صُنُوْفُ الجَهْلَةِ
تأليف
أبي يزن حمزة بن فايع الفتحي
إمام وخطيب جامع الملك فهد بمحايل عسير
تنفيذ وإخراج الصفية للدعاية والإعلان
بسم الله الرحمن الرحيم
…الحمد لله حمدا كثيرا طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . ………أما بعد :
فيقول الله تعالى ? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ( ( محمد : آية 19)
ويقول : ? وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ( ( سورة آل عمران :آية 79)
فلا تزال الساحة العلمية تئن من ولوج الدخلاء ، وتطفلّ الجهلاء، وفهاهة السفهاء ، التي ما برحت تنتهي رغم انبلاج العلم ولجلجلة الجهل، وفي زمان سطوع المعرفة وانطماس الجهالة، إلا أن الجهالة تأبى وتتأبى إلا أن تغرس لها صنوفاً، تستعملهم في خدمتها ،وتزيد من شيوعهم وتقوم على دعمهم ونصرتهم .
…فها هو العلم الشرعي يستشرف له من ليس أهلا له ،ومن حفظ شيئا ، أو قرأ كتابا أو كتابين!! وها هي الدعوة ينبري لها من قلًّ علمه، وانحسر فكره وتلكم الدروس يعقدها من قل سنه ، وهانت خبرته، ولم تنضج آلته!!.
ورأينا من يتطاول على الأشياخ، وينتقد الفضلاء، وهو لا يزال قليل البضاعة، هين الصناعة، لم يرتقِ لمنازل الفقه، أو يدان مباهج الإتقان، حقا كما قالت العرب : ( عِشْ
رجباً ترَ عجبا ).
لقد أضحينا في زمن تعاظم دخَنه ، واستشرى دخله وخلله ، وغلب شره على خيره ، وتلطخ العلم الشرعى بسهام الجاهلين، وبات التأليف سوقا رائجة على أي وجه كان!! وذا هو المصاب الأعظم ، والبلاء الأنكى !
حفظنا من قديم أبياتاً رائقة للشيخ الفاضل، والإمام النابه، أبي الحسن الفالي رحمه الله، حيث يقول:
تصدر للتدريس كل مهوس
جهول تسمى بالفقيه المدرسِ
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا
ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ(1/1)
يا عجبا ازدهى الحَجر المالي ، وغاب الحجر الفكري والعلمي من طوائف استرزقت بالعلم واستمكنت بالدعوة والتدريس ، شكلاً لا مضمونا، وتألقت بالوثائق، وهي مجردة من الحقائق ، جانبتها الأصول ، وحُرمت من المنقول والمعقول ثم إنها تنزل أنفسها غير منازلها، وتأتي البيوت من غير أبوابها.
ورغم الشر والخطر ، إلا أن للدين أهله، وللعلم فرسانه ، وللدعوة أقطابها ، وللتأليف صُنّاعه ، ولا تخلو الأرض من قائمين لله بحجج ، وذابيّن عن دعوته ببراهين ، ينفون عنها تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، غير مبالين بسطوة ظالم ولا حقد ناقم ، ولا سخافة جاهل ، والميدان الفكري محل اختبار وتمحيص لأدعياء العلم، وزنماء المعرفة، والبلاء موكل بالمنطق ، والفضيحة قرينة التدريس.
والعلماء الراسخون هم أقمار الحياة ، وشموس الدجى، ولا يزالون يُبحرون فى عُباب الحياة ، تجلية ، وتربية ، وتنقية ، يجلون دين الله للعوام ، ويربون الناس و الشباب على شرف العلم ، ومحاسن الخصال ، وينقون الشريعة، من جهل الجاهلين ، واعتداء الأفاكين، ومن ظنون الخراصين .
فيالله كم هي سوأة ! التصدر قبل التأهل والتعليم قبل التأصيل، والتذكير قبل التوجيه ، والتعقب قبل التفهم ، والانتقاد قبل التعلم والاستفاد !!
غير متفكرين في جراحات العاقبة ، ونكايات الخاتمة ، والتي تُجهم الوجوه، وتفسد الألسن، وتكدر الأنفس، أم أن نفوسا استدبغت البلاء ، وشبت عن السقام ، وانعدمت منها الأحاسيس ، وامسخت منها المشاعر، فالمقصود الشهرة العمياء والغرور الطاغي ، الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور) أخرجاه .
وقد قيل :
فدع عنك الكتابة لست منها
ولو سودت وجهك بالمدادِ
وقيل :
فلو لبس الحمار ثياب خزٍ …
لقال الناس يا لك من حمارِ(1/2)
رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه ، ووضع بها موضعها،واختار لها سكنها ، وأعطى القوس باريها.
وإذا تمنى مطلوبا، أو تشوف مرغوبا، جدّ له وتفانى في طلبه،حرصاً وبذلا وسخاء .
فمن رغب العلم وعمقه ، ضبط المختصرات ، ولازم الشيوخ ، وجرَد المطولات، ونظر، وحقق، ودقق ، ولم يكتف باليسير ، أو يظن الوصول .
بل كما قال ابن المبارك رحمه الله :
( لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ) .
