صيد الكتب
إعداد
فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
بين يديك كتاب ضم حكما نافعة، وأقوالا جامعة، اصطدتها لك من كتب شتى، لتنعم بمطالعتها، وحيازة علمها. فـ:
فالعلم صيد والقيود صيده قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
وجهدي في هذا السفر هو الصيد فقط، وإلا فالفضل كل الفضل لله وحده ثم لأهل الفضل الذين نقلنا كلامهم وأقوالهم.
نعم. قد أمهد للصيد بكلام يوضح المغزى من النقل، ويسفر عن وجهه ومعناه، وذلك من أجل أن يتمكن القارئ من التهام الصيد كله لا بعضه.
فهيا بنا إلى الصيد الأول:
براعة الاستهلال
إن كثيرا من الكتاب لا يحسن وضع مقدمة مناسبة لما هو بصدد الكتابة عنه، وهو ما يعرف عند علماء المعاني ببراعة الاستهلال. وخطبة الكتاب إذا كانت مناسبة لموضوع الكتاب فإن ذلك يهيئ الناظر فيه معرفة ما فيه، ويصور له بعبارة موجزة زبدة الموضوع أو الرسالة. وتكمن براعة الكاتب في القدرة على الدخول في موضوع الرسالة أو البحث دون أن يشعر القارئ بذلك، ولعل خطبة الإمام أحمد في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) فيها بيان لبراعة الاستهلال وحسن البيان، وكان حقها أن تكتب بماء الذهب.
قال رحمه الله تعالى:(1/1)
( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين..) (1) .
الحث على التمسك بالسنة والنهي عن البدعة
استفاض النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحب والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين في الحث على التمسك بالسنة، والنهي والتحذير من البدعة، فقال إمام المتقين صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي مردود على صاحبه. والصحب رضوان الله عليهم والسلف الصالح من بعدهم كانت لهم جهود مشكورة في حفظ السنة؛ ولو سقنا أخبارهم في هذا لطال بنا المقام، ولكن حسبنا قول ابن مسعود رضي الله عنه من الصحب الكرام، وقول الفضيل بن عياض من السلف الأعلام:
قال ابن مسعود أو أبي بن كعب رضي الله عنهما:
( عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجر، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة. فاحرصوا أن تكون أعمالكم -إن كانت اجتهادا أو اقتصادا -على منهاج الأنبياء وسنتهم) (2) .
__________
(1) - )- الفتاوى 4/217)
(2) - الفتاوى 11/600.(1/2)
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (1) . قال: أخلصه وأصوبه. قيل له: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة).
وكان يقول:
)من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا). (2)
ميراث الأنبياء
يعظم الشيء بعظم نفعه. والعلم الشرعي هو أنفع العلوم وأزكاها، بل إن المتأمل في قوله عليه الصلاة والسلام "... إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر" ليعلم عظم الميراث.
وإمام العلماء معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه - له قول حسن يحسن الوقوف عنده.
__________
(1) - هود: 7.
(2) - الفتاوى 11/600.(1/3)
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، منار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خدمتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل، والعمل تابعه، ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء) (1) .
شعرا
قال صالح بن جناح اللخمي:
نموت وننسى غير أن ذنوبنا إذا نحن متنا لا تموت ولا تنسى
ألا رب ذي عينين لا تنفعانه وهل تنفع العينان من قلبه أعمى (2)
المبادرة إلى فعل الطاعات
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
الوقت يمضي سريعا، واليوم الذي ينقضي لا يعود، والحياة دقائق وثوان، وحال الشباب غير حال المشيب، وحال الصحة غير حال المرض، وملك الموت لا يعصي الله ما أمره، والأجل قريب لا يختلف عن موعده، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} الأعراف: 34 فالبدار البدار إلى فعل الطاعات وانتهاز الفرص.
__________
(1) - - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر / المختصر ص 53.
(2) - مختصر جامع بيان العلم وفضله، ص 38 (حاشية).(1/4)
قال ابن قيم الجوزية: (... أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما تثبت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه - حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} الأنفال: 124. (1)
التعصب المذهبي
__________
(1) - زاد المعاد / ابن القيم (3/574).(1/5)
داء يسري في النفوس يحمل صاحبها على مخالفة الدليل من أجل مذهب درج عليه، فتراه ينافح عن قول إمامه ومذهبه وإن علم أن الحق بخلافه!. والأئمة الأربعة رحمهم الله، نصوا على الأخذ بالدليل وإن كان مخالفا لقولهم. وهذا من تعظيمهم رحمهم الله للأثر، وصرف أتباعهم إلى الأخذ بالدليل وأن يكونوا مع الدليل والحق حيثما دار. قال الإمام أبو حنيفة: (إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس). وقال الإمام مالك: (ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر- وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الإمام الشافعي: (كل ما قلت، وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولا تقلدوني). وقال الإمام أحمد: (لا تكتبوا عني شيئا، ولا تقلدوني، ولا تقلدوا فلانا وفلانا - وفي رواية: مالكا، والشافعي، والأوزاعي، ولا الثوري - وخذوا من حيث أخذوا). [ومع أن الأئمة نصوا على عدم تقليدهم، والأخذ بالدليل وإن كان مخالفا لأقوالهم، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود طائفة تعصبت لأقوال أئمتهم، وغلوا في ذلك غلوا كبيرا، فمن أقوال بعض المتعصبة:] قال الحصفكي في أبيات يمدح بها الإمام أبا حنيفة منها:
فلعنة ربنا أعداد رمل على من رد قول أبي حنيفة
وأنشد منذر بن سعيد عدة أبيات تصور حالة تشبث المالكية بقول الإمام بدون دليل فقال:
عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلا: هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك
فإن زدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك
فإن قلت: قال الله، ضجوا وأكثروا وقالوا جميعا: أنت قرن مماحك
وإن قلت: قد قال الرسول، فقولهم أتت مالكا في ترك ذاك المسالك(1/6)
وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي: (نحن ندعي أنه يجب على كافة العاقلين وعامة المسلمين شرقا وغربا، بعدا وقربا - انتحال مذهب الشافعي. ويجب على العوام الطغام والجهال الأنذال أيضا انتحال مذهبه بحيث لا يبغون عنه حولا، ولا يريدون به بدلا). وقال أحد الحنابلة:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
[ والحق هو اتباع الدليل والأخذ به ممن قاله، ولا يقدح ذلك فيمن ترك مذهبه في مسألة، ولا يعتبر مخالفا لإمامه، بل هو متبع له كما نصوا على ذلك].
