صنائع المعروف تقي مصارع السوء
مصطفى شيخ إبراهيم حقي
الافتتاحية
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا» (أخرجه البخاري ومسلم).
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين سيدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:
فإن من فضل الله عز وجل علينا أن هدانا للإيمان، وأرشدنا للطريق المستقيم وأرسل إلينا خير رسله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل إلينا خير كتبه ومنَّ علينا بالاهتداء على شريعته، فله الحمد عز وجل، وله الفضل والمنة.
ولقد ابتلى الله الناس منذ بدء الخليقة، وابتلى الأنبياء وأولي العزم من الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وكان الله عز وجل يستجيب لهم، وينجيهم من المحن والضيق. فالإنسان ضيف ومرتحل. فعليك ـ يا عبد الله ـ أن تغتنم الأوقات ومواسم الخير قال - صلى الله عليه وسلم -: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (1).
ونحن مخيرون بين طريقين: إما إلى الخير وإما إلى الشر قال تعالى: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?(2).
والحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران.
قال أحد الحكماء: «لا تستهن بالمال فإن المال آلة المكارم، وعون على
الدهر، وقوة على الدين، ومتألف للإخوان. وفقد المال معه قلة الاكتراث من الناس، وتتبعه قلة الرغبة إليه والرهبة منه. ومن لم يكن بموضع رغبة أو رهبة استخف به الناس جدًّا».
__________
(1) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.(1/1)
أخي القارئ: إن المرء لن ينفعه في حياته الأبدية إلا ما قدمه من عمل صالح مصدقةٍ خالصةٍ لوجه الله. فما يؤخره المرء بعد موته إنما هو لورثته، وما يقدمه في وجوهه ابتغاء رضوان الله فهو لنفسه. من الحديث: «يقول ابن آدم: مالي، مالي، وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت».
فالصدقة الخالصة لوجه الله عز وجل هي الذخر الباقي الذي يدوم نفعه كما أخبرنا الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وذلك أن النفقة في سبيل الله سرًّا وعلانية هي التجارة التي لا تبور ولا تكسدُ ولا تخسر، وإنما هي ربح دائم: بركة في الدنيا: ?وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ?(1) ، ورحمةٌ ونعيمٌ في الآخرة.. ?إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ?(2).
فطوبى للأسخياء.. وطوبى للكرماء، الذين لا يبخلون بما آتاهم الله من فضله. ويرعون حقوق الأيتام والمساكين والأرامل والفقراء. فالسخي المنفق قريب إلى الله والبخيل الممسك بعيدٌ من رحمة الله.
أخي القارئ.. أختي القارئة: إن للصدقة سرًّا عجيبًا في دفع البلاء، قال ابن القيم ـ رحمه الله: «فإن الله يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به لأنهم جربوه».
فالسعادة كلها في طاعة الله، والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته. إن ربنا لغفور شكور؛ أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة. يطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصى فيحلم، ومعصية العبد من ظلمه وجهله.
__________
(1) سورة سبأ، الآية: 39.
(2) سورة فاطر، الآيتان: 29، 30.(1/2)
والله أسأل أن يجعل هذا العمل مباركًا نافعًا خالصًا لوجهه الكريم، فإنه سبحانه وتعالى خير مسؤول وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل. إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
أبو رفعة
عفا الله عنه وسدد خطاه
الرياض: 10/6/1427هـ
6/7/2006م
الابتلاء
الابتلاء في اللغة:
مأخوذ من الفعل ابتلى، ومجردة بَلاَ، فتقول بلاه بلوًا وبلاءً أي اختبره. ومنه قوله تعالى: ?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?(1) ، أي نختبركم. وابتلى اختبره، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ?وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ?(2) أي اختبره بها والمبتلي المختبر، ومنه قوله تعالى: ?إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي?(3).
والبلاء والأمر الجلل ينزله سبحانه بالموحد؛ ليتبين مدى صبره. ومنه قوله تعالى: ?إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ?(4). إشارة إلى تكليف الله عز وجل إبراهيم بأن يذبح ولده وبكره إسماعيل ـ عليهما السلام.
الابتلاء في الاصطلاح الشرعي:
بمعنى الاختبار، ويكون بالخير والشر، والابتلاء سُنّة من سنن الله جارية على حملة الدعوات منذ فجر التاريخ. وقد يكون صعبًا على النفوس. ولكن يرفع الله به درجة الأنبياء، ويمحو الله به خطايا الصالحين، والمؤمن يرجو ألا يتعرض
لبلاء الله وامتحانه، بل يتطلع إلى عافيته ورحمته، قال الله تعالى: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
__________
(1) سورة الأنبياء، الآية: 35.
(2) سورة البقرة، الآية: 124.
(3) سورة البقرة، الآية: 249.
(4) سورة الصافات، الآية: 106.(1/3)
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ?(1).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله عنه بها، حتى الشوكة يشاكها»(2).
وعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الرياح تفيئه، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصن»(3).
الصّدقة لغةً:
قال ابن منظور في كتابه (لسان العرب) صدّق عليه كتصدّق فعل في معنى تفعل، والصدقة ما تصدقت به على الفقراء. والصدقة ما أعطيته في ذات الله للفقراء، والمتصدّق الذي يعطي الصدقة. والصدقة ما تصدقت به على مسكين وقال أحمد عطية الله: في «القاموس الإسلامي» الصدقة بفتح الأول والثاني ما يعطى على وجه القربى لله دون إكراه. يقال: تصدّق أي أعطى الصدقة فهو مصدّق وجمع صدقة.. صدقات.
وهي من الألفاظ التي وردت بصيغتي الفرد والجمع في سبعة عشر موضعًا في القرآن الكريم. قال تعالى: ?لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ?(4).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 155 - 157.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم والترمذي.
(4) سورة النساء، الآية: 114.(1/4)
مما سبق يتضح أن الصدقة مشتقة من الصدق في القول والعمل؛ لأنها يجب أن تنبع من قلب مليء بالإيمان الصادق الذي أمن بوعد الله، وأداها طيبة بها نفسه، وصدق في قصده، وأخلص في نيته(1).
والصدقة أخي القارئ: غير الزكاة وغير الهبة والإحسان، إلا إذا كانت تقربًا لله وزلفى له، يجازي عليها، ولهذا ينبغي أن يتجنب المتصدّق المنّ بالصدقة، بمعنى أن يطلب الشكر ممن تصدق إليه قال تعالى: ?قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى?(2).
وقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ?(3). إذ إن الممتن بصدقته لا يرجو وجه الله، ولكن شكر الناس، وفي الحديث: «الكلمة الطيبة صدقة. وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق».
الصدقة في الاصطلاح الشرعي:
بمعنى العطية التي يُبتغى بها الثواب عند الله(4) فهي إخراج المال تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى. وهي سدُّ منيع بين المتصدق والسوء. ودافعةٌ لعظيم البلاء والشر، قال العلامة الأصفهاني: «الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على
وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوَّع به، والزكاة
__________
(1) الصدقات وأثرها على الفرد والمجتمع، إبراهيم بن محمد الضبيعي، ص1، باب مكانة الصدقة في التشريع الإسلامي، ط1، 1408هـ - 1988م.
(2) سورة البقرة، الآية: 263.
(3) سورة البقرة، الآية: 264.
(4) التعريفات للجرجاني، ص173.(1/5)
للواجب، وقد يُسمَّى الواجب صدقة إذا تحرَّى صاحبها الصدق في فعله»(1) وقد ذكر الله عز وجل الأصناف الثمانية في القرآن الكريم الذين تتوجب التصدق عليهم(2): قال تعالى: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ?(3).
1- الفقراء: وهم الذين يملكون أقل من النصاب، أو يملكون نصابًا مستغرقًا بالدين.
2- المساكين: وهم الذين لا يملكون شيئًا، ولا يستطيعون أن يكسبوا ما يكفيهم.
3- العاملون عليها: وهم الساعون في جمعها، وهؤلاء وإن كانوا أغنياء يعطون منها جزاء لعملهم.
4- والمؤلفة قلوبهم: وهم الذين كانوا قد دخلوا في الإسلام حديثًا لتقوية قلوبهم.
5- وفي الرقاب: وهم العبيد الذين لا سبيل إلى عتقهم، والأسرى.
6- الغارمون: وهم المدينون الذين يعجزون عن الوفاء بديونهم، ولو يكونوا قد اقترضوها إسرافًا وتبذيرًا.
7- وفي سبيل الله: وهو مصرف عام تحدده الدولة، ومنه تجهيز المجاهدين وعلاج المرضى، وتعليم العاجزين.
8- وابن السبيل: وهو الذي يكون في مكان لا يجد فيه المأوى والطعام، وله مال في وطنه، قد انقطع عنه، ومن واجبات المجتمع أن يحتضنه، ويتفقد أحواله، ويمد إليه يد العون والمساعدة.
* * *
الصدقة من البيان الإلهي
__________
(1) مفردات ألفاظ ألقرآن للأصفهاني، ص48.
(2) التصدق عليهم: أي الزكاة المستحقة على هؤلاء المذكورين في القرآن.
(3) سورة التوبة، الآية: 60.(1/6)
قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ?(1).
* الشرح(2):
أيها المؤمنون المتصدقون لا تذهبوا أجر صدقتكم على السائل بالمن عليه وإذلاله بالعطية أو الإساءة إليه بكلام غليظ أو فعل فظ، فيذهب وزر ما فعلتم بثواب ما أعطيتم، فيكون فعلكم فعل المنافق في ذهاب الأجر. فإن المرائي لا يريد الله بعمله، بل يطلب ثناء الناس والجاه لديهم؛ لأنه لا ينتظر الآخرة فيرجو ثوابها ويخاف عقابها، وإنما قصده الدنيا. فمثل هذا المرائي بنفقته كمثل حجر أملس عليه تراب قليل، نزل عليه مطر قوي فأذهب التراب، وأبقى الحجر فليس للغيث أثر. فالمنافق أظهر للناس الحسن كالتراب على الحجر، فلما بليت السرائر، وانكشفت الخوافي إذا هو مراءٍ. فأذهب الرياء أجره كما أذهب المطر التراب. فبقي محرومًا من الخير والأجر كالصخر لا نفع فيه ولا بركة، فالمنافق لا يجد ثمرة ما أعطى ولا نفع ما قدم؛ لأنه أنفق رياء فذهب عمله هباءً والمنافق كافر بربه في باطنه فكيف يهديه إلى السداد؟ وكيف يدله على الرشاد؛ لأن الله لا يهدي إلا تقيًّا ولا يرشد الكافر الشقي.