حتى تبلغ النفس مبلغها ، فيزكي الشيوخ ، ويذعن الأقران. عندها، تؤسس الحلقات ، وتصنف الكتب، ويفيد ، ويقرر ، ويفتي ، ليس الذي طلب العلم شهراً ، أو قرأ شيئا من القرآن ، ظن أن حاز المطالب ، واجتنى الرغائب !! كلا إن الطريق طويل والمسئولية عظيمة ، ولكنها لذيذة ممتعة لمن أدرك حلاوتها ، وأصاب لذاذتها .
كما قال أبو إسحاق إلاليبري رحمه الله :
فلو قد ذقت من حلواة طعما…
………لآثرت التعلم واجتهدتا
فقوت الروح أرواح المعاني …
وليس بأن طعمت ولا شربتا
ونفس القول فيمن سلخ عمره للدعوة ، وتربية الناس، لابد له من علم بأصول الدعوة، وفقهها ، وما ينبغى أن يحمله الداعية إلى الله من آداب وشمائل ، ويتحصن بثقافة شرعية ، وفكرية ، يواجه بها شبهات الخصوم واتهامات الأعداء ، إذ ليست الدعوة مناخا لكل من هبَّ ودبَّ فالله يقول :
? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ( [يوسف:108]
والحذر الحذر من حب الصيت ، وطلب التجمع، وعشق الاستكثار ، فإنها من غوائل الطريق، يستطيبها من قل علمه ، وهانت تربيته، ولم يعرف معاني الدعوة ، ولا أدرك مغازيها . ومن صغار الدعاة من يتطاول على معلميه ، وينتقد مربيه، الذين شابت لحاهم في الإسلام ، وعرفتهم الأيام ،ونفع الله بهم منافع يانعة، ومحاسن باهرة ، لكن حبك الشىء يعمي ويصم، ومن هؤلاء من ينظر جهلا، ويدقق سفها ، ويجادل باطلا، ويعاند عمى،
والله المستعان .(1/3)
ومع خطورة الموضوع ، ووحشة القضية ، إلا أنه لا يخلو من ظرافة ولطافة ، إذ عاَلم الجهلة محل تنكيت أهل العلم ، ولا تزال أخبارهم تروى للإيناس والإنعاش .
ومن ذلك قول المتفقه الذي قيل له: إذا سئلت عن مسألة فقل : فيها قولان :
فقيل له : أفي الله شك ؟ ! فأجاب بالمذكور ، جهلا وحماقة !!
وآخر متعالم لحظ عليه أقرانه أنه ( كأبي العُرّيف ) يتكلم في كل فن ، فنسجوا له كلمة ( الخنفشار ) فقال بديهة : هو نبت طيب الرائحة، يوجد في بلاد اليمن إذا أكلته الإبل عقد لبنها ، قال الشاعر اليماني .
لقد عقد محبتكم فؤادي
……كما عقد الحليب الخنفشار
وقال داود الأنطاكي في تذكرته ....
وقال النبى صلى الله عليه وسلم ... أراد الكذب على رسول الله ... فاستيقن زملاؤه كذبه فأوقفوه وخصموه .
وآخر : لما سئل : هل تقصر صلاة المغرب
في السفر؟
قال : نعم ثبت ذلك من حديث جابر في مسند الفردوس ، فرجعوا للمسند المذكور فلم يجدوا الحديث، فعادوا إليه ، فقال: مسند الفردوس ، له ثلاث نسخ ، والحديث موجود في الكبرى، ولا يوجد في بلادنا إلا الصغرى والوسطى، وهكذا يحاول الجهال والمتعالمون الفرار من الحقيقة, والتزيد في الكلام, وادعاء المغلوط, والافتراء أحيانا ، حتى يصير ذلك دأبهم ومسلكهم .
ومن الكذب قول بعضهم: قرأت ، وحفظت،
ولا زمت الشيخ الفلانى ... ، وقرأت على المحدث الرباني ، وحرره شيخنا ... معلنًا التلمذة علي رجل ما رآه ولا جالسه ولا تخرج على يديه .
المهم هنا أن هذه القضية تعج بها مجالسنا وحياتنا الفكرية، ولم تخل حياة الصحوة الإسلامية من هذه الأدواء المكدرة ، وتلك الأسقام المزعجة ، ففاضت القريحة هنا بمنظومة لطيفة تكشف (صنوف الجهلة) وشيئا من أحوالهم وصفاتهم ، معلقا على الأبيات بالكاشف المبين ، والموضح الرصين ، الذي يعرب إعجام المعاني وخفاء غموض المباني .
والله الموفق والهادى إلى سواء السبيل
وكتب حمزة بن فايع الفتحى
القاهرة(1/4)
مساء الأحد 17/1/1426هـ
26/2/2005 م
نص المنظومة
يا سائلي عن نكَد الحياةِ
ونابذي الأعلام والدعاةِ
وجاعلي عقولهم أنوارا
يعدلّون الناس والأخيارا .