قال أبو مزاحم الخاقاني في شعر له:
أقول الآن في الفقهاء قولا على الإنصاف جد به اهتمامي
أرى بعد الصحابة تابعيهم لذي فتياهم بهم ائتمامي
علمت إذا عزمت على اقتدائي بهم أني مصيب في اعتزامي
وبعد التابعين أئمة لي سأذكر بعضهم عند انتظام
فسفيان العراق ومالك في حجازهم وأوزاعي شام
ألا وابن المبارك قدوة لي نعم والشافعي أخو الكرام
ممن أرتضي فأبو عبيد وأرضى بابن حنبل الإمام
فآخذ من مقالهم اختياري وما أنا بالمباهي والمسامي
وأخذي باختلافهم مباح لتوسيع الإله على الأنام
ولست مخالفا إن صح لي عن رسول الله قول بالكلام
إذا خالفت قول رسول ربي خشيت عقاب رب ذي انتقام
وما قال الرسول فلا خلاف له يارب أبلغه سلامي
صورة من صور التعصب: قال الطوفي: رأيت بعض العامة، وهو يضرب يدا على يد، ويشير إلى رجل، ويقول: ما هذا إلا زنديق، ليتني قدرت عليه، فأفعل به، وأفعل، فقلت: ما رأيت منه؟ فقال: رأيته وهو يجهر بالبسملة في الصلاة !. (1)
أصل عظيم
__________
(1) - زوابع في وجه السنة/ صلاح الدين مقبول أحمد، ص 222، 224، 225، ومختصر (جامع بيان العلم وفضله / لابن عبد البر/ ص 253) (قول الطوفي في شرح مختصر الروضة 2/165).(1/7)
مسائل التكفير والتبديع من المسائل الشائكة التي تحتاج إلى نظر وتأمل في حال المعين، وهناك شروط لابد من توفرها، وموانع لابد من انتفائها، إلى أشياء كثيرة جدا يطول ذكرها. ولكن هناك من جرد لسانه وقلمه، وأطلق لهما العنان في الناس تكفيرا وتبديعا وتفسيقا، وكأنه قد تعبد بذلك! فإلى أولئك وغيرهم هذا الأصل العظيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها، فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه، والتكفير له، فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا ببلد جهل، لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية.
وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت، لعدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول، فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم، فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع). (1)
المتكلفون في قراءة القرآن
يعمد بعض القراء إلى تكلف في إخراج الحروف والمدود، فتجده مصروفا عن تدبر كلام رب العالمين إلى تقليب نغمة الصوت، وتكلف الأداء، والمبالغة في تجويد القراءة. ولم يكن على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمره، ولا السلف الصالح من بعده، بل كانت قراءتهم وسطا لا غلو فيها ولا تفريط، وكانوا يسألون الله عند آيات الوعد، ويفرقون من آيات الوعيد، ولهم مع قصصه عبر، وفي آياته نظر. {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}(ص: 29).
__________
(1) - الفتاوى (6/61).(1/8)
وللذهبي رحمه الله، كلام فيمن بالغ وتكلف في تجويد الكتاب العزيز. يقول: فالقراء المجودة: فيهم تنطع وتحرير زائد يؤدي إلى أن المجود القارئ يبقى مصروف الهمة إلى مراعاة الحروف والتنطع في تجويدها بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة ويخليه قوي النفس مزدريا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت وبأن المسلمين يلحنون وبأن القراء لا يحفظون إلا شواذ القراءة. فليت شعري أنت ماذا عرفت وماذا عملت؟ فأما علمك فغير صالح، وأما تلاوتك فثقيلة عرية من الخشعة والحزن والخوف، فالله تعالى يوفقك ويبصرك رشدك ويوقظك من مرقدة الجهل والرياء.
وضدهم قراء النغم والتمطيط، وهؤلاء من قرأ منهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة، فقد رأيت منهم من يقرأ صحيحا ويطرب ويبكي، ورأيت منهم من إذا قرأ قسَّى القلوب وأبرم النفوس وبدل الكلام، وأسوأهم حالا الجنائزية.
وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع وأقدم شيء على التلاوة بما يخرج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ اللامات وترقيق الراءات. اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق وفرط الإمالة والمدود ووقوف حمزة إلى كم هذا!.
وآخر منهم إن حضر في ختم أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أن (أبو اعرفوني) فإني عارف بالسبع. إيش نعمل بك؟ لا وصبحك الله بخير إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة. (1)
الزيارة الشرعية والزيارة البدعية
عظمت الفتنة واشتد الخطب في أقوام غلوا في بشر مثلهم، فتراهم ركعا سجدا عند القبر، يدعونه من دون الله، ويسألونه حاجاتهم، وإذا أنكرت عليهم قالوا: إنما نتوسل بهم لكونهم أولياء أتقياء ونحن مذنبون ضعفاء!.
