طلائِعُ السُّلوانِ
في
مَواعظِ رَمَضان
تقريظ فضيلة الشيخ العلامة
محمد بن حسن الشنقيطي
وفقه الله تعالى
تأليف
حمزة بن فايع بن إبراهيم الفتحي
الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000م
تقريظ فضيلة الشيخ محمد الحسن ددو الشنقيطي
صلى الله وسلم على رسوله الكريم
بُشْرى لطالب علمٍ جَدَّ في الطَّلبِ
يسلو بها ما اعترى في هذه الحِقَبِ
هذي طلائعُ بالسلوان طالعةٌ
قد شنَّتِ الغارةَ الشعواءَ بالشهُبِ
فيها كتائبُ من كُتْبٍ مكذِّبةٌ
"السيف أصدق إنباءً من الكتُبِ
وكان حمزةُ فيها فارساً بطلاً
فاختار مِرباعَه من خير مُنتخَبِ
تلك الغنائم تسمو أن يحيط بها
"نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخُطَبِ"
آيٌ جَلَتها أحاديثُ استنار بها
وعْظٌ بليغٌ وباقاتٌ من الأدَبِ
"كأن كبرى وصغرى من نفائسها
حصباءُ دُرٍّ على أرض من الذهبِ"
لَو لَم أكن أعرفُ الأستاذَ جامعَها
ما كنتُ أوثر إعجَاباً على عجَبِ
كتبه
محمد الحسن بن الدَّدَو الشنقيطيُّ
الرياض 3/8/1420هـ
المُقَدّمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالِناَ ، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِل فَلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً .
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر : 18] .(1/1)
أما بعد : فإن من نعم الله تعالى علينا في هذه الأزمان اتساع الحركة العلمية وتقدمها وازدهارها ، وحصول تقدم بالغ في مجال العلوم الشرعية ، سواء كان بانتشار العلم وقيام أهله به ، أو تدفق طلبة العلم على المجالس والحِلَق ، أو فشو كتب التراث بسرعة وتنافس أو كتابة تلخيصات وتهذيبات ، وبحث ما يجدّ من مسائل وأحكام وقضايا يحتاج إليها الناس ، حتى إن المرء المسلم لا يكاد يسأل عن مسألة إلا ويبصر فيها مصنفاً قديماً أو حديثاً ، كل ذلك من مبشرات نشر العلم وظهوره وسيادته ، فالجهل ظلمات وحيرة واضطراب .
وإن كنا لا نقرُّ كل ما يُنشر ويُكتب ، ففي بعض ما يُنشر من التهافت والجهل والتكسّب والانتحال ما لا يخفى ، والله المستعان !
وإنني بهذه المناسبة أُذكّر بأهمية طلب اعلم الشرعي والجد والاجتهاد فيه ، والصبر واحتمال المشاق دونه ، فإنه أنفَس لذائذ الحياة وأبهى طيّباتها ومحاسنها ، روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله وما والاه وعالِماً ومتعلِّماً"(1).
وإن الناس في رمضان يحتاجون إلى مزيد وعظ وتذكير وعلم تبصير ، لذا يكثر سؤالهم حول أحكام الصيام والصلوات والزكوات وأشباهها ، وإنه ليفرحنا نشاط الشباب والخرّيجين وبعض طلبة العلم ومسارعتهم إلى الصلاة والموعظة والخطبة والقراءة على الناس في هذا الشهر المبارك ، لكن يحزننا ويضجرنا أن يتجاوز بعضهم عتبة علمه ومعرفته فيكلف نفسه إفتاء الناس بغير علم أو الحديث بلا بصيرة ، فإذا ما أخطأ ونأى عن جادة الصواب ذهب يفتش عن أثر أو نقل أو نظر يقرّر ويُصحِّح به خطأه واستعجاله .
لذا نؤكد هنا على ضرورة العلم الشرعي وحتميّته في مجال تعليم الناس وتذكيرهم وإفتائهم ، لكي يحذر المسلم الواعي مغبّة الوقوع في الجهل والتوقيع على الله تعالى بغير علم .(1/2)
قال الله تعالى : ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? [الأعراف : 33].
وليعلم كل متحدّث وواعظ أنه يجب عليه أن يعي ويفهم ما يقول قبل نشره وبثّه ، وأن يتأكد ويتثبّت من صحته وسلامته ، وإلا فلا يكلّف نفسه عناء الوقوف أمام الناس بلا علم ولا إدراك بُغيةَ الظهور والكلام والشهر والسماع ، وكم هو قبيح وقوف الإنسان لكلمة أو خطبة أو عِظة في موضوع معين وهو لم يعتَنِ به ولم يقف على أوله وآخره ، بل ربما فوّتَ أصولاً فيه ، أو حشرَ أخباراً ضعيفة أو باطلة في تقريره وتثبيته ، وإذا ذُكِّر لم يرجع أو نُصح لم يمتثل ، والأدهى إذا كان يتحدث عند مَن هو أعلم وأتقن وأمهر ، نعوذ بالله من فتنة القول والعمل ، والتمادي في الباطل والجهل .
وما أجمل وأعظم أن يزين طالب العلم نفسه بالتواضع والأدب والإنصاف والصمت والسّمت والوقار ، فلا يتكلم أو يُبدي علمه وفهمه أمام شيوخه ومَن هو أجلّ وأعلّم منه إلا بإذنهم ورضاهم ، قال أبو عاصم النبل رحمه الله : "سمعت سفيان الثوري وقد حضر مجلسه شاب من أهل العلم وهو يترأّس ويتكلم ويتكبّر بالعلم على مَن هو أكبر منه ، قال : فغضب سفيان وقال : لم يكن السلّف هكذا ، كان أحدهم لا يدَّعي الإمامة ، ولا يجلس في الصدر حتى يطلب هذا العلم ثلاثين سنة ، وأنت تكبر على مَن هو أسنّ منك ، قُم عنّي ولا أراك تدنو من مجلسي" .
قال : "وسمعت سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ يقول : إذا رأيت يتكلم عند المشايخ وإن كان قد أبلغ من العلم مبلغاً فآيِسْ مِن خيره فإنه قليل الحياء"(2).
وذكر الخطيب في الجامع مقولة حسناء للحافظ الإمام الليث(1/3)
بن سعد ـ رحمه الله ـ وقد أشرف يوماً على أصحاب الحديث ، فرأى فيهم شيئاً فقال : "ما هذا ؟! أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم" .
ولا يضير طالب العلم أن يعتذر عمّا لا يعلمه ، ويكِل العلم والفهم إلى أهله وأربابه ، بل يُعلِّم منطقه قول : "لا أدري" .
قال حبر الأمّة عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ "إذا ترك العالِم لا أدري أُصيبت مَقاتِله" أخرجه ابن عبد البر في جامعه بسند حسن(3).
وقال عامر الشعبي رحمه الله تعالى : "لا أدري نصف العلم" . أخرجه الدارمي والخطيب في الفقيه والمتفقِّه بسندٍ صحيح(4).
فالتمس العلمَ وأجمِل في الطلبِ
والعلم لا يَحسُن إلا بالأدبِ
والأدب النافع حُسن السّمتِ
وفي كثير القول بعض المقتِ
فكن لحُسن الصمت ما حَيِيتا
مُقارِفاً تُحمَدُ ما بقيتَا
وإنْ بدَت بين أُناسٍ مسألة
معروفةٌ في العلمِ أو مُفتعلة
فلا تكن إلى الجوابِ سابقا
حتى ترى غيركَ فيها ناطقا
فكم رأيت من عَجُول سابقِ
من غير فهمٍ بالخطَأ ناطقِ
أزري به ذلك في المجالسِ
عند ذوي الألبابِ والتنافسِ
والصمتُ فاعلم بك حقاً أزينُ
إن لم يكن عندكَ علمٌ مُتقَنُ
وقل إذا أعياك ذاك الأمرُ
مالي بما تسأل عنه خُبْرُ
فذاكَ شطر العلمِ عند العُلما
كذاك ما زالت تقول الحُكما
العلم بحرٌ منتهاه يبعُدُ
ليس له حدُّ إليه يُقصَدُ
وليس كل العلم قد حويته
أجل ولا العُشر ولو أحصيته
وما بقى عليك منه أكثرُ
مما علمت والجواد يعثُرُ
وبعد هذه التوطئة المهمة يطيب لي أن أتقدم إلى الإخوة القرّاء بهذا الكتاب المتواضع الذي اشتمل على مواعظ وكلمات تتعلق بشهر رمضان المبارك ، وهي عبارة عن فيض خاطر مكدود ، وجود تفكير محدود ، ونهاية تقليب أسفار العلماء المتقدمين والمتأخرين كما ستراه مبيناً في مظانِّه .(1/4)
ولست أدّعي فيه إتمام ما كتبتُ ، أو إحكام ما سطّرتُ ورتّبت، ولا نُلزِم أحداً برأي جنحنا إليه ما لم يكن هناك نص ثابت صريح ، أو إجماع محفوظ منقول .
ومع هذا فنحن ننصح أيضاً بسلوك الجادّة في فهم الكتاب والسنة دون غلوّ وجفاء ، وتعظيم الأئمّة وتبجيلهم ، وعدم الشذوذ واقتفاء الغريب ، أو تحميل النصوص أو ليّها هوىً وتعصبّاً ، أو لأجل الانغماس في لجة التقليد والتبعية ، فالحق أحق أن يُتّبع ويُنصَر، وأجدرُ أن يُذكر ويُنشر ، ولو قال به قِلّة أو فرد واحد .
قال الناظم :
وبَجِّل الأئمّة الأخيارا
وكُن كليهم مُثنياً مِكثارا
ولا تؤاخذ أحداً بهفوتهْ
لدينه وعلمه وسيرِتِهْ
ولا يُتابَعْ أبداً في زلّته
وليس فضل علمه بعصمته
ولو رددنا علمه بما ورد
لما سلم من فعلنا كل أحد
بل نأخذ المحاسن والفضائل
ونهجرُ المساوئ والغوائل
فهكذا قرّره ذوو النظر
كالنووي والذهبيّ وابن حجر
ونزِّه النفس فلا تشُذَّا
كذا الترخّص ورَعاً ونبذا
ثم إليك القول بالمصارحة
عليك بالدليل والمتابعة
إياك والتقليدَ للإمامِ
وتركَك الدليل للكلامِ
وخُذ من الحديث والكتابِ
وتابعِ الحقَّ ولا تُحابي
فهكذا قد نهج الأئمّة
وقاله البحرُ إمام السنّة
وأؤكد مرة أخرى على قضية الإنصاف في المسائل العلمية وعدم المجاوزة فيها والجور ، وبخس الناس حقوقهم ، وألا يحملنا الخلاف مع سوانا ضرّهُ وجوره والتضييق عليه والتشهير به ، وذلك رجاء موافقة الحق والهدى ، وتحقيق العدل والتقوى ، وتقدير الناس وإنزالهم منازلهم ، ? وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [المائدة : 8]. ? وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ? [الأنعام : 152] .(1/5)
ورحم الله الإمام مالك ابن أنس إذ شكا قلّة الإنصاف في عصره وضعفه وهضم الناس له فقال : "ما في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف"(5).
وساق ابن عبد البر ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه الجامع في فصل "في الإنصاف في العلم" قوله : "من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه ، ومَن لم ينصف لم يفهم ، ولم يتفهّم" وقال بعض العلماء : "ليس معي من العلم إلا أنني لست أعلم" .
وقال محمود الوراق : "أتمُّ الناسِ أعرفهم بنقصه ، وأمحقهم لشهوته وحرصه"(6).
رحم الله العلماء الصادقين والأئمة المنصفين ، الذين طلبوا هذا الشأن فتأدّبوا ، وتعلّموا فرشدوا ، وحكّموا فعدلوا ، ونطقوا فأنصفوا.
فيا طلاّب العلم ومحبّي الحق ومريديه : نحن في هذه الأزمان أحوج إلى كثير من الإنصاف والعدل وعدم الجور والاعتساف في علمنا ونقدنا للكتب والأشخاص والفنون ، إذ أن هذه الخصلة الحميدة انسلخَت من كثير ممن ينتسب للعلم الشرعي ، بل العجب أن ترى هؤلاء يصنّفون كتباً ورسائل في آداب الطلب وأخلاقه ومزالقه ، ويركزون على هذه القضية ويحذرون من خرقها ، فإذا ما انبرى للنقد أو الإنكار على المخالف ، تعرّى من هذه الصفة وبان لك ظلمهُ وجَوْرُه وسوء أدبه ، والله المستعان !!
على أنه ينبغي أن يُعلَم أن أهل العلم والفضل الذين ذاع فضلهم في الناس واستفاضَت عدالتهم ومحاسنهم إذا وقع منهم ما يستحق النقد والتعقّب لا يجوز بكل حال إهدار فضلهم وإغفال حسناتهم ، ونشر هفواتهم وزلاتهم بكل عناية وتدقيق وتمحيص ، زاعمين أن ذلك قُربة وذَوْد عن الحِمى وقمع للبِدَع ، والله المستعان .
قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله : "والصحيح في هذا الباب أن مَن صحّت عدالته وثبتت في العلم إمامته ، وبانت ثقته وبالعلم عنايته لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببيّنة عادلة يصح بها جرحته على طريق الشهادات"(7).(1/6)
وقال التاج السبكيّ رحمه الله تعالى : "إن من ثبتت إمامته وعدالته ، وكثر ما دِحُوه ومزكّوه وندر جارحه ، وكانت هناك قرينة دالّة على سبب جرحه مِن تعصّب أو غيره فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ، ونعمل فيه بالعدالة ، وإلا فلو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة ، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه الطاعنون ، وهلك فيه الهالكون"(8).
ثم قال : "ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول :
ومَن ذا الذي ينجو من الناسِ سالماً
وللناس قالُ بالظنونِ وقيلُ
وقيل لابن المبارك : فلان يتكلم في أبي حنيفة فأنشد :
حسدوكَ أن رأَوْك فضلك الله
بما فُضّلت به النُّجبَاء(9)
وقال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ في ترجمة إمام التفسير قتادة بن دعامة السدوسي ـ رحمه الله ـ أحد أوعية العلم وممّن يُضرَب بهم المثل في الحفظ والإتقان ، بعد أن اعتذر عنه ممّا قيل فيه : "ثم إن الكبير من أئمّة العلم إذا كثر صوابه ، وعُلِم تحرّيه للحق، واتّسَع علمه ، وظهر ذكاؤه ، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه يُغفر له زلله ، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه ، نعم : ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ، ونرجو له التوبة من ذلك"(10) انتهى .
وشرف الإنسان وقيمته أن يصون نفسه من ذلك كله ولا يحط من قدره ، وأن يعرف الأهل الفضل فضلهم ، ولأهل العلم مكانتهم ، ذاباً عن أعراضهم ومنافحاً عنهم ، معتقداً أن ذلك تديّناً وذوداً عن الحمى وعرفاناً للفضل والإحسان ، وكل ذلك يدل على رفعته وسموّه ومزيد فضله وذكره .
وما عبّر الإنسانُ عن فضل نفسه
بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضلِ
وإنّ أخسّ النقص فأن يتّقي الفتى
قذي النقص عنه بانتقاص الأفاضلِ
والمعرضون عن هذا المسلك هم المنحرفون عن جادّة السبيل والسداد والصواب ، المتنكبّون لقوس الجور والتنقّص والاعتساف ، الراضون برتبة الضعة والنقص والامتهان وقد تقلّدوها ، والحمد لله رب العالمين .(1/7)
ولا غرو فهذه مغبة الوقيعة في الخيار الأفاضل ، الكرام الأماثل مَن كانوا على نهج السلف المهتدين وسلكوا طريق المصلحين، وأعلوا منارة الثناء الجميل وظهور الصيت والمخالفين ، فكان جزاؤهم من ربهم في الدنيا الثناء الجميل وظهور الصيت والقبول الدائم ، وجزاء حُسّادهم الشقاء والعناء والخفاء ? جَزَاءً وِفَاقاً ? [النبأ : 26] .
أيها الإخوة الكرام :
عُذراً ، هذه كلماتٌ اقتضاها ظلمٌ سَرَى إلى الخيار ، وحكمٌ خلاَ من الإنصاف ، في عصرٍ تعاظمَ فيه تيّار الظلم والتجاوز والبخس! ، مع جلاء الحق وبلجه ، وخفاء الباطل ولجلجته ، فالله المستعان وعليه التُكلان ، وهو يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم .
وفي الختام أسأل الله تعالى الحيّ القيوم ، أن ينفعنا بالعلم وأن يبارك في العمل ويقينا الزلل ، وأن يجعل هذه الكلمات خالصة لوجهه ، راجية مرضاته ، نافعة لعباده من كاتبه وقارئه ومحصِّه وناشره .
وإنّي لسائلٌ ذوي الألباب الفُضَلاء ـ بعد الاعتذار
والاعتراف ـ أن يُطالعوه بأعينٍ راضية صائبة ، "فما كان من نقصٍ كملوه وجوّدوه ، وما كان من خطأٍ أحكموه وصوّبوه"(11) ، لأنه قَلّما يسلم مصنَّف من الهفوات ، وينجو مؤلّف أو ناظِم من العثرات .
والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .
وكتبه الفقير إلى عفو ربّه
حمزة بين فايع بن إبراهيم الفتحي
محايل ـ عسير
21/6/1419هـ
تبصرة إلى إمام المسجد
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته وبعد :
1- لقد امتنّ الله عليك ووفقك لإمامة المسلمين ، تلك المهمة الجليلة ، والطاعة النبيلة ، فاعلم ـ بارك الله فيك ـ أن الإمامة قربة تصلك بالله ، قبل أن تكون وظيفة يحدّ معالمها البشر ، فلا يغلبنّ عليك شعارات التوظيف التي تُنسيك مكرمة التأهيل من ربّنا تبارك وتعالى .
2- كُن في الإمامة جارياً على السلامة والسداد ، مقتفياً هدي الكتاب والسنّة على فقهٍ وبصيرة ، نائياً عن حمل الغرائب والشواذّ .(1/8)
3- الإمامة منارة دعوة وإصلاح وتربية ، فليست قاصرة على الصلاة فحسب ، بل تتعدّى لتصبح منابع فائضة تنشر التوحيد والهدى والفقه والخير ، فهي ملتقى أفئدة المؤمنين ، ومأوى انقيادهم وانصياعهم لسائر طرق الخير ، فلا يكسل الإمام الصالح عن تبليغ آية أو حديث تهدي ضالّين وتنّبه غافلين .
والتزام كتاب قيّم مبارك بعد العصر أو العشاء ، علامة رشاد واستشعار لعظمة ما يحمل وما تحمّل ، وليتذكّر جَلَد أهل الباطل وشيوع الفتن وخفاء السنن ، وما في التذكير حينئذٍ من فضل لا يُدرك وصفه ، وسعادة لا يُحاط بها .
4- لتُبني الإمامة علي رضي الله تعالى وابتغاء ما عنده وتقدير المصلّين وإجلالهم ، مع تمام الرفق والبذل والتواضع وحُسن الظن بهم ، فلا مكان للمفاخرة ، وفي التشدّد والتعنّت مخالفة للهدي وإزراء بالنفس وتحطيم لمساعي الخير والنفع والتأثير ، وقصوره عن الفقه معلوم لدى أسوياء الأئمة ونبهائهم .
5- في الإمامة منافع وعِبَر لحاملها تُدرك مع الدوام والمشاهدة ، ولا يخلو حُسن التيقُّظ وصحة النظر من آراء ومقترحات وتنبيهات لسدّ أبواب التهاون والتقصير ، وتعميق ثُغور الإصلاح والدعوة .
ولعل بعض هذه الكلمات ـ وهي مشاركة يسيرة ـ كانت من نتاج القيام بهذه المهمّة ، وهي في أمسّ الحاجة إلى نظر العلماء وغيرةِ الصُّلَحاء وتصحيح البُصَراء .
والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
{ 1 } تحايا رمضان
إن بزوغ نور رمضان وإشراقة حلواهُ ، سرور عباد الله المؤمنين وبهجة قلوب المتقين ، سرَّهُم نورهُ ، وأبهجهم حلوله ، وأسرهم فضله وثوابه ، فلا مكان للملهيات في رمضان ولا مقام للأشغال في زمانه .
نأت الأعباء والأشغال ، ورحلّت اللذائذ والمُباحات ، وطُوىَ الكسل والرقود .
الأمرُ جدُّ وهو غير مزاحِ
فاعمل لنفسِكَ صالحاً يا صاحِ(1/9)
إن ذوي الألباب يُعظِمون التحايا لرمضان لعلمهم بفضله ، ويفيضون التهاني إليه ، توقيراً لحقه وعرفاناً لزمانه ، إن زمن رمضان أمسى عندهم كنزاً ثميناً ودراً متيناً ، رجَح فضلُه وغلا سعرُه وعزَّ نظيره ، فهل يجوز في حقهم بيعه وإهداره وإضاعته ؟! كلا والله .
إنهم يحفظون لرمضان وقاره ، ويعطونه حقه ومقداره ، ولا يرضون إساءته وإضراره ، إنّ تحاياهم لرمضان عظيمة الجناب ، فسيحة الرحاب ، صادقة الودّ والخطاب .
إن أعظم تحيّة تُزف لرمضان هي إجلال زمانه وتعظيم موسمه وأيامه ، والبِدار الصادق إلى الأعمال الصالحة بكل همّة وحزن ومجاهدة ، والحرص على استغراق الزمان بالطاعات الفاضلة والطيبات المباركة سالكين النفوس القصد والاعتدال مع التدبير والتنويع .
عن أبي ذرِّ جُندب بن جُنادة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : "الإيمان بالله والجهاد في سبيله" قلت : أيّ الرقاب أفضل قال : "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً" قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : "تُعين صانعاً أو تصنع لأخرق" قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعَفتُ عن بعض العمل ؟ قال : "تكفّ شرّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك" متفق عليه(12).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل سُلامَي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابّته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة" متفق عليه(13).
أيها الصائمون :
إنّ تحاياكُم لرمضان رُكناها الصدق والجِدّ ، فليست تحية رمضان السرور بمجيئه فحسب ، بل لابد من إيفاء التحية وتزكيتها ، بفيض من الأعمال الصالحة عظيم ، واجتهاد في نيل الحسنات كبير، حينها تصدق التحية ويسمو مضمونها وتعظم بركتها .(1/10)
وفي هذه الأزمنة تدّعي طوائف كثيرة سرورها وغبطتها بحلول رمضان الخير ، لكنها لا تعقب هذا السرور والابتهاج ، بالمبادرة والاجتهاد في تحصيل الثواب ، فيفرحون به في أوله ثم يعودون إلى سيرتهم الأولى خائضين في اللغو ، عاكفين على اللهو ، ضاربين في الكسل .
يا ليتهم صانوا أنفسهم ثلاثين يوماً وزكّوها أياماً معدودات ، ووطّنوها على كل خير ونفع هذه المدة الوجيزة ، فإن الزمان تتصرم ساعاته ، وتكثر نكباته ، والحركات المكتوبة ، والأعمال محفوظة .
يُروى أن أعرابياً وعَظ ابناً له فقال : "لا الدّهر يعظك ، ولا الأيام تُنذرُك ، والساعات تُعدّ عليك والأنفاس تُعدّ منك ، أحَبُّ أمرِيْك إليك أرَدُّهما بالمضرّة عليك(14)".
أيها الإخوة الكرام :
من التحايا الحِسان التي يُستحب إذاعتها ونشرها ـ إضافة إلى ما سبق ـ قول المسلم عند رؤية الهلال ، الذكّر الثابت الذي رواه أبو داود والترمذي وابن حبان عن طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال : "اللهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، ربّي وربُّك الله ، هلال رُشدٍ وخير(15).
ولا بأس أن يبارك المسلمون بعضهم بعضاً بدخول الشهر الكريم ، ويهنئوا الأهل والإخوة والأحبة فإن هذا من محاسن الأخلاق ومن التهاني المباحة ، ولا غضاضة في ذلك ، فإن إدراك رمضان نعمة من الله على العبد ، يضيء محيّاه بها نضرةً وسروراً ، وتذكيره بها أمرٌ حسن ، ثم إن التهنئة هنا مناسبة جداً فهي تعميم للفرح وتذكير بالعمل وتأهيل للنفس وتنبيه للأمّة .
ومنها تجريد النفس من كل العوائق والأشغال ، وتصفيتها مما قد يعكّر عليها راحتها وطمأنينتها حتى تكون مهيّأة تهيئة كاملة لدخول الشهر الكريم ، لكي تعلو الهمّة وتعظُم العزيمة وتشتد الرغبة، فتزيد الحسنات وتكثر الأجور .(1/11)
ومن التحايا المسارعة في الخير والتسابق في الطاعة ، وهذه من كُبريات التحايا وصادق المودّات ، فما إن يحلّ رمضان ويلمع سناؤُه ويبرق ضياؤه ، إلا والصالحون قد احتشدوا بمعالي الهمم وقوائم العمل وسواعد المبادرة ، قد شفّهم حرّ البين والفراق ، وحبّا للُّقيا والتّلاقِ .
فرمضان أضحى في حياتهم رياضاً فائحة وجِناناً زاهرة ربا فيها النور والسعادة ، فساعة ينعم بحلاوة القرآن ، وأخرى يهنأ بروائع العلم والحديث ، ثم الفقه والحكمة والأدب ، يتخلّلها منافع البر وصنائع المعروف .
وذكّرني حلو الزمان وطيبُهُ
مجالس قومٍ يملأون المجالسا
حديثاً وقرآناً وفقهاً وحكمة
وبراً ومعروفاً وإلفاً مُؤانسا
يا صائمون :
إنّ التحايا الصادقة لرمضان مؤشّر العمل والبذل والمنافسة ، فأصدق التحيات ذريعة إلى العمل والسخاء والتضحيات ، وأوفى التهاني آذنةٌ بمزيد الشعور والاهتمام والمحاسبة ، فكل تحية صادقة طريقٌ لهمّةٌ حارقة ونفس جاهدة مثابرة ، وبقدر الصدق والجد والاهتمام ، تبلغ الروح منازل الثواب الأكرم ، والذكر الأدوَم ، والفضل الأحسن والأنعَم .
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعدّ أصدق التحايا وأجملها وأوفرها لرمضان ، مسامرة للقرآن وطول قنوت ودعاء ، واجتهاد واعتكاف ، ومضاعفة الجود والبذل وسائر الأعمال ، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحب الذراع وطويل الباع ، وفي رمضان يصير أجود الأمّة كفاً ، وأنداهم يداً ، كالريح المرسلة ، يُعطي عطاء مَنْ لا يخشى الفقر ، قد هانت عنده الدنيا وحلاوتها وكسدّت زينتها ومتعها، راجٍ ثواب ربّه ، وموقن بخبرِه ووعده .
? وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ?
[سبأ : 39] .
قال ابن كثير رحمه الله : "أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل ، وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث : "قول الله تعالى : أَنفَقْ أُنفِق عليكَ"(16).(1/12)
والسلف الصالح الكرام اقتفوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم واحتذوا مثاله ، ونحوا فِعالَه ، فجاءت تحاياهم لرمضان ، حاوية الإكبار ، بالغة الخلاص ، راسخة العمل .
ذِكرٌ وإشفاق ، وبرُّ وإنفاق ، وسباق في الخيرات واشتياق ، بلغوا في الخير والمكرمات عنان السماء ومنقطع الهواء ، ليس بينهم والدنيا آصرة قربي ، بل زُلفاهم إلى الآخرة العُقبى ، وهواهم ماضٍ إلى نيل الحُسنى .
جعلوا دنياهم سلّماً إلى الآخرة ، ومُناهم تحصيل الدرجات الوافرة .
كانوا بحق أهل الإيمان والهدى والقرآن ، وأرباب العلم والجهاد والإحسان ، في الليل ? كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ? [ الذاريات : 17- 18 ] ، ونهارهم
? يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ?
[ الحشر : 8 ] .
أيها الإخوة الكرام :
يتلقّى المسلم رمضان ، ويحيّيه ببرٍّ وبِشر ، وجدٍّ واجتهاد في الأمر ، مستشعراً قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا جاء رمضان فُتّحَت أبواب الجنّة وغُلّقَت أبواب النار وصُفّدَت الشياطين"(17).
وحيّا آخرون رمضان بعبوس واشمئزاز وتشاؤم واستنكار ، فساءت أحوالهم وفسدت قلوبهم ، لأن رمضان يقطع عليهم ملذّاتهم ويمنعهم شهواتهم ، إذ أوردوا أنفسهم مشارع البوار وحبسوها في منازع الدمار .
? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ? [ طه : 124 - 127 ] .(1/13)
يُروى أن ابناً للخليفة الرشيد كان سفيهاً فاسداً ، قد خلع عِذاره ، وألقى إزاره، لما دخل عليه رمضان تنمّرَ وتذمّر ، وضاق به ذرعاً ، وتنكّر وأنشد يقول :
دعانيَ شهر الصوم لا كان من شهر
ولا صُمتُ شهراً بعدهُ آخِرَ الدّهرِ
فلو كان يُعديني الأنامُ بقدرةٍ
على الشهر لاستعديتُ جهدي على الشهرِ
فأخذه داء الصرع فكان يُصرع في كل يومٍ مرات متعددة ، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر(18).
عياذاً بالله من مسالك الأشرار ، ونسأله سبحانه أن يهدينا لمسالك الأخيار البررة ، إنه أرحم الراحمين ، وأكرم المكرمين تبارك وتعالى .
{ 2 } فضائل الصّيام ومحاسنه
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ?
[ البقرة : 183 - 184 ] .
أيها الإخوة الفُضَلاء :
إن الصيام من أجلّ الطاعات وأعظمها وأشرفها ، وسبب ذلك يعود لأمرين :
"أحدهما : أن الصوت تركٌ وكفّ ، وهو في نفسه سرّ ليس فيه عمل يُشاهد ، وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى ، والصوم لا يراه إلا الله ـ عز وجل ـ فإنه عملٌ في الباطن بالصبر المجرّد .
والثاني : أنه قهرٌ لعدوّ الله تعالى ، فإن وسيلة الشيطان ـ لعنه الله ـ الشهوات ، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب ، فلما كان الصوم على الخصوص منعاً للشيطان وسداًّ لمسالكه وتضييقاً لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل(19).(1/14)
واعلموا أيها الإخوة أن للصيام فوائد عديدة دلّت عليها النصوص النبوية ، أجمع حديثٍ حواها وأحسنه أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ المتفق عليه ، وأخرجه البخاري في كتاب الصيام باب فضل الصوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الصيام جُنّة، فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقُل : إني صائم ، والذي نفسي بيده لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها".
وفيه أيضاً : "للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربَّه فرح بصومه(20).
وقد أفاد هذا الحديث الشريف عدة فوائد :
1- أن الصيام جُنّة : والمراد جُنّة من النار أي وقاية وستر من النار كما أفادتها بعض زيادات الحديث فعند سعيد بن منصور "جُنّة من النار" ، وعند أحمد في مسنده بسند صحيح عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصوم جُنّة يستجن بها العبد من النار"(21) ، وعند أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة : "جُنّة وحصن حصين من النار"(22) وعند أحمد والنسائي من حديث أبي عبيدة : "الصيام جُنّة ما لم يخرقها"(23). يعني بالكلام ونحو .
"فالجُنّة هي : ما يَستجِنّ بها العبد ، كالمجّنّ الذي يقيه عند القتال من الضرب ، ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [ البقرة : 183 ] . فإذا كان له جُنّة من المعاصي ، كان له في الآخرة جُنة من النار ، وإذا لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي ، لم يكن له جنة في الآخرة من النار"(24).(1/15)
2- إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك(25) : وهذه فضيلة سامية للصائمين فالخلوف المراد به تغيّر رائحة الفم بسبب الصيام ، وهذا لا يحبه كثير من الناس ويستقذرونه ومع ذلك فهو أطيب عند الله من ريح المسك الذي أو أزكى الروائح عند الناس.
3- قوله : "الصيام لي وأنا أجزي به" : والمراد أنه لا رياء فيه ، وإنما هو أمر قلبي بين الله تعالى والعبد بخلاف سائر الطاعات ، فالصائم لا تبدو عليه أمارات جازمة تحدّد صومه أو فطره ، ولهذا قد يكذب بعض ضعاف الإيمان ويدّ'ون الصيامَ وهم مُفطرِون ، خشيةً وحياءً من الناس ولا يخشون الله تعالى وعقابه، وقد روى البيهقي في شُعب الإيمان حديثاً عن أبي هريرة مرفوعاً: "الصيام لا رياءَ فيه ، قال الله عز وجل : هو لي وأنا أجزي به"(26) ، وهذا الحديث لو صح لكان قاطعاً للنزاع ، لكن إسناده ضعيف ، لأنه قد نُقل في معنى هذه الجملة نحو عشرة أقوال .
وقد يُراد بمعناه : أنّي أنفردُ بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، ويشهد لهذا رواية : "كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ـ قال الله ـ إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" أي أُجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره ويؤيده قوله تعالى : ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر : 10] ، والصابرون هم الصائمون في أكثر الأقوال(27).
4- قوله : "للصائم فرحتان" : فالصيام مع وجود الجوع والعطش فيه ، عاقبته الفرح والسرور ، فرح في الدنيا وفرحٌ في الآخرة ، والأخير أجلّ وأعظم ، لأنه علامة الفوز والقبول والنجاح ، ويوم القيامة يوم فرح وحزن ، فيه يفرح المؤمنون ويحزن الكافرون ، وجوهٌ مُسفرة ووجوهٌ عليها غَبرةٌ .(1/16)
ثانياً : إن الصيام كفّارة للذنوب والخطايا ، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مَن صامَ رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّمَ مِن ذنبه"(28). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنَّ ما اجتُنِبَت الكبائر"(29). وقد أبان الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه هذه الفضيلة المتينة للصيام فقال في كتاب الصوم باب "الصوم كفارة" واستدل لذلك بحديث آخر غير هذين الحديثين الشهيرين وهو حديث حذيفة بن اليمانِ ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفّرها الصلاة والصيام والصدقة"(30).
ثالثاً : إن الصوم حصنٌ حصين من الفواحش والشهوات ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بديلاً نافعاً ودواءً ناجعاً للشباب عند تعسّر الزواج عليهم وعدم تمكّنهم منه ، ففي الصحيحين وأخرجه البخاري في كتاب الصوم باب "الصوم لمن خاف على نفسه العُزْبَة" ـ بضم العين وسكون الزاي ـ ولبعض رواه الصحيح العزوبة ـ بزيادة واو ـ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : كُنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : "من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء"(31) ، قال الحافظ رحمه الله : والمراد بالخوف من العزوبة ما ينشأ عنها من إرادة الوقوع في العنَت ، وقوله "وِجاء" ـ بكسر الواو وبجيم ومد ـ وهو رضّ الخصيتين ، وقيل : رضّ عروقهما ، ومن يفعل ذلك تنقطع شهوته ، ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح ، واستُشكِل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك مما يثير الشهوة ، لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك. والله أعلم . انتهى(32).(1/17)
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي أن أختصي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خصاء أمّتي الصيام والقيام"(33).
رابعاً : أن الصيام من أفضل العبادات وهو طريق إلى الجنة ، فقد روى أحمد والنسائي وابن حبان وغيرهم بسند صحيح عن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم مُرني بعملٍ ينفعني اللهُ به ، وفي لفظ : أدخُل به الجنّة . فقال صلى الله عليه وسلم : "عليك بالصوم فإنه لا مِثل له". قال الراوي : فكان أبو أُمامة لا يُرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف ، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف(34).
وللصائمين في الجنّة نُزُل كرامةٍ فقد وهبهم ربّهم تعالى [باب الريّان] وخصّهم به دون سائر الناس ، لما كان لهم من محبة الصيام والإكثار منه ، والحديث في الصحيحين ، وسوف يأتي تنويه وتذكير مخصوص بشأنه ، والله الموفق .
خامساً : ثناء الله تعالى ومغفرته للصائمين واستغفار الملائكة
لهم ، ويدل على ذلك ما رواه أحمد عن أبي سعيد الخُدريّ
ـ رضي الله عنه ـ وابن حبّان عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين"(35) والمتسحّرون هم الصائمون في الغالب .
سادساً : شفاعة الصيام ومحاجّته عن أهله يوم القيامة ، فقد روى أحمد والحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الصيام والقرآن يَشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعني فيه ، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه ، قال فيشفَّعان"(36).(1/18)
وفي كتاب الله العزيز ثناء عاطر على الصيام وأهله ، كما في قوله تعالى في الآية المتقدِّمة : ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر : 10] وأن المراد الصائمون .
وقال الإمام البغوي ـ رحمه الله ـ في شرح السنة : باب فضل الصيام ، قال الله سبحانه وتعالى : ? الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ? [التوبة : 112] . والسائحون : هم الصائمون ، وسمى الصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبّداً لا يكون له زاد ، فحين يجد يطعم، فالصائم كذلك يمضي نهاره لا يطعم شيئاً . وقيل في قوله تعالى : ? اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ? [البقرة : 153] . أي بالصوم ، وسمى شهر رمضان شهر الصبر ، وأصل الصبر الحبس ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ? [الكهف : 28] ، ففي الصوم حبس النفس عن المطاعم وبعض اللذّات(37). اهـ .
{ 3 } حقيقة الصّيام
إن الصيام ـ وهو حبس النفس عن سائر المُفطِرات في مدة مخصوصة ـ هو امتثال وطاعة لأمر الله تعالى وحكمه ، وإنه بهذا المعنى تتجلّى فيه معنى العبودية لله تعالى من أوجه :
أولاً : إن العبد وهو يقوم بهذه الطاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ يسمو بعبوديّته الشريفة لمولاه وخالقه إذ هداه لنفعه وصلاحه وبهجته ، فنِعم عباد الله الصائمون ، إذا أدّوا هذه العبادة بكل انشراح ورغبة ومحبّة .
ثانياً : إن الصيام امتحان للعبد وابتلاء ، يبلو صدقه وأمانته ويُبين نزاهته وطهارته ، إذ أن الصائم يستطيع أن يتناول طعاماً أو شراباً ويوهم الخلق أنه صائم وليس كما قال ، لكن لمّا كان الصوم سراً بين العبد وخالقه دلّ على صدق عبودية الصائم لربّه ورجائه لعفوه ورحمته ، لهذا وغيره كان الصوم لله تعالى وهو يثيب عليه ، وفي الصحيحين : "كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" .(1/19)
ثالثاً : إن الصائم يمسك عن أشياء مباحة طاعة لرّبه وانصياعاً لشرعه ، وهي حلال له في كل الأوقات إلا حال الصيام ، وهذا مما يدل على مزيد عبوديّته وخضوعه وخشوعه لله رب العالمين ، وفي الحديث : "يدَع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
رابعاً : أن الصائم لا يُعكِّر صفو صومه ببذاءة أو لغو أو زور ، بل ينزّه صومه من كل ذلك ويحرص تمام الحرص على تمام صومه وحسنه ، وهو مأمور على كل حال أن يجتنب مزالق اللسان وهفواته ، وفي حال الصيام يكون ذلك أعظم وآكَدَ وأشدَّ ، فلن يغني عنّا صومٌ مُلأ سباباً وقبائح ومناكِر ومعايب، فالصائم متّقٍ لربّه طائع لأمره ، عابدٌ في ذلك ، إن سابّه أحدٌ أو قاتله قال : "إني امرؤٌ صائم" .
خامساً : الصيام لهجٌ بذكر الله وقراءة القرآن وكل صنوف الجود والخير والإحسان في رمضان ، فالصائم على يقين أن في ذلك هدىً ونوراً ورحمةً له ، وهو على ثقة بموعود الله تعالى أنه يجزي الصائمين ويوفّيهم أجرهم بغير حساب ، بل لهم باب في الجنّة يُدعى [ الريّان ] لا يدخله سواهم كما صح بذلك الحديث .
سادساً : الصائم حال عبادته لا يُدِل ويُمِنُّ بصومه على الله تعالى ، بل يتواضع له غاية التواضع والمسكنة ، ويحمد اللهَ أن هداه للذي هداه ، ويشكره على واسع نعمائه ، ويستغفره على تفريطه وتقصيره وأنه لم يؤدّ حقه بل لن يؤدّيه تماماً ، والله المستعان .
سابعاً : ثم إن الصائم يفطر عند مغيب الشمس ، وهو اختفاء قرصها اتّباعاً لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بل إنه يُفطر على ما سنّهُ وأرشد إليه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن سليمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور"(38). رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم .(1/20)
ففطر الصائم على ما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك يُعدّ من مظاهر عبوديّته لله تعالى ، فلا غرو حينئذٍ أن يكون الصوم كله عبودية جليلة لله تعالى ، ليس كما يظن بعضهم أنه صحة ورياضة وتمرين للأجساد فحسب ، وغفلوا عن المعنى الشرعي الكبير من وراء الصوم .
ثامناً : إن الصيام مع أنه انكفاف عن الطعام والشراب فليس كل ذلك غايته ، بل سلامة النية مُعتبرة فيه ، وصدق التعبُّد واجتناب كل معيب وقبيح ، ومما يؤكد ذلك أن الصائم لو أكل أو شرب ناسياً لا شيء عليه ، بل لو أكثر من ذلك لم يكن عليه غضاضة في ذلك وكان صومه صحيحاً ، وهذا من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده الصائمين ، حيث قال عند ذكر الصيام : ? يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر ? [البقرة : 185] .
وفي الحديث المتفق عليه وأخرجه البخاري في كتاب الصوم باب "الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً" من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مَنْ نسيَ وهو صائم فأكل أو شرب فليُتمّ صومه فإنما أطعمَه الله وسقاه"(39).
وهذا شامل لرمضان وغيره ، ويؤكده صراحة ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والدارقطني من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ : "من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفّارة"(40).
وقد بوّبَ له الإمام ابن خزيمة ـ رحمه الله ـ في صحيحه بقوله : "باب ذكر إسقاط القضاء والكفارة عن الآكِل والشارب في الصيام إذا كان ناسياً لصيامه وقت الأكل والشرب" .
ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزّاق في مصنّفه عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة فقال : أصبحتُ صائماً فنسيت فطعمتُ قال : لا بأس . قال : ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت قال : لا بأس الله أطعمك وسقاك ، ثم ثال : ثم دخلت على آخر فنسيت وطعمتُ ، قال أبو هريرة : أنت إنسان لم تتعوّد الصيام(41).(1/21)
ولهذا من الخطأ أن يظن كثير من الصائمين أن تمام الصوم إنما هو بترك الطعام والشراب ، كلاّ ، بل لابد من اجتناب المحرّمات والمخالفات ، والدليل على ذلك ما رواه البخاريّ وأبو داود وابن حبّان وغيرهم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من لم يدّع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدّع طعامه وشرابه"(42).
وهؤلاء لو تأمّلوا هذا الحديث وعلموا قدره ، لهان عندهم إمساكهم عن الطعام والشراب مع ارتكابهم لكثير من المحاذير ، المجانبة لروحانية الصيام ، ولذا كان من دقّة فقه الإمام ابن حبّان
ـ عليه رحمة الله ـ أن قال في صحيحه : "ذِكرُ الخبر الدالّ
على أن الصوم إنما يتم باجتناب المحظورات لا بمجانبة الطعام والشراب والجماع فقط" ثم ساق حديث أبي هريرة ـ رضي الله
عنه ـ السابق.
وكثير من هؤلاء ليس لهم من صيامهم زكاة وانتفاع وخشوع وانشراح ، بل ـ والعياذ بالله ـ حصدوا النّصَب والتعب والجوع .
أخرج أحمد وابن خزيمة وابن حبان بسندٍ حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "رُبَّ صائمٍ حظّه من صيامه الجوع والعطش ، ورُبّ قائمٍ حظّه من قيامه السهر"(43) ، وقد ترجم له ابن خزيمة ـ رحمه الله ـ في صحيحه بقوله : "باب نفي ثواب الصوم عن الممسك عن الطعام والشراب مع ارتكابه ما زُجر عنه غير الأكل والشراب" .
وقال ابن حبان رحمه الله : "ذِكُر الزجر عن أن يخرق المرء صومه بما ليس لله فيه طاعة من القول والفعل معاً"(44).
قال جابر رضي الله عنه : "إذا صمتَ فليصُم سمعكَ وبصرك ولسانك عن الكذب والمأثم ، ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقارٌ وسكينة يوم صيامك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء" .(1/22)
وكان أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد ، وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : "ليس الصيام من الطعام والشراب وحده ، ولكنه من الكذِب والباطل واللغو والحلف" وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ نحو ذلك .
وكل هذه الآثار ذكَرها أبو بكر ابن أبي شيبة ـ رحمه الله ـ في مصنّفه(45).
معاشر الصائمين :
الصيام إيثار لمحبة الله تعالى على سائر المحبوبات والشهوات، وذاك ذريعة لتهذيب النفس وتصفيتها وتأهيلها للتقوى التي يُنال بها الرضوان والسعادة والنعيم المقيم ، لأن الصيام تضييق لمجاري الشيطان الذي تكثر حبائله مع الطعام والشراب ، ولهذا كان الجائع المتقلِّل من الطعام والشراب أقرب إلى الفهم والخير والطاعة ، والمتملِّي الشابع على الضدّ من ذلك .
قال ابن رجب رحمه الله : "وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإن قلة الغذاء توجِب القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب ، وكثرة الغذاء توجِب ضد ذلك"(46).
وقال محمد بن واسع كما في الحلية : "مَن قلّ طُعمه فَهِمَ وأفهَم، وصفا ورقَّ ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد"(47).
وعن عبد العزيز بن أبي روّاد قال : "كان يُقال : قلّة الطُّعم عون على التسرّع إلى الخيرات" ، وعن قُثّم العابد قال : "كان يُقال: ما قلّ طُعم امرئٍ قط إلا رقَّ قلبه ونديت عيناه" ، ومن طريف ما يُذكر هنا ما قاله ثابت البُناني قال : "بلغّنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال له يحيى : يا إبليس ما هذه المعاليق التي أرى عليك قال : هذه الشهوات التي أُصيب من بني آدم ، قال : فهل لي فيها شيء ؟ قال : ربّما شبعتَ فثقّلناك عن الصلاة وعن الذكر ، قال : فهل غير هذا ؟ قال : لا ، قال : لله علىَّ ألا أملأ بطني من طعامٍ أبداً ، قال : فقال إبليس : ولله علىَّ ألا أنصح مسلماً أبداً"(48).(1/23)
وعُمدةُ هذا الباب وصفوتُه وزَينُه قوله صلى الله عليه وسلم : "ما ملأ آدميّ وعاءً شراً من بطنه ، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبَه ، فإن كان لا محالة فثلُثٌ لطعمه وثلُثُ لشرابه وثلثُ لنفَسه" رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديث صحيح(49).
{ 4 } دُعاء الصّائم
الدعاء ليس مُخّ العبادة فحسب بل هو العبادة ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? [غافر : 60] ، وثبت في سنن أبي داود والترمذي بسندٍ حسن قال صلى الله عليه وسلم : "الدعاء هو العبادة"(50).
أيها الأخوة الكرام :
إن الدعاء نعمة ورحمة من الله تعالى منَّ بها على عباده وأوليائه ، فالدعاء سلاح المؤمنين ، وقرّة عيون الصالحين وملاذ التائبين وملجأ المظلومين والمنكوبين ، "والله ـ تبارك وتعالى ـ قد أطمعَ المطيع والعاصي والداني والقاصي في الانبساط إلى حضرة جلاله برفع الحاجات والأماني" بقوله : ? فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? [البقرة : 186] ، فادعُوا الله تعالى ـ معاشر الصائمين ـ وابتهِلُوا إليه فأنتم في موسم مبارك عظيم تُستجاب فيه الدعوات وتنزل فيه الرحمات ، سلُوا اللهَ ما تحبّون من خيري الدنيا والآخرة ، ادعوه أن يقضي حوائجكم ويسهل أموركم ويصلح أحوالكم ويغفر ذنوبكم وسيئاتكم ، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة .
أيها الصائمون :(1/24)
إن رمضان موطن شريف من المواطن المباركة الشريفة ينبغي العناية بالدعاء فيه في كل الأوقات والأحوال ، وقد وردَ أن للصائم دعوة مستاجبة وهي عند الإفطار كما صح بذلك الحديث ، وحريُّ بمن كان صائماً أن يكون مهيّأ للدعاء ، فيسأل الله الرضا والقبول ، ويجمع إلى ذلك الضراعة والخشوع والانكسار والإنابة ? ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ? [الأعراف : 55] ، قال بعضهم : ادّعُ بلسان الذِّلَة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق .
والدعاء عند الإفطار يكاد يكون من السنن المهجورة التي غفل وتكاسل عنها كثير من الناس ، فما أجملها حقيقةً وألذّها وأطيبها على قلب الصائم ، عندما يفزع إلى الله تعالى دقائق معدودات قبل فطره وطعامه .
وأيضاً لِيعْتَنِ الصائمون بقيام الليل وهو التراويح ويجتهدوا
في الدعاء فيها حال السجود وسؤال الله تعالى ما ينفعهم ويقربهم ويهدي قلوبهم ، وأيضاً من وُفِّق لإدراك ليلة القدر ـ وهي في أوتار العشر الأواخر ـ ليكثر فيها الدعاء الوارد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ مع الصدق والإخبات والضراعة فهو خير من كثير من التطويل على الناس هذه الأزمان ، بأدعية لا تُعرف في السنن والصّحاح .
ونص الحديث : قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أرأيتَ إن علمتُ أي ليلة القدر ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (قولي : اللّهم إنّك عفوُّ تُحبّ العفوَ فاعْفُ عنّي) رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم(51).
ومن المناسب عند ذكر الدعاء وأفضليته والتأكيد على أهميته ، يحسن أن ننبّه على آدابه ومهمّاته ، فاعلموا ـ بارك الله فيكم ـ أن للدعاءِ آداباً ينبغي مراعاتها وقد ذكَرها غير واحد من أهل العلم في كتب الأدعية والأذكار والرّقاق ، وسأسوقها هنا بإيجاز .(1/25)
منها : التماس الدعاء في الأوقات الشريفة كرمضان ويوم عرفة والجمعة لا سيّما ساعته الثابت بها الحديث ووقت السَّحَر من كل ليلة ? وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ? [آل عمران : 17] ، ?وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ? [الذاريات : 18] ، وفي الحديث المتواتر العظيم قال صلى الله عليه وسلم : (ينزلُ ربّنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلُث الليل الآخر فيقول : مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه ، مَن يستغفرني فأغفر له) (52).
ومنها : البدء بحمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها الضراعة والتذلّل والانكسار والإلحاح في ذلك ، ومنها تكرار الدعاء ثلاثاً ، ومنها عدم الاعتداء في الدعاء ، ومنها سؤال الله تعالى بالوسائل الشرعية كأسمائه الحسنى ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [الأعراف : 180] .
ومنها : العناية بالأدعية والكلمات التي عظّمها الشارع وعلّق عليها الثواب والإجابة والانتفاع كقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أنس رضي الله عنه : (أَلِظُّوا بِياذا الجلالِ والإكرام) (53) وهو حديث صحيح ، ومعنى قوله : أَلِظّوا : يعني الزَموها .
ومنها : استقبال القبلة ورفع الأيدي في الدعاء ، فإن رفعهما حال الدعاء من المتواتر المعنوي عند أهل العلم بالحديث ولا يُنازَع في ذلك(54) ، وفي الحديث الصحيح عن سلمان رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (إن ربكم تبارك وتعالى حييُّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفراً) (55).(1/26)
ومن آداب الدعاء ومهماته إطابة المطعم والمشرب لأن الله تعالى طيّبٌ لا يقبل إلا طيّباً ، (ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه ، وأن يكون من حلال فبذلك يزكو عمله) (56) ، وليُعلَم بأن فساد المطعم من منافيات الدعاء والإقبال على الله ، بل هو من موانع الإجابة ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حال رجل جمعَ أسباب الرجاء والإجابة لكنه نقَضَها بفساد مطعمه وتوسّعه في الحرام ، قال وهب بن منبّه : "مَنْ سره أن يستجيب اللهُ دعوته فليُطِب طُعمَتَه" ، وقال يوسف بن أسباط : "بلغنا أن دعاء العبد يُحبس عن السموات بسوء المطعم".
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إنّ الله طيّب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله تعالى أمَرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ? يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ? [المؤمنون : 51] . وقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ? [البقرة : 172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبر يمدّ يديه إلى السماء : يا ربّ يا ربّ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وغُذّيَ بالحرام فأنَّى يُستجابُ لذلك(57).
فهذا الرجل حاز أجلّ وأشهر مقتضيات الإجابة والقبول ، لكن تعذّرَت الإجابة بسبب توسّعه في الحرام ، والأمور التي جمعها في دعائه هي كما يلي كما يقول ابن رجب الحنبليّ : أحدها : إطالة السفر: والسفر بمجرّده يقتضي إجابة الدعاء كما صح بذلك الحديث ، ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء ولأنه مظنّة حصول انكسار النفس بطول الغربة وتحمّل المشاق ، والانكسار من أعظم أسباب الإجابة .(1/27)
والثاني : حصول التبذّل في اللباس والهيئة بالشعث والاغبرار وهو من مقتضيات الإجابة كما في صحيح مسلم : (رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين ، مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرّه) (58).
الثالث : الإلحاح على الله بتكرار ذكر ربوبيّته ، وهو من أعظم ما يُطلب به إجابة الدعاء ، وقد رُوى عن أبي الدرداء وابن عباس أنهما كانا يقولان : "اسمُ الله الأكبر : رَبِّ رَبِّ "(59).
وهذا الاسم غالب في الدعوات القرآنية وفيه أحاديث ضعيفة ، وقد سُئل مالك وسفيان ـ رحمهما الله ـ عن من يقول في الدعاء : يا سيّدي ؟ فقال : يقول : يا ربِّ . زاد مالك : كما قالت الأنبياء في دعائهم .
ومعنى قوله : (فأنَّى يُستجاب لذلك) أي كيف يُستجاب له ؟ فهو استفهام وقع على وجه التعجّب والاستبعاد(60).
وأيضاً مما قد يمنع الإجابة ترك الواجبات الشرعية كما ورد أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء الأخيار ، وفعل الطاعات يكون موجبِاً لاستجابة الدعاء ، ولهذا لمّا توسل أصحاب الغار بأعمالهم الصالحة التي أخلصوا فيها لله تعالى أُجيبت دعوتهم ، وأيضاً مما قد يمنع الإجابة ارتكاب المحرّمات ومقارفة الذنوب ، بل إن العبد المسلم لَيُحرمَ أبواباًَ من الخير بسبب مقارفة الذنوب ، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ العبد لَيُحرم الرزق بالذنب يصيبه) (61) أخرجه أحمد من حديث ثوبان رضي الله عنه .
ومن أخبار بني إسرائيل قال مالك بن دينار رحمه الله : أصاب بني إسرائيل بلاء فخرجوا مخرجاً فأوحى الله تعالى إلى نبيّه ، أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة ، وترفعون إلىَّ أكفُاً قد سفكتُم بها الدماء وملأتُم بيوتكم من الحرام ، الآن اشتد غضبي عليكم ، ولن تزدادوا منّي إلا بُعداً .
وقال بعض السلف : "لا تستبطئ الإجابة قد سددت طرقها بالمعاصي" وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
نحنُ ندعو الإلهَ في كل كَربٍ
ثم ننساهُ عند كشف الكرُوبِ(1/28)
كيف نرجو إجابةً لِدُعاءٍ
قد سددنا طريقها بالذنوبِ
وثمّة أمرٌ يتعلق بالدعاء ألا وهو القنوت الذي يكون في الوتر وليس في التراويح ، إذ التراويح ليست لها قنوت ولا دعاء يبقى طويلاً ، والقنوت في الوتر لم يشتهر فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حديث رواه ابن ماجة(62). كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله(63) ، والحديث في درجة الحسن ، وأحسن منه حديث الحسن بن عليّ عند أصحاب السنن فهو أوضح وأصحّ وأدلّ على شرعية القنوت في صلاة الوتر وسنده صحيح(64).
وهذا القنوت الذي يكون في الوتر يُلحَظ عناية الناس به في رمضان أكثر من عنايتهم بكتاب الله ، ولذا نرى كثيراً من أئمّة المساجد يعدّون الأدعية له إعداداً مُحكماً ويحرصون ويجمعون ويخبئون ويحسنّون ويجمّلون حتى لكأنّ التراويح كانت لأجله ، أو أنه هو أساسها وعمادها ، ومتى لم يحصل ويتم ضعفت ونقصت ، والله المستعانّ !
ونُصحاً للأمّة ونشراً للسنّة وتصحيحاً للطريقة نعرض هذه الكلمات حول القنوت :
أولاً : يُلحظ على قنوت الوتر في هذه الأزمان عدة مخالفات ومؤاخذات وقع فيها كثير من الأئمة والقرّاء في شتّى مساجد المسلمين إلا مَن رحم الله ، وفعالهم تلك إما أن تكون تقليداً لكبارهم ومَن سبقهم ، أو جهلاً بالطريقة الصحيحة ، ومن المؤسف أنه قد انجرفَ في تلك المخالفات بعض أئمّة المساجد الكبيرة ، التي هي محلّ نظر الناس وبعض مَن يؤمَّل فيهم اقتفاء السنن ونبذ المخالفات، ولزوم الطريقة المُثلى الرشيدة ، فمما يُلحظ على قنوتنا الآتي :(1/29)
1- تطويل القنوت ومَدُّ إلى وقت طويل ، وسَرْد كل ما في النفس من أدعية وابتهالات وهذا غالباً على حساب قيام الليل، فتجد كثيرين يقصّر التراويح ويتجوّز فيها ، فإذا ما أتى دعاء القنوت بلغ الغاية القصوى في تطويله وتحسينه وتكميله ، وربما كان في ذلك إتعاباً لبعض المصلين وإضجاراً لهم ، وقد يحمل في تطويله أدعية مفصلة أو مسجوعة لا طائل من ورائها ، وكان بإمكانه أن يختصر الطريق ويلزم الهدى الصحيح ويأتي بالجوامع من الدعاء في كلمات قلائل حسنات مباركات ، قالت عائشة رضي الله عنها كما عند أبي داود بسند صحيح : كان النبي صلى الله عليه وسلم يَستحب الجوامع من الدعاء" .
ولما سألته عن ليلة القدر إن هي علمَتْها ما تقول ؟ لم يسقُ لها صفحات ولم ينصحها بتفصيلات وتقطيعات ، بل هداها إلى جملة واحدة فقط هي : (اللهمّ إنّك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنّي) واعلم أن هذه الكلمة اكتفى بها ودلّها عليها في أعظم الليالي وأفضلها وأجلّها ، فأين أولئك الأئمّة الفُضلاَء الذين يحسبون الناس نصف الساعة وزيادة في قنوتهم ويقصّرون قيام الليل حتى لّيبين لك بجلاء ، فضل القنوت على ركعات القيام ، أين هم من هذا الهدي النبوي الحكيم السديد ؟! والله الموفق .
2- الْتماس الأسجاع السامجة والتفصيلات المملّة في دعاء القنوت وهذا ـ بلا شك ـ تكلُّف واعتداء ، قال تعالى : وقال تعالى : ?ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ? [الأعراف: 55] وفي صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال له : (فانظر السجع في الدعاء فاجتنبه فإنّي عهِدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) (65).(1/30)
وأما التفصيل الذي لا حاجة له فكقول بعضهم : اللهم إني أسألك الجنّة وقصورها وحورها ونعوذ بك من النار وعذابها وسلاسلها وزقّومها وطعامها وشرابها . أو نحو ذلك وهذه الأدعية وأشباهها في السنة الصحيحة ما يردها ويبطلها ، فقد ثبت في سنن أبي دواود وفي مسند أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يدعو : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : أي بنيّ سَلِ اللهَ الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنه سيكون في هذه الأمّة قومٌ يعتدون في الطّهور والدعاء) (66).
3- إهمال الأدعية المأثورة الصحيحة ، والتعلق بأدعية مُحدثة مُخترعة قد يكون في بعضها محاسن إلا أننا نقول : لماذا الإعراض والعدول عن الثابت الصحيح والتمسّك بشيء مُحدث؟! وغيره أولى وأحسن منه ، فكُتبُ الحديث ـ بحمد الله ـ مستفيضة بالأدعية الحسان والكلمات النافعات التي تشع نوراً وخيراً وبركةً وهداية ، وهي جامعة لخيري الدنيا والآخرة ، وحقاً إنه ما من دعوة يضيفها هؤلاء غالباً في جلب خير ومنفعة أو دفع شر ومضرّة ، إلا وفي السنّة النبوية ما يغني عنها ويكفي ويشفي ، فتأمّل ذلك .
4- رفع الصوت حال الدعاء إلى درجة تخرجُه عن حد الاعتدال والتوسط ، وقد يصاحب ذلك عويلاً وصراخاً وبكاءً ، ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال صلى الله عليه وسلم : (يا أيها الناس إربعوا
على أنفسكم فإنكم لا تدعو أصم ولا غائباً ولكن تدعون سميعاً قريباً) (67) ، وفيهما أيضاً عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت في قوله تعالى : ? وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ? [الإسراء : 110] ، أنها نزلت في الدعاء(68).(1/31)
والمطلوب الاعتدال في الدعاء في رفع الصوت بحيث يسمع مَن خلفه بلا مبالغة وزيادة ، وكذا عدم رفع مكبرات الصوت التي قد تشوش على بعض المساجد القريبة والمنازل كذلك .
5- التمطيط في الدعاء والتغنّي والترنّم المبالّغ فيه الذي يفقده مقصود الدعاء وحكمته ، نقل الإمام المناوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "فيض القدير" عن الكمال بن الهمام الحنفي قوله : "ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح والاشتغال بتحريرات النّغم ـ أي في الدعاء ـ إظهاراً للصناعة النغمية لا إقامة للعبودية فإنه لا يقتضي الإجابة بل هو من مقتضيات الرد" .
6- الإتيان بأدعية غير مناسبة أو وضعها في غير موضعها كقول بعضهم : "اللهم تقبّل منا صيامنا وقيامنا في أول ليلة" وهو لم يصم بعد ، أو قول بعضهم : "اللهم انصر جنود الموحدين في برّك وبحركَ وجوّك أجمعين" .
7- خروج القنوت عن حد الدعاء إلى أن يصبح كالموعظة المبكية المؤثرة التي تصف مشاهد القيامة وأهوالها وحقائقها والجنة والنار ، وقبلها يصف القبور وبلاءها وسير الناس إليها وما يحدث لهم فيها ، وهم مع ذلك في بكاء وعويل وضجيج ، والناس من حوله كذلك قانتون مُخبِتُون ومبالغون ، حتى لو حضرهم بعض عوام المسلمين وبعض ضعيفي الإيمان ، لفزع واستنكر هذا المسلك ، والله المستعان ! .
8- المواظبة على القنوات مواظبة شديدة حتى ظن كثير من الناس أنه واجب أو أنه مقصود التراويح ، فإذا تركه الإمام أو نسيه بعض الليالي سبّح مَن خلفه ، كأن في الصلاةِ نقصاً أو خللاً ، لذا ينبغي على الأئمّة والقرّاء أن يتركوه بعض الأيام حتى يعلم الناس أنه ليس بواجب وأن المهم قيام الليل وإطالة الصلاة وتدبّر القرآن وتحريك القلوب عند سماعه ، بل إن الثابت في السنّة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحافظ على قنوت الوتر ولم يشتهر عنه المداومة عليه كما تقدّم .(1/32)
9- اللّهم بأدعية ضعيفة سقيمة لا تصح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها أو أقرّها ، فتجد بعض الأئمة قد كلّف نفسه عناء ذلك، وربما كان دعاؤه كله من الضعيف الواهي ، وهو بهذا يبث الضعاف الواهيات ويهجر الصحاح المباركات تقليداً وعدم تفقّه ، أو جهلاً وعدم بصيرة ، ولا يخفى أن القنوت عبادة ، وتوظيفها بما ورد هو الطيّب المشروع .
10- لزوم أدعية باطلة من حيث المعنى أو فيها مخالفة شرعية كقول بعضهم : "اللهم إنا لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألُك اللطف فيه".
وكذا تسمية الله ـ عز وجل ـ بأسماء لم تثبت نحو : يا حنّان يا سلطان يا غفران .
11- الجهر بالتأمين من قِبل المأمومين حال القنوت بحيث يُسمَع للمسجد ضجّة ورجّة ، وهذا ينافي الخشوع والطمأنينة والإخبات، وقد يكون مدعاة للرياء والهور لا سيما إذا صاحَبَه صُراخ وتأوُّه شديدان ، والسنّة في ذلك أن يؤمّن في سرّه ويُسمِع نفسه ، ولا يُسمع مِن في المسجد .
12- الزيادة في قنوت الحسّن ـ رضي الله عنه ـ الذي علّمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ويتعلمها منها عامة المصلين ظناً منهم أنها من نس ما علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي، فليّتنبَّه لذلك .
ونص الدعاء في حديث الحسن كالتالي : (اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيما عافيت ، وتولّني فيمن تولّيت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقِني شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، وإنه لا يّذِلّ مَنْ واليت ، ولا يَعِزّ من عاديت ، تباركت ربّنا وتعاليت ، لا منجا منك إلا إليك) أخرجه أصحاب السنن بسندٍ صحيح(69) ، أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه فلم تصح ، لكنها صحّت في أحاديث آُخر كقنوت عمر كما في صحيح ابن خزيمة(70).(1/33)
فمن الكلمات التي أُلحقت بدعاء الحسن ـ رضي الله عنه ـ وكانت على سجعه ونسَقِه قولهم : "لك الحمد على ما قضيت ولك الشكر على ما أعطيت ، نستغفرك اللهم من جميع الذنوب والخطايا ونتوب إليك" فهذه وأشباهها ليست من جنس دعاء الحسن ، لكن لمشابهتها إياه ألحقها كثير من الناس به فوقع الخطأ في ذلك ، لكن نقول إنها حسنة ولا بأس بإيرادها لكن تُفصل عن لفظ دعاء الحسن حتى يبين ذلك للناس ويتضح .
13- الركاكة والضعف في بعض الأدعية المخترعة ، وسببه ما يكون في القنوت من تفصيل وطلب سجع ، أو ربما التمسوا دعاءً مروياً ثم زادوا فيه ومدوّه إلى درجة تضعف قيمته وقدره ، فعلى سبيل المثال الدعاء الشهير الذي يلهج به سائر الأئمة قاطبة :
"اللهم لا تدَع ذنباً إلا غفرته ، ولا هماً إلا فرّجته ، ولا دَيناً إلا قضيته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين" ، وهو دعاء حسن لا بأس به ، لكن قد زيد عليه تطويلات وتفريعات وكلمات وحاجات مثل : "ولا ضالاً إلا هديتَه ، ولا مُبتليً إلا شفيته ، ولا مسافراً إلا رددته ، ولا ولداً إلا أصلحته ، ولا كرباً إلا نفّسته ، ولا صالحاً إلا ثبّتّه ، ولا عدواً إلا خذلتّه" .
" فائدة مهمة "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض الجواب عن سؤال وُجّه إليه : "الحمد لله .. لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع ، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفض ما يتحرّاه المتحرّى من الذكر والدعاء ، وسالكها على أمانٍ وسلامة ، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبِّر عنه لسان ولا يحيط به إنسان ، وما سواها من الأذكار قد يكون محرّماً وقد يكون مكروهاً ، وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس ، وهي جملة يطول تفصيلها .(1/34)
وليس لأحدٍ أن يسنّ للناس نوعاً من الأذكار والأدعية غير المسنون ، ويجعلها عبادة راتبة يواظب عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس ، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به ، بخلاف ما يدعو به المرء أحياناً من غير أن يجعله للناس سنّة ، فهذا إذا لم يُعلم أنه يتضمن معنى محرّم لم يجُز الجزم بتحريمه لكن قد يكون فيه ذلك والإنسان لا يشعر به ، وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت فهذا وأمثاله قريب .
وأما اتخاذ ورد غير شرعي واستنان ذكر غير شرعي فهذا مما يُنهى عنه ، ومع هذا فالأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غية المطالب الصحيحة ونهاية المقاصد العليّة ، ولا يَعدِل عنها إلى غيرها من الأذكار المُحدثَة المبتدعَة إلا جاهل أو مفرّط أو متعدٍّ(71) انتهى .
وهذه الفائدة في غاية الحُسن أتَت موافقة ومماثلة لما قررنا آنفاً ، والله أعلم .
{ 5 } رَوضَة الصّائمِين
الله تعالى : ?إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً? [الإسراء : 9].
وقال تعالى : ?إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ? [فاطر : 29- 30].
أيها الإخوة الكرام :
إن القرآن منبع النور والهدى والإيمان ، ومصدر العزة والشرف والرفعة للإنسان ، قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضعُ به آخرين) (72) ، إنه نورٌ ، وأيّ نور!! أطفأ الظلمة وأنار الوجود ، وسحق الضلالة وأقام الهداية .(1/35)
إن من حقوق هذا القرآن العظيم علينا تلاوته وتدبّره والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه ، وما تقرّب عبد إلى الله بأعظم من تلاوة القرآن فإنها أعظم الذكر وأفضله وأحسنه ، ولن يُذكرَ باللهُُ بأفضل من كلامه وخطابه .
وقراءة القرآن مطلوبة ومرغوبة في كل وقت وحين ، ففيها عظيم الأجر وكبير الفضل وجزيل النوال ، وفي رمضان يعظم تأكدها ويزداد نفعها وخيرها وبركتها ، فخليقٌ بالصائمين أن يجعلوا جلّ وقتهم مع كتاب ربهم فإنه روضتهم وبستانهم وأُنسهم وسعادتهم .
القرآن في رمضان روضة الصائمين وحداء القائمين ولهج القانتين العابدين ، القرآن أعظم أنيس ونديم ، وخير جليس وسمير ، هو حلاوة وجمال ، وعزُّ وكمال . القرآن محض سعادة الإنسان ، ومُديم الخير والبركة والإحسان .
? كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ? [ص : 29] .
يا صائمون :
هل ترومون روضة فيها أطايب النعم ونفائس المِنن ، وفيها ما لذّ وطاب وأغنى عن الأخلّة والأحباب ، إنها روضة القرآن غاية السعادة ومنتهى اللذة والسرور .
كلامٌ عظيمٌ تذرفُ منه العيون ، وتصدع القلوب وتقشعرُّ الجلود ? ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ? [ق : 1] ، إن من عظمته خشوع وتصدّع الجبال الصمّ لسماعه ? لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ? [الحشر : 21] .
يا صائمون :
القرآن عزُّكم وشرفُكم ، فاقرأوه حقَّ قراءته ، تغنموا وتسعدوا وتفوزوا بالثواب الكبير والنعيم المقيم ? لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ? [الأنبياء : 10] .(1/36)
"القرآن الضياء والنور ، وبه النجاة من الغرور ، وفيه شفاء لما في الصدور ، ومَنْ خالفَه من الجبابرة قصمَهُ الله ، ومَنْ ابتغى الهُدى في غيره أضّلُه الله ، هو حبلُ اللهِ المتين ونوره المبين والعروة الوثُقَى والمعتصَم الأوفىَ ، وهو المحيط بالقليل والكثير والصغير والكبير لا تنقضي عجائبه ولا تتناهى غرائبه ، لا يحيط بفوائده عند أهل العلم تحديد ، ولا يخلُقُه عند أهل التلاوة كثرة الترديد ، هو الذي أرشدَ الأولين والآخرين ، ولما سمعه الجنّ لم يلبثوا أن ولّوا إلى قومهم مُنذرين ? فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ? [الجن : 1- 2] .
فكل مَنْ آمنَ به فقد وُفِّق ، ومَنْ قال به فقد صدق ، ومَنْ تمسّك به فقد هُديَ ، ومَنْ عمل به فقد فاز ، وقال تعالى : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [الحجر : 9] .
ومن أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته والمواظبة على دراسته مع القيام بآدابه وشروطه والمحافظة على ما فيه من الأعمال العاجلة والآداب الطاهرة(73).
يا صائمون :
إن هذا القرآن بلغ الغاية في الإعجاز والإتقان ? كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ? [هود : 1] ، لا يُدرَك وصفهُ وجماله ولا يُحاط بحُسنِه وكمالِه ، أذهلَ أهل البلاغة والبيان ، وبزَّ أهل الفصاحة والتبيان .
أيها الإخوة :
ألا تريدون أن تكونوا من أهل القرآن ، الذين هم أهل الله وخاصّته يحبّهم ويُدنيهم ويكلؤهم ويرعاهم ويصونهم ويحفظهم ويمنحهم فضله ويسبغ عليهم نِعَمَه ، أخرج النسائي في الكبرى وابن ماجة والحاكم من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ بإسناد حسن كما قال الحافظ العراقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أهل القرآن أهلُ الله خاصّتُه"(74).(1/37)
القرآن جالب اللذة والسرور ، وقاشع الوحشة والغموم ، له حلاوة لا تنتهي ، ولذاذة لا تنقضي ، مَنْ استرشدَ به رَشَد ، ومن استهدى به هُدي ، ومن استغنى به فهو الغنيّ الزكيّ الرّضيّ ، ملَك أجلّ نعمة وأعظم منحة وأنفَس ميراث .
به صلاح القلب وهداية النفس وزكاة العقل وسعادة الإنسان ، وفلاحه في الدنيا والآخرة ، إن هذا الكتاب به حياة كل شيء ، فلا حياة للإنسان بغير ذكر الله ، وأحب الذكر إلى الله تعالى كلامه وما نطَق به وخرج منه ، فلا تعجبوا إذ سمَاه تباركَ وتعالى "روحاً" يحيي به الموتى ، ويهدي به الحيارى ، ويبصِّر به أهل العَمى .
قال تعالى : ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? [الشورى : 52].
يا مسلمون :
هذا كتاب عظيم جدّ عظيم ، ما أعظمه وأجلّه وأحسنه وأبهاهّ!! قد رفع الله تعالى قدره ومكانته بالثناء عليه والتنويه بشأنه وعلوّ قدره، قال تعالى : ? ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ? [ص : 1] ، أي ذي الشرف ، أي ذي الشأن والمكانة كما هو أحد أوجه تفسير الآية(75).
وقال سبحانه وتعالى : ? وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ? [الزخرف : 4] ، قال قتادة ـ رحمه الله ـ أي ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل(76).
{ 6 } حَديثٌ في التّرَاويح
أيها الإخوة الكرام :
إنّ صلاة التراويح صلاة عظيم مباركة ، سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحيتها الأمة من بعده ، وهي من قيام الليل ، وقيام الليل أفضل صلاة بعد الفريضة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة(77) رضي الله عنه وهو دأب الصالحين وسرّ المتقين ، الذين تجافَت جُنوبُهم عن المضاجع يدعون الله تعالى خوفاً وطمعاً ، يرجون رحمته ويخافون عذابه .(1/38)
هل سمعتم بفضل قيام الليل وعِظَم أهله وما ورد لهم من أجور عظيمة وهبات جسيمة ، استمعوا إلى ما يقول الله تعالى في أهله تعظيماً لهم وتنويهاً بشأنهم : ? كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ? [الذاريات : 17 - 18] .
بقيام الليل تطهر قلوبنا وتغمرنا السعادة وتكسونا البهجة .
عن أبي أُمامةَ الباهلي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقُربة إلى ربِّكم ومكفرةٌ للسيئات ومَنهاةٌ عن الإثم) رواه الترمذي وابن خزيمة(78).
لعلّك يا قائم الليل تحظَى بحلاوة لا يجدها غيرك فتقوم ليلة فتصيب رحمةً أو تنال بركةً ، أو توافق ساعة مباركة ، فيُجيب اللهُ دعاءك .
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنّ في الليلِ لَساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إيّاه وذلك كلّ ليلة) (79) رواه مسلم .
قال النووي رحمه الله : "فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة ويتضمن الحثّ على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها"(80).
أيها الصائمون :
إنكم في موسم عظيم مبارك ، يتأكد فيه الإيثار من الطاعات والتزوّد من القرُبات لا سيما قيام الليل ، وهو يصدق بصلاة التراويح مع المسلمين ، وقد وردّت بخصوصه أحاديث شريفة منها :
الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (مَنْ قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّمَ مِنْ ذنبه) (81).
وعند أصحاب السنن : "مَن قام ليلة مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"(82).
أيها الأخيار :
إن سروركم وبهاءكم في قيام الليل في صلاة التراويح ، فحافظوا عليها ولا تضيعوها ، وقوموا بواجباتها ولا تهملوها ، واطمئنّوا فيها ولا تنقروها .(1/39)
كم هو جميلٌ أن نُؤدّي التراويح جماعة خاشعين في أدائها ونتدبّر كتاب ربنا ونبكي عند سماعه ? إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ? [الأنفال : 2] .
أيها الأخيار :
ما أعظم مواظبتكم على التراويح وخشوعكم فيها وتسابقكم إليها، إن لكم بها مغفرة ورحمة وحمداً وذكراً وشرفاً وأجراً .
إن صلاة التراويح مِن خير ما يعتني به المصلّون في هذا الشهر الكريم ، وإننا إذ نؤكد العناية بها ننبّه على أمور تتعلّق بها :
أولاً : عددها : والناس في عددها مختلفون اختلافاً كثيراً ، ما بين متشدد ومتساهل ، والواجب عند الاختلاف والتنازع الرجوع إلى الكتاب والسنة ، فهما الحكم على كل الآراء والاجتهادات قال تعالى : ?فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً? [النساء : 59]، وقال تعالى: ? وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ? [الشورى : 10] .
فهل ورد في الكتاب أو السنة ما فيه صراحة تحديد التراويح أو على سبيل الإشارة ؟
نقول : ثبت في المتفق عليه من حديث عائشة وأخرجه البخاري في كتاب "التهجّد" باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها : كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقال : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) (83) ، لكنها كما وصفتها عائشة : (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلي ثلاثاً) .(1/40)
فمن تيسرّ له القيام بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذه الصفة فلا ريب أنه خير هديٍ وأحسنه وأكمله ، ولا ينبغي له العدول عن ذلك ، وهذا مسلك بعض الأئمة كمالك بن أنس ـ رحمه الله ـ كما في إحدى الروايات عنه ، فقد قال : "الذي جمعَ عليه الناسَ عمرُ بن الخطاب أحبّ إليَّ ، وهو إحدى عشرة ركعة ، وهي صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قيل له : إحدى عشرة ركعة بالوتر ؟ قال : نعم ، وثلاث عشرةَ قريب" قال : "ولا أدري من أين أُحدث هذا الركوع الكثير" ، وهذا ذكره السيوطي في رسالته في التراويح ، وقد وافق مالكاً على هذا الرأي أبو بكر بن العربي ـ رحمه الله ـ كما في شرحه لسنن الترمذي حيث قال : "والصحيح أن يصلي إحدى عشرة ركعة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقيامه ، فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له و لا حدّ فيه " ، وعلى هذا جرى عمل الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال فقد روى مالك والبيهقيّ بسند صحيح عن السائب بن يزيد أنه قال : "أمرّ عمرُ بن الخطاب أبيّ بن كعب وتميماً الدّاري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى عن طول القيام ، وما كنا ننصر إلا في فروع الفجر"(84) ، وفروع الفجر المراد به أوائله .(1/41)
ورأى أكثر العلماء أن التراويح تطوّع مطلق ، وليس لها عدد محدود ، وأجازوا الزيادة على حديث عائشة ومآخذهم في ذلك مختلفة ، وعمل الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ليس فيه التزام عدد معيّن ، فقد صح عنهم أنهم صلّوا إحدى عشرة ركعة ، وإحدى وعشرين ، وثلاثاً وعشرين ، فقد يعمد بعضهم إلى تطويل الصلاة وتحسينها ويقلل الركعات فيجعلها إحدى عشرة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وتارةً يزيدون في الركعات فيصلون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين ويخفّفون القيام ، وزيادتهم تكون إدراكاً لبعض الفضيلة بسبب ما جرى من تخفيف القيام ، وصنيعهم هذا راجع إلى مراعاة أحوال الناس من ضعف وقوة ونشاط ، وهذا نهجٌ حسن ، يُفعل عند المصلحة والحاجة ، وأما التزام عدد معين وتقييد الناس به وادّعاء فضله والإجماع عليه فذلك إهمال لبعض النصوص ومجانبة لهدى السلّف ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : "والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال ، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها ، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس ، وبذلك جزم الداوُديّ وغيره ، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر ، وكأنه كان تارةً يوتر بواحدة ، وتارةً بثلاث"(85) ، وإلى نحو هذا أشار ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى(86) ، وهذا هو التحقيق والفقه في المسألة وبه تأتلِف النصوص ، والله تعالى أعلم .
ثانياً : صفة صلاة التراويح : وصفتها كسائر الصلوات على المصلّين أن يأتوا بأركانها وواجباتها وسننها من أدعية وأذكار مع الطمأنينة والخشوع والتّؤُدّة وعدم العجَلة في ذلك كله ، وأما ما وقع في هذه الأعصار من تخفيف كثيرٍ من الأئمّة لصلاة التراويح بحجة ضعف الناس وأنها سنّة ، حتى إن صلاتهم لّتبدو هالكة بعيدة عن الهدي النبوي وطريقة السلف الصالح رضي الله عنهم ، فذاك كله خلاف الصواب والسنّة ، وفيه محاذير عديدة منها :(1/42)
1- أنها مجانبة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسمت السلف الصالح وحرصهم الشديد على حصول الخشوع والخضوع والتدبّر في هذه الصلاة .
2- إن الصلاة إذا خُفّفَت إلى قدر تفقد معه أركانها وواجباتها فإنها باطلة حينئذٍ لا تنفع صاحبها ولو صّلى ما صلى ، فإن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة لا يجوز تخلّفه عنها كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً في تعليم المسئ صلاته في الحديث المتفق عليه(87).
3- غياب مقصود الصلاة وهو طولها وحُسنها وسماع القرآن وتدبّره وحصول الخشية عند تلاوته ، فكل ذلك نراه خافياً في صلاة الناس هذه الأيام .
4- إماتة للسنة وذريعة لا ندارسها ، ومسلك خاطئ في تربية الناس على مثل هذه الصلاة الهزيلة وتنشئتهم عليها ، حتى ليظنّوا ثبوتها وصحتها وحُسنها وكمالها وكل خير فيها ، عندما يتوارثونها ويشاهدونها في شتّى مساجد المسلمين .
فهل هذه الصلاة وهذا القيام هدي رشيد في نيل أجر قيام رمضان والفوز به ؟! .(1/43)
5- إيهام الناس أن المقصود في التراويح حصول العدد المطلوب وإصابته كل ليلة ، بحيث أن العبرة أن يوفَّق المسلم لصلاة هذا العدد المعيّن للصلاة ، وهذا ـ بلا ريب ـ أنه خطأ وسوء فهم للسنّة ، ويزيد من سوئه إذا كان الإمام يخفّف الصلاة تخفيفاً شديداً ، ويطيل القنوت في الوتر حتى اعتقد كثير من المصلين أنه مقصود التراويح ولبّها وروحها ، فيحصل فيها من التطويل والتمطيط والتمديد والتنميق والترنيم والتكلّف والتشاكي والتباكي ورفع الصوت والعويل والتجافي عن السنّة ما لا يحصل في غيره ، فليت شعري كيف تستقيم صلاة تضيع أركانها ومقصودها، وتُقام سننُها ومستحبَّاتها ؟! ، حبّذا لو أن هؤلاء الأئمة الفضلاء جعلوا شيئاً من تطويلهم وبكائهم لقراءة القرآن ، فقرأوه حق قراءته ورتّلوه تمام ترتيله ، وأحسنوا وأجملوا ، فكانوا خير معوان للناس على تعظيم كتاب ربهم وترتيله وتدبّره والخشوع له ، والوقوف عند حدوده وأحكامه ، وقد تقدم الكلام على القنوت وما يحصل فيه من أخطاء ومخالفات في موضعه .
ونحن إذ نؤكِّد وندعو إلى العناية بصلاة التراويح وعدم التلاعب بها ، لا نفرض على الناس أن يصلوا بالمئين ويحققوا كمال الصلاة الشرعية المحبوبة ، بل نقول : يُعتّدل في ذلك ويُحاول طلب الفضيلة والإحسان فيها ، فإن رمضان موسم عظيم وهو أيام معدودات وتنقضي انقضاءً سريعاً ، فلماذا لا نتوخّى الهداية والرحمة والسنّة فيه ، ثم إذا اضطر الإمام للتخفيف بعض الأحيان بناءً على ضعف الناس وعدم صبرهم وتقديرهم لهذا الشهر العظيم ، فلا بأس حينئذ أن يخفف الصلاة ويراعي ضعيفهم وسقيهم ، مع مراعاة الأركان والواجبات والمحافظة على مقصود الصلاة ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .(1/44)
ثالثاً : هناك فئام من المسلمين لا يشهدون التراويح في رمضان بزعم أنها سنّة وليست واجبة ، فمن يقوم بها بشيء عظيم ولا يرتقي مرتقىً عالياً ، ولا ندري هل نسيَ هؤلاء فضل قيام الليل وثوابه وما أُعِدّ لأهله وأربابه ، وهل تجاهلوا أنهم في شهر الرحمة والغفران والبركة والإحسان ، أما يكفي في شحذ هِمَمهم وتحريك نفوسهم قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة : (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه) (88) ، ألسنا نحب غفران ذنوبنا ومحو سيّئاتنا ؟!! بلى والله ! .
وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبّان بسندٍ صحيح : جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال : يا رسول الله أرأيتَ إن شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنكَ رسول الله وصلّيتُ الصلوات الخمس وصُمت الشهر وقُمت رمضان وآتيتُ الزّكاة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ ماتَ على هذا كان من الصِّدِّيقين والشهداء) (89).
وحقيقة أن هؤلاء المتخلّفين عن التراويح بلا عُذر شرعي وهم سامدون على لعبٍ ولهوٍ وقد حُرِموا خيرها وشقوا بتركها ، فيالها من خسارة عظيمة وحسرة فظيعة أن تنتهي الأيام المعدودات وقد صُرفت في اللهو واللعب وفضول المباحات والتخلف عن المكارم والصالحات وما يرفع الدرجات .
قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ? [يونس: 57-58].
فائدتان
الأولى ـ ما يُقال بعد الوتر :(1/45)
أخرج أصحاب السنن عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم في الوتر قال : "سبحان الملك القدّوس"(90). يطيل في آخرهنّ ، وعند النسائي(91) : (يرفع صوته بالثالثة) وهذا الحديث ثابت صحيح ، وزاد الدارقطني في سننه (ربُّ الملائكة والروح) (92).
وعند أصحاب السنن أيضاً عن عليّ رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : (اللهم إني أعوذ برضاكَ مِن سخطِكَ ، وبمعافاتك مِن عُقوبتكَ ، وأعوذُ بك منك لا أُحصي ثناءً عليَكَ ، أنتَ كما أثنَيْت على نَفسِك) (93).
قال ابن القيم رحمه الله : "وهذا يحتمل قبل فراغه وبعده"(94).
الثانية : يُستحَب صلاة ركعتين بعد الانصراف من الوتر ، ذكر ذلك مسلم في صحيحه(95) ، وقد صح أنه كان يصلّيهما وهو جالس ، وفي المسند بسندٍ رجاله ثقات عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : "كان يصلي ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس"(96).
وثبت في المسند وصحيح ابن خزيمة بسندٍ حسن أنه كان يقرأ فيهما الزلزلة والكافرون(97) ، وصح الأمر بالركعتين في صحيح ابن خزيمة عن ثوبان رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال : (إن هذا السفر جهد وثِقَل ، فإذا أوتر أحدُكم فليركع ركعتين ، فإن استيقظ وإلا كانتا له) (98).
وبهذا النص الصريح يندفع توهُّم خصوصية الركعتين بالنبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله مترجماً لهذا الحديث : "باب ذكر الدليل على أن الصلاة بعد الوتر مباحة لجميع مَن يريد الصلاة بعده ، وأن الركعتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد الوتر لم يكونا خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم دون أمّته ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالركعتين أمر ندب وفضيلة ، لا أمر إيجاب وفريضة" .(1/46)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "ورخَّص أحمد أن تُصلَّى هاتان الركعتان وهو جالس ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فمن فعَل ذلك لم يُنكر عليه ، لكن ليس بواجب بالاتفاق ، ولا يُذمّ من تركَها ، وأكثر الفقهاء ما سمعوا بهذا الحديث ، ولهذا يُنكِرون هذه ، وأحمد وغيره سمعوا هذا وعرفوا صحته"(99).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وقد أشكل هذا على كثير من الناس ، فظنّوه معارضاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) (100) ، وأنكر مالك هاتين الركعتين ، وقال أحمد: "لا أفعله ولا أمنع من فعله" ، قال : وأنكره مالك ، وقالت طائفة : إنما فعلَ هاتين الركعتين ليبيّن جواز الصلاة بعد الوتر ، وأن فعله لا يقطع التنفّل ، وحملوا الحديث على الاستحباب ، وصلاة الركعتين بعده على الجواز .
والصواب أن يُقال : إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنّة وتكميل الوتر ، فإن الوتر عبادة مستقلة ، ولا سيّما إن قيلَ بوجوبه ، فتجري الركعتان بعده مجرى سنّة المغرب من المغرب فإنها وتر النهار ، والركعتان بعدها تكميل لها ، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل، والله أعلم(101).
{ 7 } صيَام النبيّ صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوة الأمّة ومربّيها وداعيها وهاديها ، وقائدها إلى كل خير ومكرمة وفضيلة ، ما من خيرٍ ولا معروفٍ إلا دلَّ الأمّة عليه ، ولا مِن شرٍّ ومُنكرٍ إلا حذّرها منه .
نصَحَ فأتمّ النصيحة ، ووعظ فأبلغ في الموعظة ، ودعا فأقام الدعوة والشريعة ، لم يبقَ معروفٌ تعرف العقول أنه معروف إلا أمرَ به ، ولا مُنكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه ، كان أرفَق الخلق بالخلق ، وأعظم ما ينبغي أن يكون عليه الولي من الرّفق ، يفيض رحمةً وحناناً ومحبّةً وإشفاقاً ، وتواضعاً وإخباتاً .(1/47)
له كامل الخلُق والأدب ، ومنتهى خصال البرّ والشِّيَم ، وجمعَ محاسن ما عليه الأُمم ، أكرم الناس وأعلمهم وأوفاهم وأصدقهم ، لم يزل قائماً بأمر الله تعالى على أكمل طريقة وأتّمها من الصدق والعدل والوفاء ، لا يُحفظ له كذبة واحدة ، ولا ظلم لأحد ، ولا غدر بأحد ، فبأبي هو وأمّي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أعظمه وأكرمه وأجمله ، نورٌ بدّد الظلمة ، وهدىً قشع الضلالة ، وحقٌّ دحَر الباطل وأزهقه .
نِعمَ اليتيمُ بدَت مخايلُ فضله
واليُتْمُ رِزقٌ بعضه وذكاءُ
زانَتْكَ في الخلُقِ العظيمِ شمائلٌ
يُغري بهنَّ وَيولعُ الكُرماءُ(102)
أيها الإخوة الصائمون :
صام النبي صلى الله عليه وسلم فكان أجلّ وخير مَن صام وقام وأناب ، قدوة الصائمين وسيّد الأبرار وتاج الأتقياء ، كان صومه أحسن الصيام خصّه بعظيم الذكر والقيام ، ومزيد التبتّل والانقطاع للملك العلاّم ، ذِكرٌ ومناجاة ودعاء لا رفثَ فيه ولا لغو ولا آثام .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الهدي النبويّ : "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات ، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن في رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ، وكان أجود الناس ، وأجود ما يكون في رمضان ، يكثر فيه الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف ، وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور ، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ، ليوفّر ساعات ليله ونهاره على العبادة ، وكان ينهي أصحابه عن الوصال فيقولون له : إنّك لَتواصل ، فيقول : (لستُ كهيئتِكُم إني أبيت ...) وفي رواية : (إنّي أظلّ عند ربي يطعمني ويسقيني) (103).
والطعام والشراب المذكوران في الحديث اختلف العلماء فيهما، وأكثر أهل العلم أنهم طعامٌ وشرابٌ حسّي للفم .(1/48)
والصواب ما ذكره ابن القيّم ـ رحمه الله ـ من أنهما طعامٌ وشراب معنىً لا حِسّاً ، وقد علّق على ما يربو على صفحة في تقريره وترجيحه ، وهو عبارة عما يغذيه الله من معارفه ، وما يفيض على قلبه من لذّة مناجاته ، وقرّة عينه بقربه وتنعّمه بحبّه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرّة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنعمه ....الخ(104).
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً للأمة ، وأوضح أنه من خصائصه ، وقد أذِن في وصالٍ إلى السَّحَر، قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه في كتاب الصيام باب الوصال إلى السَّحَر أي جوازه ، وحجّته حديث أبي سعيد الخُدريّ ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تُواصِلوا ، فأيّكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحَر)(105). وهذا قول أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية(106).
أيها الصائمون الأخيار :
إن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان مَثلاً كبيراً ونموذجاً رائعاً في الجدّ والاجتهاد في رمضان ومسارعته في الخير والطاعة ، ولم يكن يمنعه من النصح والتذكير والجهاد في سبيل الله تعالى ، فلم يكن الصيام في حياته مدَعاة للكسل والنوم والدّعة ، بل كان على الضد من ذلك .
وكان فيه تالياً للقرآن مرتّلاً له ، متدّبراً لآياته متأمّلاً أسراره، يدارسه جبريل القرآن كل سنة مرة ، وفي السنة التي قُبض فيها صلى الله عليه وسلم دارسه مرّتين .
وكان صلى الله عليه وسلم طيلة حياته جواداً مِفضالاً مِعطاءً ، وفي رمضان يزداد جوداً وبذلاً وسخاءً ، يطعمُ مسكيناً ، ويعّلم جاهلاً، ويهدي ضالاً ، ويساعد مكروباً ، ولا يردّ سائلاً ، وينشر علماً وذكراً وهدايةً ، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسلة .(1/49)
قال ابن رجب رحمه الله : "وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق ، من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم وقضاء حوائجهم وتحمُّل أثقالهم ، ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأته ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه : والله لا يُخزيكَ اللهُ أبداً ! إنّك لَتَصل الرَّحِم وتقري الضيف، وتحمل الكَلّ ، وتُكسب المعدوم ، وتُعين على نوائب الحق . ثم تزايدَت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفَت أضعافاً كثيرة"(107).
والحديث حول هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام يطول جداً، بيد أنّ ثمّة مسائل يحسنُ بيانها والتنبيه إليها :
الأولى : كان صلى الله عليه وسلم محباً للصيام وملازماً له ، ويحض صحابته الكرام عليه ، فكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يُقال : لا يفطر ، ويفطر حتى يقال : لا يصوم، وما استكمَل صيام شهر غير رمضان ، وما كان يصوم في شهر أكثر مما يصوم في شعبان(108).
قال الشيخ حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ في منظومته "السبُّل السَّوية" :
وصحّ مِن فعل النبيّ كانا
أكثر ما يصومُ في شعبانا
ورغّب في صيام المحرّم وأنه أفضل الصيام بعد رمضان(109) ، ولم يصُم رجب قط وما استحبّ صيامه ، وكل ما ورد فيه لا يصح بل هو ضعيف .
وكان يتحرّى صيام يوم الاثنين والخميس كما عند الترمذي والنَّسائي بسند صحيح(110) ، وكان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وهي أيام البيض ، فقد ذكر النسائي أنه كان لا يفطر أيام البيض في سفر ولا حضر(111) ، وفيه ضعف ، وأما صيام ستٍّ من شوال فقد قال فيها: (من صام رمضان ثم أتبعه بستٍّ من شوال فكأنّما صام الدّهر كله) (112).(1/50)
وأما صيام عاشوراء فإنه كان يتحرّى صومه على سائر الأيام، ولما قَدِم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظّمه فقال : (نحن أحقّ بموسى منكم) فصامه وأمر بصيامه وذلك قبل فرض رمضان ، فلمّا فُرض رمضان قال : (مَن شاء صامه ومَن شاء تركَه) (113).
وأما يوم عرفة فقد صحّ عنه إنه أفطر يوم عرفة وهو حاج كما في حديث أم الفضل بنت الحارث في الصحيحين(114).
الثانية : صحّ عنه صلى الله عليه وسلم الصيام والفطر حال السفر ، وخيّر الصحابة بين الأمرين ، فلم يكن يعب المفطر على الصائم ، ولا الصائم على المفطر .
جاء في الصحيحين عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: "كُنّنا في سفر في يومٍ شديد الحرّ ، حتى إن أحدنا لَيضع يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة"(115).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : "كُنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ، يرون أن مَن وجد قوة فصام فإن ذلك حَسن ، ومَن وجد ضعفاً فأفطر أن ذلك حسَن"(116). وفي الصحيحين نحوه عن أنس(117).
وقال ابن عباس : "صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمَن شاءَ صام ومَن شاء أفطر" رواه مسلم(118).
وأما حديث : (ليس من البرّ الصيام في السفر) فهو محمول على مَن يجهده الصوم ويشقّ عليه كما هو جَليّ من قصة الحديث(119).
