصال الجنسى ضرورة بدنية لا حكم لله فيها! وعلى هذا الأساس وضعوا قوانينهم التى يحتكمون إليها. ثم يجىء نقلة القانون وعشاق الغرب إلى هذه القوانين، فيطبقونها على بيئتنا التى لا تزال تفرق بين الزنا والزواج، وتعرف أن لله حرمات ينبغى أن تصان!! فإذا قيل: إن البيئة الإسلامية لا تلائمها هذه القوانين وإن الله يأمر بغير هذه الجاهلية!! انطلق الصحافيون الذين يعملون لتحقيق مآرب الغرب ليصيحوا فى كل(1/136)
مكان: يجب أن (ترقى) بيئتنا حتى تلائم الحياة الحديثة والقوانين الجديدة. ص _137
أى أننا نشترى الخنزير، ولكى يحيا يجب أن نعد له (زريبة) مملوءة بالأقذار! لِم؟.. لتلائمه!. ولماذا نشتريه؟ لأنه خنزير الخواجة.. .. الخواجة الحاكم بأمره أو بهواه.."أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا" *** إن أمواج الشر تتدافع، كلما انساحت بيننا موجة هجمت بعدها أخرى.. وقد نجح الغرب فى أن يجعل الحكم بغير ما أنزل الله قوانين مقررة فى المجالات الجنائية والدولية. وبقى أن يجتاح كذلك ميدان الأحوال الشخصية. فإذا استكان له هذا الميدان الآخر فعلى الإسلام كله العفاء: ويا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدى إن دهرك هازل وطلائع هذا الغزو الآثم بدت فيما قرأناه هذه الأيام من لغط حول تسوية المرأة بالرجل فى الميراث.! والمصيبة المضحكة أن المرأة التى كتبت هذا الكلام ترى أن الإسلام يجيز هذه التسوية بل يباركها!! لأن الإسلام دين الفطرة والتطور! وصحيح أن الإسلام دين الفطرة، ولكن هذه الفطرة تظلم أشنع الظلم حين يقال: إنها تجعل المرأة مضارعة للرجل فى كل شىء. وظيفتها فى الحياة هى وظيفته، ومكانتها هى مكانته. فإن طبيعة الحياة أن يكون الرجال قوامين على النساء، ولابد من الاعتراف بأن للرجال فضل قوة مادية وأدبية يرجح كفتهم على الجنس اللطيف!! والإسلام حين أعطى البنت نصف سهم الابن فى الميراث، أوجب على الرجل ـ زوجاً كان أو والداً أو أخاً ـ أن ينفق على بيته وعلى ولده وعلى رحمه. فربما ذهب نصيبه كله فى وجوه النفقة القائمة. ص _138(1/137)
على حين يبقى للبنت نصيبها موفوراً، إلا أن تطوع هى بما تحب من معاونة. ولا تقولن: المرأة تعمل وتكدح فى الحياة، ومن تكسبها فى أى حرفة شريفة تكلف هى الأخرى بالنفقة. لأنا نقول: إن الوظيفة العتيدة للمرأة أن تكون ربة بيت. واحترافها فى الحياة يجب أن يكون عملا موقوتاً ما بقيت ظروفه الملجئة ثم تنصرف بعده بأكثر وقتها وفكرها وجهدها إلى رجلها وأولادها. إن الحالة فى الغرب تفرض على المرأة أن تجىء بمهرها، وأن تشرك الشبان فى أعمال شتى لا مسوغ لها. وليس يمسك هذه الحال ـ وما يتخللها من اضطراب حيوانى ـ إلا فقدان الضمير الدينى الصحيح والتواصى بإشباع الشهوات على نطاق واسع!!! والإسلام يوزع اختصاصات العمل على الأحياء فيجعل حصن المرأة بيتها، ويكلفها من العمل ما يصون شرفها، ويشرع من الآداب والقواعد ما يجعل كل اتصال جنسى حراماً إلا عن طريق الزواج المشروع. وفى هذا الزواج يكلف الرجل لا المرأة بسوق المهر. ويناط بعنقه ضمان النفقة للبيت الذى بناه. فإن أعانته امرأته فى عمل، فهى عون مضاف مؤقت وليست عاملا أساسياً فى حياته. ومن ثم جعل نصيبها من الميراث على النصف من نصيب الرجل إقامة للتوازن فى الحياة العامة، وتمشياً مع العدالة فى توزيع المغرم والمغنم. * * * * أما أن الإسلام دين التطور فنعم.. ولا؟!. هو دين التطور فى الوسائل التى تخدم الحق، والمظاهر التى تتضح بها دعوته وتتأدى بها رسالته. لكن بالله، ما هو التطور الذى يتوقع فى عقائده وفضائله وشعائره! ربما احتاج تحقيق العدالة إلى إجراءات تتطور مع العصور بيد أن العدالة نفسها والنصوص الحاسمة التى أقامها الله لحمايتها لا يمكن أن يلحقها تحوير أو تبديل.. ص _13 ص(1/138)
وقوانين الميراث من هذا القبيل، قال الله عز وجل: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين.." ثم بعد أن أعطى كل ذى حق حقه وفق ما قضت حكمته قال: " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ". فهل بعد هذا الوعيد، وهذا الترغيب والترهيب فيء امرأة مخبولة العقل أو صحافى مدخول القصد، يتملق النساء لأمر فى نفسه، فنسمع منهما أن تسوية المرأة والرجل فى الميراث عمل يقبله الإسلام ويتسق مع تعاليمه؟ شاهت الوجوه..!! *** ولنترك هذا الكلام الذى نشرته مجلة حواء إحدى مجلات دار الهلال "إميل وشكرى زيدان". وإليك مثلا آخر لتزوير الفتوى، والاختلاق على الإسلام. فقد نشرت " روز اليوسف " مقالا زعم فيه صاحبه أن المسلمة يجوز لها أن تتزوج يهودياً أو نصرانياً، لأن القرآن نص على تحريم اقترانها بالمشرك فقط. ثم أسفر الكاتب عن خبيئة نفسه فقال: لا يوجد بيننا مشركون ولا كفار وإنما يوجد مسلمون ويهود ونصارى. والكاتب الذى أرسل هذه الفرية -وهو فى مأمن من عواقبها- يعلم أنه لا يخدم حقيقة علمية، ولا يصور شريعة إسلامية. ويوقن أنه اجترأ على فعلة لم يسبقه إليها مسلم من الخاصة أو العامة طوال أربعة عشر قرتا! إنه يريد إيهام القراء أن جحد رسالة محمد ليس بكفر!. وبديهى أن يكون رفض القرآن كله والسنة كلها أمراً لا خطأ فيه ولا حرج منه بعد ذلك. ص _140(1/139)
وصاحب هذا الرأى لا يستغرب منه أن " يتزوج " بمحارمه بله أن " يزوج " أمه وأخته لمن شاء من الإنجليز والأمريكان!.. إن القرآن وصف أهل الكتاب الذين يفرطون فى تنزيهه وينسبون إلى ذاته المقدسة ما لا يليق، ويطلقون عليه نعوتأ هى بطبيعة المخلوق ألصق وعن حقيقة الخالق أبعد- وصفهم بأنهم مشركون. فقال فى اليهود: "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة و من الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ". وقال فى النصارى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ". وقال: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد ". فما معنى أن يجرؤ امرؤ ما ليقول بعد ذلك: إن القرآن سوى بين المسلم واليهودى والنصرانى، وأباح للمسلمة أن تختار بعلها من هؤلاء على السواء، لأن اليهود والنصارى ليسوا مشركين ولا كفاراً؟ نعم، إن هناك فرقاً دقيقاً بين شرك هؤلاء وشرك الوثنيين من العرب الأقدمين وأمثالهم. فأهل الكتاب أصحاب ديانات نزلت من السماء ثم عرا أصلها الإلهى من اضطراب الفهم وغلو الخلف ما شرد بها عن طبيعتها الأولى. أى أنها حق مال به أصحابه إلى الباطل. أما الوثنيون عباد الأصنام فهم وإن عدوا تماثيلهم وسائط إلى الخالق الأعلى وقالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " فهم أصحاب باطل حقيقى أرادوا تسويته بإعطائه صورة الحق. ص _141(1/140)
وذلك هو الفرق بين كفر وكفر، وشرك وشرك... ورعاية لهذا الفرق أباح الإسلام لأبنائه أن يتزوجوا من نساء أهل الكتاب على طريق الاستثناء من النصوص الأخرى. أما النساء المسلمات فمن المقطوع به ألا يتزوجن كافراً أبداً مهما كانت نحلته قال تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ". وقال: " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ". وقال فى تحديد المباح من أطعمة الكتابيين وأنكحتهم " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " أى أن لكلا الفريقين أن يأكل من أطعمة الأخر. ثم قال: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " أى أن للمسلمين فحسب التزوج بالمؤمنات والكتابيات، ولم يجعل النكاح كالطعام فى تبادل الإباحة بين الطرفين. وليست كل يهودية ونصرانية يصح البناء بها، بل العفيفات منهن، اللاتى يعرفن كرامة العقد، وحرمة الزنا، فإذا تزوج المسلمون بهن فعلى ما شرط الله عز وجل من وفاء لهن وبر بهن وإعفاف "محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ". ذلك وللدولة حق تقييد المباح دفعاً لخطر متوقع أو متوهم. والقانون الآن يحظر على ضباط الجيش، ورجال السلك السياسى أن يتزوجوا بهؤلاء الكتابيات، وذلك حماية للقوات المسلحة ولأسرار الدولة من أن تتعرض لشائبة تفريط.. ونحن لا نرى فى هذا المنع خروجا على تعاليم الإسلام.. ص _142(1/141)
وظاهر أن هذه الحملات على قوانين الأسرة أو ما يسمى قوانين الأحوال الشخصية، محاولة لزعزعة ما بقى سليما من تراثنا الإسلامى فى ميدان التشريع. إن الأفاكين لا يهدأون ، ولن يرضوا حتى يروا شرعة الهوى تصبغ كل علاقة وتفسد كل حكم. والشبهة التى تلوكها الأفواه لرد أحكام الله كلها، أن الإسلام يقسو على المجرمين، وأن صرامة حدوده وأقضيته بحاجة إلى كثير من الملطفات والمخففات فى عصر ارتقت فيه الحضارات، وتطور الإنسان إلى أعلى..! ونحب أن نقول على عجل: إن نسبة الشرائع القائمة على القصاص، والحدود إلى الإسلام وحده، واتهامه بالوحشية والرجعية بناء على ذلك هى ضلال فى ضلال!. فإن هذه القوانين الشديدة ى ـ كما يقولون ـ سبقت إليها التوراة والإنجيل ثم تفلت البشر منها نزوعا مع غلبة الهوى. والسؤال الذى يوجه إلى الناس جميعا، مسلمهم ، ونصرانيهم ، ويهوديهم هو: هل تخضع الأرض لأحكام السماء، وتستهدف مرضاة الله؟ أم تسير وفق ما يزين الشيطان ويملى الهوى؟؟ *** إن القصاص فى القتل وسائر الجراحات ليس حكما مبتدعا شرعه القرآن الكريم لينهج به سياسة من القسوة فى معاملة المجرمين لم تؤلف فى العهود الأولى.. كلا، فالقرآن إنما أكد أحكاماً بدأت بها التوراة والإنجيل. وكل ما أحدثه من تغيير أنه خفف بعض الشدة الى اتسمت بها هذه القوانين، فقبل العفو من ولى الدم، وأحل محله الدية، وخفف العقوبات فى جرائم الزنا والسرقة. فإن التوراة تحكم برجم مقترفيها جميعاً، أما الإسلام فيكل المرابين مثلا إلى أولياء الأمور يعالجون جريمتهم بما يرون. ويكتفى فى السرقة بالقطع -بعد شروط دقيقة- ويحيط جريمة الزنا بإطار خاص، ويفصل فى عقاب مرتكبيها فلا يسوى بين الزوج والأعزب. ص _143(1/142)
وما بقى من التوراة فى أيدى أصحابها يشرح حقيقة ما ذكرناها هنا.. وأما أسلوب الإنجيل فى محاربة الجرائم فاسمع إلى هذه المقتطفات التى لا تزال بين أيدى النصارى يقرأونها إلى يوم الناس هذا: 1- سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم: إن من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم، ومن قال لأخيه: يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم. 2- سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن أما أنا فأقول لكم: إن من ينظر إلى امرأة يشتهيها فقد زنا بها فى قلبه، فإن كانت عينك اليسرى تعثرك فاقلعها وألقها عنك خير من أن يلقى جسدك كله فى جهنم.. ". فهل هذه النصوص تهادن الإجرام، وتشيع بين الناس الفاحشة على النحو الذى تسبح فيه أوروبا الآن؟ إن الله يغار، وغيرته على عباده سر الحكمة فى تحريم المناكر والغلظة فى مؤاخذة ذويها. لكن اليهود والنصارى لما وهى إيمانهم، واستمرءوا المعاصى فى بيوتهم ومجتمعاتهم تراخوا فى إنفاذ شرائع الله بينهم، ثم تدرجوا من ذلك إلى تعطيلها والإتيان بأحكام تدلل الغرائز المريضة وتهادن المسالك المعوجة، وتترفق فى مواجهة الإثم، وكأنها تقول له: سر ولكن بعيدا عنى وبرضا منى. ولن يعجز هؤلاء المميتون لشراء الله أن يجيئوا بألف عذر لما فعلوا. وسيسوغون اختلاقهم لقوانين أخرى بأن ذلك إحسان إلى المخطئ، ورفق به، وتوفيق بين رغائب الكبراء إذا أساء منهم أحد، وضرورة المجتمع فى مصادرة الجريمة بعقوبة ما. وقد رفض الله عز وجل هذا الاحتجاج وعد الباعث على تغيير شرعه هو الكفر به وبما أنزله. وقال مخاطباً رسوله محمداً يكشف هذه النيات والسيئات "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا..". ص _144(1/143)
إلى أن قال : " فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا". إن الإحسان والتوفيق لا يكونان إلا فى إقامة أحكام الله وتقديس أوامره كلها، فلا يجاب منها ما نرغب ويرجأ ما نرهب. وانتظار السلامة للمجتمع من وراء التشاريع التى صنعها الناس لأنفسهم تعلق بالمستحيل، وحرى بالعقلاء ألا ينتظروا منها إلا الخلل العام والفتن العمياء.. ومرة أخرى أؤكد أن الله إذا قال: " في القصاص حياة ". فمعنى ذلك أن تركه موت وبلاء وكروب ومصيبات.. وأن الله إذا وضع للبشر حدوداً، فمن الخير لهم أن يرعوها، فإن من يتعد حدود الله لا يظلم أحداً بعيداً عنه، ولكن الأمر كما قال الله : " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ". وتوجد شبهة أخرى عند خريجى التعليم الحديث، تخيل إليهم أن التشريع الغربى قد وصل فى تناوله لشتى الأحوال إلى مرتبة من تقعيد القواعد وتفريع الفروع لم يصل إليها التشريع الإسلامى. وهم معذورون فى هذا الوهم، لأنهم أمام تشريع يحييه التطبيق المتجدد، وتصله بواقع المجتمع أوامر شتى، أما التشريع الإسلامى فهو كنوز مدفونة فى الثرى لا يدرى نفاستها إلا الأقلون. والحقيقة أن الفقه الإسلامى بلغ فى العصور الأولى درجة من النضج والروعة تضارع ما بلغه التشريع الحديث فى أزهى مواطنه اليوم، ومع فارق أن هذا يعتمد على نزوات بشرية وينبثق من جذور شيطانية. أما ذاك فهو يقوم على أصول من الوحى الأعلى، وينطلق فى مجراه الممهد بين حصانات من هدى السماء. ص _145(1/144)
ولا بأس أن ننقل طائفة من الشواهد التى أثبتها الأستاذ " محمد جمعة " عضو مجلس النواب السابق فى مذكرة له يدافع بها عن التشريع الإسلامى ويصور المدى الذى بلغه من الكمال. قال: " عرف الإسلام القضاء الإدارى على شكل محكمة عليا تفصل فيما يفصل فيه مجلس الدولة الآن وكانت تنظر أيضا فى قضايا الاستئناف التى ترفع من أحكام أول درجة. واختصاصات هذا النوع من القضاء فصلها أبو الحسن الماوردى وهى: 1- النظر فى القضايا التى يقيمها الأفراد والجماعات على الولاة وعمال الخراج إذا اعتسفوا فى جمع الضرائب وعلى كتاب الدواوين إذا حاولوا إثبات أموال المسلمين بنقص أو زيادة. 2- النظر فى تظلم المرتزقة ( موظفى الدواوين) إذا نقصت مرتباتهم أو تأخر دفعها لهم. 3- تنفيذ ما يعجز القاضى والمحتسب عن تنفيذه من الأحكام. وكما عرفت الشريعة الإسلامية القضاء الإدارى فى قوانينها، عرفت الضمان الاجتماعى الذى لم تعرفه أعرق الدول مدنية إلا حديثا. كان الفقه الدستورى القديم فى الغرب يقنع من العدل بصورة سلبية يكتفى فيها بمنع الحاكم من الاعتداء على حقوق الفرد، ولكن الفقه الدستورى الآن لا يقنع بذلك، بل يفرض اتجاها إيجابيا يلزم الحاكم فيه أن يهيىء الظروف للفرد كى يمارس حقوقه، فنصت معاهدة حقوق الإنسان الأخيرة الصادرة عن " هيئة الأمم المتحدة " على حق كل فرد فى أن يجد عملاً بشروط عادلة، وأجر مجز، وحقه فى المسكن والعلاج من المرض... إلخ. هذا ما وصل إليه الغرب أخيراً بعد عدة قرون من التشريع الإسلامى. إذ أن الإسلام سبق الغرب فى هذا الميدان بمراحل. وليس أدل على ذلك من أن أمير المؤمنين " عمر بن الخطاب " وقف يوماً يودع أحد ولاته قبل سفره إلى الإقليم الذى سيحكمه وألقى عليه هذا السؤال: ص _146(1/145)
" ماذا تفعل إذا جاءك سارق؟ فأجابه الوالى: أقطع يده.. وعقب " عمر " على جوابه قائلا: وإذن فإن جاءنى منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك واستمر قائلا: إن الله قد استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها، يا هذا إن الله قد خلق الأيدى لتعمل، فإذا لم تجد فى الطاعة عملا التمست فى المعصية أعمالا، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية ". لله ما أعظم هذا التشريع وأحقه بالإنفاذ. وكتب " خالد بن الوليد " بعد فتح العراق يقول: " أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت عنه جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام ". وإليكم ما قاله الفيلسوف " نيتشه " الألمانى تعليقاً على تعاليم الإسلام: " لقد حرمتنا المسيحية من ميراث العبقرية القديمة -يقصد فلسفة الإغريق ـ ثم حرمتنا بعد ذلك من شريعة الإسلام. لقد ديست بالأقدام تلك المدنية العظيمة فى الأندلس! ولماذا؟ لأنها نشأت من أصول رفيعة، ومن غرائز شريفة، نعم من غرائز رجال الإسلام. إن تلك المدنية الإسلامية لم تتنكر للحياة بل تجاوبت معها وفتحت لها صدرها، ولقد قاتل الصليبيون تلك المدنية بعد ذلك وكان الأولى بهم أن يسجدوا على التراب -شكراً لله- ويأخذوا بها، وما مدنيتنا فى هذا القرن إلا متخلفة وآلية بجانب مدنية الإسلام فى ذلك الوقت ". وفى سنة 1 ص 38 عقد فى لاهاى مؤتمر القانون المقارن وقد تقرر فيه اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً مهما من مصادر التشريع، وذلك بعد أن أشاد الأعضاء الأجانب على اختلاف مللهم بأحكام تلك الشريعة. ص _147(1/146)
وقد ذكر وقتئذ أن من العقبات دون هذا الغرض الكريم عسر فهم الشريعة من مصادرها الحالية لكثرتها وتشعبها ونأيها عن الطرق المذللة التى جرت عليها دراسة القانون. وفى عام 1 ص 51 عقدت شعبة الحقوق بالمجمع الدولى للقانون المقارن مؤتمراً للبحث فى الفقه الإسلامى فى كلية الحقوق بجامعة باريس تحت اسم " أسبوع الفقه الإسلامى " ودعت إليه عدداً من المستشرقين وأساتذة القانون فى الدول الغربية والعربية، وقد حاضر الأعضاء فى خمسة موضوعات فقهية حددها مكتب المجمع الدولى للقانون المقارن وهى: 1- إثبات الملكية. 2- المسئولية الجنائية. 3- الاستملاك للمصلحة العامة. 4- تأثير المذاهب الاجتهادية بعضها فى بعض. 5- نظرية الربا فى الإسلام. وكانت المحاضرات كلها باللغة الفرنسية، وخصص لكل موضوع يوم، وعقب كل محاضرة كانت تدور مناقشات طويلة بين المحاضر والمؤتمرين وتسجل خلاصتها وفى خلال بعض المناقشات وقف أحد الأعضاء وهو نقيب سابق للمحامين فى باريس يقول: " أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامى وعدم صلاحيته كأساس للتشريع يفى بحاجات المجتمع العصرى المتطور وبين ما نسمعه الآن فى هذه المحاضرات وفى مناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادئ ". كما وقف غيره من المستشرقين ورجال القانون وأشادوا بالفقه الإسلامى وأقروا أنه صالح لجميع الأزمنة والأمكنة. وفى ختام المؤتمر وضع المجتمعون بالإجماع القرار الآتى: ص _148(1/147)
نظراً لما ثبت للمؤتمرين من الفائدة المحققة التى أتاحتها المباحث المعروضة خلال (أسبوع الفقه الإسلامى) وما دار حول هذه المباحث من مناقشات أثبتت بجلاء أن الفقه الإسلامى يقوم على مبادىء ذات فائدة أكيدة، وأن اختلاف المبادىء فى هذا الجهاز التشريعى الضخم ينطوى على ثروة من الآراء الفقهية وعلى مجموعة من الأصول الفنية تتيح لهذا الفقه أن يستجيب بمرونته لجميع مطالب الحياة الحديثة. فإن أعضاء المؤتمر يعلنون رغبتهم فى أن يظل (أسبوع الفقه الإسلامى) يتابع أعماله سنة فسنة، ويكلفون مكتب المؤتمر بأن يضع قائمة للموضوعات التى أظهرت المناقشات ضرورة جعلها أساسا للبحث فى الدورة القادمة. وبأمل المؤتمرون أن تؤلف لجنة لوضع معجم للفقه الإسلامى يسهل الرجوع إلى مؤلفات هذا الفقه فيكون موسوعة فقهية تعرض فيها المعلومات القانونية الإسلامية وفقأ للأساليب الحديثة " أ. هـ. هذا هو الفقه الإسلامى، وهذه هى آراء علماء القانون الغربيين والمستشرقين أيها المستغربون المتعاملون، أقول: فماذا صنعنا لخدمته ؟ أو ماذا سنصنع ؟ *** ص _14 ص(1/148)
جاهليّة حديثة - رؤوسٌ حَافِية هل عرف جمهور المسلمين عصابة الكتاب الذين يريدون هدم دينهم وتحقير شعائرهم وصرف الأجيال الجديدة عن الأخذ به؟ إن هؤلاء الكتاب كشفوا عن أنفسهم، فاستبان ما فى قلوبهم من ضغن هائل على الإسلام وإصرار شديد على التخلص منه، وكانت مهزلة " الشيخ بخيت " هى الحدث الأصغر الذى أسقط النقاب عن وجوه القوم، فإذا النفاق يتحول إلى كفر صريح، لقد ظنوا الفرصة سانحة للطعن فى عبادات الإسلام بعد ما فرغوا من الطعن فى أحكامه، فروجوا -باسم حرية الرأى- لإهدار شريعة الصوم، وتنادوا من كل ناحية ليشدوا أزر الرجل الذى منحهم حق الإفطار فى رمضان.. ما هذا الحماس كله؟ لقد أعلنوا أن من حق كل مخلوق أن ينقض أركان الإسلام، وأن يجادل فى البديهيات، وأن يخطئ دون حرج، وألا يدع مقررا جاء من عند الله إلا ألقى عليه ظلالا من الريبة كيف شاء، وأن... وأن... وذهب أحد الكتاب من دار " أخبار اليوم " إلى شيخ الأزهر ليستوثق من أن "مفتى الفطر" لن يصاب بأذى، ولوح مندوب الدار الحرة "؟" بأن خرافة قرار الحرمان التى عرفتها القرون الوسطى لا ينبغى أن تحيا فى هذا العصر...!! وانطلقت ألسنة المحررين والمحررات تتناول الشيخ الأكبر بالتقريع والتوبيخ، بل إن بعض الفتيات كتبن فى تسفيهه مقالات منكرة.. وفجأة رجع الشيخ " بخيت " عن رأيه، واعتذر بأن أخطاء وقعت فى كلامه جعلته يبدو شاذاً ومخالفاً لما عرف المسلمون من أحكام الله ورسوله " وهنا تجن عصابة الكتاب المدافعة عن حرية الرأى، فقد أفلت الصيد الذى تريد إهانة الإسلام به، فيجب أن تستدير للشيخ " بخيت " كى تصفه بالجبن والمهانة وكى تؤنبه على عودته للحق وهى التى كانت تتحدث قبلا عن حرية الخطأ!!. ص _150(1/149)
ويكتب السيد " على أمين ":- " إن الشيخ بخيت وجد نفسه فجأة فوق قمة الجبل. فلما أحس بالبرد خلع جميع رجال الفكر معاطفهم وأحاطوه بها. ولكن الشيخ كان عاريا من الإيمان بفكرته، فارتعش وارتعد واختل توازنه وهوى إلى السفح ". ثم يقول: " لقد انتحر الشيخ بخيت ولم يقتل، ورمى نفسه فى بحر النسيان بعد أن كان واقفاً على شاطئ الخلود، فرحمة الله عليه إن كان الله يرحم الجبناء والمنتحرين ". *** ماذا كان يصنع هذا الشيخ ليرضى هذه العصابة، عصابة حرية الرأى كما تقول؟ كان يجب أن يوغل فى الخطأ وأن يزيد جراحات الإسلام عمقاً، كان يجب ليظل على القمة أن يستهين بمقدسات الإسلام، وأن يعلم الأمة مع غيره من المهرجين أن الانفلات من قيوده تقدم، والشغب على فرائضه تجديد!!. كان يجب أن يسب علماء الإسلام قاطبة، وأن ينفذ على أنقاضهم إلى حقيقة الإسلام نفسه ليلوثها بالتراب -كما فعل غيره من رجال الفكر-. هكذا تكتب " الأخبار " عن الذين حرقهم خصومهم بالنار، وعلقوهم فى المشانق وبقوا إلى النفس الأخير يدافعون عن رأيهم بالحجج والبراهين. هكذا يكون التحريض على الله ورسوله، وهكذا يكون الإغراء بالهجوم على الإسلام. إن المصيبة المضحكة فى هذه الضجة أنها اتخذت عنواناً براقا لتستر سوءتها، هو حرية الرأى، وحرية الرأى هذه تنكمش وتذوب عند مناقشة قضايا جليلة لها خطرها فى اليوم والغد، وتتسع وتنماع عندما تكون غطاء للنيل من الإسلام والمساس بقداسته. باسم حرية الرأى يصدر فى أيامنا هذه العدد " 140 ص " من " روزاليوسف " طافحا بالدعوة إلى الخلاعة، بلى إلى الفسق. كأن حرية الرأى مرادف جديد لحرية الزنا فينشر تحت عنوان: " إباحة العلاقات الجنسية بين تلاميذ المدارس ". " بيان من مجلس وزراء السويد يحبذ هذه العلاقات ". ماذا تصنع المدرسة إذا أنجب اثنان من تلاميذها؟. ص _151(1/150)
كانت السويد ـ أكثر بلاد أوروبا تحضراً ـ تسأل نفسها هذا الأسبوع هذا السؤال الخطير.. لقد أبلغ مدرس الدين فى إحدى المدارس عن تلميذتين حملت كل منهما من زميل لها فى المدرسة، وطالب بفصل التلميذتين، والتلميذين!! ولكن ناظر المدرسة رفض فصلهم، ومنحهم الدرجات الكبرى فى حسن السلوك!! وطرح الأمر على هيئة التدريس فأيدت الناظر، لأن المدرسة ليس لها أن تعاقب على شىء لم يعد المجتمع يعاقب عليه!! فضلا عن أن العلاقات الجنسية تدرس الآن للتلاميذ فى مدارس السويد!! ورفع مدرس الدين الأمر إلى الحكومة واجتمع مجلس الوزراء برئاسة الأمير "بريتل" ولى العهد وأصدر قرارا برفض شكوى مدرس الدين ورفض مطالبته بفصل التلاميذ!! وقال الناظر مفسراً ذلك بأن التلاميذ المذكورين متفوقون فى الدراسة وسلوكهم العام حسن. وأنه ليس من حق أحد أن يرغمهم على الزواج ويكفى أنهم يعيشون معا فى سعادة!. وقالت إحدى التلميذات الأمهات -وسنها 1 ص سنة-: إن الحمل والولادة قد عطلانى أنا وزميلى " أى صديقها " عن الدراسة قليلا فقط. أما الدين فإننا نحترمه، ولكننا نعارض آراءه التى أصبحت عتيقة!! ". وقالت التلميذة الأم وصديقها: إن أملهما أن يشتغلا بالتدريس!!! " أ. هـ. ويكتب السيد إحسان عبد القدوس فى هذا العدد، إنه لم يعد من حق رجل الدين أن يأمر بتحريم الرقص على المرأة. لم يعد من حقه أن يدع الطلاق معلقاً بإرادة الزوج. لم يعد من حقه أن يحرم ارتداء المايوه ، فالمايوه أصبح حقيقة أقوى من هيئة كبار العلماء!! ".. ثم يمضى السيد المهذب " ! " فى شرح حرية الرأى فإذا هى حرية الفتاة فى مصادقة من تشاء، أما الزواج فنظام عتيق ينبغى أن نختار صلة أفضل منه، وتحت عنوان " بيت الطاعة وأركانه المنهارة " يقول المحرر التقدمى: ص _152(1/151)