__________
(1) - - نقلا من بدع القراء القديمة والمعاصرة/ بكر أبو زيد، ص 24.(1/9)
وحال الزائر للقبر لا يخلو إما أن يكون مطيعا لمولاه متبعا لنبيه، أو عاصيا مشركا بالله مبتدعا في دينه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن الزيارة الشرعية عبادة لله، وطاعة لرسوله، وتوحيد لله وإحسان إلى عباده، وعمل صالح من الزائر يثاب عليه و (الزيارة البدعية) شرك بالخالق، وظلم للمخلوق، وظلم للنفس. فصاحب الزيارة الشرعية هو الذي يحقق قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] ألا ترى أن اثنين لو شهدا جنازة، فقام أحدهما يدعو للميت، ويقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر، وأفسح له في قبره ونور له فيه، ونحو ذلك من الدعاء له. وقام الآخر فقال: يا سيدي! أشكو لك ديوني، وأعدائي وذنوبي، أنا مستغيث بك، مستجير بك، أغثني! ونحو ذلك، لكان الأول عابدا لله، محسنا إلى خلقه، محسنا إلى نفسه بعبادة الله ونفعه عباده، وهذا الثاني مشركا مؤذيا ظالما معتديا على الميت ظالما لنفسه. (1)
وساوس الشيطان
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره. كما قالت الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. قال: "ذاك صريح الإيمان" وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به. قال: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهية العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه؛ فهذا أعظم الجهاد، و(الصريح ) الخالص، كاللبن الصريح. وإنما صار صريحا لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحا.
__________
(1) - الفتاوى (6/265).(1/10)
ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا وإما أن يصير منافقا؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا، لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؟ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة، ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم، لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه؟ بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه. وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله. قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} (فاطر: 6) ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقينا وطمأنينة وشفا، قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} (آل عمران: 138)، وقال تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: 2) وقال تعالى: {فأما الذين آم نوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} (التوبة: 124). (1)
إمام الشيعة الحادي عشر ليس له عقب
__________
(1) - (الفتاوى (7/282-283).(1/11)
لقد قيدت عقائد الشيعة أهلها بأغلال لا يستطيع معها الشيعي أن ينفك منها بحال إلا من أراد الله به خيرا، فالتقية، والبدا، والغيبة - وغيرها من العقائد التي ابتدعها غلاة الشيعة -آصار وأغلال تشد الشيعي إلى مذهبه وتختم على سمعه وبصره وتجعل على قلبه غشاوة. والشيعة الإمامية تعتقد أن هناك اثنا عشر إماما من نسل علي رضي الله عنه، وهم يعتقدون أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة، ولهم معجزات وخوارق، بل إن الغلاة منهم ألبسوهم صفة الألوهية! والشيعة الإمامية تدعي أن هناك اثنا عشر إماما - كما سبق - فظهر منهم أحد عشر، والإمام الثاني عشر قالوا عنه: أنه غائب وسوف يظهر من سرداب في (سامراء) في العراق! - وأنى لهم ذلك - حتى قيل فيهم:
ما آن للسرداب أن يلد الذي كلمتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكم ثلثتم العنقاء والغيلانا
ولما أراد الله أن يهتك سترهم جعل إمامهم الحادي عشر وهو الحسن العسكري عقيما لا ينجب!.(1/12)
يقول الشيخ ناصر القفاري حفظه الله: لقد توفي الحسن العسكري -إمامهم الحادي عشر-سنة 260 هـ بلا عقب كما قاله كبار المؤرخين ، (1) واعترفت كتب الشيعة بأنه (لم ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه)، واضطرب الشيعة بعد وفاة الحسن بلا ولد، وتفرقوا - فيمن يخلفه - فرقا شتى بلغت كما يقول المسعودي عشرين فرقة، أو خمس عشرة فرقة كما يقول القمي، حتى أن بعضهم قال إن الإمامة قد انقطعت، وكاد أن يكون موت الحسن بلا عقب نهاية الشيعة والتشيع حيث سقط عموده وهو (الإمام)، ولكن فكرة (غيبة الإمام) كانت هي القاعدة التي قام عليها كيان الشيعة بعد التصدع، وأمسكت بنيانه عن الانهيار. لهذا أصبح الإيمان بغيبة ابن للحسن العسكري هو المحور الذي تدور عليه عقائدهم ودان بذلك أكثر الشيعة بعد تخبط واضطراب لم يكن لهم من ملجأ إلا ذلك. (2)
كلام بليغ
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكميل بن زياد النخعي:
__________
(1) - ذكر الطبري في حوادث سنة 302 هـ أن رجلا ادعى - في زمن الخليفة المقتدر- أنه محمد بن الحسن العسكري بن علي بن موسى بن جعفر، فأمر الخليفة بإحضار مشايخ آل أبي طالب وعلي رأسهم نقيب الطالبين أحمد بن عبد الصمد المعروف بابن طومار فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن. وقد ضج بنو هاشم من دعوى هذا المدعي وقالوا: يجب أن يشهر هذا بين الناس ويعاقب أشد العقوبة. فحمل على جمل وشهر به في الجانبين يوم التروبة ويوم عرفة، ثم حبس في حبس المصريين بالجانب الغربي.
(2) - مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة. القسم الأول ص 350 وبيتا الشعر ص 357 وكلام الطبري في الحاشية من نفس الصفحة.(1/13)
يا كميل، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، ثم قال: إن ههنا لعلما - وأشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حملة لقد أصبت لقنا غير مأمون يستعمل الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه، أف لحامل حق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه. (1)
كثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) - في لسان العرب: التلقين التفهيم، وفلان لقن: سريع الفهم (ج 13 -مادة لقن )/ مختصر جامع العلم وفضله، ص 296.(1/14)
( وكل مؤمن لابد أن يكون مسلما، فإن الإيمان يستلزم الأعمال، وليس كل مسلم مؤمنا هذا الإيمان المطلق، لأن الاستسلام لله والعمل له لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص، وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق) . (1)
ماذا يعني الطعن في الصحابة
لا زالت مسامعنا وأعيننا تتألم مما تراه وتسمع من كلمات تطعن في خير القرون. وهذا الطعن إما صريحا لا مواربة فيه، أو مستترا بعبارات مجملة تروج على العوام، وتدمي قلب أهل العلم والإيمان. فالطاعن في الصحابة الكرام متهم في دينه، ساقط المروءة، وهو إلى الزندقة أقرب. ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت الحسام ينال منه. وكفى بهذا الطاعن أنه يرد ما دلت عليه النصوص القرآنية والنبوية، من الثناء عليهم وبيان فضلهم على من بعدهم، فماذا بعد تعديل الله لهم؟ وماذا بعد ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم؟!.