نظرتُهم من زمن بعيدٍ
بالفحص والأناة والتحديدٍ
فلم أر بعد هدوء البالٍ
غير وبالٍ السادة الجهالِ
وإنهم في دهرنا أصنافُ
يعلوهم الٍعي والاعتسافُ
جاءوا إلى دويرة العلومِ
من غير تحقيق ولا فهومٍِ
ظنوا ربى الأعلام والأبرارٍ
كساحة القدور والخضارٍ
يدخلها الشريف والوضيعُ
والعالم النبيه والرقيعُ
كلامهم خالٍ من المفيدٍ
ورأيهم يمضي بلا تسديدٍ
فمنهم المتعالم الكبيرُ
والجاهل المضحكُ والمثيرُ
يجادل الأعلام والكبارا
ويمتطي العناد والإصرارا
مكلم فى سائر الفنونٍ
بالمين والتفليس والظنونِ
ومرتدٍ لأحسن الألفاظٍ
من منطق الأفذاذ والأيقاظٍ
كقوله : قلت وقد رآينا
وهذا ما عندي وقد أفتينا
ثم إذا خضت به العميقا
عاد هزيلاً هينّا دقيقا
ليس له فهم ولا إتقانُ
وإنما التهريجُ والبهتانُ
لأنه من جهل الأفاكُ
تؤمه الأنكاد والأشواك
>
ومنهم الجويهل الطبيعي
مردد للجهل كالمذيعٍ
يخلط الأمور والمسائلا
وينقد الأحداث والنوازلا
لا يرجع الحق إلى نصابه
ولا يسُيل الماءَ من ميزابه
كالنبل والشيوخ والأفهام
وبارعي الأمور والأحكامِ
ومنهم الهاذى بلا معارف
والعاري في الناس بلا معاطف
مزخرف الكلام والإنشاءِ
وناشر الهباء والغثاء ِ
وربما كان من الوعاظ
عديمي الإتقان واللحاظ
ومنهم الناقد باستعجالِ
دون تأمل ولا إمهالِ
يفرح بالنقد وبالتعقيبِ
دون تأكد ولا تدريبِ
يهمه التعليق والتذييلُ
ولفظه المجوّف الثقيلُ
ومنهم معنِّفُ الأشياخِ
وناكر الجميل والتآخىِ
كان من السؤاَل والطلاب
وحاملي الدواة والكتابِ
وبعد أن تم له المرادُ
علاه ذا الغرور والفسادُ
وليته كان على تأصيلِ
لكنه ماضٍ بلا دليلِ
منيته الوثيقة الغراءُ
والعلم والفقه منه براءُ
ومنهم الوالج في التحقيقِ
من غير تدريب ولا تدقيقِ
حققه علقه الدكتور(1/5)
والنص والبيان ذا يبورُ
معلق في واد دون وادي
ويجهل الإفصاح للمرادِ
لا يحسن التحرير والمقارنةْ
وهمه الإخراجُ والمعاينةْ
ومنهم الشغوف بالتأليفِ
وراغب الترقيم والتصنيفِ
مكرر للكتب السوالفِ
وسارق للكتب اللطائفِ
ألفاظه تعرو عن الإتقانِ
وفكره آت بلا معانِ
لا عمق لا فهم ولا تجديدُ
وإنما التكرار والتقليدُ
وحينها لا تنفع الأسفارُ
لأن ذا العلم بها يُضار
ومنهم مؤسس الدروسِ
وواعظ الأرواح والنفوسِ
قبل امتلاك الفهم والإتقان
ونصح ذاك العالم النبهاب
وإنما اعتراه ذا الظهورُ
وهزّه المرموق والمشهورُ
فاْنماع َفي الشهرة والتقليد
دون تمكن ولا تجويدِ
وذا هو المصاب والبلاءُ
والآفة الضراء والبأساءُ
ومنهم من يحفظ القليلا
ويصحبُ العالم والجليلا
ويدّعِيِ بعد مضِي شهرِ
بأنه أمهر أهل مصرِ
حديثه نزر من الآثارِ
وفقهه عار من الأسرارِِ
لا يحسن الأصول والقواعدَ
ويجهل العيون والفرائد َ
ومنهمُ المانع للحوارِ
ورافض النقاش والنظارِ
يخشى من الإفحام والتعقيبِ
وكشف ذا التقصير والمعيبِ
مع أنه يجني بذا الحوارِ
روائع الكلام والأفكارِ
إذ تلتقي العقول والأفهامُ
ويزدهي البيان والكلامُ
ويختفى الإملال والمنامُ
ويظهر الإنباه والقيامُ
كذا يضيق الخُلف والخصامُ
>
ويدنو ذا البون والانتقامُ
وإنه من منهج الرسولِ
وسائر الأعلام والفضولِ
ومنهم المفتيّ في الإسلامِ
في تلكم الصغار والعظامِ
أربى على (ابن رشد) و(الغزالي)
و(المقدسي) السامي و(الكمال)ِ
لم يضبط الفقه ولا الأصولا
ولا وعىَ النصوص والنقولا
وهذه بليةُ الزمان
في معشر الطلاب والشبانِ
وإنه َسقام هذي الصحوةِ
ومنبع السوء وكل شقوةِ
الشرح
يا سائلي عند نكد الحياة …
…ونابذي الأعلام والدعاة(1/6)
…استهل الناظم نظمه بسؤال طرح عليه : ما الذي ينكد الحياة، ويكدر صفوها، وينابذ أعلام الأمة، ودعاة الشريعة، ويجعلون من أنفسهم ( أنواراً تضِيء الظلمات، وتكشف الشبهات ولا ينفكون عن مسلك التعديل والتصنيف للناس ) .
نظرتهم من زمن بعيد …
…بالفحص والأناة والتحديد
فلم أر بعد هدوء البال
……غير وبال السادة الجهالِ
يقدم الناظم لجوابه : بأنه نظر وتأمل من زمان بعيد، وكان في ذلك فاحصاً متأنيا، فلم يجد بعد طول الفكر، وعمق النظر ، إلا السادة الجهال فهم نكد الحياة ، ومحل معاداة أهل العلم والدعوة .