قال الحافظ بن حجر ـ رحمه الله ـ في حديث أبي سعيد المتقدِّم ذكره : "وهذا التفصيل هو المعتمد ، وهو نصّ رافعٌ للنزاع"(120).
وأما حديث : (الصائم في السفر كالمُفطر في الحضَر) فإنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجة وغيره بسندٍ ضعيف فلا تغتّر به(121).(1/51)
الثالثة : كان صلى الله عليه وسلم يقبّل أزواجه وهو صائم ورخّصَ فيها وشبّهها بالمضمضة بالماء ، ثبت في المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبّل ويباشر وهو صائم ، وكان أملكَكُم لأَرَبه"(122).
وقولها "لأرَبِه" بفتح الهمزة والراء أي حاجته ، ويُروى بكسر الهمزة وسكون الراء أي : عضوه ، والأشهر الأول .
وروى أبو داود وابن خزيمة وصحّحه وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي من حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : هشِشتُ فقبّلتُ وأنا صائمٌ فقلت : يا رسول الله صنعتُ أمراً عظيماً ، قبّلتُ وأنا صائم ، قال : (أرأيت لو مضمضتَ من الماء وأنت صائم) قال فقلتُ : لا بأس ، فقال صلى الله عليه وسلم : (فمَه) (123).
وقد اختلف الفقهاء في القُبلة للصائم ، والصواب فيها ما اختاره الإمام النووي رحمه الله : "القُبلة للصائم ليست محرّمة على مَن لم تُحرِّك شهوته ، ولكن الأوْلى له تركها ، وأما مَن حرّكت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح ، وقيل : مكروهة"(124).
وهذا اختيار الشيخ العلاّمة حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ كما في السبل السويّة :
وجازَ تقبيلٌ على القول الأصح
إن أِمنَ الشّهوةَ نصاً اتّضح
الرابعة : كان من هديه صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر وتأخير السحور كما ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : (لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر) (125) ، زاد أحمد في مسنده من حديث أبي ذر : (وأَخَّروا السّحور) .
ويبتدئ في الإفطار بمجرد مغيب الشمس وهو اختفاء القرص، ولا عبرة بالحُمرة الباقية ، قال البخاري في صحيحه في كتاب الصيام باب متى فِطْر الصائم ؟ : "وأفطرَ أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس" ثم أخرج بسنده إلى عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من هَهُنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) (126).(1/52)
قال ابن عبد البرّ رحمه الله : "أحاديث تعجيل الإفطار وتأخير السحور صِحاح متواترة" وعند عبد الرزاق والبيهقيّ بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال : "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً"(127).
الخامسة : قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يدركه الفجر وهو جُنُب من أهله ، فيغتسل بعد الفجر ويصوم"(128) ، وهذا ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما ظنّ بعضهم ، ويدل لذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تستمع من وراء الباب فقال : يا رسول الله تدركني الصلاة ـ أي صلاة الصبح ـ وأنا جُنب أفأصوم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (وأنا تدركني الصلاة وأنا جُنب فأصوم) ، فقال : لستَ مثلَنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبِكَ وما تأخّر ، قال : (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتّقي) (129).
وكان أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ في بادئ الأمر يفتي بأن مَن أصبح جُنُباً من جماعٍ قد أفطر ولا يصح صومه ، لكن رجع عن ذلك عندما نوقش وبُيِّن له النص الصريح في ذلك ، وقد ثبت رجوع أبي هريرة كما عند النسائي وابن أبي شيبة(130) ، وقد تمسّك بفُتيا أبي هريرة بعض التابعين ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي(131).
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في السبُل السويّة :
وليغتسلْ مَن جنبا قد أصبحا
ثم ليصُمْ بذا الحديث أفصحا
{ 8 } رَمضَان أيَّامٌ مَعدُودات
إن مواسم الخيرات والبركات ومظانّ الربح والتجارات ليست دائمة ثابتة في كل حال ووقت ، بل إنها فُرص مهيّأة وأحوال مخبّأة في بعض الأزمنة والأيام ، الفائز مَن بلّغه الله إيّاها ففاز بعمارتها وخيرها وبرّها ، والخاسر مَن أضاعها وأهملها ولم يقدرها حق قدرها.(1/53)
وإنه لحرمان وخُسران أن يُدرك العبد المسلم زمن المغفرة والرحمة ، ثم لا يزال فيه حيران كسلان ، لم يفز بالرضوان والقبول وزَهِد في الثواب الجزيل وتجاهل الرحمة والغفران ، والعتق من النيران .
? وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ? [الشورى : 45] .
أيها الإخوة الكرام :
إن رمضان فرصة عظيمة ومنحة جسيمة لزيادة الأعمال ومضاعفة الأجور ورفع الدرجات ، فقبيحٌ بالعقلاء أن يدركوا رمضان فلا يتسابقوا فيه ولا يتنافسوا من أجله ، وقد امتدح الله بعض عباده بمسارعتهم في الخيرات : ? إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ? [الأنبياء: 90] ، لأن من زكاة العقل ورشده أن يَعيَ مظانَّ سعادته وسروره وانشراحه ورحمته ونجاته ، ودون العقلاء مَن تمرّ عليه مواسم الخير والرحمة فلا يأبَهْ لها ولا ينشط ، ولا يسارع فيها ولا يبادر ، بل وربما أتلفها بمزيد الخسار والضياع والعصيان .
? قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ? [الكهف : 103-104] .
قبّحَ اللهُ مَن أدركَ رمضان فلم يُغفر له ، ورَغِم أنف مَن أدرك رمضان فلم يجدّ فيه ، ورغم أنف مَن جرح صيامه بالآثام ، وقطع قيامه بالتّواني والأشغال ، واخيبةَ مَن جعل رمضان موسم طعام وشراب وتسابق في الملاهي والشهوات ، إنّ هذا لهو الخُسران المبين ، وإنه لهو الضياعُ الكبير .
يا صائمون :(1/54)
إن رمضان أيامٌ معدودات قلائل بالنسبة لاثني عشر شهراً ، لكن هذه المعدودات محفوفة بالخيرات وما يُعلي الدرجات في جنّات النعيم ، فهي خير وأبرك من كثير من الشهور والدهور ، لأن فيها ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر ، فأيّ فضل بعد هذا ؟ فلِمَ التقصير والتهاون والتفريط والتكاسل ؟! .
إن هذه الأيام المعدودات تستدعينا للجد والاجتهاد والتزوّد ليوم المعاد ، فإن قُربةً فيه ليس كغيره ، وإن ذِكراً أو صلاةً فيه أعظم من سواه ، وإن صدقة فيه أزكى من غيره من الشهور ، وكل فعل طيب معروف هو في رمضان تجارة رابحة وأضعاف مضاعفة .
إن هذه الأيام المعدودات يتفانى الإنسان في اغتنامها بالطاعات، ويبذل جهده ويستفرغ وسعه في إحيائها بكل برٍّ وخيرٍ وصالحٍ ومعروفٍ ، إن الصالحين تمر عليهم الأيام المعدودات سراعاً لأنهم عمروها وأحيوها بالطاعات وحفظوها ، ومَن عداهم يستثقلونها لأنها لهم فاضحة كاشفة ، فمارعوها حقّ رعايتها ولا بلغوا منها حلاوتها ونفائسها ، بل كان الصيام عليهم جوعاً وتعباً ومشقّةً وضنكاً .
مسكين مِن يستطيل مدة الصيام ويشكو فيه الجوع والعطش ولا يتأمل حُسن عاقبته وعِظم أجره وثوابه ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر : 10] .
وإنّ عجبَنا لا ينقضي من فئام يشحّون بالمال في رمضان ويستثقلون القيام فيه ، ويتلمسون الرخصة والتخفيف بكل حال ، سبحان الله ! ، أين البذل والإحسان وطول القنوت والقرآن ، واللّهج بالذكر والدعوات والمسارعة في الخيرات والقرُبات ? وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ? [آل عمران : 133] .
إن رمضان أيام معدودات ، إن لم تعمرّها الآن فاتتكَ غداً ، وإن أضعتها في الدنيا ساءتك في الأخرى .(1/55)
الأيام المعدودات ذكرٌ وصلوات وجود وهبات وصدقات ومسارعة في الخيرات ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ما يكون في رمضان(132).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة) (133).
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [البقرة : 183] .
إن الصيام المفروض أيام معدودات ليس بطويل ولا ثقيل ، بل لذّة وحلاوة وسرور ، إن الله تعالى يؤكد لنا أن رمضان أيام قلائل تستحق منها الغاية في الجد والعمل ، والنهاية في المسارعة والمسابقة ، فهو قليل لكن ثوابه جزيل وكبير ، (كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) (134). وفي الحديث : (عليك بالصوم فإنه لا عِدْلَ له) (135) عند أحمد والنسائي وسنده صحيح .
أيها الإخوة الكرام :
إنه لا إرث يبقى لكم ويدوم سوى الأعمال الصالحة ، هي الميراث الحقيقي ، والمال الرابح والكنز الباقي ، هي التي ستنير قبوركم وتزيل وحشتكم وتصرف عنكم لأواءَ ذلك اليوم الرهيب الشديد .
? يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [آل عمران : 30] .
وإذا افتقَرتَ إلى الذخائرِ لَم تجد
ذُخراً يكون كصَالِح الأعمالِ
يا أيها الصائمون :
إن الأيام المعدودات دُرّة ثمينة من دُرر العصر والزمان الذي هو حياة الإنسان وعمره وسعادته وشقاوته ، والذي هو سَرّاؤه وضرّاؤه وصحتّه وسقمه ، فكيف يُضيعها المسلم ذو اللُّب النبيه ؟ .
إن الوقت كله نعمة جليلة وثروة كبيرة ، وتستدعينا لليقظة والعناية والرشاد ، فكيف وفيه لآلئ الزمن ونفائس الدهر وحلاوة القلب ، نحو شهر رمضان المبارك ؟! .
والوقت أنفَس ما عُنيتَ بحفظهِ(1/56)
وأراه أَسهلَ ما عليكَ يضيعُ
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس ، الصحّة والفراغ) (136).
لقد مرّ على هذه الحياة أناسٌ هم عقلاء العالم وأفذاذ الكون أدركوا ثمنّية الوقت فضنوا به ، وعرفوا فضله فتنافسوا فيه ، يبكون لانقضائه ويتحسرون لفقده وضياعه ، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَربت شمسهُ ، نقص فيه أجَلي ولم يزِد فيه عملي" .
وقال الحسن البصري رحمه الله : "أدركتُ أقواماً كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم" .
لقد أحسّ السلف الصلحاء بقيمة الوقت ، فصنعوا في حفظه ورعايته أمثلة مذهلة وأحوالاً مدهشة ، يعدّها الغافلون الجاهلون نوعاً من الأساطير والمبالغات ، لكنها عند العقلاء النابهين حقائق ثابتات وأخبار صحيحات .
فأوقاتهم حيّة بالصالحات لا يُضيعون شيئاً منها ، ولا يقتلونها بكثرة النوم والطعام ، يطلبون الفائدة والخير حال الشغل والمرض ، ويبتغون المعالي ولو حَالت الصعاب وعكّرت الرّزايا والكروب .
فذلكم الإمام أبو زكريا النووي ، قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحُفّاظ(137): "هو الإمام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الإسلام علَم الأولياء صاحب التصانيف النافعة ، قال تلميذه ابن العطّار : إنه كان يقرأ كل يوم اثنى عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحاً ، وقال أيضاً : ذكر لي شيخُنا ـ رحمه الله تعالى ـ أنه كان لا يضيع وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في الاشتغال بالعلم حتى في الطريق يكرر أو يطالع ، وأنه دام على هذا ست سنوات ، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق" ، قلت : ـ أي الذهبيّ ـ على ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورعَ والمراقبة وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها . كان حافظاً للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعِلَله ، رأساً في المذهب .(1/57)
وهذا الإمام العلاّمة والحافظ الفهّامة شيخ الإسلام ومفيد الأنام ، صاحب التصانيف الوفيرة والتحقيقات النادرة(138) الذي كان الذكّر هديه وحب العلم دمه وروحه ، بلغ من تعظيمه للوقت ومسارعته فيه ، ما وصل إلينا من تأليفاته العظيمة الكثيرة التي يعجز أُولو العزائم فينا من نسخ شيء يسير منها ، واستطابته للعلم والمطالعة وقت النصَب والسّقم .
نقل ابن القيّم ـ رحمه الله ـ في كتابه "روضة المحبّين" : "وحدّثني شيخنا ابن تيمية قال : ابتدأني مرض فقال لي الطبيب : إنّ مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض . فقلت له : لا أصبر على ذلك ، وأنا أُحاكمك إلى علمِكَ : أليست النفسُ إذا فرحَت وسُرّت قويَت الطبيعة فدفعَت المرض ؟ فقال : بلى ، فقلت له : فإن نفسي تُسرّ بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة ، فقال : هذا خارجٌ عن علاجنا"(139).
رحم الله أئمتنا وعلماءنا ، وجزاهم خير الجزاء ، ونفعنا بسيرهم وآثارهم ، والله الموفق .
******
{ 9 } مسائل في الصيام
الأولى ـ فرضية الصيام :
صوم رمضان فرض محتّم على كل مسلم ، فهو من أركان الإسلام ومبانيه العِظام ، قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? إلى قوله: ? فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ? [البقرة : 183- 185] ، فهاتان الآياتان أصل في وجوب الصيام من القرآن ، أمّا السنّة فأحاديث كثيرة من أشهرها حديث ابن عمر في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : (بُنيَ الإسلامُ على خمس) وذكر منها صوم رمضان(140).(1/58)
وأما الإجماع : فقد أجمع المسلمون كافة على وجوب صيام شهر رمضان(141) ، ومن أنكرَه جاحداً لوجوبه فهو كافر مُرتدّ ، إلا أن يكون جاهلاً أو حديث عهدٍ بالإسلام ، فحينئذٍ يُعلَّم ويُيبيَّن له الحق ، فإن أصرّ وكابرَ فهو كافر يُقتل رِدّةً وكُفراً والعياذ بالله ، لأنه مكذِّب للقرآن والأحاديث الصحيحة .
الثانية : بم وجب صوم رمضان ؟
يجب صوم رمضان بأحد أمرين : إما رؤية الهلال ، أو إكمال عدّة شعبان ثلاثين يوماً لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في الصحيحين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطِروا فإن غُمَّ عليكم
فاقدُروا له)(142).
وفيهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته فإن غَبي عليكم فأكملُوا عدّة شعبان ثلاثين) (143) ، وفي لفظ (فإن غُمّي عليكم فعدّوا ثلاثين) (144).
وأخرج أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفّظ من هلال شعبان ما لا يتحفّظ من غيره ثم يصوم لرؤيته ، فإن غُمّ عليه عدّ شعبان ثلاثين يوماً ثم صام) (145) وهذا الحديث صححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان والدارقطني والنووي والذهبي وغيرهم .
وقد جرى خلاف بين الفقهاء في قوله (فاقدُروا له) ، والصواب الحق الذي لا محيد عنه ولا مطعن فيه أن المراد (فاقدُروا له ثلاثين) كما صرّحت به الروايات الأُخر وفسّرته أكثر الأحاديث ، فإن خير وأولى ما فُسّر الحديث بالحديث ، وهذا الذي عليه جمهور السلف والخلف(146).
وقال الحنابلة : معنى (فاقدُروا له) أي ضيّقوا له العدد من قوله تعالى : ? وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ? [الطلاق : 7] ، والتضييق له أن يُجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً(147) ، وهذا قول ضعيف ، وليس معه من الأدلة ما يقاوم الروايات الصريحة .(1/59)
وهناك تأويل ثالث ، قال به بعض الفقهاء معناه : فاقدروه بحساب المنازل(148) ، وهذا القول في غاية البطلان والتهافت ، لا يعوَّل منه على نتيجة ولا يُستعذَب منه كلمة ، ويردّه مع ما سبق صريح قوله صلى الله عليه وسلم : (إنّا أُمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين)(149).
الثالثة ـ مفطرات الصيام :
وهي الأمور التي إذا فعلها الصائم فسد صومه ولزمه القضاء.
1 ـ الأكل والشرب :
أجمعَت الأمة على تحريم الطعام والشراب على الصائم ، وهو مقصود الصوم لقوله تعالى : ? وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ? [البقرة : 187] ، وانعقد الإجماع على ذلك حكاه ابن المنذر وغيره(150).
فإذا أكل أو شرب وهو ذاكر للصوم عالمٌ بتحريمه مُختار ، بطل صومه لأنه فعل ما ينافي الصوم من غير عُذر .
2 ـ الجماع :
وهو من مفسدات الصوم بالنص والإجماع ، قال تعالى : ?فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ? [البقرة : 187] ، فمَن جامع في الفرج في نهار رمضان لزمه أمورٌ :
1- إمساك بقية اليوم ، لأنه انتهك حُرمة اليوم بغير مسوغٍ شرعيّ .
2- قضاء اليوم الذي وقع الجماع فيه ، وهذا قول أكثر الفقهاء ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم للمُجامع : (صمُ يوماً مكانه) (151). وهي زيادة أخرجها أبو داود وابن خزيمة والبيهقيّ ، وهي صحيحة بمجموع الطرق .
3- عليه الكفّارة المغلّظة وهي : عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً، وقد ثبتت هذه الكفارة في حق الرجل الذي جامَع في نهار رمضان وقِصتّه في الصحيحين(152) ، فإن عجز عن الكفارة سقطت عنه ، قال في الإنصاف : الصحيح من المذهب أن هذه الكفارة تسقط عنه بالعجز عنها نصَّ عليه ، وعليه أكثر الأصحاب(153).(1/60)
4- عليه التوبة والاستغفار ممّا بدَر منه ، لأنه قارفَ ذنباً عظيماً.
3 ـ القيء عمداً :
ومعناه استفراغ ما في المعدة من طعام أو شراب ، إما بإدخال إصبعه في فمه ، أو تعمّد شمّ شيء يهيّجه ، أو نظر إلى شيء ليقيء به ، فكل ذلك يوجِب فطره وعليه القضاء فقط ، وأما من ذرعه القيء ـ أي غلبَه ـ بغير قصده وإرادته فلا ضير عليه ، والدليل ما رواه الخمسة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء فليقضِ) (154) ، وهذا الحديث سنده صحيح ، وقد صحّحه شيخ الإسلام ابن تيمية في حقيقية الصيام(155).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : "إذا قاءَ فلا يُفطِر" وهذا مذهب البخاري(156).
ويمكن الجمع بين الأثرين بما فصلّه في الحديث المرفوع وعليه التعويل(157) ، وأما حديث أبي سعيد مرفوعاً : (ثلاث لا تفطر الصائم : الحجامة والقيء والاحتلام"(158) فقد رواه الترمذي بسندٍ ضعيف ، لأن فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو ضعيف عند أهل العلم ، ولا فرق بين قليل القيء وكثيره لعموم الحديث ، ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها ، وهذا القول إحدى الروايات عن أحمد ـ رحمه الله ـ اختارها صاحب المغني(159).
4 ـ إنزال المنّي بالتقبيل أو الاستمناء :
لأنه في معنى الجماع فيفطر بغير خلاف بين الفقهاء ، أما إذا باشرَ فأمْذَي فلا يفسد صومه ، وهذا اختيار ابن تيمية ، وإذا أنزل بالاحتلام فلا يفطر بالإجماع لأنه مغلوب ليس له إرادة فيه .
وفي عدم الفطر بالمذي قال الناظم :
والشافعي وأكثرُ الجَهابِذِ
لا يوجبُ القضا لديهمُ المَذِي
5 ـ خروج دم الحيض والنفاس :
قال موفق الدين بن قدامة رحمه الله : "أجمع أهل العلم على أن الحائض والنُّفَساء لا يحل لهما الصوم وأنهما يفطران رمضان ويقضيان ، وأنهما إذا صاما لم يجزئهما الصوم"(160).(1/61)
عن أبي سعيد الخُدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أليست إحداكُنّ إذا حاضَت لم تُصلِّ ولم تَصُم) (161) ، وفي صحيح مسلم عن عائشة أمّ المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قالت : "كان يصيبنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة"(162).
فإذا رأت المرأة الدم في جزء من النهار فسد صومها سواء في أوله أو في آخره .
وذكر أهل العلم من المفطرات أيضاً الرّدّة عن الإسلام ـ والعياذ بالله ـ وأنه متى ارتد صومه وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام ، وكذلك إذا نوى الإفطار فقد أفطر عند أكثر أهل العلم لأنها عبادة من شرطها النيّة ففسدّت بنيّة الخروج منها كالصلاة(163).
ويلتحق بهذه المفطرات كل ما كان في معناه كالإبَر المغذّية التي تقوم مقام الطعام والشراب ويتغذّى بها الجسم ، فهذه يفطر بها الصائم وعليه القضاء ، وأما غير المغذية فلا تُفطر الصائم على الصحيح ، ولو وجد حرارتها في حلقه لأنها ليست في معنى الأكل والشرب .
وقطرة العين والأذن لا تفطر لأنهما ليس منفذين إلى الجوف ، وكذلك الكحل لا يفطر الصائم ، وما رواه أبو داود في السنن أنه قال في الإثمِد معين أنه قال : هو حديث منكر ، وما يروى أنه اكتحل وهو صائم فهو حديث ضعيف ، وعلى كلٍّ لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء .
وأما قطرة الأنف فالصواب أنها تفطر الصائم لأن الأنف منفذ إلى الجوف ، ويدل لذلك قوله في الحديث : (وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أخرجه أصحاب السنن وسنده صحيح .(1/62)
والسواك لا يفطر الصائم ولا يُكره له استعماله بعد الزوال ولو كان رطباً لعموم الأحاديث في ذلك ، وسوف يأتي بحثه في موضعه إن شاء الله ، وابتلاع الريق لا يفطر به أيضاً لأنه آتٍ من المعدة فأشبه ما إذا لم يجمعه ، ونظيره في عدم إمكان التحرّز منه غبار الطريق ، وغربلة الدقيق فلا يفطر بها الصائم ، وفي هذا قال الشيخ: محمد مولود الموسوي الموريتاني رحمه الله :
وغَفَرُوا لِصانعٍ غُبارهْ
وقترَ الطريق للسيّارة
الرابعة ـ العمرة في رمضان :
زيارة سعيدة ، وخصلة حميدة ، إذ هي ماحية الذنوب ، وغاسلة الخطايا والعيوب ، ما اجتُنِبَت الكبائر والعظائم . أخرج الشيخان المبجّلان ـ إماما الصنعة في الحديث ـ في صحيحهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) (164).
إذا كان ذلك فضل العمرة وشرفها ، فاعجب من فضلها في رمضان ، كيف يصير عظيماً ، ويكون بديعاً ، يأسر أرواح الصائمين ، فينسيهم أنفسهم وديارهم وأشغالهم .
عظمة الثواب ، صرفت الأحباب عن كل شغل ولذة ، ففي زحمة الصوارف والشواغل يلتمس المسلم الصائم مخرجاً لأداء العمرة الطيبة ، ورؤية الكعبة المشرفة ، وحصول البركة المضاعفة.
ففي الحديث المتفق عليه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار يُقال لها أم سنان : (ما منعك أن تكوني حججت معنا ؟ ) قالت : ناضحان كانا لأبي فلان "زوجها" حج هو وابنه على أحدهما ، وكان الآخر يسقي عليه غلامنا ، قال : (فعُمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي)(165).
ومعنى الحديث عند العلماء : أن عمرة في رمضان تعدل حجة في الفضل والثواب لا أنها تقوم مقام حجة الإسلام ، وهذا مُجمع عليه .
قال ابن الجوزي رحمه الله : "في الحديث أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت ، كما يزيد بحضور القلب ، وبخلوص القصد".(1/63)
الخامسة ـ الاعتكاف :
الطاعة المبرورة ، والسنة المهجورة ، خلوة بالله تعالى ، وأُنسٌ بذكره ، وتلذذ بعبادته ، هي التجاء إلى الباري ـ جل وعلا ـ وانصراف عن الخلق ، هي استئناس بالله ، واستيحاش من الناس ، هي توثيق للصلة ، وتعميق للمحبة ، وتزوّد للآخرة .
بغيضة أحوال كثير من الناس ومجالسهم ، فهي لا تخلو من زور وغيبة ولغو وضياع ، والنجاة والسلامة أن يعصم الله تعالى العبد من ذلك كله ، فيطلب أهل الصدق والنصح والصلاح إن وُجِدُوا، وإلا فليخلُ على علمٍ وهدى ، ويعتزل تلك المجالس ، ويستمتع بذكر ربه وعبادته ، فهي قوت الروح ، وصفاء القلب ، ومركب النجاة .
في الاعتكاف حياة الإنسان ويقظته واستقامته ، إذ آثر الربّ تعالى على الخلق ، والخلوة على الخلطة ، والذكر على اللغو ، والجد على الهزل واللهو .
أيها الصائمون :
معنى الاعتكاف : لزوم المسجد تعبُّداً وقربة لله تعالى مخصوصة . قال ابن رجب رحمه الله : معنى الاعتكاف وحقيقته قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق ، وكلما قويت المعرفة بالله ، والمحبة له ، والأُنس به ، أورثَت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال(166).
والاعتكاف مستحب ولا يجب إلا أن ينذره الإنسان ، فيتحتّم عليه حينئذٍ ، ويصح في كل الأوقات ، لكنه يتأكّد في شهر رمضان ، وفي عَشره الأخير آكَد وأحبّ وأطيب .(1/64)
ويجوز الاعتكاف في كل المساجد لإطلاق الآية : ? وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ ? [البقرة : 187] . وأما ما رواه البيهقي والطحاوي والذهبي في السير عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) (167) فهو مع صحته لا يمنع الاعتكاف في غيرها من المساجد لأنه يُحمل على أنه لا اعتكاف من الصيام لما رواه أبو داود والبيهقي بسندٍ صحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : (السنّة فيمن اعتكَف أن يصوم) (168) ، فها نص صحيح صريح في المسألة ، وأيضاً "لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكَف مُفطراً قط .. ولم يذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الاعتكاف إلا مع الصوم ، ولا فعلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم ، فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلَف : أن الصوم شرط في الاعتكاف ، وهو الذي كان يرجّحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية"(169) وصححه القرطبي في المفهم(170).
وعلى هذا لا يصح ما ذكره بعض الفقهاء أنه يُستحب لقاصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه ، ولم يره ابن تيمية رحمه الله .
وينبغي للمعتكف حال اعتكافه أن يستغرق الوقت في الصلاة وقراءة القرآن ومذاكرة العلم النافع ، ويجتنب ما ينافي ذلك من الجدال واللغو والسباب وما لا ينفع من الأقوال والأفعال ، ولا بأس بالكلام للحاجة .
أما "ما يفعله الجهّال من اتخاذ المعتكف موضع عِشرة ، ومجلبةً للزائرين ، وأخذهم بأطراف الحديث بينهم ، فهذا لونٌ ، والاعتكاف النبوي لون ، والله الموفق"(171).
ويجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لحاجته كالطعام وقضاء الحاجة كما في الصحيحين من حديث عائشة قالت : "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان"(172).(1/65)
أما إذا خرج المعتكف لغير حاجة وضرورة فإن اعتكافه يبطل، وقد حكى أبو محمد ابن حزم ـ رحمه الله ـ الإجماع على ذلك(173). ويبطل الاعتكاف أيضاً بالجِماع لقوله تعالى : ? وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ ? [البقرة : 187] ، والمعنى : أي لا تقربوهن ما دُمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره ، وهذا مذهب جماهير المفسرين(174).
والأخوات المسلمات يُشرع لهنّ الاعتكاف كالرجال لكن بشرط أمن الفتنة ، وقد اعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في عهده وبعد وفاته .
وقد أشار العلاّمة الجليل والمتقن النبيل ، الفائق في العلم والتحصيل حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ إلى بعض مسائل الاعتكاف في منظومته البهيّة [ السبُل السويّة ] لفقه السنن المروية فقال :
يُشرع الاعتكاف في المساجدِ
في أي وقتٍ وبأي مسجدِ
إلا إذا أدخل فيها الجمعةْ
فالجامع اشترطه كيلا يدعهْ
وليس فيه الصوم شرطاً بل وردْ
بالليل والنهار نص معتمدْ(175)
لكنه في رمضان أكّدا
لا سيّما العشر الأواخر اجهدا
فيها بجدّ واجتهادٍ في العمل
لكي ـ بذا ـ تنال غاية الأملْ
وما لعاكفٍ خروجٌ عنهُ
إلا لأمرٍ ليس بُدُّ غاية الأملْ
وسُنَّ من بعد صلاة الفجرِ
دخوله في الاعتكاف فادرِ
{ 10 } الصّوم توبَةٌ وإنَابَة
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? [التحريم : 8] .
? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [الزمر : 53] .(1/66)
بدخول رمضان يصوم المسلمون أجمعون بفرحٍ وشوقٍ وابتهاج، حتى المقصّرون تجدهم يبادرون إلى الصيام راجين إصلاح نفوسهم وتصحيح مسالكهم بل أشد من هؤلاء الفُسّاق يعظّمون هذا الشهر ويراعون حُرمته ، فلا يخلصون إلى الشر والفساد مثل ما يخلصون في غيره كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم كابن القيّم رحمه الله .
وكأن هؤلاء على قناعة تامة من أهمية رمضان وفضيلته ، وأن الآثام فيه تُضاعف كما تُضاعف الحسنات والأجور ، لِذا تراهُم يحفظون حرمة الصيام إلى حدٍّ كبير مع اختلاف بينهم في ذلك ، حيث قد بدَت طوائف هذه الأيام تصون أنفسها حال الصيام فإذا حان الإفطار فرحوا لكي يمارسوا خطاياهم ومفاسدهم ، حتى إن بعض المدخّنين ـ أصلحهم الله ـ يبادر بالتدخين وقت الإفطار وكأنه كان في ضنكٍ وحرج وضيق من فُقدانه والبُعد عنه ، والله المستعان .
يا أيها الأخوة :
إن رمضان فرصة للتوبة وسبيل إلى الرجوع والأوبَة ، فقد توافرت فيه كل الدوافع المساعدة لرجوع العبد إلى ربّه منها :
- سعة رحمة الله وفضله في هذا الشهر الكريم .
- انحسار مدّ الشياطين وتضييق مجاريهم .
- إقبال النفوس على الطاعة وتسابقها في ذلك .
- صفاء النفوس بالصوم حيث يهذّبها ويربّيها ويجعلها قريبة من الانتفاع بسماع القرآن والذكر ، ومن ثم يكون سبباً في توبتها وإنابتها إلى خالقها وربّها تعالى .
يا صائمون :
رمضان موسم رحمة ومغفرة ولجوء إلى الله وتوبة ، ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ? [طه : 82] ، كيف يعصي الصائم فيه ربَّه ويتمرّد على حكمه وشرعه ؟! أما درى هؤلاء أن الفضل فيه عام سابغ ، وأنّ صومهم جُنّة لهم عن كل سوء وشهوة ، ثم هو جُنّة من النار ، لأنهم زجروا أنفسهم عن الشهوات والمعاصي فكان ذلك سبباً في نجاتهم من النار .(1/67)
? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ? [العنكبوت : 69] .
إن إقبال الناس على الطاعة في رمضان ومسارعتهم فيها آية رجوعهم وتوبتهم إلى الله تعالى ، إذ الإقبال على الطاعة علامة خير وصلاح في العبد ، وربّنا تعالى أرحم الراحمين وخير الغافرين ، واسعُ الفضل والمنّ صاحب الجود والطَّول ، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ، بل يبدّلها إلى حسنات مباركات كما قال سبحانه :
? إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ? [الفرقان : 7] . وجاء في حديث عند الطبراني والبزّاز والبغوي ، وقال الحافظ : هو على شرط الصحيح ، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة ، فهل له من توبة ؟ فقال : أسلمت ؟ قال : نعم ، قال : "فافعل الخيرات واترك السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها" قال : وغدراتي وفجراتي ؟ قال : نعم ، قال فما زال يكبّر حتى توارى(176).
رحمته وسعت كل شيء ، وإنعامه لا يقف عند حد ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل(177).
أي تشويق وترغيب يرومُه العبد بعد هذا الجود الواسع ، وهذا الإطماع المتناهي . وفي هذا الشهر الكريم تُفتّح أبواب الجنة وتُغلق أبواب النهار وتُصفَّد الشياطين ويعتق اللهُ مَنْ شاء مِن عباده وذلك كل ليلة .
سبحان الله ! الخيرات تدنو والشرور تقصو ، والنفوس إلى الطاعات أرغب وأقرب ، وعن المعاصي أبعَد وأقصر ، والأجور وافرة والشياطين عاجزة .(1/68)
ثبت في المتفق عليه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنّة وغُلِّقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين(178) ، وهذا لفظ مسلم . وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وغيرهم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ، صُفّدَت الشياطين ومرَدُة الجنّ وغُلّقَت أبواب النار فلم يُفتح منها باب ، وفُتّحت أبواب الجنّة ، فلم يُغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغيَ الخيرِ أقبِل ، ويا باغيَ الشرّ أقصِر ، ولله عُتَقاء من النار وذلك كل ليلة) (179).
وفي هذا الحديث دليل على أن التصفيد ليس لكل الشياطين بل لبعضهم وهم مرَدة الجنّ ، وعلى هذا ترجم الإمام أبو بكر ابن خزيمة ـ رحمه الله ـ في صحيحه .
وقد استشكل بعض الناس وجود الشرور والمعاصي وكثرتها في رمضان ، فلو صُفّدَت الشياطين لم يقع ذلك ؟ والجواب : أنها تقل عن الصائمين الصومَ الذي حُوفِظ على شروطه وروعيَت آدابه ، وصلحت به أنفسهم وقلوبهم ، فحينئذ يحصل لهم الانتفاع بذلك ، وقيل : إن التصفيد خاص بالمرَدة من الشياطين وليس كل الشياطين كما في الحديث السابق ، وقيل : المراد تقليل الشرور فيه كما هو محسوس ، وقد تكون الشرور منبعثة من أسباب أخرى كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية(180).
والجواب الأول والثاني معتبران أما الأخير فضعيف ، لِما عُلم من أن النفوس الخبيثة والشياطين الإنسية إنما أزَّتْها إلى الشرور والإفساد الشياطين ، والله أعلم .
أيها الصائمون الكرام :(1/69)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (كل الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها) (181) ، أي "أن كل إنسان فهو ساعٍ في هلاك نفسه أو في فِكاكها ، فَمَن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه ، ومَن سعى في معصية فقد باع نفسه بالهوان ، وأوبقَها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه"(182).
{ 11 } حلاوة الصّيَام
الصيام طبّ النفوس ، وغذاء الروح ، وزاد القلوب ، هو أُنس المتقين ، وحلاوة المهتدين ، وحياة الصالحين .
إن للصيام حلاوة ولذّة تَصُبّ من إيمان العبد بربّه وإخباته وخشوعه لله رب العالمين ، الصيام زينة عباد الله المؤمنين وصلاحهم وفلاحهم ، مَن صاموا ابتغاء وجه ربهم مؤمنين مُحتسِبين.
إن الصيام ـ وهو حبس النفس وملذّاتها ومحبوباتها ، هو في الحقيقة صلة وثيقة بالله عز وجل ، وقُربة حميدة لنيل رحمته وعفوه، وهو إيثار لمحبّته ومرضاته ـ سبحانه وتعالى ـ يطيب الصائم فيه ويتنعّم ، ويسعد ويتلذّذ ، وينشرح ويغنَم .
الصيام ظاهرهُ التعب والجوع ، والألم والمشقّة ، لكنه ـ في الحقيقة ـ جَنّة إيمانية مزهرة ، وروضة يانعة مخصبة ، يجني الصائمون منها لذائذ الإيمان ومنائر الخشوع وثمار التقوى ، الصيام محفوف بنورٍ يُدركه أهل الإيمان والقرآن ، وفيه حلاوة لا ينالها إلا أهله وأربابه مَن خالطَت بشاشةُ الإيمان قلوبهم ، وأشرقت معالم الهداية في نفوسهم ، هُم مَن سيَرث خزائن التقوى والرحمة .
إن الصيام لا يحلو بغير الله تعالى وقراءة القرآن ، لذا لابد له مما يُغذِّيه ويروّيه ، فلكي يحلو الصيام لابد من الذكر والقرآن ، ولكي يحيا لابد أن يكمل بالطاعة والإحسان ، ولكي يصفو لابد من صيانته من اللغو والآثام .
الصيام صِنوُ الذكر والقرآن ، لا يحلو ويحسُن ويزكو بمجرد الإمساك عن الطعام والشراب ، بل لابد من سقايته وتنميته وتربيته بالذكر والطاعة والخيرات .(1/70)
قال صلى الله عليه وسلم ضمن حديث الحارث الأشعري الطويل : "وأمرَكم بالصيام فإن مثل ذلك رجل في عصابة ، معه صُرّة فيها مسك ، فكلهم يَعجب أو يعجبه ريحه وإن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك) أخرجه أحمد وغيره بسندٍ صحيح(183).
قال ابن القيم رحمه الله : "إنما مثّل صلى الله عليه وسلم ذلك بصاحب الصرّة التي فيها المسك لأنها مستورة عن العيون ، مخبوءة تحت ثيابه كعادة حامل المسك ، وهكذا الصائم صومه مستور عن مشاهدة الخلق ، لا تدركه حواسهم ، والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ، ولسانه عن الكذب والفُحش وقول الزور ، وبطنه عن الطعام والشراب ، وفرجه عن الرّفَث ، فإن تكلّم لم يتكلم بما يجرح صومه ، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه ، فيخرج كلامه نافعاً صالحاً ، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها مَن جالّس حامل المسك ، كذلك مَن جالَس الصائم انتفع بمجالسته وأمِن من الزور والكذب والفجور والظلم . هذا هو الصوم المشروع ، لا مجرد إمساك عن الطعام والشراب"(184) انتهى .
إن صفوة الصائمين هم مَن يستغرِق رمضانَ في الذكر والعبادة وقراءة القرآن ، ويعتزل مجال اللغو والرفَث وفضول الكلام ، فلا يبدي إلا خيراً ، ولا يصنع إلا معروفاً ، عندها يسلم له صومه ، فينتفع به ويغتبط إذ تُخالط حلاوة الصيام روحه ودمه لما يلقي من حلاوة المناجاة ومنفعة الدعاء وبركة الذكر ، والعبادة ، فلا يستطيل يوم الصيام ولا يذوق مرارة الجوع ، وينسى التعب والنصب .
اطمأن الأخيار بالصيام وطابت نفوسهم به وسكنت إليه ، فورثوا السعادة والنور والتقوى إذ أن صيامهم مُلأ بالهدى والنور فأنارَ لهم دروب حياتهم ، وبلّغهم محبة ربهم ورضاه ، فحصّلوا ألوان السعادات في شدائد النفس والمشقّات ، فمَن رامَ السعادة فليستقم على طاعة ربه مُخبتاً خاشعاً وليكثر ذكره وشكره والإنابة إليه حتى يظفر بمحبة الله تعالى .(1/71)
"فإنه لا نعيم ولا لذة ولا ابتهاج ولا كمال إلا بمعرفة الله تعالى ومحبته والطمأنينة بذكره والفرح والابتهاج بقُربه ، والشوق إلى لقائه، فهذه جنّته العاجلة ، كما أنه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة ، فله جنتان لا يدخل الثانية منها إن لم يدخل الأولى ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميمة ـ قدّس الله روحه ـ يقول : إنّ في الدنيا جنّ مَن لم يدخلها لم يدخل جنّة الآخرة .
وقال بعض العارفين : إنه ليمرّ بالقلب أوقات ، أقول : إن كان أهل الجنة في مثل إنهم لفي عيشٍ طيّب .
وقال بعض المحبّين : مساكين أهل الدنيا ، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قالوا : وما أطيب ما فيها ؟ محبّة الله والأُنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عمّا سواه
ـ أو نحو هذا من الكلام ـ وكل مَن له قلب حيّشهد هذا ويعرفه ذوقاً"(185).
قال بعض العارفين لقومٍ : "ما تعدّون العيش فيكم قالوا : الطعام والشراب ونحو ذلك ، فقال : إنما العيش ألا يبقى منك جارحة إلا وهي تجاذبك إلى طاعة الله ، مَن عاش مع الله طاب عيشه ، ومن عاش مع نفسه وهواه طال عيشه".
قال الحسن : "إن أحباء الله هم الذين ورثوا أطيب الحياة بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم وبما وجدوا من لذّة حبه في قلوبهم" ، وأكل إبراهيم بن أدهم مع أصحابه كِسَراً يابسة ثم قام إلى نهر فشرب منه بكفّه ، ثم حمد الله وقال : "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف أيّام الحياة ، على ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب" فقال بعض أصحابه : يا أبا إسحاق طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم فتبسّم ثم قال : مِن أين لك هذا ؟
أهل المحبّة قومٌ شأنهم عجبُ
سرورهم أبدٌ وعيشهم طرَبُ
العيش عيشهمُ والمُلك ملكُهمُ
ما الناسُ إلا هُم بانوا أو اقتربوا(1/72)
قيل لبعض العارفين وقد اعتزل عن الخلق : إذا هجَرْتَ الخلق مع مَن تعِيش ؟ قال : مع مَن هجرتُهم لأجله(186).
وقيل لمالك بن مِغْوَل وهو جالس في بيته وحده : ألا تستوحش؟ فقال : ويستوحش مع الله أحد ؟!
وقال مسلم بن يسار : "ما تلذّذ المتلذِّذُون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل"(187).
وقال الفُضيل رحمه الله : "طوبى لمن استوحش من الناس وكان اللهُ جليسَه"(188).
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : "أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك وتستأنِس إليه بقلبِك وعقلك ، وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ربَّك ، ولا تخاف إلا ذنبك ، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤثر عليها شيئاً ، فإذا كُنتَ كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنتَ أو في بحر أو في سهل أو في جبل ، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد وشوق الجائع إلى الطعام الطيّب ، ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل وأحلى من الماء العذب الصافي ، عند العطشان في اليوم الصائف"(189).
*******
{ 12 } صوم السُّعَداء والأشقيَاء
السعداء هُم مَن سعد بالصيام فأسعده الصيام وآنسَه وزكّاه وهداه ، كان صيامهم عوناً لهم على طاعة الله تعالى ، فأكسبهم تقواه ومحبته وولايته ، حفِظوا الله تعالى في صومهم ، فحفظهم الله
ـ سبحانه ـ ورعاه وأسبغَ عليهم نِعَمه .
كان صيامهم محض سعادتهم ونورهم وهدايتهم ، شرفوا به غاية الشرف وبلغوا به سماء العز والمجد ، إذ إن طاعة الله عزّ للعبد وكرامة ، ومعصيته ذلُّ له ومهانة ، طَفحَ السرور عليهم بمقدم رمضان ، والسعادة تغمر محيّاهم وكلامهم وفعالهم .
السعداء عرفوا قدر الصوم فجعلوه خصباً بفعل الصالحات ، ريّانَ بقراءة القرآن والصدقات ، أدرك السُّعَداء أن الصوم عبودية للواحد القهار ، فيها الطاعة والامتثال والضراعة والابتهال والصبر ومحاسن الخلال .(1/73)
السعداء إذا أردكَهم رمضان ازدادوا هِمّةً ونشاطاً وقوةً وفلاحاً ونوراً وصلاحاً ، عرفوا أن صيامهم إمّا لهم وإمّا عليهم ، فساسوه بميزان التقوى ، وصانوه من براثن الهوى ، وثبّتوه بأنوار الحق والهدى .
السُّعَداء في رمضان صائمون ذاكرون ، قائمون قانتون ، داعون ومجاهدون وعلى ربهم يتوكلون ، رمضان عندهم عيد وسرور ، وجنّة وحبور ، وذكر ونور ، يودّون لو طالت أيامه وبعدت لياليه ، واستدامت نعمته وفرحته وبهجته .
رمضان عندهم ذكرٌ وصلاة وتلاوة ومناجاة ، وجهاد ومواساة، تذكّروا نِعَم الله عليهم وما أتم به وأكرم ، فسعوا في نفع غيرهم بالدعوة والطعام والشراب والكساء .
? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ? [محمد : 17] .
إذا انصرَمَت أيام رمضان بكي السعداء وتأسَفوا لفقدان حبيبهم وروحهم وراحتهم
وما مرّ يومٌ أرتجى فيه راحةً
فأذكُرُه إلا بكيت علي أمسِ
يبكون لفراقه ويحنون لانقضائه.
يا أيها السعداء :
هنيئاً لكم حُسن الصيام وحُسن العبادة والقيام ، ظفرتُم لعمري بالسعادة والسرور وحُزتُم البركة والأجور ، فيالها من فرحة تغمر النفس وتشرح الفؤاد وتورث النورَ والضياء.
? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [النحل : 97] .
أما الأشقياء فهم من شقي بالصيام ، وأشقاه الصيام وأضناه وأتعبَه ، كان الصيام عليهم إصراً وبلاءً ومشقةً وضنكاً ، إن صاموا فليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش ، لا يذوقون فيه إلا الهم والضيق والمرارة والحرمان .(1/74)
كان صيامهم عليهم عمىً وردَىَ لا يجاوز حالهم ولا يغير صفاتهم وأحوالهم ، إذ إنهم إن صاموا صاموا على كرهٍ ومضَضٍ وضيق ونكد ، تعقبهم كآبة في المنظر وسوء في المنقلب ، نهارهم قد ثقل بالنوم والكسل ، وليلهم أظلم وهالك باللعب واللهو والسفَه ، ومن الأشياء مَن لا يصوم بتاتاً فهؤلاء قد خسروا خُسراناً مبيناً ، وقد ضلّوا ضلالاً بعيداً .
? وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ ? [التوبة : 46] .
الأشقياء لا يراعون جلالة الشهر وهيبته ، فتراهم سرعى هملاً وراء حسرتهم وندامتهم ، يطلبون غيّهم وفسقهم وخناهم .
ألم يعلموا بأن الله يرى ، مُحيط بهم لا تخفى عليه خافية ، وسيأتي بهم عبداً عبداً إذ أحصاهم وعّدهُم عداً ، وكلُّهم آتية يوم القيامة فرداً .
سبحان الله ! ألم يأتهم أنباء رمضان وبيّناته ؟! ألم يكن لهم آيةً أنوار رمضان ودلائله ؟! ألم يروا فرحة الأمّة واغتباطها بهذا الشهر؟! عجباً !! . ?كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ? [المطففين : 14] .
كنا في حقبةٍ من الدّهر ، نشكو فئاماً لا يعرفون اللهَ إلا في رمضان ، فما بال جموعٍ غفيرة من الناس شقيت في رمضان وغيره، ما حقّ مَن لم يكن له من الصيام إلا اسمه ؟! لم يذُق نوره وحلاوته وروحانيّته . عياذاً بالله من ذلك .
يا أيها الإخوان :
اسلُكوا درب السعداء في رمضان هم مَن عرف قدر رمضان ، فصامَه صوم المتقين العابدين القانتين ، صاموه بنفوس صادقة وقلوب خاشعة وألْسنة ذاكرة ، ليست بهاذية ولا لاغية ، كان صومهم ثُمال قلوبهم وحياة نفوسهم وجلاء أحزانهم وغمومهم .
يا أيها الصائمون :
تجنّبوا طريق الأشقياء في رمضان ، الذين نسوا الله تعالى فأنساهم ذكره ، الذين كان صومهم عليهم ندامة وحسرة ، نعوذ بالله من حالهم ومآلهم .(1/75)
قومٌ جاءوا في رمضان بالخاطئة ، وكانت أيامهم من ذكر الله خالية ، شرِقوا بالصيام فأورثهم البؤس والحرمان ، وأنزلَهم منازل الخيبة والخُسران ، يحسبون طول بقائهم عزاٍّ لهم ، وغِناهم سروراً لهم ، وأموالهم تمكيناً لهم ، كلاّ والله !! بل كل ذلك استدراج وبلاء ونكبة وغصّة ولأواء ، ولكن متى يعلمون ؟ قال تعالى : ?أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ? [المؤمنون : 55 - 56] .
قال ابن كثير رحمه الله : يعني أيظنّ هؤلاء المغرورون ، أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد ، لكرامتهم علينا ومعزّتهم عندنا ، كلا ليس الأمر كذلك كما يزعمون في قولهم ? نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ? [سبأ : 35] ، لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم ، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاءً ، ولهذا قال : ? بَل لا يَشْعُرُونَ ? كما قال تعالى : ? فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? [التوبة : 55] ، وقال تعالى : ? إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً ? [آل عمران : 178] ، وقال تعالى : ? فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ? [القلم : 44](190).