قال الشافعي: (هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا (2)
__________
(1) - الفتاوى 7/270-271.
(2) - الفتاوى 4/158.(1/15)
وقال أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم قدح في الرسول عليه السلام، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين.
وأيضا فهؤلاء الذين نقلوا القرآن ، والإسلام، وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره، فالقدح فيهم يوجب أن لا يوثق بما نقلوه من الدين...).
ثم قال: (والقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع كقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه" [التوبة: 100] وقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10].
وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأة فآزرة فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29] وقال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [الفتح: 18].
__________
(1) - كتاب الردود لبكر أبو زيد ص 400.(1/16)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة، والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة). (1)
مناظرة ابن عباس للحرورية
المناظرة سلاح ماض في دفع الشبهة، وقمع البدعة، وهي لا تكون إلا لفئة من الرجال أوتوا علما وفهما لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة لما عند الخصوم من الشبه وكيف الرد عليها، ولديهم من القوة على إقامة الحجج التي تلزم الخصم ولا يستطيع لها دفعا. ولا ينبغي لمن كانت بضاعته في العلم قليلة أن يناظر أهل البدع ونحوهم، وخصوصا إذا كان ذلك المبتدع أقوى منه حججا وأكثر علما، لكي لا يؤتى الإسلام من قِبَله.
وابن عباس رضي الله عنهما، له مناظرة مشهورة عند أهل العلم والنقل مع الحرورية الذين أرادوا الخروج على علي رضي الله عنه، ولقد ساقها ابن عبد البر في جامعه فكان مما جاء فيها:
__________
(1) - الفتاوى 4/429-430.(1/17)
( قالوا: ما جاء بك [يا ابن عباس]؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم؟ فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول: {بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 58] فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه. قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة. قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟. قالوا: ثلاثا. فقلت: ما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله. وقال الله: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57]. قال: قلت: هذه واحدة، وماذا أيضا؟ قال: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسباؤهم. قال: قلت: وماذا أيضا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
قال: قلت: أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟ قال: قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله فإن الله تعالى قال في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة: 95] وقال في المرأة وزوجها: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء: 35] فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فنشتدكم الله، أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين، وإصلاح ذات بينهم أفضل، أو في دم أرنب ثمن ربع درهم، وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى هذا أفضل. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: فأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم. أفتسبوا أمكم عائشة؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تترددون بين ضلالتين. أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.(1/18)
قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو".
قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين). (1)
كيف نتعامل مع العصاة؟
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: (واعلم أن الناس على ضربين:
أحدهما: من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها، لأن ذلك غيبة محرمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص، وفي ذلك قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} (النور: 19) والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه، أو اتهم به مما هو بريء منه، كما في قصة الإفك.
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائبا نادما، وأقر بحد ولم يفسره، ولم يستفسر، بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية، وكما لم يستفسر الذي قال: (أصبت حدا فأقمه علي). ومثل هذا لو أخذ بجريمته، ولم يبلغ الإمام بها، فإنه يشفع له حتى لا يبلغ الإمام. وفي مثله جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" خرجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة.
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله (المختصر ص 285- 286).(1/19)
والثاني: من كان مشتهرا بالمعاصي، معلنا بها، ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة، كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لتقام عليه الحدود، وصرح بذلك بعض أصحابنا، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنس إلى امرأة هذا، فان اعترفت فارجمها" وهـ ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ، ولو لم يبلغ السلطان بل يترك حتى يقام عليه الحد ليكشف ستره، ويرتدع به أمثاله) . (1)
تدافع الفتوى
التصدر للفتيا في سن مبكرة وقبل التأهل لذلك مزلق خطر، وشرر مستطر، يوقع صاحبه في مهاوي الردى - نسأل الله السلامة والعافية.
وكثير من مجالس الشببة فيها من أمثال هذا النوع، بل إن منهم من يفتي بالنوازل! وقد يفتي بأمر لو نزل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لجمع له أهل بدر!! ولكن هو حب الرياسة، وحب الظهور، وحب الشهرة، ولن يغني ذلك عنه من الله شيئا. وتدافع الفتوى مسلك غلب على أئمة الدين، فكل واحد منهم يود لو أن أخاه كفاه، وفي عصورنا المتأخرة ظهر عكس تدافع الفتوى، وهو التهافت على الفتوى. وإليك بعض أخبار سلفنا الصالح في ذلك:
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أراه قال : في المسجد- فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
__________
(1) - جامع العلوم والحكم 2/185-186.(1/20)
وعن معاوية بن أبي عياش، أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير، وعاصم ابن عمر. قال: فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها. فماذا تريان؟ فقال عبد الله بن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسلهم، ثم ائتنا فأخبرنا. فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة. فقال أبو هريرة: الواحد تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.
وقال سحنون: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير، فلم ألام على حبسي الجواب؟
وعن سفيان بن عيينة قال: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما. وقال ابن وهب: وأخبرنا موسى بن علي أنه سأل ابن شهاب عن شيء، فقال ابن شهاب: ما سمعت فيه بشيء وما نزل بنا.