" يا رجال التشريع.. إن بيت الطاعة.. نظام فاسد لا يتفق وملابسات حياتنا الاجتماعية الجديدة.. فلنستبدل به نظاما آخر أكثر اتفاقاً وملاءمة لهذه الحياة.. !! وإلا فلتمنح المرأة هذا الحق الذى يتمتع به الرجل وحده. وليجرب الرجال كيف يعيشون تحت سقف واحد مع امرأة لا يحبونها.. عندما تجبرهم الشريعة على الدخول فى بيت الطاعة!! لا.. إنه نظام عقيم.. ما أحوجنا إلى تغييره.. " ولا بأس بعد هذا كله من غمز فريضة الصلاة غمزة تحط من مكانتها، فتحت عنوان " الطعام قبل الصلاة " تقول المجلة: " إننا نريد أن نتقدم، وأن نصنع مجتمعاً صالحاً ومواطنين صالحين فماذا نفعل؟ هل نصلى مع " هكسلى " أو نأكل الزبد مع "شو "؟... إننا نصلى. نصلى منذ ألف عام. ونصوم أيضا.. وفى الهند يصومون عن الماء والهواء أحيانا.. لقد صنعنا الصلاة، وصدرناها إلى " هكسلى " وأجداده، وجربناها على المذاهب الأربعة!! ولم يبق إلا أن نجرب الطعام الجيد! " أغلب مواد المجلة هزء بالإسلام على هذا النحو الوضيع باسم " حرية الرأى " السلاح الذى يشرع فى وجه الإسلام وحده، دون غيره من الأديان والمذاهب. نعم فإن ضراوة هؤلاء الكتُاب بتعاليم القرآن والسنة تتحول نعومة وزلفى عند المساس بغيرها من شرائع الأرض والسماء.. وإنه ليطن فى أذنى وأنا أكتب هذا الكلام دوى قرار الحرمان الذى أصدره " بابا روما " ضد رئيس حكومة الأرجنتين. إن الجنرال " بايرون " فصل الكنيسة عن الدولة، وأعطى الرجال حق الطلاق -برغم تعاليم الكنيسة- وصبغ التعليم العام بالصبغة المدنية البحتة، وألغى بعض الأعياد الدينية.. فكان جزاؤه على هذا السلوك أن يؤدب بقرار الحرمان!!. ص _153(1/152)
إنها لأقدار غريبة أن يصدر هذا القرار فى الوقت الذى يحاول فيه الأزهر إصلاح فتوى خاطئة، فتناوشه الأقلام من كل جانب، ويتحدث الساخرون عن سلطة كهنوتية يراها الأزهر لنفسه وقد مضى زمن الكهنوت!! فها قد صدر بالفعل قرار حرمان ضد حكومة كبيرة أعقبته ثورة سفكت فيها الدماء وجرت وراءها الخراب. فماذا عن " عصابة حرية الرأى " حتى انقطعت ثرثرتها وخفتت أصواتها؟. أهى شجاعة ضد الإسلام وحده، فإذا كان اشتباك مع غيره رفع أفراد العصابة أذرعهم.. وسيقانهم أيضأ؟ أين اختفى الصخب المفتعل باسم حرية الرأى؟ إن التعليق الفذ الذى نشرته " أخبار اليوم " هو أنها شرحت قرار الحرمان فقال المحرر الجرىء الذى طالما سمع هديره وهو يصول ويجول مندداً بعلماء الأزهر وهم يدافعون عن الإسلام. قال تحت عنوان " عندما يصدر البابا قرار الحرمان ": " إن معنى قرار الحرمان الذى أصدره البابا ضد الجنرال، بيرون " وأنصاره هو أن يعتبروا بيرون منبوذا بالاسم والفعل! فلا يجوز أن يتزوج فى كنيسة، وكل فتاة كاثوليكية تتزوجه تعتبر أمام الكنيسة كأنها ترتكب جريمة الزنا، وكل ابن يرزق به يعتبر غير شرعى وإذا مات لا تصلى عليه الكنيسة. وهذا القرار يمنع أى كاثوليكى من التعامل مع المحروم، فلا يطيعه إذا كان حاكما، ولا يتعامل معه إذا كان تاجرا، ولا يشترك معه فى أى عمل. والحرمان من التقاليد القديمة فى الديانة اليهودية، وقد انتقل منها إلى الديانة المسيحية. وحرمت الكنيسة الأرثوذكسية فى روسيا القيصرية، الأديب الكبير " تولستوى " لأنه لم يؤمن بألوهية المسيح. وحرمت الكنيسة الكاثوليكية الأديب الفرنسى " أرنست رينان " لأنه أخرج كتاباً عن المسيح باعتباره إنساناً عظيما ". هذا الشرح هو التعليق الشجاع على قرار الحرمان. أرأيت؟ إن عصابة الكتاب التى تحترف الحرية فى بلادنا تعرف الحرية فى إطار معين، إنهم يعملون لحساب جهات يهمها أولا وآخرا أن تمزق الإسلام وأن تأتى على معالمه.(1/153)
الإسلام وحده..! ص _154
وواضح أن تحقير الإسلام وخذلان أهله، وتقديس الديانات الأخرى وإكبار سدنتها خطة تعمل لها أقلام معينة وتساندها الدول التى تقيم المؤسسات التبشيرية وتعين موظفيها. وذلك كلام لا نلقيه على عواهنه، فلحساب من تتحدث صحف معروفة عن " بابا روما " وكيف جاءه المسيح وهو نائم مريض، وكيف صافحه وشفاه!!؟. ثم لا تمضى أيام حتى تنقل أسلاك البرق أنباء معجزة أخرى (!) أن " البابا المذكور " عانق طفلة عمياء فرد إليها بصرها، وأن الإجراءات لرسم نيافته قديساً تتخذ الآن..!! إن دار " أخبار اليوم " تنشر هذا اللغو فى الصفحة الأولى! إن لم يكن بدون تعليق فهو بكل تأدب وتوقير. على حين تتبارى هذه الدار مع مجلة " روزاليوسف " فى نشر صور تهزىء مستمر " للشيخ متلوف " رمز " العالم المسلم " فى نظر هذه الدور النزيهة المصونة.. أتراها تجرأت يوماً فنالت من مكانة واحد من رجال الكهنوت برغم ما نسب إلى بعضهم من شذوذ جنسى وانحراف خلقى؟؟ إن علماء الإسلام وحدهم هم الذين تتلمس لهم العيوب أما غيرهم فموكول أمره -بكل إجلال- إلى علام الغيوب.. ولو أن أحد شيوخ الأزهر زعم لنفسه بعض ما زعمه البابا الأقدس لكانت هذه الصحف أول ما يطالب بنقله إلى مستشفى العباسية. ومنذ أيام زعموا أن الأستاذ " خالد محمد خالد " رأى السيدة " زينب " فى منامه فهدته إلى الله. فلما سارع " خالد " إلى نفى النبأ نشرت " الجمهورية " تطميناً للقراء: أن خالد بخير.. وجنون الإعجاب بالأقوياء فنون. ولله فى المائعين المستضعفين من خلقه شئون.!!! *** ص _155(1/154)
تطور إلى الوراء لقد اشتدت وطأة الغزو الثقافى، وأخذت آثاره تبدو فى الأجيال الجديدة ورأينا الألوف يشبون وهم غرباء على البيئة التى نبتوا فيها. إن هذه الناشئة تنكر دينها وتاريخها وتقاليدها الفاضلة وتتجهم إذا قيل أن الإسلام أوصى بكذا وصد عن كذا. مضى عهد إذا ذكر الناس فيه بقول الله خشعوا، وإذا لفتوا إلى سنة نبيه انتبهوا. كانت للنصوص قداسة لا تحتاج معها إلى مقدمات وشروح مسهبة. وأقبلت أيام كالحة تساق فيها الآية إلى المجتمع وكأنها متهم يدفع به إلى التجبية والاستهزاء، فإذا هذا يرد، وإذا هذا يدير ظهره.. أى نجاح يبغيه الاستعمار أكثر من هذا ؟ أقصى أمانيه أن يكسر شوكة البلاد بانكسار شوكة الإسلام، وهاهو ذا قد نال ما يشتهى. فجماهير المتعلمين الجدد تنتشر فى كل مكان، حاملة معها جراثيم التحلل والشك. وحملة الأقلام الملوثة يحدون الركب ليذهبوا به بعيداً.. بعيداً عن الله. إن الإلحاد لا يجئ إلى هدفه قصداً فيقول لك: اكفر بالله، واعكف على ما سواه. بل يجئ إلى ما أوجب الله على العباد فيميته، وإلى ما حرم عليهم فيحييه. ومن ثم تمد بصرك فتجد أقواماً خرست بينهم أحاديث الفرائض، فهم لا يحترمون فريضة ولا يقيمون عبادة، وعلت عندهم أصوات المنكر فهم طلاب لهو وأحلاس فسق. ومثل هذه النابتة الملعونة هى أمل الشيطان. وهى ثمرة ما صنع الاحتلال الأجنبى، وهى مثار الفزع الذى نخشاه على مستقبلنا مصداق قول الله : " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا". ص _156(1/155)
فى يوم واحد، وفى صحيفة واحدة قرأت للدكتور " طه حسين " مقالا يندد فيه بمشروع إنشاء جامعة للفتيات. " إن هذه رجعية ومسخرة لن التقدم والحرية يوجبان -فى رأى الدكتور- خلط البنين بالبنات فى طور الشباب. إن هذا الاختلاط الحر ليس مباحاً فقط بل هو واجب "! ونضيف -نحن- إلى رأى الدكتور أنه أوجب ما يكون فى بيئة لا صلاة فيها ولا صيام، ولا احتشام فيها ولا تصون، لأن عزل الطالبات عن الطلاب فى دور التعليم مغاضبة لله وإحراج للفضيلة وابتعاد عن العفاف.! *** مم يغتاظ الدكتور " طه حسين " وأضرابه من محترفى الكتابة فى الصحف إذا احترمنا رغبات الطالبات المحتشمات والآباء الغُيَّر على أعراضهم وأولادهم فخصصنا فصولا أو مدارس، أو جامعات للبنات وحدهن؟. هل أمست الدعوة إلى الفضيلة معرة يهاجمها المفتونون من غير وجل ولا خجل؟ هل يباح للبعض أن يحبذ خلط الذكور بالإناث فى حمامات السباحة، ويعده مرحلة فى طريق الرقى، ويعبر عن أمله فى انتشار الميوعة والخلاعة واندحار الإيمان والعفة، فإذا تحدث مسلم عن استنقاذ بناته من هذا المصير هاج الدكتور "طه" وحزبه هياج الزنابير المحنقة وانطلقوا يطنون ويلسعون!!؟ ماذا يحرسه أولئك النفر من عبيد الغرب وغرقى شهواته؟ أيحرسون أمانى الشيطان فى أن يعم العالمين الإثم والفسوق والعصيان؟ أيحرسون أمانى الشيطان فى أن يحتضر الإسلام، فلا تبقى لفضائله شارة ولا يقوم لتعاليمه بناء؟ أمامى الآن الرسائل التى بعثت بها إلى " الأخبار " طالبة من كلية الحقوق فى جامعة عين شمس وقالت فيها: " قسمتنا الكلية فى الدراسة إلى قسمين، الأول للمستجدين، والآخر للمعيدين والطالبات، غير أن الطلاب الجدد لم تعجبهم هذه القسمة. ص _157(1/156)
فحشروا أنفسهم فى مدرج الطالبات.. " والدكتور " طه " وحزبه يعلمون الغرض السافل من وراء هذا المسلك. لماذا يترك الذكور أماكنهم المعدة لهم إلى الأماكن التى يوجد فيها البنات؟ قالت الطالبة: أقسم بالله أنى لا أفهم أية محاضرة إلا محاضرة العميد لأن الطلبة مكرهون فيها على التزام الهدوء. أما بقية المحاضرات فلا نسمع فيها أى كلمة من أستاذ. بل نسمع كلام الغزل والعشق والغرام!. وأصبحنا لا نتعلم القانون، بل نتعلم دروس الحب!. وتصور أن زميلا لنا يدعى أنه رسام عالمى، لا عمل له إلا رسم زميلة جميلة، يطلقون عليها اسم " ناريمان " ليظهرها فى أوضاع منافية للأدب. وهى تقبل شاباً.. بالله عليك هل هذا خُلُق؟. زد على ذلك هذه الضحكات العالية المائعة التى يطلقها الزملاء فى أثناء المحاضرات.. فهل لهذا حضرت من الريف طالبة مثلى تريد أن تتعلم لتتسلح ضد أخطار المجتمع؟ أرجو أن يتدخل العميد فيضع حدا للمهازل.. " أ. هـ. وقد علقت صحيفة " الأخبار " على رسالة الطالبة المحرجة، بأنها لو صحت لوجب على مكتب الآداب أن يوجه نشاطه إلى داخل الجامعات لا إلى شوارع العاصمة.. وهل ينتظر من دار " أخبار اليوم " أفضل من هذا التعليق؟ وهو على كل حال أشرف من تعليق صحيفة أخرى هاجمت عميد الحقوق لأنه اكترث بفصل الطالبات فى مدرجات الجامعة!! يا غوثاه، أكذلك تحاك المؤامرات ضد الشرف والحياء والحشمة والعصمة؟ إن باطن الحياة الناشئة عن الاختلاط المطلق طافح بالمآسي والمناكر.. ص _158(1/157)
وما يظهر أقل مما يخفى. ولو تكشفت الأستار لتلطخت آلاف الوجوه بالعار. ومع ذلك، فإن طائفة من الدعار المولعين بالإثم لا يعنيهم إلا أن يقدموا مزيداً من الوقود للغرائز الملتهبة.. إن الدين لديهم تقاليد بادت. فلا تستغربن إذا سمعت الدكتور " طه " يقول كلاما لا يفرح به إلا الزناة والعراة والقوادون والأفاكون. وفى الصحيفة نفسها وفى اليوم نفسه، تساءل كاتب ماجن: " لماذا لا تتزوج المرأة أكثر من رجل؟ " وتحت هذا الاستفهام الرقيع يقول: ".. إننى لا أويد تعدد الزوجات بل أحتقره لأنه ـ ولا مؤاخذة ـ بقية من حيوانية الغابة، وسيطرة الجنس القوى ذى العضلات الفتية ". وكلمات هذا الصحفى المخنث هى التعليق المتداول فى طبقته على قول الله سبحانه. " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ". مع أن كتاب الغرب بدأوا يتحدثون عن ضرورة التعدد -الذى يحتقره هذا الوغد. ولننشر هنا ما نقلته الأخبار فى هذا الشأن، تعدد الزوجات: هل تكفى الرجل زوجة واحدة؟ هل تستطيع امرأة واحدة أن تسعد الرجل طول العمر؟! هل تستطيع امرأة واحدة أن تكون ملهمة وطاهية، وأن تكون صديقة ومربية أطفال؟؟ ص _15 ص(1/158)
هل تستطيع المرأة أن تلعب هذه الأدوار كلها فى حياة الزوج؟ .. إن القاضى الإنجليزى، مستر " جيرالد سبارو " يجيب عن هذا بقوله: لا! إن هذا الرجل مكث قاضياً 23 عاماً " فى إنجلترا "، وفى " سيام ". وكان قاضياً فى المحكمة الدولية فى " بانكوك ". وألف كتاباً باسم " أرض القمر والورد. وفى هذا الكتاب يطالب القاضى المرأة الإنجليزية بأن تقبل " ضرة " معها!. إنه يقول: إننا فى عصر لا يمكن أن يكتفى فيه الرجل بزوجة واحدة. إنه فى حاجة إلى نوعين من الزوجات على الأقل! إنه فى حاجة إلى الزوجة التى تصبح رفيقته دائماً، وأم أولاده. ولا يمكن لرجل أن يستغنى عن هذا النوع من الزوجات. ولكنه فى الوقت نفسه فى حاجة إلى امرأة تجعل خياله يتجدد، وروحه تضىء، وتمنعه من أن يتحول إلى حيوان أليف! إن جميع الرجال يؤمنون بهذه الحقيقة، ولكن ليس لديهم الشجاعة فى أن يواجهوا بها النساء! ويقول المؤلف: إن المرأة تبدأ فى فقد جاذبيتها فى سن الأربعين. وإن الرجل يستطيع أن يسعد امرأتين فى وقت واحد بغير أن ينقص احترامه وحبه لزوجته الأولى! ويقول القاضى فى كتابه: إن الزواج فى " سيام " أسعد من الزواج فى أى بلد آخر. وفى " سيام " عندما تبلغ الزوجة الأولى سن الخامسة والثلاثين، تقرر أن زوجها يستحق زوجة ثانية، وتختار بنفسها هذه الزوجة وتقدمها إلى زوجها. وتكون الزوجة الثانية تابعة للزوجة الأولى. وتكون مهمة الزوجة الثانية أن تجعل الزوج سعيدأ، وتمنعه من أن يجرى وراء النساء خارج البيت.." أ. هـ. ص _160(1/159)
قال السيد على أمين: " ومن الغريب أن " درية شفيق " تطالب بمنع تعدد الزوجات فى مصر، ويقوم قاضى إنجليزى يطالب بإباحة تعدد الزوجات فى إنجلترا.! لا بد أن إنجلترا بدأت تتأخر!! "- هكذا يقول الكاتب المتحرر!! ماذا يريد إذن هذا الكاتب؟ هل يريد قصر الرجل على امرأة واحدة؟ ذاك هو المتبادر من حملته على التعدد! ولكنه بعد فقرة أخرى من مقاله يكتب تحت عنوان " الرقص للشباب " فيقول: " لا تصد قوا أن الحفلات الراقصة تعطى الفرص للمؤامرات! الحفلات الراقصة للشباب الأعزب تنفس عن الكبت وتهبط بحرارة الجنس وتعطى الفرصة للاختلاط على أسس رياضية روحية!. أما رقص الزوجات مع غير أزواجهن فهو يعطى فرصة الخيانة فى بعض الأحيان ". هكذا يتناول الوغد رذائل التسول الجنسى وسرقة الأعراض! أما التعدد الذى شرعه الإسلام وأحاطه بحدود صارمة، فهو لون من همجية الغابات كما يقول..! إن هؤلاء الأولاد صنعهم الاستعمار الغربى ليشبع بهم حقده على الإسلام. فهم -لما لقنوه من دروس صليبية- يحاربون شريعة التعدد مراغمة للإسلام فحسب لا حرصاً على احترام المرأة. إذ هم يجتهدون بعد، فى تحويل المجتمع كله إلى طوائف من الزناة والعراة والقوادين والأفاكين. و " أوروبا " لا تفرح لشيء فرحها لتفكك الإسلام وأهله فى هذه الميادين. فهذا التفكك إما عون على بقاء استعمارها المباشر، وإما ضمان لوجود شبيه بها، يوم تكرهها الظروف على الخروج من بلادنا. ص _161(1/160)
وفى الصحيفة نفسها، وفى اليوم نفسه، نشر الأستاذ " قاسم جودة " حديثاً آخر يريك مبلغ ما بثته الصليبية الغازية فى أفكار الشعوب الإسلامية المحتلة. فالمعروف أن الكنيسة فى الغرب تحرم الطلاق وتؤيد الزواج. وهذا الحكم كان مبعث تململ ومتاعب لألوف الأسر، وقد تناوله فريق من الكتاب بالنقد. بل إن ضرورات المجتمع الإنسانى قسرت القوم قسراً على أن يبيحوا الطلاق فى نطاق واسع، ولأسباب بلغت من التفاهة حدا يبعث على السخرية. وهكذا يجىء رد الفعل جامحاً إلى اليسار، لأن الفعل نفسه كان جانحاً إلى اليمين.. إن الطلاق جراحة لا بد منها إذا استفحلت العلة بالأسرة، وخشى على الزوجين من تفاقمها. وفى الحالات المرضية المخوفة قد يحكم على الشخص ببتر جزء من جسمه. فكيف نحكم باستحالة التفريق بينه وبين شخص آخر، إذا كان اقترانه به مصدر عذاب له. إن الإسلام قرر الحل الحاسم فى هذه الأحوال، فأباح للناس التخلص من هذا الرباط. ولكل من الزوجين بعد مندوحة عن صاحبه وسلوى. "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما". إلا أن الكنيسة لم تزل عند موقفها القديم من تحريم الطلاق تحريماً باتاً. والفتية والنسوة من هواة الثرثرة فى الشئون الاجتماعية، لا يريدون الإقرار بأن للإسلام فضلا فى إباحة الطلاق. فهم -كما صنعتهم الصليبية الغازية- يرون تأبيد الزواج هو الحكم الذى يذكر ولا يذكر غيره. ومن ثم نشر الأستاذ، جودة " خطاباً حوى آراء بعض النقاد حول تأبيد الزواج. ص _162(1/161)
" فأميل لودفيج " يرى أن القانون سوف يحرم فى المستقبل ذلك العقد الذى يستمر مدى الحياة بين شخصين لم يجرب أحدهما الآخر! ويؤيد " لودفيج " رأى " جيته " فى أن تكون مدة عقد الزواج خمس سنين تحت التجربة. ويتساءل كاتب الخطاب عن رأى المفكرين فى زواج التجربة هذا قبل أن يكون العقد أبديا؟ ويجيب الأستاذ " أحمد قاسم جودة " على هذا السؤال فيقول: " لا أحسب الرأى سيختلف حول دعوة " لودفيج، وجيته " إلى تجربة الزواج فترة من الزمن قبل أن يكون عقداً دائماً، ولابد أن تلتقى الآراء أيضاً على فكرة الكشف الطبى الإجبارى على الزوجين... إلخ ". أسمعت هذا الهراء كله؟ إنه فرار من التسليم بوجهة نظر الدين الحق فى إباحة الطلاق عندما لا يكون منه بد!. ما معنى زواج التجربة؟. وما قيمة أى كشف طبى على أعضاء الرجل أو المرأة؟ أهذه ضمانات الخلود لعقد الزواج؟. لماذا لا يتعلم هؤلاء الكتاب أحكام الإسلام ويتعرفون حكمة التشريع، بدل أن ينحصروا فى نطاق المعلومات الاجتماعية العفنة التى تلقوها عن الاستعمار؟ ماذا يريد أولئك الكتاب أن يصنعوه بأمتهم وبدينها الكريم؟ إن إصرارهم على حرب الإسلام وهدم قداسته، لن يهب لمصر ولا غير مصر تقدما أو حرية أو كرامة، ولن يمنح النصر قوماً تغد عنهم النصر لأنهم ليسوا بأهله..!! هل الدين إلا معقل نحتمى به إذا دلف العادى إلينا فأسرعا! هو الدين إن يذهب فلا عز بعده وإن جد ساعينا على إثر من سعى! ولا دين حتى ينزعوا عن ضلالهم! ويصبح منهم موطن الغى بلقعا!! وحتى يصونوا للكتاب زمامه وحتى يكونوا ساجدين وركعا! هنالك يقوى منهم ما تضعضعا! ويثبت من بنيانهم ما تزعزعا!! ص _163(1/162)
إننى أؤكد أن الإسلام نفسه ـ لا تقييد التعدد والطلاق ـ هو المقصود وراء هذه المجادلات السمجة.. ولو أن النصرانية هى التى كانت تبيح التعدد والطلاق، وكان الإسلام على العكس هو الذى يقيدهما لانبرى هؤلاء الكتاب أنفسهم يمرغون الإسلام فى الوحل، ويصفونه بالتنكر لطبيعة الحياة والتجاهل لآلام الناس، والنفاق فى حنوه على الأسرة..! إن أمر التعدد لا يعنى هؤلاء الكتبة لأن أغلبهم يعيش على التسول الجنسى وابتذال الأعراض دون أدنى التفات إلى حلال أو حرام. وكذلك تقييد الطلاق. وإن الواحد من هؤلاء الكتبة لينشر مقالا فى هذه الموضوعات، يهدر به كل مقدسات الإسلام ليتملق به امرأة يريدها.. أما خدمة الحقيقة المجردة فأخر ما يخطر ببالهم. واللوم لا نوجهه إلى هؤلاء، وإنما نوجهه لمن مكن لهم واحتفى بهم، وهيأ الفرص أمامهم كى ينشروا فى الأرض الفساد.. لقد قلت: إن التعدد -من حيث هو مبدأ- مسلم به، وإن التطبيقات السيئة من بعض الأفراد قد تكون هى التى أساءت إليه.. وقلت: إنه لا حرج على حاكم إذا حجر -باسم الإسلام- على هذه التصرفات. وبديهى أنه لا رعاية للإسلام ألبتة إذا حرم على رجل ما أن يتزوج امرأة ثانية وأحل له أن يزنى بها. وأن يتخذها لنفسه خليلة ما شاء، فقبل أن نفكر فى تقييد التعدد المباح يجب أن نفكر فى منع الزنا الحرام، أما اللغط حول التعدد مع تيسير المنكر فهو عمل يتقنه أهل الدياثة والفحش، لا أهل الإيمان والفكر..!! وقلت: إن الطلاق جائز، وإن هذا الجواز حق لرب الأسرة لا يسوغ أن يكون موضع قيل وقال، وإن الإسلام إذهاباً لبعض الأسى عن المطلقة -سن سوق المتعة إليها، وقد تكون بعض المطلقات فرحات بانتهاء عقد لم يثمر الخير المتوقع لطرفيه جميعاً ـ ص _164(1/163)
ومع ذلك فإن الإسلام وضع مبدأ تمتيع المطلقة جبراً لخاطر الكسيرات منهن وهو مبدأ يستطيع القضاء الواعى لحكم الشريعة أن يعتمد عليه فى تخفيف الضرر عن المرأة أو منعه إذا كان هناك ضرر ثابت من التطليق. " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين". أما إبقاء عقد الزوجية، وإعطاء حرية التصرف للزوجين المنفصلين فهذه شناعة لا نقبلها، وقد كرهها النصارى على أنفسهم، فكيف يكلف أتباع محمد بقبولها، لأن بعض الكتاب المشتغلين بخدمة الاستعمار الغربى يروجون لها؟ إن تقييد الطلاق، أو ما يسمى تعويض المطلقة مسلك -كما قلت- لا يراد به حماية الأسرة ولا إنصاف الحقيقة وإنما المراد به الشغب على تعاليم الإسلام لحساب جهات لا تخفى أحقادها على دين الله.. ولننظر. هل الذين يحاولون تحرير الشرق -ولو على أنقاض الإسلام- كسبوا شيئاً من وراء هذه المحاولات؟ كلا. فعناصر الكفاح كلها تستمد حرارتها وتألقها من الإيمان المتجرد النظيف. وما من معركة أحرزنا فيها كسباً جليلاً أو قليلاً، إلا كان الإسلام موقد جذوتها ونافخ ثورتها.. أو كان عزاء ما انتهت به من خسائر فى الأموال والأرواح. أما عبيد الغرب، وأذناب التوجيه الأوروبى فما نراهم إلا فى زحام المنافع ومضلات الهوى. إننا نخط هذه السطور، والدم الإسلامى يسفك بغزارة فى أرجاء المغرب. من الذى يحمل أثقال هذا الكفاح المعنت الرهيب؟ من الذى يصارع الدبابات والطيارات وهو شبه أعزل، هائمأ على وجهه فى الجبال، والفرنسيون من فوقه ومن تحته يتبعونه بالموت؟ من؟ إنهم الرجال الذين غذوا بلبان الإسلام وتطلعوا إلى ما عند الله! ص _165(1/164)
أما الأجيال التى تربت فى حجر الاستعمار وتعلمت الجرأة على الله ورسوله فهى فى واد آخر، ينادون من مكان بعيد، ولا يسمعون!! الأحرار يستبسلون فى تطهير البلاد من أوساخ الاحتلال، وهؤلاء -بقلوبهم أو بجسومهم- مع الدخلاء الظالمين. وأعرق خلق الله فى الذل أمة تضام ومنها للذى ضاهها جند قرأت لكاتب معروف كلمة فى التنديد بمسلك هؤلاء الأقوام فى هذه الأيام. إن فرنسا تبطش بطش الجبابرة بالثائرين على غشمها، وهؤلاء العرب المسلمون (!) -كما يوصفون- فى أرض فرنسا يصطادون المتع!! أما غضبهم المفروض أن يتظاهروا به تضامناً مع بنى جلدتهم فهو تمثيل منكور. قال هذا الكاتب تحت عنوان " العرب غاضبون ": " يقال اليوم: إن العرب -حكومات وشعوباً- غاضبون من فرنسا حانقون عليها.. ومن مظاهر هذا الغضب أن عربياً كبيراً يوجد الآن فى فرنسا -وعلى وجه التحديد- على ساحل " الريفييرا " عند مدينة " كان " فى يخت خاص، يتنزه ويستريح ويستجم.. ويستنشق نسيم عدونا فرنسا.. ولعل شيئاً مما ينفقه يذهب فى شراء الأسلحة التى تذبح بها فرنسا إخوانه المجاهدين فى مراكش والجزائر. ولم أسمع حتى اليوم أن أحداً من رجالات بلدة العربى الواعى أو أحداً من مستشاريه أرسل إليه يقول: إن الظرف غير مناسب لإطالة الإقامة فى "الريفييرا" الفرنسية.. بينما طائرات ودبابات فرنسا تدك قرى الجزائر ومراكش وتحصد أرواح إخواننا المجاهدين!. ومن آيات هذا الغضب -غضب العرب أقصد- أن عربياً كبيراً عاد أخيراً على ظهر سفينة فرنسية وأهدى قبطان السفينة سيارة " كاديلاك " إظهاراً لامتنانه وسروره.. من القبطان الفرنسى، والسفينة الفرنسية، وكل ما هو فرنسى. ومن مظاهر هذا الغضب كذلك، أن فنادق باريس الكبرى لا تزال مملوءة بعدد كبير من أصحاب الملايين العرب الذين قصدوا إلى باريس للراحة والاستجمام فى الكباريهات والحانات و" صناديق الليل ". ص _166(1/165)
وهم يسمعون هناك، ولا شك، ويقرأون كل يوم عن حرب الإبادة التى تشنها فرنسا على إخوان لهم فى الجزائر ومراكش.. وعد د القتلى فى الجزائر وعدد القتلى فى مراكش وعدد القرى التى أبيدت.. وقد يسمع الواحد منهم -وهو جالس فى الكباريه وإلى جواره غانية فرنسية- قد يسمع حديثاً بين الفرنسيين الجالسين- كيف أن العرب (الكلاب) قد قتلوا اليوم اثنى عشر فرنسيا فى الدار البيضاء، وأن القوات الفرنسية قد أخذت لهم بالثأر فقتلت ثلثمائة عربى قذر!! قد يسمعون، ولكنهم يرفعون قدح " الشمبانيا " ويتظاهرون بأنهم لم يسمعوا.. حتى لا يضطروا لأن يغضبوا، وهم لا يريدون أن يغضبوا ويتركوا باريس!.. ومن مظاهر هذا الغضب كذلك أن البضائع الفرنسية لا تزال تباع فى أسواق القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وعمان!. وتوجد أسواق فى تعز وصنعاء والرياض!. والشمبانيا والنبيذ الفرنسى يحتسى فى قصور الصحراء!... ". نعم. العرب غاضبون وحانقون.. وغضبهم ـ نزولا على حكم العادة وحكم التقاليد ـ مقصور على الورق.. خطب وقصائد!. واستنكارات واحتجاجات؟. وشكاوى ترفع إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم! كأن مجلس الأمن وهيئة الأعم سوف ينصفان العرب ويخذلان فرنسا؟. وهما اللذان خذلا فلسطين والعرب، إكراماً لخاطر إسرائيل.. فهل تكون فرنسا عندهما أقل قدراً ومكانة من عصابات اليهود؟! ونحن ندرك ونعرف! ولكننا نتجاهل لأننا نخاف مواجهة الحقائق! أ. هـ. ص _167(1/166)