وقال تعالى: ? إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ?(3).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 264.
(2) التفسير الميسر للدكتور عائض القرني، ص73.
(3) سورة البقرة، الآية: 271.(1/7)
* الشرح(1):
إن أعلنتم صدقاتكم بلا رياء ولا سمعة ففعلٌ حسن وتصرفٌ جميل، لعله يقتدي بكم غيركم. وإن أسررتم الصدقة للفقراء فهو أفضل وأبعد عن الرياء والسمعة، وأسلم لحال من تصدقتم عليه. والله سبحانه سوف يمحو عنكم الذنب بالصدقة. لأنها تكفر الخطيئة. وهو تعالى خبير بالخفايا والسرائر، عالم بالنيات، يعلم من عمله ومن أظهره ومن أسر قوله ومن أعلنه.
وقال تعالى: ?يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ?(2).
الشرح(3):
والله سبحانه يذهب بركة الربا، ويجعل عاقبته إلى تلف وخسارة في المال والنفس؛ لأنه بُني على حرام. وبالمقابل يُنمي الله الصدقة ويبارك فيها، فالربا في الظاهر زيادة وهو نقصان، والصدقة في الظاهر تنقص المال وهى تزيده وتنميه، والله يكره المعاند لآياته، المعترض على شرعه، الذي تهتك في الحرمات، وأكثر
من المخالفات، وأعرض عن الثواب، فالكافر تارك للطاعة معرض عن الأمر، والأثيم ساقط في المعاصي مرتكب للنهي.
وقال تعالى: ? وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?(4).
الشرح(5):
إذا أُعسر المقترض فأمهلوه حتى ييسر الله له السداد، وإن أسقطتم بعض حقكم عنه فهذا أجمل وأحسن إذا علمتم أن الله سوف يجازي المحسن بإحسانه فيتجاوز عنه كما تجاوز عن المعسر.
__________
(1) انظر التفسير الميسر للدكتور عائض القرني، ص75، ط1، مكتبة العبيكان، 1427هـ - 2006م.
(2) سورة البقرة، الآية: 276.
(3) مصدر سابق، ص76.
(4) سورة البقرة، الآية: 280.
(5) مصدر سابق، ص76.(1/8)
وقال تعالى: ?لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا?(1).
الشرح(2):
أكثر الناس لا خير في كثير مما يسرونه ويتحدثون به بينهم، لكن من تحدث وأمر بصدقة في سبيل الله عز وجل، أو قال خيرًا ينفع نفسه وينفع غيره، أو أصلح بين المتخاصمين من المسلمين، وأراد بذلك وجه الله عز وجل، فالله سوف يأجره الأجر العظيم، وسوف يدّخر له الثواب الجزيل على حسن فعله وعظيم أثره.
وقال تعالى: ?أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?(3).
الشرح(4):
ألم يعلم هؤلاء التائبون أن الله يتوب على من تاب، ويرحم من أناب، فيغفر زلاتهم، ويتقبل صدقاتهم؛ لأنه كثير الغفران لمن هجر المعصية وأقبل إلى الطاعة وندم على الذنب، رحيم بمن صدق في توبته، فلا يؤاخذه بما سلف ولا يعذبه بما اقترف.
وقال تعالى: ?مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?(5).
الشرح(6):
__________
(1) سورة النساء، الآية: 114.
(2) مصدر سابق، ص154.
(3) سورة التوبة، الآية: 104.
(4) مصدر سابق، ص296.
(5) سورة البقرة، الآية: 245.
(6) مصدر سابق، ص67.(1/9)
أيّكم السابق لبذل ماله لمرضاة ربه ونصرة دينه؟ فماله لن يذهب، بل هو قرض مضاعف، وحسنات وافرة، الحسنة بعشر إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، فالمعطي حقيقة هو الله، وأموالكم من عنده سبحانه؛ لأنه يقلل رزق من يشاء، ويكثر عطاء من يريد لحكمة يعلمها. فمن قل رزقه فلينفق على حسبه، ومن كثر فليعط على كثرته، وسوف تعودون إليه يوم القيامة، فيثبت الجواد المنفق، ويعاقب البخيل الممسك.
وقال تعالى: ?إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ?(1).
الشرح(2):
إن المتصدقين مما آتاهم الله والمتصدقات وأنفقوا في سبيل الله من طيبات ما عندهم من رزق طلبًا للأجر من الله، بلا منّ ولا أذى، يُضاعف الله لهم ثواب الأعمال، ويزيدهم التفضل عليهم بدخول جنات النعيم بجوار رب كريم.
وقال تعالى: ?وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?(3).
الشرح(4):
كل شيء تفعلون من البر لوجه الله، تجدونه في صحائف الأعمال يوم القيامة، وهو خيرٌ مما أنفقتم في شهوات الدنيا، وأعظم ثوابًا وأجلُّ نفعًا، فاسألوا الله مغفرته، واطلبوا رحمته، فإنه يغفر الذنوب، ويرحم من يتوب ويتجاوز عن الخطايا لمن عاد صادقًا.
الصدقة من البيان النبوي:
عن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيِّب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يتقبلها بيمينه،
ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُربِّي أحدكم فُلوّة(5) حتى تكون مثل الجبل»(6).
__________
(1) سورة الحديد، الآية: 18.
(2) مصدر سابق، ص791.
(3) سورة المزمل، الآية: 20.
(4) مصدر سابق، ص846.
(5) فلوة: المهر سمي بذلك لأنه فل عن أمه أي فصل وعزل.
(6) متفق عليه.(1/10)
وعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (وذكر فيه): ورجل تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه...» (1).
وعن عدي بن حاتم ـ - رضي الله عنه - ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما منكم من أحد إلا سيكلّمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء(2) وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة(3)» (4).
وعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليد العليا(5) خير من اليد السفلى(6)، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى(7) ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يُغنه الله»(8).
وعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها
الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ?(9) ثم ذكر الرجل، يطيل السفر أشعث(10) أغبر(11) يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنى يستجاب(12) لذلك»(13).
وعن أنس ـ - رضي الله عنه - ـ مرفوعًا: «إن الصدقة لتفطئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء»(14).
__________
(1) متفق عليه.
(2) تلقاه: قبالته.
(3) بشق تمرة: أي نصفها.
(4) متفق عليه.
(5) المعطية.
(6) السائلة.
(7) أفضلها ما يخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله.
(8) رواه البخاري.
(9) سورة البقرة، الآية: 172.
(10) أشعث: متفرق شعر الرأس.
(11) مغبر الوجه.
(12) كيف يستجاب الدعاء لذلك الرجل.
(13) رواه مسلم.
(14) رواه الترمذي وحسنه.(1/11)
وكما أنه تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى فهي تطفئ الذنوب والخطايا كما يطفئ الماء النار.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه»، «سبق درهم مائة ألفٍ»، قالوا: يا رسول الله وكيف؟ قال: «رجلٌ له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، ورجلٌ له مالٌ كثير فأخذ من عُرض ماله مائة ألف فتصدق بها»(1).
وروى عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء. والصدقة خفيًا تطفئ غضب الرب. وصلة الرحم تزيد في العمر. وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة. وأول من يدخل الجنة أهل المعروف»(2).
وعن أنس ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبًا: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثماني عشرة»(3).
وعن حذيفة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن رجلاً ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه فقال: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم. قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئًا غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا فأنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر. فأدخله الله الجنة»(4).
وعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»(5).
__________
(1) تفسير العشر الأخير من القرآن الكريم، ص122، ط12، على نفقة بعض المحسنين.
(2) رواه الطبراني.
(3) رواه ابن ماجه والبيهقي.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه البخاري ومسلم.(1/12)
حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر، قال سمعت القاسم يقول: «إن الله عز وجل يقول: يا ابن آدم إن تعط لفضل فهو خير
لك، وإن تمسكه فهو شر لك، وابدأ بمن تعول، ولا يلوم الله على الكفاف، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى(1)»(2).
أخي القارئ: وتعبير الصدقة في الرؤيا: ترفع البلايا، وتمحو السيئات، والصدقة تدل على التسبيح وأعمال البر(3) ومن رأى أنه يتصدق فإن كان عالمًا يكتسب من علمه، أو ملكًا تزداد ولايته، أو تاجرًا يزداد كسبه، أو مريضًا عوفي، أو مغمومًا كشف غمه، أو محبوسًا أطلق، أو عاصيًا تاب الله عليه، أو مشركًا أسلم، أو صانعًا يتعلم الصناع من صنعته، وقال بعضهم: رؤية الصدقة تدل على الأمن من الفزع والخلاص من الآفات والله أعلم(4).
* * *
هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة(5)
أما عن هديه - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة فما أجمل ما ذكره ابن القيم ـ رحمه الله ـ في هديه - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة حيث يقول: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس صدقة بما ملكت يده. كان لا يستكثر شيئًا أعطاه الله تعالى، ولا يستقله، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذ».
__________
(1) الأحاديث القدسية، الدكتور عمر علي عبد الله محمد، جـ1، ص325.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط، 1/74.
(3) تعبير الأحلام لأبي طاهر المقدسي الحنبلي، ط1، ص498، 1426هـ، دار ابن الجوزي، الدمام.