وعن محمد بن سيرين قال: قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، وأمير لا يجد بدا، وأحمق متكلف. قال ابن سيرين: فأنا لست بأحد هذين، وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفا. (1)
علم الكلام طريق ا لحيرة
__________
(1) - جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 354- 356.(1/21)
الكتاب والسنة هما حبل الله المتين، من تمسك واعتصم بهما نجا، ومن قدم عليهما شيئا ضل وطغى. وأهل العقول المريضة (أهل الاستنارة) يقدمون عقولهم وفهمهم على دلالات الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح لها، ويردون فهم الصحابة رضوان الله عليهم، وفهم أئمة الدين لهذه النصوص ويقولون (نحن رجال وهم رجال)!!. ونقول لهم: أما قولكم نحن رجال وهم رجال، فكلامكم فيه حق وباطل، فالحق هو الاشتراك في جنس الذكورة، والباطل هو تقديم عقولكم وفهمكم على فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نزل القرآن بلغتهم، وكانوا على معرفة بأسباب نزوله، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه... إلخ. وهم -أيضا -أعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم منكم. وكذلك أئمة الدين "من بعدهم من سلفنا الصالح - لقرب عهدهم بعهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، ولما قام بهم من النصح لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، نقولا تبين حيرة أهل الكلام الذين قدموا عقولهم ومقاييسهم وخيالاتهم على الكتاب والسنة. فقال: وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك، إما عند الموت وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة ومعروفة...
هذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف، ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف (إلجام العوام عن علم ا لكلام).(1/22)
وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]، واقرأ في النفي {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، {ولا يحيطون به علما} [طه: 100]، {هل تعلم له سميا} [مريم: 65]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. وكان يتمثل كثيرا:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف، وكان يقول: (يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به)، وقال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي -أو قال -: عقيدة عجائز نيسابور).
وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: (أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم) وكان ينشد:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم(1/23)
[ثم قال شيخ الإسلام]: ولقد كان من أصول الإيمان: أن يثبت الله العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} [إبراهيم: 24 -27]. (1)
خروج المرأة
ينادي أنصار المرأة - زعموا - بضرورة نزول المرأة إلى ميدان العمل ومشاركة الرجل في تحمل أعباء المسئولية، ويقولون: إن نصف المجتمع معطل!! وهذا من أعظم ما طالعنا به أنصار المرأة-بل قل: أنصار (الشهوة) - وأعجب منه أنهم اكتشفوا سبب تأخرنا العلمي والتقني، وهو عدم مشاركة المرأة للرجل في خدمة المجتمع. وهذا - لعمر الله - سبب أوهى من بيت العنكبوت. بل إن هناك أمرا هاما يغض أنصار المرأة الطرف عنه، وهو ماذا جنت الدول الغربية - المتحضرة - من مشاركة المرأة للرجل في شتى ميادين الحياة؟ سؤال يعرف الإجابة عليه كل فرد من أنصار (الشهوة)!!
__________
(1) - الفتاوى (4/72 - 74).(1/24)
يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه: أن هذه الفكرة الكافرة، الخاطئة الخاسئة، المخالفة للحس والعقل، وللوحي السماوي وتشريع الخالق البارئ: من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين، فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأن الله جل وعلا، جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني، صلاحا لا يصلحه لها غيرها: كالحمل والوضع، والإرضاع وتربية الأولاد، وخدمة البيت، والقيام على شئونه: من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك. وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة وعفاف ومحافظة على الشرف والفضيلة والقيم الإنسانية لا تقل عن خدمة الرجل بالاكتساب.
فزعم أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم: أن المرأة لها من الحقوق فهي الخدمة خارج بيتها مثل ما للرجل، مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها، لا تقدر على مزاولة أي عمل فيه أي مشقة كما هو مشاهد. فإذا خرجت هي وزوجها بقيت خدمات البيت كلها ضائعة: من حفظ الأولاد الصغار، وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم، وتهيئة ا لأكل والشرب للرجل إذا جاء من عمله. فلو أجروا إنسانا يقوم مقامها، لتعطل ذلك الإنسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت المرأة فرارا منه، فعادت النتيجة في حافرتها على أن خروج المرأة وابتذالها فيه ضياع المروءة والدين، لأن المرأة متاع، هو خير متاع الدنيا، وهو أشد أمتعة الدنيا تعرضا للخيانة، لأن العين الخائنة إذا نظرت إلى شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكرا، فتعريضها لأن تكون مائدة للخونة فيها ما لا يخفى على أدنى عاقل.(1/25)
وكذلك إذا لمس شيئا من بدنها بدن خائن سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة الغريزة الإنسانية، ولاسيما إذا كان القلب فارغا من خشية الله تعالى، فاستغل نعمة ذلك البدن خيانة وغدرا. وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر واللمس يكون غالبا سببا لما هو شر منه، كما هو مشاهد بكثرة في البلاد التي تخلت عن تعاليم الإسلام، وتركت الصيانة، فصارت نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله، لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق، ومن كل سوء.
ودعوى الجهلة السفلة: أن دوام خروج النساء بادية الرؤوس والأعناق والمعاصم، والأذرع والسوق، ونحو ذلك - يذهب إثارة غرائز الرجال، لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس. حتى يزل الأرب منه بكثرة مزاولته، وهذا كما ترى. ولأن الدوام لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء؟ لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما، ولا تزال ملامسته لها، ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته، كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر. (1)
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
شعرا
وحيِّ على جناتِ عدنٍ فإنها منازلُك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سبَاكَ الكاشحون لأجل ذا وقفتَ على الأطلال تبكي المنازلا
وحيِّ على يوم المزيد بجنَّةِ الـ ـخلود فجُدْ بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رُسُوما دارساتٍ فما بها مقيلٌ وجاوزها فليست منازلا
رُسُوما عفت ينتابُها الخلق كم بها قتيلٌ وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنةً عنها على المنهج الذي عليه سرى وفدُ الأحبة آهلا
وقل ساعِدي يا نفسُ بالصبر ساعة فعند اللقاء ذا الكدُّ يصبح زائلا
فما هي إلا ساعةٌ ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا (2)
وصية
__________
(1) - أضواء البيان (ج 3/422-423) تفسير قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء).