ونحب أن نسجل هنا أن الدكتور " طه حسين " كتب مقالة ضد إنشاء جامعة للفتيات وهو فى فرنسا مع غيره من العرب الأشاوس. وسواء كان يستجم أو يصطاف أو يجدد العهود، فإن آلام المغاربة ودماءهم المسفوكة لم تمنعه من أن يضحك طويلا على أفكار الذين ينشدون فصل الذكور عن الإناث فى معاهد الدراسة. هل عرفت ما صنع الغزو الثقافى بعقول كثير من الكتاب والناشئة؟ إنه مسخ صلتهم بالإسلام، وقطع علائقهم بأهله، وحصرهم فى حدود منكرة من فقه الدنيا والدين. * * * * وقد كشفت مجلة " تايم " عن ناحية جديرة بالنظر فى العراك العنيف القائم اليوم بين فرنسا ومراكش.. فإن ساسة فرنسا عزلوا سلطان مراكش " محمد بن يوسف "، ونفوه إلى جزيرة مدغشقر، ومزقوا شمل أسرته وبطشوا بمن يمت إليه، وحصدوا برصاصهم الجماهير الهاتفة له، وفعلوا -وما يزالون يفعلون- المنكر بأنصار السلطان المنفى. لماذا؟ وما علة هذه الضغينة؟ العلة أن السلطان خطب فى الشعب يوماً فدعا أهل البلاد أن يستمسكوا بالحرية، وأن يتضامنوا مع الدول الإسلامية!. حرية وإسلام؟ كيف يجرؤ الرجل على النطق بهذا الكلام؟. وهاجت نيران الغل والتعصب فى دماء الفرنسيين، واستثارت كوامن حفيظتهم على الإسلام وأهل الإسلام. فإذا الجمهورية الضخمة ترسل أكبر قادتها إلى المغرب ليقمع الشعب المطالب بما ليس له. ثم تهجم بزبانيتها وسماسرتها على قصر الحاكم المسلم لتنتزعه من وطنه وتطوح به وراء البحار.. ص _168(1/167)
وقال " مسيو بيدو " وزير خارجية فرنسا فى تسويغ هذا العدوان: " كان لا بد أن أختار بين الصليب أو الهلال!!! ". - هكذا روت مجلة " تايم "- أسمعت أيها القارئ المسلم؟. أتذكر كلمة تنبع من هذه العين الحمئة قالها مارشال " ألنبى " يوم فتح بيت المقدس؟. أليست هذه السخائم المتوارثة بين قادة الغرب وساسته ضد الإسلام وأمته! " أتواصوا به بل هم قوم طاغون ". إن حملة هؤلاء الناس على دين الله لا يدركها فتور، وقد تحسبها هدأت حيناً فتحسن الظن. والحق أنها هدأت لتتخذ مسارب أدق فى الكيد للإسلام والنيل منه. ولديها هذا الغزو الثقافى المسموم، والمبشرون به من حملة الأقلام الكبار والصغار الذين لا ينقطع لهم لغو فى الصحف والإذاعات. *** ص _16 ص(1/168)
تدليس كريه العلماء بالإسلام ـ فى أيامنا هذه ـ قلة تدعو إلى الأسف والتوجس. ولا يخدعنك هذا الجم الغفير من حملة الشهادات الدينية العالية. فإن جمهورهم ما نال درجته العلمية إلا على محصول من المعرفة، قليل الغناء والجدوى. وعندى أن " الأزهر " بحاجة ماسة إلى مراجعة مناهجه واختباراته العامة. فإن الغرابيل التى يمتاز بها الغث من السمين قد زادت خروقها حتى أصبحت تنفذ منها الأحجار..! ما معنى أن يوصف امرؤ أنه " عالم " بالإسلام وهو لا يحفظ كتاب الله أساس الوحى ودستور الإسلام؟ ولا يدرس سُّنَة رسول الله، وهى معالم الهدى ومنار الطريق؟. ولا يعرف أدب العرب، وهو عدة البيان العالى والتعبير البليغ؟ ولا يشرف على المجتمع الذى يعيش فيه لأنه يلهث فى مساربه وخوافيه؟. وهبْه حفظ من القرآن أجزاء، ومن السُّنَة نبذاً، ومن أدب اللغة فصولاً، بل هبْه استوعب حقائق ذلك كله. فما انتفاعه منه إذا كان مريض القلب واللب؟ وما انتفاع الإسلام بهذا الصنف من العلماء، إذا كانت تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا تغلغل فيه.. لئن شكونا من قلة العلماء، إننا لنشكو من طائفة أخرى، طائفة احترفت العلم. فبدلا من أن تتهذب به، وتهذب به الناس، أخذت تسخره فى نيل الدنيا. وهكذا وجدنا فى هذه الأيام العجاف من ينقل الإسلام إلى أصحاب الشهوات ليزيد ضراوتهم بالحياة، وفتكهم بالدنيا، بدل أن ينقل هؤلاء المرضى إلى الإسلام، ليصحوا فى جوه، ويبصروا على سناه..!! يقول "أحمد محرم": ص _170(1/169)
أرى علماء الدين لا يحفظونه ولا يعرفون اليوم رتبته العليا هم اتخذوا ما أدركوا من علومه سبيلا إلى ما يشتهون من الدنيا فضاعوا وضاع الدين ما بين أمة همو شرعوا فيها الضلالة والغيا إذا المفسد استفتى يريد تمادياً أتوه بأعلام الهدى تحمل الفتيا! أيعجب قوماً من أولى العلم أنهم يسيرون بين الناس فى نوره عميا؟ ألا هل أرى من جلة القوم شافياً لشعب مريض لا يموت ولا يحيا محته عوادى الدهر إلا بقية من الدين والدنيا لمن يؤثر البقيا! وإليك هذه الأمثلة المضحكة المبكية: يتجمع بعض النسوة ليحاربن مبدأ تعدد الزوجات، وليثرن شغبا مفتعلا على رئيس وزارة تزوج " سكرتيرته ". فإذا عالم قمىء يخرج من شقوق الأرض ليقول: نعم الإسلام يحارب تعدد الزوجات، ويصفق له نفر من الصحافيين ومن أدعياء الإصلاح الاجتماعى. وتسمع هؤلاء وأولئك يقولون. هذا هو العالم المجدد!! هو عالم مجدد لأنه يرضى الزنا بالخليلة ويكره الزواج بالحليلة. هو عالم لأنه ركب من النصوص أدلة تحظر تعدد الزواج على طريقة الشاعر الهازل: ما قال ربك: ويل للألى سكروا بل قال ربك: ويل للمصلينا..! الله يقول: " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة..". ويقول: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " من هاتين الآيتين نفهم أن التعدد حرام، كما فهم أحد الشعراء العابثين أن الخمر حلال. ص _171(1/170)
لأن أبا حنيفة يبيح النبيذ، ومالكا يقول: النبيذ والخمر سواء فقال: أباح العراقى النبيذ وشربه وقال: حرامان المدامة والسكر وقال الحجازى: الشرابان واحد فحلت لنا من بين قوليهما الخمر *** وهذا عالم آخر يرى بعض الأدباء الماجنين، وقد ضاق ذرعا بشريعة الصيام، لأنه ضيق الصدر بشرائع الإسلام كلها! فيخرج على الناس بفتوى تجعل الصيام هواية تتبع المزاج المرهف. فمن كان شفوفا بالجوع والعطش صام، وإلا فليفطر جهاراً نهاراً ولا تحرج ولا ملام.. وتخرج الصحف -التى طالما حرضت على البغاء وطالبت الحكومة برفع الحظر عنه، والتى استنكرت تحريم القمار وعدت الإبقاء عليه ضرورة إنسانية- تخرج هذه الصحف وقد طبلت للفتوى الجليلة (!) وسلكت صاحبها فى عداد الأئمة الثائرين أو الخلفاء الراشدين. فإذا رأى الأزهر تأديب غلامه الذى مرق. صاحوا به من كل جانب: يا ظالم.. اتركه يا متأخر.. واقتحم الدكتور " طه حسين " غبار المعركة بمقال عنوانه " حق الخطأ " قصد به إلى حماية التزوير على الإسلام. وزاد فى مقاله السمج أن لهم -أعنى لهؤلاء المفتين المزورين- أجر الخطأ فيما قالوا بعيدا عن الصواب.. *** إن هؤلاء الناس أفسدوا حياتهم بالرذيلة والتحلل. فهل يريد هؤلاء اللاعبون بالفتاوى أن يسوغوا لهم محياهم، وأن يرضوهم عن مسلكهم؟ هل نفسد الدواء نفسه ليبقى العليل أسير علته إلى الأبد؟ هل نشوه الإسلام ونحرف الكلم عن مواضعه لترضى نسوة ورجال أعرف ـ ويعرف غيرى ـ أنهم ما تطهروا لله يوما، ولا أدوا له صلاة، ولا خافوا له لقاء، ولا أقاموا له حداً، ولا احترموا له حقاً. ص _172(1/171)
إن الأرض حفلت بكثير من العصاة الذين قضوا شطر أعمارهم أو أغلبها فى ظلام الإثم. حتى إذا انقشعت عنهم الغمة، وارتفعت عن أعينهم الظلمة، عادوا إلى دين الله تائبين ـ فعرفوا المعروف، وأنكروا المنكر، واستأنفوا مج ربهم علاقة أزكى وأنضر.. فماذا عرا الدنيا حتى يحاول فسدتها أن يجروا الدين نفسه إلى عبثهم. وماذا عرا العلماء، حتى يسارعوا فى هواهم ويرغبوا فى رضاهم؟ إنها فتنة، بيد أنها تثير الغثيان والمضاضة. إننا نرمق كثيراً من أصحاب الأسماء اللامعة فى ميادين الصحافة والفن والتعليم يحيون كما يهوون، غير حراص-البتة- على تعرف أحكام الله فيما يأتون ويذرون. وقد يستحى الواحد منهم أن يجهل تقليداً غربياً فى أسلوب السلوك العام، بل فى أدب الطعام والشراب. ولكنه لا يستحيى أبداً من أنه لا يعى فى تعاليم الإسلام حرفاً، ولا يدرك منها إلا ما يتخيله ويرضاه. وربما لا نتعرض لهؤلاء إذا شربوا الخمور واتخذوا الخليلات وضلوا الطريق ـ طول عمرهم ـ إلى بيوت الله طلباً لمغفرة، أو إقامة لصلاة. نعم ربما لا نتعرض لهم بالتقويم، لأن ذلك ليس فى طاقتنا.. بيد أننا لا نسكت إذا حاول تارك الصلاة منهم أن يطعن فى وجوبها أو مفطر رمضان منهم أن يخدش من قداسة فريضته. لن نسكت إذا حاولوا مد آثامهم إلى نطاق الإسلام نفسه، يبغون تشويه آياته، وتقويض نظامه، وتحريف الكلم عن مواضعه. إن السكوت عندئذ لا يعنى إلا إماتة الإسلام ومواراته الثرى. والله إن الحياة بعده هى الخسران المبين،. ونعود مرة أخرى إلى علماء السوء الذين يزينون الإلحاد، ويمهدون بمقالاتهم طرق الفساد، نعود إليهم لنلفت الأنظار إلى خطورة تركهم، يدلسون على الإسلام ويعوجون بدعوته الكريمة. ص _173(1/172)
كيف تصان الأخلاق اتفق علماء الأخلاق على ما للوراثة والبيئة من آثار ضخمة فى أحوال المرء وأعماله وإن اختلفوا: أى العنصرين أعمق غوراً وأعظم خطراً. ونحن نعرف أن تكوين الخلق تدخل فيه عوامل شتى، من بينها الطباع التى تقذف بها الوراثة وتتميز بها الملامح النفسية لكل إنسان. ومن بينها كذلك ظروف البيئة التى تجمع البيت والمدرسة والأصدقاء وشئون الصحة والمرض، والفقر، والغنى، والأمن والقلق، والحر والبرد. وما نقرأ من صحف وما نسمع من أنباء ومعارف... إلخ ! والخلق ـ لا شك ـ قوام كل سلوك، وروح كل عمل. ويجب أن نوفر فى حياتنا الأسباب التى تعين على إنهاضه وإنضاجه. ولكن مزالق الأخلاق كثيرة. ومهما قوينا الخلق الشخصى فيجب أن نقصى عن الطريق صنوف المغريات التى تناوشه وتعرضه بين الحين والحين للسقوط.. هبك رجلا عفيفاً. إن مما يحفظ مروءتك ويصلح سريرتك أن تحيا فى مجتمع تحتشم فيه النساء وتختفى منه المثيرات. فذلك أصون للعرض وأعون على الطهارة. ووظيفة الخلق النقى عندئذ أن ينأى بصاحبه عن نطاق الريبة، وأن يعلو على وساوس الغريزة. فإذا ما تاحت فرصة شر تغلب عليها، وإذا غلبته ثم عرضت له مرة أخرى هزمها. أما أن يكلف هذا الخلق بأن يقضى العمر كله فى صراع مع الإثم الهاجم عليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، وأن ينتصر عليه فى الصباح، فلا يكاد الضحى يقبل حتى يدخل مع الشيطان فى تجربة أشق. وهكذا دواليك. فهذا مما تفشل فيه جماهير العامة ولا يصبر على لأوائه إلا الأقلون ممن عصم الله. ص _174(1/173)
ومن هنا يجب صيانة الأخلاق الخاصة بصيانة الجماعة نفسها من فنون العبث والسفاهة التى تذر عليها كما يذر الغبار على الرءوس فى العاصفة الهوجاء. وأظن أن أغلب ما يذيع " الراديو " وأغلب ما تكتب الصحف لا يساعد على تقويم خلق أو تهذيب سلوك. بل لعلنا نصيب صميم الحق إذا قلنا: إن الكثرة الغامرة من الإذاعات والقراءات المتاحة للناس هى بلاء تختنق الفضائل فى ضجته، وتحتضر فى أزمته. وإن ضمان العافية للأخلاق لن يتم إلا إذا خرست الأصوات الخنثة، وانكسرت الأفلام التى تدغدغ الشهوات. إننى أفتح " الراديو " حيناً فأجتهد أن أستمع إليه وهو يهمس حتى أتبين ما يقول وحدى قبل أن تخترق مسامع الأطفال الأبرياء، ألحان أنثى لذعها الهجر أو صب أضناه الهيام!!. والغريب أن البرامج الآن أخذت تعرض روايات مسلسلة تتخللها أحداث دامية وفصول مهيجة. وذلك كله إغراق فى اللغو، لا بل هو إغراق فى شغل الأذهان بالهراء وصرفها عن الجد والإنتاج. أما الصحف فإن حسابها عسير على ما تنشر بأحرف كبار وصغار. ولن أعرض للصحف التى تخصصت فى تصوير النساء وهن مستلقيات، أو فى إبراز مفاتنهن وهن على أوضاع يندى لها الجبين. لن أعرض لهذه الصحف بنقد، فإن الملام يوجه للحرائر لا إلى البغايا! وما نقول لأناس يهشون للمنكر، ويودون لو نبت الجيل كله فى حمأته؟ ما نقول لأناس يمقتون الإسلام، ويريدون أن يصبحوا ويمسوا، فإذا التراب مهال على فطرته وشريعته؟ لا كلام لنا مع هؤلاء، إذ لا جدوى للكلام معهم. وإنما نلوم الصحف التى انساقت -وهى تدرى أو لا تدرى- فى نشر الجرائم المختلفة وسرد تفاصيلها بدقة، وإطلاق الخيال بعد ذلك يكمل ما عجزت الوقائع عن سبكه. ومن ثم يطالع القراء كل يوم أنباء الانحراف والعوج، وقصص الخيانة والتهريب والشذوذ، وحوادث الغصب والقتل والعد وان.... إلخ. ص _175(1/174)
قال الدكتور " محمد مندور ".. معلقاً على انحدار الصحافة والإذاعة: " وإنك لتنظر إلى الإذاعة فى عهد الثورة فتحس بأن الدولة وقد وفرت لها من الإمكانات أكثر مما كانت تملك من قبل. ولكنك تلاحظ أنه إذا كانت الإذاعة قد زادت من قدرتها على الإرسال كما أنها نوعت برامجها ووسعت فيها حتى أصبحت إذاعة دائمة شبه مستمرة أناء الليل وأطراف النهار. .. إلا أنك مع ذلك تلاحظ أنها قد أصبحت خليطاً عجيباً يجمع بين الجواهر والحصى.. وأن معظم التوسع كان إلى جانب الهذر والإسفاف فى وقت نحن فى أشد الحاجة فيه إلى الجد ونشر الوعى وتعبئة الأرواح. ونحن وإن كنا لا ننكر على الناس حقهم فى التسلية والترويج، إلا أننا نؤمن بأن طرق التسلية وفنونها واسعة متنوعة. وإذا كنا لا ندعو إلى التزمت الخلقى الضيق، فإننا نحرص على التزمت الذوقى، ولا نستطيع أن نستسيغ لأنفسنا ولأطفالنا وشبابنا كل هذا السيل المدمر من ابتكارات " ساعة لقلبك " وسلاسل الجرائم البوليسية والحشيشية. وما نظن أن هناك أباً ـ يحترم نفسه ويحترم أسرته ـ يقبل أن يستقبله أطفاله وهو يدخل من الباب بألفاظ وتحيات ونبرات يلتقطونها من لغة المجرمين التى تجرى فى الإذاعة على ألسنة " سمارة " و المعلم " سلطان " و " دنجل " و " السيد أبو شفة ". كما أننا لا نظن أن هناك نفوسا ممن يشجيها الطرب تستسيغ سماع تلك الآهات والأنات الجنسية القذرة التى ينكبنا بها بعض حضرات المغنين والمغنيات فى إذاعتنا الموقرة حتى ليخيل إلينا أنه قد حان الحين لكى تتحرك النيابة العامة فتعمل على حماية المجتمع من هذه الكوارث. ص _176(1/175)
وإذا كانت الإذاعة عاجزة عن أن تساهم مساهمة شريفة فعالة فى التعبئة الروحية، فلا أقل من أن تكف أذاها وأن تمنع عن العمل على هدم الروح المعنوية فى الأمة وتحطيم رجولتها وحاسة الحياء فى نفوس أفرادها. وأما الصحافة فإنه لما يحزن أن نشاهد فى عهد الثورة تسابقها نحو الانحلال الأمريكى الذى يسمونه فناً صحفياً.. فتراها تتنافس فى الإثارة والتسلية التافهة وأبواب الجريمة حتى بلغ الأمر بنا أن رأينا صحيفة كبرى عرفت بالجد والاتزان تضعف عن المنافسة فتنزلق إلى الميدان وتستبدل بصفحتها الثقافية العميقة صفحة تسلية قصصية رخيصة وسلاسل بوليسية كثة: وهى ـ بانحدارها المؤلم ـ قد تفقد بعضاً من قرائها الجادين دون أن تستطيع جذب الهازلين الذين سيجدون دائماً فى الصحف الأمريكية من الهزل أكثر مما يستطيعون أن يجدوا فى الصحيفة الجادة التى انساقت فى تيار العبث. .. بل لقد بلغ بنا الأمر أن رأينا حكومة الثورة ذاتها تعطى بعض الصحف الأمريكية رخصا لكى تصدر طبعة عربية فى بلادنا!.. وكأنه لم يكفنا تسرب الفن الأمريكى المسف إلى صحفنا المصرية فأبينا إلا أن تنشر الصحف الأجنبية ذاتها فى بلادنا لكى يبلغ الإسفاف أقصاه! وكل هذا فى وقت تناصبنا فيه أمريكا أشد العداء، وتبذل كل جهد فى مناصرة الصهيونية والاستعمار اللذين يعتبران أخطر عدو لنا فى حاضرنا ومستقبلنا، وتستخدم صحافتها ووسائل دعايتها فى تضليلنا وتمويه الحقائق أمام أبصارنا. وكأنه لم يكفنا ذلك الاستعمار الثقافى العاتى الذى تشنه أمريكا ضدنا بواسطة ترجمة الكتب الأمريكية وبيعها بثمن زهيد بفضل أموال "فرانكلين" وغير "فرانكلين"، فأبينا إلا أن نمكن أمريكا أيضاً من الاستعمار الصحفى وهو أخطر أنواع الاستعمار الثقافى والروحى فى بلاد تقرأ فيه الصحف أكثر مما تقرأ الكتب " أ. هـ. ونحن إذ نؤيد هذه الصيحة نضيف إليها أن أول أثر لهذه الكتابة المستفيضة ابتذال الجريمة وفهمها على أنها عمل يقع من هذا(1/176)
وذاك. ص _177
فإذا قارفها المرء فله نظائر سبقوه. والإسلام يحب أن يشهد الناس العقوبة التى تقع بالمجرمين ولا يحب أن يشهد الناس المعصية التى وقعت ليتسلوا بمرآها وليقرءوا وصفها إن غابوا عنها. أما دعوته لرؤية العقوبة فلكى يعلق بالنفوس شؤم الجريمة فلا يقر بها أحد ولذلك يقول فى عقاب الزناة " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين". وأما الخطيئة نفسها حين تقع فهو يضرب حولها أسواراً من الكتمان، ويعالجها فى صمت فما يكشف عن أطرافها إلا إذا فاحت ريحها وعز سترها " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ". إن المجتمع البرى تشب فتياته زهرات ناصعة لا يعرفن الإثم إلا كما تعرف البساتين النضرة غيوم المداخن الكدرة. ولبعد إذهانهن عنه ونزاهة ساحتهن منه جمح أن يوصفن بالغفلة فى مثل قول الله: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ". إنها غفلة القلب الملائكى عن لوثات الطباع السافلة، فانظر أية بيئة تتعاون الأقلام الساقطة على خلقها حين تتسابق فى شرح المعاصى وفضح أسرارها وفتح عيون الصغار والكبار عليها؟ فى مصر وحدها تصدر عدة صحف يمكن أن يؤلف من أوراقها كتاب متوسط الحجم ينشر بين الناس مطلع كل صبح. تصور أنك قرأت فى عام واحد نيفاً وستين وثلاثمائة كتاباً!! لو كانت فى الدين لكنت إماما! لو كانت ما فى الأدب لكنت بحاثة حجة! لو كانت فى العلم لحطمت الذرة لو.. لو!! لكنها فى اللغو والهزل فهى شر ذو حدين: حد يقطعك عن الجد وعن القراءة النافعة. وآخر يشتت قواك فى عالم اللهو والفراغ ويفسد ذوقك وينقل إليك حركات الغرائز الدنيا ومجارى الشهوات فى أعماء الظلام. ص _178(1/177)
الحق أن تكوين الخلق العالى وضبط السلوك العام فى حدود الشرف يطلبان منا أن نحسن الإشراف على أحوال المجتمع حتى لا يتحول الشر إلى تيارات عنيفة تصيب النفوس المجردة بأذى كبير. إن بث الإثم فى المجتمع ثم محاولة تنميته بالمقالات والروايات والإذاعات وضروب الغثاء الأخرى أمر لا يبقى معه دين ولا تستقر فضيلة. وأحسب أن هذا ما أشار إليه الحديث " يوشك أن يكون خير مال المؤمن غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفق ". ولست أوصى بفرار.. فإن الهزيمة بالحق أمام حفنة من الصحافيين الماجنين عار أى عار. بل أوصى بمقاومة الفتن وبناء محاضن نقية للأجيال الجديدة، وحياطة أهل الخير بسياج يحميهم من الزيغ ، وجعل المساجد مثابات يلتقى الأخيار فيها ليأنس بعضهم بالبعض ويتواصوا بالحق ويتواصوا بالصبر. وفى مثل هذا المجال ـ لو صدقنا الله ـ نستطيع أن نقطف أشهى الثمرات. ص _17 ص(1/178)
فى الحياة سألته معترضاً: كيف ألحقت ولدك بمعهد أجنبى وليس يخفى عليك ما تصنعه هذه المعاهد بأفكار الطلاب ومشاعرهم؟. فقال: إننى سأرعى ولدى فى دروس الدين واللغة، وسأدعهم فيما وراء ذلك لعناية هؤلاء المدرسين الأجانب. إن السكينة تسود فصول المدرسة، وتقاليد الأدب تحكم صلات التلامذة ومقررات العلوم تستوعب كلها شرحا، والامتحانات تتم فى حدود الدقة، والأمانة على سلوك الطالب قائمة دائمة، تبلغ ولى أمره حيناً بعد حين، والبيئة أزكى... إلخ. قلت " إن مدارسنا سائرة فى هذا المضمار، ويجب أن نضع فيها ثقتنا. فهز رأسه كأنه لا يصدقنى... *** وساكت أحد أرباب الأموال فى الصعيد. كيف تأتمن على إدارة أموالك فلاناً؟ أما وجدت فى أبناء ملتك من يصلح لوظيفته؟. فأجاب: إنه أسرع إطاعة للأمر وتحقيقاً للرغبة. وتفانيه فى خدمتى، وحفظ ثروتى أظهر من أن ينكر. ثم هو ضعيف الشهوات، نظيف العادات، لا ينفق راتبه إلا فى الوجوه المشروعة. وأخشى لو استخدمت غيره من عمالنا أن يتعبنى بشراهته، وأن لا تتسع نقوده لمباذله فى الدخان والمخدرات، إلى جانب الضرورات الأخرى، فيجره ذلك إلى غشى وكرهى!. فقلت: إنك تسئ الظن بجمهور العمال عندنا؟. فحرك كتفيه مبديا أنه لا يحفل بهم.. ص _180(1/179)
وسألت آخر: ما أغراك بشراء هذه السلعة من صناعة الغرب وقد أصبحنا ننتج نظائر لها فى بلادنا؟. فقال: إن الوارد من هناك أمتن وأبقى، وربما كان أغلى سعراً - للضرائب التى تفرض عليه قبل وقوعه بأيدينا - ومع ذلك فأنا أوثره. إن إنتاجنا يجب فى سوق المنافسة الحرة أن يروج بجودته وخصائصه، لا بمشاعر العطف والتعصب. وما دام نقص القادرين على التمام لازماً لنا، فإن الذين كتبوا الإحسان على كل شىء أحق بالقبول والحفاوة منا.. قلت: تريد أن تتهمنا بالتفريط؟ قال: بل بالتبلد! إن الرجل هناك يفرغ قواه ومواهبه كلها فى عمله، فإذا خرج بعد ذلك وبه شائبة احمر وجهه استحياء. وهو لا يرضى بكمال بلغه إلا ريثما يبحث عما هو أكمل منه. ومن ثم يطرد سير الحياة عندهم، ويتمخض عن الروائع فى كل ميدان. أما نحن فالعمل يخرج من بين أيدينا كالسقط الذى لم يكتمل خلقه. وهو إذ يخرج كذلك -بعد أن أمضينا فيه أكثر من أمده- نطلب عليه أجراً مضاعفا!!. قلت: لعل ما تقوله حق... *** يظن كثيرون منا أن الشرق الإسلامى أصابه فى العصر الأخير ما أصابه من ضعف وتقهقر لأنه فقير إلى بأس الحديد وفيالق الجنود، ولأن أعداءه أكثر مالا وأعز نفراً. وذلك خطأ. فإن المسلمين هانوا حقاً. ولكن لأنهم فقراء إلى العقائد والأخلاق والأعمال، وأعداؤهم عزوا حقاً لأنهم ـ ولا نفتات عليهم ـ لا يقلون غنى فى قواهم المعنوية عن غناهم الواسع فى آفاق الحياة المادية.. إن ثقة هؤلاء الناس بما عرفوا من أوهام أربى من إيماننا -نحن- بما ورثنا من إسلام. ص _181(1/180)
وتضحياتهم فى سبيل ما اعتنقوا من مبادىء أعظم من تضحياتنا فى سبيل ما عرفنا من دين. وصحيح أن كتاب الله بين أيدينا، وأن الحق المبين مسطور فى صحائفنا. لكن بالله هب أن قوماً ينشطون ويقدمون عقب قراءة " ألف ليلة وليلة " ألا ينتصرون فى الدنيا على قوم يكسلون وينكصون بعد قراءة آى الله والحكمة؟ إن الإيمان الحى الشجاع ـ وإن كان بباطل ـ يغلب الإيمان الهامد المستكين وإن كان بأنفس ما عرف الوجود من حق وكمال..!! ألا يفزعك هذا الموت الموحش فى جنبات أمتنا؟ ذبول فى الآمال، وخور فى العزائم، وتطلع تعوزه الجدارة،. وموهبة أقنطها الجحود، وحيرة نسجها الجهل، وقطيع يجرى تارة نحو الشرق، وتارة نحو الغرب، وهو لا يدرى ما يأخذ وما يدع. ماذا يريد المسلمون أن تصنع لهم السماء وهم لا يصنعون شيئاً يصلحون به حياتهم، ويعزون به معاشهم، ويكرمون به معادهم؟ " فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ". إن التقاليد التى تحكم الصلات العامة والخاصة بيت الأجانب بلغت حداً من الصرامة يستحق النظر.. والمعروف أن هذه التقاليد لم تنبجس من ينبوع التدين باليهودية أو النصرانية، كلا... إن القوم اتخذوا من التسامى " بالإنسانية " المجردة، ومن الإخلاص للمبادئ التى اصطنعوها وقرروا العيش بها، اتخذوا من ذلك أديانا مقدسة الحدود، يستوحونها النشاط والإجادة، ويوجلون من الخروج عليها. وبذلك أصبح القيام بالواجب طبيعة فيهم لا تستريح ضمائرهم إلا فى ظله. ص _182(1/181)
فلا غرو إذا استقامت أحوالهم أكثر مما تستقيم فى ظلال الحق أحوالنا. لأننا لا نعرف من الحق إلا اسمه فحسب. إنا ندرس مئات النصوص فى الوضوء والنظافة لقوم تقترب من ملابسهم، فإذا الروائح الكريهة تهب منها. على حين ينظف بدنه وملبسه امرؤ لم يبلغه من أحاديث خاتم المرسلين نص واحد!. ومنذ شهر ذهبت إلى مستشفى كبير، أعود مريضاً لى، فتفرست فى الفراش الذى ينام عليه فلم أتبين لونه الأصيل من لون الوسخ المتراكم عليه. إنه منذ صنع إلى اليوم ما أظنه غسل قط!! أما الغرفة التى تضم لفيفاً من المرضى فهى صفراء شاحبة تحتاج إلى إصلاح كثير. وليس المؤسف وقوع هذا. بل المؤسف أن تألف العيون هذا دون نكير أو نذير. ولو أشرفت على إدارة هذا المستشفى هيئة من " الغرب " لاستطاعت بنصف النفقة المقدرة له أن تضاعف العناية المبذولة لقاصديه. أعرف أن فى الغرب انحرافات جنسية شائنة. ونحن فى الشرق نضخم هذه الآثام ونهون فى دنيا الجريمة ما يساويها أو يزيد عليها من معاص أخرى. ولست أغض الطرف عن هذه الانحرافات، فطالما حذرت منها ونددت بها. ولكنى أحسبها أشبه بالفوضى التى تلابس الأعياد والمواسم عندنا. والقوم جعلوا حياتهم أيام السلام عيداً موصول المباهج، حتى العمل المضنى فى المصانع والمحاقل، جعلوا الإقبال عليه متعة وترويحاً، لا عبثاً وتكلفاً. وربما أرخوا العنان لأبدانهم تتقلب فى مهاد الحلال والحرام جميعاً. ص _183(1/182)
غير أن ارتقاءهم العقلى يلاحق هذه الرذائل بالتخفيف المستمر من سوئها وعقابها. وهكذا يفلتون ـ إلى حين ـ من ويلات الفسوق عن تعاليم الدين. ومع هذا النقص فإن كفتهم لا تزال راجحة، لأنهم فى جدهم جن، وفى دأبهم على العمل والإنتاج، وفى إفادتهم من الزمن السائر لا يبارون. وبماذا انتهى هذا السبق؟ إن المسلمين قبعوا فى ديارهم أعصرا لا يمدون الطرف إلى ما وراء حدودها القريبة، لأنهم محصورون فى سجن من الأوهام العتيقة، والتقاليد التى ما أنزل الله بها من سلطان. أما غيرهم فقد وثب من أوطانه يجوب البر والبحر، ويكتشف المعلوم والمجهول من أرض الله. وكان أن انتقل العمران المتحرك من القارات القديمة، إلى الأمريكتين وإلى "استراليا ". وسارعت الصليبية الغربية إلى اهتبال الفرصة، فإذا عشرات الدول تقوم فى العالم الجديد لا تعرف معبدا لها إلا الكنيسة، على اختلاف مذاهبها.. أما الإسلام فهو منزو فى بلاده، بين أمم توشك أن تفقد قدرتها على الخطو لطول ما قعدت.. يجب أن نوقظ الرقود بقسوة، وأن نصنع فى كل شبر من أرضنا ثورة، وأن نجمع الشتات الذى مزقه السفه والخور. يجب أن نستعيد خصائص الحياة، نعم، يجب أن نحيا، وإلا فلا مكان لنا بين الأحياء. ص _184(1/183)