(4) تنبيه الإفهام بتأويل الأحلام، الشيخ أبي بكر محمد بن عمر الملا الإحسائي. تقديم/ إبراهيم بن عبد الله الحازمي، دار الشريف، ص130، ط1، 1427هـ، الرياض.
(5) التداوي بالصدقة، حسن بن أحمد حسن همام، ص17، ط1، 1427هـ - 2005، دار الحضارة ـ الرياض.(1/13)
وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه؛ تارة بطعامه، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعًا، وكان تارة يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها وبأضعافها تلطفًا وتنوعًا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن، ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو بحاله وقوله؛ فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه - صلى الله عليه وسلم - ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى.
ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشرح الخلق صدرًا وأطيبهم نفسًا وأنعمهم قلبًا؛ فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرًا عجيبًا في شرح الصدور. ولرسولنا - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة حيث يخبرنا أن ثلاثة يدخلون الجنة بسبب القليل من الطعام. وذلك فيما
رواه أبو هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل ليدخل اللقمة الخبز، وقبضة التمر، ومثله مما ينتفع به المسكين ثلاثة الجنة.. رب البيت الآمر به، والزوجة تصلحه، والخادم الذي يناول المسكين» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحمد لله الذي لم ينس خدمنا»(1).
وثبت في الصحيحين: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» فإذا كان العمل الصالح وفعل الخير مطلوب، ويرغب فيه بقدر الاستطاعة فكذلك الصدقات لأنه ?لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا?.
* * *
جود النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة(2)
__________
(1) رواه الحاكم والطبراني في الأوسط.
(2) التداوي بالصدقة، حسن بن أحمد حسن همام، ص21، ط1، 1426هـ - 2005م، در الحضارة، الرياض.(1/14)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة»(1).
وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد ـ - رضي الله عنه - ـ قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببردة قال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها. فقالت: يا رسول الله جئتك أكسوك هذه، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان محتاجًا إليها فلبسها فرآها عليه رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله: ما أحسن هذه، اكسينها. فقال: نعم. فلما قام رسول الله لامه أصحابه وقالوا: ما أحسنت حين رأيت رسول الله أخذها محتاجًا إليها، ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه. قال: والله ما حملني على ذلك إلا رجوت بركتها حين لبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي أكفن فيها.
وعن أنس ـ - رضي الله عنه - ـ قال: ما سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: «يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر»(2).
فكان - صلى الله عليه وسلم - جوادًا وكريمًا، فهي من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - وكان يعطي عطاء من لا
يخشى الفقر، ويقول لخازنه بلال - رضي الله عنه -: «أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً»(3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنفق ينفق الله عليك»(4).
__________
(1) صحيح البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البزار بإسناد حسن والطبراني في الكبير.
(4) رواه الطبراني في الأوسط عن قيس بن سلع الأنصاري.(1/15)
فالكرم والجود صفتان من صفات الله تعالى، فالله جواد كريم، وقد امتدح المؤمنين الذين ينفقون مما رزقهم الله، قال تعالى: ?الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ?(1). فالمتصدق يتصف بهذه الصفات الكريمة التي هي من صفات الله ونبيه والمؤمنين، والتصدق فيه تعويد للنفس على فعل الخير، وتدريب لها على البذل والتضحية، ونبذ الأثرة والأنانية فكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس، وأرحم الناس، وأعظمهم تواضعًا، وعدلاً، وصبرًا، ورفقًا، وأناة، وعفوًا، وحلمًا، وحياءً، وثباتًا على الحق.
* * *
صدقة التطوع
وهي مستحبة في جميع الأوقات(2)، لقوله تعالى: ?مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً?(3) وأمر بالصدقة في آيات كثيرة، وحث عليها، ورغب فيها. روى أبو صالحٍ عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرةٍ من كسب طيب ـ ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ـ فإن الله تعالى يقبلها بيمينه. ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوة(4) حتى تكون مثل الجبل»(5).
وصدقة السر أفضل من صدقة العلانية، لقول الله تعالى: ?إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ?(6).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 3.
(2) المغني لابن قدامة، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي والدكتور/ عبد الفتاح محمد الحلو، ص318.
(3) سورة البقرة، الآية: 245.
(4) الفلو: المهر يفصل عن أمه.
(5) متفق عليه.
(6) سورة البقرة، الآية: 271.(1/16)
أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عُري، كساه الله من خضر الجنة. وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم».
اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخيرُ الصدقة ما كان
عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يُغنه الله».
قيل: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ «جُهد المقُلِّ، وابدأ بمن تعول».
«تصدقوا»، فقال رجل: يا رسول الله: عندي دينار، قال: «تصدق به على آخر» قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على زوجتك». قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على خادمك» قال: عندي آخر، قال: «أنت أبصرُ به».
إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها، غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا.
من أسباب النجاة من حرّ يوم القيامة: لحديث عقبة بن عامر ـ - رضي الله عنه - ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس». أو قال: «يحكم بين الناس» وفي لفظ: «إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقة».
قال يزيد أحد رواة الحديث: «وكان أبو الخير ـ راوي الحديث عن عقبة لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء، ولو كعكة، أو بصلة، أو كذا».
التطوع نافلة وتقديم النفل على الواجب غير جائز فإن كان الرجل وحده أو كان لمن يمون كفايتهم فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسبٍ أو كان واثقًا من نفسه، يحسن التوكل والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة فحسنٌ(1).
المسلم يتطوع بما شاء جهد طاقته فلا يخجل من تبرعه أو تصدقه بالقليل فالله سبحانه وتعالى لا يضيع عنده مثقال ذرة وكله محسوب إن شاء الله في ميزان حسناته، لكن المنافقين، الذين فطروا على عدائهم للدين، كانوا يشككون في
__________
(1) المغني لابن قدامة، ص320، جـ4، طبعة القاهرة: 1412هـ - 1992م.(1/17)
صدق نية المتبرعين، ويلمزونهم إن دفعوا قليلاً أو كثيرًا. وقد كشف اله تعالى حقيقتهم للمسلمين فقال تعالى: ?الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?»(1).
وكان سبب نزول هذه الآية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يغزو بني الأصفر -الروم- متجهًا نحو تبوك أخبر أصحابه، وطلب منهم التصدق لتجهيز الجيش؛ فتصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله فقال المنافقون: إن عبد الرحمن لشديد الرياء. ?وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ? نزلت في رجل من فقراء المسلمين يكنى بأبي عقيل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصاعٍ من تمر. فقال يا رسول الله هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير «بالحبل» الماء، حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما وأتيت بالآخر فسخر منه المنافقون وقالوا: إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينشره في الصدقات(2).
* * *
أنواع الصدقة
والصدقة أنواع: لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة»(3).
ومن أعظم الصدقات صدقة الجاه، وقضاء حوائج الناس والشفاعة لهم وخاصة في هذا الزمن الجريح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله خلقًا خلقهم لحوائج الناس، ويفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله»(4).
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 79.
(2) المفلحون، محمد منير الجنباز، ص85 – 86، ط1، 1408هـ - 1988م. دار الأماني، الرياض.
(3) متفق عليه.
(4) رواه الطبراني.(1/18)
وإن الفقير إذا أتته الصدقة بلا مسألة وبدون مذلة ولا منة من المتصدق، فإنه من حق الفقير أن يتقبلها بنفس راضية بقضاء الله وقدره، وأن يشكر المتصدق، ويشكر الله الذي سخره، وأن يستعين بالصدقة على قضاء حاجته، ورفع مستوى معيشته من أجل المحافظة على كرامته. ويجب أن يتخذ الصدقة عونًا له على طاعة الله، وليعلم أن هناك إخوانًا له في الله يهتمون بشأنه ويشاركونه ما يعانيه. ثم إن الفقر ليس عيبًا؛ لأن الفقير لا يستكين للفقر إلا إذا عجز عن العمل، وليس له موارد رزق تغنيه.
* * *
آداب الصدقة(1)
لا شك أخي القارئ أن الصدقات كغيرها من الأعمال الصالحة وضعت لها آداب وشروط ينبغي للمتصدق أن يراعيها، ويعتني بها حتى ينال الأجر؛ لأن بعض هذه الآداب إن لم يحرص عليها المتصدق قد تعرض عمله ـ والعياذ بالله ـ للإحباط.
وأول هذه الآداب: أن تكون الصدقة من كسب حلال طيب؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وقد قال سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ?(2).
والصدقة ولو كانت من كسب حلال ينبغي أن لا يتصدق منها بشيء حرام، كالخمر وآلات اللهو، وينبغي أن لا تدفع إلى جهة تستعين بها على الحرام؛ كالإيقاف على معاصر الخمر والكنائس. ولا تقبل الصدقة إذا كانت من حرام لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اكتسب مالاً من مأثم فوصل به رحمه، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمعه ذلك كله فقذف به في جهنم»(3).
__________
(1) الصدقات وأثرها على الفرد والمجتمع، ص25، ط1، 1408هـ - 1988م، المؤلف: إبراهيم بن محمد الضبيعي ـ جزاه الله خيرًا، نقلت حرفيًا للتوضيح فقط.
(2) سورة البقرة، الآية: 267.
(3) رواه أبو داود عن القاسم بن مخيمرة ـ - رضي الله عنه -.(1/19)
الثاني: أن تكون الصدقة من جيد المال وأفضله لقوله عز وجل: ?لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ?(1).
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حق رجل تصدق بحشف، وهو نوع رديئ من التمر: «لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا، إن رب هذه الصدقة يأكل حشفًا يوم القيامة»(2).
الثالث: أن تكون الصدقة خالصة لوجه الله تعالى لا يشوبها رياء ولا سمعة، وأن يوجه نيته في الصدقة إلى الله تعالى، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»(3).
فمن نوى بصدقته وجه الله قبلها الله منه، ومن نوى بها الشكر من البشر أو غير ذلك فليس له من الأجر شيء.