وسماهم ( سادة ) من باب المشاكلة ، لأنهم يجعلون من أنفسهم سادة في العلم والفكر والبيان .
وإنهم فى دهرنا أصنافُ ……
يعلوهم العي والاعتسافُ
جاءوا إلى دويرة العلوم
……من غير تحقيق ولا فهوم
شرع الآن في بيان صنوفهم وصفاتهم، وأفاد أنه غالبا يعلوهم العي والاعتساف، أي الجهل والعنت ، فلا سيل لإقناعهم وإفهامهم كما قد قيل :
وإنَّ عناء أن تفهم جاهلاً
……ويحسب جهلا أنه منك أفهمُ
ومن غريب شأنهم : أنهم حضروا إلى مجالات العلوم بغير عدة ، ولا تأهل ولا استعداد حيث قال : جاءوا إلى دويرة العلوم من غير تحقيق ولا فهوم .
وسماها ( دويرة ) مصغرا من باب التعظيم وليس التحقير ، كما هو معلوم من الأغراض :
ظنوا ربي الأعلام والأبرار …
…كساحة القدور والخضار
أى ولجوا هذه المجالات السامية، ظنوها كأي ساحة من الساحات ، كساحة بيع القدور والخضار ، التى يدخلها سائر الناس ، وهذا جهل كبير وخطأ فادح، ينبيء عن عدم إجلال مجالس العلماء ودويرة الفقهاء .
يدخلها الشريف والوضيع …
……والعالم النبيه والرقيع
أى ساحات الباعة والتسوق يؤمها سائر الناس من شرفاء ووضعاء، وعلماء وفقهاء أما ساحة العلماء ، فلا ينبغي ولوجها إلا لأهلها ، ومن تشوف لها ، عليه بامتلاك العدة، وتحصيل الأدوات والله الموفق .
كلامهم خال من المفيد
……ورأيهم يمضي بلا تسديد(1/7)
أي أن هؤلاء الجهلة إن تكلموا جانبتهم الفائدة، وخرج كلامهم غثاً لا قيمة له، ولا ثمرة فيه .
…كذلك آراؤهم تمضي بلا حِذق ولا سداد، لأنها تفتقر إلى العلم والخبرة والجودة .
فمنهم المتعالم الكبير …
……والجاهل المضحك والمثير
يجادل الأعلام والكبار …
……ويمتطيى العناد والإصرار
متكلم فى سائر الفنون
……بالمين والتفليس والظنون
ومرتد لأحسن الألفاظ
………من منطق الأفذاذ والألفاظِ
كقوله قلت وقد رأ ينا
………وهذا ما عندي وقد أفتينا
هذا هو الصنف الأول :
وهو المتعالم الكبير ، من تعالى: إذا ادعى العلم وهو لا يملكه، وطروحاته تثير الضحك والضيق والاشمئزاز.
ولا ينتهي عن مجادلة الأعلام الكبار ، وإذا نُِصُح وسُدد، التزم العناد والمكابرة، وأصر على الخطأ والجهالة .
ومن صور تعالمه : تحدثه في سائر الفنون يحفظ مسألة من الفقه، وأخرى فى الحديث. وأخرى فى التفسير ، وتلك فى السياسة، ويتنمر بها فى المجالس ، مظهرا سعته وشموليته ، فيا قبحها من سعة مزيفة ،وشمولية متوهمة!!
وهذه الشمولية المتوهمة لا تكاد تدوم له، إلا إذا عضدها باليمين المفتعل والإفلاس الفاضح، والظنون الفارغة، وهي بضاعة المتعالمين، وقانا الله وإياكم شرهم.
ومن صور تعالمه أيضا : تقمصه لزي الفضلاء بعباراتهم الرائقة، وكلماتهم الباهرة التي أتت عن رسوخ وصدارة وعلم ومهارة، ولا يستعملونها إلا بعد الِمراس الطويل والخبرة المستديمة كقول الحفاظ المتقنين:
(قلت) و(عندي ) و ( رآينا ) (وقد آفتينا) بذلك ونظائرها
لكن أن يأتى فسل مهين، ولا يزال في أوائل الطلب، يتكثر بها، فتلك بلية عمياء ، وروح خرقاء ، وفيهم قال الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله .
يقولون هذا عندنا غير جائزِ فمن أنتم حتى يكون لكم عندُ ؟!
ثم إذا خضت به العميقا …
عاد هزيلا هينا دقيقا
ليس له فهم ولا إتقان
…وإنما التهريج والبهتان
لأنه من جهله الأفاكُ …
…تؤمه الأنكاد والأشواك(1/8)
أي هذا المتعالم الجاهل، إذا خضتَ به عميق المسائل ، وبطون الأسفار ، بان لك جهله الواضح، وإفلاسه التام، وانكشف هزيل المعلومة، هيّن الثقافة ، دقيق الخبرة من الدقة الضعف وليس
العمق والفهم .
وليس لديه علم ولا إتقان، وإنما يكثر التهريج والافتراء ، إذا ينسب الكتب إلى غير أصحابها ويعزو المذاهب إلى غير أهلها ويخلط الأمور، ويفتري في التقرير، ولا يسلم الأفاك في المعارف من نكد الأشواك وشوك الأنكاد ، حيث يورط نفسه فى عميقات وينزلها مزالق مهلكات ، وهذه خاتمة الكذب، والإنعتاق من الأمانة العلمية والأدب الفكري والثقافي .