(2) - زاد المعاد لابن القيم 3/75(1/26)
أوصى جعفر الصادق رحمه الله، ابنه موسى (الكاظم ) فقال:
يا بني: من قنع بما قسم له استغنى، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرا، ومن لم يرض بما قسم له اتهم الله في قضائه، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه، ومن كشف حجاب غيره انكشفت عورته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن داخل مداخل السوء اتهم.
يا بني: إياك أن تزري بالرجال فيزرى بك، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.
يا بني: قل الحق لك وعليك تستشار من بين أقربائك. كن للقرآن تاليا، وللإسلام فاشيا، وللمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا، ولمن قطعك واصلا، ولمن سكت عنك مبتدئا، ولمن سألك معطيا، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في القلوب. وإياك وعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف. إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه، فإن للجود معادن، وللمعادن أصولا، وللأصول فروعا، وللفرع ثمرا، ولا يطيب ثمر إلا بفرع، ولا فرع إلا بأصل، ولا أصل إلا بمعدن طيب. زر الأخيار ولا تزر الفجار فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها. (1)
لماذا اشتغل أهل الحديث بنقل مثالب أبي حنيفة؟
الإمام أبو حنيفة رحمه الله، إمام من أئمة الدين، له فضله وعلمه الذي لا ينكره إلا مكابر، ولكن اشتهر عنه أنه كان يرد أخبارا صحيحة بحجة أنها أخبار آحاد، ومن أجل هذا وغيره أكثر أهل الحديث وغيرهم من نقل سقطات أبي حنيفة وعد مثالبه.
يقول ابن عبد البر بعد كلامه على حديث (البيعان بالخيار):
__________
(1) - مناظرة للإمام جعفر الصادق تحقيق علي الشهيل ص 21-23.(1/27)
(وقد روي عن أبي حنيفة أنه كان يرد هذا الخبر باعتباره إياه على أصوله كسائر فعله في أخبار الآحاد، كان يعرضها على الأصول المجتمع عليها عنده، ويجتهد في قبولها أو ردها، فهذا أصله في أخبار الآحاد، وروي عنه أنه كان يقول في رد هذا الحديث: أرأيت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن أو قيد، كيف يفترقان؟ إذن فلا يصح بيع هؤلاء أبدا.
وهذا مما عيب به أبو حنيفة - وهو أكبر عيوبه، وأشد ذنوبه - عند أهل الحديث الناقلين لمثالبه، باعتراضه على الآثار الصحاح، ورده لها برأيه؟ وأما الإرجاء المنسوب إليه، فقد كان غيره فيه أدخل، وبه أقول؛ (و) لم يشتغل أهل الحديث من نقل مثالبه، ورواية سقطاته، مثل ما اشتغلوا به من مثالب أبي حنيفة؟ والعلة في ذلك ما ذكرت لك لا غير، وذلك ما وجدوا له من ترك السنن، وردها برأيه؛ أعني السنن المنقولة بأخبار العدول الآحاد الثقات، والله المستعان). (1)
الإقرار بربوبية الله عز وجل يستلزم توحيده بالعبادة
المشركون قديما وحديثا يعترفون لله عز وجل بربوبيته وخلقه وملكه، ومع ذلك فهم يشركون في عبادتهم مع الله، ويدعون ويرجون غيره، ويتقربون إلى أوليائهم وأوثانهم بالذبح وتقديم القرابين والنذور. وهذا منهم جحد لحق الله عليهم، وتنكب عن الصراط المستقيم. والقرآن الكريم كان يقرر هذه المسألة كثيرا - أعني أن ا لإقرار بربوبية الله عز وجل يستلزم - ولابد - توحيده بالعبادة.
__________
(1) - التمهيد 14/13-14.(1/28)
وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، كلام نفيس في ذلك. قال: "ويكثر في القرآن الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا، على وجوب توحيده في عبادته؛ ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير. فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده. ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ)(يونس: 31)؛ فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره بقوله: {فقل أفلا تتقون} (يونس: 133).
ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (المؤمنون: 84 - 85)، فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 89)".
[ثم قال بعد أن ساق جملة من الآيات]:
"والآيات بنحو هذا كثيرة جدا. ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع: أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار؛ لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة؛ نحو قوله تعالى: {أفي الله شك} (إبراهيم: 10)، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} (الأنعام: 164) وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار؛ لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار، لأنهم لا ينكرون الربوبية، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه". (1)
القدر سر الله
في مسألة القدر تفرق الناس إلى ثلاث طوائف أو فرق؛ ثنتان ضلت عن الطريق المستقيم، وواحدة هداها الله لإصابة الحق.
__________
(1) - أضواء البيان 3/411-414.(1/29)
فالمجبرة ومنهم الجهمية غلت في ذلك وقالت إن العباد مجبورون على أعمالهم وأن الله جبرهم على ذلك، وأنهم لا قدرة لهم ولا اختيار.
والفرقة الثانية: هم القدرية المجوسية ومنهم المعتزلة الذين قالوا بأن الإنسان خالق لأفعاله، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر. وهم سلكوا هذا المسلك لكي لا يقولوا شاء الله الكفر من الكافر، فوقعوا في شر مما فروا منه، فعلى قولهم هذا يلزم منه أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله!.
والقول الحق قول السلف أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، خيره وشره، وحلوه ومره، وأن العباد لهم قدرة ومشيئة ولكنها تابعة لمشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
يقرر هذا أبو محمد ابن قدامة المقدسي بقوله:
( من صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلائق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته... ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن أن لله الحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء: 165)، ونعلم أن الله ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحدا على معصيته، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا} (البقرة: 286)، وقال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 16)، وقال تعالى: {اليوم تجزئ كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم} (غافر: 17)، فدل على أن للعبد فعلا وكسبا، يجزئ على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره). أهـ.(1/30)
وينبغي أن يعلم أنه لا ينبغي التعمق والخوض في أسرار القدر، والسلف رحمهم الله كانوا ينهون عن ذلك. يقول الطحاوي في عقيدته:
(وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء: 23). فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) (1) .