أيها الإخوة :
ألم يأن لهؤلاء أن يعودوا إلى ربّهم ويُنيبوا إليه ، وينقادوا لِحُكمه ويخشعوا لذكره وآياته .(1/76)
في يوم القيامة يفرح السعداء الأخيار ، ويحزن الأشقياء الأشرار ، يُبَوَّاُ الصالحون منازل ذهباً ، وينقلبُ الذين ظلموا منقلَباً صعباً أرداهم الهوى وغرّهم طول الأمل ، إذ تنكّروا للنُّذُر وأعرضوا عن هدايات البشر . ? أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ? [فاطر : 37] .
أُنذِروا بالسّقم فلم ينزجروا ، ووُعِظوا بالشَّيب فلم يتّعظوا وابتُلوا بالكروب فما أقلعُوا وأنابوا ، والله المستعان ! .
لله درُّ الشّيب من واعظٍ
وناصحٍ لو سُمع الناصحُ
يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى
ومنهجُ الحقِّ له واضحُ
فاسْمُ بعينيكَ إلى نسوةٍ
مهورهنَّ من العملُ الصالحُ
لا يجتلي الحوراءَ مِن خِدرها
إلا امروٌ ميزانُه راجحُ
مَن اتّقَى اللهَ فذاكَ الذي
سِيق إليه المتجرُ الرابحُ(191)
******
{ 13 } أخطَاءُ الصَّائمينَ
إن الصائمين رغم تلبسهم بهذه الطاعة الجليلة ، وما هم فيه من خير وبركة ، تبدو منهم بعض الأخطاء والمزالق التي تجانب
الصيام ، وتعكر صفوه وتحط من قدره وتنقص أجره .
الصائمون عباد الله استسلموا وأنابوا إلى ربهم ، يرجون رحمته ويبغون ثوابه ، ويحزننا أن يصدر من بعضهم أقوالاً وسلوكيات تنافي مقصود الصيام وما فيه من تعبّد وتذلّل وخشوع لله جل وعلا ، وإننا إذ نذكر هذه الأخطاء لا نطعن في الصائمين ولا نقلّل من فضلهم ، إنما ننّبه على أخطاء فئة منهم ـ والله الموفق ـ فمن تلك الأخطاء :
أولاً ـ بذاءة اللسان :
قال صلى الله عليه وسلم : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو ليصمُت) (192). وقال لّمعاذ رضي الله عنه : (كُفَّ عنكَ هذا) (193). وأشار إلى لسانه .(1/77)
اللسان جالب شر على العبد في كل وقت وحين ، والعبد مؤاخذ بكل ما يلفظ به ويتكلم ، قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ الله تجاوزَ عن أمّتي ما لم تعمل أو تَكَّلم) (194) ، ويشتد خطر اللسان حال الصيام مما قد يفوّت على الصائم خيراً كثيراً لِما ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : (مَن لم يدَع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجةً في أن يدَع طعامه وشرابه) (195).
وجرائر اللسان التي تضر بالصوم كثيرة منها : الكذب قول الزور والغيبة والنميمة والسباب والجِدال وأشباهها ، هي محرّمة على كل حال وفي حال الصيام آكَدُ وأشدّ .
فلماذا بعض الصائمين ـ هداهم الله ـ لا ينفرط لسانه إلا وهو صائم ، فيفوه بما يكدّر صفو صيامه ويُذهِب حلاوته ، فليتّقِ الله هؤلاء الصُّوام الذين صانوا صومهم من الحلال ولم يصونوه من الحرام ، وليتذكروا عاقبة كلامهم وما يعود به من الضرر عليهم ، وليجتنبوا هذه المحرمات وأماكنها ومَن يحرّض ويبعث عليها أو الخوض فيها ، وقد أرشد الشارع الحكيم عباده الصائمين إلى ما يطهر الصائم ويحفظه ويصرفه عن تلكُم الشرور بالكلية : (فإن سابّه أحدُ أو قاتله فليقُل إنّي امروٌ صائم) (196).
ثانياً ـ تضييع صلاة الجماعة :
قد اتفق أهل العلم أن صلاة الجماعة من أفضل الطاعات وآكد الواجبات ، ? وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ? [البقرة : 43] ، فواعجباً يا صائمون كيف يستقيم صيام مَن لا يشهد الصلاة مع المسلمين أو ربما كان لا يصلي والعياذ بالله ، فهؤلاء لن يُغني عنهم صيامهم وإمساكهم من الله شيئاً ؟!
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله :
ثانية الأركان للإسلامِ
تنهي عن الفحشاء والآثامِ
قرّة عين المصطفى فيها كما
عن نفسه أخبرَ نصاً مُحكما
ولم يزل مُبادراً إليها
وكم له مِن بيعة عليها
ومَن يكن صلاته قد ضيّعا
فهو لغيرها يقيناً أضيعا
ألا ترى الفسطاط يا ذا عندما
عموده يسقط منه انهدما(1/78)
كذلك لم يثبت بناء الباني
بعد انهدام أعظم الأركان
فهي عمود الدين فاحفظْنها
فإنَّ أوّل السؤال عنها
إن قُبلَت يُقبل سائرُ العمل
أو لا فيا صفقة خسر لم تَقِل
إن هناك طوائف كثيرة من الصائمين قد أضاعت صلاة الجماعة في رمضان وقبله ، ولم يتّعظوا وينزجروا بمجيء رمضان، ولعل هؤلاء كان رمضان حملاً ثقيلاً عليهم ، إذ سرورهم برمضان وفرحهم به ، يقضي بأن يصلحوا أحوالهم ويتوبوا إلى ربهم من كل خلل وتقصير ، ومن ذاك المحافظة على الصلاة في الجماعة .
وفئة من هؤلاء لا يشهد سوى المغرب والصبح ، فأما المغرب فِلتزامنها مع الإفطار ، لذا تجد أكثر أهل الحيّ يخرجون إليها ، أما الصبح فلأنهم ساهرون سامرون على لهوهم ولغوهم ، والله المستعان!.
ثالثاً ـ الإفراط في المطعومات والمشروبات :
إن مِن فرح كثير من الناس في هذه الأزمان برمضان يجعلهم يستقبلونه بفيضٍ من الطعام والشراب ويبالغون في ذلك ، حتى كأن رمضان موسم تفنّن في المآكل والمشارب وجمع وادخار لها .
? يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ? [الأعراف : 31] ، لهذا يجب على الإخوة الصائمين الاعتدال في ذلك وعدم الإسراف والمبالغة في الطعام والشراب الذي قد يؤدي إلى تضييع واجب أو ضرر بالروح والجسد .
وليتذكّر هؤلاء المسرفون وهم يبذلون جلّ أموالهم في بطونهم، أن في الساحة فقراء ومساكين لا يجدون ما يسد رمقهم ولا يقيم أصلابهم .
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? [النساء : 1] .
رابعاً ـ التساهل والانصراف عن هذا الشهر العظيم :(1/79)
يُلحظ على فئامٍ من الناس عدم إجلالهم وإكبارهم لرمضان ، وهذا شيء عجيب وخطير ، لأن المؤمنين الصادقين هم مَن يُجلّ رمضان ويقدره حق قدره ، ولا ينسى فضله وأهميته ، وهؤلاء المساكين كأنهم لم يعرفوا فضله وثوابه ولم يروا الأمّة فِرحَة باستقباله ، فتراهم ليس لهم في رمضان إلا الإمساك فحسب ، وغالب أوقاتهم صدود وبرود ، بل ربما فتح بعضهم لنفسه باب نزهة أو مشروع أو إنهاء عمل وشغل ، حتى ينقضي رمضان فيبوء بالخسارة والندامة . قال صلى الله عليه وسلم : (رغِمَ أنف رجل أدركه رمضان ثم انسلخَ فلم يُغفر له) (197).
خامساً ـ النوم الكثير :
قبيحٌ والله فعل كثير من الصائمين في رمضان ، إذ يقضون معظم نهارهم في سُباتٍ عميق إما لسهرٍ إلى بروق الفجر ، أو كراهة تحسّس آلام الجوع والعطش ، أو فراغ قاتل لا يدري المرء ماذا يصنع فيه ، وأسهل وسيلة لإزالته النوم الكثير الذي ربما استمر إلى العصر أو الغروب ، وهذا النوم فيه مفاسد عديدة لعل أهمها وأسوئها تضييع الصلاة وفعلها بعد خروج وقتها ، وجرى عليه بعض أهل العلم .
ثم هؤلاء مع نومهم الطويل في النهار ، تجدهم يحيون ليالي رمضان في اللعب واللهو ، لا سيّما الكرة التي يتداعى لها الناس من كل مكان ويتم الاستعداد لها من وقتٍ مبكّر ، بل ربما تنشط الحركة الرياضية في رمضان أشد من غيره ، وكأن هذا الشهر الفاضل للكرة واللعب دون خوف ولا حياء ولا مبالاة .
وإننا قبولنا هذا لا نحرّم الكرة ولكن نقول : ضاق الوقت بهؤلاء فلم يجدوا رمضان يمارسون فيه لهوهم ولعبهم ، أهذا هو جزاء النعمة ؟! أهذا حق رمضان الأيام المعدودات ؟! ، والذي نفسي بيده إن مَن يقضي نهاره في النوم الطويل وليله في السهر المميت قد كانوا في ضلال مبين ، وقد ضلوا وما كانوا مهتدين .
وآخرون يقضون الليالي الشريفات في المقاهي وعلى الأرصفة والطرقات لا يستحيون ولا يستثنون ليله منه ، وهم ما بين لغوٍ وزور وضحك وسفه ، والله المستعان .(1/80)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر : 8] .
سادساً ـ جعل رمضان موسم لعب ولهو :
إن رمضان ـ يا صائمون ـ شهر عبادة وفضيلة وطاعة وإنابة وخشية ، لا يجوز ولا ينبغي أن يُجعل زمناً للملاهي والألعاب وتضييع الأوقات بالضارّ الفاسد الوخيم .
إن هناك صائمين جعلوا من رمضان موسماً للعب واللهو وإضاعة الأوقات ، فتجدهم يضيعون الصلاة في الجماعة ، ويتخلّفون عن التراويح ، ويكثرون من اللعب واللهو ، بحيث لا يبقى لهم من وقتهم ساعة لقراءة القرآن وذكر الله تعالى ، نعوذ بالله من حالهم ! .
بل ربما كان لعبهم وسهرهم حال أداء المسلمين صلاة القيام ، قال تعالى : ? وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ? [المائدة : 58] .
سابعاً ـ العكوف أمام التلفاز والفضائيات وما يسمى بـ "الدش" :
العكوف أمام التلفاز والفضائيات وما يسمى بالدش ومشاهدة ما يغضب الله تعالى ويخلّ ويذهب العفّة والوقار ، من مسلسلات فاسدة وأفلام خليعة ومشاهد هدامة ، لا طائل من ورائها ، إلا مسخ عقول الأمة وفصلها عن دينها وقيمها ، وسلخها مِن آدابها وأخلاقها وتدمير شبابها ونسائها .
أقول : العكوف عليها أكثر اليوم إن لم يكن كله ونسيان الصيام وركنيّته وفضله وثوابه ، وهذه النقطة وإن كانت داخلة فيما سبق ، إلا أنني أفردتها بالذكر والتنبيه لخطورة آثارها وانتشار خطرها في أماكن بعيدة، بل اقتناها بعض أهل الفقر والمسكنة ، والله المستعان!.
يا صائمون :
ألا يتقّي اللهَ هؤلاء الذين أفسدوا صيامهم بالنظر إلى هذه الفضائيات وما تبثّ من صور عارية ونساء سافرات وموسيقى وغناء .
كيف يصوم هؤلاء وقد سبحوا في بحر من الخنا والفُحش والمناكر ، يحوطون صيامهم بغضب الله تعالى ولعنته وعذابه .(1/81)
? ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ? [الحج : 3] ، وقال تعالى : ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ? [النور : 30] .
ثامناً ـ الجد والنشاط أوَّل الشهر ثم التكاسل بعدَه :
لعلكم تشاهدون ـ أيها الأخيار ـ في مطلع رمضان تدفق الناس وسرعتهم إلى المساجد وما يبدونه من نشاط وعبادة وقراءة للقرآن وهم فرحون في ذلك برمضان ودخوله ، ثم لا يلبث هذا الجِدّ، أن يضعف شيئاً فشيئاً بعد مضيّ ثلث الشهر أو نحوه ، ثم يقل ثم يتلاشى بالكلية ، فيصبح آخر رمضان كأي شهر آخر لا تلمس فيه إقبالاً وجداً واجتهاداً ، بل ربما خلاف ذلك والعياذ بالله ، ولا ريب أن هذا خطأ كبير ومسلك مذموم ، لأن الظن بالعقلاء استغلال جميع أيام الشهر في الطاعة والعبادة ، فإذا أتى ثلث الشهر الأخير ضاعفوا الجد والعمل وقضوا أوقاتهم في الصلاة والتلاوة والدعاء تحرياً لليلة القدر المباركة .
لذا يجب على العلماء والدعاة وأئمة المساجد وطلبة العلم تحذير الناس من هذا المسلك وإرشادهم إلى اغتنام رمضان بالطاعات وعدم تضييعه والتكاسل فيه ، فما هي إلا أيام معدودات يربح مَن يربح ، ويخسر مَن يخسر ، والله الموفق .
تاسعاً ـ عدم المسارعة إلى الطاعات :
يدخل رمضان وبعض الناس في غفلة وصدود ونوم وجمود ، لا يتغير مسار حياته ولا يصلح مِن نفسه ولا يسابق في نفع روحه وقلبه ، يمر اليوم واليومان ولا يقرأ شيئاً من القرآن ، وإن قرأ وصلى كان كفعله في غير رمضان ، لا ترى علوّ همَّة في الطاعة ، ولا عزيمة قوية على العبادة ، ولا طموحاً شامخاً إلى الخيرات ، بل تكاسُل وتهاون والله المستعان ! .(1/82)
ولا ندري متى يستيقظ هؤلاء القوم من غفلتهم وغمرتهم ، ويعرفوا مكانة مواسم الطاعة والرحمة ، فيجدوّا في اغتنامها قبل أن لا يكون عمل ولا جد ، بل حساب وبلاء ، يوم يفرح الأخيار بطاعاتهم ومسابقتهم في الخيرات ، ويحزن الفجار على تقصيرهم وتضييعهم ، ? وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? [مريم : 39] ، يومئذ يودّ بعض هؤلاء المقصرين لو يعود ويعمل صالحاً ويجتهد طائعاً ، لكن هيهات هيهات ، انقضى الزمان وفات الأوان ، فإمّا إلى رحمةٍ ورِضوان ، أو سخط ونيران .
عاشراً ـ عدم تأدية صلاة التراويح :
بعض الناس لا يصلي التراويح مع المسلمين ، بينما الأمّة كلها تلجأ إلى ربّها في رمضان تدعوه وتتضرّع إليه بقلوب خاشعة وأعين دامعة ونفوس تائبة ، إن للتراويح دوياً في رمضان ووقعاً كبيراً على المسلمين ينشط لها الرجال والنساء والصبيان يصلّون ويدعون ويبكون ، بل تذهب بعض الأُسر إلى مكة ، لكن هناك طوائف أُخر يتخلفون عن هذه الصلاة بحجة أنها ليست بواجبة ، فترة طيلة الشهر الكريم لا يعرف التراويح ، وهؤلاء ليتهم على طاعة وفيرة وأجور جزيلة ويتكلمون عن علم وبصيرة ، بل والله من حزب اللاهين المقصرين المحرومين الذين زهدوا في ثواب ربهم وفضله ومغفرته.
قال صلى الله عليه وسلم : (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم مِن ذنبه) (198).
معاشر الإخوة الكرام :
إن التراويح من جنس قيام الليل الذي عظم فضله وشأنه في هذه الشريعة الزكيّة ، فهو أفضل صلاة بعد المكتوبة ، ومفتاح البركات ومغلاق السيئات ، وسائق الرزق ومانع الضُّر .
اعلموا يا إخوة أن هناك مَن لا يقوم الليل قبل رمضان ، والتراويح باعث لقيامه وسبب لنشاطه واعتياده .
فيا من نسى قيام الليل قبل رمضان ، داوِمْ على التراويح في ليالي رمضان لكي تنال أجرها وبركتها .
والله الموفق ،،
******
{ 14 } آداب الصّائمينَ(1/83)
إن الصيام عبادة من العبادات ، لا يكمل ويحسُن ويطيب إلا بالتزام آدابه وأخلاقه وما ينبغي فيه ، وهذه الآداب تساعد وتسهم في بلوغ درجة التقوى التي هي العاقبة العظيمة من الصيام .
فإذا أحببتُم ـ يا معاشر الصُّوَّام ـ أن يتم لكم الصيام وتكونوا محسنين فيه فحقَّقوا فيه آداباً هي زينة الصائمين وسمت الصالحين وشعار العاقلين ، فالعبادة تزينها الآداب وترفع شأنها الأخلاق وتُقيم اعوجاجها محاسن الخِلال .
الآداب والأخلاق أصل في الدين وجزء متين فيه ، بل يكفي في فضلها وأهميتها قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما بُعثتُ لأُتمّمَ مكارمَ الأخلاق) (199). رواه أحمد والترمذي ومالك ، وقال تعالى: ? خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ? [الأعراف : 199].
قال جعفر الصادق رحمه الله : ليس في كتاب الله أشمل وأجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية .
والآداب المتعلقة بالصيام إما أن تكون واجبة أو مستحبة ، وقد جمعْتُ ما تيسّر منها ، فمن الآداب التي ينبغي للصائمين امتثالها والعناية بها ما يلي :
1- الإخلاص : وهو أدب واجب في كل طاعة وشعيرة من شعائر الإسلام ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، قال تعالى : ? فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ ? [الزمر : 2- 3] ، وقال : فيما يرويه عن ربه تعالى (أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، مَن عمِلَ عملاً أشرك معي فيه غيري تركتُهُ وشِركَه)(200) أخرجه مسلم في صحيحه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي قال تعالى : (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) إلماع لمعنى الإخلاص وأهميته .(1/84)
2- أن يكون في صومه مؤمناً محتسباً : وهذا أدبٌ من الأهمية بمكان ، ولِعِظمه وشرفه جعله الله تعالى شرطاً أكيداً في نيل ثمرة الصيام وثوابه ، وهي غُفران الذنوب وسترها ، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم مِن ذنبه) (201) ، وقوله : (إيماناً) معتقداً بحق فرضية صومه ، وقوله (احتساباً) أي طلب الثواب من الله تعالى(202).
فالصائم المؤمن بالله واليوم الآخر يؤمن أيضاً بفرضية رمضان ووجوب صومه وأنه يُصام لأن الله تعالى فرَضه وكتبه علينا ، فهو يمتثل أمرَ ربْه وينفّذ شرعه ، ثم مع إيمانه بفرضيته ووجوبه ، يصومه طالباً وراجياً ثوابه من الربّ جل وعلا ، لا يقصد نفعاً ولا هبةً ولا جزاءً من الخلق أجمعين ، بل يروم ثواب الله تعالى الجزيل ، الذي لا يضاهيه في الدنيا ثواب ، ? وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ? [النحل : 41] .
3- كثرة الذكر والإقبال على الأعمال الصالحة : وهذا من جليل آداب الصائمين ، ومحمود في كل الأزمنة والأمكنة ، وفي رمضان يعظم ويشتد أمره لما في هذا الشهر من عظيم الأجر والحسنات ومضاعفة الدرجات ، فليس لدى الصائمين وقت يضيّعونه في اللهو والملذات وحارقات الأوقات ، بل إن الوقت عندهم أثمن وأغلى من كل ثمين وغالٍ في الدنيا .
والوقت أنفَسُ ما عُنيتَ بحفظهِ
وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ
فالوقت نعمة كبرى من الله تعالى لا يُقتل بملهيات ولا سفاهات، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ) (203).
فيا أيها الصائمون :
تداركوا أنفسكم في رمضان ، فأنتم في زمنٍ فاضل يتنافس فيه الصالحون ويجدّ فيه العاملون ولا يضيعه العاقلون .(1/85)
قال تعالى : ? إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ? [الأنبياء : 90] .
أخرج البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب الصيام باب أجودَ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير ، وكان أجوَدُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة"(204).
قال البدر العيني : قوله "أجود الناس" هو أفعل التفضيل من الجود وهو العطاء : أي أعطي ما ينبغي لمن ينبغي ، ومعناه هو أسخَى الناس ، لَمّا كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة، لابد أن يكون فعله أحسن الأفعال وشكله أملح الأشكال ، وخلُقه أحسن الأخلاق ، فلا شك بكونه أجود ، وكيف لا ؟ وهو مستغنٍ عن الفانيات بالباقيات الصالحات(205).
وفي هذا الحديث الشريف من الفوائد العلمية والتربوية المهمة ما لا يخفي ، وقد ذكر العيني ـ رحمه الله ـ عدداً منها ، وها أنَذا أسوقها من شرحه على البخاري قال : "منها الحث على الجود والإفضال في كل الأوقات والزيادة منها في رمضان عند الاجتماع بالصالحين ، ومنها زيارة الصُّلَحاء وأهل الفضل ومجالستهم وتكرير زيارتهم ومواصلتها إذا كان المزور لا يكره ذلك ، ومنها : أنه لا بأس بأن يُقال "رمضان" من غير ذكر شهر على الصحيح ، ومنها : أن القراءة أفضل من التسبيح وسائر الأذكار ، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعلاه دائماً أو في أوقات مع تكرر اجتماعهما"(206) انتهى .
فانظروا ـ أيّها الصائمون ـ كيف كان جود رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان يعظّم مواسم الرحمة ويضاعف جوده وإفضاله فيها .
فائدة :(1/86)
قال بعض العلماء : وجه التشبيه بين أجوديّته صلى الله عليه وسلم بالخير وبين أجوديّة الريح المرسلة أن المراد بالريح المرسلة ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة ، أي فيعم خيره وبِرّه مَن هو بصفة الفقر والحاجة ومَن هو بصفة الغني والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم .
4- صيانة الصوم عن سائر الشهوات : أما الأكل والشرب والجماع فهذه واجبٌ الانكفاف عنها لأنها مفسدات للصوم كما تعلم ، لكن ثمة أشياء تُنافي مقصود الصيام من اللعب واللهو وحب المرح وفضول الكلام والمزاح وما فيه تسلية وترويح ، ينبغي للصائم تنزيه صومه عنها لأنها تذهب بالوقت وتضر بالقلب ، وقد تكون جارّة إلى مفاسد ومحرّمات ، وفي الحديث : (الصيام جُنة فلا يرفث ولا يجهل) أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسّفَه ونحو ذلك(207).
فالصائم الموفَّق يمسك ساعات طوالاً ، حقُّ هذه الساعات المباركة التعبّد وقراءة القرآن وطلب كل برّ وخير وفضيلة ، وليس ما يناقض ذلك من فضول المباحات .
5- حُسن الخلُق والأدب : الصائم ذو خلُقٍ عالٍ وأدب سامٍ ، يُحسن ويكرم ويبذل ولا يسيء ، ويصفح ولا يعاقِب .(1/87)
الصائمون يخالط بعضهم بعضاً في العمل والمسجد والشارع ويكلم بعضهم بعضاً ، فينبغي ألا يجرّ ذلك الكلام إلى لغوٍ أو طول حديث بلا فائدة أو سوء في المعاملة ، بل ينبغي للمسلم اقتفاء طيّب الأخلاق مع كل حال ، وفي الصوم آكّد وأشدّ ، لأن الصائم مأمور بحفظ أقواله وأفعاله لكي لا ينقص أجره ، فيجمّل نفسه بحُسن الخلُق مع صنع خير ومعروف وحياء وصلة وسخاء ومروءة وشهامة ، قال صلى الله عليه وسلم : (إن المؤمن ليُدرك بحُسن خلُقه درجة الصائم والقائم) (208) ، فلا يحملك ـ أخي الصائم ـ إمساكك وجوعك على الجفاء والشدة والخشونة بحيث تبدو ذا غلظة وفظاظة في مقالك وفعالك ، بل المفترَض فيك أن يُعلي الصيام من نفسِكَ فيكسبها أحسن الخلق والأدب ، قال بعض الحكماء : ما نحن إلى ما نتقوى به على حواسنا من المطعم والمشرب ، بأحوج منا إلى الأدب الذي هو لقاح عقولنا ، فإن الحبة المدفونة في الثرى لا تقدر أن تطلع زهرتها ونضارتها إلا بالماء الذي يعود إليها من مستودعها .
وقيل أيضاً : من فضيلة الأدب أنه ممدوح بكل لسان ، ومتزيَّن به في كل مكان وباقٍ ذكره على أيام الزمان(209).
6- اجتناب قول الزور من الكذب والغيبة والنميمة وشبهها : قال تعالى في وصف عباد الرحمن : ? وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ? [الفرقان : 72] ، وقال تعالى: ? وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ? [القصص : 55] .
إننا إنما نبّهنا على هذا الأدب المهم وأفردناه مع دخوله فيما سبق لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم له وتحذيره منه .(1/88)
ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من لم يدع قولَ الزوّر والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (210) ، والله لقد أجهدَ نفسه هذا الصائم وأتعبها إذ كفَّ عن الأكل والشراب ولم يحفظ لسانه مِن قول الزور والعمل به فاستحق أن يعرض الله عنه وعن عِبادتِه .
7- قطع كل خصام وداعي السب والشتم وقول "إني صائم" : إنه لأدبٌ عظيم يحفظ الله تعالى به جوهر الصيام ومقصده وروحه إذ يعلّم عباده الصائمين أن يقول كل واحد منهم "إني امرؤ صائم".
وجملة "إني صائم" لها دلالات حسنة عجيبة منها :
- أنها تعظيم لشأن الصيام وتبجيل له ، وكأن الإنسان بلفظه إياها يقول : إن الصيام حائلٌ بيني وبين إجابتك والردّ عليك .
- إن السبّ والشتم معاصٍ تضادّ الصيام وهي غير لائقة بالصوم ، فكيف يستقيم صوم العبد وهو سابّ شاتم ؟! .
- إن فيها إيماء إلى أن المحمود في حق الصائم تنزيه لسانه عن كل قول بذيء أو حتى ليس بنافعٍ ومفيد ، وكأن الصائمين ليس لهم كلام إلا فيما ينفعهم ويقرّبهم من الله ، من ذكره وعبادته وطلب مرضاته .
- إنها ذريعة لتقليل الكلام والحد منه لا سيما الضارّ ، وذلك أثناء الصيام فينبغي للصائم أن يكون صامتاً فيما لا ينفعه من فضول الكلام ، ذاكراً خاشعاً ذا سمتٍ وسكينة ووقار .
- إنها تعليم وتأديب للطرف الآخر لكي ينتهي عن فساده وغيّه .
فالمهم هنا أن هذه الجملة أصل في صمت الصائم وسكونه وتقللّه من الكلام ، وهي أسٌ في حفظه لنفسه وصومه من نتاج زلات اللسان وغوائله ، فالصمت علامة استكانة الصائم وأدبه ووقاره ، وهو للمسلم من خير الذّهب ، وأنفس اللذائذ والغرر .
قال بعض البلغاء : إلزم الصمت فإنه يكسبُك صفو المحبة ، ويؤمنّك سوء المغبّة ، ويُلبسك ثوب الوقار ، ويكفيك مؤنة الاعتذار .
وقال بعض الفُصَحاء : إعقلْ لسانك عن حق توضحه أو باطل تدحضه ، أو حكمة تنشرها أو نعمة تذكرها(211).(1/89)
وفي وصف عباد الرحمن الأخيار : ? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ? [الفرقان : 63] .
إرشاد وإذكار إلى سلوك محاسن الكلام وألفاظه مع الجهَلة والرَّعاع .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند هذه الآية : أي إذا سفه عليهم الجاهل بالقول السيءّ لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حِلماً(212).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنا إلا أنت ، واصرف عنا سيئها ، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ، والله الموفق .
*****
{ 15 } مَفاهِيم خَاطِئَة في رَمضَان
إن طلب العلم الشرعي وابتغاء الفقه في الدين يقي المسلمين كثيراً من الأخطاء الواقعة في عباداتهم وشعائرهم ، فهو جِماع كل خير ومنبع كل فضل وبرّ .
في المتفق عليه عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وأخرجه البخاري في كتاب العلم باب مَن يُرِد اللهُ به خيراً يفقّهّهُ في الدين ، من طريق حميد بن عبد الرحمن : سمعت معاوية بن أبي سفيان خطيباً يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (مَن يُرد اللهُ به خيراً يُفقّهه في الدين وإنما أنا قاسمٌ والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم مَن خالفّهم حتى يأتي أمرُ الله) (213).(1/90)
الفقه في الدين هو سَنَن السلامة لتصحيح العبادة ، وهو الدليل لتمييز السّنن ونشرها ودرء البّدَع وإزالتها ، وهو سراج التوفيق والسداد وعمدة أهل العلم والرشاد ، أخرج ابن أبي عاصم والطبراني وغيرهم عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً : (يا أيّها الناس تعلّموا ، إنما العلمُ بالتعلُّم ، والفقه بالتفقُّه ، ومَن يُرد اللهُ به خيراً يفقّهه في الدين) فمّن لم يتفقّه في الدين فهو ذاك العابد الكائن في ربقة الجهل ، السائر على غير هدى من الله طمعاً في الأجر والثواب.
كم تعبّد أُناسٌ على غير السنن ، ومنهم مَن فعل بِدعة أو مخالفة ظناً منه أنه سنّة وهداية ، وتعلّق أقوامٌ بالأغاليط راجين الثواب وطريق المتقين كل ذلك من جرّاء الجهل وعدم التفقّه في الدين ، لقد ضعف شأن الفقه والعلم عند كثير من الناس ، فتراهُم في دُنياهم حُذّاقاً خُبراء وفي أمور دينهم وعباداتهم جُهلاء خُرقَاء ، تنزل بهم المسائل والنوازل والحاجة إلى معرفة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحركون ساكناً ، ولا يطلبون عالماً ، همّهم أموالهم وشغلهم بطونهم ، وهؤلاء يصدق عليهم قول القائل :
أبُنيَّ إن مِنَ الرّجال بهيمةً
في صورةِ الرجل السميع المُبصرِ
فطِنٌ بكل مُصيبةٍ في مالِه
وإذا يُصابُ بدينه لم يشعرِ(214)
أين هؤلاء من صنيع ذلك الصحابي الجليل عُقبة بن الحارس رضي الله عنه الذي نزلّت به نازلة في دينه فشدّ رحله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلّم أمر دينه ويستبين له الحق ، وقصته أخرجها البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي مليكة عن عُقبة بن الحارث أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عَزيز فأتته امرأة فقالت : إنّي قد أرضعتُ عُقبة والتي تزوج منها ، فقال لها عُقبة : ما أعلمُ أنكِ أرضعتِني ولا أخبرتِني ، فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كيف وقد قيل؟) ففارقَها عُقبة ونكَحَت زوجاً غيره(215)(1/91)
وهذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه منها في كتاب العلم باب الرحلة في المسألة النازلة ، هكذا الترجمة عند جمهور رواة الصحيح ، وفي رواية كريمة زيادة "وتعلم أهله" والصواب حذفها لأنها في موضع آخر من الكتاب(216).
أيها الإخوة الصُّوّام :
إن إدراك فقه الصيام وسائر الطاعات أمر مؤكّد في عصرٍ هان دينه وفشا جهله وتعاظم حاملوه .
قبيحٌ بالمرء أن تتوالى عليه الرمضانات الشريفات ، وهو لا يزال جاهلاً أحكام الصيام ، عرياٍّ عن معرفة واجباته وآدابه وأسراره، ومعنى الفقه في الدين هو : طلب العلم الشرعي وتعلّمه فقهاً وبصيرةً واقتداءً وعملاً .
قال الحسن رحمه الله : "الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، البصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربّه" ، والمتفقّه في الدين هو مَن يصدر عن علم الكتاب والسنّة ، السائر على هدى السلف الكرام الحامل للآثار ، المُنابذ للآراء والغرائب والشواذ ، وهو أيضاً سليم المنهج في الاستدلال ، جارٍ على الأصول المعروفة عند أهل العلم دون شطط أو انحراف ، يراعي القواعد العامة ويردّ الجزئيات إليها ويضم النظير إلى نظيره ، مقتفياً معالم سلف الأمّة وفهومهم وطرائقهم في الاستنباط حسب ما هو مُدوَّن في كتب الأصول والقواعد ، مع اعتبار القواعد الشرعية التي عظّمتها الشريعة وقرّرها الأئمة الأعلام ، وكذلك يراعي مصالح الشرعية ومقاصدها .
معاشر المسلمين :
وها نحن في رمضان نشاهد صوراً من الجهل وقلة الفقه في الدين وأموراً يظنّ أنه إلى السنّة والسداد دانٍ ، وهو منها عند تحقيق العلم وصدق التَّفقُّه ـ قاصٍ ، قد سيّره جفاؤه للعلم وصنعه إرث القِدَم ، وحملته عاطفة الخير المتوهّجة التي كدَحَت كدحاً مجرّداً عن أنوار العلم ، وغافلاً عن معالم البصيرة ، ورائثاً في إدراك الهداية .(1/92)
والعجيب أن هؤلاء لم تنفضهم الجهالات ، ولم تحركهم الأزمات مع تواليها وتكاثرها وتزاحمها ، بل اعتادوا الجهالة والبطالة واقتفاء العِيّ والفدامة .
إن أكياس المسلمين سالكو الخير والرشاد ، تعِظُهم النُّوب والرّزايا ، وتعلّمهم تجارب الحياة بل تدفعهم لأعالي المجد وقمَم الشرف ، ومن هؤلاء الإمام الهُمام العز بن عبد السلام ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كان بحقٍّ سبَاق غايات وحاوي قصبات ، بلغ في العلم والعبادة والصدّع بكلمة الحق ، المُبتغى الأعلى المُرتقى الأنأَى ، قال التاج السبكي في ترجمته :
"شيخ الإسلام والمسلمين ، وأحد الأئمّة الأعلام ، سلطان العلماء ، إمام عصره بلا مدافعة ، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه .." (217).
هذا الإمام الفذّ الكبير ـ رحمه الله ـ وقعت له في فاتحة عمرِه حادثة نبّهتهُ مِن غفلته وكشفَت له رَداءة الجهل وعدم الفقه في الدين ، بل دفعتهُ إلى علاءٍ مجيد تقصده الآمال ، وتطلبه الأماني والرغبات حتى لُقّب بـ "سلطان العلماء" .
قال التاج السبكيّ نقلاً عن أبيه : "كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أول أمره فقيراً جداً ولم يشتغل إلا على كِبَر ، وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة من جامع دمشق فبات بها ليلة ذات بردٍ شديد فاحتلَمَ فقام مُسرعاً إلى بِركة الكلاّسة فحصل له ألم شديد من البرد ، وعاد فنام فاحتلم ثانياً فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج ، فطلع فأُغمى عليه من شدة البرد ـ قال السبكيّ : أنا أشك هل كان الشيخ الإمام يحكي أن هذا اتفق له ثلاث مرات تلك الليلة أو مرّتين فقط ـ قال : ثم سمع النداء في المرة الأخيرة : يا ابن عبد السلام : أتُريد العلم أم العمل ؟ فقال الشيخ عزّ الدين : العلم لأنه يهدي إلى العمل . فأصبح وأخذ "التنبيه" فحفظه في مدة يسيرة ، وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه ، ومِن أعبد خلق الله تعالى(218).
أيها الصائمون :(1/93)
في رمضان يجأر المسلمون إلى ربّهم ذكراً وعبادة وصلاة ، ويهرعون إلى انتثال كل خير وتحصيل كل ثواب وفضل ، وهذا من عظيم فعالهم وسباقهم وهو من أجمل ساعات الحياة وأجلّ فترات العمر ، لكن هذا الجُؤار وتلكم المسارعة قد يشوبها خفاء علم ، أو سوء فهم ، أو تخبُّط وتخليط واستعجال .
بل اعتراها جهالة فادحة بطرت عن سؤال العلماء ونأت عن ملامة الكُتب والأسفار ، بل من المؤسف أنها جهالة شأنها هوىً قتّال، وتقليد سقيم وتعصّب ذميم ، قد اجترحَت قوارع الضيق والضنك والأنكاد ، وانزوَت في حبائل التيه والزيغ والاغترار .
لم تعُد جهالة هؤلاء محدودة التأثير ، بل امتدّت وأصبحت قاصية المدى ، عمَّ ضررُها الحيّ والأتباع والسُّذَّج كافةً ، فمتى يرعوي أناسٌ راموا دعوة بلا علم وبصيرة وارتدوا تنسكاً بلا فقه ورشاد ، وابتغَوا منجاة بلا اهتداء وسداد ، وادّعوا حُبّ النبي صلى الله عليه وسلم بلا اقتداء وامتثال .
وللإمام الحافظ الكبير والمحقق الشهير أبي عمر بن عبد البرّ القرطبي المالكي ـ رحمه الله ـ في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" مبحث يُبهر الرائي حُسنه ويونق السامع جرسه ، ضمنّه رُتب العلم وطرائق التفقّه ولزوم السّنن وطرح الآراء واقتفاء السلف الكرام ، إليكم جُمَلاً منه :
قال رحمه الله تعالى : "طلب العلم درجات ومناقل ورُتب لا ينبغي تعدّيها ، ومَن تعدّاها فقد تعدّى سبيل السلف ـ رحمهم الله ـ ومَن تعدّى سبيلهم عامداً ضل ، ومَن تعدّه مُجتهداً زلّ ، فأول العلم حفظ كتاب الله ـ عز وجل ـ وتفهّمه ، وكل ما يعين على فهمه فواجبٌ طلبه معه ، ولا أقول إن حفظه كله فرض ، ولكن أقول إن ذلك شرط لازم مع من أحبّ أن يكون عالماً فقيهأً ناصباً نفسه للعلم ليس من باب الفرض" .(1/94)
"القرآن أصل العلم ، فمن حفظه قبل بلوغه ، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه ، ويقف على اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك ، وهو أرٌ قريب على مَن قربّه الله عز وجل عليه ، ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تُفتح له أحكام القرآن فتحاً".
"وممّا يُستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كاب الله ـ عز وجل ـ وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها وسعة لغتها وأشعارها ومَجازها وعموم لفظ مخاطبها وخصوصه وسائر مذاهبها لِمَن قدر فهو شيء لا يُستغنى عنه ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق أن يتعلّموا السنّة والفرائض واللحن ـ يعني النحو ـ كما يُتعلَّم القرآن" .
ثم أسند إلى أبي عثمان النهدي ـ رحمه الله ـ قال : "كان في كتاب عمر رضي الله عنه "تعلّموا العربية" ، وإلى ابن عمر : "أنه كان يضرب ولده على اللحن" .
وأسند أيضاً إلى الشافعي رضي الله عنه أنه قال : "مَن حفظ القرآن عظمت قيمته ، ومَن طلب الفقه نُبل قدره ، ومن كَتب الحديث قويَت حُجّته ، ومن نظر في النحو رقّ طبعه ، ومَن لم يصُن نفسه لم يَصُنه العلم" .(1/95)
ثم قال رحمه الله بعد إيضاحه لحال طلبة العلم وأهله في زمانهم حيث أنهم حادوا عن طريق السلف وسلكوا ما لا يعرفه أئمتّهم ، منهم مَن تكثّر من العلم بلا تمييز وبصيرة ، وبلا تفقُّه وتدبّر، قد جهلوا ما لا يسع المسلم جهله ، وآخرون هجروا القرآن والآثار وعمدوا للآراء ، قال رحمه الله : "فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها ، واعلم أن مَن عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ، ونظر في أقاويل الفقهاء فجعله عوناً له على اجتهاده ومفتاحاً لطرائق النظر وتفسير الجُمل المحتملة للمعاني ، ولم يقلّد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم مِن حفظ السنن وتدبرها واقتدائهم في البحث والتفهّم والنظر ، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهّوا عليه ، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ولم يبرّئهم من الزلل كما لم يبرّئوا أنفسهم منه ، فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح ، وهو المصيب لحظّه والمعاين لرشده والمتّبع لسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم وعمّن اتبع بإحسانٍ برأيه ورام أن يردّها إلى مبلغ نظره فهو ضالُّ مُضلّ ، ومَن جهل ذلك كله أيضاً وتقحّم في الفتوى بلا علمٍ فهو أشدّ عمىً وأضل سبيلاً .
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً
ولكن لا حياة لِمَن تُنادي
وقد علمتُ أنني لا أسلم من جاهل معاند لا يعلم .
ولستُ بناجٍ من مقالة طاعنٍ
ولو كنتُ في غارٍ على جبلٍ وَعرِ
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالماً
ولو غاب عنهم بين خافيتي نسرِ
واعلم يا أخي أن السنن والقرآن هما أصل الرأي والعيار عليه، وليس الرأي بالعيار على السنة بل السنة عيار عليه ، ومَن جهل الأصل لم يُصِب الفرع أبداً(219). انتهى كلامه رحمه الله .
أيها الإخوة :(1/96)
من المسائل التي وقع الغلط فيها واحتيج للتنبيه عليها وما فيها من مخالفات ، مسألة الإكثار من الختمات دون تدبُّر ، والاحتياط لرمضان بالصيام قبله ، والنية للصوم ، وحكم السواك للصائم ، وإهمال بعض أبواب الخير اليسيرة ، وتتُّبع المساجد الكبيرة والأصوات الحسنة في التراويح ، وسوف يتم إيضاحها في المواعظ القادمة ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
المسألة الأولى ـ توالي الختَمات لكتاب الله تعالى دون تدبّر وتأمُّل:
لعل أمثلة طاعة يطرب لها رمضان وتستعرُ لها عزائم الصائمين قراءة القرآن ، فرمضان شهر القرآن ، فيه تزخر بركته وتظهر عجائبه وتحلو مسامرته .
فالمؤمن الصالح في رمضان رجلٌ طامح الطّرف ، سامي الهمّة يصرف همَّهُ وهمّته إلى كتاب الله تعالى قراءة وتأملاً وتدبّراً وتذكراً . ? كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? [ص : 29] .
ولقد تراقى إلى هؤلاء الصالحين أنباء جدّ السلف وسراعهم إلى ختم القرآن مرات كثيرة ما صنعه أتباعهم من ذوي النّسك والعبادة ، حتى نُقل في ذلك أخبارٌ عجيبة يذهل منها السامع ، وربما شاب بعضها المبالغة أو كانت من باب الكرامة ، والله تعالى أعلم .
قال النووي رحمه الله في التّبيان : "ينبغي أن يحافظ ـ حامل القرآن ـ على تلاوته ويُكثر منها" كان السلف ـ رضي الله عنهم ـ لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه ثم ذكر أحوال بعضهم في الختمة ثم قال : "وعن كثير : في كل ثلاث ليالٍ ، وعن بعضهم : في كل ليلتين ، وعن كثيرين : في كل يوم وليلة خَتمة ، ومنهم مَن كان يختمُ ثلاثاً ، وختم بعضهم ثماني ختمات أربعاً في الليل وأربعاً في النهار"(220).(1/97)
وقال النووي أيضاً : "وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زاذان من عُبّاد التابعين رضي الله عنهم : أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ، ويختمه أيضاً فيما بين المغرب والعشاء ، ويختمه فيما بين المغرب والعشاء ختمتين وشيئاً ، وكانوا يؤخّرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل".
"وروى ابن أبي داود بإسناده الصحيح أن مجاهداً كان يختم القرآن في رمضان بين المغرب والعشاء في كل ليلة من رمضان ، وعن منصور قال : كان عليّ الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان ، وعن إبراهيم بن سعد قال : كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن" .
"وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يُحصون لكثرتهم ، فمن المتقدّمين عثمان بن عفان ، وتميم الدّاري ، وسعيد بن جبير رضي الله عنهم ، ختمه في كل ركعة في الكعبة"(221).
فهذه الأخبار وأشباهها تستوقف المرء المسلم في هذه الأزمان ، وقد يكون من العسير تحقق شيء منها لما عُلم من حال هؤلاء وأولئك ، فقد تباينّت النفوس والهِمم والأحوال ، فهذا الزمان هان شأنه وضعف إيمان أهله وفترّت عزائمهم ، والله المستعان !
فالمراد أن الناس في رمضان يهتبلون الفرصة ، بالإكثار من الختَمات تشبُّهاً بِمن سلفهم لعلّهم يدركون شأوَهم ، لكن هذا على سبيل إهمال التدبُّر والتفهُّم والتفكّر ، ولا يمتري أحدٌ في خطأ ذلك ، لِما فيه من إذهاب الأجر وإجهاد النفس وإهدار مقصود التلاوة ، لهذا غلطَ كثيرون عندما ظنّوا أن مقصود التلاوة الإكثار في الختمَات دون تدبر وتأمل ، فهذُّوا القرآن هذا ونثروه نثراً غير مُبالين بأثره وتأثيره في النفس ، لذا لابد من إيضاح هذه المسألة بما يلي :(1/98)
1- الغاية الحميدة من التلاوة هي التدبر والفهم والاتعاظ ، وهذا يُدرَك بترتيل التلاوة وتحسينها ، المثمر للعلم والإيمان واليقين ، ولهذا اشتد نكير السلف لمن كانت عنايته بالتلاوة الكثيرة دون التدبّر والتأمّل .
ففي صحيحي البخاري ومسلم ، وبوّبَ له بعض شُرّاح صحيح مسلم : باب ترتيل القراءة واجتناب الهذيان : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال له : إنّي أقرأ المفصّل في ركعة واحدة. فقال عبد الله : "هذا كهذّ الشِّعر ، إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخَ فيه نفَعَ"(222).
وذكر شُعبة رحمه الله أن أبا حمزة قال لابن عباس : إني رجل سريع القراءة ، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين ، فقال ابن عباس : لأنْ اقرأ سورة واحدة أعجبُ إلىَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل ، فإن كنت فاعلاً ولابد فاقرأ قراءة تُسمِع أُذُنيكَ ويعيها قلبك".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : "لا تهذّوا القرآن هذّ الشِّعر، ولا تنثروه نثر الدّقَل ، وقِفُوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن هَمّ أحدكم آخر السورة" .
وقال الحسن البصري رحمه الله : "نزل القرآن لِيُعمل به فاتخَذوا تلاوته عملاً" .
وقال أيضاً : "إنّ مَن كان قبلكم رأوا القرآن رسائل مِن ربّهم ، فكانوا يتدبّرونها بالليل ويُنفذونها بالنهار" .
2- أن الطريق الأمثل والمسلك الأرشد في تلاوة القرآن هو الترتيل والتدبّر ، وبه قضى القرآن في آيات عديدة نحو قوله تعالى : ?وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً? [المزمل : 4] ، معناه ـ كما عند الطبري بسندٍ صحيح ـ عن مجاهد : بعضه إثر بعض على تَؤده . وعن قتادة : بيِّنْهُ بياناً .(1/99)
وهذا مأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأقوم في التلاوة ، وهديه الأسلم في القراءة ، قال البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن : باب الترتيل في القراءة وقوله تعالى : ?وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً? [المزمل : 4] ، وقوله تعالى : ? وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ? [الإسراء : 106] ، وما يُكره أن يُهذّ كهذّ الشِّعر ، ثم أسند إلى أبي وائل عن عبد الله قال: "غدونا على عبد الله فقال رجل : قرأتُ المفصّل البارحة فقال: هذا كهذّ الشِّعر(223).
ثم أعقبه بحديث ابن عباس في قوله : ? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ? [القيامة : 16] ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي وكان مما يحرّك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يُعرف منه ... الحديث(224).
قال الحافظ في الفتح : قوله "باب الترتيل في القراءة" أي تبين حروفها والتأنّي في أدائها ليكون أدعى إلى فهم معانيها"(225) ، وشاهد الترجمة من حديث ابن عباس كما قال الحافظ : النهي عن تعجيله بالتلاوة فإنه يقتضي التأنّي فيه وهو المناسب للترتيل(226).
وقال البخاري أيضاً ـ باب مدِّ القراءة ـ ثم ساق حديث أنس رضي الله عنه من طريقين ، وفيه تقرير مشروعية المد في القراءة وهو مِن مُقتضى الترتيل ، لأنه لا يمكن تأتِّيه في الإسراع ، والطريق الأول عن قتَادة قال : سألتُ أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "كان يمدّ مداً"(227).
والآخر قال قتادة : "سُئل أنس كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كانت مداً . ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ ببسم الله ، ويمدّ بالرحمن ، ويمد بالرحيم"(228).