الرابع: الإسرار بها في المواطن التي يفضل فيها الإسرار، والجهر بها إذا كان ذلك أفضل. وللمزيد من التفصيل في هذا الموضوع يحسن الاطلاع على فصل: «أيها أفضل صدقة السر أم صدقة العلانية؟».
الخامس: أن لا يستكثر صدقته، لقوله تعالى: ?وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ?(4). لأنه مهما كانت الصدقة كثيرة فهي في سبيل الله وسيجدها موفورة أمامه في يوم هو أحوج ما يكون إليها.
فينبغي على المتصدق أن يتجنب كل ما يدعو إلى الإعجاب بعمله، وأن يستغفر الله بعد أن يؤدي صدقته، لئلا يكون قد خالطها شيء من الزهوّ والإعجاب.
السادس: أن تعطى الصدقة بوجه بشوش ونفس طيبة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحتقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»(5). فالقليل مع بشاشة الوجه، خير للفقير من الكثير مع وجه عبوس، وجاء في الأثر: «إن تبسمك في وجه أخيك صدقة».
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 92.
(2) رواه أبو داود والنسائي.
(3) متفق عليه.
(4) سورة المدثر، الآية: 6.
(5) رواه مسلم.(1/20)
السابع: أن يدفع صدقته للأحوج، فإذا كان القريب محتاجًا، فهو أولى من غيره، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي إذا كانت على ذي الرحم ثنتان، صدقة وصلة»(1).
الثامن: يجب على المتصدق أن يسارع بصدقته في حال حياته، وأن يبادر ما دام في إمكانه ذلك، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح، وتأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»(2).
التاسع: أن يحذر من المن والأذى لقوله تعالى: ?قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ?(3).
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى?(4). والمنّ هو أن ترى نفسك محسنًا، وأن تتوقع الشكر والاستحسان، أو أن تطلب خدمة ممن تصدقت عليه، والأذى مواجهة الفقير بما يؤذيه من الكلام، أو أن
تخبر الناس بصدقتك عليه.
فإذا كان هدف المتصدق أن يتقبل الله منه صدقته، وأن يكسب بذلك عظيم الأجر وجميل الذكر، فحريّ به أن يقدمها خالصة لوجه الله، لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا يصحبها منّ ولا أذى، ولا يعتريها غرض من الأغراض الدنيوية، كرد الجميل أو الإطراء والمدح، أو حديث المجالس، أو تقديم خدمات أو طلبات للشهرة.
* * *
أي الصدقة أفضل؟
__________
(1) رواه أحمد والترمذي عن سلمان بن عامر.
(2) متفق عليه.
(3) سورة البقرة، الآية: 263.
(4) سورة البقرة، الآية: 264.(1/21)
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الصدقة أفضل؟ قال: «سرّ إلى فقير وجهد إلى مقل، وقد أثنى الله تعالى على شدة المتصدق بالسر». فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق الله عز وجل الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت، فتعجب الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم، الحديد، قالت: يا رب، هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال نعم، النار، قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال نعم، الريح، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها من شماله»(1).
أخي القارئ: من أنفق في سبيل الله وبذل في وجوه الخير، فإن الحسنة تضاعف له من عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف يعني أن من أنفق لوجه الله فإنه يشبه من زرع حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، أي أن غلة الحبة تضاعف سبعمائة مرة، وقد يضاعف الله الثواب إلى أكثر من ذلك. وأن الله يزيد الثواب على قدر حال المنفق ورغبته فيما عند الله. وإخلاص النية(2) قال تعالى: ?مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?(3).
__________
(1) مسند الإمام أحمد والترمذي.
(2) الصدقات وأثرها على الفرد والمجتمع/ إبراهيم بن محمد الضبيعي، ص3، ط1، 1408هـ - 1988م.
(3) سورة البقرة، الآية: 261.(1/22)
فالمسلم الصادق هو الذي يكون قويًا في إيمانه، ويكون بماله معينًا على نوائب الحق، ويشمل ببره وإحسانه كل محتاج إلى رفده. فما يتحلى الغني بخصال الخير والأخلاق الفاضلة إلا وتظهر عليه علامات شكر النعمة، ومن أبرزها صفتي الجود والكرم، وهي صفات الله جل وعلا. فهو الجواد الكريم. فمن واجب المسلم أن يشكر الله على نعمه، والشكر ثلاثة أنواع.. شكر في القلب: وهو تصور النعمة، وشكر باللسان: وهو الثناء على الله سبحانه وتعالى والتحدث بنعمه، وشكر بالجوارح: وهو مقابلة النعمة بما يستحق من العمل والصدقات تكاد تشتمل على أنواع الشكر الثلاثة.
أخي القارئ إن المؤمن حقًا هو الذي يبادر إلى الخيرات، ويسارع إلى الأعمال الصالحة وينفق مما آتاه الله. قال الفقيه أبو الليث السمرقندي: عليك بالصدقة بما قل أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال محمودة: خمس في الدنيا وخمس في الآخرة(1): فأما الخمس التي في الدنيا:
فأولاها: تطهير المال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر التجار إن هذا البيع يحضره الحق والكذب، فشوبوه بالصدقة»(2).
والثانية: إن فغيها تطهير البدن من الذنوب. كما قال الله عز وجل: ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا?(3).
والثالثة: إن فيها دفع البلاء والأمراض، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة وأعدو للبلاء الدعاء»(4).
الرابعة: إن فيها إدخال السرور على المساكين، وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمنين.
والخامسة: إن فيها بركة في المال وسعة في الرزق. كما قال الله تعالى: ?وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ?(5).
__________
(1) أين نحن من هؤلاء/ عبد الملك القاسم، ص198، جـ4، دار القاسم للنشر والتوزيع، 1424هـ - 2004م.
(2) صحيح النسائي.
(3) سورة التوبة، الآية: 103.
(4) أخرجه البيهقي وحسنه الألباني.
(5) سورة سبأ، الآية: 39.(1/23)
وأما الخمس التي في الآخرة:
فأولاها: أن تكون الصدقة ظلاً لصاحبها من شدة الحر.
والثانية: إن فيها خفة الحساب.
والثالثة: إنها تثقل الميزان.
والرابعة: جواز على الصراط.
والخامسة: زيادة الدرجات في الجنة ولو لم يكن في الصدقة فضيلة سوى دعاء المساكين لكان الواجب على العاقل أن يرغب فيها، فكيف وفيها رضا الله تعالى ورغم الشيطان وفيها الاقتداء بالصالحين؛ لأن الصالحين كانت همتهم الصدقة.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمه الله ليس بينه وبينه تُرجمان فينظُرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدم فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم فينظر ببين يديه
فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة»(1). أي: أن العبد برحمة الله قد ينجو من النار ولو تصدق بالقليل ولو كان مقدار «نصف التمرة».
ومما يدل على فضل الصدقة، وفضل الإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل، وفضل أكل الإنسان من كسبه والإنفاق على العيال(2) وأن من فعل ذلك يبارك الله له في ماله ويحصل له الأجر العظيم.
عن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»(3).
__________
(1) متفق عليه.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، 18/325.
(3) متفق عليه.(1/24)
أخي القارئ.. أختي القارئة: من أفضل الصدقات التصدق بسقي الماء، لحديث سعد بن عبادة ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قلت يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم» قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سقي الماء» فتلك سقاية سعدٍ بالمدينة وفي لفظ لأبي داود: «فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعدٍ»(1) ولكن يتحرى المتصدق حاجة الناس فيتصدق بما تدعو إليه الحاجة، سواء كانت في الماء أو في غيره(2).
قال العلامة السعدي ـ رحمه الله: ?مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ?(3).
أي لا ينفع فيه شيء ولا سبيل إلى استدراك ما فات، لا بمعارضة ببيع وشراء، ولا بهبة خليل وصديق، فكل امرئ له شأن يغنيه، فليقِّدم العبد لنفسه، ولينظر ما قدمه لغدٍ، وليتفقَّد أعماله، ويحاسب نفسه قبل الحساب الأكبر.
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ?(4).
وهذا من فضل الله ولطفه بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم، ليكون لهم ذخرًا وأجرًا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه، ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبًا ليتفدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق: لا بوجاهة، ولا بشفاعة(5).
* * *
فيمن تحل له الصدقة(6)
__________
(1) صدقة التطوع في الإسلام، د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص28.
(2) مصدر سابق، ص28.
(3) سورة إبراهيم، الآية: 31.
(4) سورة البقرة، الآية: 254.
(5) صدقة التطوع، د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص31.
(6) موارد الظمآن لدروس الزمان، الشيخ عبد العزيز المحمد السلمان، ص296، جـ1، ط26.(1/25)
إن مما يتعين على كل مؤمنٍ أن يصون نفسه عنه، مسألة الناس إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة التي لا بد له منها ولا غنى له عنها، وذلك لما ورد عن قبيصة بن مخارقٍ الهلالي قال: تحملتُ حمالةً فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقِمْ حتى تأتينا الصدقة فآمُر لك بها، ثم قال: يا قبيصة إن المسالة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجُل تحمَّل حمالةً له فحلت المسألة حتى يصيبها ثم يُمسكُ، أو رجلٌ أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، أو قال سدادًا من عيشٍ ورجلٌ أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثة، من ذوي الحِجَا من قومه، يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ فحلت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ أو قال: سدادًا من عيشٍ فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سُحتًا» والله أعلم.
عن الزبير بن العوام ـ - رضي الله عنه - ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها يكف الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس. أعطوه أو منعوه» فالعاقل يعمل جهده ولا يميل إلى الكسل والملل وحب الراحة.
فالصدقة لا تحل إلا لخمسة(1): لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني.
والعطية أخي القارئ: ما أعطاه الإنسان من ماله لغيره، سواء كان يريد بذلك وجه الله تعالى، أو يريد التودد أو غير ذلك، فهي أعم من الزكاة والصدقة، والهبة، ونحو ذلك(2).