الأمم بين النماء والفناء للأمم أعمار تنتهى عندها، كما أن للأفراد آجالا تحسم حياتهم. وآجال الأفراد تطول وتقصر، وفق أقدار نعرف بعضها، ونجهل بعضها. قد يموت المرء بعد أن ييبس عوده ويمضى حصاده، وقد يعجل به وهو خامة رقيقة، وقد يتوفى وهو باسق ريان.. وربما مات الرجل حتف أنفه، أو صريع معركة، أو طريح مرض عضال. وقد تعدو عليه علة، وقد يموت منتحراً !!! والأمم كالأفراد فى هذه المصاير، قد تبقى حتى تثير الأرض وتعمرها أو تترك فوقها آثار حضارات زاخرة. وقد يعجل بها فى طفولتها فما إن تظهر حتى تختفى. وقد تواتيها قوى الشباب فتملأ الحياة عرافا واضطراماً. وقد تعتل فيضطرب مسيرها بعد استقامة. وقد تنتحر بمسلك طائش ينكس رايتها فجأة. وقد تحيا شيخوخة واهنة، تطبع عملها العام بالعجز والاسترخاء. على أنه لن تهلك أمة حتى تستوفى أجلها الذى يجد محلها -أو بتعبير أدق- يختم دورة من دورات التاريخ فى ثراها. فإما تجددت -بعد- على نحو من الأنحاء. وإما درست إلى يوم النشور. " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون". فما معنى أن يكون للأمم! كتاب؟ وأن يسبق لها أجل؟ ص _185(1/184)
هل معنى ذلك أن يميت الله أمة توفرت بين بنيها خصائص الحياة؟ أو أن القدر القاهر يعترض مسير إحدى الأمم الناهضة فيوقفها ويجىء إلى أخرى كسيح فيسعفها؟ كلا، فالأجل المحتوم يطرد مع قوانين الأسباب والمسببات، بل هو واحد منها...!! فالأمة التى تستجمع عناصر الخلود، يطول فى الأرض بقاؤها. والأمة التى تستعجل دواعى الفناء، لا تلبث أن تطيح مع الأمس الذاهب. كالرجل الذى يسىء إلى صحته، لا بد أن يقترب من منيته. أما الذى يتحرى العافية فى شئونه كلها، فهو أهل لأن يسلم فى دينه ودنياه. فى هذا العصر أمم ألمح أبناءها وبناتها، فتأخذنى الدهشة. إنهم كبواكير الروض جدة وتألقاً. تطفر الحياة مع وثباتهم، وتتجدد مع آمالهم، وتتقدم مع أعمالهم..!! وهناك أمم أخرى، هى كما قال الشاعر: " تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليد ". هامدة الحس، كأنها تستريح عقب شوط طويل. ولو كانت راحة استجمام لظهرت فيها علائم الصحو. لكنها راحة إعياء وخور..!! وكثيرا ما أسائل النفس: أهذه أمم قاربت أن تفارق الحياة؟ فهى لا تعرف الصبا إلا ذكريات، ولا القوة إلا أنباء تاريخ غبر!! أم أن هذا الوهن عرض ينقضى، وتعقبه عهود عمل وانتعاش؟ أجل، فربما كانت دورة التاريخ فى أمة ما، كدورات الزرع فى حقول الفلاحين عندنا. يسطو الدود على أشجار القطن فيتلفها عاماً أو عامين. ثم تزهر بعد ذلك، ويقرب جناها، ويكثر خيرها. ص _186(1/185)
ولكن بعد جهد عظيم من التنقية والتطهير: كذلك الأجيال، قد يفسد المجتمع عصراً أو عصرين. ولكن جهود المصلحين تلاحقه بالتربية والتهذيب. ولا يزالون جادين فى علاجه حتى ينبت على أنقاض السلف خلف جديد، أبعد عن الآفات، وأرجى للدين والدنيا.. والله ـ عز وجل ـ لا يحكم على أمة بالدمار، إلا إذا قل خيرها، وكثر شرها، وعز صلاحها، وتحول بقاؤها إلى ضرر بالحياة العامة، ومستقبل البشر جميعاً. وجراثيم الفناء التى تنخر فى هذه الأمة، هى الظلم، والبطر، والترف. وهى جراثيم لا تزال تسرى فى أوصالها حتى تقرب أجلها. " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ". إن الأمم فى شبابها تمتاز بخصال رائعة وملكات قوية. فإذا صار أمرها إلى إدبار، ذبلت فى الرجال والنساء معاً خصائص الحياة الجياشة العارمة. وتحولوا إلى صور شائهة، من حب الشهوات، ولزوم الدنايا.. وقد صور النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعراض الهوان فى الأمم الخادمة. الأمم التى لا تصلح للسيادة، لأنها لا تملك من أخلاق القوة نصاباً يرشحها للسيادة. فهى جماعات من العبيد رضيت أم كرهت. قال رسول الله: " يكون فى آخر أمتى رجال يركبون على سرج -كأشباه الرجال- ينزلون على أبواب المساجد. نساؤهم كاسيات عاريات، على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف! !! العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان وراءكم أمة من الأمم خدمتهم نساؤكم كما خدمتكم نساء الأمم قبلكم ". ص _187(1/186)
تأمل فى هذه الصورة : رجال أشباه رجال. الذكورة صفة أبدانهم، وليست صفة فى أنفسهم، ومشاعرهم وأعمالهم. ناعمون لا يهفون من الحياة إلا أبهتها وزينتها. فالفروسية تقتضى طاقة على تحمل المكاره وامتطاء الخيل وهى عرى وهؤلاء لا يحسنون إلا التبختر والاستراحة على القطيفة اللينة. ثم هم عشاق مظاهر، وعباد ظهور. لا يدخلون بيوت الله ليعمروها بالذكر والتسبيح بل يمرون بها ليجعلوا منها محاط لحلهم وارتحالهم، ومنازل لمواكبهم ومساخرهم. أما نساؤهم فلهن ملابس فصلت لشرح العورات، و إشاعة الفتنة، واستفزاز الغرائز الساكنة، فلا هن عاريات، ولا هن لابسات.. على رءوسهن عصائب فارهة، تزيد حدة التبرج. ويل للأمم! من فتكهن بالعفاف، ونشرهن للرذيلة.. للنساء -فى الأمم السيدة- أخلاق فضلى، تجعلهن كهفاً للأمومة الواعية ومدرسة للحضانة الراشدة. اسمع للمرأة العربية، تدلل وليدها: أنت -تكون- ماجد نبيل إذا تهب شمأل بليل!! واسمع لها تحرض رجلها على الموت!. قالت أسماء بنت أبى بكر -توصى ولدها عبد الله بن الزبير بالثبات فى قتال الظلمة-: "يابنى، لمن قتل على باطل فلقد قتلت على حق!. اللهم ارحم طول ذلك القيام، وذلك النحيب والظمأ فى هواجر المدينة ومكة وبره بأبيه ولى. اللهم إنى قد سلمت لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فقابلنى فى " عبد الله " بثواب الشاكرين الصابرين. ص _188(1/187)
ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها -وكانت قد عميت فى آخر عمرها- فوجدته لابساً درعاً من حديد. فقالت: يا بنى، ما هذا لباس من يريد ما تريد من الشهادة!. فقال: يا أماه إنما لبسته لأطيب خاطرك وأسكن قلبك به!. فقالت: لا يا بنى انزعه.. ثم جعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبى بكر، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله: وترجيه القدوم عليهم إذا قتل شهيداً.. فخرج من عندها. وكان ذلك آخر عهده بها ". هذه بعض أعمال المرأة فى الأمم " السيدة ". أما الأمم التى لا عمل لنسوتها غير التبرج، فهى لا تصلح إلا محظية لفاتح أو سرية عند غالب، أو لعبة لواطىء عربيد.. إن تجديد الشباب لدى الرجال الكهول، أمل ربما يعز على الأطباء. ولكن تجديد الشباب لدى الأمم الكبيرة عمل ميسر لأولى العزم من المصلحين والزعماء. إن الجنس الذى حطمته السنون، استطاع أن يتجمع على أنقاضنا ـ نحن المسلمين ـ!، فكانت إسرائيل برغم صراخ العرب!! وإن أمتنا لا يعجزها أن تتطور مع الحياة الزاحفة. فيكون نهوضها اليوم، امتداداً لوثبتها الكبرى منذ أربعة عشر قرنا. متى أرى سمات الحياة الدافقة تصبغ هذه الأرض فتهتز بأجيال جديدة، وتفتح العين على أهلها، فإذا هم يركضون فى سباق الحضارة والابتكار والإجادة؟؟ متى؟ فإن الأمم التى تجمد تموت!! ص _18 ص(1/188)
ذكريات صائم لرمضان فى أيامى الماضية صور فريدة، ومنذ بضع سنين وأنا أستقبل الشهر وأتمه بعيداً عن موطنى، فى رحلات أغلبها للتعليم والإرشاد!!. والأماكن التى زرتها تركت فى نفسى آثاراً شتى، قرنت بين طرائف السياحة، ومظاهر العبادة، وتكاليف الدعوة إلى الله، وإيقاظ المسلمين الذين يغطون فى نوم عميق..!! صمت رمضان مرتين بين " اللاجئين " إلى قطاع " غزة " وعشت بمشاعرى وأفكارى كلها وسط ألوف الأسر المطرودة المستذلة.. تلك الأسر التى ظلت دهراً تتوارث الأمن والقرار فى ديارها وأموالها، ثم عدت عليها عصابات اليهود فأجلتها عن وطنها، بعد أن جردتها من كل شىء.. وها هم أولاء الرجال الذين تعودوا الكسب المضاعف من متاجرهم ومزارعهم يمشون فى السكك المقفرة، لا يقدرون على شىء، وحولهم زوجاتهم وذراريهم، يتضورون جوعاً وعرياً، وبطالة ووحشة، وألماً وبأساً. صفر الوجوه عليهمو خلع المذلة بادية إن هؤلاء المساكين فى صوم دائم. وللصائم الآمن فى سربه فرحة عند فطره! أما هؤلاء الباحثون عن القوت طول العام، فليست لهم فرحة ترطب أجوافهم وتبل عروقهم.!! كنت أتحدث إلى هؤلاء الناس وقلبى يقطر أسى لما أصابهم وأصاب الإسلام معهم. ولم يخف على ولا عليهم، أن هزيمة العرب فى فلسطين تمت نتيجة مؤامرات دولية محكمة. ص _1 ص 0(1/189)
فليس الصراع بين يهود فلسطين وعربها، وإنما الصراع بين شعوب الإسلام كلها.. وبين أحزاب كثيفة العدد، والقوة من المستعمرين الغربيين..! فإن نحن استكنا لهذه الضربة فإن الدائرة علينا لا محالة. وإن نحن قبلنا التحدى ومضينا فى المعركة فسوف ننقذ أنفسنا وننقذ هؤلاء البائسين معنا. وعلينا ـ نحن أبناء مصرـ أن نكون طليعة هذا الزحف الثائر لرد العدوان وحسم شروره الحاضرة والمتوقعة. وصمت فى المدينة المنورة، وأحببتها أشد الحب، ولن تبرح مخيلتى هيئة المسجد النبوى وصفوف المصلين متراصة فيه كأنها سطور كتاب، يطرد زحامها من المحراب، إلى الساحة الواقعة بين الروضة والمنبر، إلى امتداد المجلس المعروف بأنه كان لأهل الصفة، إلى الحصباء الجاثمة فوقها أسراب الحمام تطير وتمشى آمنة لأنها فى أرض الحرم. كان إمام المسجد يصلى التراويح بجزء من القرآن كل ليلة، وكانت هناك طوائف من العباد تنتظر ريثما يتم جماعته، لتطيل القراءة وحدها كيف تشاء. وكان الصمت الطويل يكسو المكان بخشوعه. وكأنما سرت المهابة من خلال القبر المنطوى على صاحبه الكبير فجللت الجوار كله بالأدب والرقة... والحزن!! والمدينة قرية أقل عمراناً من بعض قرى مصر . تنقصها مرافق المياه والنور والمجارى . والزراعة فيها أقل يقينا من عصر الأوس والخزرج فى جاهليتهم . والتجارة تعتمد على مواسم الزيارات وتقوم على بيع الهدايا للحجاج الآيبين من بلادهم . وهى هدايا صنع أكثرها فى إيطاليا واليابان وأمريكا ..!! وطالما تجولت فى أطراف المدينة ووقفت كئيباً أمام " محطة السكة الحديد " التى ص _1 ص 1(1/190)
تخربت من ربع قرن !. إن الاستعمار الذى قطع أحشاء الوطن الإسلامى الكبير هو الذى حكم على هذه السكة بالموت ، فسكنت حركتها وعطلت مغانيها . وتلك بقايا القاطرات والعربات المهشمة والقضبان المفككة ، لا تزال مائلة فى مكانها ، أشبه بحطام غارة جوية وقعت أمس فقط ..!! كانت هذه السكة شرياناً يصل بين المدينة ودمشق ، فأصبحت بين المدينة ودمشق عدة دول !! أما مطار المدينة فهو يقع قريباً من الأرض التى سكنتها قريظة قديماً . والمنطقة كلها جرداء قاحلة لا زرع فيها ولا ضرع . وهذا الإقفار صدى الفقر النفسى الذى وقع أخلاف المسلمين فيه ، فقعدوا حيث سبق آباؤهم ، وأوحشت بهم الدار ، على حين صنع أسلافهم العجائب فى مضمار التعمير والإجادة . * * * وصمت فى الخرطوم، وكانت لى فيها دروس جامعة. وأهل السودان أسرع الناس استجابة إلى دعاة الإسلام. ولعل تأثرهم العميق بالدين هو الذى جعل فرق المتصوفة تتسابق إلى ضمهم إليها حتى ما تكاد تخلو قرية فى السودان من أتباع طريقة ما.. إلا أن قصور " المتصوفين " فى فهم الإسلام وتفهيمه مكن الإنجليز من أن يبذروا فى أرجاء السودان بذور فتنة، يخشى خطرها على مستقبله.. فالأجيال الجديدة تنشأ نشأة مريبة، وجهد المستعمر فى كل بلد يقع تحت وطأته، أن يضرب حجاباً بينه وبين الإسلام حتى ينفصل عن ماضيه. وينقطع عن لداته . وقد كنت أستغرب وأنا ألمح فى السودان رجالا يلبسون القبعات ويدخنون السجائر فى نهار رمضان ، ولولا ألوانهم لحسبتهم إنجليز . ثم إن الخمر انتشرت هنالك انتشاراً مروعاً . حتى إن السودان يجىء فى ترتيب الإحصاء ، ثالث أقطار العالم استهلاكاً ص _1 ص 2(1/191)
للمسكرات . وقد بنت إحدى شركات الخمور الإنجليزية مصنعاً " للبيرة " فى " الخرطوم بحرى " . على أن مصر تبذل جهوداً قوية فى إبقاء السودان موصولا بدينه وتاريخه ليقيم إلى جانب مصر دولة كبرى تحرس الحرية والعدالة فى عالم ملىء بالطغاة والجبارين.. إن الاستعمار الغربى أباد سكان " أمريكا " الأصلاء واحتل أرضهم. وقد وثب إلى أفريقيا ليكرر المأساة نفسها. ونحن هنا نتلقي أنباء ما يصنع بالملونين فى جنوب القارة السوداء، وكيف يهدم مدنا بأسرها، طارداً أصحابها منها، ليأخذ مكانهم ويبنى على أنقاضهم. وليس أقبح من صنع هؤلاء المستعمرين إلا صنع الذين يلينون لهم، ويمدون إليهم أيديهم من سكان هذا السودان. " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم". * * * ولرمضان عندى ذكريات أخرى، أدع الكلام عنها إلى حين. ص _1 ص 3(1/192)
نحو وحدة إسلامية كريمة لو أن كل خلاف يقع بين الناس يشبه خلاف النحاة فى إعراب كلمة، أو خلاف أهل الحساب فى حل مسألة لكانت الخلافات طرافة تستحق المشاهدة، أو مسلاة تثير الإعجاب والتأمل. ذلك أن اختلاف العقول فى تقويم حقيقة، أو تقدير حكم، لا خطر منه. سواء انتهى بحل حاسم أو بقى معلقاً إلى قيام الساعة. إنما يستفحل الخلاف وتتسع هوته إذا علق الهوى بأحد أطرافه. وترتب على رجحان إحدى الكفتين نفع أو ضرر. هنا يحتدم الصراع، ويغتلى الشقاق، ويكون ظاهرة الخصومة بين رأيين. والحقيقة أنها الخصومة بين أثره وأثرة. وغالباً ما يضيع الحق، أو يلوث فى حمأة هذا الشقاق. والخلاف بين أصحاب الأديان، أو بين أهل الدين الواحد، قد يأخذ هذه السبيل الجائرة فينتهى بالفرق المتنازعة كلها إلى شر مستطير.. لقد نشب خلاف كثير بين فقهائنا، بقى الآن دون أن ينشأ منه ما يريب أو يخيف، لأن وجهات النظر -على تباينها- لم ينضم إليها ما يحول هذا الخلاف إلى معارك رهيبة. بل إن بعض هذه الخلافات مات من تلقاء نفسه، لأن أحداً لا يرى فائدة من إحيائه.. أما الخلاف بين الشيعة والسنة، وهم أجزاء متكاملة فى جسم الأمة الإسلامية الكبيرة. فإنه لا يزال باقياً. برغم أن البواعث على هذا الخلاف قد تلاشت أو حورها الزمن إلى وضع لا مكان معه لغلو أو شطط. ونحن لا نقول: امحوا هذا الخلاف. فإن وجهات النظر المتفاوتة لا سبيل إلى جمعها على كلمة سواء. ص _1 ص 4(1/193)
بل نقول: باعدوا بين نوازع الهوى، وبين تفاوت العقول فى إدراك الحقائق، واستبانة الصواب. إن الدين ـ نصاً وروحاً ـ أبعد ما يكون من شهوة التمزيق والتشفى. وسياسة نفر من الحكام -فى إشباع مطامعهم الخاصة- هى التى توجه الجماهير إلى التحاقد وسفك الدماء، بدل أن تصلح ذات بينهم، وتصون مصالحهم، فى دنياهم وأخراهم. وأستطيع القول: إن الخلاف بين الشيعة والسنة سياسى أكثر منه دينى. وإن السياسة التى لا ضمير لها، هى التى ضاعفت علته، وزادت خطورته، واستبقته إلى يوم الناس هذا دون مسوغ من عقل، أو باعث من تقوى. وقد ذكر المؤرخون: أن الشاه " إسماعيل الصفوى " نكل بجماهير غفيرة من أهل السنة، نكاية فى سلاطين الترك، لا حماية لأهل البيت، وأنه أحب دعم ملكه الخاص لا إقامة دين ولا حراسة حقوق. ونضيف إلى هذا الشاهد أن من سلاطين الترك من طعن الإسلام وأهله، وأن من ملوك النصرانية من خان تعاليمها وخان أهلها، لا لشىء إلا للجرى وراء مغانم سياسية ومطامع هوجاء. وذكر " الكواكبى " فى كتابه " أم القرى " أن سلاطين آل عثمان كانوا يضحون بالدين فى سبيل إدراك كسب سياسى، يزيد من نفوذهم ويؤيد ملكهم، وهذا حق. فقد كان السلطان " سليم الأول " يستطيع أن يسدى للمسلمين يداً جلى وأن يبقى علم الإسلام مرفوعاً على ربوع الأندلس إلى اليوم، لو أنه وجه نشاطه إلى إمداد بنى الأحمر بالمال والرجال وأعان على إبقاء دولتهم، تقاتل عدوها، وترد سيل الصليبية الطافح عن اجتياح حدودها. لكن السلطان المولع بالفتح والتوسع، أغار على مصر وساق جيوشه لإسقاط حكومتها، وأشبع شهوته فى جعلها إمارة ملحقة بملكه العريض. ص _1 ص 5(1/194)
ذلك كله فى الوقت الذى يتمكن فيه الأسبان من سحق المقاومة الإسلامية فى الأندلس، ثم يبدأون عملهم الهائل فى طرد وتنصير خمسة ملايين مسلم. أين ذهبت عصبية الإسلام وأخوته؟ إنها ذابت فى حريق الأثرة، ونزوات الحكام. إن السياسة لا دين لها ولا خلق فى كثير من الأحيان. ونحب أن نسائل كل ذى رأى من المسلمين: ما معنى أن تنقسم أمتنا لذكريات تاريخية، دفنت فى الماضى البعيد؟ ما معنى أن نستصحب مآسى الأمس الذاهب فى تفريج أزماتنا الخانقة؟ إنها ذكريات تخص أصحابها، والأمر فيها لا يعدو قول الله عز وجل: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون". لا أعرف أمة فى عصرنا هذا، تجتر ذكرياتها المؤسفة لتعكر حاضرها ومستقبلها كما أعرفه فى قومنا الذين لا يزالون منقسمين إلى شيعة وإلى سنيين! علينا أن نسرع لإزالة الجفوة القائمة الآن بين الفريقين، وأن يتعرف كل منا الآخر فى جو بعيد عن التوجس والتناكر وسوء الظن... إن كثيراً هن أهل العلم فى الأزهر الشريف تكونت لديهم صورة عن الشيعة نسجتها الإشاعات والفروض المدخولة: وهذا منهج فى التفكير لا يقره الإسلام، ولا تنصف به الحقيقة المجردة. وقد تكون لدى الشيعة، الطريقة نفسها، فى تعرف إخوانهم من أهل السنة والحكم على مشاعرهم وآرائهم، وهذا الفراغ الموحش لا يلد إلا الغلظة والمخاشنة. لماذا لا يدرس فى الأزهر " فقه الزيدية " مثلا مع فقه المذاهب الأربعة؟ ص _1 ص 6(1/195)
لماذا لا توضع أمام الطلاب فى الصفوف العليا أو الدنيا صورة صادقة لتفكير "الإمامية" فى الأصول والفروع والسنن المختلفة؟ لماذا لا تقاس مسافة الخلف حيناً بعد حين، بين ما نرى وما يرى غيرنا؟ إن الزمن يجرى ويلد العجائب، ونحن لا نزال فى موقفنا من ثقافة قرون انتهت بما لها وما عليها... الحق أن فى مواريثنا العقلية ما يستدعى التأمل. فنحن كبعض الأسر التى يرث الأحفاد فيها تراث الأجداد، فتكلف الأجيال الجديدة أن تخاصم ـ دون وعى أو عدالة ـ من لم يسئ إليها قط. لتكن الخطوة الأولى من جانب الأزهر. وأنا موقن أنه إذا مد يده للشيعة فإن أكثر عوامل الوقيعة سوف تذوب عن تلقاء نفسها، كما تذوب كتل الجليد تحت أشعة الشمس. وإنما أطالب علماء الأزهر -وهم رؤساء أهل السنة وكهف الجماعة الكبرى- إحساناً للظن بهم، لأنهم أمس من أعرف، وأدنى من أنادى. وشرعة المعروف تجعل أولى الفريقين بالله أسرعهما لداعى الخير، وأرغبهما فى إصلاح ذات البين. إن هناك عللا تستوجب التلطف فى العلاج، والاحتيال فى سوق الدواء إلى المريض. وقد يكون من حسن الدواء ألا نصارحه باسم الداء الذى يخامره. فربما أودت الصراحة بحياته، فقتلناه من حيث أردنا نجاته... وقد سمعت وأنا فى " نجد "، من يرى المصريين مشركين لأنهم يعبدون السيدة "زينب" والإمام "الحسين" رضى الله عنهما!!.. وسمعت فى مصر من يرى الفرس كفاراً لأنهم يلعنون الشيخين الجليلين: أبا بكر وعمر رضى الله عنهما. ولو ذهبت أستقصى قالة السوء التى يتقاذف الناس بها لأعيانى العد. ص _1 ص 7(1/196)
فهل هذه وسيلة معقولة أو مقبولة، لإنهاض أمة ركعت أمام أعدائها وقطعت أوصالها فى المشارق والمغارب؟ لقد قلت لتلاميذ الإمام " محمد بن عبد الوهاب ": إن جمع الناس على التوحيد لا يتم بهذه القسوة. ومن الممكن إرشاد الجهلة إلى تصحيح علاقاتهم بالصالحين المقبورين فى أسلوب ييسر انقيادهم للحق، ويقوى صلتهم بالله وحده، ويحسن عملهم للإسلام الصحيح. وفى الوقت نفسه يبقى عواطف الأخوة والتناصر بين أهل "مصر" وأهل "نجد" جميعاً!! وأمة الإسلام فى حالتها العصبية الراهنة، أفقر أمم الأرض إلى هذه العواطف الناضبة... وكذلك الشأن مع مائة مليون يعتنقون مذهب الشيعة. إننى قد أخطىء من يرى علياً أحق بالخلافة من أبى بكر، ولكنى لا أكفره، ولا أحب أن أهيجه ليزداد جماحا. إن الغلط فى تقدير أحد الرجلين يدخل فى حساب وزن المواهب والفضائل لعباد الله، ولا يدخل فى أركان الإسلام. وقد ظل المسلمون يختلفون فى تمييز زعمائهم، وشرح حق كل منهم فى الانفراد بالحكم.. إلى أن سقطوا جميعاً وأمسوا يحكمهم " الخواجات ". فهل الكلام فى هذه الموضوعات إلا ضرب من الخيال؟ إننى أعيد النظر أحياناً فى خلافاتنا القديمة فيخيل إلى أن شهوة الانقسام قد تسبق رغبة البحث والدراسة، وأن رذائل الفراغ والترف العقلى، هى التى تخلق موضوع الحديث، وتشعب اتجاهه، مثل ما يفعل قعدة المجالس العاطلون فى بعض الأندية السامرة. اتفق علماؤنا على أن إثابة المطيع وتعذيب العاصى واجبان شرعيان والوقوف عند هذا الحد مفهوم. ولكنهم أبوا إلا أن يختلفوا: هل ذلك واجب عقلى أم جائز عقلى؟. ص _1 ص 8(1/197)
أهل السنة فرقة. والمعتزلة فرقة. لكل منهم مذهب؟ ما قيمة هذا الخلاف؟ وما نتيجته العملية فى الدنيا والآخرة؟ لا شىء. اختلف " الحسن البصرى " و " واصل بن عطاء " فى فاعل الكبيرة هل يخلد فى النار أم لا؟ لكل مذهب. ولم يكن على الحاكم الأموى يومئذ من حرج أن يدع هذا الجدل يمتد وينشغل العامة بالخوض فيه! أما " عمر بن الخطاب " فقد ضرب " أبا هريرة " بدرته، لأنه حدث العامة بما رأى أمير المؤمنين أنه، يعوقهم عن الإنتاج والعمل الدائب. مع أن حديث " أبى هريرة " كان أدنى إلى الرشد من جدل " واصل " مع أستاذه "الحسن ". إن الذين يختلقون أسباب الخلاف ثم يهيجون ريحها فى صفوف هذه الأمة لا يدرون أى شر يصنعون، ولا إلى أى مدى يذهبون؟. ولولا أن الله قيض للمسلمين فى العصر الأخير من كره فرقتهم، ونظر إلى عللها فوجدها تافهة، لما انتهى هذا الخلاف دون فنائهم جميعاً وضياع دينهم. حدث فى المؤتمر الذى عقد فى جامعة " برينستون " بأمريكا أن أثار أحد المتحدثين سؤالا، كثيراً ما يثار فى أوساط المستشرقين والمهتمين بالنواحى الإسلامية. قال: " بأى التعاليم يتقدم المسلمون إلى العالم، ليحددوا الإسلام الذى يدعون إليه؟. " أبتعاليم الإسلام كما يفهمها السنيون، أم بالتعاليم التى يفهمها الشيعة من إمامية أو زيدية؟. ثم إن كلا من هؤلاء وأولئك مختلفون فيما بينهم. وقد يفكر فريق منهم فى مسألة ما تفكيراً تقدمياً مجدداً. بينما يفكر آخرون تفكيراً قديماً متزمتاً. والخلاصة أن الداعين إلى الإسلام يتركون المدعوين إليه فى حيرة، لأنهم فى حيرة "!!. أ.هـ. ص _1 ص ص(1/198)
وقد كان من حسن الحظ أن وجد فى هذا المؤتمر بعض العارفين بفكرة التقريب بين المسلمين، فأوضح أن الطوائف الإسلامية " من سنية وشيعية، إمامية وزيدية " متفقون فى الأصول التى لا يكون المسلم مسلماً إلا بها. وهم ـ بعد ذلك ـ متفقون أيضا فى كثير من الفروع مختلفون فى غيرها. والخلاف فى الفروع ما هو إلا كاختلاف الشراح فى القوانين، مع اتفاقهم على الأصول الرئيسية لها. ولو أن المسلمين دعوا إلى دين، كلهم فيه على كلمة سواء فى الأصول والفروع لما كانوا بذلك مصورين للإسلام تصويراً صحيحاً، ولما وجدوا مستجيبا لدعوتهم. فإن الإسلام قسمان: أصول ثابتة لا يجوز الخروج عنها. وفروع جعلها الله –رحمة منه بعباده- موضع الاجتهاد والنظر. فكما أنه لا يسوغ المسلمين أن يجتهدوا فى الأولى، لا يسوغ لهم كذلك أن يحجروا ما وسعه الله فى الأخرى. وهذا تحديد جيد للإسلام. * * * * ولعلمائنا فى هذه الأيام آراء ومشاعر متناقضة بإزاء أمور لها حكم واحد. كنت أمر قريباً من ميدان المحطة فرأيت تمثال فرعون مصر " رمسيس الثانى " ينهمك النحاتون والنقاشون فى إبراز معالمه وإرساء دعائمه. وكان يرافقنى مدرس بالأزهر، نظر إلى هذا العمل نظرة إنكار وألم. فقلت له: إننى أوافقك على أن إقامة الأصنام مخالفة لسنة الإسلام. لكن بم نجيب إذا قيل: إنكم معشر الأزهريين رضيتم ضرب القباب على القبور، وبنيتم فوقها المساجد. وتلك أيضاً تخالف سنة الإسلام؟ إن النظائر المتشابهة تقتضى مواقف متشابهة. لكن المدهش أننا نسكت.. أو نحتج.. أو نتحد.. أو ننقسم لبواعث مبهمة قلما تخضع لحس دقيق بما يرضى الله ويوائم هداه. ص _200(1/199)
فى المؤتمر الذى انعقد أخيراً بالإسكندرية -للتقريب بين المسلمين والنصارى ـ حاول أولو النهى والحلم من أبناء الدينين أن يضعوا أسساً أفضل للعلاقة بينهما، وأن يجعلوا المستقبل أدنى للتفاهم والموادة بعد ماض أثقلته الخصومة وسودته الإحن.. ولسنا بإزاء سرد لما فى هذا المؤتمر، ولا تعليق على البواعث التى أدت إلى عقده، أو النتائج المرتقبة من مواصلته. فلهذا مكان آخر . لكنى أذكر أن إيثار السلام العادل الشريف بين الديانتين وأتباعهما سيطر على جل الأعضاء أو عليهم كلهم فيما رأيت. وأن هذا الإيثار تجاوب مع مشاعرى الخاصة، فأنا شغوف بحياة الصفاء والحب، ووددت لو أن البشر قاطبة وسعتهم أكناف السماحة والرحمة، وأوسعتهم حدود القسط والحق، فإن فاتهم الفضل لم يفتهم العدل.. غير أن دنيانا المشحونة بالأهواء الخفية والجلية تتأبى على هذه الضوابط، مرنة كانت أو دقيقة. وأشد ما يكون الإنسان تشبثاً بهواه عندما يكمن هذا الهوى فى أطواء مطلب صحيح، أو عندما يختفى وراء غاية سليمة. عندئذ يصرخ الإنسان بالحق وفى جؤاره مآرب أخرى..!!! وآية التجرد لله أن تتمحص الطريق من كل شائبة وأن تخلص الغاية عن كل دس وأن يكدح المجاهد لا لشىء إلا لتكون كلمة الله هى العليا. وأما حساب نفسه ورغائبه فأمر مذهول عنه... ولست أزعم أن تاريخ المسلمين الطويل ـ فى عرض دعوتهم ـ لزم هذه الصبغة النبيلة، ولا سياستهم اتبعت دائما هذا الصراط المستقيم. خصوصا أيام الأتراك. كذلك لا أزعم أن النصارى خلال عصورهم الغابرة أو الحاضرة تركوا الطرق معبدة لمعارضيهم. لقد ردوا أيديهم فى أفواههم، وأزعجوا الناس حتى لا تسمع منهم ولا تؤمن بهم. فلما عجزوا لجأوا إلى ترويج الإفك وتنقيله من بلد إلى بلد. ص _201(1/200)