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كان النبي يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطولَ من أطولَ منها"(229).(1/100)
وكان صلى الله عليه وسلم يُرجِّع في قراءته ، والترجيع لا يتحصّل إلا مع الترتيل إن لم يكن قدراً زائداً عليه ، قال البخاري أيضاً في كتاب فضائل القرآن : باب الترجيع ـ ثم أخرج بسنده من طريق أبي إياس قال : سمعتعبد الله بن مغفَّل قال : "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته ـ أو جمَلِه ـ وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح ـ أو من سورة الفتح ـ قراءة ليّنة يقرأ وهو يرجّع"(230).
قال الحافظ في الفتح : قوله "باب الترجيع" هو تقارب ضروب الحركات في القراءة ، وأصله الترديد ، وترجيع الصوت ترديده في الحلق ، وقد فسره في كتاب التوحيد بقوله أاأ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى" "ثم قالوا : يحتمل أمرين أحدهما : أن ذلك حدَث من هز الناقة ، والآخر : أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك ، وهذا الثاني أشبه بالسياق فإن في بعض طرقه : "لولا أن يجتمع الناس لقرأتُ لكم بذلك اللحن" أي النّغَم .
وقال الحافظ أيضاً : "والذي يظهر أن في الترجيع قدراً زائداً على الترتيل ، فعند أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال : بتُّ مع عبد الله بن مسعود في داره فنام ثم قام ، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيّه لا يرفع صوته ويُسمع مَن حوله ويرتّل ولا يرجّع" .
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة : "معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء ، لأن القراءة بترجيع الغناء تُنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة"(231).
3- إن الإسراع المعتدل في التلاوة الذي لا يُخِلّ بها ولا يفوِّت مقصودها ليس مذموماً بكل حال ، بل فيه نوع فضل ومسارعة في الخير ، لكن المذموم المطروح هو الإسراع المبالغ فيه بحيث يُنقِص منها شيئاً ويُذهب غايتها ومقصودها وهو التدبّر .(1/101)
قال الحافظ : "وإنما الذي يُكره الهذّ ، وهو الإسراع المفرط بحيث يخفي كثيرٌ من الحروف أو لا تخرج من مخارجها"(232) ، وأشار الحافظ إلى أن دليل جواز الإسراع ما أخرجه ـ أي البخاري ـ في كتاب "أحاديث الأنبياء" عند ذكر داود عليه السلام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (خُفّف على داود عليه السلام القرآن فكان يأمر بدوابّه فيقرأ القرآن قبل أن تُسرج دوابّه ولا يأكل إلا من عمل يده) (233).
وهذا الضابط مهم في قراءة الإسراع ، وبه ينحلُّ كثير من الإشكال بين العلماء ويهون الخلاف بينهم ، لأن مقصد التلاوة حصول التدبّر والعظة والاعتبار ، وقد تسهّلَت بهذا القيد ، وإن كان الترتيل هو مظنّة الفهم والتدبّر ، لكن قد قرأ القرآنَ بتؤدّة وأناة فلم يجاوز تراقيهم ، اعتنوا بترتيله لفظاً وأعرضوا عنه معنىً فلم يُعوا مواعظه ، ولم ينزجروا بزواجره ، وخفيّت عليهم عجائبه ، وروائعه وأسراره .
ولهذا تفاوتت أحوال السلف في القدر الذي يختمون فيه بحسب ما يحصل لكل شخص من إقبال وحضور ومعرفة ، فقد قال النووي رحمه الله بعد أن حكى شيئاً من أحوالهم : "والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمَن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصِر على قدر ما يحصل له به كمالُ فهمِ ما يقرؤه ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسبه إخلال بما هو مرصدٌ له ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل والهذرمة"(234).
والمتأمِّل لكلام النووي رحمه الله يرى أنه يعوِّل في القراءة على حصول الفهم والتدبّر ولو كان مع الإسراع والتنافس الجاري بين السلف رحمهم الله ، أما الهذّ والهذرمة والعجلة المفرطة فليست من الخير والفضل في شيء .(1/102)
وفي التفضيل بين قراءة الترتيل والتدبر والإسراع مع كثرة القراءة اهتدى الإمام ابن القيّم رحمه الله إلى جواب حلوٍ طريف ، قال رحمه الله : "والصواب في المسألة أن يُقال : إن ثواب قراءة الترتيل والتدبّر أجلّ وأرفع قدراً ، وثواب كثرة القراءة أكثر عدداً ، فالأول كمَن تصدّقَ بجوهرة عظيمة ، أو أعتق عبداً قيمته نفيسة ، والثاني كمّن تصدّق بعدد كثير من الدراهم أو أعتق عدداً من العبيد قيمتهم رخيصة"(235).
وبنحو هذا القول قال الحافظ ابن حجر مع زيادة بيان وتجلية: "والتحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل ، بشرط أن يكون المُسرِع لا يخل بشيء من الحروف والحركات والسكون والواجبات، فلا يمتنع أن يفضل أحدُهما الآخر وأن يستويا ، فإن مَن رتّل وتأمّل كمن تصدّق بجوهرة واحدة ثمينة ، ومن أسرع كمَن تصدّق بعدة جواهر لكن قيمة الواحدة ، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأُخريات ، وقد يكون العكس"(236).
4- إن الختمات في رمضان مشروعة ، فالإكثار من الختمات في هذا الموسم الفاضل من استباق الخيرات واستثمار الأوقات .
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب جارٍ على جميل عادته وحُسن سجيّته من مراجعة القرآن ومعارضته على جبريل عليه السلام كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة"(237).(1/103)
ومهما اشتدت الرغبة عند المؤمن القانت ، أو طمحَت همّته لتحصيل المزيد من الخير ، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إلى خير الأمور وأعدلها وأوسطها ، منها في كتاب فضائل القرآن باب : في كم يُقرأ القرآن ؟ وقول الله تعالى : ?فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ? [المزمل : 20] .
عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : "أنكحني أبي امرأة ذات حسب ، فكان يتعاهد كَنَّته فيسألها عن بعلها فتقول : نِعم الرجل مِن رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه ، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : القني به فلقيته بعد ، فقال : كيف تصوم ؟ قلت : أصوم كل يوم ، قال : وكيف تختم قلت: كل ليلة ، قال : صُم في كل ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر . قال : قلت : أُطيق أكثر من ذلك ، قال : صُم ثلاثة أيام في الجمعة . قال : قلت : أُطيق أكثر من ذلك ، قال : أفطر يومين وصُم يوماً . قال : قلت : أُطيق أكثر من ذلك ، قال : صُم أفضل الصوم صوم داود صيام ويوم وإفطار يوم ، واقرأ كل سبع ليال مرة ، فليتني قبلتُ رُخصة النبي صلى الله عليه وسلم وذاك أني كبرتُ وضعفتُ ، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار ، والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخفّ عليه بالليل ، وإذا أراد أن يتقوى أفطرَ يوماً وأحصى وصام مثلهن ، كراهية أن يترك شيئاً فارق النبي صلى الله عليه وسلم عليه" .
قال أبو عبد الله : وقال بعضهم : في ثلاث أو في سبع وأكثرهم على سبع(238).
وقد أخرج البخاري رحمه الله خبر عبد الله هذا من طريق أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اقرأ القرآن في شهر ، قلت : إني أجد قوة ، حتى قال : فاقرأه في سبعٍ ولا تزد على ذلك"(239).(1/104)
وصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أبي داود والترمذي من طريق يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو أنه قال : (لا يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث) (240). وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وصححه الحافظ بن حجر في الفتح .
وقد بوّبَ له الترمذي باب "في كم يُختم القرآن " وابن ماجة باب "في كم يُستحب أن يُختم القرآن ؟".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه بسندٍ صحيح عن ابن مسعود أنه قال : "اقرأوا القرآن في سبعٍ لا تقرأوه في أقلّ من ثلاث"(241).
قال النووي : "وقد كره جماعة من المتقدّمين الختم في يومٍ وليلة ، ويدل عليه الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص .. الخ وذكر الحديث"(242).
وقال الحافظ عقيب أثر عائشة رضي الله عنها : "وهذا اختيار أحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهوية وغيرهم ، وثبت عن كثير من السلف أنهم قرأُوا القرآن في دون ذلك"(243).
وقال ابن قدامة رحمه الله : "ورُوى عن أحمد أن ذلك غير مقدَّر ، وهو على حسب ما يجد من النشاط والقوة"(244).
فتلخَّص عن أحد رحمه الله في الختمة في أقل من ثلاث روايتان الأولى : الكراهة ، والأخرى : أنه لا تقدير ، وهو بحسب القوة والنشاط ، وهذه الثانية اختيار النووي كما قد سبق نقلها وأقرّها الحافظ في الفتح(245).
والصواب في هذه المسألة : كراهة الختم دون ثلاث لعدّة أمور:
1- صراحة النهي في قراءته دون ثلاث ، وعدم إقراره صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن عمرو على ذلك بل نهاه كما في بعض الروايات ، ولهذا ذهب بعض الظاهرية إلى تحريم قراءة القرآن في أقل من ثلاث(246).
2- نفى الفقه عمّن قرأ القرآن في أقل من ثلاث : وهذا كافٍ في الكراهة والذم ، وهو نصٌ عام يدخل تحته جميع المكلَّفين ، ولا يُقال باستثناء ذوي البصائر النافذة والعقول الثاقبة لِما عُلم من أن قراءته دون ثلاث لا تتم إلا بإجهاد النفس وإكلال العقل وإعياء الفكر ، فحينئذ تحصل القراءة دون لبّها وروحها ومقصودها .(1/105)
3- مجانبة هذا المسلك للهدي النبوي الحكيم : فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : "ولا أعلم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كلّه في ليلة"(247).
فلم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم قراءته دون ثلاث مع طول قنوته وديمومة عبادته ، ونهى صحابته عن ذلك ، بل هو أكمل الناس عقلاً وأحسنهم فهماً وأزكاهم قلباً ، ومع ذلك لم يقرأه في ثلاث ولا دونها .
4- إنكار جماعة من السلف لِمن قرأه في أقل من ثلاث : كابن مسعود وابن عباس ، بل أنكروا على من قرأ أحزاباً أو أجزاءاً في ليلة ودونها ، معلّلين أنه لا يحصل إلا هذا كهذّ الشِّعر ونثراً كنثر الدقَل ، فكي فتمّ لبعض النُّسَّاك قراءته بين العشائين أو في ركعة أو في جلسة ، فهذا إن لم يكن فيه مبالغة ومخالفة وخفاء للتدبّر والتفهّم فهو جارٍ على سبيل الكرامة ، ومع ذلك فالذي أعلمه أن أكثر ذلك لا يصح ونُقلت أخبارهم بلا خطام ولا زمام .
وما أحسن ما قاله ابن رجب الحنبليّ رحمه الله في هؤلاء النّسّاك الصُّلّحاء : "وكان كثير من المتقدّمين يحملون على أنفسهم من الأعمال ما يضر بأجسادهم ويحتسبون أجر ذلك عند الله ، وهؤلاء قومٌ أهل صدق وجدّ واجتهاد فَيُحَيَّوْنَ على ذلك ولكن لا يُقتدي بهم وإنما يُقتدي بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خير الهدي هديه ، ومَن أطاعه فقد اهتدى ، ومن اقتدى به وسلك وراءه وصل إلى الله عز وجل"(248).
وذكر الذهبيّ رحمه الله في ترجمة سعيد بن جبير عن وِقاء بن إياس قال : كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان ، وكانوا يؤخّرون العِشاء .
ثم تعقّبه بقوله : "هذا خلاف السنّة ، وقد صح النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث"(249) انتهى .
هذا ما أريد بيانه في هذه المسألة ، فمن كان لديه فضلُ علم فليدلّنا عليه ، ونكون له من الشاكرين ، والله تعالى أعلم .
{ 16 } مَفاهِيم خَاطِئَة في رَمضَان(1/106)
المسألة الثانية ـ الاحتياط لرمضان بالصيام قبله :
ثبت في المتفق عليه وأخرجه البخاري في كتاب الصوم باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يتقدمنّ أحدُكم رمضان بصوم يوم أو يومين ، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصُم ذلك اليوم) (250).
يذهب بعض الجهَلة وذوو المذاهب الفاسدة إلى تقدم رمضان بالصيام احتياطاً له ، وفي هذا افتئات على الدين وتنطُّع ومخالفة للسنّة .
ومعنى الحديث عند أهل العلم : "أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يُعد منه بقصد الاحتياط له ، فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلّف"(251).
قال أبو عيسى الترمذي ـ رحمه الله ـ عقيب على هذا الحديث : "العمل على هذا عند أهل العلم ، كرهوا أن يتعجّل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان".
وقد اختُلِف في حكمة هذا النهي الصريح فقيل : "الحكمة فيه التقوّى بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوة ونشاط ، وهذا فيه نظر لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمّه بصيام ثلاثة أيام أو أربعة جاز ، وقيل: الحكمة فيه خشية اختلاط النفل بالفرض ، وفيه نظر أيضاً لأنه يجاوز لمن له عادة ـ كما في الحديث ـ وقيل : لأن الحكم عُلّق بالرؤية فمّن تقدّمه بيومٍ أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم وهذا هو المعتمد"(252).
استثنى الأئمة من هذا النهي ثلاث صور :
1- مَن له عادة وَوِردٌ خاص فقد رُخص له في الحديث ، لأنه اعتاد ذلك وألِفَه ، وترك المألوف شديد ، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء .
2- القضاء : فمَن عليه أيام من رمضان سابق ، عليه أن يبادر بقضائها لقوله تعالى : ? فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ? [البقرة : 184] .
3- النّذر : لقوله صلى الله عليه وسلم : (مَن نذَر أن يطيع اللهَ فَلْيُطِعْهُ ، ومَن نذر أن يعصي اللهَ فلا يعصه) (253).
فأحكام الحديث ما يأتي :(1/107)
1- تحريم تقدُّم رمضان بصومٍ بنّية الاحتياط له .
2- وفيه ردُّ على مَن يرى تقديم الصوم على الرؤية كالرافضة.
3- وفيه جواز ذلك لمن كان له عادة اعتاد عليها كصيام الاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر .
4- وفي الحديث منع إنشاء الصوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط ، وإن زاد على ذلك فمفهومه الجواز ، وقيل : يمتد المنع لِما قبل ذلك وبه قطع كثير من الشافعية وحدّوه من أول السادس عشر من شعبان لِما رواه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً : (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) (254) ، وحملوا حديث التقدّم على منع الصوم مطلقاً ، وإنما عبر فيه بيومٍ أو يومين لأنه الغالب ممّن يقصد ذلك .
وهناك قولان آخران في المسألة :
جمهور العلماء : جوّزوا الصوم تطوّعاً بعد النصف من شعبان، وضعّفوا الحديث الوارد فيه فقد قال الإمامان أحمد وابن معين : إنه منكر لمعارضته صحاح الأحاديث الواردة في فضل صوم شعبان ، وقد حمل أبو بكر البيهقي حديث العلاء على من يُضعفُه الصيام .
وقال الرويانيّ من الشافعية : يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث النهي عن تقدم رمضان ، ويُكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر(255).
5- وفي الحديث كراهة صوم يوم الشك أو الإغمام ، لأن صومه قبل رمضان تقدّم عليه ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيتِه فإن غُمِّيَ عليكم فعدُّوا ثلاثين"(256).
وفي صحيح ابن حبّان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا صوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غمامه فأكمِلوا ثلاثين"(257). والحديث إسناده حسن وهو صريح أن صوم يوم الإغمام من غير رؤية ولا إكمال الثلاثين ، صومٌ قبل رمضان(258).(1/108)
قال ابن القيّم رحمه الله في الهدي النبوي : (وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظرِهِ غَيمٌ أو سحاب أكمل عدّة شعبان ثلاثين يوماً ثم صامه ، ولم يكن يصوم يوم الإغمام ولا أمَر به ، بل أمر أن تُكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غُمّ ، وكان يفعل كذلك ، فهذا فعله وهذا أمره ولا يناقض هذا قوله (فإن غُمّ عليكم فاقدُروا له) (259) فإن القدر هو الحساب المُقدَّر والمراد به الإكمال كما قال (فأكمِلوا العدّة) والمراد بالإكمال إكمال عدة الشهر الذي غُمّ ، كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري : (فأكمِلوا عدّة شعبان) (260).
وقد رُويت المخالفة في هذه المسألة من بضعة عشر عالماً ما بين صحابيّ وتابعيّ رأوا صيام يوم الإغمام وهي رواية عن الإمام أحمد اختارها أكثر شيوخ أصحابه وهي من أفراد مذهبه(261).
فكيف ساغ لهؤلاء الأئمة مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع شهرة الحديث وثبوت أحاديث تنهي عن الصيام قبل رمضان ، بل قد قال عمّار رضي الله عنه : "مَن صام اليوم الذي يُشك فيه فقد عصى أبا القاسم" أخرجه أصحاب السنن(262) وعلّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم ، وهذا يوم شكّ ، ولأن الأصل بقاء شعبان فلا يُنتقل عنه بالشكّ(263).
فالجواب عن ذلك : أن أكثر الآثار عن الصحابة في صيامه لا تصح ، وما صح منا ليس صريحاً في وجوب صيامه ، وإنما غاية المنقول عنهم صومه احتياطاً وتحرّياً على وجه الاستحباب لا الوجوب كما صح عن ابن عمر صيامه عند عبد الرازق في مصنّفه(264).
وصح عنه أنه قال : "لو صمتُ السنة كلها لأفطرتُ اليوم الذي يُشكّ فيه" ولم يكن الصحابة كلهم يصومونه ، بل ثبت عن جماعة وجوب فطره ويرونه السنّة كحبر الأمّة عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما(265).(1/109)
وأما ذهاب بعض الفقهاء إلى وجوب صومه فلا مِراء في ضعف هذا المذهب ، وقد صنّف القاضي أبو يعلي محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي جزءاً في تصحيح هذا المذهب ، ثم صنّف الخطيب الحافظ أبو بكر أحد ابن علي بن ثابت البغدادي الشافعي جزءاً في الردّ عليه ، والشناعة عليه في هذه المسألة ونسبته إلى مخالفة السنّة وما عليه جماهير الأمّة ، ومضمون مقاصد الجزأيْن ومحاكمتهما بإنصاف محرّرة في المجموع شرح المهذّب لأبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي(266) رحم الله الجميع .
المسألة الثالثة ـ الاضطراب في النّية للصيام :
الإجماع منعقد بين الفقهاء على أنه لا يصح صوم إلا بنيّة ، وقد حكاه غير واحد منهم ، ويعنُون بالنيّة ، القصد ، وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه من غير تردد ، فمتى خطر بقلبه في الليل أن غداً من رمضان وأنه صائمٌ فيه فقد نوَى(267).
والأصل في اعتبار النية للصيام ما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له) (268). وهذا الحديث ممّا اختلف المحدِّثُون في رفعه ووقفه ، ورجّح الترمذي والنسائي الموقوف ، بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في العِلل عن البخاري ترجيح وقفه ، وقد صححه على ظاهره جماعة منهم ابن خزيمة والحاكم والبيهقي وابن حزم وغيرهم(269).
وهذا الحديث ـ وإن كان إلى الوقف أقرب ـ إلا أنه لا يمتنع رفعه حُكماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لِما عُلم من أن مثله لا يُقال من باب الرأي والاجتهاد .
أيها الإخوة الكرام :
يُلحظ على بعض الصائمين اضطرابهم وتهوكهم في مسألة النية للصيام مما قد يجرّهم إلى وسواس واقع ، ماله رادع ولا دافع يضرّهم ويفسد عليهم أحوالهم ، ويجعلهم في حيرة من الأمر وارتياب في القول والفعل .(1/110)
فثمّةَ أُناس يعتقدون أنه لابد من أن ينوي الإنسان صوم رمضان مستغرقاً بها جميع الليل ويتلفّظ بالنية كل ليلة ، أو يدّعون تحتّم النية مع السحور أو قبيل الفجر ، وهذا كله بلا شكّ غاية الجهل والوسوسة ، لأن المرء المسلم بمجرّد إطلالة رمضان قد أزمع في نفسه الصيام ، ولا يحتاج إلى هيئة معيّنة للنية ولا نُطق بها فكل ذلك مما لا يُشرع ، بل استقرار العزم على الصيام كافٍ في حصول النية، ومتى ما تهيّأ المسلم للسحور فقد نوى الصيام وألمع لنفسه به.
وهل يفتقر كل يوم من رمضان إلى نيّة ؟ الجمهور نعم ، وعن الإمام أحمد أنه يُجزئه نيّة واحدة لجميع الشهر إذا نوى صومه كله ، وهو الصواب وبه قال مالك وإسحاق وإليه أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث ورد عليه هذا السؤال فقال : "كل مَن علمَ أن غداً من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى صومه سواء تلفّظ بالنية أو لم يتلفّظ ، وهذا فعل عامة المسلمين ، كلهم ينوي الصيام"(270).
وتبييت النية من الليل هذا واجب في صوم الفرض ، أما النفل فلا يجب ففي أي وقت من النهار أجزأَهُ هذا مذهب الجمهور في المسألة ، وحدّه فقهاء الشافعية بالزوال فمتى زالت الشمس لم يجزه الصيام ، لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة ، وهذا قول الحنفية واختاره القاضي من الحنابلة(271).
ودليل هذه المسألة ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : (هل عندكم من شيء ؟) فقلت : لا ، قال : (فإني إذاً صائم) ، ثم أتانا يوماً آخر فقلنا : يا رسول اله أُهديَ لنا حَيْس ، فقال : (أرينيه فلقد أصبحتُ صائماً) (272).(1/111)
وممن رُوي عنه إنشاء النيّة من النهار في التطوع ، ذكَرهم البخاري في صحيحه قال في كتاب الصوم باب إذا نوى بالنهار صوماً : وقالت أم الدرداء : كان أبو الدرداء يقول : عندكم طعام ؟ فإن قلنا : لا قال : فإني صائمٌ يومي هذا . وفعَله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم(273) ، وزاد ابن المنذر رحمه الله : ابن مسعود وأبا أيّوب الأنصاري(274).
{ 17 } مَفاهِيم خَاطِئَة في رَمضَان
المسألة الرابعة ـ السواك للصائم :
اشتهر عند عوام المسلمين كراهة السواك للصائم لا سيّما بعد الزوال ، وقد بُنيت هذه الكراهة على أثر ونظر ضعيفين :
فأما الأثر : ما رواه الدارقطني عن عليّ رضي الله عنه مرفوعاً ، والبيهقي موقوفاً عليه : "إذا صُمتُم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشيّ ، فإنه ليس من صائمٍ تيبس شفتاه بالعشي ، إلا كانت نوراً بين عينيه يوم القيامة"(275).
وهذا الحديث ضعيف ، في سنده كيسان أبو عمر ليس بالقوي ، ومَن بينه وبين عليّ غير معروف كما صرّح بذلك أبو الحسن الدارقطني ، وقد ضعّفه الحافظ في التلخيص بقوله : "وإسناده ضعيف"(276).
وأما النظر : فهو مستفاد من قوله في الحديث : (لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) (277) ، قالوا : والسواك إذ هو أثر عبادة مُستطاب فيُكره إزالته كدمِ الشهيد .
وهذا النظر فيه نظر لأن هذا الخلوف الطيب آتٍ من المعدة والحلق لا من الفم ، وحينئذٍ لا يلزم شيء من ذلك .
والكراهة في السواك للصائم بعد الزوال مروية عن بعض الأئمة كالشافعي في قولٍ ، ولهذا يقول ابن رسلان الشافعي في متن الزبد :
يُسَن لا بعدَ زوالِ الصائمِ
وأكَّدوه لانتباه النائمِ(278)
وعن الإمام أحمد وإسحاق ترك السواك بالعشي(279).
والصواب في المسألة مشروعية السواك للصائم في كل الأوقات لعموم الأدلة المرغِّبة في السواك ولم تخصّ صائماً ولا سواه.(1/112)
كحديث أبي هريرة المتفق عليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لولا أن أشُقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) (280). وفي رواية لأحمد وغيره (لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) (281) ، وقد علّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم(282).
والقول باستحباب السواك للصائم مطلقاً هو قول الشافعي ورواية عن أحمد اختارها الشيخ تقيّ الدين كما في الاختيارات وقال: إنه الأصح(283).
وقال في الفتاوى : ولم يقم على كراهيته ـ أي بعد الزوال ـ دليل شرعي يصلح أن يخص عمومات نصوص السواك ، وقياسه على دم الشهيد ونحوه ضعيف من وجوه(284).
بل قد ورد حديث صريح بخصوص المسألة أخرجه الطبراني عن عبد الرحمن بن غنم قال : سألت معاذ بن جبل : أتسوّك وأنا صائم ؟ قال : نعم ، قلت : أيّ النهار ؟ قال : غدوة أو عشيّة ، قلت: إن الناس يكرهونه عشية ويقولون : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) قال: سبحان الله ! لقد أمرهم بالسواك ، وما كان بالذي يأمرهم أن يُنتنوا أفواههم عمداً ، ما في ذلك من الخير شيء ، بل فيه شرّ(285). وهو أيضاً في مسند الشاميين .
قال الحافظ : "إسناده صحيح"(286).
قال الحافظ في التلخيص : وهذا اختيار أبي شامة وابن عبد السلام والنووي وقال : إنه قول أكثر العلماء وتبعهم المزني(287) ، وهو ظاهر صنيع البخاري في صحيحه(288).
وأما الاستدلال بحديث عامر بن ربيعة الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم فلا يصلح لأنه حديث ضعيف ، ولفظه : "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أُحصي ولا أعدّ"(289). ولا يُلتفت إلى تحسين الترمذي هنا ، لأنه جارٍ على تساهله المعروف ، فالحديث في سنده عاصم ابن عبيد الله وهو ضعيف كما في التقريب(290).
وقد أشار شيخ الترمذي الإمام البخاري إلى ضعفه في الصحيح إذ علّقه بصيغة التمريض(291).(1/113)
وحديث : "مِن خير خصال الصائم السواك" رواه ابن ماجة في سننه(292) ، وهو حديث ضعيف ضعّفه ابن القيم وغيره(293) . وبهذا التقرير الموثَّق تندفع الكراهة الشائعة عند الناس ، والله أعلم .
وحول السواك للصائم كره بعض العلماء السواك الرطب كأحمد في رواية ، وهو قول قتادة والشعبي والحكم وإسحاق ومالك في رواية .
قالوا : لأنه مغرِّر بصومه ، لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره(294).
والمختار : أنه لا يُكره لعموم الأدلة، وهو مذهب الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأفتى به ابن سيرين كما في الصحيح معلّقاً بصيغة الجزم قال : "لا بأس بالسواك الرطب قيل : له طَعم ، قال : والماء له طعم وأنت تمضمض به" ووصله ابن أبي شيبة من طريق أبي حمزة المازني(295).
وفي المصنف عن عروة ومجاهد والحسن وعطاء تجويز ذلك(296) وقد استظهر البخاري هذا الاستدلال الحسن ، فأورده في كتاب الصوم وعقد ترجمة فيه ، باب سواك الرطب واليابس للصائم، وأورد في آخرها حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ في صفة الوضوء(297).
قال ابن المنيّر في الحاشية : "أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل الخاص ، ثم انتزعه من الأدلة العامة التي تناولَت أحوال متناول السواك ، وأحوال ما يُستاك به ، ثم انتزع ذلك من أعمّ من السواك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك الرّطب(298).
وما أحسن ما قاله بعضهم حول هذه المسألة :
وسنّة السواك أبهى السّننِ
فاضلةٌ غانيةٌ بالمِننِ
فيها الرسول أكدَّا وقرّرا
لولا المشقة كنت حتماً آمِرا
عند الوضوء دوماً والصلاةِ
مندوبة في سائر الأوقاتِ
في الفطر والصيام لا يُفرّق
فهكذا النصُّ جليٌّ مُطلقُ
والفُتيا من مُعاذ نصُّ واضحُ
واختاره "التقيّ" وهو الراجحُ
والرطبُ لا يُكره هذا الأظهرُ
قول "ابن سرين" بديع أمهرُ
بيّنَه البخاري في الصحيحِ
وأشهره في بابه المليحِ
فالمضمضة أبلغ في الكراهةْ
لِمن بغى الإنصاف والنزاهةْ
وإنها في الصوم لا تَنافي(1/114)
بينهما من غير ما خلافِ
المسألة الخامسة ـ ترك بعض أبواب الخير في رمضان :
كحِلَق العلم والدعوة والإنفاق وصنائع المعروف وأشباهها .
لما كان رمضان شهر القرآن اعتقد كثير من المسلمين أن أبلغ طاعة تُبذل فيه هي قراءة القرآن ، فتجدهم أهل جدّ واهتمام بالتلاوة وهو كما صنعوا ، فالقرآن وثيق الصلة برمضان يحلو ويعظم ويتبارك فيه ، لكن يغفل كثيرون عن أبواب شتّى من الثواب إذ قد ترامى إلى مسامعهم حرص السلف الصالح ومسارعتهم إلى كتاب الله في رمضان ، "فلقد كان الزهري إذا دخل رمضان قال : فإنما هو تلاوة القرآن ، وإطعام الطعام . وقال ابن عبد الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان نفَرَ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف . وقال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن . وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت . وقال سفيان : كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه(299).
وقد قدّمنا فيما سبق أخبار ختامتهم الكثيرة في رمضان ، وفيها تشجيع مؤثِّر لكل قارئ وسامع ، ولا ارتياب أن قراءة القرآن في رمضان وظيفة منشودة مرغوبة ، وقُربة محمودة مطلوبة ، تُستفرَغ لأجلها الأوقات وتُعمر بها الليالي والساعات .
وإذا كان ذلك هو ديدَن السلف الأخيرا فقد كانوا أهل اقتدار واصطبار ، لا تُقاس هممهم وأحوالهم ونفوسهم بحال مَن بعدهم في سراعهم إلى الطاعة وانهماكهم فيها إلى حدٍّ عجيب ، ثم ليُعلم أن ذلك لم يكن سمة لجميعهم ، ولا يعني ذلك هجرهم لأبواب الخير المختلفة ففي بعضها الأجر الأتمّ والثواب الأجلّ والسرور الأكمل الأغرّ ، وقد تتيسّر للمسلم أبواب من الطاعة يقصر بها عن طلبها قلة الفقه أو ضعف الهمة أو سوء التربية ، فإذا ما انصرفت عنه تلك الأبواب ، ندم على أن لا أتاها أو طرَق بابَها .(1/115)
وأبواب الخير العِظام كلها مفاتيح للجنّة وسبُل لنيل المغرفة والرحمة ، وفي أمر الله تعالى بالمسارعة إلى المغفرة والجنة في قوله : ? وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ? [ آل عمران : 133 ] إطلاق للمسارعة بكل باب من أبواب الخير والطاعة .
فقصر رمضان على باب واحد من الطاعات دون بقية الأبواب خلل وضعف ومُجانبة لهدى النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما عند تيسُّر تلك الطاعات وسهولتها .
والمشروع للمسلم التزود من الأعمال الصالحات والاستكثار منها في رمضان وغيره ، وليس حكر رمضان على واحد دون سواه، وأخْذ النفوس على الاستكثار والتَنوُّع عاملٌ مهم في بنائها وتهذيبها وتثبيتها وترويضها ، ويساعد على تهيأتها وتأهيلها لسائر طرق الخير والبرّ ، فالنفوس تفتر وتكلّ وتنصَب وتملّ ، وفي سلوك التنويع بها إسعاد وانشراح وإجمام لها وانفساح ، ولعل هذا من حِكَم كثرة طرق الخير واتساعها واختلافها ، وهذا ملحظٌ واضح في تشريعات الإسلام لا سيما العبادات الشرعية ، رُوي عن عليّ رضي الله عنه قال : "أجمّوا هذه القلوب واطلبوا لها طرائف الحكمة فإنها تمّل كما تملّ الأبدان" وصح عن الزهري رحمه الله أنه قال : "روّحوا القلوب ساعة وساعة"(300).(1/116)
وفي وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بكثرة الجود في الحديث المشهور : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان"(301). معنى أعمّ من قصر الجود على باب واحد من الخير ، فلم يكن جوده صلى الله عليه وسلم قاصراً على الإنفاق والسخاء أو على العبادة وقراءة القرآن ، بل كان جوده ضروباً من الخيرات والطاعات كما هو معلوم من سيرته النبيلة ، فهو ذو عبادة وقراءة للقرآن ، يذكر الله على كل أحيانه ، ويجود بأنفَس ماله ، ويعلّم الجاهلين ويطعم المساكين ويُغيث المنقطين والمعدومين ، وقد قال تعالى : ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً?[الأحزاب: 21].
وفي رمضان تسطع أبواب من الخير فاضلة ، فقراءة القرآن لها طعم وحلاوة ، وحِلَق الذكر والعلم أُنسٌ وحياة ، والصدقة وتفطير الصائمين أجر عظيم جداً ، والدعوة ونشر الخير مَنجاة وهداية ، وإمامة الناس في الصلاة وتفقيههم في الدين خيرية رفيعة .
فلماذا يتقاعس بعض الأخيار عن هذه الأبواب المباركة ؟! إن قراءة القرآن من أجلّ الطاعات وأسمى القُربات التي ينبغي العناية بها ، لكن أين الصالح الذي يمكث ليله ونهاره مع القرآن لا يفتر ولا ينام إلا قليلاً ؟! إن المسلمين مع إقبالهم في رمضان على قراءة القرآن لا يغطي ذلك جلّ أوقاتهم بل ثمّة أوقات تذهب في المنام والطعام وكثرة الكلام ، فالجنوح إلى تلك الأبواب النافعة مع قربها ، خير من التحجّج والاعتذار بقراءة القرآن مع التقصير ودوام التراخي والتفريط .(1/117)
فالناس في رمضان يسألون عن أمور دينهم من الصيام وغيره، يرجون الحق والصواب ، وآخرون فقراء يستشرفون للصدقات والمساعدات ، وجماعات في قرى نائية يتمنّون إماماً حسّن التلاوة يصلي بهم التراويح ويقرأ عليهم ما يفقههم وينفعهم في دينهم ، مَن لهؤلاء ؟! إذا أبَق الخرّيجون وطلبة العلم .
فسبحان الله ! احتشى صائمٌ مالاً نسي الصدقة في رمضان؟! ورجل فقُهَ علماً هان لديه التعليم ، وآخر عظم دعوةً قصّر في النصح والبلاغ!! ، كأن هؤلاء قد زهدوا في الحسنات والطيبات ، إنما الزهد في أمور الدنيا الزائلة ، ليس في نيل أجر أو كسب حسنة أو تحصيل رحمة ، فالزاهد في الخير والثواب سفيه العقل والنفس ، قد ظلم نفسَه وقطع حظّه وبخس تجارته .
وربما اعتذر بِداء التغافل والنسيان أو بالانقياد لعاطفة الأكثرية الصادعة والسائرة في نطاقٍ ضيّق من الخير ، بسبب خفاء التفقّه وانحسار الوعي والتفكير .
والموفق المهدي الذي يشرح الله صدره للفقه في الدين ، فيدرك من أنوار الرسالة ما يعرف به مظان الخير والشر ، فيتزوّد من الخيرات ويصيب من السنن ، حسب همّته التي وهبها الله تعالى وبارك فيها ، إذ تُصبح نفسُه شريفة توّاقة تطلب العلاء ولا ترضى بالأقذاء ، وتسارع في الباقية وتنام عن الفانية .
قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله : "إن لي نفساً توّاقة ما نالت شيئاً إلا تاقَت إلى ما هو أفضل منه ، وإنها لما نالت هذه المنزلة ـ يعني الخلافة ـ وليس في الدنيا منزلة أعلا منها تاقَت إلى ما هو أعلا من الدنيا . يعني الآخرة".(1/118)
ولا يُفهم من هذا الحديث أن كل النفوس مطالبة بكل طرق الخير ، بل وليست مهيأة لها كلها ، لأنه من البدهي أن الطبائع والنفوس والقدرات مختلفة ومتفاوتة ، لكن العبد المؤمن أعلم بنفسه وأخبر ، والخير منه في أزمنة أقرب وأوفر ، وداعي الضعف إليه أسرع وأمكر ، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (الجنّة أقرب إلى أحدِكُم من شِراك نعله ، والنار مثل ذلك) رواه البخاري عن ابن مسعود(302).
المسألة السادسة ـ تتبّع المساجد الكبيرة والأصوات الحسنَة في رمضان:
يعمد كثير من المسلمين في رمضان إلى تتبُّع المساجد الكبيرة والأصوات الحسنة بالقرآن رجاء صلاح النفس وخشوع القلب وهذا مقصد نبيل ، وغير خافٍ أن استماع القرآن من صوت حسَن يجذب النفوس ويرقّق القلوب ويورث التدبّر والانتفاع غالباً ، لكن قد بولِغ في هذا الأمر ، حتى إن بعض الأخيار من ذوي العلم والمعرفة تركوا مساجد أحيائهم وقُراهم التي هي أحوجُ إليهم في إقامة الجماعة وتكثيرها وتعليم الناس والقراءة عليهم ، وقد نص أهل العلم على أن المتتبِّع للجماعات لمقاصد حسنة ، يأثم إذا تضررّ مسجد حيِّه بسبب تخلّفه ، كأن يكون مثلاً لن تقام الجماعة إلا بحضوره ، ولا ريب أن مُكث الإنسان في مسجده لتعليم الناس والصلاة بهم خير له من ذلك الصنيع ، وفي ذلك من تحصيل الثواب وعظيم الأجر ما يربو على هذا .(1/119)
وأمّا تتبُّع المساجد لمجرد الصوت الحسَن على سبيل التشهّي ، بحيث يُرى المسلم كل ليلة في مسجد فهذا من الأمور المحدّثة في هذا الزمان وليس من هدي السلف ، وفيه تفويت لمصالح حسنة ، وضد هذه الطائفة الباغية للخير والمسارعة في الثواب ، طائفة أخرى زاهدة في التكثّر من الخير ، رائثة في تحصيل الثواب ، يُهرَعون إلى تتبع المساجد المغبونة التي يقصِّر أئمتها في صلاة التراويح ، فيفرحون بالصلاة خلفهم والانضمام إليهم بُغية الراحة والانتهاء في وقت سريع ، ليحلوا لهم قضاء معظم الليل في قيل وقال ولهوٍ مديد وطعام .
فترى هؤلاء يتذاكرون الأئمة في صلاة التراويح وأحسنهم إيجازاً وتخفيفاً ، ليقوموا وراءه قيام رمضان لأنه ـ بزعمهم ـ أمثل القوم طريقةً وأرشدهم ديناً وبصيرة ، والله المستعان !
ومما يُتعجَّب منه للغاية أن بعض هؤلاء الأئمة ـ كما عُلم وشُوهِد ـ يصلّون التراويح في ثلث الساعة وربما أقل من ذلك ، ولا أدري كيف تأتّى لهم قضاء إحدى عشرة ركعة في هذا الوقت ؟! ، وهذا إن لم يكن جهلاً مُطبقاً ، فهو تلاعب بالصلاة الشرعية وامتهان لها وسوء أدب مع ربنا سبحانه وتعالى .
{ 18 } رَمضَان مُواسَاة وإحسَانٌ
رمضان شهر المواساة والبذل والإفضال ، وموسم الجود والرحمة والإكرام ، شهر تربو الصدقة فيه إلى أضعافٍ كثيرة ، والمعروف يتنامى إلى أجورٍ عظيمة والإحسان يتعاظم إلى حدٍّ لا يخطر ببال الإنسان .
شهرٌ بسَط الله تعالى فيه منازل الرحمة ، وأغدق فيه ميادين النعمة ، وأسبغَ منافع البذل والصدقة ، لِعِظَمهِ فُتّحَت أبواب الجنّة وغُلّقت أبواب العذاب والنقمة وصُفِّدت الشياطين المرَدة .
يا أيها الصائمون :
إنّ حبسكم الأنفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات وتحمّلكم شيئاً من آلام الجوع ، يذكّركم بأكباد جائعة ونفوس خاملة وأرواح بائسة تحتاج إلى نصرة وعون وشفقة وحنان ورحمة وإحسان .(1/120)
إن المواساة في رمضان مندوبٌ إليها بشتى فنونها وألوانها ، فهناك فقير لا يجد طعاماً ، ومسكين لا يجد كساءً ، وسقيم لا يملك دواءً ومُعدم لا يملك درهماً ولا ديناراً ، وثمّة جهال يحتاجون دعوةً وعلماً ، ومُبتلون يرجون سعة ودعاء ، ومجاهدون يبغون نصرةً وسلاحاً . كل أولئك مسلمون صائمون ، أليس لهم علينا حقّ الإخوّة الإسلامية والرابطة الإيمانية ؟! ، قال تعالى : ? إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ? [الحجرات : 10] .
كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس سخاءً ، وأكرمهم بذلاً ، وأغزرهم جوداً ، وفي رمضان يزدادُ جودهُ ويتضاعف ويتدفّق حتى يغطي أماكن كثيرة ويذهل مَن يراه بحيث لا يبقى شيء عنده ، "إذ كان عطاؤه عطاء مَن لا يخشى الفقر ، وكان العطاء والصدقة أحبّ شيء إليه ، وكان سروره وفرحه بما يُعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذ ، وكان أجود الناس بالخير ، يمينه كالريح المرسلة"(303).
يا أيّها الصُّوَّام الكرام :
جودوا يُبارَك لكم ، وأنفقوا يُنفَق عليكم ، ولا تَضِنّوا بمال الله الذي آتاكم ، فما قدّمتُم من خيرٍ فلأنفسكم ، وما بخلتُم فعليها ، وسوف يأتي عليكم يومٌ يودّ أحدكم لو يجد شقّ تمرة لينفقها في سبيل الله (فاتّقوا النار ولو بشقّ تمرة) (304).
? قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ ?
[ إبراهيم : 31 ] .
يا أيها الصائمون :
ما تقولون في رجل آتاه اللهُ من صنوف المال عجباً ، وهَبه صحّةً في الجسم ، ورغداً في العيش ، وسعة في المال ، جعل اللهُ له مالاً ممدوداً ، وبنين شهوداً ، ثم هو مقارف السيئات ، ومقصّر في الحسنات ، وشحيح بالمال والصدقات .(1/121)
يظنّ أن بذل المال في وجوهه المشروعة إنقاص وغمّ وبلاء ، أمّا علم هذا وأمثاله أن الصدقة والسخاء نماء وانشراح ، وضياء وبرهان ، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما نقصت صدقةٌ من مال)(305) ، وفي سنن الترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه ابن ماجة عن عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ثلاثة أقسم عليهنّ وأحدّثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مالُ عبدٍ مِن صدقة ، ولا ظُلِم عبدٌ مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً ، ولا فتحَ عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ، أو كلمة نحوها) (306).
في هذا الشهر تتأكد الصدقة والمواساة بإطعام الجائعين وتفطير الصائمين وإعانة المساكين ، ففي صحيح البخاري وشرح السنّة للبغوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أطعِموا الجائع وعودوا المريض وفُكّوا العاني)(307).
وأخرج الترمذي والدارمي وابن خزيمة وابن حبان عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من فطّر صائماً كُتب له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء) (308).
وفي المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الإسلام خير؟ قال : (تُطعم الطعام ، وتقرأ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرف) (309).
وهنا مثلٌ رائع عجيب ضربه النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصدقة وعِظم أثرها على صاحبها ، وقُبح البخل وضرره على صاحبه .(1/122)
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : (ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدِّق كمثل رجلين عليهما جُبّتان من حديد ـ أو جُنّتان من حديد ـ قد اضطرت أيديهما إلى ثديّهما وتراقيهما فجعلَ المتصدِّق كلما تصدّقَ بصدقة انبسطت عنه حتى تغشي أنامله وتعفو أثره ، وجعل البخيل كلما همّ بصدقة قلُصَت وأخذت كل حلقة مكانها) قال أبو هريرة : "فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جيبه ، فلو رأيته يوسعها فلا تتّسع"(310).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "ولما كان البخيل محبوساً عن الإحسان ممنوعاً عن البرّ والخير كان جزاؤه من جنس عمله ، فهو ضيّق الصدر ممنوع من الانشراح ، ضيق العطن صغير النفس قليل الفرح كثير الهمّ والغم والحزن ، لا يكاد تنقضي له حاجة ولا يعان على مطلوب ، فهو كرجل عليه جُبّة من حديد قد جُمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها ، وكلما أراد إخراجها، أو توسيع تلك الجُبّة لزمت كل حلقة من حلقهِ موضعها ، وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدق منه بُخله فيبقى قلبه في سجنه كما هو ، والمتصدِّق كلما تصدّق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسَح صدره فهو بمنزلة اتساع تلك الجبّة عليه ، فكلما تصدّق اتسع وانفسح وانشرح ، وقوي فرحه وعظم سروره ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها ، لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها(311).
أيها الصائمون :
إن الصدقة الصالحة والمواساة الحانية لَتمحو مساوئ العيوب ومعرّة الذنوب ، ففي الصحيحين أن بغياً ـ أي زانية ـ سقَت كلباً يلهث من العطش فغفر الله لها(312) ، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ الصدقة لتُطفئ غضب الربّ وتدفع عن ميتة السوء) (313).(1/123)
ويكفي مع الصدقة حبّ الناس للمتصدّق وثناؤهم عليه ، وبُغضهم للبخيل وكراهيتهم له ، فاليسار ذو أنصار ، والإقتار بيت العار ، قال تعالى : ? كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ? [العلق : 6- 7] ، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : (أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليكِ ولا توعي فيوعي الله عليكِ) (314) ، وفي لفظ : أنفحي أو أنضَجِي ، والمعنى : الحض على البذل والإعطاء والنهي عن الإحصاء كالبخيل أو حفظه بالإيعاء والادخار دون تصدُّق وإنفاق .
إن النعمة والرخاء قناعة الإنسان وكفافُه ، وسلامته من حبس المال واكتنازه ، لأن الطمع يزري بالخيار ويحطّ بذوي الأقدار ، ومَن لم يُوقَ شُحّ نفسه لم يفلح في يومه وأمسه ، قال تعالى : ? وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ? [الحشر : 9] .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : (اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قُوتاً) (315) وقد كان من كريم خلُق النبي صلى الله عليه وسلم وصباحة يديه أن نزّه نفسه عن البخل ، واحتمل في سبيل ذلك جفاء الناس وغلظتهم فقال في الحديث : (إنهم خيَّروني بين أن يسألوني بالفُحش أو يبخّلوني فلستُ بباخلٍ) (316).
الله أكبر ! ما أجلّ هذه الكلمة ، وما أعظم هذه المنزلة التي حازها صلى الله عليه وسلم فقد كان في جميع أحواله أسنى الناس عطيّةً وأمجدهم سجيّة ، لا يسأم الإنعام ولا يملّ البرّ والإكرام ، يبذل ماله ، ويهبُ رداءه ، ويعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر ، وما ردّ سائلاً قط ، بل كان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخِذ بما أخذ .
فكان هو الحقيق ببليغ المدح والإطراء ، الحريّ بصادق الشكر والثناء ، مخصوص به من بين سائر العُظَماء والكُرماء .
تراه إذا ما جئته متهلّلاً
كأنك تُعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفّه غير روحه
لجاد بها فليتّقِ الله سائله(1/124)
هو البحر من أيّ النواحي أتيته
فلُجّتُه المعروفُ والجودُ ساحله
*********
{ 19 } يا أيّها الصَّائمون
إنّ الصيام عبادة عظيمة ، وقُربة جليلة ، امتنّ الله بها على عباده المؤمنين ، وحسبُكم في شرفها وعلوّ شأنها قوله صلى الله عليه وسلم : (لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) (317) ، هذا الخلوف وهو تغيّر رائحة الفم يستقذره كثير من الناس ، تصوّروا أنه أطيب عند الله مِن أزكى الروائح وأحبّها وهو المسك .
يا أيها الصائمون :
إن الله تعالى شرّفكم وعظّمكم ورفع قدركم بطاعته وعبادته ، وإن من حق هذا التشريف والتعظيم القيام بمقتضيات هذه الطاعة العظيمة ، إن الصيام تهذيب للنفس الإنسانية وتربية لها ، يهذبها ويهديها ويزكّيها ويمنحها مقصد الصيام الأسمى وحكمته العليا وهي تقوى الله تعالى : ? لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [البقرة : 21] .
وإذا كان المؤمنون بصيامهم وطاعاتهم من الأتقياء فهم مِن خيار عباد الله وصالحيهِ وأوليائه ، بلغوا بصيامهم منازل المتقين ورقوا معالي الصالحين ، ونالوا رضى ربّ العالمين .
إن المتقين ذوو صدق ورعاية وصيانة لصومهم يحطونه بسياج التقوى ويقوّمونه بقسطاس المراقبة ، ويزكّونه بالذكر والدعاء والصدقة وقراءة القرآن .