شعرا
قال أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم:
ألا إننا كلنا بائد وأي بني آدم خالد
وبدؤهم كان من ربهم وكل إلى ربه عائد
فيا عجبا كيف يعصى الإ له أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد (2)
معاملة الخلق
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
( والسعادة في معاملة الخلق، أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفا من الله لا منهم. كما جاء في الأثر: "ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله) أي: لا تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفا من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما تذر بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه.
__________
(1) - قول ابن قدامة منقول من كتاب القضاء والقدر، للشيخ عبد الرحمن المحمود، ص 257، والطحاوي من شرح عقيدته لابن أبي العز 1/320
(2) - حاشية شرح العقيدة الطحاوية 1/46.(1/31)
وفي الحديث: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله أو تذمهم على ما لم يؤتك الله" فإن اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا، لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين. وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر، كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله فهو ا لمذموم). (1)
حكم قول العلماء بعضهم في بعض
قال ابن عبد البر رحمه الله، في جامعه:
عن عبد العزيز بن حازم قال: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يزه عليه، حتى كان هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من هو فوقه، ابتغاء أن ينقطع منه حتى يُريَ الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس...
وعن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة...
__________
(1) - الفتاوى 1/51، 52.(1/32)
قال أبو عمر: هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته بينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قال لبراءته من الغل الحسد والعداوة والمنافسة وسلامته من ذلك كله، فذلك يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر.
وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه، والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير منه في حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد، ومنه ما كان على جهة التأويل مما لا يلزم المقول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة توجبه، ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقاة السادة بعضهم في بعض، مما لا يوجب أن يلتفت فيهم إليه ولا يخرج عليه ما يوضح لك صحة ما ذكرناه. وبالله التوفيق.
عن مغيرة قال: قال حماد: لقيت عطاء وطاوسا ومجاهدا، فصبيانكم أعلم منهم بل صبيان صبيانكم. قال مغيرة: هذا بغي منه.
وعن الزهري قال: ما رأيت قوما أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة ولا رأيت قوما أشبه بالنصارى من السبئية. قال أحمد بن يونس يعني: الرافضة.(1/33)
قال أبو عمر: فهذا حماد بن أبي سليمان وهو فقيه الكوفة بعد النخعي القائم بفتواها وهو معلم أبي حنيفة، وهو الذي قال فيه إبراهيم النخعي حين قيل له: من نسأل بعدك؟ قال: حماد وقعد مقعده بعده، يقول في عطاء وطاوس ومجاهد وهم عند الجميع أرضى منه وأعلم بكتاب الله وسنة رسوله وأرضى منه حالا عند الناس وفوقه في كل حال ما ترى، ولم ينسب واحد منه إلى الإرجاء وقد نسب إليه حماد هذا وعيب به وعنه أخذه أبو حنيفة والله أعلم. وهذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام ما استثنى منهم أحدا وفيهم من جلة العلماء من لا خفاء بجلالته في الدين، وأظن ذلك والله أعلم لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء.
وعن الأعمش قال: ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئا.
قال أبو عمر: معاذ الله أن يكون الشعبي كذابا، بل هو إمام جليل والنخعي مثله جلالة وعلما ودينا، وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمذاني، حدثني الحارث وكان أحد الكذابين ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي، وتفضيله له على غيره، ومن هاهنا - والله أعلم - كذبه الشعبي، لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنه أول من أسلم، وتفضيل عمر رضي الله عنه.
وعن أيوب قال: قدم علينا عكرمة فلم يزل يحدثني حتى صرت بالمربد ثم قال: أيحسن حَسَنُكم مثل هذا.
قال أبو عمر: وقد علم الناس أن الحسن البصري يحسن أشياء لا يحسنها عكرمة وإن كان عكرمة مقدما عندهم في تفسير القرآن والسير. (1)
من كرامات التابعين
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله ( المختصر ص 338-343) مع تصرف بسير.(1/34)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني الذي ألقي في النار، فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال: تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة، فقال اتبعني، فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له: أتشهد أني رسول الله؟. قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله. ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره. وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت، وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها.
وتغيب الحسن البصري عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا.
وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه. فلما وصل إلى بيته قال: يا بني، خذ سرج الفرس فإنها عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا. وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة الليل فلما سلم قال له: اطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير.
وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره. (1)
الأحوال الشيطانية
__________
(1) - الفتاوى 11/279-281.(1/35)
هي الخوارق التي تحدث على أيدي الدجاجلة والمشعوذين وأضرابهم، وهي ليست كرامات بل هي أحوال شيطانية تعتريهم وتعينهم على إحداث مثل هذه الخوارق. وبين الكرامات والأحوال الشيطانية فروق عديدة، ولعل أشدها وضوحا قول يزيد البسطامي: ( لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي) اهـ.
[ومن هؤلاء] الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه. وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور.
وأمثال هؤلاء كثير مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يرى الناس رجالا وركبانا على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جنا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله، فسمى الله فطعنه فقتله. ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه، ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفات بثيابه ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج. (1)
العين حق
__________
(1) - الفتاوى 11/284- 286، قول يزيد البسطامي 11/466.(1/36)
في موطأ الإمام مالك رحمه الله، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار، فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد. قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، قال: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت عليه؟ إن العين حق، توضأ له". فتوضأ عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس.
قال أبو عمر: في هذا الحديث أن العين حق، وفيه أن العين إنما تكون من الإعجاب وربما الحسد. وفيه أن الرجل الصالح قد يكون عائنا، وأن هذا ليس من باب الصلاح ولا من باب الفسق في شيء. وفيه أن العائن لا ينفى كما زعم بعض الناس. وفيه أن التبريك لا يضر معه عين العائن، والتبريك قول القائل: اللهم بارك فيه، ونحو هذا. وقد قيل إن التبريك أن يقول:
تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه. وفيه دليل على أن العائن يجبر على الاغتسال للمعين.