... أكثر المفتريات -التى تسود الآن أوروبا وأمريكا- ضد الإسلام ونبيه وتعاليمه- من صنع هؤلاء المتعصبين. فإذا وجدنا عند بعض الناس سآمة من بقاء تلك المظالم ورغبة فى تبادل الفهم والعون على سياسة من الاحترام المتبادل. فذلك ما كنا نبغ. ولا جرم أن نرد التحية بأحسن منها... ولأذكر بعض ما جاء فى الكلمة التى ألقيتها نيابة عن وزير الأوقاف تمهيداً لهذا المسلك الكريم وسعياً فى إنجاحه: " إن هناك أصولا مشتركة بين رسالات الله -حبذا لو تواصى الناس باتباعها وتعاون أهل الأديان على إحيائها... * منها الإيمان بالله وحده. والإقرار بعظمته وعلمه وقدرته. * منها الإيمان بالبعث والجزاء -والإحساس بأن وراء هذه الدنيا داراً أخرى يثاب فيها الأبرار ويهان الفجار. * ومنها الإيمان بالفضائل النفسية والاجتماعية، وضرورة التكمل والتنائى عن الدنايا. فإن أبواب السماء لا تفتح لمتكبر كذاب. * ومنها الإيمان بحقوق الإنسان. فلا يضام شخص ما فى دمه أو عرضه أو ماله. وتعرف لهذه حقوق قداستها فتقرر فى الدساتير والقوانين والعلاقات الدولية. * ومنها تقرير الأخوة العامة بين أبناء آدم. فلا يستضعف أحد للونه أو جنسه. تلك أهداف يكلفنا الإسلام بالسعى إليها… فلو تعاونا مع غيرنا لبلوغها لكان ذلك أحب إلينا وأخصر لمتاعبنا!!! ولقد انفض المؤتمر على أن يستأنف جلساته فى المستقبل. وإنا لنتمنى أن تواتيه الحظوظ الطيبة فيفلح فى الاقتراب من هذه الأهداف!! ". * * * * وفى طريق العودة ألح علىّ خاطر محرج، لم أجد بداً من الإصاخة إليه والتمشى معه. قال لى: إنكم وضعتم المنهج للتقريب بين المسلمين والنصارى. ولم تجدوا عسراً فى وضعه!! ص _202(1/201)
فهل لا يزال التقريب بين المسلمين والمسلمين عسيراً؟ والحق أن المسلم يحس باستحياء وهو يرى أهله الذين تجرى فى عروقهم دماء عقيدة واحدة قد مزقتهم الليالى الكوالح. فإذا هم متناكرون مستوحشون، لا إيلاف بينهم ولا إيناس... وتبحث عن علة محترمة لهذه الفرقة السحيقة فلا تجد. اللهم إلا ما يرثه الأولاد أحياناً عن آبائهم من أمراض خبيثة، يحملون آلامها ولا يعلمون مآتاها. وقد تنازع آباؤنا ـ عفا الله عنهم ـ وطال هذا التنازع على أمور بعضها تافه وبعضها هام، بعضها فى شئون الدين وبعضها فى شئون الدنيا. وبدأ هذا النزاع، كما يبدأ أى داء، هيناً لا يخشى خطره ولا تدرى مغبته. واليوم يكتب أمام المسلم فى لبنان أنه " سنى " أو " شيعى " بوصف أن السنية طائفة تغاير الشيعة، وأن الصلة بين الفريقين كالصلة بين أحدهما وبين المارون أو الدروز!!... وبهذا الاعتبار عد النصارى فى لبنان أكبر الطوائف، وجعل منهم رئيس الدولة، مع أن المسلمين أكبر عدداً وأربى نسبة. ولكن المسلمين -كما أسلفنا- طائفتان متناكرتان، تفصل بينهما المسافة نفسها التى تفصل بين أتباع دين ودين آخر!! هل رأيت أوغل فى الحمق من هذا المسلك؟ وعلام هذه الفروق بين قوم يؤمنون جميعاً بالكتاب الكريم ويحترمون جميعاً سنة رسوله؟. وهب أنظارهم تفاوتت فى تقديم شخص أو تأخيره. أو هب آراءهم اضطربت فى تصحيح حديث ورد، أو إبقاء حكم نسخ. أيكون ذلك مثار قطيعة باتة، وبينونة كبرى، وجفاء يفلق الجسم الكبير شطرين؟؟. إن الخلاف عندما يكون نظريا بحتا لا ينشأ عنه ضرر مهما اتسعت شقته. ص _203(1/202)
فإذا انضم إلى وجهة النظر مزاج حاد، أو هوى خفى، أو نفع متوقع، أخذ الخلاف طريقا ليس من طبيعته كبحث، بل من طبيعة ما انضاف إليه من شهوة أو جهالة. ومن هنا يجىء الخطر..! روى أن مصليا ممن يذهبون إلى تسكين الأصابع فى أثناء التشهد مال على زميل له كان يحرك إصبعه فكسرها!! أتظن طبيعة البحث الفقهى هى التى أدت على ارتكاب هذه الجريمة؟ ما أشك أن هذا الجانى مصاب فى عقله أو فى خلقه. أو أن هناك شخصية فاجرة حملته على ارتكاب ما ارتكب. ولو تجرد كل ذى رأى من الإضافات النفسية والدنيوية التى تنضم إلى الخلاف العلمى لأصبح الخلاف مسلاة لا مأساة، ومطرحا لتفاوت الأفهام لا مسرحا لتهارش الأهواء.. * * * * وعندى أن جل ضروب الخلاف التى شعبت أمتنا ترجع إلى ضعف الخلق وحب الدنيا أكثر مما ترجع إلى قوة العقل وحب الله. فسوء الظن بالآخرين، وتشهى الغلب عليهم، وتضخيم الهفوات التى تقع منهم، وتوليد آراء رديئة لم يقولوا بها من الآراء التى يذهبون إليها، وتمنى بقائهم على الخطأ، والغفلة عما يعقبه الانقسام الطفيف من مضاعفات جسيمة يجب تلافيها، أو معرفة ذلك والذهاب مع العناد إلى نهاية الشوط... هذه جميعاً رذائل إذا تفشت فى جماعة فلن تقوم لها رسالة، ولن ينجح لها قصد، ولن يتماسك لها كيان... اتهم الشافعى أو غيره بحب آل البيت ونسب متهموه إليه -بناء على ذلك- أنه ينكر إمامة الشيخين بعد رسول الله. لم هذا التوليد؟ والتظنن؟ فكانت إجابة الرجل على ذلك أن قال: يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفها والناهض! إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أنى رافضى! ص _204(1/203)
وذكر أهل السنة فهمهم لمعنى الاستواء على العرش، فكان تعليق الزمخشرى على ذلك قوله: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمرى موكفة هل الشتم على هذا النحو من شعب الإيمان؟ أو من دلائل الصلاح؟ ربما كان التراشق بالتهم على عهد القوة الإسلامية خفيف الأثر. وقد سمعنا أن مستر " تشرشل " أخرج لسانه يوما ً وهو زعيم المعارضة- لرئيس الحكومة كما يفعل التلميذ الشقى مع صاحبه!. ولهذا المجون موضعه العابث بين قوم انتصروا فى حربين، ومشوا بأقدامهم على جثث خصومهم، فهم يتضاحكون أو يتلامزون بعدما دانت الدنيا لهم! وقد انفرد المسلمون بالسطوة فى العالم أجمع دهراً طويلا، ربما كان تلامزهم فيه ضرباً من العبث الذى وقع له نظير من " تشرشل " الاستعمارى الداهية. أما اليوم بعدما سقطنا بقضنا وقضيضنا فى الرغام، وانسابت الذئاب بين صفوفنا تفترس وتغتال فما هو موضع التلامز والتدابر؟ وقديماً تناحر الشيعة والسنة على الحكم، لمن يكون؟ وها هو ذا قد صار فى يد " الخواجة "، ولم يخلص لفريق منهما..!! وتعصبوا تعصباً دامياً لبعض الأحكام الفقهية. فها هى ذى الأحكام قد صارت بغير ما أنزل الله فى الأصول وفى الفروع جميعاً..!! فهلا وعينا شؤم الخلاف بعد هذه النتائج المخزية؟. إن الكتاب الذين لا يكترثون لجمع كلمة المسلمين، أو الذين يرسلون مقالاتهم على عواهنها تثير الحفائظ، وتحرك السخائم. يرتكبون فى حق دينهم جرماً هائلا. وإن تجرع خطأ ـ صغر أو كبر ـ اتقاء خطيئة ثقيلة أصبح شيئاً لا مفر منه!. والخيبة لقوم لا يفيدون من تاريخهم عبرة. والخيبة الأشد لمن يدرسون تاريخهم لينقلوا منه الأحجار كى يعوقوا بها مستقبل أمتهم . ص _205(1/204)
قال الدكتور زكى مبارك: " وإذا كان فى الأحاديث النبوية ما ينذر بأن اللسان قد يهوى بصاحبه فى النار سبعين خريفاً فنحن نؤكد أن القلم قد يهوى بصاحبه فى النار سبعمائة ألف خريف. والقلم فى هذا الزمان أخطر الآفات، وعلى حملة الأقلام أكبر الإثم فى خلق الضغائن والحقود بين الأفراد والجماعات والشعوب، وهم المسئولون أمام الله وأمام التاريخ عن تكدير السلام وسوق الناس إلى المجازر البشرية. وكتاب السياسة لا تروج أسواقهم إلا إن عرفوا بالقدرة والبراعة فى تصوير مقاتل الحكومات والأحزاب، والجريدة التى تؤثر العقل على الهوى يتلقاها الناس بفتور وعدم اكتراث، لأن فى بنى آدم حيوانية مقهورة تطلب الغذاء من الأقاويل والأراجيف، وبذلك يصفقون لمن يجترح المآثم باسم الغيرة على عمار الكون، مع أنهم يعرفون أن بيته خراب..!!! وسيأتى يوم تعتدل فيه الموازين الذوقية والأدبية والاجتماعية والسياسية، فيعرف من لم يكن يعرف أن الظالم السياسى كان يتلون بألوان الشهوات والأهواء. وأن من أقطاب السياسة الدولية من يضرب الأمم بعضها ببعض فى خطبة أو مقالة وهو معقول بعقال الشراب ". قد تقول: إن من الجور نسبة كل خلاف إلى سوء النية وضعف الخلق. فكثير من المختلفين يبغى من مذهبه إصابة الحق ومثوبة الله، وهو يحب ويبغض على ضوء ما يتكشف له وحده من خطأ وصواب. ونقول: إن طبيعة الاختلاف وطبيعة السلوك الذى يعقبه هى التى تحكم على المختلفين، وتبنى قربهم أو بعدهم من حقيقة الإسلام. إن الله عز وجل شرع أركان الدين. ووكل لأنبيائه أن يشرحوها ويأخذوا الناس بها. ونهاهم أن يختلفوا عليها حتى لا يطمس الخلاف معالمها ويصرف الأمم عن اتباعها. فوصاهم بهاتين الكلمتين " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ". أى أن التجمع على الحق يعدل الاهتداء إليه. وكلاهما كهف الدعوة وضمان نجاحها فى الحياة. ص _206(1/205)
فإن أعداءها لا يدعون ما لديهم ويدخلون فيها إلا بصعوبة وتكلف. ولذلك قال : " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب". فإذا كبر على المشركين قبول الدعوة فإن تلك الدعوة لن تجد طريقها من نفوسهم وصفوفهم إلا إذا صانت الوحدة أطرافها، وركزت قواها وسناها.! ومن هنا قال الله عز وجل للمسلمين: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " وقال: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم". واستئصالا لجراثيم الفرقة حارب الإسلام مظاهر الشذوذ، وشدد النكير على أصحابها وبلغ منها حداً يثير الدهشة. فهذا مصل ذهب إلى المسجد قياماً بحق الله. ووقف فى الصف ليركع ويسجد ابتغاء مرضاته. لكنه مذهول عما حوله محصور فى حدود أفكاره ومشاعره الخاصة، فهو يتحرك من تلقاء نفسه غير مرتبط بالنداء الذى يضبط نظام الجماعة. هذا المصلى الخارج على صورة التجمع لا يشفع له أنه فى عبادة ولا يقبل فى شذوذه عذر! وبم يوصف عمله؟ إن انفلاته من قيد الجماعة يشير إلى بقايا حيوانية فيه، ورفضه الانقياد فى الركوع والرفع منه، وإيثاره متابعة هواه الخاص، يدلان على نفس تستمرىء الفوضى وتستسيغ الشغب، فهى فى المسجد أو فى المجتمع العام محذورة النزوات. ولذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "الذى يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان ". نعم هى بيد شيطان، وإن كان صاحبها يصف قدميه فى عبادة. فإن قيمة الطاعة ليست فى صورة الجسد الحانى. وإنما هى قبل كل شىء فى حقيقة القلب المنيب، وفى النفس المتوجهة إلى الله ترجو رضاه وتخشى غضبه. ص _207(1/206)
وما أقل المصلين الذين يتعلمون من صلاتهم الحفاظ على كرامة رسالتهم وجماعتهم، والإبقاء على كيان دينهم وأمتهم. فلا تستغربن أن يذهب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى تعنيف الشاذين ومثيرى الفوضى إلى حد قوله: " أما يخشى الذى يرفع رأسه من ركوع أو سجود قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب ". وفى رواية أخرى: " أما يخشى أحد إذا رفع رأسه من ركوع أو سجود قبل الإمام أن يجعل رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار "!! إن هذه الحملة النبوية ليست على غلطة رجل فى موقفه، بل هى على بلادة رجل فى تصرفه بلادة يبست فى نفسه حتى إن روح الجماعة لم تستطع إذابتها. وهذا التحجر الخلقى فى بعض الأفراد مصيبة اجتماعية لا تهادن ولا يعترف بها مصلح. وذاك سر الترهيب الوارد فى السنة... إن المحافظة على روح الجماعة وصورتها قربة عظيمة، وفى سبيلها لا حرج من التضحية ببعض التعاليم! ولينظر المسلمون إلى ما روى فى الصحيح أن فريضة القيام فى الصلاة تسقط عن المأموم إذا صلى الإمام قاعداً، قال رسول الله : " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه! فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد. وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى قاعداً صلوا قعوداً أجمعون ". فمنعاً للاختلاف أسقط ركن القيام عن المقتدين، وهم أصحاء قادرون على الإتيان به. ذلك أن محو شارات الفرقة أدنى إلى مرضاة الله من رعاية أوامر أخرى. كذلك هدى رسول الله...!!! وإذا كنا سداً للذريعة نقبل الضرر الخفيف اتقاء ضرر أشد، فإن المحافظة على وحدة الأمة فريضة عليا تطوى فى سبيل تأمينها أمور كثيرة. ص _208(1/207)
ولأضرب أمثلة تحدد المراد.. إن اختلاف العقول فى فهم نص ما، أو تصحيح أثر ما لا حرج فيه، ولا قيد عليه، ما دام فى حدود القواعد العلمية المحترمة. على أن هذا الخلاف يجب أن يطوى طياً فى الحياة العملية، فلا يتجاوز قاعات البحث وفصول الدراسة. فإذا اضطربت أقوال الأئمة: أهناك قنوت فى صلاة الفجر أم لا، وما مكانه إن صح وجوده؟؟ فليختلفوا فى ذلك ما شاءوا وليقتنع كل بما يرى. لكن عند الذهاب إلى المسجد وإقام الصلاة لا يجوز أن تظهر فيه إلا صورة واحدة يقبل الجميع عليها وينسون آراءهم بإزائها مهما كانت فى نظرهم صحيحة. فإن صحتها لن تبلغ مبلغ ركن القيام الذى أهدر حتى تسود روح الجماعة وصورتها فى بيوت الله. وليس المهم أن يسود الرأى الراجح قدر ما يهمنا التقاء الجمهور عند رأى ما. فكما أن حكم القاضى يرفع الخلاف فكذلك فعل الإمام يجب أن يرفعه، ولا ينبغى الشغب عليه من أى معارض. وطالب الثواب إن كان مجتهداً أو مقلداً يجب أن يعلم بأن ثواب الله على تجميع الشمل، وصيانة الأمة أربى عنده وأرجى من التعصب لمذهب ما. وقد روى أن ابن مسعود نقد إتمام عثمان للصلاة أيام منى وذكر أن ذلك مخالف لسنة رسول الله والشيخين بعده. فقد كانوا يقصرون صلاتهم، ويتابعهم الحجيج فى ذلك. واحتج عثمان بأن الموسم يحضره جماهير الأعراب الذين يحتاجون إلى معرفة فى دينهم، فلو قصر بهم لظنوا الصلاة كذلك أبداً. ورفض ابن مسعود هذه الحجة. ومع ذلك فقد أتم الصلاة وراء عثمان كراهية للخلاف..!! وضاق أبو قتادة من مسلك خالد بن الوليد مع " مالك بن نويرة " وزوجته، فانسحب من الجيش عائداً إلى المدينة ليشكو قائده إلى الخليفة الأول أبى بكر. فأمره أبو بكر أن يلحق بالجيش، وأن ينتظم مع سائر الجند تحت إمرة خالد! ص _20 ص(1/208)
فإذا رابه أمر أبلغ عنه وهو فى نطاق المعسكر المتماسك. وتلك هى سياسة الجيوش فى الأمم قاطبة " وحكوا أن الشافعى لما ذهب إلى العراق لم يقنت فى الفجر -على خلاف ما يرى- بل قنت فى الوتر، احتراماً لرأى أبى حنيفة. وهذا هو معنى الإسلام، يعرفه حق المعرفة إمام جليل نبيل كالشافعى. فهل عرف التلامذة والمقلدون هذا؟ كلا، لقد قسموا الأمة الواحدة أمماً شتى. وأمسى المؤلف فى كثير من العلوم عن نفسه: فلان المالكى مذهباً، الأشعرى عقيدة، الخلوتى طريقة، والشامى نسبة. وذهب الحمق بأصحابه إلى أن يقيموا فى المسجد الواحد فى الوقت الواحد عدة جماعات تمثل المذاهب الأربعة. قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب: ".. وقد اتخذ هذا اللون من الاعتزاز المذهبى طريقه المرسوم له من إقامة الحواجز بين جماعات المسلمين. فامتد إلى المساجد وجعل منها صورا مقابلة لهذه الفرقة.. فكان بعض المساجد مقصوراً على جماعة مذهب معين. يدرس فيه فقه هذا المذهب، ويقصده المنتمون إليه، كما كان بعضها الآخر مقسما إلى أقسام أربعة تسع المذاهب جميعاً، فهذا ركن الشافعية، وذاك ركن الحنفية، وهكذا، وفى كل ركن فقهاء المذهب ، وأتباعه يتدارسون ويؤدون الصلاة على الوجه الذى قرره مذهبهم دون أن تعطفهم عاطفة الإسلام على الانضواء إلى الجماعات الأخرى حتى فى أوقات الصلاة. هذه صورة لا نشهدها اليوم كثيراً فى مساجدنا، ولكنها لا تزال قائمة فى بعض الأقطار الإسلامية الأخرى، لا يزال فى مصر للأسف مساجد وزوايا مقصورة على بعض أصحاب المذاهب والطرق. وأظن أن هذا التفرق بعيد غاية البعد عن الإسلام وروح الإسلام، وأن الصميم من رسالة هذا الدين إنما هو التجميع والتأليف.. وربط الناس برباط واحد وإقامتهم على طريق مستقيم. .. ثم إن هناك صوراً واضحة لا تزال تشير إلى أن الخلاف واقع بين المسلمين، صورا مادية يراها رأى العين المسلم وغير المسلم، فيدرك لأولى نظرة أن المسلمين ص _210(1/209)
شيع وطوائف، وأنهم على حالهم تلك لا يمثلون روح الإسلام، فإن من شأن الدين أن يخلق بين أتباعه جواً خالصاً من الوفاق والوحدة فى الظاهر والباطن جميعا. انظر إلى المسلمين وهم يقفون بين يدى الله فى الصلاة.. ماذا ترى؟ لا يحتاج الأمر إلى معاودة النظر أو إعمال الفكر لتقع على الخلل والاضطراب فى هذه الجماعة القائمة بين يدى الله.. فهذا يقف فى الجماعة مرسلا يديه إلى جانبيه إرسالا. لأنه مالكى، ولأن مذهب مالك يقول بهذا الوضع فى الصلاة، وثان يضع يديه ممسكا بهما تحت سرته لأنه حنفى ولأن مذهب أبى حنيفة يأخذ بهذه الصورة، وثالث يضع يديه ممسكا بهما إلى صدره لأنه شافعى.. وهكذا.. وقد يقول قائل: وما المنكر من أمر هذه الأوضاع التى يتخذها المصلون من إرسال الأيدى أو إمساكها؟ وقد ثبت أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يرسل يديه فى الصلاة، كما كان يمسكها فوق الصدر أو تحت السرة أو على الجانب الأيسر من الصدر مما يلى القلب.. فهذه كلها صور نقلت بالإسناد الصحيح عن رسول الله، وأن أئمة المذاهب قد أخذوا بما ثبت لديهم من صحيح السنة. فما المنكر أن يأخذ بها المسلمون؟ ونقول: إن المسلمين الذين كانوا يصلون خلف الرسول الكريم، كانوا يأخذون الوضع الذى يكون عليه نبيهم وإمامهم، دون أن يخرج عليه خارج ولو بوضع كان الرسول قد فعله من قبله، وان هذه كانت سبيل المسلمين فى جميع الأمصار إلى أن ظهرت المذاهب وتمايزت بأنصارها وأتباعها.. إن أصحاب المذاهب قد استبد بهم الخلاف فأغراهم بالمخالفة التى لا تجر نفعاً، ولا تثمر إلا فرقة وانقساماً. وان كان لهذا الخلاف مستند من الحق، ودليل من الواقع.. وماذا لو قال صاحب كل مذهب بهذه الصور جميعاً وكلها حق؟ بل ماذا لو أجمع أصحاب المذاهب على صورة واحدة وهى الحق لا شك فيه؟ إذن لاستقام المسلمون على صورة واحدة فى الصلاة، ولخلت صفوفهم من هذا الاضطراب، ولأخذتهم العين مأخذ الجلال والروعة في هذا المقام(1/210)
الرائع المشهود، ولكنه التعصب للمذهب الذى يبدأ أول أمره اجتهاداً فى تحرى الحق، وكشف معالم الطريق، ثم لا يلبث -بفعل المنافسة وحب الغلب- أن ينقلب إلى عداوة تملأ العين كراهية وازدراء لكل عمل أو رأى يجىء من تلقاء الخصم المنافس. ص _211
هذه صورة من صور الخلاف المذهبى لا ثمرة منه إلا هذه الفرقة بين المسلمين فى أكرم موقف بين يدى الله ". لقد كانت طريقنا إلى ديننا سهلة قريبة، فجرنا الخلاف المذهبى والتعصب الطائفى إلى هذه المزالق التى لا يؤمن فيها العثار، ولا ترجى معها السلامة.. فصرنا إلى هذه الفرقة المشتتة التى تمشت فى حياتنا المادية والمعنوية حتى يكاد المسلم ينكر أخاه أو يتنكر له.. وتلك حال جديرة بالرثاء أو البكاء: كنا أناساً على دين، فغيرنا طول الجدال، وخلط الجد باللعب ولا شك أن الأستاذ الخطيب يحترم الاجتهاد وإنما يقصد بهذا الخلاف. خلاف الأتباع المتعصبين للأئمة الذين ظنوا التزام مذهب بعينه من المذاهب الأربعة دينا لا يجوز للمسلم أن يخالفه، وأدرجوا ذلك فى حكم العقائد! ورتبوا عليه مسائل فقهية بحثوا فيها حكم من قلد غير الأربعة، ومن قلد غير إمامه حتى من الأربعة، ومن لفق فى العبادة أو المعاملة بين مذاهب عدة، ومن أفتى بغير الراجح أو المعول عليه أو المفتى به، أو بتعبير أدق، بغير ما وصف فى الكتب بأنه كذلك، إلى غير هذا من المسائل التى ما أثارها إلا العصبية المذهبية، تلك العصبية التى قامت بنصيبها فى تفريق الأمة الإسلامية. .. وبات المسلمون من ذلك كله فى ضعف، قاسوا منه أهوالا شداداً، وأدرك المخلصون من أبناء هذه الأمة أن لا نجاة لها مما وقعت فيه إلا إذا عادت إلى ما كانت عليه في عهدها الأول، حين كان الشمل مجتمعاً، والعلم صافيا، والدين واضحا، والمرجع كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التى صحت روايتها واستقامت دلالتها، ينزل على حكمها المختلفون، ويصطلح عليها المتخاصمون " أ. هـ. إن " شيطان(1/211)
" الفرقة يعمل للأهداف نفسها التى يعمل لها " شيطان " الخمر والميسر، هذه الأهداف التى ذكرها الله عز وجل فى قوله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ". ص _212
فإن تمزق الأمة أشلاء متناثرة يميت الشعور العام فيها، ويمنع تيار الإحساس الواحد من أن يأخذ دورته فى شتى أجزائها. ذاك لو أن الجسم بانت عنه بعض أعضائه، فكيف إذا تربص بعضها بالبعض الآخر وغنى له المهالك؟ إن الفرقة وبال جسيم، وعندما يقع بأس الأمة بينها وتفشو الخصومات فى كيانها، فهى أمة تنتحر قبل أن ينال منها عدوها. ومهما قيل فى أسباب الفرقة وبواعثها فإن ذكر العصبية -للرأى أو للطائفة- كثيراً ما يسبق ذكر الله، بل كثيراً ما ينتهى بالذهول عنه. وقد سقطت الدولة الإسلامية كلها أيام التتار لهول الانقسام الذى أحفظ الشيعة على السنة، واستبيحت به دماء الفريقين، ثم استسهل بعده أن يحكم المسلمين جميعاً قوم وثنيون!! هل هذا اللدد المر بين رجال يؤمنون جميعاً بكتاب واحد ونبى واحد يمكن أن يوصف بأن مبعثه الإخلاص للإسلام، والنصح لأمته، وابتغاء مثوبة الله؟ إن الغشاوة على عقل السكران تجعله ينطح الهواء يمنة ويسرة، وتجعله يهرف بما لا يعرف، ثم لا يزال الخدر يسرى فى أوصاله حتى يرتمى على الثرى..!! وللعصبية المذهبية والطائفية ضراوة أنكى من ضراوة الخمر.. إلا أن هذه تغطى العقل، أما تلك فتغطى الضمير، ثم تسخر العقل والبدن لإرضاء الأثرة، ومسايرة الحقد والغلب، وطلب الانتصار بأية وسيلة.. ولعل قول رسول الله: " إن البغضاء هى الحالقة " أى: التى تحلق الإيمان والفضيلة والأخوة، لعله يشير إلى هذه النتائج القاتمة.. والاختلاف فى الرأى طبيعة بشرية لا يمكن مصادرتها. ولكى تبرد الحرارة التى قد تصحب هذا الخلاف، خصوصاً فى شئون الدين، يجب أن توفر هذه العناصر: 1- سعة المعرفة، وغزارة المادة العلمية، والاطلاع على أكبر(1/212)
قدر من حقائق الحياة ومذاهب الفلاسفة والعلماء. فإن العقل الضيق أسوأ شئ فى تصور الأمور والحكم عليها. ص _213
أما العقل الرحب فإن منادح النظر تنفسح أمامه، ويستطيع أن يبين الحقائق غير مبالغ فيها ولا منقوص منها. ويستطيع أن يقارن بينها وبين سواها مما وعته الخبرة والتجربة، فلا يكون ضحية خبرة محدودة وتجربة قليلة.. لقد رأينا أسرع الناس إلى تكفير الآخرين وغمط حقهم أقلهم سهما فى فقه الدين والدنيا. وما أكثر ما ينشأ ضيق العطن عن قصور الإدراك، وسوء الحكم عن سوء الفهم!! أما مع رفعة المستوى الثقافى للجماعة فإن اختلاف وجهات النظر قلما يخدش وحدتها. إذ أن إنصاف المعارضين، وتقدير ما عليهم، وما لهم، يحسم شروراً كبيرة..!! والناظر فى أحوال المسلمين الآن يلحظ على عجل ضآلة حظوظهم من المعرفة المحترمة.. فمبلغ علمهم بالدنيا يقذف بهم إلى مؤخرة الركب العالمى. ومبلغ علمهم بالإسلام يقطع بأنهم ليسوا أهلا لرسالته مهما ادعوا وزعموا. إن الأجيال الحاضرة ربطت تفكيرها بطائفة من الكتب التى خلفها عصر الانحلال البائد. فالبحث الفقهى يستمد مسائله ـ إلى يوم الناس هذا ـ من كتب ألفت من خمسة قرون. ومن البديهى أن تنهزم الشريعة أمام القوانين الوضعية بعد أن لازمها هذا الجمود المزرى. وسائر المعارف الإسلامية كأنما كتب عليها أن تتبع الأدنى فى كل نسق. فتراث الأئمة الفحول يطوى ويختفى على حين تنشر فى كل مكان آثار المؤلفين من الدرجة الثالثة فمَنْ تحتهم..! وتصور الأدب العربى لا يعرف إلا من مؤلفات عبد الله باشا فكرى أو البهاء زهير مثلا! ويقصى عنه إقصاء المعرى وأبو تمام والمتنبى وأضرابهم. ص _214(1/213)