يا أيّها الصائمون :
إن صيامكم من خير ما يهذّب نفوسكم ويزكّي قلوبكم ويحفظ جوارحكم ويقيكم شر فعالكم ومقالكم ، إن الصيام باعثٌ متين لردع الشهوة وفعل الطاعة ، قال صلى الله عليه وسلم : (والصوم جُنّة)(318)، وفي الحديث الآخر : (الصوم جُنّة يستجن بها العبد من النار) (319) وسنده صحيح .
كم من مذنبٍ كان الصيام سبباً في توبته وأوبته ، وكم من غافل ننّهَهُ الصيام فاهتدى ورشَد ، وكم من صالحٍ زاده الصيام زكاةً ونوراً وتُقيً .
يا أيها الصائمون :(1/125)
إن صيامكم ليس كفّاً عن المطعومات والمشروبات فحسب ، بل باعث لفعل الخيرات والطاعات واجتناب الخطايا والسيئات ، صوموا بحفظ أوقاتكم بالطاعة والتقوى ، وجنِّبوها المعصية واتّباع الهوى .
يا أيّها الصائمون :
تذكّروا أنكم تلبّسُتم بطاعة شريفة مباركة ، هي ذكركم وتاجكم وزينتكم ، فلا تلطّخوها بلهوٍ ولعب وسمر وزور ولغو ، كيف يصح صيام مَن لا يصلي الصلاة ولا يشهد الجماعة مع المسلمين ؟! كيف يزكو بهذه الطاعة الفاضلة من هو نائم في بيته لا يعرف مساجد المسلمين ولا يُرى فيها ؟! كيف ينعم بالصيام من يأكل الرّبا ويجمع الأموال بالباطل ، وكيف يستقيم صيام مَن صام عمّا أحل الله له ، وأفطر على ما حرّم الله عليه من الكذب والغيبة والنميمة ومنكرات الأخلاق !! .
هل يفرح بالصوم ويسعد مَن سلخ بلسانه ظهور المسلمين ، ولم يتّق الله في أعراضهم وحرُماتهم ؟! ثبت في صحيح مسلم حديث عظيم جدّ عظيم ، يفزع النفوس ويرهب القلوب ، فهل يعيه الصائمون ويتأمّله القائمون القانتون ؟! قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (أتدرون مَن المُفلِس ؟ قالوا : المفلس مَن لا درهم له ولا متاع ؟ قال : إن المفلس مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وقيام وقد شتَم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيأخذُ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنِيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ، أُخذ من سيئاتهم فطُرِحَت عليه ثم طُرِحَ في النار) (320).
إنها لمصيبة عُظمى أن يدركنا رمضان ولا يُغفر لنا ، ولا ينفعنا ولا يُتقبّل منا ولا يُستجاب دعاؤنا ، نعوذ بالله أن نكون ذلك الإنسان ، قال صلى الله عليه وسلم : (رَغِمَ أنفُ عبدٍ أدرك رمضان ثم انسلخَ فلم يُغفر له) (321) ، وإنها لَعين الخسارة والندامة أن يكون رمضان عند طوائف من الناس ، موسم لعب ولهو وتنافس في المعاصي والآثام وتسابق في تضييع الأوقات .
أيها الصائمون :(1/126)
أيّ وبال علينا عندما يكون حظّنا من صيامنا الجوع والعطش والتعب والنصّب وليس لنا فيه مغنمٌ ولا أجر ولا شرف ولا فضل .
احذروا مغبّة تضييع الصيام ، وتجنّبوا ما قد ينقصه أو يُذهِب أجره وثوابه ، فإن الله قد اختصه لنفسه ـ سبحانه من بين سائر العبادات ، فصونوه من كل شائبة واحفظوه من كل غائلة ، وقوموا بحقّه وما ينبغي فيه .
روى البخاري في صحيحه وأبو داود في سننه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال صلى الله عليه وسلم : (مَن لم يدّع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدّع طعامه وشرابه) (322).
اللهم احفظ علينا صيامنا ، واجعله شافعاً لنا ، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم .
{ 20 } صيَام السّلَف الصّالِح
السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم هم فُضَلاء الأمّة وخيارها ، ونبلاؤها وأئمّتها وسادتها وقادتها ، كساهم النبي صلى الله عليه وسلم جلباب الخيرية ورداء الشرف والعظمة كما في الصحيحين من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إنّ خيرَكُم قَرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم) قال عمران : فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثة ؟ (ثم يكون بعدهم قومٌ يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يُؤتَمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السِّمَن) (323).
بزوالهم ظهرت البدع والمحدثات ، وكثرت الفتن والبلايا وتعاظم الأعداء ، وانتُهِكَت الحرُمات ، لأنهم منبع أمان الأمّة ومصدر سلامتها وثباتها وظهورها .
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (النجوم أمّنة للسماء ، فإذا ذهبَت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمَنة لأصحابي ، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمّنة لأمّتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما يُوعدون) (324).(1/127)
"فهم الذين تُعُهِّدت بنقلهم الشريعة ، وانحفظت بهم أصول السنّة ، فوجبت لهم بذلك المنّة على جميع الأمّة ، والدعوة لهم من الله بالمغفرة ، فهُم حمَلة علمه ، ونقَلة دينه وسفَرته بينه وبين أمته ، وأُمناؤه في تبليغ الوحي عنه .
اتخّذوا كتاب الله إماماً ، وآياته فرقاناً ونصبوا الحق بين أعينهم عياناً وسُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم جُنّة وسلاحاً ، واتَّخَذا طرقها مِنهاجاًَ وجعلوها برهاناً ، فلُقُّوا الحكمة وَوُقوا شرّ الهوى والبدعة ، لامتثالهم أمر الله تعالى في إتباع الرسول وتركهم الجدال بالباطل يدحضوا به الحق .
الذين جاهدوا في الله حق جهاده واتبعوا رسوله على منهاجه، الذين أذكارهم في الزهد مشهورة وأنفاسهم على الأوقات محفوظة ، وآثارهم على الزمان متبوعة ، ومواعظهم للخلق زاجرة وإلى طرق الآخرة داعية..." (325).
أرباب العلم والديانة والسنة والأمانة والورع والصيانة ، إذ هم أعظم الناس ديناً وأكمل الناس عقلاً وأهداهم سبيلاً وأسدّهم كلاماً وأصحّهم نظراً وأتمّهم فِراسةً .
أيها الإخوة :
صامَ السلف الكرام فكانوا صفوة الصائمين ونُخبة القائمين ، بات الصوم شعارهم وأنيسهم وحلاوتهم ، كانوا في صيامهم أهل الذكر والقرآن ، وأصحاب الشكر والامتنان ، صاموا بخشوعٍ وإخبات فم يكونوا أهل كِبر وبطَر ، وصاموا بخشية وطهارة فليسوا أهل سفهٍ وطياشة .
أيها الصائمون :
"لمّا سمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قول الله تعالى : ?فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ? [البقرة : 148] ، وقوله سبحانه : ?سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ?[الحديد: 21].(1/128)
فَهِموا من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم ، أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة والمُسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأى مَن عملاً يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له ، فيحزن لفوات سبقه ، فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها ، كما قال تعالى : ?خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ? [المطففين : 26] ، ثم جاء مَن بعدَهم فعكس الأمر فصار تنافسهم في الدنيا وحظوظها الفانية .
قال الحسن : "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافِسْه في الآخرة" ، وقال وُهيب بن الورد : "إن استطعتَ ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل" .
كان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال عمر بن الخطاب : "ما استبقنا إلى شيءٍ من الخير إلا سبَقَنا أبو بكر وكان سبّاقاً بالخيرات" ، ثم كان السابق بعده إلى الخيرات عمر رضي الله عنه(326).
لرمضان قيمة كبيرة عن السلف الصالح ، فعند دخوله ـ وهم أهل جدّ وعمل ، ليس وراءه مطلع لناظر ولا فوقه مُرتقيً لبعضهم تطلُّع طامح في الخير ، ليس وراءه مطلع لناظر ولا فوقه مُرتقىً لصاعِد .
يسارعون في أبواب الخير ، ويطلبون كل فضيلة ويلتمسون كل أجر وثواب ، هم في الذكر والقرآن أهله وخاصته ، وفي الصلاة عُبّادها ورُهبانها ، والصدَقة أقطابها وصُناعها .
امتاز صيام السلف الأخيار بالترنم بالقرآن والتفكّر في آياته ومعانيه ، وازدان بأصناف البذل والإنفاق ، فسبحان الله يؤثرون مع الجوع والخصاصة ، ويُطعمون مع الحاجة والمسغبة ، كان صيامهم محفلاً للخيرات والطاعات ، ليس ثمّة باب من أبواب الخير إلا سلكوه ولا مطلباً إلى راموه ، امتدحهم شاهِدهم وذُهل سامعهم وأتعبوا مَن بعدَهم .
عظُمَت نفوسهم لما وطّنوها على طاعة الله وذكره ، وعزّت هممهم لما رغبت في لقاء الله وجنّته ، فطرحوا الدنيا الفانية للدرجات الباقية .(1/129)
قال إمام العلماء معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ في مرض موته : "اللهم إني كنت أخافُك وأنا اليوم أرجوك ، اللهم إنك تعلم أنّي ما كنتُ أحب البقاء في الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ، وإنما لمكابدة الساعات وظمأ الهواجر ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلق الذكر".
معاشر الصائمين :
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : "لو طهرت قلوبكم ما شبعتُم من كلام ربكم" ، وقال الحسن رحمه الله : "واللهِ ما أصبح اليوم عبدٌ يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقلّ فرحه ، وكثر بكاؤه ، وقلّ ضحكه ، وكثر نصبَه وشغله ، وقلّت راحته وبطالته".
وقال وُهيب رحمه الله : "نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئاً أرقّ للقلوب ولا أشدّ استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهّه وتدبره" .
? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ? [فاطر : 29-30] .
"كان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليالٍ ، وبعضهم في كل سبعٍ ـ منهم قتادة ـ وبعضهم في كل عشر ـ منهم أبو رجاء العُطاردي ـ وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها ، كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان ، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة ، وفي بقية الشهر في ثلاث ، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً وفي رمضان في كل ثلاث ، وفي العشر الأواخر كل ليلة ، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة ، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان ، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال : فإنما هو تلاوة القرآن ، وإطعام الطعام"(327).
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في ترجمة أبي بكر(1/130)
بن عياش : "قد رُوي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكَث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة ، وهذه عبادة يُخضع لها"(328).
وقال نافع : لما غُسّل أبو جعفر القاري نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف فما شكَّ من حضره أنه نور القرآن رحمه الله(329).
وفي ترجمة عبد الرحمن بن مهدي قال ابن المديني : "كان وِرد عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن" ، وقال الذهبي : "عبد الرحمن له لجلالة عجيبة وكان يُغشى عليه إذا سمع القرآن"(330) ، وقال حمزة بن حبيب الزيات أن يذهب بصري" ، قال الذهبي : "كان إماماً حُجّة قيّماً بكتاب الله عابداً خاشعاً قانتاً لله ، ثخين الورع عديم النظير"، وقال فيه أيضاً : "وكان ـ رحمه الله ـ يُقرِئُ القرآن حتى يتفرق الناس ثم ينهض فيصلي أربع ركعات ، ثم يصلي ما بين الظهر والعصر ، وما بين المغرب والعشاء وحدّث بعضُ جيرانه أنه لا ينام الليل ، وأنهم يسمعون قراءته يرتّل القرآن"(331).
أيها الإخوة :
لم ينتهِ صيام السلف إلى رمضان فقط ، بل كان لهم أوراد ونوافل يحافظون عليها ويديمونها ، فهذا عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ أخرج البيهقي في سننه عن ابن عمر قال : "ما مات عمر حتى سرد الصوم"(332) ، وذو النورين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حظّه من النهار الجود والصيام ومن الليل السجود والقيام ، مُبشَّرٌ بالبلوى ، ومُنعَّمٌ بالنجوى(333).
وقد قُتل عثمان رضي الله عنه وهو صائم(334).
وكانت الصدّيقة بنت الصدّيق عائشة رضي الله عنها تسرد الصوم كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته رحمه الله(335).
وقال عروة رضي الله عنه : بعث معاوية إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف دراهم فقسمتها ، لم تترك منها شيئاً ، فقالت بريرة مولاتها أنتِ صائمة فهلا ابتعتِ لنا منها بدرهم لحماً قالت : "لو ذكّرِتْني لفعَلْت" أخرجه الحاكم في المستدرك(336).(1/131)
ولما طلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها قال له جبريل عليه السلام : "راجِعْ حفصة فإنّها صوّامة قوّامة ، وإنها زوجتك في الجنّة" حديث حسن أخرجه الحاكم أيضاً(337).
وفي ترجمة ابن عمر رضي الله عنهما في السير قال الذهبي: "الإمام القدوة شيخ الإسلام"(338) ، وقال نافع مولاه : "كان ابن عمر لا يصم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضَر"(339).
وكان الإمام الكبير محمد بن أبي ذئب رحمه الله كما ذكر أخوه : يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم سرد الصوم ، وكان شديد الحال يتعشّى الخبز والزيت(340).
والسلف الخيار مع طول العبادة ودوام الذكر والصيام كانوا ـ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أجود الأنام كفاً وأسرعهم نوالاً وبذلاً ، وهم عون كل مسكين وسائل ، ورِدء كل فقير خامل ، ثبت في المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود(341) ، فأرسَل إلى بعض نسائه ، فقالت : "والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء" ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك ، حتى قُلنَ كلّهن مثل ذلك : لا والذي بعثكَ بالحق ما عندي إلا ماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مَن يُضيف هذا الليلة ؟) فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلقَ به إلى رحله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية قال لامرأته : هل عندكِ شيء ؟ فقال : لا إلا قوت صبياني ، قال : علّليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوّميهم ، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السّراج وأريه أنّا نأكل ، فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ـ فقال : صلى الله عليه وسلم (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) (342).
لقد عظم شأن هذا الأنصاري رضي الله عنه بصدقته وإيثاره البالغ ، وتبوّأ منزلة شريفة ، طمحَت إليها هِمَم الصالحين ، وصمدَت لها أفئدة الطالبين .(1/132)
وكانوا أيضاً رضي الله عنهم أهل مواساة للفقراء ، يطعموهم ويحسنون إليهم ويقضون حوائجهم ، ولا يحول دون ذلك انهماكهم في العبادة أو ضخامة أعبائهم أو فخامة نفوسهم ، فهذا صدّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه كان يحلب للحيّ أغنامهم ، فلما استُخِلف قالت جارية منهم : الآن لا يحلبها ، فقال أبو بكر : بلى وإني لأرجو أن لا يغيّرني ما دخلتُ فيه عن شيء كنت أفعله ، أو كما قال .
وكان عمر رضي الله عنه يتعاهد الأرامل فيستقي لهنّ الماء بالليل ، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة ، فدخل إليها طلحة نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مُقعدة ، فسألها : ما يصنع هذا الرجل عندكِ ؟ قالت : هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ، ويخرج عنّي الأذى فقال طلحة : ثكلتك أمُّكَ طلحة ، عثرات عمر تتبع ؟! .
وكان أبو وائل رحمه الله يطوف على نساء الحيّ وعجائزهم كل يوم ، فيشتري لهنّ حوائجهنّ وما يصلحهنَّ .
أحاديثُ لو صيغتْ لألهت بحسنِها
عن الوشْي أو شُمّت لأغنت عن المسكِ
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
*********
{ 21 } صَومُ النّسَاء
النساء مدارس تربية وإصلاح ، وقواعد البناء والنهوض ، ومعاهد صناعة الرجال والأبطال .
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها
أعددتَ شعباً طيّب الأعراقِ
الأم روضٌ إن تعاهده الفتى
بالريّ أورق أيّما إيراقِ
إن الأمّ المسلمة مركز التربية والرعاية والهداية ، فهي نصف المجتمع ، إذ بصلاحها صلاح جيل وأمّة .
إن شريعتنا الإسلامية الغرّاء أولَت المرأة المسلمة عناية فائقة، وأكسبَتْها نوراً وحبوراً وذكراً وشرفاً لم تنلْهُ امرأة في سائر المِلل والنِّحَل التي تقيأها وأنشأها حُقراء البشر وزنماء الحرية والعدل والمساواة .
إن الأمم الكافرة اعتبرت المرأة "بليّة عظيمة" هي أحط من كل شيء وضيع في أذهانهم ، إنها عارٌ وشنار ، إنها لعنة وبلاء ، إنها متاع موروث ، إنها رِجس الشيطان .(1/133)
وقد عقد الفرنسيون في حقبة من الدهر مؤتمراً للبحث : هل المرأة تُعدّ إنساناً أم غير إنسان ؟ وأخيراً توصّلوا أنها إنسان خُلقت لخدمة الرجل فحسب .
ولكم أن تتصوّروا إلى أي حدّ بلغَت عقول هؤلاء وامتهانهم للمرأة المنكوبة ، فجاءت هذه الشريعة السمحة العادلة فرفَعَت عن المرأة المسكينة سوط الظلم ، وطهّرتها من سوء الاعتقاد ، وحفظتها وصانتها ، وأنزلَتْها منازل الكرماء الفُضلاء ، وأقامت لها ميزان حقوقها في حد طاقتها وخِلقتها وعفافها وطُهرها ، فكان مِن هذا الجنس الضعيف اللطيف عالِمات حافظات ، وعابدات صالحات ، وسيدات مباركات .
أيها الصائمون :
النساء شقائق الرجال كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلهنّ ما للرجال ، وعليهنّ ما على الرجال دون استثناء إلا ما خصّه الدليل ، لذا يجب عليهنّ الصيام ، ويُستحب للنساء المسلمات في رمضان الاجتهاد في الطاعة والمسارعة إلى الخير والبرّ من صلاة وذكر وتلاوة وصدقة وبذل للمعروف وكل عمل مبرور .
وليعلمنَ الأخوات الصالحات أن السالفات من نساء الصحابة والتابعين كنَّ أهل جدّ وعمل في هذه المواسم المباركة ، فقبيحٌ بالمرأة المسلمة أن تضيع وقتها ـ لاسيما في رمضان ـ في الزيارات الكثيرة ونزول الأسواق وإصلاح المنزل وتجميله إلى درجة مفرطة.
وإني لأنصح إخواني الرجال من الآباء والأولياء أن يتّقوا الله تعالى في نسائهم وبناتهم ، ولا يكونوا سبباً في حِرمانهنّ من اغتنام مواسم الرحمة والخير كرمضان ، فالمرأة المسلمة ليست وظيفتها صنعة الطعام وكنس المنزل وتجميله فحسب ، بل إنها أجلّ من ذلك كله وأسمى ، وما الطعام والنظافة إلا جزء يسير من عملها ، وما يُرتقب ويُراد منها أعظم وأعظم .
أيها الصائمون :(1/134)
كيف تنتظرون من النساء المسلمات حُسن التربية وزكي الإصلاح وصناعة الرجال ، وقد حمّلتموهنّ كثير الأشغال وقليلها ، وثقيلها وخفيفها ، حتى قراءة القرآن أصبحّت المرأة المسلمة مع أعباء المنزل ومشكلاته ، لا تتلوه إلا في أحايين متباعدة ، فيمر الشهر والشهران لا تتلو المرأة القرآن .
ثبت في سنن الترمذي وقال : حسن صحيح عن عمرو
بن الأحوص الجُشَميّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنهنّ عَوانٍ عندكم) (343) يعني أسيرات .
إن من تقوى الله تعالى في المرأة المسلمة تعليمها وتنشئتها التنشئة الحسنة ، بتقريب سُبل الخير لها، وتجنيبها موارد الفتن والغواية التي يدبّرها أعداء الإسلام ، الذين يريدون من المرأة مماثلة الرجل في كل صغيرة وكبيرة من مجالات الحياة ، فتهتك المرأة حياءها وتخلع حجابها ، وتدنِّس طهرها وعفّتها وتقتل أبناءها ، وإنا لنحمد الله عز وجل بأن دعاواهم تهاوت وانسحقَت تحت أعاصير غيوري الرجال والنساء من أهل الإسلام ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كمن قال :
كناطحٍ صخرةً يوماً لِيوهنهَا
فلم يَضِرها وأوهى قرنَه الوعِلُ
"اللهمّ إنا ندرأ بك في نحورهم ، ونعوذ بك مِن شرورهم".
وحول صوم المرأة نذكر الأخوات المسلمات بهذه المسائل :
1- أنه يجب على المرأة الصيام كسائر المسلمين كما تقدم ، وتُلزم وتُؤمر به إذا بلغَت ، وبان بلوغها بإحدى علامات البلوغ المعروفة ، ومنها الحيض وهو خاص بالنساء فإذا حاضَت المرأة وجب عليها الصيام وسائر العبادات ، ولو كانت دون خمس عشرة سنة ، فيجب على الفتيات أن يَعِينَ هذا الأمر ولا يتساهلنَ فيه ، وينبغي للأمّهات مراعاة ذلك والتيقظ له ، لأن بعض الفتيات يهبنَ هذا الأمر ويستحين منه ، والله لا يستحي من الحق.(1/135)
2- أن الحائض والنفساء لا يجب عليهما الصيام ولا الصلاة ، بل يُحرمان عليهما بإجماع أهل العلم(344) ، ولا قضاء عليها من جهة الصلاة وإنما تقضي الصيام فقط لحديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم في صحيحه أنها قالت في الحيض : "كان يصيبنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"(345) ، والحكمة من قضاء الصوم دون الصلاة أن الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم ، وقد أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم(346).
وحول موضوع الحيض شاع بين النساء استخدام ما يسمى بحبو منع العادة ، لا سيما في المواسم الفاضلة كرمضان والحج لكي يتسنّى لهنّ إدراك الخير والفضيلة ، وهذه الحبوب قد نصح أكثر مشايخنا الفُضلاء بعدم استخدامها لأنها قد تورث أضراراً خطيرة للمرأة ، وأفاده غير واحد من الأطباء ، لا سيما وأن الحيض دم جبلَّة كتبه الله تعالى على بنات آدم ، فلتصبر المرأة على أمر الله تعالى وسيعوّضها الله خيراً .
أما القول بتحريمها ففيه من النظر ما فيه ، لأنه قد رخّص بعض الأئمة للمرأة أن تستخدم دواء لمنع الحيض كالإمام أحمد رحمه الله فيما نقله عنه ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية(347) من رواية صالح وابن منصور وقال : لا بأس به إذا كان دواء يُعرف . وصوّبه القاضي أبو يعلي ، ونقل ابن مفلح عن ابن تيمية تجويز ذلك .(1/136)
3- ينبغي للأخوات المسلمات المحافظة على الوقت في رمضان ، واغتنامه في الطاعات وأبواب الخير من ذكرٍ وصلاة ودعاء وصدقة وإحسان وأشباهها كما سبق التنبيه على ذلك ، وحتى لو اضطرت للعمل في رمضان كما هو حال كثير من النساء ، لتحرص أن تجري ذكر الله على لسانها وقلبها ، فإن ذكر الله تعالى من أيسر العبادات وأخفّها على الإنسان ، وهو أيضاً من أعظم الطاعات وأزكاها عند الربّ جل وعلا ، قال تعالى : ?وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [الجمعة : 10] ، وهو أنواع وأبواب كثيرة أعظمها قراءة القرآن إن كانت تَحفظ شيئاً منه ، وإلا فلتقُل ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) (348).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال صلى الله عليه وسلم : (لأَنْ أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس) (349).
وفي سنن الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : (مَن قال سبحان الله وبحمده غُرست له نخلة في الجنّة) (350).
فيال للعجب كم ضيّعنا من نخلات كثيرة وأجور وفيرة ، وعلى كل حال فالذكر مستحب على كل الأحوال وفي كل الأوقات كما قال تعالى في وصف أولي الألباب : ? الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? [آل عمران : 191] .
ومَن أحب الاستزادة في هذا الباب العظيم المبارك فليرجع إلى المصنّفات فيه ، ومن أحسنها وأجمعها وأوفاها وأزكاها كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله الذي قال فيه ابن كثير رحمه الله في تفسير :(1/137)
"وقد صنّف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما ، ومن أحسن الكتب المؤلَّفة في ذلك "كتاب الأذكار" للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله"(351).
أما بالنسبة لصلاة التراويح فلا بأس أن تشهد النساء التراويح، بل يُستحبّ لهنّ ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وإحياء السلف الصالح لذلك ، فقد صح من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند أصحاب السنن أنه قال ضمن حديث : ".. فلما كانت الليلة الثالثة ـ يعني ليلة سبع وعشرين ـ جمَع ـ أي النبي" أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ، قال : قلت : ما الفلاح؟ قال : السحور ، ثم لم يقُم بنا بقية الشهر"(352).
وجرى العمل على ذلك في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على القيام ، جعل على الرجال أبيّ بن كعب، وعلى النساء سليمان بن أبي حثمة كما عند البيهقي(353) وعند البيهقي أيضاً عن عرفجة الثقفي قال : "كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً ، قال : فكنتُ أنا إمام النساء"(354).
وقد عقد الإمام محمد بن نصر المروزيّ رحمه الله تعالى باباً في كتاب قيام الليل باب حضور النساء الجماعة في قيام رمضن ، واستدل بهذين الأثرين وغيرهما على مشروعية ذلك(355).
وقال ابن خزيمة في صحيحه : "باب استحباب صلاة النساء جماعة مع الإمام في قيام رمضان"(356).
فالخلاصة أن خروجهنّ للتراويح مسنون ومحمود ، لا سيما وأنه في رمضان ينشط أئمة المساجد والوُعّاظ للدروس والعِظات ، ولا يخلو ذلك من توجيه للنساء وتذكيرهنّ بأحكام الصيام وأخطائهنّ في ذلك .
لكن يجب عليهنّ إذا خرجنَ للمساجد أن يلتزمنّ الضوابط الشرعية في ذلك من أمن الفتنة وعدم التعطّر والتجمّل ، مع تمام التستّر والتصوّن بلزوم الحجاب الشرعي .(1/138)
قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ? [الأحزاب : 59] .
4- المرأة المسلمة في أثناء الصوم وفي كل حال تحفظ لسانها من اللغو والرفث والغيبة والنميمة وقول الزور ، وتحرص على أن يكون صومها نقياً زكياً سليماً من كل غائلة وشائبة ، وهي كذلك في أثناء صومها لا يحول الصوم ولا شهود التراويح من تربية أبنائها ، ووعظهم ونصحهم والقيام عليهم بالصالح المفيد .
ويجوز للمرأة أثناء الصوم أن تَطعم الطعام لكي تتعرف على حلاوته أو ملوحته كما أفتى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عند ابن أبي شيبة وعلّقة البخاري في صحيحه بصيغة الجزم(357).
{ 22 } صَومُ الصّبيَان
الصبيان زينة الحياة وبهجة النفوس ، وأُنس الآباء والأمهات، قال تعالى : ? المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ? [الكهف : 46] .
إن مما يفرحنا في رمضان ، ويسرّنا كثيراً رؤية الأطفال الصغار في رمضان وهم في فرح وسرور بمقدم الشهر ، بل إننا نرى أعداداً منهم غير قليلة تقرأ القرآن وتصلي التراويح كما يصنع آباؤهم ومربُّوهم والناس أجمعون .
والأعظم من ذلك أن هناك من الأبناء الصغار مَن يصوم رمضان أو شيئاً منه ، وربما بعضهم راجَعَ أباه في مسألة الصيام ، لأن الأب يخشى عيه عدم التحمّل وهو صغير .
كل ذلك يدل دلالة واضحة على بقاء الخير في الأمة ، حتى إن ناشيئتها وزهورها لتتسابق إلى الخيرات والطاعات ، فلله الحمد أولاً وآخراً .
إن تلكمُ الصورة الرائعة تبشّر بخير ونعمة ورخاء ، لكننا نطمع ونطمح في أبنائنا وصغارنا أعظم من ذلك ، لأننا نؤمّل فيهم أموراً عِظاماً ، ونرتقب فيهم هماً متيناً لدينهم وأمّتهم ، فهم تاج الأمّة ومجدها وذخيرتها ، وهم عزها وحاضرها ومستقبلها .(1/139)
لهذا وغيره ينبغي علينا أن نجدّ بعلمٍ وحزم في تربية أبنائنا والنهوض بعقولهم وأفكارهم وفق الضوابط الشرعية المستقاة من الكتاب والسنّة وطريقة السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
ولقد كان السلف الصالح ـ رضي الله عنهم يعون هذه المسألة جيداً ، ويعطونها قدراً وافراً من حياتهم ، لذا فقد أحيوا في قلوب أبنائهم التوحيد وحبّ خالقهم ، وغرسوا فيهم مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، فلا غرو أن تسمع من صغيرهم طيب المقال وحَسَنه ورفيعه ، ولا عجبَ أن يُشاهَد صغيرهم ذا همّة عالية وصبرٍ ونضال ، يعيش التضحية والفداء ، ويتمنى الشهادة في سبيل الله تعالى ، فلقد رُبُّوا على ذلك أحسن التربية وأتمّها .
عن الرُّبيع بنت معوِّذ قالت : "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار فقال : (مَن أصبح مُفطراً فليتمّ بقية صومه ، ومَن أصبح صائماً فليصُم) قالت : "فكنّا نصومه بعد ، ونُصومه بعد ، ونُصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العِهن ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار"(358)، ولفظ مسلم : "فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تُلهيهم حتى يتموا صومهم".
وكان مجتمعهم المبارك لا يسمح بأية مخالفة أو سلوك سيئّ ، ينافي توافقهم وائتلافهم على طاعة ربهم ، حتى إنهم لَيُقبِّحوا فعائل عُصاتهم بمحاسن صغارهم وأبنائهم .
روى البخاري في صحيحه معلّقاً بصيغة الجزم عن عمر رضي الله عنه أنه قال لنشوان ـ أي سكران ـ في رمضان : "وصبياننا صيام ؟ فضربه" أي جلدَه حدّ الخمر ، وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور في سننه(359).
إن صوم الصغار والصبيان هدى حسَن وسنّة سلفية وتربية جادّة ، وقد استحب جماعة من السلف صوم الصبيان منهم : ابن سيرين والزهري ، وقال به الشافعي ، أنهم يؤمَرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه(360) ، وقد حّده بعضهم بسنّ معينة ، والصواب أنهم متى ما أطاقوا أُمروا بالصوم تعويداً لهم .(1/140)
إن أبناءكم ـ أيها الآباء ـ أمانة في أعناقكم ، فارعوا هذه الأمانة وقوموا بما ينبغي تجاهها ، فالله تعالى سائلكم ومحاسبكم عمّا استرعاكم .
قال صلى الله عليه وسلم : (كُلّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعّيته) (361).
"إن قلب الابن الصغير نقيّ طاهر ، وهو جوهرة نفيسة خالية عن كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نُقش ، ومائلٌ إلى كل ما يُمال به إليه ، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة ، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلِّم له ومؤدِّب ، وإن عُوِّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك ، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه والوالي له ، وقد قال عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ? [التحريم : 6] .
ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى ، وصيانته بأن يؤدبه ويهذّبه ، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من القرناء السوء ، ولا يعوّده التنعّم ولا يحبب إليه الزينة والرفاهية ، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد"(362).
إنه لَمُرَبٍّ صالح وقيّم ناجح ذلك الأب الذي غرس حب الصيام في نفوس بنيه منذ الصغر ، إذ أن الصيام مدرسة وتعليم ، حوى من المعاني الحسَنة والحِكَم الجليلة والفوائد النبيلة ما لو تحققت في صيامنا لانتفع بها أبناؤنا وصغارنا .
إننا في رمضان نربي أبناءنا على الصيام ونحبّبهم إليه ، ولا نكتفي بذلك فحسب ، بل نبيّن لهم أن رمضان موسم خير ورحمة لا يصلح فيه شيء من اللعب واللهو ، والأحرى بنا فيه أن نتسابق إلى الخيرات والباقيات الصالحات ، فيشهد الصغار مع آبائهم التراويح ويقرأون القرآن ، ويستمعون الذكر ويعيشون المعروف والإحسان .
عندئذٍ ترقى عقول هؤلاء الصبِّية ، وتكبر نفوسهم ، وتتسع مداركهم وتعلو هممهم ، فلقد أصبحوا على أساس من التربية متين ، وبناءٍ من الخير والخلُق العظيم .
وحول الصبيان في رمضان وصومهم ثمّة تنبيهات مهمة :(1/141)
1- هناك آباء لا يُشِركون أبناءهم في فرحتهم برمضان والابتهاج
به ، ولا يحسّسونهم بدخوله وأهميته وما ينبغي فيه ، وهذا
لا ريب أنه خطأ يجب تداركه ، لأن صيام رمضان من شعائر الدين المباركة التي يجب أن تظهر وتبرز في كل مكان يُعبد الله تعالى فيه ، ونحن إذ نذكّر أبناءنا المميزين بدخول رمضان لكي يفرحوا به مثلنا ، إنما نربّيهم على تعظيم أركان الإسلام وإجلال شعائر المِلّة .
2- عدم تمرينهم على الطاعة والصيام : فيوجد بعض الآباء ، يهمل قضية تعويد الصغار على الصيام بحجّة أنهم لم يبلغوا ولن يطيقوا، أو ربما كان ذلك غفلةً وتساهلاً منه ، وهذا غير لائق بالأب المسلم الصالح الذي يريد أن تقرّ عيناه بصلاح ابنه وهدايته، وهو قد سمع ما نقلناه عن السلف الصالح وعنايتهم بهذا الأمر ومبالغتهم فيه ، بل أبلغ من ذلك وأصرَح أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ويقرّه ، مع مَن هم دون التمييز .
فقدى روى الإمام ابن خزيمة في صحيحه بسندٍ قال الحافظ : لا بأس به(363) ، عن رَزينة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر مرضعاته في عاشوراء ورُضعاء فاطمة فيتف في أفواههم ويأمر أمهاتهم أن لا يرضعن إلى الليل"(364).
وفي المقابل تجد هؤلاء الآباء هداهم الله تعالى مع إهمالهم هذا الجانب المهم في التربية تجدهم قد فتحوا لأبنائهم وفلذات أكبادهم أبواباً من اللعب والسّفَه في المنزل بحيث يصبح جلّ وقتهم في اللعب واللهو والنوم والسهر . والله المستعان !.
ومن المؤسف أن يكون بعض هؤلاء الأبناء ، قد ناهزَ البلوغ أو تعدّاه ، ولا يجد الأب الواعي الذي يعظه ويذكّره بفرضية الصيام وأهميته وفضله ، ويحذّره من معصية ترك الصيام بعد حصول البلوغ والتكليف .
وغالب مَن يقع في هذا المزلق الخطِر ، من نشّأَ أبناءه على حب التنعُّم والرفاهية وطلب الدّعة والراحة ، فيكبر الابن ويشبّ وتبين عضلاته ، ولا يزال عقله صغيراً وفكره هزيلاً متماوتاً ، والله المستعان ! .(1/142)
وهنا أذكّر بأمر وهو أنه ينبغي عند أمر هؤلاء الصبية الصغار بالصوم والعبادة أن يكون ذلك بأحسن الأساليب وألطفها وأرفقها ، فلا يؤخّذون بقوة ولا عُنف ولا شدّة ، بل يُرغَّبون في الطاعة ، ويحبَّبون إليها ويُشجَّعون على ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ الله يحب الرِّفق في الأمر كلِّه) (365).
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزَعُ من شيءٍ إلا شانه) (366) ، وفيه أيضاً عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن يُحرَم الرفق يُحرَم الخير) (367).
3- ترك الأبناء الصغار في الشوارع والطرقات : وهذا أمر وبيلٌ مرتعه ، وخيمٌ مصرعه ، قد فشا في هذه الأزمان بسبب كثرة الملهيات والمغريات ، وهو دليل غفلة الراعي ، وعلامة تضييعه لبنيه وأحبابه ، إذ أن الشوارع والطرقات تكتظّ بجموع الشباب ، المتباينة أسنانهم وأخلاقهم وفيها من أنواع اللعب والسفاهات ما يفسد علينا الأبناء ، وينزلهم الحضيض ويفقدهم الخير والصلاح ومحاسن الخِلال . وهذا البلاء يشتد ويكثر في رمضان حيث ينام الناس في النهار ويحيون الليل ساهرين وسامرين على ضروب اللهو والفساد ، وقد يمتد سهرهم ولهوهم وباطلهم إلى العشر الأواخر الكريمات ، فلا يخشون فيها لومة لائم أو إنكار مُنكِر وزاجر ، بل تطول غفلتهم إلى صلاة الفجر وما بعدها والعياذ بالله ، فإذا رأيتهم رأيت بينهم طفلاً صغيراً ، وصبياً بريئاً لا يعي من فسادهم كثيراً ولا قليلاً . والله المستعان ! .
أين أمانتكم ـ أيها الآباء ـ وأين رعايتكم وحفظكم لصبيانكم وما استرعاكم الله تعالى عليه ، ثبت في الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (مَا من عبدٍ يسترعيه الله رعيّة يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنّة) وفي رواية (فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) (368).(1/143)
إننا لَنخشى على هؤلاء الآباء والأولياء ، من هذا الوعيد الشديد إذا أهملوا أبناءهم وضيّعوهم ولم يقوموا بحق النصيحة والتربية والصيانة .
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ? [التحريم : 6] .
{ 23 } العَشرُ الأواخِرُ
أيها الإخوة الصائمون :
لقد حلّت بنا لياليٍ شريفة وأيام كريمة وذخائر عظيمة ، إنها من فواضل الأيام ونفائس الأوقات وكرائم الساعات ، عَشرٌ مليحات شريفات ، زخرَت بالأطايب والمكرمات ، وارتوت بالنور والرحمات، وحظيت بالجود والهبات .
عَشرٌ هل لُبّ لُباب الشهر ، وأيامه العظيمات الغُرّ ، وأنجمه البهيّات الزُّهر ، ليالٍ ما أجلّ نورها ، وأكبر قدرها ، وأرفع اسمها وذكرها ! .
ليالٍ يودّ المؤمن إحياءها واغتنامها ، ونورها وحلاوتها ، وفوزها وثوابها ، إن فيها ليلة شريفة مباركة هي زهرة الشهر وسرّه ودُرّه وتبره ، كم يسعى الصالحون فيها بالجد والعمل والمسارعة في الخير والطاعة ، بلي يريدون موافقتها بالقيام والذكر والدعاء ، لينالوا فضلاً من الله ورحمة .
? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ? [القدر : 1- 3] .
يا معاشر الصائمين :
اجتهدوا بالعمل الصالح في هذه الليالي الطيبات الفاضلات ، فإنها خُلاصة الشهر ولُبّه وروحه ، وإذا كان رمضان أياماً معدودات، فهذه العشر هي ثُلثُ الأيام المعدودات ، واخيبةَ مَن ضيّعها وتشاغل منها .
اعلموا أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العَشر ما لا يجتهد في غيره ، ويخصها بمزيد العمل والنشاط والمسارعة طلباً في فضلها والتماساً لليلة القدر الشريفة ، بل كان يجعل الاعتكاف وهو لزوم الطاعة فيها .(1/144)
قال عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما في الصحيحين : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل شدّ مئزَرَه وأحيا ليله وأيقظَ أهله"(369) ولفظ مسلم "وجدَّ وشدّ مِئزرَهُ" .
ومعنى قولها "شدّ مئزرَهُ" قيل : معناه الجدّ في العبادة كما يُقال : شدَدْتُ لهذا الأمر مئزري أي : تشمّرتُ له ، وقيل : بل المراد اعتزال النساء ، وبذلك جزَم عبد الرزاق عن الثوري ، واستشهد بقول الشاعر :
قومُ إذا حاربُوا شدّوا مآزِرَهم
عن النساءِ ولو باتت بأطهارِ
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه ، وفي بعض روايات الحديث ما يقوي هذا المعنى : "شدّ مئزرَه واعتزل النساء"(370).
يا صائمون :
هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم يعظّم أمر هذه العَشر ، ويحوطها بكل رعاية وعناية حتى إنه لينكف عن المباحات وسائر اللذاذات ـ ومنها لذّة النساء ـ لكي يتفرغ للعبادة ولا ينشغل عنها ، أو يقارف مباحاً ، يضيع وقته ويحرمه لذة العبادة والمناجاة ، إن هذا بحق هو الجدّ والحزم والاهتمام وليس الكسل وكثرة المنام .
وأما قولها : "وأحيا ليله" أي سهره بالطاعة والعبادة ، وظاهره أنه يحيي الليل كله وهو مشكل في الظاهر لما ورد في صحيح مسلم عن عائشة قالت : "وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح"(371).
والجواب ـ والله أعلم ـ أن الإحياء المذكور في العشر يكون بالصلاة والذكر والقراءة ويتخلل ذلك سحور ونحوه ، بينما المنفى في حديث عائشة هو القيام فقط ، وربما يُحمل كلامها على ما عدا رمضان لما علما أنه يضاعف جهده وعمله في رمضان لا سيما عشره الأواخر ، أو يُحمل أنه يحي غالب الليل .
أما الحديث الذي ذكرته عائشة في المسند قالت : "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم ، فإذا كان العشر شمّرَ وشدّ المئزَر"(372). فهذا حديث ضعيف لكن معناه صحيح تشهد له النصوص الأخرى ، والله أعلم .(1/145)
وأما قولها : "وأيقظَ أهله" : أي للصلاة ، والأصل هنا أزواجه ، وقد تعم جميع مَن في البيت ، ويدل له ما رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر في شهر رمضان وكل صغير وكبير يُطيق الصلاة" ، قال الهيثمي : إسناد أبي يعلي حسن(373) ، والحديث قد رواه الترمذي مختصراً ومحمد بن نصر عن زينب بنت أم سلمة قالت : "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقى من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يُطيق القيام إلا أقامه"(374).
فأين هؤلاء الآباء الصلحاء الذين يسارعون للقيام في المساجد ويدعون أبناءهم أمام الملهيات أو يتركونهم في الشوارع والطرقات يلهون ويتسفهون بلا سؤال ولا عتاب ولا محاسبة ، قال تعالى : ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ? [التحريم : 6] .
ومما ينبغي التنبيه نحوه حول هذه العشر المباركة الحِسان أمور:
أولاً : أن المشروع فيها إحياؤها بالطاعة والعبادة من ذكر وصلاة وتلاوة للقرآن ، بل يضاعف الإنسان جهده وعمله على ما كان يفعله أول الشهر تحرّياً لليلة القدر .
ثانياً : أن مِن صور الاجتهاد فيها أن يعتكف الصائم فيها قُربة لربّه كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في الخير ، وابتعاداً عن كل شاغل وصارف من أمور الحياة الزائلة .(1/146)
ثالثاً : ما بال كثير من الناس ـ إلا من رحم الله ـ في هذه الأيام إذا حلّت العشر تشاغل عنها بما يجري في عرف الناس ، من الاستعداد التام للعيد من تجديد وتجميل وتنظيف وتصليح ونحو ذلك ، فتنسلخ الأيام الفاضلة وهم في شغل غافلون ، وفي العناية بالمظاهر عاملون ، وعن ذكر ربهم وطاعته بعيدون ، وفي مصائر الناس وأحوالهم لا يتفكرون ولا يعتبرون ، وكأن هؤلاء في غنىً قبل عن إضاعة العشر وصرفها في استعدادات العيد ، وهم يدركون فضلها وخيرها وعِظم ثوابها وأجرها .
رابعاً : أن بعض المسلمين قد لا ينشط للصلاة والقيام مع الناس لعذرٍ ونحوه ، فهذا لا بأس أن يصلي لوحده في منزله ، وإن كانت الجماعة أفضل وأزكى وأحبّ ، وإن كان لا يستطيع الاجتهاد في الصلاة فعليه أن يصرف همّته إلى وجوه الخير الأخرى كقراءة القرآن والذكر والصدقة والإحسان وصنائع المعروف ، ويعتني أكثر ما يعتني بما ينفع قلبه ويصلحه ويؤثر فيه ، وهنا سؤال ورد على شيخ الإسلام ابن تيمية : أيما أفضل إذا قام من الليل الصلاة أم القراءة ؟ فأجاب : بل الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة نص على ذلك أئمّة العلماء وقد قال : (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) (375).
لكن مَن حصل له نشاط وتدبّر وفهم للقراءة دون الصلاة فالأفضل في حقه ما كان أنفع له(376).
*********
{ 24 } ليلةُ القَدْر
الليلة العظيمة المباركة الشريفة ، فرصة العمر وغرّة الشهر وفوز الدّهر ، هي أعظم الليالي وأزكاها ، وأبركها وأنفعها للأمّة ، إذ فيها بزَغَ النور وانقشَعَت الظُّلمة ، وحلّت السعادة وانسحقَت الشقاوة ، وساد التوحيد وانخسَأَت الوثنية ، لأن فيها القرآن فشعَت الحياة بعد الممات ، والهداية بعد الغواية ، والنجاة بعد الهلاك ، والاجتماع بعد الفرقة والتمزّق .(1/147)
ما أعظم هذه الليلة ، خيرٌ من ألف شهر ! ، يتسابق الصالحون إليها والأخيار في طلبها ، وكلهم طمعٌ في إدراكها وشوق إلى نيِلهَا ، وحبّ في قيامها وإحيائها ، ليلةٌ لا عِدْلَ لها ولا مثيل ، بركة ورحمة وفضل وثواب ، وهدىً ومغفرة وإجابة ، ليلةٌ لا يوصف فضلها ، ولا يُدرك خيرها ولا تُحصى بركتها ، حوَت نفائس الخيرات والهِبات والأُعطيات ، إنها من دُرر الحياة ولآلئ الوجود وجواهر الكون .
عظّمها الله تعالى فكانت الغاية في العظمة ، ومجّدها فحازت أبلغ الثناء ، وشرّفها اسماً وذكراً وحالاً ، ?وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ? [القدر : 2] ، ليلةُ يا عزّ مَن قامها وأحياها ، ويا سعادة مدركها وعامِرها ، فاءَ بالسعادة والهُدى والمغفرة ، ويا خيبةَ مَن ضيّعها وأهملها ّ فحُرم خَيرها وسعادتها وبركتها ! .
إنه لأجرٌ وأيّ أجر في ليلةٍ تنقضي في سويعات معدودة ينال المسلم أجرها قي وقت وجيز ، إذا علا مركب الصدق والإخلاص وكان ذا إيمان واحتساب ، قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ هذا الشهر قد حضركم ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، مَن حُرمَها فقد حُرم الخير كله ، ولا يُحرم خيرها إلا محروم) (377).
ليلة ذات قدر وشرف ، ومنزلة وسمو ، ورفعة وعلوّ ، من سموها وقدرها تنزّل الملائكة فيها بأمر الله تعالى وقضائه تلك السنة، ليلة ذات أمنٍ وسلام من كل مكروه ، وصيانة من كل أذىً وحفظ من كل خطر وفزع ? سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ ? [القدر : 5] .
ليلة تحبيس الشياطين وتصفيدهم وإركاسهم وعدم تأثيرهم ، ليلةٌ هي هدىً للصالحين ، وتوبة للمذنبين ، وتزكية للمتّقين ، وذكرى للغافلين ، معطّرة الأطياب ، مفتّحة الأبواب ، مؤنسة الأحباب ، كم تنزل فيها من رحمة وتُمحى من سيئة وتُقال من عثرة ويُمنع من سوء ، فضلٌ كريم وخير عميم ، ورحمة واسعة ومغفرة عظيمة .(1/148)
فما أجلّ ربنا تبارك وتعالى وأرحمه وألطفه بعباده ? أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [المائدة : 74] ، يفرّج هماً ، يُغيث ملهوفاً ، يجيب سائلاً ، ? كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ? [الرحمن : 29] .
ليلة القدر ميدان التسابق ، ومركب النجاة والمتجر الرابع والحياة الطيبة السعيدة ، نسأل الله تعالى من فضله ورحمته ، روى النسائي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتاكُم شهر رمضان شهرٌ مبارك ، فرَض الله عليكم صيامه ، تُفتَح فيه أبواب السماء وتُغْلَق فيه أبواب الجحيم وتُغلّ فيه مرَدة الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر ، مَن حُرم خيرها فقد حُرم) (378).
أيها الصائمون :
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم : ? حم وَالْكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ? [الدخان : 1- 5] .
هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر ، لأن إنزال القرآن كان في رمضان في ليلة القدر كما قال تعالى : ?إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ? [القدر : 1] وهذا من تفسير القرآن بالقرآن ، وقد ثبت عن جماعة من السلف أن الليلة المباركة هي ليلة القدر ، وأمّا ما يُروى عن عكرمة رحمه الله أنّها ليلة النصف من شعبان فهذا قولٌ ضعيف غريب ، ومُستنده مُرسل ، لا يعارض بمثله النصوص(379).