ومنهم الجويهل الطبيعي …
مردد للجهل كالمذيعِ
يخلط الأمور والمسائلا
…وينقد الأحداث والنوازلا
لا يرجع الحق إلى نصابه
…ولا يسيل الماء من ميزابه
كالنبل والشيوخ والأفهام
……وبارعي الأمور والأحكامِ
هذا هو الصنف الثانى :
وهو الجاهل الطبيعى، الذي يردد الجهالات
بلا تمييز، كتريدد بعض مذيعي التلفزة
بلا وعي وفهم.
وبسبب جهله تراه مخلطا للأمور ، مستعجلا للحديث في كبريات المسائل، والنوزل الشائكة .
ثم إنه إذا سئل، لا يعيد العلم إلى أهله، وقد عبر الناظم عنه بوضع الحق في نصابه وترك الماء يسيل من ميزابه ، إذ حينئذ تستقيم الأمور ،
وتصلح الحالات .
ومنهم الهاذي بلا معارف ……
والماشي في الناس بلا معاطفِ
مزخرف الكلام والإنشاء ِ
……وناشر الهباء والغثاء
وربما كان من الوعاظ
……عديمي الإتقان واللِحاظِ
- هذا هو الصنف الثالث : الهاذي المجرد من المعرفة، كثير الهذيان بلا معان، كالسائر في الناس بلا معاطف ، فيظن أنه عار من ضعفه العلمي ، وهزاله الفكري .
…ومع هذيانه، يحرص على زخرفة الكلام، ليغر سامعيه، لكنه في الحقيقة كالهباء، لا جودة، ولا عمق ولا إتقان .(1/9)
…وهذا المزخرف للكلام قد يكون واعظا أو خطيبا يحسن رصّ الكلمات ، وسوق العبارات ويُشكَر على دوره هذا ، لكن الفقه والتحقيق، ليس مجاله فعليه الإصغاء واحترام المختصين في ذلك .
ولستُ هنا أذم الوعاظ وجهودهم الدعوية، لكن آخذ على من تجاوز وعظه ، وصار يهذي في علوم الشريعة، ويخرج ويدقق، وهو لا يحسن هذه الفنون، وقد قيل :
( من تكلم من غير فنه أتى بالعجائب )
ومنهم الناقد باستعجالِ …
……دون تأمل ولا إمهالِ
يفرح بالنقد وبالتعقيبِ …
……دون تأكد ولا تدريبِ
يهمه التعليق والتذييل …
……ولفظه المجوف الثقيلُ
هذا هو الصنف الرابع :
النقاد المستعجلون :
وهو صورة من صور الجهل ، يستعجل أحدهم نقد الأفكار ، ورصد الأعمال دون تأمل وأناة ، وربما انتقد الفكرة ، قبل إمهال المتكلم من إتمامها .
…ولضعفه الفكري يفرح بانتقاد الإخوة ، حيث أصاب عثرة ، ووقع على نبوة.
…والمحصل: أن المهم لديه الإضافة والتعليق والتذييل على أي وجه كان ، ولو أبان ذلك ثقافته الجوفاء، وعباراته الثقيلات إذ هو مفتون بالكلام بلا استحياء وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) .
ومنهم معنف الأشياخ ……
…وناكر الجميل والتآخي
كان من السؤآل والطلاب
……وحاملي الدواة والكتاب
وبعد أن تم له المراد
………علاه ذا الغرور والفسادُ
- هذا هو الصنف الخامس :
معنف أشياخه وأساتذته :
علموه ودرسوه، ثم حصَّل شيئاً معيناً، فتنكر لهم وقلب ظهر المجنّ، وعاملهم كالأقران ، ناسياً جميلا أسدوه، وعلما بذلوه ، ومهملا لأخلاق السلف وآداب التلاميذ عبر الأزمان وقد قالوا ( من علمني حرفا صرت له عبدا ) .
ولما رأى سفيان صغيرا يتكلم أمام الشيوخ
أنكر ذلك وقال : لم يكن السلف على ذلك.(1/10)
والسبب في تغير ذلك الطالب، زهرة الدنيا ، وبريق المنصب ، ولوعة الشهرة، حيث لم تزك نفسه، ولم يتهذب علمه، وحُرم شرف ? قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( (سورة الشمس آية 9 ) وفاته شرف ( إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وفضيلة قول موسى عليه السلام لنبي الله الخضر ? هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ( (الكهف:66)
ويخشى على هذا الصنف من توالي ضغط الغرور، والكِبر القاصم للأنفس، والمفسد للعلوم والساحق لمحاسن الخصال ، وطيب الخلال وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم .
( إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد )
ثم يقول الناظم عفا الله عنه :
منيته الوثيقة الغراء
………والعلم والفقه منه براء
أسمى أمانى هذا الصنف، ليس حملان العلم وتبليغه ! وليس ارتداؤه والتحلي به !وليس حفظ الآثار وجمع المعلومات ! وليس الذب عن الشريعة ، ومقارعة الخصوم ، وليس الإضافة في التأليف وتقريب المعارف!!
وإنما أحلى أمنية عنده ، حيازة الوثيقة التعليمية الموصلة للمنصب ، والمبلغة للكرسي الفخم، والمسوغة لهطول كلمات الإجلال وألفاظ الثناء والتوقير، والله المستعان .