إن ذلك يعطيك صورة للثقافة الإسلامية بعد أن يحذف منها " ابن القيم " و" ابن تيمية " و" ابن الجوزى " و" ابن حزم ". ومع عكوف الخلف على ما وقع فى أيديهم من معارف قليلة الغناء، فقد انقسموا طوائف متدابرة ، لكل طائفة نوع من العلم يروج فيها لا تكترث بغيره. وهى لا تدرى ما عند غيرها، بل ربما حسبته جهلا وضلالا. فكيف يرجى مع هذا الانحدار العلمى أن تأتلف أمة وأن تتوحد قواها؟ إن هذه الأغذية الأدبية لا تسمن ولا تغنى من جوع، والاعتماد عليها وحدها لن يثمر إلا العلل التى تصيب كل إنسان تنقص جسمه " الفيتامينات " والمواد الحيوية الأخرى. ثم إن المسلمين يجب أن يعرف بعضهم بعضا، وأن يتعرف كل شعب ما لدى الآخر عن ضروب العلم المختلفة، وبغير ذلك لن يكونوا أمة واحدة، أو يحسنوا استيعاب الرسالة التى عرفوا بها وكلفهم الله بإبلاغها. قال الأستاذ الشيخ " محمد تقى القمى ": ".. لو أن التعارف بين المسلمين تم على أساس توحيد الثقافة، بما فى ذلك تيسير التبادل الثقافى، وتأليف كتب عن كل طائفة لإعطاء صورة صحيحة عنها، تعليم اللغات الإسلامية فى الجامعات، ترجمة الآثار والرجال (،) لعرف المسلمون أنفسهم، وعلموا قوتهم ومقدرتهم، وأنهم مسلمون قبل كل شىء، مسلمون فى كتابتهم وتآليفهم، مسلمون فى قصصهم وأشعارهم. . لا بد أن يلتقى المسلمون بعضهم بالبعض الآخر، وهل ينكر أحد أن خير اللقاء هو اللقاء عند الثقافة -الثقافة الصالحة لأن تكون ثقافة إسلامية- البعيدة عن كل تعصب أعمى؟ ونريدها ثقافة تحت ظل الدين، ثقافة يجتمع المسلمون فى ظلها "بالحافظ الشيرازى" المتوفى فى القرن الثامن، و" حافظ إبراهيم المصرى "، المتوفى فى القرن الحاضر، و" محمد إقبال " المسلم الهندى المتوفى أخيراً، مع اختلاف لغاتهم وتفاوت درجاتهم. وإذا كان هذا شأن الآداب لدى المسلمين، فأسهل منه شأن الفقه وعلوم الدين وتراث العلماء كلهم من أى مذهب من المذاهب الإسلامية، فقد استمدوا(1/214)
علومهم من الكتاب والسنة، ومن اللغة العربية التى هى لغة الدين، وبما أن ص _215
المصدر واحد واللغة واحدة، فإن أقل تبادل ثقافى، يكفى لأن تحترم كل طائفة ما عند الأخرى، ولأن يقمع كثيرا من الخلاف الذى نحن فى غنى عنه " أ. هـ. 2- إخلاص النية لله، وإيثار المذخور عنده على العاجل من لذات هذه الحياة والرغبة فى نفع الناس بالإسلام دون تطاول به، والنظر فى أخطاء الناس على أنهم بشر وأننا بشر مثلهم لا أرباب لهم، نفرح لتائبهم ونأسى لناكبهم ونقبل من محسنهم ونغض عن مسيئهم، تلك خصال لو استجمعها المسلم لأرضى ربه وحفظ دينه وصان أمته. إن القلب المدخول يجرى إلى أسباب الفرقة كما يجرى الماء إلى منحدره. وما دامت قبلته شهوته فهو لا يبالى أن تفسد الأرض وتظلم السماء. والحق أن التطاحن على الدنيا -خصوصا مغانم الحكم وجاهه وبسطته- كان العلة الأولى فى تقطع الحبال وهوان المقدسات وابتذال الكرائم.. والغريب أن دينا من الأديان لم يحفل بمثل الوصايا التى وكدها نبى الإسلام فى النهى عن طلب الإمارة، وذم الحريصين عليها، وتخويف الحكام من أمانة السلطة التى حملوها وترهيبهم من الغرور بها. ومع ذلك فإن هذه الأمة لم تؤت من قبل أعدائها قدر ما أتيت من تنازع الرجال على الرياسة، ثم من تنازع الرؤساء على توسيع مناطق نفوذهم.! وإقحام الدين فى هذه الشهوات ليس إلا وسيلة لاستغلاله وسوق الجماهير المؤمنة كى تعبد الطريق أمام الطامعين والشطار والدهاة. لو جرى الخلاف نظريا محضا لتمحيص حقيقة أو استبانة حكم، ولم يرتبط بثمرته أى نفع دنيوى. لاكتفى المتناظرون بطرحه على بساط البحث وتركوه يتمخض عن أية نتيجة دون توجس و لا تعصب. إن ارتباط وجهات النظر بأغراض معينة سر كثير من المعضلات التى يعجز المصلحون عن حلها، لأن حلها لن يكون إلا بالتجرد والإخبات لرب العالمين. قال الأستاذ " أحمد أمين ": ".. وانظر إلى النزاع الحاد، والدماء المسفوكة بين السُّنيَّة(1/215)
والشيعة طول العهد الأموى والعباسى، وبعد ذلك، وما جرى بسببه من دماء. تجد سببه أن أهل ص _216
السُّنَّة من أمويين وعباسيين وغيرهم يرون الحق فى خلافتهم. ويرى الشيعة أن لاحق لهؤلاء فى الخلافة. وإنما الحق لأهل البيت. وكل يعمل على أن يصل إلى حقه بقوة السلاح. فالنزاع إذن نزاع على من يتولى الحكم. وهذه سياسة.. لا دين، وأحياناً يقوم بالدعوة الدينية رجال يدعون إلى مذاهب هدامة، ويتسترون باسم الدين، وتخشى الحكومة إن سادت تعاليمهم أن تنهار قوتها، فتضطر إلى محاربتهم، وشكل الحرب شكل دينى، وحقيقته حقيقة سياسية، وكثير ممن خرجوا على الدولة العباسية كانت حقيقة أمرهم الرغبة فى إعادة الحكم إلى الفرس ككثير ممن قتلوا تحت ستار الزندقة فى عهد المهدى العباسى، أو بتهمة المانوية، وقد يستثنى من ذلك الاضطهاد الذى حدث من المأمون والواثق لمن لم يقولوا بخلق القرآن، فقد كانت هذه نظرة دينية خاطئة من المأمون، إذ ظن أن من لم يقل بالاعتزال وبخلق القرآن قد أفسد دينه، فهو يريد إفساد العقيدة قسراً وقهراً كما فعل المسلمون الأولون بإزاء الوثنيين، وهذا خطأ فى التفكير نتج عنه أضرار جسيمة للمسلمين. ومن العداء السياسى ما كان بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية فالعداء بينهما عداء سياسى اتخذ شكلا دينياً. يريد العثمانيون الأولون أن يمدوا سلطانهم على الفرس ويأبى الفرس إلا أن يحتفظوا باستقلالهم فيئول ذلك إلى البغض الذى بلغ مداه فى عهد السلطان سليم الأول حتى كان من اضطهاده للشيعة فى مملكته أن قتل وسجن ما يقرب من أربعين ألفاً، ولكن هن الخطأ تحميل الدين جرائر السياسة بدليل أن أكثر هذه الخصومات السياسية حدثت بين أمم إسلامية مختلفة تعتنق عقيدة واحدة سنية أو شيعية، وإنما كان الخلاف بينهما على السلطان وسعة الحكم ونحو ذلك " أ. هـ. حب الاستعلاء فى الدنيا والاستطالة على الناس، كان إذن مصدر هذه الفتن المتلاحقة. وهو الذى جعل بلاد(1/216)
الإسلام مسرحاً لحرب أهلية طويلة المدى. تهدأ -يوم تهدأ- بعد أن تترك فى النفوس آثاراً غائرة من الأحقاد والثارات. وطبيعة البشر، مؤمنين أو ملحدين، أن يلبسوا مأربهم الخاصة ثياباً مشروعة. وقد رأيت سيرة المستعمرين فى عصرنا هذا، وكيف يجعلون للظلم قانوناً وللنهب مسوغات تخيل للعيون أن الباطل حق. ص _217
وقد اتخذت خلافاتنا القديمة هذا السبيل، وربما بدأت ولها أسس قوية من الصواب، أو وجهات نظر يقصد بها الحق وحده، بيد أنها تطورت على مر العصور تطوراً كان يقلل ما فيها من خير ويضعف ما فيها من شر، حتى انتهت إلينا ـ نحن أبناء هذا القرن ـ وهى شر محض، فليس يستمسك بها من له بقية من عقل أو إيمان.. 3- ولا بد من الاعتبار بأحداث التاريخ والاعتراف بتطور الحياة وانتقال الأمم كلها إلى أحوال تغاير ما كانت عليه منذ أربعة عشر قرناً. وهذا يفرض علينا أن نعيد النظر فى رسالتنا الكبرى، لا لتغيير شئ من أصولها فمعاذ الله أن يجرى على خواطرنا هذا الإفك، إنما لنغير من أسلوبنا فى تطبيق بعض التعاليم، على ضوء ما وعينا من تجارب وما جد فى الحياة من أحداث كبار. إننا ـ فى مدى أربعة عشر قرنا ـ أصبنا كثيراً من الأرباح وكثيراً من الخسائر. وجدير بنا أن نتعرف سر ربحنا وخسارتنا، ومقدار ما بقى لنا أو علينا!! وهل أحسنا أو أسأنا فى عرض الدعوة التى ناطتها الأقدار بنا؟ وما صلتنا بالعالم وما صلة العالم بنا؟ إننى أميل إلى تحميل المسلمين أوزار انسحابهم من الأندلس، وانكسارهم فى شرق أوروبا، ثم افتضاح أحوالهم النفسية والاجتماعية والسياسية فى مهزلة فلسطين من سبع سنين، أمام عصابات اليهود. وأميل إلى اتهام نظم الحكم والاقتصاد والتعليم عندنا، فهى مسئولة عن المصير الكابى الذى انتهينا إليه. وهى نظم إذا قورنت بهدى الله ورسوله بدا بينها وبينه أمد قصى.. ولقد ارتقى العالم فى بقاع شتى، ووصل فى نظمه العامة إلى ثمرات أطيب مما لدينا وأشهى، لأن ما لدينا(1/217)
لم يكن نتاج تدين صحيح. فلا عجب إذا سبقنا فى مضمار الإجادة والكمال من يفقهون الحياة ويتذوقون طعومها.. وحق على المتخلفين فى حياتهم أن يتعلموا ممن تقدموا وفاقوا، أياً كان لونهم، وإقحام الدين فى الحيلولة دون هذه الإفادة حمق كبير. ص _218
إن الدساتير التى صانت الحريات العامة وضبطت صورها الجزئية ومنعت الجبابرة من الاستبداد بالأم يجب أن نستفيد منها فى بلادنا، إذا كان غيرنا قد أحسن إحكامها. والإسلام لم يمنع " عمر بن الخطاب " أن يمصر الأمصار، ويدون الدواوين، ويقتبس النافع الطيب من نظم الفرس والرومان وهو يبنى الدولة الإسلامية الحديثة. والذين يفكرون فى حياة إسلامية فيرجعون إلى الماضى السحيق ويذهلون عن تحرك الفلك أربعة عشر قرناً هم قوم يسيئون إلى أنفسهم، وإلى إسلامهم، وإلى بلادهم والى الحياة كلها. لماذا لا ندرس الروابط بين دول " الكومنولث " البريطانى ونحن بصدد بناء أمتنا من جديد؟ أو ندرس الروابط بين شعوب الاتحاد السوفيتى ، أو الولايات المتحدة الأمريكية مثلا؟. ذلك أن الأمة الإسلامية تتكون من شعوب عدة، وقد نرى جعل " الخلافة " رابطة مرنة أولى من جعلها نظاماً مركزيا. ومن الضرورى الاعتراف بما للأجناس والأقطار المختلفة من خصائص يجب أن تبقى لها.. إن الإفادة من سير الزمن شيمة أولى الألباب. وهؤلاء هم الذين يخاطبهم الحق جل وعلا، وينيط ببصائرهم حراسة الإيمان فى الأرض. وما دمنا بصدد تجميع الأمة الإسلامية، وإذابة فرقتها فى كيان واحد متماسك، فلنلفت النظر إلى أن هذه الفرق التى تعرف أسماؤها من كتبنا القديمة قد تغيرت هى الأخرى، وطرأ على أتباعها ما يستدعى التأمل، ومراجعة الأفكار والأحكام التى عرفوا بها، ونقتبس هذه الفقرات من مقال للشيخ " عبد العزيز عيسى " يوضح تلك الفروق قال: ".. ثم إننا نجد الطائفة الواحدة تتنوع إلى طوائف، وتفترق إلى فرق، فأهل السنة مثلا أشاعرة وماتريدية، وعلماؤهم فى كل فرقة من هاتين(1/218)
قد يختلفون فيما بينهم، وقد يشذ بعضهم عن رأى الآخرين فى مسألة ما، وقد يعتنق فى قضية من القضايا رأياً يماثل الذين يخالفون هذا المذهب. وقل مثل ذلك عن الشيعة، فإن لفظ " الشيعة " قد حمل على مرور الزمان واختلاف المواطن والسياسات دلالات مختلفة ينطوى تحتها الإمامية والزيدية، كما ينطوى تحتها القرامطة والباطنية والإسماعيلية وغيرها مما تكفلت بذكره كتب الفرق. ص _21 ص
فإذا أخذنا أى موضوع من الموضوعات الكلامية، بالفكرة العامة عن الشيعيين أو السنيين، ولم نحدد أى فرقة من فرق هؤلاء وأولئك نريد، فإننا نقع فى الخطأ ونسند إلى فريق مقالات الفريق الأخر، ولعلنا نأتى إلى بعض الفرق التى انقرضت وذهب أربابها فنحكم بها على الفرق الحية الحاضرة وهى لا تشارك الميتة إلا فى الاسم العام، بينما تخالفها فى كثير من الأصول والتفاصيل، وقد نأخذ بقول عالم من علمائها شط فيه أو انحرف أو ضل السبيل فنحكم به على الطائفة كلها ونقول: إذا كان فيهم من يقول كذا كذا فإنهم ولا شك قوم ضالون، دون أن نحقق: هل القائل يمثل فكرة القوم أجمعين أو لا يمثلها، وهل قبل قوله، واعتنق رأيه عند طائفته أو رد عليه؟ ثم إننا نجد الطوائف تنقسم إلى خاصة مفكرة، وعامة مقلدة أو متعصبة، وقد يرى الخاصة من أرباب مذهب آراء معقولة ربما يوافق عليها الخاصة من أرباب المذاهب الأخرى ولا يخالفون فيها، بينما نرى العامة من أهل هذا المذهب نفسه يؤمنون بفكرة معينة، ولا يقبلون فيها نقاشاً ولا جدالاً، ويتوارثها أبناؤهم وأحفادهم لا يحيدون عنها، وليس من الإنصاف أن نقول: إن أمثال هؤلاء العامة أرباب مذاهب بالمعنى العلمى، وإنما هم قوم حادوا عن الطريق فى ناحية ما، وهم بحاجة إلى من يبصرهم بالصواب، ويهديهم إلى الصراط المستقيم " أ. هـ. بسعة المعرفة، وصدق الإخلاص، وحسن الإفادة من الماضى، نقدر على وصل ما انقطع من حبالنا وأمجادنا. ونستأنف المسير نحو الغاية النبيلة التى هدانا(1/219)
الله لها. ومعنا كتاب حفظته العناية العليا وحبته الخلود. وسًّنة توافر لها من ضمانات التوثيق ما لم يعهد فى تاريخ بشر. وما دمنا نؤمن بمحمد وكتابه فما يجوز أن نتعادى على شىء بعده. فكل شىء بعد هذا اليقين قليل. وقد نختلف، بل سوف نختلف حتماً فى أمورشتى، لكن هذا الخلاف المفترض لا يفصل بين أخوين. ولا يعكر مستقبل أمة ذاقت من غصص الفرقة الأمرين.. ص _220
ثقافتنا.. أين نتجه بها؟ من حق العلماء والمربين أن يفكروا فى توحيد المراحل الأولى من التعليم العام، إلا أن هذا التفكير يجئ فى غير أوانه، أو يجئ غامضاً مهوشاً إذا لم نعرف فى صراحة على أى أساس يتم هذا التوحيد؟ وما هى النتائج التى ننشدها منه. إن بعض الكتاب ـ استجابة لعاطفة موقوتة أو تمشياً مع رأى خاص ـ يريد أن يتخلص من المعاهد الدينية، وأن يجمع أبناء الأمة كلها فى فصول متجانسة، وأحب قبل أن أقضى على عمل قائم أن أعرف العوض الذى يغنى عنه كما أحب أن أعرف المأخذ التى تنفر منه. وإلا فإن الهدم عبث إن لم يكن بالغ الضرر. لا تقل عن عمل: ذا ناقص! جىء بأوفى ثم قل: ذا أكمل! إن يغب عن عين سار قمر فحرام أن يلام المشعل فلنفكر: ماذا نريد؟ قبل أن نقدم على المساس بالأزهر أو المعاهد الدينية. وأحب أن أسائل المعنيين بشئون الثقافة: هل نحن أمة لها ماض ترتكز عليه ومستقبل تسعى إليه؟ أم نحن جماعة من البشر نريد أن نحيا كيفما اتفق؟ هل نحن أصحاب رسالة معينة نريد أن نحتفظ بخصائصها وأن نربى الأجيال الجديدة على استيعابها؟ أم نحن أوزاع لا يضمنا رباط ولا تجمعنا فكرة، ننجرُّ وراء كل قوى مكنته الظروف أن يفرض وصايته علينا يوماً؟ هل نترك أولادنا يلقنهم الآخرون ما يريدون، ويغرسون فى دمائهم ما يشتهون؟ أم نشرف نحن على تهيئة الزاد الأدبى الذى يقدم لهم، ونشترط فى عناصره ما يحقق الغايات التى نقدسها! إننى أقتطف -قبل أن أجيب على هذه الأسئلة- كلمات من رسالة "فلسفة الثورة" التى(1/220)
كتبها رئيس الحكومة، علها تلقى ضياء كاشفاً على هذا الموضوع. ص _221
* قال: " لم يعد مفر أمام كل بلد من أن يدير البصر حوله، وخارج حدوده ليعلم من أين تجيئه التيارات التى تؤثر فيه، وكيف يمكن أن يعيش مع غيره؟؟ ". * وقال: " أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة منا ونحن منها.. امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها؟ " * وقال: " أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ؟ ". * وقال: " أليس حقاً أن التراث الإسلامى الذى أغار عليه المغول واكتسحوا فى غارتهم عواصم الإسلام القديمة -تراجع إلى مصر وأوى إليها فحمته وأنقذته كما ردت غزو المغول على أعقابه فى عين جالوت ". * وقال: " ما من شك فى أن الدائرة العربية هى أهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطا بنا. فلقد امتزجت معنا بالتاريخ وعانينا معها نفس المحن، وعشنا فى نفس الأزمات، وحين وقعنا تحت سنابك خيل الغزاة كانوا معنا تحت هذه السنابك. وامتزجت هذه الدائرة معنا أيضاً بالدين، فنقلت مراكز الإشعاع الدينى فى حدود عواصمها، من مكة إلى الكوفة... ثم إلى القاهرة. ثم جمعها الحوار فى إطار ربطته كل هذه العوامل التاريخية والمادية والروحية ". * قال: " ثم تبقى الدائرة الثالثة.. الدائرة التى تمتد عبر قارات ومحيطات والتى قلت: إنها دائرة إخوان العقيدة الذين يتجهون معنا أينما كان مكانهم تحت الشمس إلى قبلة واحدة، وتهمس شفاههم الخاشعة بنفس الصلوات. ولقد ازداد إيمانى بمدى الفاعلية الإيجابية التى يمكن أن تترتب على تقوية الرباط الإسلامى بين جميع المسلمين أيام ذهبت مع البعثة المصرية إلى المملكة العربية لتقديم العزاء فى وفاة عاهلها الراحل الكبير. لقد وقفت أمام الكعبة وأحسست بخواطرى تطوف بكل ناحية من العالم وصل إليها الإسلام ". ثم قال: " أخيراً أعود إلى الدور التائه(1/221)
الذى يبحث عن بطل يقوم به. ذلك هو الدور، وتلك هى ملامحه، وهذا هو مسرحه.. ص _222
ونحن وحدنا بحكم (المكان) نستطيع القيام به ". هذه الفقرات من كلام رئيس الحكومة تجلو فى وضوح حدود الحياة السياسية والاجتماعية التى يجب أن نحمل أعباءها، ونحفظ حقائقها وأسماءها. وعلى هدى هذا البيان الحاسم نستطيع الإجابة على الأسئلة التى سقناها فى صدر هذا الكلام. فنحن لسنا أمة تطلب أى لون من العيش، وتلتحق بأى ركب من البشر. كلا. إننا أمة تؤمن بتاريخها، وترسم مستقبلها وهى على بصيرة من ماضيها، وتعرف أن الزمان والمكان جميعاً يفرضان عليها أن تكون الوصية على حضارة ضخمة، يضىء سناها من أمجاد العروبة والإسلام، وتستنبت شطئها من تربة مخصبة باليقين والفضيلة والإصلاح، أى من تربة لا إلحاد فيها ولا فسوق ولا فوضى.. ومن هذا النطاق المضروب على أهدافنا السياسية والاجتماعية نعرف اتجاهات الثقافة التى نأخذ بها أنفسنا وأبناءنا. ومنه نضع مناهج التربية والتعليم التى تقدم للمستقبل المرموق رجاله ونساءه.. أى أن للإسلام وفضائله وللغة العربية وآدابها منزلة فى دراستنا يعتبر الغض منها انسلاخاً عن قوميتنا وخيانة لقضايانا، وتعويقاً لهذه الثورة وكفراً بأهدافها التى شرحناها. إن العقول الدائبة على الإنتاج فى هذه الأيام ينبغى أن ترعى أمانة التوجيه التى حملتها. وإنه لمن الكنود أن تخرج المعاهد والجامعات فتياناً وفتيات يرتابون فى ربهم ويكفرون بشرائعه، أو يجحدون عروبتهم ويمارون فى حضارتها. نعم. فمثل هؤلاء الخريجين لا تقوم بهم نهضة، ولا ينهض على مناكبهم بناء. إن العقائد المكينة هى التى تصون الأمم وتخلق العجائب، والعقائد لا تتكون فى بيئات مبتوتة الأواصر إلا بنوازع الهوى ومذاهب الإباحة. ص _223(1/222)
العناية بوطننا القريب فى هذا الوادى، والعناية بوطننا الكبير فى أرض العروبة كلها، والعناية بوطننا الأكبر فى الدائرة الفسيحة التى تضم المسلمين جميعاً، تلك أصول نتقيد بها ونحن نفكر بعقولنا أو نحس بأفئدتنا. وهى مصادر لا يمكن الغض من شأنها فى تكوين الناشئة الحديثة. وأى تثقيف يتجه لواحد منها فهو خليق بأن يتوجس منه. أما التسامى بملكات الفرد ووصلها بأنقى المنابع الإنسانية فى الشرق والغرب فأمر مفروغ منه، ولا منافاة أبداً بينه وبين ما قررنا.. وتوكيدنا للحقيقة التى شرحها صاحب " فلسفة الثورة " آنفاً يرجع إلى أن من كتابنا من يتجاهلها أو من ينكرها، وهو يحاول خدمة الثورة أو تملقها. فالدكتور " طه حسين " فى كتابه (مستقبل الثقافة) يخيل إليك أن حضارة مصر جزء من حضارة البحر المتوسط، وأن صلتها بالإغريق واللاتين أدنى من صلتها بعرب الجزيرة أو عرب السودان، ثم هو يذهب مع الخديوى " إسماعيل " إلى ضرورة جعل مصر قطعة من " أوروبا ". والجرى وراءه فى هذا الضرب من التفكير منته حتما إلى سلخ مصر عن عروبتها وإسلامها وإلى عزلها عن تاريخها وحضارتها ورسالتها. وهذا السلخ أو العزل بعض ما يصبو إليه الغزو الثقافى الوافد مع الاستعمار، وأثره مدمر للقيم التى ظللنا قرونا نحيا بها. ومضلل للسياسة التى سلكناها مع جيراننا وإخواننا فأعزت جانبنا فى كل مكان. إن للدكتور " طه حسين " ولغيره من النقاد أن يشددوا الحملة على الأزهر؟ وأن ينددوا بما لحقه من عجز. ولكننا فى غمار هذا النكير نفرق بين صنفين من النقاد. صنف يعيب على الأزهر توانيه فى خدمة الرسالة التى نيطت به، وينقم من رجاله أنهم فرطوا فى الأمانة التى ألقتها الأقدار بين أيديهم. وصنف آخر يتوسل بإغلاق الأزهر إلى مأرب هائل، هو القضاء على دين ولغة. واستقبال عهد يجيد كل لغة إلا لغة العروبة، ويحتفى بكل تقليد إلا تقاليد الإسلام. وأود أن أوصى هؤلاء بالإياس! فإن ما يطلبون لن يكون!! ص(1/223)
_224
أما مؤاخذة الأزهريين أنفسهم على تفريطهم فى جنب الله، ومحاسبة معهدهم العتيق على مقدار ما يؤدى فى سبيل اللغة والشريعة فباب مفتوح لكل غيور على مصلحة هذه الأمة، حريص على ضمانات التوفيق لشئونها الكبرى. ويوجد فى الكبار والصغار من علماء الأزهر من يعرف مكمن الداء ويصف أنجع الدواء. على أن هناك ملاحظات يجب أن نلفت إليها حين نتحدث فى التعليم الدينى والثقافة الإسلامية. أولاها أن المفاهيم المختلفة يدركها على مر العصور ما يرتفع بها حينا وينخفض بها حيناً. وكما ترى اللجج فى جوف البحر تعلو فتعلو معها السفن وما ضمت، وتهبط فتهبط معها حتما، كذلك تاريخ الأمم يرتفع فيكون لكثير من الحقائق مداها الرحب. فإذا كبا ضمرت هذه الحقائق وضؤلت حتى لكان لها اسما آخر. غير ما عرفت به أمس. الأدب مثلا إحدى هذه الحقائق. كان للعرب فى العصور الأولى أدب نقى العبارة صادق المشاعر، تتنفس فيه العواطف البشرية من أعماقها، وتسترسل فيه كيف شاءت، حتى إن أبا تمام يرد إلى الشعر ما ارتسم فى الأذهان من صور المجد ونماذج الكمال، ويقول: ولولا خلال سنها الشعر ما درى بغاة العلا، من أين تؤتى المكارم هذا الشعر الذى استبحرت دواوينه خلال القرون الأولى طرأ عليه من المسخ والتفاهة ما جعله كلاماً لا وزن له، وإن انتظمت عروضه وقوافيه. إذ أصبح الشاعر يصوغ القصيدة ملغزاً فى خاتم، أو مسفاً فى مدح. وتستطيع أن تقيس البون البعيد بين الشعر فى العصر الأول، والشعر أيام المماليك والأتراك. وما يقال فى النظم يقال فى النثر الذى تحول من سلاسته وحفوله إلى أسجاع مصنوعة وأساليب مهلهلة وفراغ من المعانى الجيدة والأغراض الكريمة. إن مفهوم الأدب شعراً كان أو نثراً أدركه فى عصرين متغايرين تفاوت ظاهر. ص _225(1/224)
وهذا القول نفسه يساق فى الدين. فإن مفهومه كبا فى عقول الأخلاف وقلوبهم حتى لتكاد الصلة بينه وبين معنى الدين فى عهود السلف تنحصر فى العنوان وحده. * كان الدين شارة حياة وقوة فأمسى شارة بلى ومعجزة. * وكان مصدر طاقة على مواجهة الصعاب فأمسى مهرب المتخلفين فى الدنيا ومسلاة الفاشلين فى ميادينها. * وكان جداً وحقاً فأمسى لهواً ولعباً. * وكان فطرة جميلة فأمسى صناعة دميمة. وخذ كلمة فقه مثلا على تغير المفاهيم فى الأذهان. إنها الآن تعنى علم تشريح الوضوء والصلاة وما إليهما. فهل ذلك ما يعنيه سياق الكلمة فى الآية الكريمة " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " ؟. كلا. إن الفقه فى الدين كان يعنى فهم العبادات والمعاملات والأخلاق والسياسات وشرائع الله فى الدنيا وما بعد الدنيا. وكان يتطلب حذقاً فى فهم الحياة لا يتم الفقه إلا به، فإن الجهل بالحياة يحول يقيناً دون تطبيق أحكام الله عليها. *** وملاحظة ثانية حين نتحدث عن الثقافة الإسلامية إن الإسلام ينتق الإنسان من قوقعته التى يعيش فيها، ويخرجه منها إخراجاً، ليصل لبه وقلبه بالشمس والقمر والأرض والسماء والحياة والأحياء. وينابيع الإيمان فيه لا تفور بالرى ولا يتصل دفقها إلا إذا أمدها عقل جواب فى الآفاق غواص وراء أسرار الكائنات، واقرأ إن شئت هذه الآيات: " إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون * تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق...". ص _226(1/225)
نعم تلك آيات الله، وفيها دلائل صارخة بأن الإنسان لا ينضج له يقين إذا انعزل فى كهف معتم من القصور والجهالة بما حوله من مظاهر الكون. ولو أن التفكير الإسلامى أخذ مجراه العتيد فى ضوء من هدايات الله التى رأينا قبساً منها لكان له شأن آخر فى هذا العصر. لكنه التوى وتراجع لظروف لا مكان لذكرها على حين واتته فرص التقدم والانطلاق فى بيئات أخرى. ومن حق الحياة علينا، ومن حقنا على أنفسنا أن نقتبس ونستفيد ممن أحسنوا حيث أسأنا، وممن تمرسوا بعلوم الطبيعة وتفقهوا فى أسرار الوجود، فى الوقت الذى انشغلنا فيه بعلوم الجدل وأمثالها.. ولا عيب علينا فى ذلك، فنحن بهذه الاستفادة نستأنف السير وفق المنهج الذى خطه لنا القرآن وحضنا على التوغل فيه. ثم إن هذا اللون من المعرفة تتداوله أقطار الدنيا دون تحرج، ويتعاون الأعداء والخصوم على إبلاغه تمامه. وقد بذل آباؤنا أنصبة ضخمة فى النهضة به وعنهم نقل الفرنجة المهاد الذى بنوا فوقه فأعلوا البناء: قلنا إذن يد سلفت لا بأس أن نستردها. وفى هذا يقول الدكتور " محمد البهى ": " الغرب له حضارة صناعية تمكن بها من الاستيلاء على منافع الطبيعة وتسخيرها فى وقع مستوى معيشة الإنسان ورفاهيته، وهى حضارة مقدورة إذا قيست بنتائجها وفائدتها فى الحياة العملية الإنسانية، وكذلك إلى المجهود العقلى والفنى فى تصميمها وتنفيذها. .. هذه الحضارة تتمثل فى صناعات كثيرة تقوم على الآلات الميكانيكية ويشرف عليها نفر قليل من العمال الفنيين والمهندسين المتخصصين، فصناعات السفن والسيارات، والطيارات، وقطارات السكك الحديدية، ومولدات الكهرباء، وأجهزة الرصد والاختبار، وآلات الطباعة، والسينما والراديو والتليفزيون والمواصلات السلكية واللاسلكية.. وغيرها هى من الآلات التى يكثر إنتاجها، وتؤدى خدمات متنوعة لا يستطيع تأديتها المجهود البشرى العادى بوسائله المحدودة. ص _227(1/226)