__________
(1) بلوغ المرام في ثوبه الجديد، د. عائض القرني، ص75 – 76، ط2، مكتبة العبيكان، 1427هـ - 2006م، الرياض، السعودية.
(2) صدقة التطوع في الإسلام د: سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص9، ط1.(1/26)
فأولوية الصدقة للأقرباء والجار وطلاب العلم، والصدقة على ذي الرحم أفضل منها على غيره لا سيما مع عداوةٍ، أما الدليل على أفضليتها في القرابة فلحديث سلمان: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة». ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: «وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. وأما الدليل على التأكد مع العداوة فقد ورد عن أم كلثوم ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح»(1).
وعن حكيم بن حزام ـ - رضي الله عنه - ـ قال: إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصدقات أيها أفضل؟ قال: «على ذي الرحم الكاشح».
ثم الصدقة على الجار أفضل لقوله تعالى: ?وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ?(2).
وعن ابن عمر وعائشة ـ - رضي الله عنهم - ـ قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». وعن أبي شريح الخزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره».
ويستحب أن يخص بالصدقة من اشتدت حاجته لقوله تعالى: ?أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ?(3). وكونها على عالمٍ أفضل؛ لأن من إعطائه إعانة على العلم ونشر الدين وذلك لتقوية الشريعة، وكونها على صاحب دَيْنٍ أفضل، وكذا على ذي عائلةٍ أفضل ممن ليس كذلك(4).
* * *
الصدقة الجارية
__________
(1) رواه الطبراني ورجاله رجال صحيح.
(2) سورة النساء، الآية: 36.
(3) سورة البلد، الآية: 16.
(4) موارد الظمآن لدروس الزمان، الشيخ عبد العزيز المحمد السلمان، ص321 – 322، جـ1، ط26، 1420هـ.(1/27)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(1).
والصدقات الجارية نظمها السيوطي شعرًا فقال:
_ ... عليه من فعال غير عشر ... إذا مات ابن آدم ليس يجري
وغرسِ النخل والصدقات تجري ... علومٍ بثَّها ودُعاءِ نجلٍ
وحفر بئرٍ أو إجراء نهر ... وراثةُ مصحفٍ ورباط نفرٍ
إليه أو بناء محلِّ ذكرِ ... وبيت للغريب بناه يأوي
فخذها من أحاديث عصر ... وتعليمٌ لقرآنٍ كريم
* * *
صدقات بلا مال(2)!
طرق الخير كثيرة، ومناهج البر واسعة، وفضل الله أوسع. ويرشدنا الهادي البشير ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن لا نقلل من شأن أي عمل نقدمه أو جهد نبذله في سبيل الله، حيث يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق».. فمن الصدقات بدون مال ما يلي:
ـ إماطة الأذى عن الطريق.
ـ ذو الجاه والمكانة في المجتمع يكون واسطة خير، ويكون سببًا لرفع الظلم إذا اشتكى إليه ذو حاجة.
ـ الرأي والمشورة.
ـ الكلمة الطيبة.
ـ مساعدة العاجز في ركوبه أو نزوله.
ـ صاحب القلم يكتب ويؤلف كتابًا مفيدًا، ويعتبر صدفة جارية. ومنها أيضًا المصروف على الأولاد، مساعدة المساكين، التحميدة، والتكبيرة، والتهليلة، والأمر بالمعروف، جماع الرجل زوجته، مقابلة الأخ المسلم بوجه طلق، كف الأذى عن المسلمين. السلام على الناس، العدل بين اثنين، المشي إلى الصلاة، الإصلاح بين الناس، العدل بين الأولاد، تعليم العلم، النصح للمسلمين، مرافقة المريض في مرضه.
الصدقة سعة في الصدر(3)
__________
(1) أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي.
(2) الكشكول المفيد، محمد خير رمضان يوسف، ص276، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1421هـ - 2000م.
(3) لا تحزن، الشيخ الدكتور عائض القرني، ص251، مكتبة العبيكان.(1/28)
ويدخل في عموم ما يجلب السعادة ويزيل الهم والكدر: فعل الإحسان من الصدقة والبر وإسداء الخير للناس، فإن هذا من أحسن ما يُوسع به الصدر، ?أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم?، ?وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ?.
وقد وصف - صلى الله عليه وسلم - البخيل والكريم برجلين عليهما جُبتان، فلا يزال الكريم يُعطي ويبذل، فتتوسع عليه الجبة والدرع من الحديد حتى يعفو أثره، ولا يزال البخيل يمسك ويمنع، فتتقلص عليه، فتخنقه حتى تضيق عليه روحه! قال تعالى: ?وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?(1) وقال سبحانه وتعالى: ?وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ?(2).
إن غلَّ الروح جزء من غل اليد، وإن البخلاء أضيق الناس صدورًا وأخلاقًا، لأنهم بخلوا بفضل الله عز وجل، ولو علموا أن ما يعطونه الناس إنما هو جلب للسعادة، تسارعوا إلى هذا الفعل الخيِّر، ?إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ?(3).
وقال سبحانه وتعالى: ?وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?(4). ?وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ?.
قال الشاعر:
الله أعطاك فابذل من عطيته ... فالمال عاريةٌ والعمر رحّالُ
المال كالماء إن تحبس سواقيه ... يأسن وإن يجر يعذُب منه سلسال
ويقول حاتم:
أما والذي لا يعلم الغيب غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أطوي البطن والزادُ يشتهي ... مخافة يوم أن يقال لئيم
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 265.
(2) سورة الإسراء، الآية: 29.
(3) سورة التغابن، الآية: 17.
(4) سورة التغابن، الآية: 16.(1/29)
إن هذا الكريم يأمر امرأته أن تستضيف له ضيوفًا، وأن تنتظر رواده ليأكلوا معه، ويؤانسوه ليشرح صدره يقول:
إذا ما صنعتٍ الزاد فالتمسي له ... أكولاً فإني لستُ آكله وحدي
ثم يقول لها وهو يعلن فلسفته الواضحة، وهي معادلة حسابية سافرة:
أريني كريمًا مات من قبل حينه ... فيرضى فؤادي أو بخيلاً مخلدا
هل جمعُ المال يزيد في عمر صاحبه؟ هل إنفاقه ينقص من أجله؟ ليس بصحيح.
* * *
خصال تربي الصدقة وتعظمها(1)
1- إخراجها من الحلال.
2- إعطاؤها من جهد مقل.
3- تصنيفها مخافة البخل.
4- إعطاؤها سرًّا مخافة الرياء.
5- بعد المنّ عنها مخافة إبطال الأجر.
6- كف الأذى عن صاحبها مخافة الإثم.
7- تعجيلها مخافة الفوت.
* * *
ثواب الصّدقة في شهر رمضان وفي الحرمين
الصدقة في رمضان أفضل منها في غيره، لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
ولأن الصدقة في رمضان إعانة على أداء فريضة الصوم، وفي أوقات الحاجات أفضل منها في غيرها لقوله تعالى: ?أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ?.
والصدقة في كل وقت وفي كل زمانٍ فاضلٍ كالعشر، أفضل منها في غيرها. لحديث ابن عباس ـ - رضي الله عنه -: «ما من أيام العمل فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام»، يعني أيام العشر، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
__________
(1) مرشد الخطيب ودليل الباحث، عبد الرحمن المصطاوي، ص267.(1/30)
والصدقة في الحرمين أفضل منها في غيرهما لتضاعف الحسنات بالأمكنة الفاضلة. فعن أبي هريرة ـ - رضي الله عنه - ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام» وزاد في رواية: «فإني خير الأنبياء وإن مسجدي خير المساجد» وزاد «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه»(1).
فوائد الصدقة
الصدقة هي إخراج المال تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى. وهي سد منيع بين المتصدق ودافعة لعظيم البلاء والشر وتدفع ميتة السوء. فإن الصدقات لها من الفوائد والفضائل ما لا يمكن حصره، ولو لم يكن فيها إلا أنها سبب في منع الشرور، وصد الأذى وتقفل سبعين بابًا من الضرر والهلاك والفقر والمرض، وغير ذلك من المصائب المؤلمة والمؤذية، لكان ذلك كافيًا لبيان ما تشتمل عليه الصدقة من فضائل.
يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «الصدقة تسد سبعين بابًا من السوء»(2) فبذل الصدقة ـ أخي القارئ تنتج الفوائد التالية(3):
1- تقديم ما يحبه الله على محبة المال.
2- إن الصدقة برهان على إيمان صاحبها كما في الحديث «والصدقة برهان».
3- تنمية الأخلاق الحسنة والأعمال الفاضلة الصالحة.
4- إضعاف مادة الحسد والحقد والبغض أو قطعها كليًا.
5- إن الصدقة دواء من الأمراض الحديث: «وداووا مرضاكم بالصدقة».
6- الاتصاف بأوصاف الكرماء.
7- إنها سبب لدفع البلاء وسبب لدفع جميع الأسقام.
8- التمرن على البذل والعطاء.
9- إنها سبب لجلب المودة لأن النفوس مجبولة على حُبِّ من أحسن إليها.
__________
(1) موارد الظمآن لدروس الزمان، الشيخ عبد العزيز السلمان، ص320، ط26، الناشر طبع على نفقة جماعة من أهل الخير.
(2) رواه الطبراني عن رافع بن خديج.
(3) المنتقى من الفوائد الإيمانية، مصطفى حقي، ص200، ط1، 1424هـ، دار طريق الرياض.(1/31)
10- الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب. قال تعالى: ?وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?.
11- إنها تدفع ميتة السوء كما في لحديث: «إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء».
12- إن المتصدق يكون في ظل الله يوم القيامة كما في الحديث: «سبعة يظلهم الله في ظله، وذكر منهم: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
13- الفوز بالقرب من رحمة الله تعالى: ?إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ?.