وليته كان مع هيامه بمظاهر الدنيا، صاحب تأصيل وبذل، وتخصص وإتقان، ولكن مع المؤسف ( طلاب مظاهر بلا علم ومفاخر ) .
ولا حول ولا قوة إلا بالله
ومنهم الوالج في التحقيق …
…من غير تدريب ولا تدقيقِ
حققه علقه الدكتور
……والنص والبيان ذا يبور
معلق في واد دون وادى
……ويجهل الإفصاح للمرادِ
لا يحسن التحرير والمقارنة
…وهمه الإخراج والمعاينة
- هذا هو الصنف السادس :
أدعياء التحقيق :
من يلجون إلى مواطن التحقيق دون سابق خبرة وتدريب ، فلا يعرفون أدوات التحقيق ويجهلون معالم النشر والتصحيح .
والمقصد لديهم تزويق الكتاب ونفخه , وتلوينه ثم بكتب عليه :
حققه ، وعلق عليه
د / .................(1/11)
…وإننا لننصح إخواننا العاملين فى مجال تحقيق ونشر كتب التراث، أن يتقوا الله تعالى، فثمة تحقيقات مشحونة بالأغاليط والعثرات، وتحقيقات ملونات بلا مضامين وآيات، وتحقيقات عرية هزيلات .
والمطلوب هنا :
1- تعلم أدوات التحقيق، ومعالم النشر .
2- التدريب وانضمام لمدرسة علمية رصينة .
3- الحذر من الهوس التجاري الذي ابتلي به كثيرون في هذا المجال،وجعلهم يخرجون كتباً ، ناقصة، هزيلة ، سقيمة .
4- قراءة رسالة في فن التحقيق ، ومطالعة مقدمات أساتيذ المحققين الذين بصماتهم على الكتب ظاهرة، وروائعهم بيننا باهرة .
ولإدراك جناية بعض المحققين على كتب التراث طالع إن شئت رسالة الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله
( الرقابة على التراث ) فهي مفيدة ماتعة ، ولكاتبه (مئوية التحقيق الفريدة) وشيكة الطبع.
ومن طوام بعض المحققين :
أن يشرح النص بما لا يكشفه، أو يعلق على أمر مغاير له، مما يدل على ضعف الخبرة، أوحب الانتهاء, وأيضا لا يحسن التمييز والمقارنة بين النسخ المجموعة من المخطوطة، وغاية همه نشر الكتاب في الوقت السريع , وغنم المال العريض الوسيع والله المستعان .
ومنهم الشغوف بالتأليف
…وراغب الترقيم والتصنيف
مكرر للكتب السوالف
…وسارق للكتب اللطائف
ألفاظه تعرو عن الإتقان
…وفكره آت بلا معاني
- هذا هو الصنف السابع :
الشغوف بالتأليف ، دون مراعاة التأليف ، ومقاصد التصنيف وهي كما ذكرها الشيخ صديق حسن خان وغيره كما في (أبجد العلوم 1/188) وأن كل عاقل ما ينبغي أن يخرج عنها، وهي ملخصة فيما يلي:
(1) إما اختراع جديد (2) أو ناقص يتممه (3) أو مغلق يشرحه (4) أو طويل يختصره (5) أو متفرق يجمعه (6) أو مختلط يرتبه (7) أو خطأ يصلحه ثم قال: (وينبغى لكل مؤلف فى كتاب في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد : استنباط شئ معضلا، أو جمعه إن كان مفرقا أو شرحه إن كان غامضا أو حسن نظم وتأليف أو إسقاط حشو وتطويل ) .(1/12)
لذا هذا الصنف تجده مكررا لكتب السابقين وسارق من كتب المعاصرين دون عزو أو إسناد ، وهذه خيانة علمية .
وإذا تأملت كتبه ونظرت مؤلفاته ، بان لك أنها عرية الإتقان ، عديمة الإمعان ، والمقصد الدرهم والدينار ، أو الصيت والاشتهار ، وهذه طامة غير مهينة ، وفي القديم سُرقت بعض كتب الحافظ السيوطي رحمه الله ، فصنف رسالته الشهيرة (الفارق بين المصنف والسارق ) . ولما افتضح بعض المعاصرين بسبب كثرة سرقاته ، نافح وحار واعتذر ، بأنه مسلك بعض المتقدمين حيث ينقلون بلا توثيق ، ولهذا وأمثاله نقول : (السياق كاشف والقلم فاضح ) والسلام .
قال الناظم عن كتبه :
لا عمق لا فهم ولا تجديد
……وإنما التكرار والتقليد
وحينها لا تنفع الأسفار …
…لأن ذا العلم بها يضارُ
…إذا لم تكن الكتب المنشورة ، فيها إضافة أو تجديد أو إيضاح في مجال المعرفة، فلا قيمة لها حينئذ وقد يكون ضررها أكبر على الساحة العلمية ومن هذا الضرر :
1- إلغاؤها للكتب الأصلية، التي استفادت منها دون الكشف والبيان.
2- تضخيم المكتبة الإسلامية دون فائدة ترتجى .
3- تبديد المال ، وإضاعة الأوقات.
4- انتهاؤها إلى سلة المهملات ، عندما يبين هوانها وهزالها.