ومعنى قوله تعالى : ?فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ? أي في ليلة القدر يُفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتَبَة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها من خير وشر وسعادة وشقاء ونحو ذلك .(1/149)
ومن عظيم فضل هذه الليلة كما قال تعالى : ? تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ? [القدر : 4] والمعنى أنه يكثر تنزُّل الملائكة فيها لكثرة بركتها ، والملائكة ينزلون مع تنزل البركة والرحمة كما ينزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحِلَق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيماً له(380).
والمستحب لسائر المسلمين طلب هذه الليلة وإحياؤها بالقيام والدعاء والذكر ، فإن العمل فيها خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم أمّتَه وحضّهم على ذلك ، ففي الحديث المتفق عليه وأخرجه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر من صحيحه من حديث أبي سلَمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن قامَ ليلة القدرِ إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه) (381) ، وقال في حديث غيره: "تحرّوا ليلة القدر" وفي بعض الألفاظ "الْتَمِسُوا" وفي بعضٍ "تحَّنُوا" .
خصوصية ليلة القدر بهذه الأمّة :
فضل ليلة القدر خاص بهذه الأمة على الصحيح الذي جزم به غير واحد من الأئمة كابن حبيب المالكي ـ رحمه الله ـ وهو قول الجمهور ، وقد ذكر مالك ـ رحمه الله ـ في الموطأ ما يدل على ذلك فقد قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري : حّدثَنا مالك أنه سمع مَن يثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُريَ أعمار الناس قبله فتقالّها ، أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصرَ أعمار أمتَّه أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر(382).(1/150)
وقد روي أحمد والنسائي ما يعارض ذلك ويرشد بأن ليلة القدر كانت في الأمم الماضية قبلنا ، ولفظه : عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (بل هي في رمضان) ، قلت : تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قُبِضوا رُفعَت أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (بل هي إلى يوم القيامة) (383).
وهذا الحديث يمكن أن يؤول على أنها كانت موجودة عندهم لكن فضلها وثوابها خاص بهذه الأمة كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم .
تحرّي ليلة القدر والْتِماسها :
ليلة القدر في رمضان وليست في موسم سواه ، أما ما رُوي عن بعض السلف كابن مسعود أنها ممكنة في جميع السنة فهذا محمول منه على أنه أرد ألا يتكل الناس ، وأما مَن يقول أنها رُفعت أصلاً كالرّافضة فهذا بيّن الفساد وفساده يغني عن الاشتغال بردّه ونقضه ، فقد روي عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن يحنس قال : قلت لأبي هريرة : زعموا أن ليلة القدر رُفعت ؟ قال : "كذَب مَن قال ذلك"(384).
وأخرج من طريق عبد الله بن شريك قال : ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنه أنكرها ، فأراد زِرّ بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه .(1/151)
وأما في أيّ ليالي رمضان تُلتمَس ؟ فهذا الذي جرى فيه الخلاف كثيراً ، حتى نقل الحافظ ابن حجر في هذه المسألة أكثر من أربعين قولاً ، كما وقع له نظير ذلك في ساعة الجمعة ، وتلكم الأقوال عند التحقيق والتمحيص تتداخل في بعض ، وبعضها مُستنده واهٍ ضعيف ، ومنها ما هو إلى الغرابة والشذوذ أقرب ، ومنها ما لا طائل مِن ورائه إلا تسويد الأوراق وإضاعة الأوقات ، والجادة من هذه الأقوال أنها في العشر الأواخر من رمضان وهي آكّدُ في الأوتارِ لِما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وبوّبَ له البخاري في كتاب ليلة القدر من صحيحه باب تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (تحَرَّوْا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) (385).
وفي حديث أبي سعيد الخدري قال : (ابتغوها في العشر الأواخر وابتغوها في كل وتر) (386). وفي حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم : (الْتَمِسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى) (387).
وليالي السبع الأواخر حقائق بالتحرّي والالتماس فقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أرى رؤياكم قد تواطأَت في السبع الأواخر فمَن كان متحرّيها فليتحرَّها في السبع الأواخر) (388).
وهذا البخر يحتمل معنيين ، الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى توافُق رُؤاهُم أنها في السبع الأخير من تلك السنة أمَرهم تلك السنة ، بتحرّيها في السبع الأواخر .(1/152)
والثاني : أنها تُطلب في السبع الأواخر عند حصول العجز والضعف عن طلب العشر كله فأرشدَهم إلى ذلك ، وهذا الأخير صححه ابن خزيمة وابن حبان رحمهما الله ، وذكرا الخبر الدال على ذلك وهو في صحيح مسلم وغيره(389) ، قال ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه : "باب ذكر الخير الدال على صحة المعنى الثاني الذي ذكرتُ ، أنه أمرَ بطلبها في السبع الأواخر إذا ضعف وعجز طالبها عن طلبها في العشر كله" ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الْتمسوها في العشر الأواخر ـ يعني ليلة القدر ـ فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلَبنَّ على السبع البواقي".
وترجم ابن حبان رحمه الله في صحيحه نظير ترجمة ابن خزيمة رحمه الله .
والحق أن ليلة القدر لا تختص بليلة من ليالِ العشر بل إنها تنتقل في أوتاره ، فقد تكون في عامٍ مثلاً ليلة ثلاث وعشرين ، وآخر ليلة خمس وعشرين ، وآخر ليلة سبع وعشرين وهكذا ، وهذا ما قاله أبو قلابة ونصّ عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق .
قال الحافظ لما حكى الأقوال الكثيرة : وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير ، وأنها تنتقل كما يُفهم من أحاديث الباب(390).
وأرجَى الليالي بالموافقة وأحظّها بالفضل والعناية ، ليلة سبع وعشرين ، وقد وردت عدة أحاديث تدل على فضلها وأهميتها ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (أيّكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شِق جَفنة) (391) قال أبو الحسن الفارسي : أي ليلة سبع وعشرين فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة ، وفي صحيح مسلم قال أُبيّ بن كعب رضي الله عنه : "والله أعلمُ أنها في شهر رمضان ، وأنها في العشر الأواخر ، وأنّها ليلة سبع وعشرين"(392).(1/153)
وفي صحيح مسلم أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما : "رأى رجلٌ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"(393). وروى الطبراني من حديث ابن مسعود قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : (أيّكم يذكر ليلة الصهباوات ؟) قلت : أنا ، وذلك ليلة سبع وعشرين(394) ، والصهباوات : موضع بقرب خيبر .
وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليلة القدر ليلة سبع وعشرين) ، وعند أبي داود وابن حبان وغيرهما عن معاوية نحوه وسنده صحيح(395).
وعند ابن المنذر : "مَن كان متحرّيها فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين" .
وبجانب هذه الآثار المائلة لسبع وعشرين ، ذكر بعضهم عدة مرجّحات ، لعل أحسنها البعيد عن التكلّف ما أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه وقال الذهبي : إنه على شرط مسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر كان إذا دعا الأشياخ من الصحابة قال لابن عباس : لا تتكلم حتى يتكلّموا فقال ذات يوم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الْتمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر وتراً) ، أيّ الوتر هي ؟ فقال رجل برأيه تاسعة سابعة خامسة ثالثة ، فقال لي : مالَك لا تتكلم يا ابن عباس ؟ قلت : أتكلّم برأيي ؟ قال : عن رأيك أسألُك ، قلت : سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر . فقال : من أين علمتَ هذا ؟ قلت : خلق الله سبع سمواتٍ وسبع أرضين وسبعة أيام ، والدّهر يدور في سبع ، والإنسان خُلق في سبع ، ويأكل من سبع ، ويسجد على سبع ، والطواف والجمار.. وأشياء ذكرها فقال عمر رضي الله عنه : إني لأرى القول كما قُلت. ثم قال للصحابة : أعجزتُم أن تكونوا مثل هذا الغلام الذي ما استوَت شؤون رأسه"(396).(1/154)
وليلة سبع وعشرين هي أرجى ليلة عند جمهور العلماء ، لكن ليس معنى ذلك الدوام والثبوت بل هذا من باب الغالب ، والصواب ما قدمنا أنها متنقّلة في الأوتار ، وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين ، وكانت علامتها أن يسجد في ماء وطين ، قال أبو سعيد ـ كما في الصحيحين ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (.. وقد أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها فابتغوها في العشر الأواخر ، وابتغوها في كل وتر ، وقد رأيتُني أسجد في ماءٍ وطين)، قال أبو سعيد : فاستهلّت السماء في تلك الليلة فأمطرَت فوكَف المسجد في مُصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين ، فبصرُتْ عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرتُ إليه ، انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طيناً وماءً(397). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أُريتُ ليلة القدر ثم أُنسيتها ، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين) قال : فمُطِرنا صبيحتها ليلة ثلاث وعشرين ، فصلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه(398). فالمهم أنها متنقلة ، ولهذا قال بعضهم :
والليلة الشريفة ذاتُ القدرِ
في الوتر تنتقلْ بنص الخبرِ
وكونها سابعة الليالي
في غالب الأعوام والأحوالِ
وقد ورد في الإحدى والعشرينِ
منظرُها من النبي الأمينِ
قال العلماء : الحكمة من إخفاء ليلة القدر ليحصُل الاجتهاد في الْتماسها بخلاف ما لو عُيّنَت لها ليلة لاقتُصِر عليها وقلّ العمل وضعف الاجتهاد ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يودّ إخبار الناس بها لكن صدّه عن ذلك تلاحي الناس وتخاصمهم فاشتغل بهم فنسيها ، ويحتمل أن المراد خفيت معرفتها بسبب التلاحي والتخاصم، مما يدل على شؤم ذلك وأنه قد يكون سبباً في رفع الخير وحرمانه .(1/155)
ثبت في صحيح البخاري ، وبّوبَ له البخاري بقوله : "باب رفع معرفة ليلة القدر لِتلاحي الناس" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحيَ رجلان من المسلمين فقال : "خرجتُ لأخبركم بليلة القدر فتلاحَي فلان وفلان فرُفعت وعسى أن يكون خيراً لكم فالْتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"(399).
وهذا الحديث استدل به مَن قال إن ليالي الأشفاع تُرجى فيها ليلة القدر ، لأن قوله "التاسعة" يحتمل أن يريد بها تاسع ليلة تبقى من الشهر فتكون ليلة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين بحسب تمام الشهر ونقصانه ، وهكذا فسّرَه أبو سعيد في الحديث الصحيح ، وعلى هذا ينبغي تحرّيها في العشر الأواخر جميعها ، وهذا رأي ابن تيمية(400).
لكن يعكّر على ذلك أن في بعض روايات الصحيح : "التمسوها في التسع والسبع والخمس" أي في تسع وعشرين ، وسبع وعشرين وخمس وعشرين ، وفي رواية لأحمد "في تاسعة تبقى" فحينئذٍ يكون الأرجح والأظهر هو القول الأول ، والله تعالى أعلم(401).
أما علامات ليلة القدر :
فقد ورد لها عدة علامات تُعرف بها وتعيّنها ، والتي صحّ منها كالتالي :
الأولى : ما رواه مسلم في صحيحه وابن خزيمة وأبو داود وغيرهم عن زِرّ حُبيش في سؤاله لأبيّ بن كعب رضي الله عنه عن ليلة القدر وفيه : "فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ فقال : بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنها تطلع يومئذٍ لا شُعاع لها) (402) ، وفي لفظ قال : (أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء ولا شعاع لها كأنها طَسْت) (403).
الثانية : ما رواه مسلم أيضاً في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (أيّكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة) (404) وقد تقدم قول أبي الحسن الفارسي بأن ذلك يكون ليلة سبع وعشرين .(1/156)
الثالثة : ما رواه ابن خزيمة والبزّاز عن ابن عباس رضي الله عنهما بسندٍ حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: (ليلة طلقة لا حارّة ولا باردةً تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة) (405).
الرابعة : ما رواه ابن خزيمة وابن حيان في صحيحهما عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إني كنتُ أُريت ليلة القدر ثم نُسيَّتُها ، وهي في العشر الأواخر ، هي طلقة لا حارّة ولا باردة كأن فيها قمراً يفضح كواكبها ، لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها) (406). وهذا لفظ ابن حبان ، وهذا الحديث صحيح بشواهده .
الخامسة : حديثٌ زاهر باهرٌ رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنّ أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً ، ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حرّ ، ولا يحل لكوكب أن يُرمي به فيها حتى تصبح ، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس فيها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحلّ للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ) (407).
وهناك علامات آُخر ذكرها بعض العلماء ، يتناقلها العامة ويتندّرون بها منها : أن المياه المالحة تصبح ليلة القدر حلوة ، وأن الأشجار تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى حالها ، ومنها أن الكلاب لا تنبح ليلتها ، وأن الأنوار تضيء في كل مكان حتى في الأماكن المظلمة ، وأنه يُرى كل شيء في ليلتها ساجداً ، ومنها سماع تسليم الملائكة وخطابهم للناس .
وهذه العلامات ليست بصحيحة ولا أصل لها فهي "من أخبار طَسْم وأحلامها" .
وقد نظم بعضهم العلامات التي صحّت في هذه الليلة الشريفة فقال :
لها علامات عن سيّد البشَر
بهيَّة أسندها أهل الأثر
فليلُها طلقٌ وبلجٌ زاهرٌ
لا حرَّ لا بردَ هناكَ ظاهرُ
والشمسُ في صباحها حمراءُ
ضعيفةٌ ليس لها ضياءُ
كالطَّست بيضاء بلا شعاعِ
وهكذا الوصف بلا نزاعِ
لا يخرج الشيطانُ والنجومُ(1/157)
لا تُرمي فيها قاله المعصومُ
أما إحياء هذه الليلة الشريفة :
فقد قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (مَن قام ليلة القدر إيماناً احتساباً غُفر له ما تقدّم مِن ذنبه) (408). وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجّد فيها بالصلاة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بالدعاء فيها وعلّمها أن تقول : (اللّهم إنّكَ عفوٌّ كريمٌ تُحبّ العفوَ فاعفُ عنّي) (409).
قال سفيان الثوري : الدعاء في تلك الليلة أحبّ إلىّ من الصلاة . قال : وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعلّه يوافق . انتهى .
ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء ، وإن قرأ ودعا كان حسناً ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجّد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتّلة لا يمرّ بآية فيها رحمة إلا سأل ، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوّذ ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكّر ، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها ، والله أعلم .
وقد قال الشعبي في ليلة القدر : ليلها كنهارها .
وقال الشافعي في القديم : استحبّ أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها ، وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ، ليله ونهاره . والله أعلم .
وأما حديث أبي هريرة الذي رواه ابن خزيمة في صحيحه : "مَن صلّى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر"(410) فهذا الحديث إسناده ضعيف ، وبنحوه أخرجه الطبراني من حديث أبي أُمامة الباهلي ، وهو ضعيف أيضاً أشار إلى ضعفه الحافظان الجليلان العراقي والهيثمي ، والله تعالى أعلم(411).
{ 25 } الصيَام تعليمٌ وتربيَة(1/158)
إن الشريعة الإسلامية المطهرة نزلت رحمةٌ ونوراً وهدايةً للناس ، ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ? [الأنبياء : 107] ، قامت لنفع العباد وتزكيتهم وحفظ حقوقهم ومصالحهم وتنظيم أمورهم ومعاشهم .
وإن مما شرعه ربنا عز وجل وافترضه وقام عليه عمود ديننا (العبادات الشرعية) التي حوَت من الحِكم والأسرار ما تعجز عقولنا عن إدراكه والإحاطة به ، ومن تلك العبادات فريضة الصيام، وما أدراك ما فريضة الصيام ؟ الشعيرة الزكيّة والقُربة الرضيّة ، والتي فيها ما فيها من صور التربية والتعليم ما يدل على فضلها وعِظم مَن شرّعها وأمر بها .
ولا أظنّ عاقلاً يقول : إن الصيام إمساك تعبّدنا اللهَ تعالى به فحسب في مدة معينة ، لأن دعواه تلك تدل على قصر نظره وقلة فقهه وضعف مداركه . ? وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ ? [العنكبوت : 43] .
إنّنا مع تعبّدنا لله عز وجل بالصيام ندرك منه منافع ودروساً وخصالاً محمودة ، فالصيام تعليم وتربية لنفوسنا يهديها معالم حية ، ويورثها أنواراً بهيّة ، ويمنحها صفاتٍ وأخلاقاً وآداباً قد لا تُرى في سواه ، فمن تلك ما يلي :
1 ـ أن الصيام شهر الصبر والتحمل :
يصبر العبد المسلم فيه على الجوع والعطش ويتحمل دواعيهما وكل ما يحثّ عليهما ، فالصائم قد يجوع ويطول جوعه ، ويظمأ ويشتد ظمؤه ساعات كثيرة ثم يحين ميعاد فطره وفرحته ، هل تظنون أنه لم ينتفع بفترة إمساكه وصيامه ؟ كلا والله ، لقد تعلّم فيها درس الصبر واحتمال المشاق والشدائد ، فزكّت نفسه وصقلت روحه وعلَت همته وكبر جدّه ونشاطه .(1/159)
ولعل صائماً حال صيامه غدا إلى عمله وآخر إلى دكّانه وثالثاً إلى حرفته وصناعته كل واحد منهم يعمل ويكدح ، ويغدو ويروح ، وهم في ذلك كله صائمون ، لقد وطّنوا أنفسهم على العمل والجدّ والنشاط حال الصوم فعظمت نفوسهم وتعلّمت وتربّت ، وهنا درس آخر في الصوم وهو العمل والحركة ، فالأشغال متنوعة والحاجات ماسّة والحقوق كثيرة ، والناس يحتاج بعضهم لبعض ، ولن يتم لهم خير ورزق ومعاش بلا عمل وبذل وجهد ، ? هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ? [الملك: 15] فغاية غدوّ الصائم ورواحه وصبره واجتهاده ذريعة لعدم تحسس آلام الجوع والظمأ ، ونسيان أن يكون هناك تعب ونصَب ، لذا ما أجمل حركة الناس وذهابهم وتنقلهم في رمضان وراء مصالحهم وحوائجهم ، وما أقبحَ كسلهم ونومهم فيه أكثر من نصف النهار .
فرمضان ليس شهر كسل وعطل ، ولا نوم وهزل كما يظنه كثير من الناس ، فإن المسلمين الأوائل كانوا في رمضان أهل عمل وجهاد وجدّ ونضال ، لم يمنعهم تعبهم وصومهم وشدائد حياتهم من العمل والبحث وطلب الرزق وطلب العمل ، بل أشقّ من ذلك وأشدّ وهو الجهاد في سبيل الله ومقارعة الأعداء وكسر شوكتهم ، فإن غزاة بدر وفتح مكة وهما أعظم معارك المسلمين كانتا في شهر رمضان ، لذلك كله لا تعجبوا عندما نقول أن العمل والتعلّم في رمضان خطوة حسنة موفّقة لأمور عدة منها : إيقاظ الأمة من سُباتها وغفلتها لينظروا فيما ينفعهم ويصلح لهم ، وهذا داعٍ إلى العبادة وذكر الله تعالى كثيراً ، فإنكم تشاهدون في الدوائر والجامعات والمدارس المصاحف مع الطلاب ، وتسمعون دويّهم ولهجهم بكتاب ربهم وهم في ذلك منشرحون مبتهجون مسرورون فكان ذلك خيراً لهم .(1/160)
بينما إذا بقوا في منازلهم انظر متى يستقيظ الناس ؟! أما الأشقياء فلا تسّل عنهم ، لكن الصالحون والأخيار إنك تجدهم في تقصير وتغافل ، وتأمل كم جرى ويجري من اعتداءات وسرقات وقضايا إفساد وبلبلة واضطراب .
ثم إن ذلك دعوة للجد واغتنام الساعات وسعي في الخيرات ، فالكسول مثلاً يحضر إلى عمله أو مدرسته يرى زملاءه وجيرانه يقرأُون القرآن ويتلونه فيدفعه ذلك للقراءة وحُسن العمل فينتفع بذلك تمام الانتفاع ، ويقضي يوماً مباركاً ، بينما لو كان غائباً لفاته كل ذلك. والله المستعان ! .
ثم اعلموا أن التخلّف والرّقاد لمدة طويلة يُفقد الإنسان أنفَس وأغلى شيء في حياته وهو الوقت .
والوقت أنفس ما عُنيتَ بحفظه
وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ
وبليّة أن يكون هذا التخلّف في رمضان ! .
2 ـ الصدق والإخلاص :
الصيام علامة الصدق ودليل الإخلاص ، فالصوم سرّ بين العبد وربه سبحانه وتعالى ، لا يطّلع عليه أحد من الخلق ، فالصائم يخلو في بيته فقد يطعم شيئاً ويخرج إلى الناس بدعوى أنه صائم ، ولا يلحظ أحدٌ فطرَه وكذبه ، ومن هنا كان الصوم تربية على الصدق وتمريناً عليه ، وهو سبيل الإخلاص وحبّه وطلبه في سائر العبادات، ولولا خوفه ومراقبته لربّه عز وجل لما كان صادقاً مخلصاً في عمله وعبادته لا يريد بها إلا وجه الله سبحانه وتعالى ? فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ ? [الزمر : 2- 3] .
3 ـ حُسن الخلُق :(1/161)
الصائم ذو خلُق وأدب وسمت وورع ، لا يقابل السيئة بالسيئة، ولا يخلط صيامه بفُحش وزور وتنازُع ، لأن ذلك ينقص أجره وثوابه ويفقده حلاوة الصوم وسعادته ، ففي الأدب النبويّ الكريم : (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحدٌ أو قاتلَه فليقل : إنّي امرؤٌ صائم) (412) فهذا نداء لترك الخصام والجدال ، ولزوم الصمت بغير ذكر الله وتلاوة القرآن ، فلا ريب أنه تربية للّسان وصيانة له من الأدواء والأهواء ، قال صلى الله عليه وسلم : (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فلْيَقُل خيراً أو لِيصمُت)(413).
الصائم يخالط الناس ويحادثهم ويحتك بهم ، لكنه معهم صاحب أدب جمّ وخلُق نبيل يمتثل الحُسنى ، إن لفَظَ بعلم ، وإن سكت سكت بحِلم ، يزينه السمت والسكينة والوقار ، غالب حديثه النافع المفيد ، من ذكر الله وقراءة القرآن ومذاكرة العلم والنصح بالتي هي أحسن .
4 ـ التّقوى :
إن العبد الصائم إبّان صومه يعبد ربه سبحانه وتعالى ، ويعظّمه بهذه الطاعة إذ أنه ينكفّ عن سائر المفطرات تحقيقاً لهذه الطاعة ، فلا يصل إلى جوفه شيء منها من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس ، ثم هو مع ذلك يراقب الله ويخشاه ، يرجو رحمته ويخاف عذابه يظل ذاكراً مصلياً مُخبِتاً ، لكي يبلغ درجةالتقوى التي هي عزّ الصيام وشرفه وكماله ? لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? ، فلا ريب حينئذٍ أن حبسه نفسه عن المفطرات والشهوات مما يشرح صدره للطاعة ويضيّق على الشيطان مجاريه من ابن آدم ، فيكون مُهيّأ لنيل درجة المتقين ، نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بمنه وكره وفضله .
فاعلموا أن مدة الصيام والإمساك ، تصفية للنفس المسلمة مما يكدّرها ويشوبها ويشينها ، وهو تربية لها وتهذيب ، وتوطئة لإدراك أنوار الحق والهدى والنور فتهنأ بخشية الله وتقواه التي هي أجلّ وأسمى ما يكون في الصيام ، والله الموفق .
5 ـ همّة وحزم :(1/162)
إن الله تبارك وتعالى لمّا فرض هذه الشعيرة المباركة ، لم يخفف شيئاً من العبادات حالها ، بل خلاف ذلك حضّ على المسارعة والمسابقة طرق كل صنوف البذل والسخاء حال الصيام ، فترى العباد في رمضان يتسابقون ويتنافسون تنافساً مذهلاً ، حتى المقصرين قبل دخول الشهر ينعكس حالهم في رمضان إلى حال أفضل ، إن مشاهدتنا لنفرة الناس إلى الخيرات في رمضان والْتماسهم أدنى مكرمة وفضيلة ، مما يعلي الهمم ويشحذ النفوس
لا سيما عند الكُسالى المقصّرين .
فالعبد ينشط بنشاط إخوانه وجيرانه ، فكيف بنشاط الأمّة كلها وحركتها وجدّها ومثابرتها ، إن ذلك كله يهزم النفوس الضعيفة ويقتل الهمم الباردة ، فلا يبقى لكَسولٍ مكان ولا للضعيف وزن ومقدار ، فمن لم يكتسب الجدّ والحزم في رمضان وتعلُ همته وطموحه فمتى سيجدّ ويكبر ويحزم ويصبح عالي الهمّة كبير النفس عظيم القلب والروح ؟! .
6 ـ المواساة :
هل تعلمون كم هو فرح الصائمين بمجيء الإفطار ؟ إنه لعظيم عظيم ، قال صلى الله عليه وسلم : (للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربّه) ، النفوس تشرئبّ عندما تبدو حرارة الشمس تضعف عند الغروب ويبدأ ضوؤها يختفي وقرصها يزول ، ولا غرو أن يفرح الصائمون بذلك لأنهم مجبولون على حبّ الطعام والشراب ، لكن الفرح الحقيقي أن يفرحوا بإتمام هذه العبادة ويسألوا ربهم قبولها وثوابها والعفو عما قع فيها من خلل وتقصير .
عند مغيب الشمس تفطر الأمة المسلمة وتحمد الله على صومها وفطرها وتشكره على نعمائه وآلائه فهو أهل الثناء والمجد تبارك وتعالى .
وهي عند فطرها تعلم أن هناك ضَعَفة ومساكين لا يجدون طعاماً ولا شراباً ، وهناك فئات لا يجدون إلا شيئاً يسيراً ، فتسارع إلى نجدة إخوانهم المسلمين بالمال والطعام والكساء ، ليس كل المسلمين يجدون طيّب الطعام وحلو الشراب ، بل هناك محتاج ومعدوم ومنكوب وسقيم ، وهم يحتاجون لصدقة ومعروف ومساعدته.(1/163)
لذا أتى الحضّ الشديد على الصدقة في رمضان واستحباب تفطير الصائم لنيل الأجر والثواب وفي الحديث : (كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان) (414) من هذا وغيره يدرك الصائمون أهمية التصدّق ومواساة الآخرين بكل ما يملكون فيسارعون فيهم بالبذل والعطاء ، لا سيما وأن الفقراء يبرزون في هذا الموسم لتلقف الصدقات والزكوات والمعونات .
********
{ 26 } بابُ الرّيَّان
في الحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إنّ في الجنة باباً يُقال له الريّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال : أين الصائمون ؟ فيقومون ، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد) (415). وفي المتفق عليه من أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (مَن أنفق زوجين في سبيل الله نُودي من أبواب الجنّة : يا عبد الله هذا خيرٌ فإن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريّان ، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما علي مَن دُعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يُدعي أحدٌ من تلك الأبواب كلها ؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) (416).
إن الصائم يعبد الله تعالى ويتقرّب إليه بصومه ، فهو يكابد آلام الجوع والعطش ، فهو يظمأ ويظمأ ، ولولا أنه يراقب الله ويتقيه لتمنّى قطرة ماء يبلّ بها حلقه وتعيد إليه نشاطه وقوته .(1/164)
وقد كان الصوام في مدة سحيقة وزمن مضى ، يعانون من وقع الصوم عليهم بسبب صعوبة حياتهم وعدم توفر أسباب الراحة الموجودة في هذه الأيام ، فكانوا أرباب عمل وصناعة في رمضان ، وكانوا أهل سفر وتجارة حال الصيام ، وحين كانت الأمّة شامخة عزيزة كانت تجاهد في رمضان فيحصل لهم بسبب ذلك شدة وبلاء ونصَب ، يودّون مجيء الغروب ، ثبت في الصحيحين من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يومٍ حار حتى لَيضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة(417).
ولقد أنعم الله تعالى على الصائمين وكافأهُم بأجر عظيم وثواب كبير ، إذ جعل [ الريّان ] في الجنة مقرّهم ونزلهم ومثواهم ، وهو مناسب لحالهم إذ فيه ينعمون ويشربون ويروون فلا يظمأ أحد منهم أبداً .
كم اشتاق الصائمون في الدنيا إلى الماء ، وكم تحمّلوا وصبروا طاعةً لله عز وجل وامتثالاً لأمره ، أما في الآخرة يوم النجاة والهلاك فكما قال تعالى : ? كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ ? [الحاقة : 24] .
أخرج النسائي والترمذي والبغوي بسند حسن عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنّ في الجنة باباً يُقال له الريّان ، فإذا كان يوم القيامة قيل: أين الصائمون ؟ فإذا دخلوا أُغلق ، فيشربون منه ، فمَن شرب منه لا يظمأ أبداً) (418).
يا تُرى ماذا خُبّئ لعباد الله الصائمين في الريّان ، إنه ثوابٌ وأي ثواب ، ألاَ ترون أنهم إذا دخلوه أُغلق عليهم فلا يدخل معهم أحد ، قال تعالى : ? وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ? [الزخرف : 72 - 73] .(1/165)
وفي الحديث : قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : (أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر) ، قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتُم : ? فَلاَ
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [السجدة : 17] (419).
يا أيها الصائمون :
الريّان ريّ وشفاء وعافية وغَناء ، وسرور وهناء ّ .
يا أيها الصائمون الخاشعون :
إن الريان موعدكم ومنزلكم إن أنتم واظبتُم على طاعة ربكم، فأدّيتُم ما كُتب عليكم من الصيام على أحسن وجه وخير سبيل .
صُمتُم فأحسنتم ، وأجملتم إذ عرفتم قدر الصوم فأكبرتموه ، وأدركتُم حقه فصُنتوه ، وحفظتم حرمته فأكملتموه .
يا أيها الصائمون :
إن الصيام من خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأنفعها لقلوبكم ونفوسكم فاستكثروا منه قبل السفر والرحيل وتزودّوا من الأعمال الصالحة ، فهي نجاتكم وفوزكم وأُنسكم في ذلك اليوم الكبير ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ? [فصلت : 46] .
كل شيء مصيره للزوالِ
غير ربّي وصالح الأعمالِ
يا معاشر الإخوان :
قد سنّ رسولكم صلى الله عليه وسلم نوافل من الصيام ، فيها خيرات حِسان ورحمة وغفران ، من ذلك صيام الستّ من شوال ، وصوم المحرّم وشعبان وثلاثة أيام من كل شهر ويوم الاثنين والخميس ويومي عاشوراء وعرفة .
إن أهل هذه الأيام هم أصحاب الريان ، لأنه لو كان الريان لِصائمي رمضان لاستوى جميع الناس في الفضل ، وإنما الحديث يقصد مزيد التزوّد من الصيام بحيث يُعرَف العبدُ به ، كما أشار بذلك الحافظ ابن حجر في الفتح(420).(1/166)
وإنه لتفريط وتقصير ألا يعرف العبد الصيام إلا في رمضان، فليس له يوم ولا يومان في الأسبوع أو في الشهر على الأقل ، لأن الصوم عمل مبارك لا مثيل له ولا نديد ، فينبغي للمسلم الإكثار منه لا سيما في هذه الأعصار التي سهل فيها شأن الصيام بما وُجد من سبل ترويح وتنفيس ، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
يا صائمون :
إن الريّان باب في الجنة عظيم ، تلك الجنة التي قال فيها تبارك وتعالى : ? وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [الزخرف : 71]، وقال تعالى: ? إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ? [الدخان : 51- 55] .
بابٌ أُزلف للصائمين الأخيار الذين يبسَت شفاههم من طاعة الله ، وظمأت أكبادهم حباً لله ، آثروا الخيرات على الشهوات ، والباقيات على الفانيات ، صبروا على ظمأ الدنيا لظمإ يوم كبير ونكال يوم عسير فيه يشربون ويطيبون ويظمأ آخرون ويكربون .
فاض ريّان الصائمين بلذائذ ومواهب امتنّ بها ربّهم تعالى عليهم ، في جنّة أُكلها دائمٌ وظلّها ، لا يذوقون فيه جوعاً ولا أسقاماً ، ولا يعرفون غماً ولا أوجاعاً ، بل يغمرهم النعيم والسرور واللذة والحبور .
? وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ? [فاطر : 34 - 35] .
*******
{ 27 } السَّحُور(1/167)
في آخر ساعة من الليل ، وقبل بزوغ الفجر والجو في سكون وهدوء ، يتهيّأ المسلمون الصائمون لوجبة السحور ، السنّة الطيبة والغذاء المبارك والطعمة المنتظَرة والزاد الأخير ، سنّة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً ، وفعله أصحابه معه وبعده.
وإنما وقفت هذه الموعظة حول السحور لعِظم الأحاديث الواردة وفرتها فيه ، بل في بعضها الأمر به والتأكيد عليه ، وكلها براهين وحجج على فضله واستحبابه ، قال الحافظ في الفتح : وق نقل ابن المنذر الإجماع على ندبية السحور(421).
فمن فضائل هذا الطعام المبارك ما يأتي :
أولاً : أن فيه خيراً وبركة ونفعاً للعباد ، ويدل لهذا ما ثبت في المتفق عليه وأخرجه البخاري في كتاب الصيام باب بركة السحور من غير إيجاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (تَسحَّروا فإن في السّحور برَكة) (422) وقد فُسّرَت البركة هنا بتفاسير عّدة :
فبضمّ السين في السحور تكون البركة الأجر والثواب لأنه مصدر بمعنى التسحُّر ، وبالفتح تكون البركة أن يقوى على الصوم وينشط له ، وتخف المشقة فيه لأنه ما يتسحّر به فالفتح أنسَب ، وقيل: البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السَّحَر .
قال الحافظ ابن حجر : والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي اتّباع السنة ومخالفة أهل الكتاب والتقوّى به على العبادة ، والزيادة في النشاط ومدافعة سوء الخلُق الذي يثيره الجوع ، والتسبب بالصدقة على مَن يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنّة الإجابة وتدارُك نيّة الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام(423).
ثانياً : أنه فارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لما رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) (424).(1/168)
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله : وهذا الحديث يدل على أن السحور من خصائص هذه الأمّة ، ومما خُفّف به عنهم(425).
ثالثاً : أنه مظنّة مغفرة الله : لِما رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (السحور بركة فلا تدَعوه ولو أن يجزع أحدكم جرعة من ماء ، فإن الله وملائكته يصلّون على المتسحِّرين) (426).
وأخرج ابن حبان آخره .
رابعاً : أنه طعام طيّب نافع مبارك لحديث العرباض بن سارية عند أبي داود بسندٍ صحيح قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان فقال : (هلمّ إلى الغداء المبارك)(427).
مسائل في السّحور :
1- يحصل السحور بأقل ما يتناول المرء من مأكول ومشروب للحديث السابق (ولو أن يجزع أحدكم جرعة من ماء) ولسعيد
بن منصور من طريق مرسلة (تسحرّوا ولو بلُقمة) وهل ورَد ما ينبغي جعله سحوراً ؟ نعم ، روى ابن حبان والبيهقي بسندٍ صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (نِعمَ سحور المؤمن التمر) (428).
2- السنة في السحور تأخيره إلى ما قبل طلوع الفجر لأحاديث عديدة منها ما رواه أحمد عن العباس رضي الله عنه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر وأخّروا السحور) (429).
وإلى أي حدّ يكون التأخير بالنسبة لطلوع الفجر : ثبت في السنة ما يحدد ذلك فقد قال البخاري في صحيحه من كتاب الصيام باب كم بين السحور وصلاة الفجر ثم أسند إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : (تسحّرْنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال إلى الصلاة ، قلت : كم كان بين الآذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية) (430).
قال الحافظ ف يالفتح : قوله "قدر خمسين آية" أي متوسطة لا طويلة ولا قصيرة ، لا سريعة ولا بطيئة(431).(1/169)
3- يجب على الصائم الإمساك عن الطعام والشراب إذا استبان طلوع الفجر ، ولا عبرة بتوقيت المؤذن لأنه قد يتقدّم أو يتأخر ، إلا إذا كان المؤذن أميناً يقظاً حريصاً على إصابة أول الوقت فحينئذٍ يوثَق به ويُعتمد ، قال صلى الله عليه وسلم : (المؤذَنون أمَناء المسلمين على فطرهم وسحورهم) وقد ذكره الشيخ المحدث الألباني ـ وفقه الله ـ في صحيح الجامع(432) وهو حديث حسن أخرجه الطبراني عن أبي محذوره .
وفي هذه الأيام درجَ المؤذّنون لا سيما في المدن على اعتبار التقويم التي تحدد مواقيت الصلاة ، فهذه ليست قاطعة في دخول الوقت لكنها تقريبية فلا حرج لو أكل الإنسان مع المؤذّن الجاري على هذه التقاويم إلى دقيقة أو دقيقتين .
وهنا حديث رواه أبو داود في سننه وهو صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا سمع أحُدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) (433) ، وهو مما تنازع العلماء في تحرير معناه ، فقد قال أبو بكر البيهقي رحمه الله : هو محمول عند عوام أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر انتهى(434).
وقال بعضهم : هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح ، أما إذا علم أنه قد طلع أو شكّ فيه فلا ، وقيل : إنه محمول على قول من اعتبر في المنع عن الأكل والشرب تبيُّن الفجر لا طلوعه(435).
وألمح بعضهم إلى أن هذا رخصة وتيسير من الله ورسوله ، وهذا اختيار الشيخ المحدث أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ فقد صحح الحديث في تعليقه على المسند وفيه زيادة مهمة توهن ما قاله البيهقي وهي : "وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر" .(1/170)
4- ليعلم الإخوة الصائمون أن وقت السحور ، وقت عظيم مبارك ، خليق بالمسلم عمارته بالذكر والصلاة والاستغفار ، فليس محلاً للتكثُر من المآكل والمشارب ، أو التوسع في أحاديث عديمة النفع، يطول وقتها ، ويعظم شرّها ، وهي علامة غفلة وتهاون وضياع .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
{ 28 } زكاة الفِطر
أيّها الإخوة الكرام :
زكاة الفطر طهرة الصائمين وطعمة المساكين ، وغُنية المحتاجين ، وهي سلوة الصدر وختام مسك الشهر ، يصبح المسلم بأدائها سمير البذل والندى بعيداً عن البخل واللؤم ، قد ارتدى جلباب الخير والسماحة وتحلّي بزينة الوفاء والصباحة ، بذل الصدقة ابتغاء الأجر والرحمة ، وطلب النقاء والطهرة ، وإطعام الفقراء والضعفة ، وشكر الرب تعالى على الطاعة والقُربة .
للمؤمن الصائم بهذه الزكاة أجمل حِلية ، وأفضل زينة ، يمحو بها عواقب اللغو والزلل ، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة صدقة الفطر ، فإن صدقة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث ، ولهذا قال بعضهم : صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة .
أيها الصُّوّام :
قال تعالى : ? قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ? [الأعلى : 14] قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز : المراد زكاة الفطر ، وهي قدرٌ يسير مفروض على كل مسلم ، وقد حُكي الإجماع على فرضيتها ، قال ابن المنذر رحمه الله : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض ، وقال إسحاق : هو كالإجماع من
أهل العلم(436).
وادُّعِي الخلاف من بعض متأخّري أصحاب مالك ودواد ، ولا التفات إليه لِما رواه الشيخان في كتابيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (فرَض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحرّ ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين) (437).(1/171)
والقدر الواجب في زكاة الفطر صاع عن كل إنسان ، ولا يُجزئ أقل من ذلك من جميع أجناس المُخرَج ، وذهب بعض السلف كعثمان ومعاوية وغيرهما وهو قول الحنفية إلى إجزاء نصف صاع من البُرّ خاصةً(438) ، والأحوط القول الأول .
وقدرها بالنص والإجماعِ
عن كل واحدٍ وجوب صاعِ
من غير حنطةٍ وفيها الخُلفُ
قيل كغيرها وقيل النصفُ
أما الأصناف التي تُخرَجُ منها صدقة الفطر فقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقِط ، أو صاعاً من زبيب) (439).
وظاهر مذهب الحنابلة : أنه لا يجوز العُدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها(440).
وقال مالك وبعض فقهاء الشافعية : يُخرج من غالب قوت البلد(441). وهذا هو المعتمد في هذه المسألة ، لأن الأصناف المذكورة تحكي حالهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك ما يدل على تحتّم الإخراج منها .
ولهذا روى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (صدقة رمضان صاع من طعام ، مَن جاء يِبُرٍّ قُبل منه ، ومَن جاء بشعير قُبل منه ، ومَن جاء بتمر قُبل منه ، ومَن جاء بسلت قُبل منه ، ومَن جاء بزبيبٍ قُبل منه ...الحديث) (442) والسّلت : نوع من الشعير ، ولهذا كانت ترجمة ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه سديدة فقد قال : "باب إخراج جميع الأطعمة في صدقة الفطر"(443).
والخلاصة أن زكاة الفطر تخرج من قوت البلد صاعاً أياً كان هذا القوت .(1/172)
ولا يُجزئ إخراج القيمة بدلاً من الطعام فيها لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ما كان عليه الصحابة ، وفي إخراجها قيمة إخفاء لها وإضعاف لشأنها ، وهذا مذهب جماهير العلماء ، وقد سُئل أحمد رحمه الله عن إخراجها دراهم فقال : أخاف ألا يجزئه خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمّا قيل له: إن عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة ، قال : يَدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : قال فلان ؟! .
قال ابن عمر : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الله تعالى : ? أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ? [النساء : 59] ، وقال : قومٌ يردّون السنة ؟ قال فلان وقال فلان !! (444).
وكل هذا آية منه على إنكاره للقيمة وعدم إجزائها عنده ، والله أعلم .
والقيمة لا تجزئ نصُّ ظاهرُ
وهو الذي قد قاله الجماهرُ
وإنه المنهج للصحابة
مَن مثلُهم في الفهم والنجابة
وأحمد أنكرها إنكارا
وزادَ مِن إنكاره إشهارا
بأنهم قد خالفوا الرسولا
وعارضوا المنصوصَ والمنقولا
بقولهم قد قاله فلانُ
كأنه الدليل والبرهانُ
ويبتدئ وقت وجوبها بغروب شمس آخر يوم من رمضان ، فمن تزوج أو وُلد له أو أسلم قبل الغروب فعليه الزكاة ، وإن كان بعد الغروب لم تلزمه .
ويُستحب إخراجها عن الجنين لفعل الخليفة الراشد المهدي عثمان ابن عفان رضي الله عنه ولا تجب عليه في قول أكثر أهل العلم .
وأما وقت إخراجها فالأفضل المستحب أن تؤدَّي قبل خروج الناس إلى الصلاة لحديث ابن عمر في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي قال : (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة) (445).
وقد بوّب له النسائي بقوله : (باب الوقت الذي يستحب أن تؤدَّى زكاة الفطر فيه" ، وقد أخرج عيسى الترمذي هذا الحديث وقال عقيبه : "وهو الذي يستحبه أهل العلم : أن يخرج الرجل صدقة الفطر قبل الغدوّ إلى الصلاة"(446).(1/173)
ولا بأس بأدائها قبل العيد بيوم أو يومين لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر "كان يعطيها الذين يقبلونها ، وكانوا يُعطَون قبل الفطر بيوم أو يومين"(447).
ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد لغير عذر فإن أخّرها فهي صدقة من الصدقات لما رواه بسندٍ حسن كما قال النووي في المجموع(448). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين ، فمَن أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) (449).
وفي قوله " (وطُعمة للمساكين" نصٌّ صريح على أنها خاصة بالمساكين وال تُعطى لغيرهم من أصناف أهل الزكاة الثمانية ، وهذا قول ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى ، ومَن كان فقيراً لا يجد قوت يومه وليلته سقطَت في حقه .
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله :
ومَن لِقُوت يومه وليلتهْ
يُفقدُ عنه سقطَت لِعَيلته
**********
{ 29 } ودَاع رمضان
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر : 18] .
أيها الصائمون :
إن شهركم المبارك قد قرب رحيله ودنا أفوله ، فاختموه بخير ختام واستغفروا ربكم من كل خلل وتقصير فيه .
قال الحسن البصري رحمه الله : "أكثِروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة" ، وقال لقمان لابنه : (يا بنيّ عوّد لسانك الاستغفار فإن لله ساعات لا يردّ فيهنّ سائلاً) ، وقد جمع الله تعالى بين التوحيد والاستغفار في قوله تعالى : ? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ? [محمد : 19] .(1/174)
وفي بعض الآثار أن إبليس قال : أهلكتُ الناس بالذنوب وأهلكُوني بلا إله إلا الله والاستغفار . والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها ، فتُختم به الصلاة والحج وقيام الليل ، ويُختم به المجالس ، فإن كانت ذِكراً كان كالطابع عليها ، وإن كانت لغواً كان كفارة لها ، فكذلك ينبغي أن يُختم صيام رمضان بالاستغفار .
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة ، صدقة الفطر فإن صدقة الفطر طُهرة للصائم من اللو والرّفث ، والاستغفار يرقّع ما تخرّق من الصيام باللغو والرفث ، ولهذا قا بعض العلماء المتقدمين : إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة ، وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: قولوا كما قال أبوكم آدم : ? رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ? [الأعراف : 23] ، وقولوا كما قال نوح عليه السلام : ? وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ ? [هود : 47] ، وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام : ? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ? [الشعراء : 82] ، وقولوا كما قال موسى عليه السلام : ? قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [الأنبياء : 87] .
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "الغيبة تخرّق الصيام والاستغفار يرقّعه ، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقّع فليفعل" ، وعن ابن المنكدر معنى ذلك : الصيام جُنّة من النار ما لم يخرقها والكلام السيئ يخرق هذه الجُنّة ، والاستغفار يرقّع ما تخرّق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار وعمل صالح له شافع(450).
أيها الإخوة :(1/175)
إن المؤمن لَيحزن على انقضاء شهر كريم جلّ كرمه ، عاش نوره وفرحته ، وذاق طعمه وحلاوته ، شهر فاض بالرحمات والبركات وحظي بالحسنات والمسرّات ، ما أحلى تلاوة القرآن فيه ، وما أجلّ الصدقة في أيامه ، يبكي الصالحون لفراقه ، ويأسَى القانتون لانقضائه ، ويحزن المستغفرون لرحيله .
فللّهِ أيامٌ تقضَّت حميدة
بقربك واللذات في المنزل الرحبِ
وإذ أنت في عيني ألذ من الكرى
وأشهى إلى قلبي من البارد العذبِ
فلهفي على ذاك الزمان الذي غدَت
عليه دموع العين دائمة السّكبِ
إن تلكم الأيام المعدودات من نفائس أيام المؤمنين ، جرَت فيها أحاسيس حيّة ومشاعر صادقة ، أثمرتها معالي الهمم ومسابقة النفوس الدائبة ، فلا عجب أن تستهل العبرات وتشتد الحسرات ، أسفاً على فوات خير عظيم وسعادة صافية راضية ، ما أجمل نهاره المنير بالذكر والتلاوة والمعروف ، وما أطيب لياليه العامرة بالقيام وحداء الصالحين وأنين التائبين .
حقاً إنها أيام غالية مباركة ، طابت لها النفوس وانشرحَت لها الصدور والأرواح ، فكيف لا يكون بعد فراقها أسف وحزن وتوجع؟! .
تذكّرت أياماً مضت وليالياً
خلَت فجرَت من ذكرهنَّ دموعُ
ألاَ هل لها يوماً من الدّهر عودة
هل إلى وقت الوصال رجوعُ
وهل بعد إعراض الحبيب تواصلٌ
وهل لبدورٍ قد أفلنَ طلوعُ
كان للطاعات فيه منافع وآثار في النفوس ، أغنَت عن لذائذ الطعام وزينة الحياة ومكاسب الأموال ، وربّ صلاة صادقة أو قراءة خاشعة أعقبت سروراً مضيئاً امتزج بالدم والعصب لا يضاهيه طيب المآكِل ولا أفراح الحياة وملاذّها ومفاخرها ، لأنها لا تدوم ، وإن دامت لم تخَلُ من تنغيص ، وإذا انقضَت أورثَت غموماً وأحزاناً وشدائد قاسيات .
فالحياة الحقيقية والسعادة الدائمة والعزة الشامخة إنما هي في طاعة الله تعالى وعبادته ، عبادة سائقها الإخلاص وحاكمها التذلّل ونهجها الإتّباع .(1/176)
قال تعالى : ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [النحل : 97] .
وقال تعالى : ? وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ? [النساء : 125] .