وللغرب بجانب ذلك صناعات كيماوية فائقة. كصناعة الأدوية، والمركبات العضوية وغير العضوية. وللغرب تطور واسع فى بحوث العلوم الطبيعية التجريبية والكيماوية. ونتائج هذه البحوث تبلغ فى الدقة درجة اليقين. لأنه لم يكتف فيها بالمراقبة والملاحظة لظواهر الطبيعة وأحداثها، وتفاعل العناصر التى يضم بعضها إلى بعض، ثم رصد التغيرات التى تصاحبها، بل استعان فى ذلك بالتجربة، وبتحكيم مقاييس الاختبار الآلى والصناعى فى استحداث هذه التغيرات، حتى لا يكون فهمه للطبيعة وقفاً على الصدفة، وحتى لا يتأخر الانتفاع بها على الوجه الصحيح إلى وقت قد يطول أجله. وهذه البحوث الطبيعية والكيميائية الدقيقة هى مقدمات حضارته الصناعية فى الأرض، والماء، والهواء، وكلها تتصل اتصالا مباشراً أو غير مباشر برفع المستوى الصحى، والاجتماعى، والاقتصادى للإنسان. هذا التطور الحضارى فى ناحيتيه: ناحية الصناعة، وناحية البحث الطبيعى والكيميائى، له أثره الإيجابى المحايد فى الحياة الإنسانية، سواء فى جانب رفع المستوى المادى فى المعيشة، أم فى جانب الإنتاج العقلى والفني، إذ مما لا شك فيه أن الإنتاج الذهنى مرتبط ارتباطا وثيقً -ارتفاعاً وانخفاضاً- بالحالة الصحية والنفسية للإنسان. وإذا كان أثر هذه الحضارة الصناعية ومقدماتها من البحوث الطبيعية والكيميائية إيجابياً ومحايداً، فموقف الشرق منها يجب أن يكون موقف الغرب: سعى لاقتباسها، وتفهم لأصولها وبحوثها، واستمرار فى تنميتها وترقيتها، وتوسيع لدائرة تطبيقها. ويوم يقف الشرق منها موقف المتفرج فقط، أو موقف المتردد فى تقويمها وتقديرها ـ يومئذ يكون أخطأ فهمها، وبالتالى تكون نتيجة تخلفه عنها على حساب نفسه وكرامته وعقيدته " أ. هـ. * * * وملاحظة أخيرة.. إن المعارف الوافدة من الغرب يندس فيها ما ليس منها. وقد يختلط فيها الخير بالشر اختلاطاً يحتاج إلى حس دقيق وبصر لماح. والنبات المتسلق خلال جذوعها الباسقة كثير،(1/227)
وخاصة هذا النبات أنه لا ينمو إلا محمولاً على غيره. ص _228
وقد انتهزت بعض الجهات الحاقدة على الإسلام، الطامعة فى دياره فرصة ازدهار الحضارة الحديثة، فتطفلت عليها، ومشت فى موكبها وأخذت تكيد وتفسد. ومن ثم يجب أن نميز الخبيث من الطيب، حتى لا ينقلب إلينا وسط منافذ المعرفة التى افتتحناها، هوى جامح، أو مبدأ هادم أو إعجاب بتافه من المذاهب والمعتقدات. * * * * ونعود بعدئذ إلى ثقافتنا العامة لنقول. إن استبانة أسسها وغاياتها على النحو الذى أوضحنا يجب أن يسبق أى تفكير آخر، وأن نصل فيه إلى قرار لا تثور حوله الأقاويل. فإذا انتهينا إليه فليس يعنينا: من الذى يعلم؟ أو من الذى يحكم؟ وإنما يعنينا ما الذى يعُلم؟ وما الذى يُحكم به؟ لكن الدكتور " محمد البهى " يصارح بأن الفاقهين للروح الإسلامى، الآخذين بنصيب ضخم من علومه وتوجيهاته هم أقدر الناس على المواءمة بين أصول حضارتنا والثمرات الطيبة فى الحضارة الحديثة. أما الذين انماعوا فى الغرب وفقدوا تجاهه خصائص أمتهم ومشخصات تاريخهم كالدكتور " طه حسين " وتلاميذه- فلا يصلحون لهذه الوظيفة الدقيقة. ولنسمع له يتساءل: " هل يمكن لنا فى حياتنا الشرقية أن ننتفع بحضارة الغرب الصناعية، مع الاحتفاظ بتراثنا الثقافى الإسلامى والروحى على العموم؟ إننا لو استطعنا ذلك لرفعنا مستوانا الصحى والاجتماعى والاقتصادى، وسلمنا من الهزات العنيفة فى التوجيه وفهم الحياة، واحتفظنا فى ذلك بمقوماتنا الأصيلة كأمة من مجموعة الأمم الشرقية والإسلامية! هان مدى استطاعتنا يتوقف إلى حد كبير على عناية الأزهر برسالته، وعلى أن يمكن من تأدية هذه الرسالة. إذ ليست الجامعة المصرية الحديثة هى التى تلائم بين تراثنا الثقافى الإسلامى، وبين الحضارة الغربية الحديثة فى مجتمعنا الشرقى الإسلامى، بل هو الأزهر، ويكاد يكون وحده. ص _22 ص(1/228)
إن قبول البيئة الريفية فى مصر لآثار الحضارة الصناعية الحديثة ومظاهرها مهمة لا يؤديها المرشد الاجتماعى، وإنما يؤديها صاحب الثقافة الأزهرية إذا فهم هذه الحضارة على وجهها الصحيح وفهم موقف الإسلام منها. والنظام الذى يستخدم الصناعات بمصر لا يقربه من العقلية المصرية العامة -حتى تؤمن به ونتائجه الإيجابية فى الحياة المصرية- فتساهم فيه، أو تستسيغه عن رضا واطمئنان- إلا العقلية النابتة فى البيئة الأزهرية". قال: " وموجز الرأى: أن فى حياة الغرب (حضارة) صناعية تسايرها تعاليم الإسلام ". وفيها بحوث طبيعية بحتة، وكيميائية -هى الأسس لتطور الحضارة الصناعية- لا تجافى الإسلام ولا تعادى رسالته. (ثقافة) توجيهية. هى ما تعرف بالثقافة الغربية الحديثة: للاتجاه المادى فى هذه الثقافة سيطرة وشأن، إذ هو يناوىء الإسلام تماما. وفى الاتجاه الروحى والمثالى هزال وضعف ولسنا فى حاجة إليه، مع قوة إسلامنا وسلامة توجيهه الروحى ". وطابع الاتجاه الاستشراقى فى هذه الحضارة يتسم بالحزبية والغرض، وبقوم على فكرة صليبية أو سياسية. وهذا أيضاً لسنا فى حاجة إلى استيراده، ثم الأخذ به فى توجيهنا، لأنه مصدر ضعف من جانب، وحائل بيننا وبين الفهم المستقيم لتراثنا الثقافى من جانب آخر. إن كل توجيه ثقافى غربى فى أية صورة من صوره إذا سرنا وراءه فقدنا شخصيتنا أولا، ثم اضطربنا فى توجيهنا ثانياً، ثم كنا أخيراً لا فى عداد الغربيين، ولا فى عداد الشرقيين. ذلك أن وجودنا كجماعة أو كأمة ليس وجوداً ماديا فحسب، إنما قوامه قبل ذلك أننا شرق إسلامى له ماض عريق فى الثقافة والحضارة الإنسانية " أ. هـ. " ص _230(1/229)
أسس صالحة لتوحيد الثقافة طالعت مقال الدكتور " أحمد زكى " فى هذا الموضوع. ويمكن القول بأنه أحصى جملة من القواعد التى يتفق علماء الإسلام على أنها تصلح لإقامة وحدة فكرية واجتماعية بين أبناء الأمة الإسلامية الكبيرة. بل إن هذه القواعد -لو أحسنا فوقها البناء- سوف تنتهى بوحدة أشمل وأعم، أعنى: " وحدة فى المشاعر والغايات " لا فى مناهج الحياة وخصائص الشعوب. فإن اختلاف الأجناس فى هذه هو -كاختلاف ألسنتها وألوانها- من آيات الله فى خلائقه المختلفة ينظر إليه بإعجاب لا بإنكار..! وسأتابع الدكتور فيما كتب لأشرح على ضوء الفقه القديم سير الحقيقة التى ينشدها، وموقف بعض العلماء الذين تتوقع خصومتهم لهذا الاتجاه أو لهذا التوجيه -وفى أطواء المقال ما يومىء إلى هذا التوجس-. كما أنى سأناقش الدكتور فى بعض الآراء التى عرضها، وأحسب أن الصواب لم يكن حليفه فيها. ولأنوه قبل كل شئ بأن تعريف الثقافة فى قواميسنا العتيقة قريب المشابه من التعاريف التى نقلها الدكتور عن أساطين النهضة الحديثة. وإن كانت القواميس -وتلك وظيفتها- لا تكترث بغير ألبسة اللغة وصور الألفاظ. أما التطورات الإصلاحية فهذه شأن آخر.. ولغة العرب تجعل الثقافة فوق المعرفة المجردة. قد يكون الحذق والفطنة والذكاء بعض ما يدل عليه الوصف فى قولنا رجل مثقف. بيد أن هذا من الناحية النظرية. أما من الناحية النفسية فيجب أن تتغلغل المعرفة فى الإنسان تغلغلا يسمو بطبيعته ويصلح من سريرته. فإن كان فى خلائقه عوج قومه ما نال من ثقافة. ص _231(1/230)
وعلى هذا لا ينبغى أن يعد مثقفاً من حفظ معلومات شتى، وظل مع كثرة علومه مدخول الأخلاق ردىء المسالك. ولعل هذا الملحظ هو الذى جعل العرب يصفون الرمح بأنه مثقف إذا ذهب ميله واستقام عوجه..! فلا الرمح المائل يعتبر مثقفاً، ولا الرجل المائل يعتبر كذلك! ومن ثم يتضح الوفاق بين المعانى البدائية لمدلول الكلمة عندنا وبين قول "هكسلى": إن الثقافة شىء فوق جميع المعارف واكتساب الحذق فى صناعة ما. وقوله أيضاً: إن رجلا ذا أدب ولا علم له رجل غير متوازن، يميل جنب منه عن جنب. وكذلك رجل ذو علم لا أدب له.. ويوسع " باكون " هذا المعنى الكامل للثقافة، حين يرى أنها تشمل ما يتصل بالحياة الروحية للإنسان، من خلقية ودينية.. وعقلية. * * * * * أما مواد الثقافة التى نريد جمع المسلمين عليها، فيحسن أن نستعرضها، ناظرين ـ فى حدود العدل والواقع ـ إلى المدى الذى يمكن أن تبلغه وسائل التثقيف المعتادة. ولا بأس أن ننتفع بعبر التاريخ -وما أكثرها فى ماضينا- انتفاعاً يغير أفكاراً قد نكون ألفناها، ولا ضير من إطراحها. ولنبدأ باللغة. إن العربية لغة القرآن. وللناس لغات شتى. ولم يقل أحد: إن من أهداف الإسلام العظمى تعريب العالم كله. فهذا أولا مستحيل. وهو -ثانياً- محاولة لتعطيل آية من آيات الله فى الأنفس والأفاق. قال عز وجل: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين". فلتبق لكل شعب مسلم لغته الخاصة ما شاء البقاء عليها. ص _232(1/231)
وليبق معها هذا الرباط الذى اختاره الوحى الأعلى ترجماناً له وعنوانا ، وهو لسان العرب . وجعل العربية لغة عامة للأمة الإسلامية ضرورة حيوية . وإنى لأحسب أن وحدة اللغة بين الإنكليز والأمريكان هى السبب الأول فى أن الشعب الأمريكى هب عن بكرة أبيه ينجد حلفاءه فى حربين هائلتين ، كادت الهزيمة فى كلتيهما تأتى عليهم . ومنزلة اللغة الإنكليزية فى الهند وباكستان وجنوب أفريقيا وسائر أجزاء الإمبراطورية المرنة لا جدال فى رفعتها . إنها لغة الألوف المؤلفة فى هذه الأقطار الشاسعة . وليست لغة قبيل من الناس ، أو طائفة من الموظفين . ومع سيادة اللغة الفاتحة فقد ظلت اللغات المحلية أسلوب الفهم والتفاهم بين الجماهير . ومن حق هذه الجماهير على الإسلام وحملته ، ألا تحرم من نوره ، وألا تحجب عن هدايته ، خصوصًا أن الإسلام للجميع . وأعترف بأننا قصرنا تقصيراً شائنا فى نقل معانى القرآن إلى العاجزين عن اللسان العربى ، وأننا أسأنا بهذا إلى أنفسنا وإلى رسالتنا . والعلماء مجمعون على أن نقل هذه المعانى إلى اللغات الأخرى لا جناح فيه بل هو من صميم الدعوة العامة . إلا أن هذه الترجمة على ما بلغت من دقة وضبط-هل تسمى القرآن عينه الذى نزل على محمد؟ إننا نعلم أن هناك تفاوتا قائماً بين الأصول الأدبية فى لغة ما ، وبين النقول المترجمة لها فى لغات أخرى . وأن هذا التفاوت قد يكون فى القيمة الفنية ، وقد يكون فى جملة الحقائق والأغراض . ص _233(1/232)
ومن هنا يجب إذا وضعنا ترجمة للقرآن أن نلفت الأنظار إلى هذه الفروق فنفيد قراء اللغات الأخرى بمعانى القرآن ، ونتجنب ما ينشأ عن التراجم من اختلاف ، يجعلها لا تنطبق على الأصل تمام الانطباق . ولو وضعنا على كل ترجمة للقرآن تنبيهاً يحمل هذا المعنى لارتفع الحرج وعم النفع . * * * ولكل شعب مسلم أن يحتفظ للغته الخاصة بآدابها وفنونها . ونحن نؤيد تلون الآداب بألوان البيئات التى نشأ فيها . ومن المستحسن أن تتهادى الشعوب ـ قاطبة ـ روائع ما لديها من ثمرات الشعر والنثر ، كمثل من تبادل العواطف الإنسانية الراقية . على أنى أرجو أن يسحب ذيل النسيان على الآداب المكشوفة والمنحرفة ، فتبقى حيث ـ ولدت ـ مقصورة الضرر على المجتمعات التى بليت بها . فلا ينقل العرب ما عندهم إلى غيرهم ، ولا يجلبون ما لدى الآخرين منها . * * * ودراسة تاريخ الإسلام السياسى والتشريعى مادة لابد من جمع المسلمين عليها . ومن المؤسف أن تاريخنا كتب بطريقة أدنى إلى الهدم منها إلى البناء . وأن الأطماع السياسية والمنابزات الجنسية تدخلت تدخلا منكراً فى تصوير الوقائع ومضاعفة آثارها والتمزيق الذى يقسم أمتنا فى هذه الأيام كما قسمها بالأمس ، يرتد إلى هذا التاريخ المغرض المشوه إن النزاع بين العرب والفرس ، وبين العرب والترك ، وبين بيوتات العرب أنفسهم ن جعل الاشتغال بالمعايب وتتبع السقطات أهم من دعم الفضائل وتسجيل الحسنات . ص _234(1/233)
وبذلك تحول تاريخنا إلى قصائد هجاء وإحصاء مثالب. ثم اختلطت الأهواء السياسية بالتوجيهات الدينية فتأدى ذلك إلى زلازل حاطمة، جعلت المسلمين فرقا يأكل بعضها بعضاً، حتى جاء الاستعمار الحديث فأتى عليهم جميعا. وأرى أن يؤلف " مجمع علمى " يتعاون رجاله على غربلة التاريخ الإسلامى كله غربلة قوامها نشدان الحق، وعلاج الهفوات الفردية، بما يرد للشعوب الإسلامية اعتبارها ويجمع شتاتها. فمن الجور أن يتحمل الترك أو الفرس، أو السود أو الصفر أوزار حاكم منهم، جار عن الصواب يوما، فتكتب سيئته على الأخلاف أبد الدهر. يقول الدكتور: " بحسب الشيع الإسلامية الحاضرة أن تتسع صدورها، وأن تتسع آفاقها، وأن تجتمع كلها على القرآن الكرب، وما صح عقلا من أحاديث رسول الله. وأن نظهر بهذين على الملا وفى الأسواق العامة. أما ما عدا هذين الأصلين فيكون للاستهلاك فى المنازل، أو فى الحظائر، فلا يرمى به أحد من وراء الجدران.! إنه كفى بالقرآن هدياً للمسلم، وكفى بالحديث. وعلى غير هذين العفاء. إنه كان فى عهد الرسول مسلمون اكتمل عندهم الدين، وهو قد اكتمل فى ظل القرآن والحديث ولا شىء غير هذين. " فلم يكن فقه ولا فقهاء ولا شيعة ولا أشياع ". هذا كلام حسن، والدكتور الفاضل لا ينفرد به ولا ينبغى أن يحس حرجا فى التصريح به، فإن جمهور المسلمين معه فيه. ماذا بعد الكتاب والسنة؟ إنه لا قداسة لشىء بعد وحى الله وهدى نبيه! وأجل علماء الإسلام وفقهاء الشريعة قدراً لا يعطى كلامه أية قيمة ما لم يعتمد من قريب أو بعيد على نص فى الكتاب أو فى السنة. ص _235(1/234)
والسؤال الذى نوجهه بعد ذلك للدكتور هو : كيف توفق بين هذا الكلام الواضح وبين قولك قبل ذلك : " الإسلام لا يمكن أن يبقى بدون فلسفة مؤسسة على العقل ؟ " . إن أهل النص فى الإسلام يسرفون على أنفسهم وعلى المسلمين ، حينما يجعلون النصوص وحدها مصادر الدين . والإسلام عانى من أصحاب النصوص ـ فى ماضيه وفى حاضره ـ الشىء الكثير ، فكان من المسلمين من اعتزل ، وكان منهم من كفر ، وكان منهم من بقى بين الكفر والإيمان . لا يدرى على أى جانبيه يميل ..!! ذلك لأن المسلم الذى يعلم أن الإسلام بنى الإيمان به على العقل ، ودعا إليه حجة وفهما ، لا يرضى أن يقال له فى سائر أشياء الإسلام بعد ذلك : أغلق عقلك أو اتهمه فما أنت فى فقه الإسلام من قليل أو كثير " . هل يريد الدكتور أن نحترم الكتاب الكريم والسُّنَّة الصحيحة ، أم نهملهما إلى فلسفة عقلية لا تتقيد بما ورد فيهما ؟ إن حفاوته بالكتاب والسُّنَّة تذكرنا بمدرسة أصحاب الأثر فى الصدر الأول ممن يزهدون فى كل حكم وراء النص . ولذلك نحن فى حيرة من دعوته الأخيرة إلى فلسفة عقلية يزعم أن لا بقاء للإسلام إلا فى ظلها ! ما خطوط هذه الفلسفة ، ومن أين تبدأ ، وإلى أين تنتهى ؟ قد يريد الدكتور ـ وإن قصرت العبارة عن مراده ـ أنه يوقر ما قاله الله ورسوله . ولكنه يكره تحكم المفسرين والمتكلمين باسم الإسلام ، ويرفض مذاهبهم فى الفهم والاستنباط .. إن كل هذا مراد الدكتور الفاضل فالخطب سهل . ومثله ممن يعلنون ولاءهم للكتاب والسُّنَّة ، لن يخشى منهم أن يحكموا الهوى أو الجهل فى النصوص الكريمة . ص _236(1/235)
إن النصوص التى قام عليها الإسلام كلام عربى عال، لا يدرك مراميه إلا أديب حسن الفهم قى اللغة. وأديب كأبى نواس ـ مثلا ـ لا يعرف بالعفاف والشرف، قد يجود فهمه للكلام، ولكن لا يؤمن هواه فى الحكم! فيجب إذن أن يؤخذ تفسير النص عن رجل فطن فى اللغة، وثيق فى الخلق. وقد تكلم الأقدمون فى هذا الشأن كلاما مستفيضاً، ليس الغرض منه خلق طائفة تحتكر الفتوى باسم الله. بل الغرض منه ترشيح مواهب معينة لمنصب الفتوى والقضاء والتفسير والتحديث …! إلخ. وشروط الاجتهاد المدونة فى صحائف الفقهاء لا تزيد فى شأنها عن التقاليد الجامعية المعروفة الآن فى منح الإجازات، وتقرير مراتب المعرفة وتحديد الفروق بين التلاميذ والأساتذة. فليقل من شاء: إنه لن يتقيد بأقوال الفقهاء فى شئون دينه لكن ليطمئننا أولا كيف سيفهم النصوص؟ أكما يفهمها العرب العقلاء العدول؟ أم أنه سيدوس القواميس والقواعد والتاريخ الثابت لأنه يريد تحوير النص إلى هوى فى نفسه هو هذا هو الفيصل الذى نقف عنده. * * * * على أن فى كلام الدكتور ما يجعلنا نسأل مرة أخرى عن كنه الفلسفة العقلية التى يريد أن يدعم بها الإسلام. فإن المنهج العلمى الحديث ضيق دائرة الفكر الفلسفى بعد ما جعل عمدته فى استكشاف الحقائق منطق التجربة والملاحظة والاستقراء. ص _237(1/236)
إن الفلسفة فى المجالات الباقية لها أصبحت كالشعر الحالم، يهيم فى كل واد ثم يعود من تجواله بعاطفة خاصة أو خيال مستلطف. وقد قرر الدكتور نفسه ذلك إذ قال: "... إن العلم لم يبق منها ـ أى الفلسفة ـ إلا ذلك الجانب، جانب ما وراء الطبيعة ـ وفيه تشيع معان أخرى قوامها ـ فلسفة الحدس والتخمين، يدورون فيها ما يدورون -يعنى الفلاسفة- ولا يقر علماء الطبيعة أنهم يجيئون بشىء ينفع أحداً ..". وهذا صحيح، وخير للمسلمين، وللعالم كله أن يهمل هذا الضرب من التفكير الفلسفى، وأن يمنع تسلطه على الإسلام.. إن للعلم كلمته المسموعة فى ميدان الطبيعة والحياة. أما فى العقائد والعبادات، والأحكام والأخلاق، فإن الدين كلمته هى التى ينبغى أن نصيخ إليها فى خشوع. ولن يكون هناك خلاف ـ ألبتة ـ بين داعى العلم وداعى الدين. لأن كليهما ـ إذا صح ـ ينبجس من معين الحقيقة الواحدة فى الأرض والسماء.. *** ص _238(1/237)
الإسلام والمدنية الحديثة كانت مقالة الدكتور " أحمد زكى " هذه المرة مفاجأة لى ولجمهور النقاد الذين يتوقعون الإحكام فى استدلاله، والقصد فى عرضه وحكمه. فلما بدأ يقول عن المدنية الحديثة: إنها مدنية نصرانية، أو على الأقل نشأت فى حجر النصرانية!! وجم القارىء والسامع، وعاد كثير منهم يتساءل عن قيمة الكلمات التى ألفوا من الدكتور قبولها والاطمئنان إليها. إن هذه المجازفة فى الوصف أشاعت الريبة فى نفوسهم وجعلتهم يكنون الحذر عندما يطالعون كتاباته فى هذه الشئون. ذلك أن أحداً من المؤرخين للفكر أو للدين أو للسياسة لم يقل: إن النهضة العلمية الغربية تربت فى حجر النصرانية. بل إن أحداً لم يقل: إن هذه النهضة وجدت ذرة من عطف الكنيسة عليها، بل العكس تماما هو الثابت. فإن هذه النهضة سارت وسط حطام من الأشلاء، ورشاش من الدماء، وقع على رجالها من سدنة النصرانية ورعاة الكنيسة. فكيف يقال: إنها مدنية نصرانية، ترعرعت فى أحضان الكنيسة ؟؟. ويظهر أن الحوادث التى يستحيل نكرانها ردت الدكتور الفاضل إلى نطاق الحق مرة أخرى وجعلته يقول: " فالعلم الحديث، والمدنية الحديثة التى هى وليدته، لم يكونا من نتاج النصرانية، بل قاما -أول الأمر- على الرغم من النصرانية!! وبقول: -كذلك- النصرانية الرسمية لم تشجع العلم. ولماذا نتطلف؟ فلنقلها قولة صريحة: إنها خاصمته أ. هـ!!. هذا هو فهم الدكتور لصلة النصرانية بالمدنية الحديثة، وهذه هى تعبيراته الأولى والأخيرة. ص _23 ص(1/238)
ونحن ـ الذين نغالى بمكانته ـ نرجوه أن يترفق بنا فلا يوقعنا فى هذه النقائض المبهمة!!! إن تحرير المراد وضبط العبارة المؤدية له لابد منها فى هذه السياقات الحساسة. ذلك أننا نتكلم فى شرائع الله ورسالات أنبيائه. وقد اهتز كلام الدكتور مرة أخرى، وهو يقول: " إن الدين المسيحى لم يأت أهله بالشىء الكثير.. فكان لابد من وجود شىء يسمى الكنيسة يقيم ما فات السيد المسيح أن يقيمه، ويملأ الفراغ المتخلف، ويسد ثغرة فى العقائد كان لابد من سدها ". هذا كلام من الناحية الدينية خطأ بحت، فإن الله لم يرسل واحداً من النبيين بشريعة ناقصة فى مضمار العقيدة. إن أصول الإيمان أتى بها موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم كاملة. وليس لبشر، ولا لمجمع، ولا لكائن، مهما علا شأنه، أن يضيف إلى العقائد أو العبادات جديداً من لدنه. ومن حق عباد الله جميعاً أن يرفضوا الاعتراف بأية إضافة من هذا القبيل. وهم بهذا الرفض يطيعون الله، ويصلون إلى رضاه. ومن حقى -وأنا مسلم أومن بعيسى ومحمد معاً- أن أقول: إن عيسى لم يدع وراءه فراغاً فى شئون العقيدة أو العبادة، يستدعى وجود هيئة ما تشرف على ملته.. أما شراع المعاملات والأحكام وما إليها، فإن رسالات السماء عرضت لبعضها إجمالا أو تفصيلا، ثم تركت الحكم فى الأعراض المتجددة للقواعد العامة أو لآراء المجتهدين. وليس هناك مكان لوصاية موهومة بين البشر وربهم. ومزاعم رجال الكنيسة فى المسيحية، أو رجال الطرق عندنا، لا أساس لها ولا ص _240(1/239)
وليس يقبل من الدكتور " أحمد زكى " أن يتخيل عذراً أو مساغاً لرجال الكنيسة الأولين أو الآخرين فى اختلال المكان الذى فرضوه لأنفسهم، وخصوصاً فى مجال الاعتقاد. فإن عيسى لم يترك فراغاً لأحد فى هذه الناحية من الرسالة التى بعثه الله بها. * * * * أما صلة الفلسفة بالدين، وصلة الفلسفة الإغريقية ـ خاصة ـ بالحضارة الحديثة فمسألة أحب أن أقلبها على وجوهها، ولا أريد أن أغلب رأيى ولا رأى الدكتور فيها. ولعل ذوى البصر بالتاريخ يساعدوننا على استبانة الصواب. إن اشتباك الفلسفة بتعاليم الدين، هو فى نظرى ضرب من لبس الحق المقطوع به بالظن الحائر المضطرب. وكما نجح العلم الطبيعي ودنت ثماره لما هجر الفلسفة الطبيعية ومناهجها، كذلك يجب أن يسير الدين بعيدا عن فلسفة ما وراء الطبيعة، وما تضمنته هذه الفلسفة من أوهام وخبط.. من فلاسفة الإغريق من زعم أن العالم محاط بغلاف من النيران الملتهبة. وأن الشمس والنجوم التى تتألق ليلاً، ليست إلا ثقوباً فى هذا المحيط النارى. ومنهم من جعل الكون مخلوقاً من عناصر معينة هى الهواء أو الماء، ومنهم. ومنهم. وليس المهم أن هذا حق أو خرافة، وإنما المهم منهج التفكير الذى يتمخض عن هذه النتائج!. إنه منهج سقيم، إنه ضرب من اللغو أو اللهو!!.. فلما قام فى العالم المنطق التجريبى والرياضى، تحددت الوسائل التى يطلب بها الحق، وظفر علماء الكون والحياة بمعارف رائعة. وبهذا طردت الفلسفة الطبيعية طرداً من هذا الميدان. فإن كان أسلوب الفلسفة كلها واحداً فى تعرف الحقائق، فأى معنى لاحترام فلسفة ما وراء الطبيعة، أو التعويل على النتائج التى تفد بها؟؟. ص _241(1/240)
إن الدين ثروة من الأحكام، نقلها المعصوم عن رب العالمين، فى مجال لا اجتهاد فيه لبشر، ولا مكان فيه لتظن. فإذا تحدث هذا الإله عن نفسه، وعن صفاته، وعن شرائعه التى ارتضاها لعباده، فمن السخف أن نخلط هذا الحديث بتخيلات رجل يعتزل فى ناحية ثم يقول: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وإن مصدر الوجود تولدت عنه عقول ثمانية وأفلاك سبعة !!. أو أن هناك عالماً من المثل تلتقى عنده نماذج الخير والشر إلى آخر ما تضمنت الفلسفة الإلهية من شطحات. إن إلزام أهل الدين بسماع هذا الهراء، كإلزام أهل العلم بقبول كلام "أنا كسيمندر" و" أنا كسمين " فى خلق العالم من ماء، أو من خمر!!.. * * * * وليت أهل النصرانية، وأهل الإسلام صانوا أديانهم عن مقالات الفلاسفة. إذن لبقى لها رواؤها السماوى، ولما التبس الوحى الأعلى بتخرصات الأرض. فالمحزن أن علوم العقيدة ـ عندنا نحن المسلمين ـ شابتها أوهام الهنود الإغريق فعكرت صفوها، وبذرت فيها بذور الفرقة والزيغ. وإننا لنبذل الجهود الآن لتخليص العقيدة من مصطلحات الفلاسفة وتقاسيمهم لتعود إلى بساطتها الأولى فى كتاب الله وسنة رسوله. أما تأثر النصرانية بالفلسفات القديمة فأمر معترف به. لقد قامت " الأفلاطونية الحديثة " تمزج بين الفلسفة والدين مزجاً تميزت به مدرسة الإسكندرية، وعرف لرجالها كأفلوطين وفيلون وغيرهما. وتأثر هذه الديانة بالرواقية الإغريقية لا ينكر. بل إن فلسفة التثليث تعتبر طارئة على تعاليم العهد القديم وأنبيائه جميعاً. وهى -فى نظرنا- مقتبسة من فلسفة الهنود وقدماء المصريين. إن الكنيسة لم تحارب الفلسفة القديمة.. بل خاصمت العلم الحديث. وقصة " غاليليو " التى ذكرها الدكتور تشهد لهذا. ص _242(1/241)
فإن القول بكروية الأرض بحث علمى، وإقراره لا يخدش تعاليم الإنجيل، ومحاربته - باسم الله - موقف من الكنيسة القديمة غير مفهوم. إننى أود أن أتهكم - مع الدكتور - بقوم يعيشون فى هذا العصر مغمضى أعينهم وسط أشعة من المعرفة اكتشفت العجائب. إن القاصرين فى آفاق العلم أقل الناس علماً بالإسلام، وأوهاهم صلة بالله، وأبعدهم عن مناهج الرشد التى اختطها الله فى دينه. ولكنى لا أتهكم مع الدكتور بأقوام لا سهم لهم فى الفلسفة، خلت بلادهم من بحوثها وصحائفها، لأن لفظ " فلسفة " إذا ذكر يوحى بمعان لا تتصل بالإيمان من قريب، وقد يستعاذ بالله منه - كما يقول الدكتور. والغريب أن الدكتور يذكر أن المسلمين امتحنوا قديماً ببعض ما امتحن به المسيحيون فى عهد المأمون وأخلافه، لما دخلت الفلسفة الإغريقية إلى الدولة العربية الإسلامية. وهذا غير صحيح، فالمأمون حابى التفكير الفلسفى على حساب الإسلام. وأغرى الخاصة والعامة أن يقتحموا بحثاً لا جدوى منه ألبتة، وهو أن القرآن مخلوق لا قديم. فجاء المتوكل فأبطل هذا الهزل. ترى لو اشتغل المسلمون قرونا أخرى بالفلسفة الإلهية أكان ذلك يجديهم شيئاً فى دين أو دنيا؟؟ كلا. إن الفكر الأوروبى لم يتحرر ولم يستطع السير إلى الأمام، إلا بعد أن رمى فى ازدراء آثار الفلسفة الإغريقية الأولى.. بل إن أنفس ما فى الفلسفة، وهو منطق " أرسطو " لم ينج من قدح أساطين النهضة الحديثة. فعده " ستيوارت ميل " أداة جدل عقيم، أو وسيلة لتنظيم معلومات موجودة. أما الإتيان بجديد نافع فله منطق آخر، يقوم على دراسة كتاب الكون المفتوح "أى الاتصال المباشر بالطبيعة والحياة ". ص _243(1/242)