15- الوعد بالخلف للمنفق لحديث: «اللهم أعط منفقًا خلفًا..».
16- إن المصَّدقين يضاعف الله لهم ثواب أعمالهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف على حيث شاء الله عز وجل قال تعالى: ?إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ?.
كانت سيدتنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذا تصدقت بدرهم وضعته في المسك أولاً قبل التصدق به. فسألها بعضهم لماذا تضعين الدراهم في المسك يا أم المؤمنين؟ فقالت لهم: لأنني أضعه في يد الله قبل أن أضعه في يد المسكين.
وكانت السيدة عائشة عندما تتصدق فيدعو لها الفقير تدعو له بنفيس الدعوة فلما سئلت: لماذا تدعين للفقير، قالت: حتى تكون دعوتي مقابل دعوته، وتكون الصدقة خالصة لله.
وأما ما يعود من فوائد الصدقات على المجتمع فهي أكثر من أن تحصى، ونشير منها إلى ما يلي(1):
أن في بذل الصدقات وإيجاد المشاريع الخيرية علاج لمشكلة الفقر التي وضع الإسلام لها حلولاً، وجعل البر والإحسان من بين تلك الحلول.
إن الفقير الذي يعاني من الحرمان، ويشعر أن الغني منعه حقه الواجب في ماله، أو المستحب في فضل ماله، قد يحمله هذا الشعور إلى محاولة الانتقام، وفي الحديث: «كاد الفقر أن يكون كفرًا».
__________
(1) الصدقات وأثرها على الفرد والمجتمع، إبراهيم بن محمد الضبيعي، ص14، ط1، 1408هـ - 1988م.(1/32)
الصدقات علاج حسد الفقراء للأغنياء.
الحاجة والحرمان يحملان الفقير على سلوك الطرق المعوجة للحصول على المال، ولو عن طريق النهب والسلب، وحين ينهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشح في حديثه: «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم»(1).
فقد بيّن أنهم بسبب شح أغنيائهم على فقرائهم فقد سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
إذا فالصدقات تحمي المجتمع من جرائم السطو والانتقام، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من خطورة سلوك الفقير حيث قال: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف»(2).
* * *
إذا أردت أن تتصدق
قال الإمام البغوي ـ رحمه الله: إذا أراد الرجل أن يتصدق بشيء على جيرانه، أو يهدي إليهم، يبدأ بأقربهم بابًا منه، ثم الأقرب، فإن كان في جيرانه أحدٌ من أقاربه يبدأ به، وإن كان أبعد دارًا، ثم يرجع إلى أقربهم به بابًا؛ لأن قرب القرابة مقدم على قرب الجوار.
* * *
أسئلة عن الصدقة والحسنات(3)
سؤال: لِمَ أضاف الصدقة إلى نفسه بلفظ الفرض، فقال: ?مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا?(4)؟
الجواب: قبل ذكر لفظ القرض لتعلم أنه مكافئكَ لا محالة. وأيضًا: القرضُ لا يقع إلا عند المحتاج، فكأنه ذكر نفسه محتاجًا على صدقتك لتكمل المحبة، ذكره النيسابوري.
قال: وأيضًا ذكر بلفظ القرض لئلا تمنَّ على الفقير، وقال: دفعتَ إلىَّ لا إليه، فلا تمنَّ عليه.
وأيضًا: أنت تدفعه إليَّ وأنا أدفعه إلى الفقير، لتستوجب أنت مني الأجر، وترتهن الفقير بمنَّتي لا بمنتَّك.
سؤال: لِمَ جعل ثواب الصدقة أفضل من ثواب سائر الأعمال؟
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها.
(3) كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار، العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفسي، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، ص218، دار ابن حزم، بيروت. ط1، 1426هـ - 2005م.
(4) سورة البقرة: 245.(1/33)
الجواب: قيل لأن إعطاء المال أشدُّ على القلب من سائر الأعمال، وكلُّ عملٍ تحبه أكثر فثوابه أكثر. ألا ترى إلى صلاة المريض والشيخ، ونفقة الشحيح الصحيح أفضلُ لكثرة محبته. وأيضًا فإن الفقير يُسرُّ بالنفقة، وليس شيءٌ أفضل من إدخال السرور على قلب المؤمن.
سؤال: ما الحكمة في تضعيف الحسنات؟
الجواب: قال النيسابوري: لئلا يفلس العبد إذا تجمّع الخصماء في طاعته، فيدفع إليهم واحدة ويبقى له تسعة.
فمظلم العباد توفى في أصول حسناته، ولا توفى من التضعيفات؛ لأنها فضلٌ من الله تعالى.
وقد ذكر ذلك الإمام البيهقي في كتاب «البعث والنشور» فقال: إن التضعيفات فضلٌ من الله تعالى لا يتعلَّق بها العباد، بل يدخرها للعبد، فإذا أدخله الجنة أثابه بها.
سؤال: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويلٌ لمن غلب آحاده أعشاره»؟
الجواب: قيل الآحاد السيئات؛ لأن كلَّ سيئة تُكتب بواحدة والأعشار أصول الحسنات، وتضاعيف الحسنات، فإن الحسنة بعشر أمثالها.
سؤال(1): فضيلة الشيخ يتجول عدد كبير من المتسولين من رجال ونساء وأطفال بمختلف الأعمار والهيئات بين الناس في الأسواق والشوارع والمساجد وغيرها من الأماكن العامة طالبين المساعدة ومد يد العون لهم. وأمام هذه الظاهرة يحتار كثير من الناس في كيفية التصرف مع هؤلاء وهل ندفع لهم من أموالنا من صدقات وزكاة؟ أفتونا مأجورين والله يحفظكم ويرعاكم؟
الجواب: إن الحكم يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وقد عرف أن الكثير من المتسولين ليسوا ذوي حاجة بل فيهم من هم أثرياء وذوو أموال كثيرة
__________
(1) فتاوى علماء البلد الحرام، تقديم الشيخ سعد بن عبد الله البريك، إعداد الجريسي، ص1260، ط1، 1420هـ - 1999م.(1/34)
ولكن اتخذوا هذا التسول حرفة لا يستطيعون تركه فمن رأيتم من الرجال ذا قوة ونشاط وجلد فلا تعطوه حيث إنه يقدر على التكسب كسائر العمال، أما الأطفال فيعرف المحتال منهم بجرأته وقوة جنانه مما يدل على أنه اتخذ التسول عادة فاعتاد الكلام بقوة وحفظ الأدعية والأوصاف. وأما النساء فيعرفن بالاعتياد وكثرة ترددهن، وبكل حال من عرف أنه من أهل الاحتراف الدائم بدون حاجة فخذوه فغلوه ثم ابعثوا به إلى مكافحة التسول كما هو معلوم. والله أعلم(1).
* * *
أقوال السلف في الصدقة
قال علي بن أبي طالب ـ - رضي الله عنه -: «من آتاه الله منكم مالاً فليصل به القرابة، وليُحسن فيه الضيافة، وليفك فيه العاني والأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء والمجاهدين، وليصبر فيه على النائبة فإن بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة»(2).
وعن عمر بن الخطاب ـ - رضي الله عنه - ـ قال: «إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة: أنا أفضلكم».
وقال أبو حاتم: «البخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا، من تعلق بغصن من أغصانها جره إلى النار، كما أن الجود شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن من أغصانها جره إلى الجنة، والجنة دار الأسخياء»(3).
ويقول الفضيل بن عياض للذين يأخذون الصدقات: «يحملون أزوادنا إلى الآخرة بغير أجرة حتى يضعوها في الميزان بين يدي الله عز وجل».
وقال يحيي بن معاذ: «ما أعرف حبَّة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة».
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «سوِّسوا إيمانكم بالصدقة، وحصِّنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء»(4).
__________
(1) قال وأملاه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.
(2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، أبو حاتم البستي.
(3) مصدر سابق.
(4) نفائس الكلام من أفواه السلف الكرام، مصطفى حقي، ص35. دار الشريف، الرياض.(1/35)
وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: «الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه»(1).
وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: «إذا مات السخي، قالت الأرض والحفظة: رب تجاوز عن عبدك في الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة، كما حجب عبادك عما جعلت في يديه من الدنيا».
قدم رجل من قريش في سفر فمر على رجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر، وأضرّ به المرض، فقال له: يا هذا أعنّا عن الدهر، فقال لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب في حجره أربعة آلاف درهم فهمَّ ليقوم فلم يقدر من الضعف فبكى، فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقالك ما دفعناه إليك؟ فقال: لا والله، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني(2).
وعن عثمان بن عفان ـ - رضي الله عنه -: «تاجروا الله بالصدقة تربحوا».
وروي أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يتصدق بالسُكَّر، فقيل له: لو تصدقت بثمن هذا كان أنفع لهم. قال: قد علمت ذلك، ولكن سمعت الله يقول: ?لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ?(3). وقد علم الله أني أحبُّ السُكرَّ.
وقال عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله: «من صلّى كل يوم اثنتي عشرة
ركعة فقد أدى حق الصلاة، ومن صام كل شهر ثلاثة أيام فقد أدى حق الصيام، ومن قرأ كل يوم مائتي آية فقد أدى حق القراءة، ومن تصدق في كل جمعة بدرهم فقد أدى حق الصدقة».
وكان الليث بن سعد يقول: «من أخذ مني صدقة أو هدية فحقه علىّ أعظم من حقي عليه؛ لأنه قبل مني قرباني إلى الله عز وجل»(4).
__________
(1) مصدر سابق، ص39.
(2) الأربعون حديثًا في الأخلاق، د. أحمد معاذ حقي، ص44، دار طويق ـ الرياض.
(3) سورة آل عمران، الآية: 29.
(4) التداوي بالصدقة، حسن أحمد حسن همام، ص8، دار الحضارة للنشر والتوزيع ـ الرياض.(1/36)
وكان أحد الصالحين إذا جاءه فقير وطلب منه صدقة يقول له: «مرحبًا بمن جاء يحمل زادنا إلى ربنا»، ويقصد الزاد من الحسنات والأعمال المقربة على رضوان الله عز وجل.