وليعلم الإخوة الصائمون أن الطاعات والمسارعة فيها ليست مقصورة على رمضان ومواسم الخير فحسب ، بل عامة لجميع حياة العبد ، وإنما كانت تلك منحاً إلهيّة ، وهبات ربانية ، منَّ الله تعالى بها على عباده ليستكثروا فيها من الخيرات ، وليتداركوا فيها بعض ما فاتهم وحصل التقصير فيه .
وإنه لمن الجهل بمكان أن يجتهد بعض الناس في رمضان ، فيُرى طائعاً صالحاً مبادراً إلى الطاعات ، ثم إذا انقضى رمضان شوهدَ مقصِّراً مفرِّطاً ، كدأبه قبل رمضان ، فهذا لا ريب أنه غاشُّ لنفسه وماحٍٍ لحسناته وخيراته .
وحول توديع رمضان مسائل :
الأولى : أن ما يقع للصالحين من حزن وألم وتأسف وفراق رمضان، سرعان ما يزول بأفراح العيد وشعائره الإيمانية ، ففيه صلاة العيد ، وفي ليلته يكبّر المسلم ويحمد الله تعالى ، وتحصل له الفرحة والبهجة بهذه الأمور ، وهو كذلك يزور إخوانه المسلمين ويسلّم عليهم ويهنئهم بالعيد ، ويدعو بالقبول له ولهم .
فبهذه الأمول وشبهها ينجلي ما به من حزن وتحسُّر على رمضان ، فحاله في هذا الموقف كمن يكون في ضيق وكرب ، ثم يأتيه من السرور ما يكون سبباً في سعادته وفرحته فيّذهب ما به من غمّ وحَزَن .(1/177)
الثانية : إن المحاسن التي جنتها النفوس المسلمة في رمضان ينبغي أن تكون طريقاً للزيادة والمضاعفة ، وسلّماً للمجد والعلاء ، وليس التقاعس والانقلاب . ففترة رمضان كانت تربية إيمانية على الخير وفضائل الأعمال ن ذاق حلاوتها أهلها ، الذين لا يحبون زوالها أو ضعفها ، وهذا مما يجعلهم يعقدون العزم على تثبيتها وترسيخها ، حتى تستحكم في قلوبهم وتخالط دماءهم ، فهي زادهم وغذاؤهم وأُنسهم وسعادتهم .
الثالثة : يخطيء كثيرون عندما يظنون أن السباق في العبادة خاص برمضان ، فيحصل لهم من العمل والجد والعطاء فيه بدرجة كبيرة ، فإذا رحل رمضان رحلت طاعاتهم وخيراتهم ، وركنوا إلى ملاذهم وشهواتهم ، وهذا أمرٌ خطير يُنبيء عن جهالة وسفاهة من أولئك القوم ، فقد طمسوا خيرهم وظلموا أنفسهم ، والله المستعان .
"اللهم إنا نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحُبّ المساكين ، وأن تغفر لنا وترحمنا ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين"(451).
*********
{ 30 } العِيدُ
أيها الأخوة الفُضَلاء :
العيد مسمّىً جميل ، ومعنى نبيل ، فيه الحب والإخاء والبهجة والصفاء ، والتضامن والوفاء ، والعيد عنوان المودة والوئام وبذل الخير والسلام وشعار القوة والالتحام .
الأعياد معالم أفراح الأمم ، وشعارات اجتماعها وبقائها وانضمامها ، فيها فرح وسرور ، وتزاوُر وتحابّ ، وتقارُب وتوادّ ، هل ظننتمُ أن العيد تعاظُم وتفاخُر أو ملابس ونمارق أو لهو دائم كلاّ والله ! ، العيد حمدٌ وشُكران ، وبذل وإحسان وتواضع وامتنان .
أيها الأخوة الفضلاء :
في العيد مسائل وأحكام مهمة ينبغي التنبّه لها :
أولاً ـ صلاة العيد :(1/178)
صلاة العيد من شعائر الدين الطاهرة ومعالمه الظاهرة ، وهي مشروعة بالكتاب والسنّة والإجماع ، أما الكتاب فقوله تعالى : ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ? [الكوثر : 2] فالمشهور في تفسيرها أن المراد بها صلاة العيد ، وهذا منقول عن عكرمة وعطاء وقتادة كما في معالم التنزيل للبغوي رحمه الله (452).
وأما السنّة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر أنه كان يصلي العيدين ، ففي المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (شهِدتُ العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فكلّهم كانوا يصّلون قبل الخطبة) (453).
وأجمع المسلمون على مشروعية صلاة العيدين ، وأكثر الفقهاء على أنها ليست بواجبة ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها واجبة يتعين الخروج لها ، وهو مذهب أبي حنيفة(454) واختاره ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء المحقّقين . رحم الله الجميع .
ومما يدل على ذلك ويؤكده أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج إلى العيد حتى الحُيّض اللواتي لا تلزمهنَ الصلاة بل تحرم عليهنّ حال الحيض ، ففي الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهنّ في الفطر والأضحى العواتق والحُيّض وذوات الخدور ، فأما الحُيّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ، قلت: يا رسول الله : إحدانا لا يكون لها جلباب ، قال : (لِتُلبسها أختها من جلبابها)(455) وهذا لفظ مسلم ، وفي لفظ له : "كنا نُؤمر بالخروج في العيدين والمخبّأة والبكر ، قالت : الحُيّض يخرجن فيكُنّ خلف الناس يكبّرن مع الناس" .
فهذا الحديث صريح في وجوب خروج النساء للعيد ، وهنّ مَن هنّ في حصول الضعف والشغل والفتنة ، فالرجال آكّد وأوجب ، وفي حديث عمرة بنت رواحة في المسند وهو حديث صحيح قال صلى الله عليه وسلم : (وجب الخروج على كل ذات نطاق) (456).(1/179)
وفي الحديث مشروعية خروج النساء للعيدين ، وقد اختلف السلف في ذلك ، فممن أوجبه عليهنّ أبو بكر وعليّ وابن عمر وغيرهم ، ومنهم مَن ذلك كعروة والقاسم ومالك وأبي يوسف(457).
وقال فقهاء الشافعية : يستحب النساء غير ذوات الهيئات حضور صلاة العيد ، وأما ذوات الهيئات وهنّ اللاتي يشتهين لجمالهنّ فيُكره حضورهنّ(458) وهذا رأي الحنابلة أيضاً ، قال الشافعي: أحب شهود النساء العجائز وغير ذوات الهيئات الصلاة والأعياد وأنا لشهودهنّ الأعياد أشد استحباباً مني لشهودهنّ غيرها من الصلوات المكتوبات(459).
وأجاب فقهاء الشافعية على حديث أم عطية السابق أن المفسدة في ذلك الزمن كانت مأمونة بخلاف اليوم ، ولهذا صح عن عائشة رضي الله عنها قالت : "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهنّ المساجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل"(460) أخرجاه ، وما أجابوا به فيه نظر لعموم حديث أم عطية، وقد أفتت به ولا يُعرف لها مخالف من الصحابة في ذلك .
وخروجهنّ للعيدين مشروط بعدم وقوع المفسدة وأمن الفتنة ، ويخرجنَ متحجبّات وبلا طيب وزينة ومزاحمة للرجال ، وأما حديث عائشة فليس صريحاً في المعارضة ، وعلى فرض معارضته لحديث أم عطية فيُحمل على أن المنع يكون عند وقوع المفسدة .
فالصواب مشروعية خروج النساء للعيدين ، وهو الذي مال إليه حذام المحدّثين الحافظ ابن حجر وخالفَ بذلك فقهاء الشافعية استناداً على الحديث الصريح في ذلك ، فرحمه الله وأجزل مثوبته(461).
ومما يتعلق بصلاة العيد أن المشروع فيها أن تكون قبل الخطبة ، هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك عن غير واحد من الصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي سعيد(462) وغيره من الصحابة على مروان بن الحكم الأموي تبديل ذلك وتغييره وعدُّوهُ مخالفة للسنّة(463).(1/180)
ويستحب للإمام في صلاة العيد أن يكبر سبعاً في الركعة الأولى ، وخمساً في الثانية ، قال أبو عمر بن عبد البرّ : روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة حِسان منها : حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ومن حديث جابر بن عبد الله رواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر ، ثم ذكر بقية الطرق(464).
وأما القراءة في صلاة العيد فقد روى مالك في الموطأ ومسلم في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأضحى والفطر فقال: كان يقرأ بـ ? ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ? [ق : 1] و? اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ ? [القمر : 1] (465) ، وأكثر ما رُوي وتواتر به طرق الحديث كان يقرأ في العيدين بـ ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ? [الأعلى : 1] و? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ ? [الغاشية : 1] رُوي هذا عنه من حديث النعمان بن بشير ، وحديث سمرة بن جندب وحديث
ابن عباس ، وحديث أنس ، وهي كلها عند ابن أبي شيبة
وعبد الرزاق(466).
ثم بعد الصلاة يُشرع خطبة العيد ، واستحب أكثر الفقهاء افتتاح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع .
وردّ ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ فقال : "وكان يفتتح خُطبةُ كلها بالحمد لله ، ولم يُحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير"(467) ، ونقل تصويب ذلك عن ابن تيمية واستدل بحديث رواه أحمد وأبو دواد وهو قوله : "كلُّ أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" وهذا الحديث ضعيف وهو من مراسيل الزهري .
ويستحب للذاهب إلى العيد أمور :(1/181)
1- الاغتسال لصلاة العيد ، فقد ثبت عن ابن عمر مع تحرّيه للسنّة أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلَّى رواه مالك وسنده صحيح(468). وفي الاغتسال للصلاة أحاديث مرفوعة كلها لا تصح ضعفها النووي وابن القيم وغيرهما(469) ، وأخرج الفريابي عن سعيد بن المسيب أنه قال : "سنّة الفطر ثلاث : المشي إلى المصلَّى ، والأكل قبل الخروج ، والاغتسال" .
قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله : "واتفق الفقهاء على أنه حسنٌ لمن فعله والطِّيب يجري عندهم منه ومَن جمعهما فهو أفضل(470) ، وأيضاً حكى أبو زكريا النواوي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الغسل للعيدين(471).
2- يستحب التجمّل وأخذ الزينة بلبس أحسن ما لديه ، ثبت في الصحيحين وبوّب له البخاري في صحيحه "باب في العيدين والتجمّل فيه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أخذ جبّة من استبرق تُباع في السوق فأخذها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : ابتعْ هذه تجمّل بها للعيد والوفود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنّما هذه لِباس مَن لا خلاق له) (472).
وفي الحديث إقرار لعمر على أصل التجمّل ، وإنما زجره عن الجبّة لكونها كانت حريراً .
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسنادٍ صحيح إلى ابن عمر : "أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين"(473).
وينبغي للإمام أهل العلم والفضل الاعتناء بذلك دون مبالغة لأنهم المنظور إليهم ، وفي ذلك إعزاز للشريعة ، وإظهار عظمة الدين ، وشكر الله تعالى على نعمه وفضله ، قال بعضهم :
فالعالِمُ الحُسنُ له مطلوبُ
كذلك الواعظ والخطيبُ
وقال آخر : والعلما يُندبُ حُسن الزيِّ
لهم ليعظموا لكفّ الغيِّ(1/182)
وترك بعض الشيوخ التجمل في العيد لأجل الزهادة وعدم الرغبة في ذلك ليس بحَسن بل فيه حياد عن الهدي النبوي الكريم ، قال الإمام ابن عبد البر المالكي رحمه الله : هذه سنّة في إظهار الزينة في الأعياد بالطيب والثياب لِمن قدر على شيء من ذلك فلا ينبغي لأحد أن يترك ذلك زهداً وتقشّفاً مع القدرة عليه ، ويرى أن تركه أحسن لمن ترك ذلك رغبةً عنه فذلك بدعة من صاحبها(474).
وأما المعتكف فقال بعضهم : يخرج في ثياب اعتكافه . والصواب أن المعتكف كغيره في أخذ الزينة والتجمّل والطيب ونحوها ولا دليل على ما سوى ذلك ، فالزينة في العيد شيء حسن ومطلوبة ، أما المبالغة والسرَّف الذي اشتد في هذه الأزمان ففيه خروج عن حد القصد والاعتدال ، وإضاعة وتبذير للمال وإغاظة للضعفة والفقراء ، ومفاخرة بلا أدب ولا حياء ، وأكثر فاعلِيهِ لا يخرجون إلى صلاة العيد ولا أظنّ هذا الصنيع من الخير والإتباع .
3- الأكل قبل الخروج ، فقد روى البخاري في صحيحه "باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج" عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهنّ وتراً"(475) ، وعند ابن حبان والحاكم : "ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أقل من ذلك أو أكثر وتراً"(476) ، وهذا صريح في مداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك .
قال ابن قدامة : السنّة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة ، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي ، وهذا قول أكثر أهل العلم(477) ، والحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظنّ لزوم الصوم حتى يصلي العيد ، فكأنه أراد سد الذريعة ، والأظهر أنها لحُرمة صيام ذلك اليوم وهو يوم العيد ، فكأنه أراد سد الذريعة ، والأظهر أنها لحُرمة صيام ذلك اليوم وهو يوم العيد ، فقد صحّ النهي عن صيام يومين : الفطر والأضحى كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد وعمر وابن عمر وأبي هريرة وحديث عائشة وهو في صحيح مسلم(478).(1/183)
4- قال ابن القيم رحمه الله : "ولم يكن هو أي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلّى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها"(479) ، ومستند هذا الكلام حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين : "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين لم يصلِّ قبلها ولا بعدها"(480) ، ولهذا كره جماعة من أهل العلم الصلاة قبلها وبعدها في المصلي لهذا الحديث .
وأما الصلاة بعد العيد فقد روى ابن ماجة والحاكم بسندٍ حسن عن أبي سعيد : "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد شيئاً فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين(481) ، قال أبو عبد الله الحاكم عقيب إخراجه هذا الحديث : "هذه سنّة عزيزة بإسنادٍ صحيح ولم يخرجاه"(482). وأقرّه الذهبي .
وهذا اختيار الشيخ العلامة حافظ الحكمي رحمه الله كما في السبل السوّية :
وفي المصلَّى قبلها لم يُشرَعِ
نفلٌ ولا من بعدِ فعلها فَعِ
وفي الحديث جاء حين يرجعُ
لبيته فركعتان تُشرَعُ
أما لو كانت صلاة العيد في المسجد لعذرٍ فلا بأس حينئذٍ من صلاة ركعتين تحية للمسجد . والله تعالى أعلم .
5- استحباب مخالفة الطريق إذا عاد من المصلَّى : أخرج البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق"(483) ، وقد اختلف الناس في حكمة ذلك على وجوه كثيرة لخّصها ابن القيّم وذكر أهمها ، واستقصاها ابن حجر وميّز واهيها ، فليطالعها مَن أراد ذلك(484).
ثانياً ـ التكبير :(1/184)
قال الله تعالى : ? وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? [البقرة : 185] والمعنى : أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، والمراد : إذا اكتملت عدة رمضان يُشرع التكبير ، ولهذا أُخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية ، حتى ذهب داود بن عليّ الأصبهانيّ الظاهريّ إلى وجوبه في عيد الفطر لظاهر الأمر(485) ويبتدئ التكبير من غروب شمس ليلة العيد .
وقال الإمام أحمد : يكبّر جهراً إذا خرج من بيته يأتي المصلَّى ، وهذا مرويّ عن علي وابن عمر وأبي أُمامة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جُبير ومالك وإسحاق وابن المنذر ولم ينكره إلا أبو حنيفة(486).
وقال الزهري كما عند أبي شيبة بسندٍ صحيح : "كان الناس يكبّرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلَّى وحتى يخرج الإمام ، فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبّر كبّروا" .
وصفة التكبير لم يرد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي آثار مروية عن بعض الصحابة كسلمان وعمر وابن مسعود وغيرهم ، قال الحافظ في الفتح : وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيها ما أخرجه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن سلمان قال : "كبِّروا الله ، الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً" انتهى ، وصح عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما واعتمده ابن القيم في زاد المعاد: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد" وقال به أحمد وإسحاق ، وأثر ابن مسعود عند ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح، وقد ورد أيضاً بتثليث التكبير وفي ذلك عن بعض الأئمة زيادات واختلافات كالشافعي وغيره مما يدل على التوسعة في هذا الباب فلا يُنكر على أحد فيه ، والله تعالى أعلم(487).
ثالثاً ـ التهنئة بالعيد :(1/185)
وهي شعار العيد ودليل السرور والخلُق والصفاء ، وقد رخّص فيها غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية عنه ، ومالك رحمه الله قال : "لم نزل نعرف هذا بالمدينة" ، والأصل فيها ما ذكره محمد بن زياد قال : "كنتُ مع أبي أُمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض : "تقبّل اللهُ منا ومنك" ، قال أحمد : إسناد أبي أُمامة إسناد جيد(488).
وعن جبير بن نفير قال : "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا الْتقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض : "تقبّل الله منا ومنك" ، قال الحاف : إسناده حسن(489).
وتحصل التهنئة بأي عبارة من عبارات التهاني الحسنة السليمة ، وإن كان المرويّ عن الصحابة رضي الله عنهم هو الأحسن والأجمل والله تعالى أعلم .
"اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا ، وتوفّنا إذا علمت الوفاة خيراً لنا ، اللهم إنا نسألُك خشيتك في الغيب والشهادة ، ونسألك كلمة الحقِّ في الرِّضا والغضب، ونسألك القصد في الغنى والفقر ، ونسألك نعيماً لا ينفدُ ، ونسألك قُرَّة عين لا تنقطع ، ونسألك الرضا بعد القضاء ، ونسألك برد العيش بعد الموت ، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضرّاء مضرة ، ولا فتنة مُضلّة ، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان ، واجعلنا هُداة مهتدين(490).
********
المحتويات
الموضوع
ص
تقريظ فضيلة الشيخ محمد الحسن ددو الشنقيطي
3
المقدمة
5
تبصرة إلى إمام المسجد
16
1- تحايا رمضان
18
2- فضائل الصيام ومحاسنه
25
3- حقيقة الصيام
33
4- دعاء الصائم
40
5- روضة الصائمين
55
6- حديث في التراويح
60
7- صيام النبي صلى الله عليه وسلم
72
8- رمضان أيام معدودات
82
9- مسائل في الصيام
89
10- الصوم توبة وإنابة
102
11- حلاوة الصيام
107
12- صوم السعداء والأشقياء
112
13- أخطاء الصائمين
117
14- آداب الصائمين
127(1/186)
15- مفاهيم خاطئة في رمضان
136
16- مفاهيم خاطئة في رمضان
159
17- مفاهيم خاطئة في رمضان
167
18- رمضان مواساة وإحسان
179
19- يا أيها الصائمون
186
20- صيام السلف الصالح
190
21- صوم النساء
200
22- صوم الصبيان
209
23- العشر الأواخر
216
24- ليلة القدر
222
25- الصيام تعليم وتربية
238
26- باب الريان
245
27- السحور
250
28- زكاة الفطر
255
29- وداع رمضان
261
30- العيد
267
31- المحتويات
280
(1) الترمذي : (2323) وابن ماجة (4112) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (679) .
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/54) .
(4) الدارمي (1/93) ، والفقيه والمتفقه (2/173) .
(5) جامع بيان العلم وفضله 1/531 (866) .
(6) جامع بيان العلم وفضله 1/530 .
(7) المصدر السابق 2/1093 .
(8) طبقات الشافعية الكبرى (2/9) .
(9) جامع بيان العلم وفضله (2/1116) .
(10) السير (5/271) .
(11) مواهب الجليل (1/58) .
(12) البخاري (2518) ، ومسلم (84) ، ومعنى الأخرق : الذي لا يتقن ما يحاول فعله.
(13) البخاري (2707) ، مسلم (1009) ، ومعنى السُّلامَي كما قال أبو عبيد : هي في الأصل عظم يكون في فرسِن البعير قال : فكأن معنى الحديث : على كل عظم من عِظام ابن آدم صدقة . (غريب الحديث : 3/10 ، 11) .
(14) شذور الأمالي : ص (125) .
(15) أبو داود (5092) ، والترمذي (3447) ، وابن حبان (2374) .
(16) تفسير ابن كثير (3/549) . والحديث رواه البخاري (4684) ، ومسلم (993) عن أبي هريرة .
(17) تفسير ابن كثير (3/549) ، والحديث رواه البخاري (4684) ، ومسلم (993) عن أبي هريرة .
(18) لطائف المعارف لابن رجب ص (276 - 277) .
(19) الإحياء (1/274) .
(20) البخاري (1894 - 1904) ، ومسلم (1151) .
(21) مسند أحمد (3/396) .
(22) مسند أحمد (2/402) .
(23) مسند أحمد (1/195) ، وسنن النسائي الكبرى (2542 - 2543) .(1/187)
(24) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (139) .
(25) الحديث على ظاهره في إثبات استطابة الروائح لله تعالى على وجه يليق بجلاله بلا تشبيه أو تمثيل أو تحريف ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله : "ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثّل النبي صلى الله عليه وسلم طيب هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم ، ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه ، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين ، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوقين من ذلك ، كما أن ذاته ـ سبحانه وتعالى ـ لا تشبه ذوات خلقه ، وصفاته لا تشبه صفاتهم ، وأفعاله لا تشبه أفعالهم ، وهو سبحانه يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه والعمل الصالح فيرفعه ، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا" [ الوابل الصيّب ص 47 ] .
(26) شُعب الإيمان 3/300 (3593) .
(27) فتح الباري (4/130) .
(28) البخاري (1901) ، ومسلم (759) .
(29) مسلم (16) .
(30) البخاري (1895) ، ومسلم (144) .
(31) البخاري (1905) ، ومسلم (1400) .
(32) الفتح (4/142) .
(33) المسند تحقيق أحمد شاكر رحمه الله (6612) .
(34) مسند أحمد (5/255) ، والسنن الكبرى للنسائي (4/165) ، وابن حبان (3425).
(35) مسند أحمد (3/12) ، وابن حبان (3467) .
(36) المسند (2/174) ، ومستدرك الحاكم 1/740 (2036) .
(37) شرح السنة للبغوي (6/219) .
(38) أبو داود (2355) والترمذي (658) وابن ماجة (1699) .
(39) البخاري (1933) ، ومسلم (1155) .
(40) ابن خزيمة (1990) ، وابن حبان (3521) ، والحاكم (1/430) ووافقه الذهبي .
(41) انظر الفتح (4/186) ، والحديث في مصنّف عبد الرازق (7378) .
(42) البخاري (1903) ، وأبو داود (2362) ، وابن حبان (3480) .
(43) مسند أحمد (2/373) ، وابن حبان (3481) ، وابن خزيمة (1997) ، وابن ماجه (1690) والنسائي في الكبرى (3249) .(1/188)
(44) صحيح ابن خزيمة (3/242) ، والإحسان بتقريب ابن حبان (8/258) .
(45) مصنف ابن أبي شيبة (2/271 - 272) .
(46) جامع العلوم والحكم ص 469 .
(47) حلية الأولياء لأبي نعيم (2/351) .
(48)
(49) مسند أحمد (4/132) ، والترمذي (2380) ، وابن ماجة (3349) عن المقداد
ابن معد يكرب .
(50) أبو داود (1479) والترمذي (2969) .
(51) الترمذي (3508) وابن ماجة (3850) وأحمد (6/182) .
(52) البخاري (1145) ، ومسلم (758) .
(53) الترمذي (3773) .
(54) تدريب الراوي (2/167) .
(55) أبو داود (1488) والترمذي (3556) .
(56) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 260 .
(57) مسلم (1015) والترمذي (2989) .
(58) مسلم (2622) .
(59) ابن أبي شيبة (10/272) وصححه الحاكم (1/505) .
(60) جامع العلوم والحكم بتصرف ص (269) .
(61) مسند أحمد (5/279) .
(62) ابن ماجة (1182) ورواه النسائي (2/235) .
(63) زاد المعاد (1/334) .
(64) أبو داود (1425) ، والترمذي (464) .
(65) البخاري (9337) .
(66) مسند أحمد (4/86) ، وأبو داود (96) .
(67) البخاري (4205) ومسلم (2704) .
(68) البخاري (4723) ، ومسلم (447) وانظر فتح الباري (8/405- 406) .
(69) أبو داود (1425) والترمذي (464) والنسائي (3/248) وابن ماجة (1178) والبيهقي (2/209) .
(70) ابن خزيمة (1100) .
(71) مجموع الفتاوى (22/511) .
(72) رواه مسلم (817) .
(73) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (1/321) .
(74) النسائي (8031) وابن ماجة المقدمة (215) .
(75) تفسير ابن كثير (4/29) .
(76) تفسير ابن كثير (4/132) .
(77) مسلم (1163) .
(78) الترمذي (3549) ، وابن خزيمة (1135) .
(79) مسلم (757) .
(80) شرح النووي على صحيح مسلم (6/375) .
(81) البخاري (2009) ، ومسلم (759) .
(82) أبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (1364) وابن ماجة (1327) .
(83) البخاري (1147) ، ومسلم (738) .
(84) الموطأ (1/114) .
(85) الفتح (4/298) .(1/189)
(86) مجموع الفتاوى (23/112 - 113) .
(87) البخاري (757) ، ومسلم (397) .
(88) البخاري (37) ، ومسلم (759) .
(89) ابن خزيمة (2212) ، وابن حبان (3436) .
(90) أبو داود (1423) والنسائي في الكبرى (1429) وابن ماجة (1171) .
(91) النسائي في الكبرى (1447) .
(92) الدارقطني (1644) .
(93) أبو داود (1427) والترمذي (3561) والنسائي في الكبرى (1444) وابن ماجة (1179) .
(94) زاد المعاد (1/336) .
(95) مسلم (738) .
(96) المسند (6/298-299) .
(97) المسند (5/260) ، وابن خزيمة (401) .
(98) صحيح ابن خزيمة (452) .
(99) مجموع الفتاوى (23/93) .
(100) البخاري (998) ، ومسلم (749) .
(101) زاد المعاد (1/333) .
(102) الموسوعة الشوقية (2/15) .
(103) موطأ مالك (1/249) والبخاري (1965) ، ومسلم (1103) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وانظر زاد المعاد (2/32) .
(104) زاد المعاد (2/32) .
(105) البخاري (1967) .
(106) فتح الباري (4/241) .
(107) لطائف المعارف ص (306) ، والحديث المذكور أخرجه البخاري (3) ومسلم (160) والترمذي (3636) .
(108) البخاري (1969) ، ومسلم (1156) .
(109) مسلم (1163) .
(110) الترمذي (745) ، والنسائي (3/202) ، وابن ماجة (1739) من حديث عائشة .
(111) سنن النسائي (2654) .
(112) مسلم (1164) ، وأبو داود (2433) .
(113) البخاري (2000) ، ومسلم (1125) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(114) البخاري (1988) ، ومسلم (1123) .
(115) البخاري (1945) ، ومسلم (1122) .
(116) مسلم (1116) .
(117) البخاري (1947) ، ومسلم (1118) .
(118) مسلم (1113) .
(119) البخاري (1947) ، ومسلم (1115) عن جابر بن عبد الله .
(120) فتح الباري (4/220) .
(121) ابن ماجة (1666) .
(122) البخاري (1927) ، ومسلم (1107) .
(123) أبو داود (2385) ، وابن خزيمة (1999) ، والحاكم (1/431) .
(124) فتح الباري (4/181) .(1/190)
(125) البخاري (1957) ، ومسلم (1098) ، وأحمد في المسند (5/147) .
(126) البخاري (1954) ، ومسلم (1100) .
(127) مصنف عبد الرزاق (7591) ، وسنن البيهقي الكبرى (4/238) .
(128) البخاري (1925) ، ومسلم (1109) .
(129) مسلم (1110) .
(130) النسائي (2978 ، 3000) ، وابن أبي شيبة في المصنف (2/329 ، 330) .
(131) فتح الباري (4/173 - 174) .
(132) البخاري (1902) ، ومسلم (2308) عن ابن عباس .
(133) البخاري (1417) ، ومسلم (1016) عن عدي ابن حاتم .
(134) تقدم تخريجه .
(135) مسند أحمد (5/255) والنسائي (4/165) وعبد الرازق (7899) .
(136) البخاري (6412) .
(137) تذكرة الحفاظ (4/1470 - 1472) .
(138) هذا الإمام سيرته من أحسن السير وأجملها وأزكاها وأنفعها ، فيها علمٌ زاخر ، وشجاعة نادرة وهدىً متين وحكمة رشيدة ، وإليكم ثلاثة كُتب لِمن أحبّ مطالعتها بتأمُّل وأناة : الأول : العقود الدرية لابن عبد الهادي الثاني : الكوكب الدرّية لمرعى بن يوسف الحنبلي ، الثالث : رجال الفكر والدعوة في الإسلام لأبي الحسن الندوي .
(139) روضة المحبين ص (70) .
(140) البخاري (8) ، ومسلم (16) .
(141) المغني لابن قُدامة (4/324) .
(142) البخاري (1900) ، ومسلم (1180) .
(143) البخاري (1909) ، ومسلم (1180) .
(144) البخاري (1909) ، ومسلم (1180) .
(145) أحمد (6/149) ، وأبو داود (2321) ، وابن خزيمة (1910) .
(146) انظر المجموع (6/270) والفتح (4/145) .
(147) المغني (4/332) .
(148) انظر الفتح (4/146) .
(149) البخاري (1913) ، ومسلم (1080) .
(150) المجموع (6/313) .
(151) أبو داود (2393) ، وابن خزيمة (1954) ، والبيهقي (4/226 - 227) .
(152) البخاري (2600) ، ومسلم (1111) .
(153) الإنصاف (3/291) .
(154) أبو داود (2380) ، والترمذي (720) ، وابن ماجة (1676) .
(155) حقيقية الصيام ص (13) .
(156) البخاري (2/42) .
(157) انظر الفتح (4/207) .(1/191)
(158) الترمذي (719) .
(159) مغني ابن قدامة (4/369) .
(160) المغني (4/397) .
(161) البخاري (1951) ، ومسلم (80) .
(162) مسلم (335) .
(163) انظر المغني (4/369 - 370) .
(164) البخاري (1773) ومسلم (1349) .
(165) البخاري (1782) ومسلم (1256) .
(166) لطائف المعارف ص (349) .
(167) البيهقي (4/316) والطحاوي في المشكل (4/20) والذهبي في السير (15/81).
(168) أبو داود (3473) والبيهقي (4/317) .
(169) زاد المعاد (2/87) .
(170) المفهم (3/241) .
(171) زاد المعاد (2/90) .
(172) البخاري (2029) ، ومسلم (297) .
(173) مراتب الإجماع ص (48) .
(174) انظر تفسير ابن كثير (1/231) .
(175) والصواب أن هذا قول مرجوح ، والمعتمد شرطية الصيام في الاعتكاف لما أسلفناه من أدلة ، والحديث المشار إليه حديث عمر أنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أوف بنذرِك) ثابت في الصحيحين ، فالجواب عليه من وجهين : الأول : أن المراد ليلة بيومها لاختلاف الروايات كما قاله ابن حبان . الثاني : أنه قد روى أبو داود والدارقطني الحديث بلفظ : (اعتكِف وصُم) وحسّنه بعض العلماء .
(176) الطبراني في الكبير (7235) والبزار (3244) .
(177) حديث صحيح في مسلم عن أبي موسى (2759) .
(178) البخاري (1899) ، ومسلم (1079) .
(179) الترمذي (286) والنسائي (2418) وابن ماجة (1642) وابن خزيمة (1883) .
(180) انظر الفتح (4/137) .
(181) أحمد (342) ومسلم (223) ، والترمذي (3517) عن أبي مالك الأشعري .
(182) جامع العلوم والحِكَم ص (28) .
(183) أحمد (4/202) والترمذي (2863) والحاكم (1/421) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .
(184) الوابل الصيب ص (43) .
(185) تهذيب مدارج السالكين ص (245) .
(186) شرح حديث "لبيك اللهم لبيك" ص (60 - 62) لابن رجب الحنبلي .
(187) الخبر في الحلية (2/294) .
(188) الحلية (8/108) .(1/192)
(189) انظر جامع العلوم والحكم ص (133) .
(190) تفسير ابن كثير (3/257) .
(191) ديوان أبي نواس ص (618) .
(192) البخاري (6135) ، ومسلم (47) عن أبي هريرة .
(193) الترمذي (2619) ، وابن ماجة (3973) .
(194) البخاري (2528) .
(195) البخاري (1903) ، وأبو داود (2362) .
(196) البخاري (1894) ، ومسلم (1151) .
(197) الترمذي (3545) ، وابن خزيمة (1888) ، والحاكم (1/549) .
(198) تقدّم تخريجه .
(199) مسند أحمد (2/380) .
(200) مسلم (2985) عن أبي هريرة .
(201) البخاري (1901) ، ومسلم (760) .
(202) فتح الباري (4/138) .
(203) البخاري (6412) .
(204) البخاري (1902) ، ومسلم (2308) .
(205) عمدة القاري (1/84) .
(206) عمدة القاري (1/86 - 87) .
(207) فتح الباري (4/126) .
(208) أبو داود (4798) ، وابن حبان (1927) .
(209) أدب الدنيا والدين ص (226 - 227) .
(210) تقدم تخريجه .
(211) أدب الدنيا والدين ص (265 - 266) .
(212) تفسير ابن كثير (3/337) .
(213) البخاري (71) ، ومسلم (1037) .
(214) أدب الدنيا والدين ص (111 - 112) .
(215) البخاري (88)
(216) الفتح (1/222) .
(217) طبقات الشافعية الكبرى (8/209) .
(218) المصدر السابق (8/212 - 213) .
(219) جامع بيان العلم وفضله : (2/1129 - 1132 - 1133 - 1136 - 1139 - 1140) .
(220) التبيان ص (54 - 55) .
(221) المصدر السابق ص (56 - 57) .
(222) البخاري (775) ، ومسلم (822) .
(223) البخاري (5043) .
(224) البخاري (5044) .
(225) الفتح (8/708) .
(226) الفتح (8/709) .
(227) البخاري (5045) .
(228) البخاري (5046) .
(229) مسلم (733) .
(230) البخاري (5047) ، ومسلم (794) .
(231) الفتح (8/710) .
(232) الفتح (8/707) .
(233) البخاري (3417) .
(234) التبيان ص (58) .
(235) زاد المعاد (1/339) .
(236) الفتح (8/707) .
(237) البخاري (4997) ، ومسلم (2308) .(1/193)
(238) البخاري (5052) ، ومسلم (1159) ، ومعنى "كنّته" بفتح الكاف وتشديد النون زوج الولد .
(239) البخاري (5054) .
(240) أبو داود (1394) ، والترمذي (2950) ، وابن ماجة (1347) .
(241) سنن سعيد بن منصور (146) .
(242) التبيان ص (58) .
(243) الفتح (8/715) .
(244) المغني (2/612) .
(245) الفتح (8/715) .
(246) الفتح (8/816) .
(247) مسلم (746) .
(248) لطائف المعارف ص (447) .
(249) السّيَر (4/324 - 325) .
(250) البخاري (1914) ، ومسلم (1082) .
(251) الفتح (4/152) .
(252) الفتح (4/153) .
(253) البخاري (6696) .
(254) أبو داود (2337) ، والترمذي (738) وابن ماجة (1651) وابن حبان (3589) .
(255) انظر الفتح (4/153) .
(256) البخاري (1909) ، ومسلم (1081) .
(257) ابن حبان (873) .
(258) انظر زاد المعاد (2/41) .
(259) البخاري (1906) ، ومسلم (1080) .
(260) انظر زاد المعاد (2/39) .
(261) انظر المغني (4/330) .
(262) أبو داود (2334) ، والترمذي (686) .
(263) المغني لابن قدامة (4/331) .
(264) مصنف عبد الرزاق (7323) .
(265) زاد المعاد (2/45 - 47) .
(266) انظر المجموع شرح المهذّب (6/408) وما بعدها .
(267) المغني (4/337) .
(268) أبو داود (2454) ، والترمذي (730) ، والنسائي في الكبرى (2/116) ، وابن ماجة (1700) ، وابن خزيمة (1933) .
(269) انظر فتح الباري (4/169) ونصب الراية (2/433 ، والإرواء (4/25) .
(270) مجموع الفتاوى (25/215) .
(271) المغني (4/341) .
(272) مسلم (1154) .
(273) البخاري (2/36) .
(274) انظر الفتح : (4/168) .
(275) الدارقطني (249) والبيهقي (4/274) .
(276) التلخيص الحبير ص (22) .
(277) البخاري (1894) .
(278) متن الزبد ص (15) .
(279) المغني (4/359) .
(280) البخاي (887) ، ومسلم (252) .
(281) أحمد (2/460) .
(282) البخاري (2/39) .
(283) الاختيارات : ص (10) .
(284) الفتاوى (25/266) .(1/194)
(285) المعجم الكبير (20/70) [133] ، ومسند الشاميين (2250) .
(286) التلخيص ص (113) .
(287) التلخيص ص (22) .
(288) انظر الفتح (4/187) .
(289) أحمد (3/445) ، وأبو داود (2364) ، والترمذي (725) .
(290) التقريب ص (472) .
(291) البخاري (2/39) .
(292) ابن ماجة (1677) .
(293) زاد المعاد (2/63) .
(294) المغني (4/359) .
(295) مصنف ابن أبي شيبة (1/9171) .
(296) مصنف ابن أبي (2/296) .
(297) البخاري (2/39 - 40) .
(298) انظر الفتح (4/188) .
(299) لطائف المعارف ص (318 - 319) .
(300) جامع بيان العلم وفضله (1/433 - 434) .
(301) سبق تخريجه .
(302) البخاري (6488) .
(303) زاد المعاد (2/22) .
(304) البخاري (6174) ، ومسلم (1016) من حديث عديّ بن حاتم .
(305) مسلم (2588) .
(306) الترمذي (2325) ، وابن ماجة (4228) .
(307) البخاري (5373) ، والبغوي (1407) .
(308) الترمذي (807) والدارمي (2/7) وابن خزيمة (2046) وابن حبان (3429) .
(309) البخاري (12) ، ومسلم (39) .
(310) البخاري (1443) ، ومسلم (1021) .
(311) الوابل الصيب لابن القيم ( 54 - 55 ) .
(312) البخاري (3467) ، ومسلم (2245) .
(313) الترمذي (664) عن أنس رضي الله عنه ، والجملة الأولى لها شواهدٌ كثيرة تصحّ بها ، وأما الأخرى فهي ضعيفة . والله أعلم .
(314) البخاري (1433) ، ومسلم (1029) .
(315) مسلم (1055) ، والترمذي (3261) ، وأحمد (2/446) .
(316) مسلم (1056) .
(317) سبق تخريجه .
(318) البخاري (1894) ، ومسلم (1151) عن أبي هريرة .
(319) أحمد (3/396) .
(320) مسلم (2581) وأحمد (2/303 - 304) .
(321) الترمذي (3545) وابن خزيمة (1888) ، والحاكم (1/549) ، وابن حبان (908).
(322) البخاري (1903) ، وأبو داود (2362) .
(323) البخاري (2651) ، ومسلم (2535) .
(324) مسلم (2531) .
(325) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/20 - 25) بتصرف .(1/195)
(326) لطائف المعارف باختصار ص (431 - 432) .
(327) لطائف المعارف ص (318) .
(328) سير أعلام النبلاء (8/503) .
(329) السير (5/288) .
(330) السير (9/153) .
(331) معرفة القرّاء الكبار (1/111 - 115) .
(332) سنن البيهقي الكبرى (4/301) .
(333) الحلية (1/55) .
(334) صفة الصفوة (1/302) .
(335) الطبقات الكبرى (8/75) .
(336) المستدرك (6745) .
(337) المستدرك (6753) .
(338) السير (3/204) .
(339) السير (3/215) .
(340) السير (7/141 ، وللوقوف على أحوال السلف في الخيرات ومسارعتهم في تحصيلها ، صنّف الدكتور سيد العفاني ـ وفقه الله ـ كتابه "صلاح الأمة في علوّ الهمة بهر به أعين مطالعيه وجذب أرواح قارئيه ، وقد أفدتُ منه في هذه الموعظة فجزاه الله خيراً وبارك فيه .
(341) أي أصابني الجهد والمشقة والحاجة وسوء العيش .
(342) البخاري (4889) ، ومسلم (2054) .
(343) الترمذي (1163) ، وابن ماجة (1851) .
(344) المجموع شرح المهذب (6/257) .
(345) مسلم (335) .
(346) المجموع (6/275) .
(347) الآداب الشرعية (3/ 62 - 63) .
(348) البخاري (7563) ، ومسلم (2694) .
(349) مسلم (2695) .
(350) الترمذي (3465) .
(351) تفسير ابن كثير (3/503) .
(352) أبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (1364) وابن ماجة (1327).
(353) البيهقي (2/494) .
(354) المصدر السابق (2/494) .
(355) مختصر قيام الليل ص (226) ، وانظر [ قيام رمضان ] للشيخ الألباني ـ وفقه الله ـ ص (20 - 21) .
(356) صحيح ابن خزيمة (3/339 - 340) .
(357) ابن أبي شيبة (9277 - 9278 ) ، وانظر فتح الباري (4/181) .
(358) البخاري (1960) ، ومسلم (1136) .
(359) البخاري (2/48) .
(360) فتح الباري (4/236) .
(361) البخاري (893) ، ومسلم (1829) عن ابن عمر رضي الله عنه .
(362) الإحياء (2/78) .
(363) فتح الباري (4/237) .
(364) صحيح ابن خزيمة (2089) .
(365) البخاري (6024) ، ومسلم (2165) .(1/196)
(366) مسلم (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(367) مسلم (2592) .
(368) البخاري (7150) ، ومسلم (142) .
(369) البخاري (2024) ، ومسلم (1174) .
(370) فتح الباري (4/316) .
(371) مسلم (746) .
(372) مسند أحمد (6/146) .
(373) مسند أبي يعلي (282) ، وانظر مجمع الزوائد (3/174) .
(374) الترمذي (759) .
(375) أحمد (5/280) وابن ماجة (277) وصححه ابن حبان (1037) .
(376) مجموع الفتاوى (23/62) .
(377) ابن ماجة (1644) عن أنس وسنده حسن .
(378) النسائي (2416) .
(379) انظر تفسير ابن كثير (4/148) .
(380) انظر تفسير ابن كثير (4/568) .
(381) البخاري (2014) ، ومسلم (760) .
(382) موطأ مالك (1/342) [ 889 ] .
(383) أحمد (5/170) ، والسنن الكبرى (3427) .
(384) مصنف عبد الرزاق (4/255) .
(385) البخاري (2017) ، ومسلم (1169) بدون لفظ (الوتر) .
(386) البخاري (2018) ، ومسلم (1167) ، وأبو داود (1382) .
(387) البخاري (2021) ، ومسلم (11) .
(388) البخاري (2015) ، ومسلم (1165) .
(389) مسلم (1165) ، وابن خزيمة (2183) ، وابن حبان (3676) .
(390) فتح الباري (4/313) .
(391) مسلم (1170) .
(392) مسلم (762) .
(393) مسلم (1165) .
(394) الطبراني (10/152) وأحمد (1/396) وسنده ضعيف لانقطاعِه .
(395) أبو داود (1386) وابن حبان (3680) .
(396) المستدرك (1597) .
(397) البخاري (2018) ، ومسلم (1167) ، وقوله : وكف المسجد : أي سالَ .
(398) مسلم (1168) .
(399) البخاري (2023) .
(400) مجموع الفتاوى (25/284 - 285) .
(401) انظر الفتح (4/316) .
(402) مسلم (762) وابن خزيمة (2193) وأبو داود (1378) .
(403) ابن حبان (3690) .
(404) مسلم (1170) .
(405) ابن خزيمة (2192) ، والبزار (1034) .
(406) ابن خزيمة (2190) وابن حبان (3688) .
(407) أحمد (5/324) .
(408) تقدم تخريجه .
(409) تقدم تخريجه .
(410) ابن خزيمة (2195) .(1/197)
(411) انظر فيض القدير للمناوي (6/165- 166) .
(412) سبق تخريجه .
(413) البخاري (6475) ، ومسلم (47) عن أبي هريرة .
(414) سبق تخريجه .
(415) البخاري (1896) ، ومسلم (1152) .
(416) البخاري (1897) ، ومسلم (1027) .
(417) البخاري (1945) ، ومسلم (1122) .
(418) الترمذي (765) ، والنسائي (4/168) ، والبغوي (1709) .
(419) البخاري (4779) ، ومسلم (2824) .
(420) فتح الباري (7/35) .
(421) فتح الباري (4/165) .
(422) البخاري (1923) ، ومسلم (1095) .
(423) فتح الباري (4/166) .
(424) أحمد (4/202) ومسلم (1096) .
(425) المفهم (3/156) .
(426) أحمد (3/12) وابن حبان (3467) .
(427) أحمد (4/126) وأبو داود (2344) .
(428) ابن حبان (3475) ، والبيهقي (4/136 - 137) .
(429) أحمد (5/147) .
(430) البخاري (1921) ، ومسلم (1097) .
(431) فتح الباري (4/164) .
(432) صحيح الجامع (6647) .
(433) أبو داود (2350) .
(434) سنن البيهقي الكبرى (4/218) .
(435) بذل المجهود (11/152) .
(436) انظر المغني (4/281) .
(437) البخاري (1504) ، ومسلم (984) .
(438) المغني (4/285) .
(439) البخاري (1506) ، ومسلم (985) .
(440) انظر المغني (4/292) .
(441) مواهب الجليل (3/261) .
(442) انظر صحيح ابن خزيمة (4/89) .
(443) المصدر السابق .
(444) انظر المغني (4/295) .
(445) البخاري (1509) ، ومسلم (986) ، وأبو داود (1610) .
(446) سنن الترمذي (3/62) [ 677 ] .
(447) البخاري (1511) .
(448) المجموع (6/126) .
(449) أبو داود (1609) .
(450) لطئاف المعارف ص (383 - 384) .
(451) أحمد في المسند (5/243) ، والترمذي (3233) عن معاذ رضي الله عنه ، وهو حديث صحيح ، صححه البخاري والترمذي رحمهما الله تعالى .
(452) معالم التنزيل (8/559) .
(453) البخاري (962) ، ومسلم (884) .
(454) انظر المبسوط (2/37) ، وبدائع الصنائع (2/695) .(1/198)
(455) البخاري (974) ، ومسلم (890) ، ومعنى قوله : العواتق : جمع عاتق وهي الجارية البالغة وسُمّيت عاتقة لأنها من امتهانها في الخدمة والخروج في الحوائج ، و(الخدور) البيوت ، وقيل : الخدر : ستر يكون في ناحية البيت و(المخبأة) هي بمعنى الخدر .
(456) أحمد (6/358) .
(457) شرح النووي على مسلم (3/446) .
(458) المجموع (5/9) .
(459) الأم للشافعي (1/400) .
(460) البخاري (869) ، ومسلم (445) .
(461) انظر فتح الباري (2/470 - 471) .
(462) البخاري (962) ، (957) ، ومسلم (886) ، (888) .
(463) البخاري (956) ، ومسلم (889) .
(464) الاستذكار (7/49) .
(465) مالك (1/180) ، ومسلم (891) .
(466) حديث النعمان بن بشير في مسلم (878) وانظر الاستذكار (7/46) .
(467) زاد المعاد (1/447- 448) .
(468) الموطأ (1/177) .
(469) المجموع (5/7) .
(470) الاستذكار (7/11) .
(471) المجموع (5/7) .
(472) البخاري (948) .
(473) البيهقي (3/281) .
(474) نقلاً عن مواهب الجليل (2/576) .
(475) البخاري (953) .
(476) ابن حبان (2814) والحاكم (1/294) .
(477) المغني (3/258) .
(478) مسلم (1137) ، (1138) ، (1139) ، (1140) ، والبخاري (1990) ، (1993) ، (1994) ، (1995) .
(479) زاد المعاد (1/443) .
(480) البخاري (964) ، ومسلم (884) .
(481) ابن ماجة (1293) ، والحاكم (1/297) .
(482) المستدرك وبذيله التلخيص (1/297) .
(483) البخاري (986) .
(484) زاد المعاد (1/449) ، والفتح (2/548) .
(485) انظر تفسير ابن كثير (1/412 - 413) .
(486) انظر الشرح الكبير المطبوع مع المقنع والإنصاف (5/327) .
(487) انظر زاد المعاد (1/449) وفتح الباري (2/462 ، والإرواء (3/125) .
(488) الشرح الكبير المطبوع مع المقنع والإنصاف (5/381 - 382) .
(489) انظر الفتح (2/446) .
(490) أحمد في المسند (4/364) والنسائي في الكبرى (1228 - 1229) من حديث عمار رضي الله عنه وسنده صحيح .
??
??(1/199)
??
??
طلائع السلوان في مواعظ رمضان
طلائع السلوان في مواعظ رمضان(1/200)