[ثم قال:] ومما يدلك على أن صاحب العين إذا أعجبه شيء كان منه بقدر الله وقضاه، وأن العين ربما قتلت. كما قال صلى الله عليه وسلم: "علام يقتل أحدكم أخاه؟" ما رويناه عن الأصمعي أنه قال: رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه صوت شخبها، فقال: أيتهن هذه؟ قالوا: الفلانية لبقرة أخرى يورون عنها، فهلكتا جميعا: المورى بها، والمورى عنها. قال الأصمعي: وسمعته يقول: إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني.(1/37)
قال الأصمعي: وكان عندنا رجلان يعينان الناس، فمر أحدهم بحوض من حجارة، فقال: تالله ما رأيت كاليوم قط. فتطاير الحوض فرقتين، فأخذه أهله فضببوه بالحديد، فمر عليه ثانية فقال: وأبيك لعل ما أضررت أهلك فيك، فتطاير أربع فرق. قال: وأما الآخر فسمع صوت بول من وراء حائط، فقال: إنه لبن الشخب، فقالوا: إنه فلان. ابنك، قال: وانقطاع ظهراه، قالوا: أنه لا بأس عليه، قال: لا يبول بعدها أبدا. قال: فما بال حتى مات. (1)
كم من مريد للخير لن يصيبه
__________
(1) - التمهيد 13/68 - 71 بتصرف يسير.(1/38)
روى الدارمي في سننه قال: أخبرنا الحكم بن مبارك أخبرنا عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرا. قال: فما هو؟. فقال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول هللوا مائة فيهللون مائة، يقول سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن لكم أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. (1)
الأسماء قوالب للمعاني
__________
(1) - رواه الدارمي في سننه. (كتاب المقدمة).(1/39)
للأسماء تأثير في المسمى سلبا وإيجابا، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء القبيحة والمنهي عن التسمي بها؛ فغير اسم برة إلى زينب وقال: "لا تزكوا أنفسكم والله أعلم بالبر منكم" وغير اسم حزن إلى سهل، وغير اسم عاصية إلى جميلة... وغيرها كثير. وتغيير النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأسماء بأفضل منها يدل على أن هناك ارتباطا وتلازما بين الاسم والمسمى.
قال ابن قيم الجوزية: ( لما كانت الأسماء قوالب للمعاني، دالة عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثُّر عن أسمائها في الحسن والقبح، والخفة والثقل، واللطافة والكثافة، كما قيل:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
وكان صلى الله عليه وسلم يستحب الاسم الحسن، وأمر إذا أبردوا إليه بريدا أن يكون حسن الاسم حسن الوجه، وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، كما رأى أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع، فأُتوا برطب من رطب ابن طاب، فأوله بأن لهم الرفعة في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن الدين الذي اختاره الله لهم قد أرطب وطاب، وتأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجيء سهيل بن عمرو إليه.
وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجل يحلبها، فقال: "ما اسمك؟ قال: مرة، قال : اجلس، فقام آخر فقال: ما اسمك؟ قال: أظنه حرب، فقال: اجلس، فقام آخر فقال: ما اسمك؟ فقال: يعيش، فقال: احلبها".
وكان يكره الأمكنة المنكرة الأسماء، ويكره العبور فيها، كما مرّ في بعض غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما فقالوا: فاضخ ومخز، فعدل عنهما ولم يجز بينهما.(1/40)
ولما كان بين الأسماء والمسميات من الارتباط والتناسب والقرابة، ما بين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بين الأرواح والأجسام، عبر العقل من كل منهما إلى الآخر، كما كان إياس بن معاوية وغيره يرى الشخص، فيقول: ينبغي أن يكون اسمه كيت وكيت، فلا يكاد يخطئ، وضد هذا العبور من الاسم إلى مسماه، كما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رجلا عن اسمه، فقال: جمرة، فقال: واسم أبيك؟ قال: شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: فمنزلك؟ قال: بحرة النار، قال: فأين مسكنك؟ قال: بذات لظى، قال: اذهب فقد احترق مسكنك، فذهب فوجد الأمر كذلك. فعبر عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها، كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم من اسم سهيل إلى سهولة أمرهم يوم الحديبية، فكان الأمر كذلك، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنهم يدعون يوم القيامة بها، وفي هذا - والله أعلم -تنبيه على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسن، والوصف المناسب له. (1)
حكمة نافعة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (رضى الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه، فلا تعانه، فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور) . (2)
لا رأي ولا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان من هدي السلف رضوان الله عليهم أنهم يقفون عند كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا يقدمون عليها رأيا أو قولا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب: 36).
__________
(1) - زاد المعاد 2/336، 338.
(2) - شرح العقيدة الطحاوية 2/349.(1/41)
وتواترت الأخبار عن الصحب - رضوان الله عليهم - بذلك؛ فكم حكموا في نازلة برأيهم، ثم استبانت لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرموا برأيهم ورأي أكابرهم وراءهم ظهريا. ولله در ابن عباس عندما قال لإخوانه الذين قالوا إن أبا بكر وعمر لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل. فقال لهم: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟.
فشاهت وجوه قدمت رأيها أو قول شيوخها، على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان ذاك عند الشيوخ الأعلام كأحمد ومالك وأبي حنيفة والشافعي، إنما حدث ذلك في الأتباع، وأولئك منه براء.
قال البخاري رحمه الله: (سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجل، فسأله مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على وسطي زنارا؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟!).
وقال ابن أبي العز: (حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: "أي الإسلام أفضل؟" إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: بم أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) . (1)
تم الكتاب ولله الحمد والمنة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين
__________
(1) - الزنار: هو شيء يشد به الوسط، وهو مما كان يتخذه النصارى في لبسهم. النقل من شرح الطحاوية ( ج 2 / قصة الشافعي ص 494، وقصة أبي حنيفة ص 500).(1/42)