ومنهم مؤسس الدروس …
…وواعظ الأرواح والنفوس
قبل امتلاك الفهم والإتقان
…ونصح ذاك العالم النبهان
وإنما اعتراه ذا الظهور
……وهزه المرموق والمشهور
- الصنف الثامن :
هو مؤسس الدروس قبل النضج والاكتمال، إذ تصدر قبل أن يصدّر وتقدم قبل أن يتأهل .
وقد قالوا ( من تصدر قبل أوانه ، فقد تصدى لهوانه )
أنشأ درس العقيدة ، ولم يفقه المذهب السلفي ولا أدرك خصومه، أو ذهب يشرح الحديث وهو لا يفقه كتب الشروح ، ولا عدة فك المعاني واستخراج الفوائد والأحكام.
أو ربما قام لموعظة الناس وترقيق قلوبهم ، دون بلوغ الغاية، ووصول المنزلة، وإنما يعرف ذلك بأمور منها :
1- ترشيح الأشياخ وتزكيتهم لك بالبروز وعقد المجالس .(1/13)
2- ظهور آيات الإمكان على الشخص .
3- تجاوز الامتحانات الصعبة، التي تعرض في مجال العلم والدعوة.
4- تقديم عقلاء الناس لك ، واختيارهم لعلمك ووعظك، ومع ذلك فلا بد من مزيد التريث والتأمل ، واللجوء إلى الله دعاء واستخارة ، أن يوفقك لكل خير وأن يصرف عنك كل شر وبلاء .
وسبب إقدام بعض الشباب على الاستعجال هو حب الظهور والبروز، وقد قالوا:
(حب الظهور قواصم الظهور )
وأيضا هزه مما للمرموق الفلاني من منزلة فسارع ليدركه ويصيب مثله .
قال الناظم بعد ذلك :
فانماع في الشهرة والتقليد ……
…دون تمكن ولا تجويد
…أي براه حب الشهرة ، ومحاكاة المشاهير علما ودعوة ، وَلكن - بكل ألم - كان ذلك منه قبل التمكن والإجادة .
وذا هو المصاب والبلاءُ
………والآفة الضراء والبأساء
ومنهم من يحفظ القليلا ……
ويصحب العالم والجليلا
ويدعي بعد مضي شهر
……بأنه أمهر أهل مصر
- هذا هو الصنف التاسع :
قليل المحفوظ
حيث يحفظ يسيراً من صحيح البخاري أو بلوغ المرام ، فيظن أنه بات ( محدثا ) أو ربما صحب عالما، أو سافر مع فقيه فاضل ، فاستثمر ذلك فى الترويج لسمعته ، وأنه اكتسب علم ذلك الشخص، أو قرأ عليه، أو جمع ما عنده وهلم جرا !
ثم ينبري مدعياً بأنه ( أفقه الناس ) .
وأمهر أهل المنطقة ، وإنما عبرنا بقولنا :
ويدعي بعد مضي شهر ……
…بأنه أمهر (أهل مصر)
لمكان وجودنا في مصر ، حيث كان تقييد هذه المنظومة وشرحها ، ومصر بلاد زاخرة بالعلماء والمفكرين قديما وحديثا ، ولا زالت حصباؤها تدر وتفيض ، رغم التحديات والبلاءات .
ثم قال الناظم موضحا علوم هذا الجاهل :
حديثه نزر من الآثار ……
…وفقهه عار من الأسرار
لا يحسن الأصول والقواعدا …
…ويجهل العيون والفرائدا(1/14)
والمعنى : أنه في الحديث يحفظ النزر اليسير وفي الفقه لا يرى عليه حذق الأسرار، ولا فهم آلية الاستنباط، لأن الفقه في الأصل هو الفهم والتفطن كما قال تعالى : ? فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ( ( النساء : 78 )
أى يفهمون الكلام ويدركونه
وفي صحيح البخارى من حديث معاوية رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) .
ومنهم المانع للحوار
…ورافض النقاش والنظارِ
يخشى من الإفحام والتعقيبِ
…وكشف ذا القصور والمعيبِ
- هذا هو الصنف العاشر :
مانع الحوار وقامعه
…والحوار الجاد من سمات العلماء والعقلاء ، وهو من مسلك الرسل والمصلحين وفي القرآن قال تعالى ? وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ( ( النحل125)
وقال تعالى? قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا (
( هود: 22)
ومن يقمع الحوار إنما يكشف عن مستوى علمه وضيق عطنه، لأن الحوار من وسائل الارتقاء الحضاري والسمو الفكري.
وذا لجهله يخشى من إفحام تلميذ، أو إضافة نجيب ، أو كشف خطأ وتقصير.
( والحوار الجاد ) أسمى من أن يكون محلا لجلب العثرات أو تصيد الزلات ، لأن الحوار عملية فكرية يقصد منها بلورة القضية المطروحة وتوسيع نطاقها، وإنضاج محاورها، وتضييق خلافاتها، وهو ينمي أوجه الائتلاف، ويقضي على أسباب الخلاف ، ويساعد من إثراء الثقافة وسموها، ويجلي الحقائق ويكشف الأخطاء ، وإنما يحلو ذلك تحت مظلة أدبية ذات خلق وفهم ومروءة، بعيدة عن السباب والشتائم.
كما قال تعالى ? وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ( [النحل:125]
وقال ? وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ( [الإسراء: 52]
فالكلمة الحسنة في الحوار، ثلاثة أمور :
1- علم صحيح.
2- أدب مليح.