ومن ثم فلسنا نسلم للدكتور قوله: إن العلم الإغريقى والفلسفة الإغريقية هى التى بدأت العلم الحديث بأوروبا فالمدنية الحديثة. * * * * ولنعد بعد هذا اللف الطويل إلى علاقة الإسلام بالمدنية الحديثة. ولأصارح القارئ بأن حديث الدكتور " أحمد زكى " عن هذه العلاقة جعلنى أسائل نفسى: هل أنا ذاهل أم واهم؟. إن هناك معركة واسعة تدور لمنع المسلمين من الأخذ بهذه المدنية. هكذا يريد أن نفهم.!!! وقد تتبعت أطوار هذه المعركة وأنباءها فلم أجدها إلا فى مقاله. واستمع إلى عبارته كاملة: " المسلمون يتقبلونها اليوم -يعنى العلم والمدنية- عن طواعية، لولا محافظة من الفقهاء شديدة بالغة، تصور للناس أن العلم والدين شيئان متعارضان!!. فينزل وقع ذلك ثقيلاً على شباب المسلمين. ويتنازع الشباب علم ودين، فتكون الغلبة للعلم، والغرم للدين. وأى دين هذا؟ إنه ليس الإسلام الذى جاء به محمد، إنه إسلام بناه فقهاء المسلمين على مر القرون، اختلط فيه الحابل بالنابل. فما يدرى أحد أيها الدين وأيها غير الدين ". أين هذه المعركة بين العلم والدين؟ وأين هى بين الفقهاء والمدنية؟. إن الجاهلين بأحوال الأمة الإسلامية عندما يسمعون هذا الكلام يظنون أن فقهاء الإسلام طبقة من الكهان يقفون صفاً مرصوصاً دون أن تنفتح أبواب البلاد للعلم الحديث، وأنهم يعوقون السلطة الزمنية عن الأخذ بالنصيب الواجب من الحضارة الإنسانية الجديدة. وهذه صورة لا صلة لها بالواقع، ولا ندرى مأتاها إلى ذهن الكاتب!!. إن فى المسلمين أمية غالبة، وقصوراً فى شئون الحياة، وتخلفاً فى ميادين الاقتصاد والإنشاء والتعمير، وعجزاً فى الفنون العسكرية، وقلقاً فى أحوالهم العامة. ص _244(1/243)
وهم - وأنا أعنى ما أقول - يسيئون إلى دينهم بهذا الضعف أكثر مما يسيئون إلى دنياهم. وقد شرعوا الآن يتخففون من أثقال الجهل الذى أزرى بهم، ويعودون إلى الإدراك الحق لطبيعة دينهم وحياتهم على سواء. والمسئول عن هزيمتهم أولا، ليسوا طائفة تسمى رجال الدين، لأن هذه الطائفة وما تستتبع من مراسيم روحية ومدنية لم يعرفها الإسلام قط. إن الاستبداد السياسى، والجور الاجتماعى، والتعصب الجنسى، كانت هى المزالق التى هوى فيها تاريخنا، وكانت-كذلك - المظاهر التى خرج فيها على طبيعة الإسلام. * * * * * ولقد كان الدكتور " زكى أبو شادى " أبصر بطبيعة الإسلام وأعرف بالثمار التى تجتنى من تعاليمه عندما تساءل: ما هو إذن موقف الإسلام من الحضارة؟ ثم أجاب: " إن موقف الإسلام من الحضارة هو الموقف المنتظر من الأب البار نحو ابنته، أجل ، إن الإسلام يعتبر الحضارة سليلته لأن دستور التقدم الإنسانى بالقرآن العظيم، وكل عامل يؤدى إلى رقى البشرية هو منه وإليه، وكل ما ناهض هذا التقدم غريب عنه وكثيراً ما نقرأ عن التوفيق بين الحضارة والإسلام، وهذا التعبير -فى الواقع- تعبير خاطىء إذ لا خلاف مطلقاً بين الإسلام والحضارة، فالحضارة نتيجة من نتائج النظام الإسلامى والفلسفة الإسلامية العملية. والحضارة الإسلامية - أى المترعرعة فى كنف الإسلام - حضارة شاملة عامة، لأن روح الإسلام عالمية، فهى لا تعرف التعصب إطلاقاً - اللهم إلا للخير العام -. وفى سبيل الخير العام تقتبس من مدنيات شتى وتتبناها وتشجعها وتصهر حسناتها جميعاً فى بوتقة التسامى الإسلامى. إن الإسلام، الدين العالمى التقدمى، لم يتخل ولن يتخلى عن أى فكر صالح أو عمل نافع كيفما كان، وأينما كان مصدره وعصره وأصحابه. إذ يعد كل ذلك ثمرة تعاليمه ونتاج تبشيره. وفى عصرنا الحاضر خاصة، إذ تحدثنا عن أية نهضة أو حضارة مفلحة محسنة تمثلنا فوزا الإسلام الكريم بتعاليمه النورانية التى شعت شرقاً وغرباً(1/244)
وأخذت يد ص _245
الإنسانية فى مدارج الحياة الشريفة. فإذا زرنا المختبرات والمصانع والمتاجر والحقول وتأملنا المخترعات ومظاهر المدنية الرفيعة فنحن فى كنف الإسلام العملى، وبعبارة وجيزة: إن الإسلام تمتد جذوره وفروعه إلى جميع نواحى الحياة الجديرة بأن تعز والكفيلة بسعادة الإنسانية، والمدرسة الإسلامية التى تمثل التفكير الإسلامى الحق لا تعرف شيئاً اسمه التوفيق بين العلم والدين، إذ أنها تعتبر العلم أداة للدين أو مظهرا له، لأن العلم يفصح عن عظمة الوجود وعن أزلية الله سبحانه وتعالى، ولأن الدين سلوك أدبى نقى، والسلوك الذى يعارض العلم أو يناهضه لا يمكن أن يعتبر سلوكا أدبيا. إن الصالح العام يتمشى مع العلم وتطبيقه، وما يعارض الصالح العام هادم للخلق القويم، هادم للسلوك الأدبى، وبالتالى هادم للدين، أ. هـ. * * * * * ومع ذلك فإن أنصبتنا من التقدم العام لا تزال قليلة مخزية؟ وقد تسأل: من الذى يحمل تبعة هذا التخلف؟. إنهم الرجال الذين اتصلوا بالغرب ولم يحسنوا فهمه ولا النقل عنه. إنهم -فى نظرى- المتهمون الأوائل فى هذه القضية..!! إن الحضارة الحديثة لباب وقشور، وعمل وترفيه، وجد ومجون. فمن ينقذنا من أقوام لا يريدوننا إلا مقلدين للقشور والمجون والترفيه فحسب؟ لقد قرأنا أن البرلمان الأمريكى - بعد تسعة شهور من البحث والإنتاج والمناقشة- ختم جلساته بحفلة سادها الصفير والرقص والغناء. فهل التقاليد البرلمانية التى تعرض علينا ونطالب بها هى الصفير والرقص. إن الشرق الإسلامى فى مطالع يقظة جديدة. وهو أحوج إلى العمل منه للعبث، بل إنه قد يكلف بتضحيات ومغارم ثقيلة، بإزاء طمع المستعمرين وإصرارهم.. ومن نكد الحظوظ أن يبتلى بمن يصور له المدنية الحديثة خروجا على مقتضيات الإيمان والخلق، ولا يصورها له على أنها ارتقاء إنسانى فى استغلال الكون، ومماشاة الفطرة المستقيمة بين جماهير الأحياء. ص _246(1/245)
خاتمة اقترن ظهور الإسلام بحركة إحياء عامة، تنفست بها المشارق والمغارب كما يتنفس الصبح بعد ليل حالك طويل. وفى هذه البكرة الصاحية انتفض البشر انتفاضة الانتعاش والنشاط، ودبت فى أوصالهم روح العمل لمستقبل أفضل وحياة أكرم. لقد شعر الناس ـ بعد ما استمعوا إلى القرآن ـ أنهم متخلفون مسافات طويلة عما يجب أن يبلغوه من رقى وكمال. وشعروا أن الآفاق التى ينقلهم الوحى الجديد إليها تتقاضاهم أن يشمروا عن سواعدهم، ليحرزوا ما فاتهم ويدركوا ما يطلب لهم. وهذه اليقظة الشاملة قوامها انفلات العقل من الآصار التى أثقلته وأوهنته، واستقباله الدنيا بنظرة تحق الحق وتبطل الباطل، وتنبذ الأوهام الأولى، وتنشىء أحكاماً جديدة لكل ما تعالج أو تواجه من شئون الحياة.. إن الأرض عندما طلع عليها الإسلام لم تنسلخ من إهابها البالى العفن فحسب بل تغيرت حقيقتها تغيراً نقلها من طور إلى طور. فعرفت حرية الفكر، وأكدت حقها فى كل ما يعلى قدر الإنسان ويبوئه فى الوجود مكانته اللائقة، وسقطت -فجأة- دولة الأصنام فى ربوع الجزيرة الخرفة ثم تساقطت تباعا سلطات الكهانة الدينية والسياسية التى استندت بالقارتين المعمورتين فى هذه الأعصار، آسيا، وأفريقية. وتوالت الانفجارات فى الوعى العام، مصحوبة بالتطلع إلى مزيد من العدل الاجتماعى والكرامة السياسية. وكان الإسلام فى هذه التطورات الرائعة باعث النهوض وحافز الهمم، وسر الطفرات الغريبة التى عمرت وجه الأرض بعد خراب، وأخصبته بعد محل. كان هذا الدين عقيدة تقدمية، ينظر الناس إليها نظرتهم إلى حضارة مقبلة بالمعرفة واليمن، لا ينتسب إليها إلا من حاز حظاً معيناً، من زكاة النفس، وذكاء العقل، وقبول الترقى. ص _247(1/246)
فمن التحق بها فقد سار مع القافلة المتجددة المتطورة مع الزمن. ومن بقى مكانه فهو امرؤ جمد مع الماضى الذى أزرت به الخرافة، وحق عليه الهوان. * * * * * إن حرية النظر فى ملكوت السماء والأرض، وحق النقد لما يتردد من مذاهب وآراء، والنظر إلى الإنسان على أنه مستخلف عن رب العالمين فى ربوع هذا الكون الضخم، واعتبار آفاقه محاريب، التأمل فيها إيمان، واستخراج سرها وخيرها عبادة.. إن ذلك كله بعض ما تركه الإسلام، من آثار فى سير العمران البشرى. وفى ازدهار الحضارة ببلاد الإسلام أخذ على المسلمين أنهم أسرفوا فى الاستمتاع بما أتاح لهم الإسلام من حريات. وأطلقوا العنان لأفكارهم تفكر فيما وراء المادة وكأنما فرغت من البحث فيما بين يديها وما خلفها! وإذا كانت للجمود علل مهلكة، فإن للتهور عللاً لا تقل سوءاً عن الأولى. لقد ظل التفكير الإسلامى يتأرجح بين مختلف التيارات، وتناوشه شتى الأهواء والنزعات، حتى شرد عن سواء السبيل. ثم قام -إلى جانب هذا الجماح- قوم آخرون يشدونه إلى الخلف ويكثرون حوله السدود. فإذا الحضارة الكبيرة يعروها من الاضطراب ما يوقف مدها، ويضلل سعيها. ولسنا هنا بصدد تأريخ لتطور الفكر الإسلامى ، أو رسم خط بيانى يشرح صعوده وهبوطه، والتواءه أو استقامته.. فذلك يحتاج إلى كتاب منفرد. وكل ما نحب الإشارة إليه: أن المسلمين وصلوا -منذ بضعة قرون- إلى درك سحيق، إذ استفحلت العلل التى أصابت كيانهم. وما زالت تلح عليهم حتى رجعتهم عن الطليعة التى بلغوها قديماً عن جدارة، فتأخروا إلى الصف التالى، ثم تأخروا إلى صف وراءه. ص _248(1/247)
ثم ظلوا يتقهقرون حتى بلغوا أوائل القرن الرابع عشر للهجرة.. منزلة ليس وراءها هوان. كان العالم يرمق المسلمين الأوائل، كما يرمق السارون فى الدجى مطالع الكواكب. أما اليوم، فهو يرمقهم كما يرمق السابح فى القمم، قطعانا تتواكب فى السفوح!.. ولئن كان الأسلاف الكبار قد تصدروا عن جدارة. فإن الأخلاف الصغار قد تراجعوا وذلوا عن جدارة كذلك!! الأولون سادوا يوم كانوا -أفراداً وجماعات- نماذج عالية أو مقاربة لما ينشده الإسلام من فضائل، ولما دعا إليه الناس من سيرة ومعاملة. والآخرون ضاعوا يوم اتخذوا هذا القرآن مهجورا، وانتسبوا إلى نبيه كما ينتسب الابن العاق إلى أبوة فذة، يحمل اسمها فخراً وادعاء، ثم يعاشر الأنام، فلا ترى فى فعله إلا أحوال السوقة والصعاليك.. وحضارة الإسلام لا تغرى أحداً بالانضواء إليها، لأن لها كتاباً مصوناً وسنة ماجدة. وإنما يسمع لها ويؤخذ عنها، إذا كان لها مجتمع حى يقوم بها ويعيش عليها.. إن سطور الحق فى بطون الكتب لا يميزها الناس عن الأساطير. ولكن الناس يعرفون الحق ويعجبون به، إذا رأوه منهاج أمة، وآمال ناشئة، وتقاليد جيل بأسره. يفرح ويحزن، وينكسر وينتصر، وهو مرتبط بها محسوب عليها.. وأمامى الآن رسالة كتبها الإمام " محمد بن على الشوكانى " الفقيه المحدث، الذى ولد من مائة سنة تقريباً، يصف بها حال المسلمين فى قطره " اليمن ". والوصف الذى سنقرؤه هو لفساد لم يبرز إلى الحياة دفعة واحدة، بل تمخضت عنه أحوال ظلت قرابة مائتى سنة أخرى. أى أن التدهور الذى أصاب أمتنا بدأ من أربعة قرون، إن لم يزد!. ص _24 ص(1/248)
وعندما كان الشوكانى يصف الجهالة الفاحشة التى رآها، كان الفرنسيون يهاجمون مصر، وينزلون جندهم بالإسكندرية فيراها الأهلون وكأنما يرون جنداً قذفت بهم جزيرة مسحورة من النوع الذى درجوا على قراءته فى ألف ليلة وليلة. أين كنا من الدنيا؟ وأين كانت الدنيا منا فى هذه الحقبة العصيبة؟. لقد كنا فى غيبوبة تستحق الرثاء. ولنسمع إلى الشوكانى يصف مسلمى بلاده، والأحوال النفسية والاجتماعية والسياسية التى لم يعرفوا غيرها قال يصف الحاكم- القائم على سلطة التنفيذ: " إنه لا عمل له إلا استخراج الأموال من أيدى الرعايا، من حلها ومن غير حلها، بالحق وبالباطل، مستعيناً على ذلك بالمشايخ الذين هم من العرفاء المنصوص عليهم من صاب الشريعة أنهم فى النار. يتسلط كل واحد منهم على من تحت يده من المستضعفين، فيصنع بهم كما أراد وكيف أحب. وهو مفوض فى أموالهم باسم ذلك الحاكم يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء. ولم يسمع -على تطاول الأيام وتعاقب السنين- أن أحداً من هؤلاء الحكام أمر الرعايا بما أوجب الله من الفرائض التى لا فسحة فيها ولا مندوحة عنها، أو نهاهم عن شىء من المنكرات التى يرتكبونها. بل جرت عادة كثير من الحكام والموظفين أن يأخذوا فى مقابل ترك الصلاة شيئاً من السحت " يعنى الرشوة!!.. وكذلك فى المحرمات المجمع عليها كالزنا والسرقة وشرب الخمر!!.. إذا وقع أحد من الناس فى شىء منها كانت عقوبته أن يدفع شيئاً من ماله لينجو من عواقبها. فانظر أى فاقرة فى الدين ولاية مثل هؤلاء الحكام؟ وأى قاصمة لظهر الشريعة؟ وأى شر يصيب العالم؟ وأى بلاء صب على دين الله؟ وقد ينضم إلى هذه المخازى - التى تقع من الحكام- أن يرابوا على رؤوس الأشهاد رباً مجمعاً على تحريمه، وأن يصحبوا جماعات من المتعاملين بالربا، ويسلطوهم على الأمة لتحمل أوزارهم وتمدهم في غيهم. والربا هو الذنب الذى ص _250(1/249)
توعد الله بحرب فاعله. وحرب الله ليست قاصرة على نزول حجارة من السماء، بل قد تكون بغلبة من يهتك المحارم. وسفك الدماء... ". قال الشوكانى ـ يصف القاضى القائم على حق الفتوى والحكم بما أنزل الله ـ : قال: ".. إنه رجل جاهل بالشرع إما جهلا بسيطاً أو جهلا مركباً. أقصى ما يدريه ما يعرفه وكيلا الخصومة. وممارس حضور الجلسات. من مسائل تدور على الدعوى والإجابة وطلب اليمين والبينة. وليس له من العلم غير هذا. لا يفقه حقاً ولا باطلاً، ولا معقولا ولا منقولا ولا دليلا ولا مدلولا.. لا يعى شيئاً من أمور الشرع فضلا عن أمور العقل! غاية ما هنالك أنه اشتاق أن يدعى قاضياً ويشتهر اسمه فى الناس ويرتفع بين معارفه وأهله فعمد إلى الثياب الجميلة فلبسها، وجعل على رأسه عمامة كالبرج! وأطال ذيل كمه حتى صار كالخرج! وتظاهر بالسكينة والوقار!! واستكثر من قول نعم ويعنى!! وجلل له سبحة طويلة يديرها فى يده!!. ثم جمع له من الحطام قدراً واسعا، وذهب يدور به على الأبواب، ويتردد فى السكك مستعيناً بالشفعاء المرتشين، ليشتروا له هذا المنصب الجديد... ". قال: ".. وكيف يهتدى إلى فصل الخصومات بالحق، جاهل اشترى وظيفته كما يشترى المتاع من الأسواق؟ .. إن ولاية مثل هذا المخذول خيانة لله ولرسوله ولكتابه، وللعلم وأهله، وللدين والدنيا. .. إنه لا فرق بين من بعث مثله ليحكم بجهله وبين من بعث رجلا من أهل الطاغوت ليحكم بهواه. ويحيد عما أنزل الله. بل بعث هذا أعظم ذنباً وأشد معصية لأنه تلبيس على الشرع الشريف وخديعة لجمهور المؤمنين. قال: ".. ذاك حال الحكام والقضاة. أما الرعية فأكثرهم لا يحسنون الصلاة ولا يعرفون ما تصلح بها. بل لا يوجد منهم من يتلو سورة الفاتحة تلاوة مجزئة إلا ص _251(1/250)
فى أندر الأحوال، والإخلال بالصلاة والتساهل فى أدائها صار دأبهم وديدنهم! أما من يحسنها ويواظب عليها فهو أقل قليل، بل هو الغراب الأبقع والكبريت الأحمر"!! قال: ".. وغالب الرعايا لا يصومون، وإن صاموا ففى النادر من الأوقات، ولا يكمل صوم رمضان منهم إلا القليل!! وكم يعد العاد من واجبات يخلون بها، وفرائض يضيعونها، ومنكرات يواقعونها. وما أكثر ألفاظ الكفر والارتداد التى لمجرى على ألسنتهم، وما أكثر استغاثتهم بغير الله، من نبى أو ولى أو صحابى أو سائر الموتى ". قال ".. وهذه حال بلاد تخضع لحكم الدولة، أما الأقطار الخارجة عن أوامر الدولة ونواهيها فإن الأمر فيها أشد وأفظع، وربما وصلوا إلى درك بعيد أقصى البعد عن تعاليم الإسلام الظاهرة، بل إن كلمة الشهادة التى هى مفتاح الإسلام لا ينطق بها الناطق منهم إلا على عوض. أما احتكامهم إلى من يقضى بينهم بغير ما أنزل الله فقد شاع دون حياء أو إنكار، أو تحرج. وقد أجمعوا على قطع ميراث النساء، وتعاضدوا على فعله، وأغلبهم يستحل الدماء والأموال ولا يتورع عن شىء يقدر عليه منها. ولا ريب أن هذا كفر بالله ورسوله، بل كفر بجميع الشرائع من لدن آدم إلى الآن.. ". قال ".. إذا كانت هذه أمور المسلمين العامة والخاصة، فانظر بعقلك، هل مثل هذه الأمة تستحق عقاب الله وحلول نقمته، أم تستحق لطفه وتوفيقه ودفع الفتن الطائحة بالأموال والأنفس "، (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) أ. هـ. * * * * والشوكانى وأمثاله من علماء الإسلام يعنون بمسافة الخلف بين المسلمين ودينهم، وينعون على الأمة تفريطها فى هدايات الله التى سيقت إليها. وقد أبرز لنا صورة مقبضة عن إهمال المسلمين لكتابهم، وعن تحولهم إلى قبائل من الهمل انفرط عقدها فليس يمسكها نظام من أدب أو وازع من قوة. ونضيف نحن إلى ما كتبه الشوكانى، أن تخلف المسلمين الاجتماعى والخلقى فى هذه الأعصار لا يعدله إلا تخلفهم فى شئون الدنيا وآفاق الحياة. ص(1/251)
_252
فإن ضعف أخذهم بتعاليم الإسلام أخطر أثرا مما يبدو لأول وهلة. إن الإسلام لم يكن قشرة رقيقة تكسو أفئدة الأولين، ويمكن الانسلاخ منها مع بقاء كل شىء على وضعه الأصيل، كلا، لقد كانت هذه التعاليم جزءاً من يقظتهم العقلية وفضائلهم النفسية، بل لقد كانت الروح الكامن فى كل نهضة والمدد الباعث على كل تقدم. فلما ضعفت، تخاذل ما وراءها واستحال رفاتا هامدا بعدما كان جسداً نابضاً. أجل!. إن حضارة المسلمين فى فنون الحياة وأنحاء العمران، والأنصباء الجزلة التى حصلوها من المعارف الكونية والنبوغ المادى، لم تجئ إلا عقب تشبعهم بالثقافة الإسلامية وتذوقهم لما فيها من حرية وانطلاق وسماحة وإشراق. فلما فسدت هذه الثقافة في أيديهم، أو لما عجزوا عن التحليق إليها والإفادة منها باءوا بالفشل فى أحوالهم جميعا. لا فارق هنالك بين العبادات والعادات، بين الأدبيات والماديات، بين تخطيط المجتمع بالفضائل والتقاليد النبيلة، وبين تخطيط الأرض بروائع الهندسة والعمران... إن الأمة التى أهملت قول الله، (حافظوا على الصلوات) هى التى أهملت قول الله، (انظروا ماذا في السماوات والأرض). والتى أهملت قوله: (أفلم يدبروا القول). هى التى أهملت (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها). ولو أن أمتنا أخذت بنصف هذه النصوص وأضاعت نصفها الآخر لانتهى هذا بها إلى أن تكون ممن قيل فيهم (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض). إن الحضارة الكاملة لا تتم إلا باستجابة كاملة لهذه التعاليم كلها. ولقد كان الأسلاف الكبار طليعة مرموقة بالإجلال والإعزاز فى دينهم ودنياهم معا ، وكانت نظافتهم البدنية والروحية ومدنيتهم التى تجاور فيها معاشهم ومعادهم مثلا يحتذى أو نسقاً يحتفى به المؤمن والكافر.. وتستطيع أن تدرك المدى بين تقدم " أوروبا " الآن فى النواحى المدنية وبين تأخرنا لتعرف البون بين ما وصلنا إليه قديما من ارتقاء شامل وما كانت عليه حالة العالم(1/252)
بالنسبة إلينا يومئذ. ص _253
قال " يوسف كوندى " سيد المؤرخين الأسبان مؤبنا خروج العرب من أسبانيا ومعلقاً على ما أصاب البلاد بعد رحيلهم. ".. وهكذا اختفى من الأرض الإسبانية إلى الأبد ذلك الشعب الباسل اليقظ، الذكى المستنير، الذى أحيت صناعته النشطة أرض الأندلس، هذه الأرض التى أسلمتها كبرياء " القوط " الخاملة إلى الجدب، فلما تسلمها العرب استدر عليها الرخاء وفاض، بعد ما احتفروا لها عديد القنوات. ذلك الشعب الذى أحاطت شجاعته العظيمة -فى السعود والشدائد معاً- عرش الخلفاء بسيج من البأس، والذى أقامت عبقريته -بالمران والتقدم والدرس- صرحا خالداً طالما انبعث ضوءه ينير أوروبا ويلقى فيها بذور الشغف بالعلم والعرفان. " هذا الشعب الذى كان روحه الشهم يطبع أعماله كلها بطابع لا نظير له من العظمة والنبل، ويسبغ عليه فى نظر الخلف لوناً غامضاً من العظمة الخارقة ودهانا من البطولة الساحرة. ظهر العرب فى إسبانيا فملؤوها بنشاطهم وبراعتهم ثم خرجوا منها حاملين أموالهم وفنونهم، فماذا أنشأ الأسبان مكانهم؟ لا نستطيع أن نجيب بشىء إلا أن حزناً خالداً يغمر هذه الأرض وكانت من لتبل تتنفس فيها أبهج الطبائع!. " إن هناك بعض الآثار المشوهة ما زالت تشرف على هذه البقاع الموحشة ولكن صرخة الحقيقة تدوى من أعماق هذه الآثار، ومن صميم هذه الأطلال الدارسة، تلقى فى الأذان والأفئدة أن الشرف والمجد للعربى المغلوب، والتدهور والبأساء للأسبانى الظافر " أ. هـ. وكتب " لاين بول ": " لبثت أسبانيا فى أيدى المسلمين ثمانية قرون، وضوء حضارتها يبهر أوروبا إذ أزهرت بقاعها الخصبة بجهود الفاتحين الموفقة، وأنشئت المدائن العظيمة فى سهول الوادى الكبير، ثم اندثر هذا كله ولم يبق ثمة ما يذكر بهذا المجد، سوى الأسماء فقط. إن الآداب والعلوم والفنون تقد مت بها دون سائر أقطار أوروبا. ص _254(1/253)
فما اكتملت ولا أثمرت علوم الرياضة والفلك والنبات والتاريخ والفلسفة والتشريع إلا فى أسبانيا العربية. وبسقوط غرناطة ذوت عظمة أسبانيا وشملتها ظلمة حالكة، عفت على صناعاتها وسحقت معاهدها العامة، وحل الدهماء واللصوص مكان الطلاب والتجار.. " أ.هـ. هكذا كنا، فإلى أين انتهينا؟. كان الإسلام شارة الإيمان الحق والعبادة المخبتة، وكان شارة الإصلاح الشامل للدنيا، والقدرة الواسعة على الانتفاع بطيبات الحياة وقوى الطبيعة. واليوم؟.. إن المسلمين تذكر بلادهم، حيث كانوا، إذا ذكرت الأقطار المتخلفة، والجماهير الفقيرة إلى ما يرفع مستواها ويصون محياها!! وإننا إذا كنا -فى هذا الكتاب- نهاجم الظلام المقبل من الغرب ونحذر المسلمين عقبى الانطواء فى ليله، فنحن نحذر المسلمين إلى جانب ذلك عقبى السير مع الجهالات التى مسخت تفكيرهم وشوهت شريعتهم وأصابت تاريخهم بالشلل. بل ردتهم إلى نكسة دونها ما أصاب الآخرين من علل وآلام.. إن بعض الدعاة الفاشلين يفرون من ظلام الغرب إلى موات الشرق. ويريدون أن يأخذوا من عصور العوج والتخبط فى تاريخنا مثلا يقابلون بها تيار المدنية الغربية بما احتوته من طيب وخبيث.. وعندى أن الإسلام يؤذيه هؤلاء الدعاة، وتذبل زهرته اليانعة فى أيديهم الخشنة، فضلا عن أن تيار المدنية الحديثة لن تصده هذه العوائق الباطلة. إنما يجدى فى مواجهتها: عقل يغلب الهوى... ويقين يهزم الإلحاد... وإدراك يضم إلى فقه الآخرة فقه الدنيا، بل يعلم أن الآخرة لا تنال إلا بوسائل صحيحة، هذه الوسائل الصحيحة لا يستجمعها جهول بالحياة والأحياء.. ****
ص _003(1/254)
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة هناك مستشرقون مصريون! ولدوا فى بلادنا هذه، ولكن عقولهم وقلوبهم تربت فى الغرب ونمت أعوادهم مائلة إليه، فهم أبداً تبع لما جاء به...! إنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا بيد أنهم خطر على كياننا! لأنهم كفار بالعروبة والإسلام، أعوان -عن اقتناع أو مصلحة- للحرب الباردة التى يشنها الاستعمار علينا، بعد الحرب التى مزق بها أمتنا الكبيرة خلال قرن مضى... وهم سفراء فوق العادة لـ "إنجلترا، وفرنسا، وأمريكا" دول التصريح الثلاثى الذى خلق إسرائيل وحماها. والفرق بينهم وبين السفراء الرسميين أن هؤلاء لهم تقاليد تفرض عليهم الصمت وتصبغ حركاتهم بالأدب. أما أولئك المستشرقون السفراء فوظيفتهم الأولى أن يثرثروا فى الصحف وفى المجالس، وأن يختلقوا كل يوم مشكلة موهومة ليسقطوا من بناء الإسلام لبنة، وليذهبوا بجزء من مهابته فى النفوس... وبذلك يحققون الغاية الكبرى من الزحف المشترك الذى تكاتفت فيه: "الصهيونية" و "الصليبية" فى العصر الحديث...!! ... التحرير الكامل أن نجلى هذا الصنف من المستشرقين عن الحياة العامة كما أجلينا عن ضفاف القناة جيوش إنجلترا، وكما سنجلى عصابات اليهود عن أرض فلسطين- بعون الحق- جل شأنه....!
ص _004(1/255)
إن هذا النفر من حملة الأقلام الملوثة أخطر على مستقبلنا من الأعداء السافرين، فإن النفاق الذى برعوا فيه يخدع الأغرار بالأخذ عنهم. وقد يقولون كلمات من الحق تمهيدا لألف كلمة من الباطل تجىء عقيبها. فلنحذر هذا العدو المقنع، ولنؤمن طريق نهضتنا بتجلية هذا الظلام الوافد من الغرب. ونحن فى هذا الكتاب نتتبع: - الحركات العليلة. - والنيات المدخولة. والمحاولات المستمرة للنيل من مكانة الدين وإظلام مستقبله. ... لقد انفجرت بغتة أحقاد بعض الناس على الإسلام، وبدت سرائرهم مسودة تجاه عقائده وشرائعه. لقد خيل إلى هذا النفر الواهم أن الأوان قد حل للتخلص من وصايا الإيمان، وأعباء الفضيلة، وأوامر الله جملة... ولكن خاب فألهم.. - إنهم يكذبون على الحرية حين يجعلونها ترادف الفوضى. ويكذبون على الحضارة حين يحسبونها تقارن الميوعة. ويغدرون بأنفسهم وأمتهم وتاريخهم حين يمكنون لسماسرة الغرب الناقم علينا أن ينالوا مأربهم ويبلغوا ما يشتهون. التحرير الكامل أن ننظف الجو العام من أولئك الذين فقدوا كل شىء. إلا النقل الأعمى عن أوروبا دون ميز بين خبيث وطيب، ونافع وضار.. إما عن فساد فى عقولهم أو فساد فى ضمائرهم . وذاك ما أثرناه فى هذا الكتاب لنصد الجاهلية الحديثة عن اجتياح ديننا وأمتنا. محمد الغزالى(1/256)