وقال يحيي بن معاذ: «ما أعرف حبَّة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة»(1).
وقال لقمان الحكيم لابنه: «إذا أخطأت خطيئةً فأعط صدقة»(2).
وقال أحدهم: «ظِلُّ المؤمن يوم القيامة صدقته».
وقال الإمام البيهقي رحمه الله: «استنزلوا الرزق بالصدقة».
وعن الحسن البصري رحمه الله. قال: «نعم الرفيق الدينار والدرهم لا ينفعانك حتى يفارقاك».
وعن الزهري رحمه الله قال: «استكثروا من شيء لا تمسه النار قيل:
وما هو؟ قال: المعروف»(3).
وعن مجاهد قال: «لو أن رجلاً أنفق مثل أحد في طاعة الله تعالى لم يكن من النادمين».
كان حماد بن أبي سليمان، يفطِّر كل يوم من رمضان خمسين إنسانًا، فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوبًا ثوبًا»(4).
وعن محمد بن أبي حاتم قال: «كان البخاري يتصدق بالكثير يأخذ بيد صاحب الحاجة من أهل الحديث، فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين من غير أن يشعر به أحد، وكان لا يفارقه كيسه، ورأيته ناول رجلاً مرارًا صرة فيها ثلاثمائة درهم»(5).
وقال عبد الله بن جعفر: «ليس الجواد الذي يعطيك بعد المسألة، ولكن الجواد الذي يبتدئ؛ لأن ما يبذله إليك من وجهه أشد عليه مما يعطي عليه»(6).
وقال الشعبي: «من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته، فقد أبطل صدقته وضُرب بها وجهه»(7).
وقال ابن مسعود ـ - رضي الله عنه -: «درهم ينفقه أحدكم في صحته وشحه
__________
(1) مصدر سابق، ص8.
(2) دليل السائلين، أنس إسماعيل أبو داود، ص395. جده.
(3) من أخبار السلف، زكريا بن غلام الباكستاني، ص70 ـ مكتبة الرشد.
(4) مصدر سابق، ص72.
(5) مصدر سابق، ص73.
(6) قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا، 42.
(7) مرشد الخطيب، عبد الرحمن المصطفاوي، ص267، دار المعرفة، بيروت.(1/37)
أفضل من مائة يوصي بها عند موته».
وقال أيضًا: «ما مات لي قرابة وعليه دين إلا قضيته عنه».
وقال زين العابدين: «إن الصدقة في الليل تطفئ غضب الرب».
وقال أحمد الرفاعي ـ رحمه الله: «الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسهل المرور على الصراط وتجعل الدعاء مستجابًا، والصدقة تزيل غضب الله».
* * *
مواعظ في الصدقة(1)
حكي عن بعضهم أنه سمع قارئًا يقرأ ?وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ?(2). فخر مغشيًا عليه، ولما أفاق قال: ليس الحبيب من يدفع المال بالسلف، بل الحبيب لا يطلب الخلف.
وعن بعض أهل المعرفة أنه قال: إن الله تعالى يقول: رضائي في رضا المساكين، فاملأ بطونهم من الطعام والشراب، أملأ ميزانك من الأجر والثواب.
وحكي عن بعض أهل العلم أنه قال: أفضل الأعمال شيئان اثنان: إجاعة بطنٍ شبعان بالصيام، وإشباعُ بطنٍ جائع بالطعام، وكلُّ واحدٍ سترٌ من النار.
وحكي عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الله تعالى قصر تضعيف الحسنات على عشرة، وقرن ثواب الصدقة بالكثرة، في قوله تعالى: ?مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?(3). وما سماه الله تعالى كثيرًا فلا حدّ له.
وإن المال ما دام في يدك فهو لورثتك، وبالتصدُّق صار لك.
قال الله تعالى: ?وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ?(4). فما دام المال في يدك فهو فان وبالصدقة يصير باقيًا، قال الله تعالى: ?مَا عِندَكُمْ
__________
(1) تهذيب خالصة الحقائق، محمود بن أحمد الفرياني، هذبه وخرج أحاديثه محمد خير رمضان يوسف، ص200، ط1، 1421هـ - 2000م، جـ1، دار ابن حزم.
(2) سورة سبأ، الآية: 39.
(3) سورة البقرة، الآية: 245.
(4) سورة البقرة، الآية: 110.(1/38)
يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ?(1). وما دام المال في يدك فهو قليل، قال الله تعالى: ?قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ?(2). فإذا تصدقت صار كثيرًا كما قلنا.
وروي أن عيسي - عليه السلام - قال: من ردَّ سائلاً خائبًا عن بابه لم تدخل الملائكة بيته سبعة أيام، ومن مات فقيرًا راضيًا من الله بفقره لا يدخلُ الجنة أحد أغنى منه، ومن مات وليس له كفنٌ يقول الله تعالى: يا جبريل كفّنْ عبدي من جنة الفردوس، وصل عليه فيصلي عليه من سبعة آلاف ملك. قيل هذا لمن تركوه ولم يتصدق في حقه أحدٌ شيئًا.
أخي القارئ: إن المال مال الله، والإنسان عبد الله، وما هو إلا حارس لهذا المال أو خليفة عليه، ألا إن الله سبحانه وتعالى يحث المؤمن في أسلوب بديع على أن ينفق من هذا المال، ويمثل بهذا الأسلوب صورة من أعظم الصور، حيث أنه سبحانه وتعالى يشتري ماله من المؤمن ليعطيه الجنة، ويا له من بيع، يشتري صاحب المال له من حارسه، ليعطيه سلعة أعظم وأغلى. ألا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة. يقول الله تعالى: ?إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ?(3). ويقول جل وعلا: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?(4).
ويقول سبحانه في حديث قدسي: «يا ابن آدم أفرغ من كنزك عندي، ولا حرق ولا غرق، ولا سرق أوفيكه أحوج ما تكون إليه»(5).
__________
(1) سورة النحل، الآية: 96.
(2) سورة النساء، الآية: 77.
(3) سورة التوبة، الآي: 111.
(4) سورة الصف، الآيتان: 10، 11.
(5) رواه الطبراني والبيهقي عن الحسن ـ - رضي الله عنه -.(1/39)
الكريم السخاء لا يتغير طبعه ولو كان فقيرًا، فتراه يعطي من حرِّ ماله وقوت أولاده، بل ويستدين، ويحوج نفسه إلى الآخرين من أجل الآخرين(1).
ويقول والدي الشيخ إبراهيم حقي رحمه الله: «لا تنس حظ دينك في كل شؤون، فإنك لا تعلم متى يفاجئك الموت، فكن حذرًا لا تتغافل عما لا بد منه».
* * *
أشعار في الصدقة
* قال الشاعر:
أنفق ولا تخش إملالاً فقد قسمت ... بين العباد مع الأرزاق آجال
لا ينفع البخل في الدنيا موَلية ... ولا يضر مع الإنفاق إقبال
* وقال أبو الفتح البستي:
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
* وقال آخر:
يبكي على الذاهب من ماله ... وإنما يبقى الذي يذهب
وقال الأحنف بن قيس:
أنت للمال إذا أمسكته ... وإذا أنفقته فالمال لك
* وقال آخر:
هب الدنيا تساق إليك عفوًا
وما دنياك إلا مثل فيء ... أليس مصير ذاك إلى انتقال؟
أظلك ثم آذن بالزوال
* وقال آخر:
إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبًا ولا المالُ باقيًا
* وقال آخر:
إذا جادت عليك الدنيا فجُدْ بها ... على الناس طرًا إنها تتقّلبُ
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخلُ يبقيها إذا هي تذهبُ
* وقال آخر:
يُفني البخيل بجمع المال مُدَّته ... وللحوادث والوُرَّاث ما يدعُ
كدودة القز ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ
حكايات في الصدقة والإحسان
__________
(1) هكذا قلت: محمد خير رمضان يوسف، ص34، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1426هـ - 2005م.(1/40)
يهدف الإسلام في منهجه إلى مخاطبة العقول، وإقناع ذوي الألباب بما يسرده من أمثال وقصص، الغرض منها العظة والعبرة والتأسي بالأخيار، واجتناب طريق المخالفين وأهل الشر، والله سبحانه وتعالى من خلال هذه القصص يربط بين سنته في الغابرين وسنته في الحاضرين، وليأخذ الحاضر العبرة من الغابر، فمن أعطى واتقى فله جزاء الحسنى ومن بخل واستغنى فيعاقبه الله في الدنيا وله العذاب في الآخرة، والإنسان مخير أن يسلك أحد السبيلين، إما السعادة، وإما الشقاء في الدنيا والآخرة. وإليكم الحكايات التالية:
هوَّنً علىَّ الدنيا
عن إبراهيم بن بشار قال: مضيت مع إبراهيم بن أدهم في مدينة يقال لها طرابلس ومعي رغيفان مالنا شيء غيرهما، وإذا سائل يسأل فقال لي: ادفع إليه، فلبثت، قال: مالك؟ أعطه، فأعطيته وأنا متعجب من فعله، فقال: يا أبا إسحاق إنك تلقى غدًا ما لم تلقه قط، واعلم أنك تلقى ما أسلفت ولا تلقى ما خلفت، فمهّد لنفسك فإنك لا تدري متى يفاجئك أمر ربك، قال: فأبكاني في كلامه وهوَّن عليَّ الدنيا.