3- ونقد رجيح
ثم قال الناظم مبيناً فوائد الحوار ومحاسنه:
مع أنه يجني بذا الحوار ……(1/15)
…روائع الكلام والأفكار
إذ تلتقي العقول والأفهام …
…ويزدهي البيان والكلام
ويختفي الإملال والمنام
………ويظهر الإنباه والقيام
كذا يضيق الخلف والخصام …
……ويدنو ذا البون والانتقام
ثم يعقب الناظم مقررا شرعية الحوار :
وإنه من منهج الرسول …
…وسائر الأعلام والفضول
أي كان ديدن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وتعليمه، كذا سار عليه الأئمة الفضول ، والأعلام العدول فى زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، حيث لا يخلو من أناس محاورين ومنصفين .
ومنهم المفتي في الإسلام
في تلكم الصغار والعظام أربى على ابن رشد والغزالي
…والمقدسي السامي والكمالِ
هذا هو الصنف الحادي عشر:
المتجريء على الفتيا
يفتي قبل بلوغ شرائط الفتوى ، ولا تحقيق أسبابها ، والحاجة إليها في الصغار والعظام، لا يستثني، ولا يتهيب ولا يخاف ..
ولقلة علمه ، وحبه للإجابة يجيب ويرد، وربما أصر على الخطأ ونأى عن الحق ، وأصر وعاند ، فهو لحبه للفتوى ، وتركه للاعتذار أو الإجابة
(بلا أدري) ، أو ( الله أعلم ) ، تجاوز فقهاء المذاهب الكبار ، فقد سما على عقلانية ابن رشد وثورة الغزالي ، وسعة ابن قدامة ، وتنظيم الكمال ابن الهمام الحنفي ، أولئك الرعيل الفاضل ، والذين لم تنِد عن ألسنتهم (لا أدري ) إذا فات العلم، أو حصل النسيان .
وقد صح عن أبي الدرداء رضي الله عنه :
( لا أدري نصف العلم )
وقالوا ( من ترك لا أدري أصيبت مقاتِله )
ثم قال الناظم :
لم يضبط الفقه ولا الأصولَ
……ولا وعى النصوص والنقولَ
وهذه بلية الزمان …
…في معشر الطلاب والشبانِ
هذا المتجرئ على الفتوى ليس مبرزا فى أصول الفقه ولا فهم الفقه والمذاهب ، كذلك لم يحفظ النصوص، ولا ضبط نقول أهل العلم في البحث والتقرير .
ولا ارتياب أن هذه بلية الزمان في الشباب والطلاب، الجرأة على الفتيا، والتوقيع على الله بغير علم، الذي هو من كبائر الذنوب ، بل أشنع
من الشرك .
كما قال بعضهم عن قوله تعالى :(1/16)
? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( [الأعراف: 22]
وإذا كان التوقيع عن الملوك والأمراء بالمقام العظيم، فمقام الله أولى أن يعظم ويصان كما نبه على ذلك ابن القيم فى كتابه الرائع (أعلام الموقعين) .
ثم ختم الناظم بقوله :
وإنه سقام هذي الصحوة…
…ومنبع السوء وكل شقوة
والمعنى : أن الجرأة على الفتوى من أسقام شباب الصحوة ، ويجب أن تعالج وتزال، وأن يكون هاجس الصحوة العلم، لا التخرص والجهل ، ولا ريب أن الجرأة على الفتوى له آثار سيئة منها :
1- تشوش القضايا الشرعية واضطرابها .
2- ظهور الجهلة والمتعالمين .
3- التطاول على مقامات العلماء .
4- الاستهانة بالدين وشرائعه .
5- تجرئة الصغار وأنصاف المثقفين على ذلك.
وهنا نوجه النصيحة لمشايخ الصحوة ومربي الشباب بتحذيريهم من هذا المسلك ، وإخضاعهم للبرامج العلمية ، التي تزيد من فقههم وثقافتهم ، مدة من الدهر ، ثم يجربون ويختبرون، حتى إذا مهروا وحفظوا ،وصاروا من العلم بمكان ، زكتهم مشايخهم وأقر لهم أساتذتهم، ثم اندمجوا في الناس علما وتوجيها وتسديدا .
والله الموفق والهادى إلى سواء السبيل
كان التعليق عليه في قاعة مناقشة الرسائل
جامعة القاهرة - كلية دار العلوم
الاثنين 18/ محرم / 1426 هـ
28 فبراير 2005 م
الفهرس
- مقدمة
1
- نص المنظومة .
12
- نكد الحياة .
20
- الصنف الأول : المتعالم الكبير .
24
- من صور تعالمه .
24
- الصنف الثانى : الجاهل الطبيعي .
27
- الصنف الثالث :الهاذي بلا معرفة .
28
- الصنف الرابع : النقاد المستعجلون .
30
- الصنف الخامس : معنف الأشياخ .
31
- الصنف السادس : أدعياء التحقيق .
35
- الصنف السابع : الشغوف بالتأليف .
37
- أضرار التأليف المكرر .
40(1/17)
- الصنف الثامن : مؤسس الدروس .
41
- علامات البروز .
41
- الصنف التاسع : قليل المحفوظ .
43
- الصنف العاشر : مانع الحوار .
46
- فوائد الحوار الجاد .
47
- الصنف الحادي عشر : المتجرئ على الفتوى .
50
- آثار الجرأة على الفتوى .
52
- الفهرس .
54
??
??
??
??(1/18)