* * *
أبقيت لهم الله ورسوله
روي عن عمر بن الخطاب ـ - رضي الله عنه - ـ قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: أسبقُ أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أبقيت لأهلك» قلت: ابقين لهم مثله، فأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له: «ما أبقيت لأهلك»؟ قال: الله ورسوله. فقلت: لا أُسابقك إلى شيء بعده أبدًا(1)فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر الصديق ـ - رضي الله عنه - ـ لقوة يقينه، وكمال إيمانه، وكان أيضًا تاجرًا ذا مكسب، فإنه قال حين ولي: قد علم الناس أن كسبي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي. أو كما قال ـ - رضي الله عنه - ـ وإن لم يوجد في المتصدق أحدُ هذين كُرِه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه والترمذي والدارمي، سنن الدارمي.(1/41)
فأبو بكر تحمل الشدائد(1)، واستسهل الصعاب في سبيل دينه، وأنفق ماله وبذل جاهه، حيث قدم الغالي والرخيص في سبيل الله حتى فاز بلقب
الصديق - رضي الله عنه -.
أخي القارئ: لقد تسابق الصحابة كلهم للإنفاق والتصدق كل بحسب ما يملك، وقصص إنفاقهم في سبيل الله كثيرة فهذا عثمان يتبرع ولا يخشى من ذي العرش إقلالاً «خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث. فقال عثمان ـ - رضي الله عنه - ـ عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال فرأيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بيده هكذا يحركها (وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب): ما على عثمان ما عمل بعد هذا. وأخرجه البيهقي وقال ثلاث مرات وإنه التزم بثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها»(2).
وأما النساء فكانت لهن مشاركة كبيرة في الصدقات. أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا» قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا قالت: وكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. وفي طريق آخر قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ فكنّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش وكانت امرأة قصيرة ولم تكن بأطولنا فعرفنا حينئذ أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب تغزل الغزل، وتعطيه سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخيطون به ويستعينون به في مغازيهم».
__________
(1) حتى تكون أسعد الناس، د. عائض القرني، ص56، ط1، 1427هـ، مكتبة العبيكان.
(2) المفلحون، محمد منير الجنباز، دار الأماني، ط1، ص87 - 88.(1/42)
وتقول أم سنان الأسلمية في تبرع النساء لجيش العسرة: «لقد رأيت ثوبًا مبسوطًا بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ فيه: مسك ومعاضد وخلاخل وأقرطة وخواتيم وقد ملئ مما بعث به النساء يُعنّ به المسلمين في جهازهم»(1).
* * *
رجل اشترى الجنة
في يوم من الأيام في سنة قحط يدوِّي صوت النذير والبشير أن قافلة قد حلت في عاصمة الإسلام في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قافلة تحمل الخير والحياة قوامها سبعمائة جمل محملة بالحبوب والزبيب والتمور والثياب، وكانت القافلة لعبد الرحمن بن عوف ـ - رضي الله عنه - ـ فيأتي تجار المدينة ويجتمعون لشراء القافلة ويقولون لعبد الرحمن تبيعنا هذه الأرزاق وهذا الطعام وهذه الثياب والإبل. قال: نعم. قالوا نعطيك في الدرهم درهمًا يعني مضاعفة الثمن، قال عبد الرحمن وجدت من زادني على ما أعطيتموني.
قالوا: نعطيك في الدرهم درهمين. قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك في الدرهم ثلاثة دراهم، قال: وجدت من زادني على هذه. قالوا: نحن تجار المدينة وما زادك أحد، قال والذي نفسي بيده لقد زادني الله من فوق سبع سموات فقال: ?مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?(2). فقد زادني سبحانه فوق سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة أشهدكم وأشهد الله وملائكته أنها في سبيل الله لا يدخل علي منها درهم ولا دينار. فتفرق الناس وأقبل الفقراء والمساكين يتقاسمون القافلة.
* * *
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها(3)
__________
(1) مصدر سابق، ص89.
(2) سورة البقرة، الآية: 261.
(3) دليل السائلين، أنس إسماعيل أبو داود، ص398، جدة.(1/43)
روي أنه وقف سائل على باب سيدنا علي بن أبي طالب ـ - رضي الله عنه - ـ فقال لولده الحسن ـ - رضي الله عنه -: اذهب إلى أمك فقل لها: تركت عندك ستة دراهم فهاتي منها درهمًا. ذهب الحسن ثم رجع فقال: قالت: إنما تركت ستة دراهم للدقيق. قال علي ـ - رضي الله عنه -: لا يصدق إيمان عبدٍ حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده. قل لها يا بني: ابعثي بالستة دراهم. بعثت السيدة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بالستة دراهم فدفعها إلى السائل. فلم يمض إلا قليل من الوقت حتى مر بالإمام علي رجل ومعه جمل يريد أن يبيعه، فقال علي: بكن تبيع الجمل يا رجل؟ فقال الرجل: بمائة وأربعين درهمًا. فقال علىٌّ: بعه لي وأرجو أن تؤجل ثمنه ثمانية أيام، فوافق الرجل. فربط عليَّ الجمل أمام بابه. وأقبل رجل آخر فقال: لمن هذا البعير؟ قال علي ـ - رضي الله عنه -: البعير لي، فقال الرجل أتبيعه؟. قال علي: نعم. قال الرجل بكم؟ قال علي: بمئتي درهم. قال: قد بعتك إياه، فأخذ الرجل البعير وأعطاه المائتين، ثم أعطى الرجل الذي أراد أن يؤخره مائة وأربعين درهمًا وجاء بالستين درهمًا إلى فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنها ـ قالت الزهراء: قال الإمام علي ـ - رضي الله عنه -: هذا ما وعدنا الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -: «من جاء بالحسن فله عشر أمثالها».
* * *
عبرة..!
روي عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت جالسة ذات يوم، إذ جاءتها امرأة سترت يديها في كمِّها، فقالت لها عائشة: مالكِ لا تخرجين يدكِ من كمّك؟
قالت: لا تسأليني يا أم المؤمنين.
قالت عائشة: لا بد لكِ أن تخبريني.(1/44)
فقالت: كان لي أبوان فكان أبي يحب الصدقة. وأما أمي فكانت تبغض الصدقة، فلم أرها تصدقت بشيء إلا قطعة شحم ثوب خلق، فلما ماتا رأيت في المنام كأن القيامة قامت، ورأيت أمي قائمة بين الخلق، الحِلْقُة موضوعة على عورتها، ورأيت الشحمة بيدها وهي تلحسها وتنادي: واعطشاه، ورأيت أبي على شفير الحوض وهو يسقي الماء ولم يكن عنده صدقة أحب إليه من سقيه الماء، فأخذتُ قدحًا من الماء، فسقيته أمي، فنودي من فوق، ألا من سقاها شلّت يده، فاستيقظت وقد شلت يدي.
* * *
صنائع المعروف تقي مصارع السوء(1)
يذكر رجلٌ يسمى ابن جدعان قال: خرجت في فصل الربيع، وإذا بي أرى إبلي سمانًا يكاد الربيع أن يفجر الحليب من ثديها، وكلما اقترب الحوار (ابن الناقة) من أمه درَّت عليه، وانهال الحليب منها لكثرة الخير والبركة، فنظرت إلى ناقة من نياقي ابنها خلفها، وتذكرت جارًا لي له بُنيَّات سبعٌ فقير الحال، فقلت: والله لأتصدقن بهذه الناقة وولدها لجاري والله يقول: ?لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ?(2).
وأحب حلالي هذه الناقة، يقول: فأخذتها وابنها، وطرقت الباب على الجار، وقلت: خذها هديةً مني لك، فرأيت الفرح في وجهه لا يدري ماذا يقول، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها، وينتظر وليدها يكبر ليبيعه، وجاءه منها خير عظيم. فلما انتهى الربيع وجاء الصيف بجفافه وقحطه، تشققت الأرض وبدأ البدو يرتحلون يبحثون عن الماء في الدحول ـ والدحول هي حفر في الأرض توصل إلى محابس مائية أو أقبية مائية تحت الأرض، له فتحات فوق الأرض يعرفها البدو.
يقول: فدخلت في هذا الدحل حتى أحضر الماء لنشرب- وأولاده الثلاثة خارج الدحل ينتظرون- فتاه تحت الأرض، ولم يعرف الخروج. وانتظر أبناؤه يومًا ويومين وثلاثة حتى يئسوا، قالوا: لعل ثعبانًا لدغه ومات، لعله تاه تحت
__________
(1) نور على نور، ص64.
(2) سورة آل عمران، الآية: 92.(1/45)
الأرض وهلك، وكانوا -عياذًا بالله- ينتظرون هلاكه طمعًا في تقسيم المال والحلال، فذهبوا إلى البيت وقسموا وتذكروا أن أباهم قد أعطى ناقة لجارهم الفقير، فذهبوا إليه وقالوا له: أعد الناقة خيرًا لك، وخذ هذا الجمل مكانها، وإلا سنسحبها عنوة الآن، ولن نعطيك شيئًا.
قال: أشتكيكم إلى أبيكم.
قالوا: اشتك إليه، فإنه قد مات!!
قال: مات!! كيف مات؟ وأين مات؟ ولِمَ لمْ أعلم بذلك؟
قالوا: دخل دحلاً في الصحراء ولم يخرج.
قال: ناشدتكم الله اذهبوا بي إلى مكان الدَّحل، ثم خذوا الناقة، وافعلوا ما شئتم ولا أريد جَمَلَكم.
فذهبوا به فلما رأى المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفي، ذهب وأحضر حبلاً، وأشعل شمعة ثم ربط نفسه خارج الدحل، ونزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى أماكن فيها يحبو، وأماكن فيها يزحف، وأماكن يتدحرج، ويشم رائحة الرطوبة تقترب، وإذا به يسمع أنين الرجل عند الماء، فأخذ يزحف تجاه الأنين في الظلام، ويتلمس الأرض، فوقعت يده على الطين، ثم وقعت يده على الرجل، فوضع يده على أنفاسه فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع، فقام وجرَّه، وربط عينيه حتى لا تنبهر بضوء الشمس، ثم أخرجه معه خارج الدحل، ومرَّس له التمر وسقاه، وحمله على ظهره، وجاء به إلى داره، ودبَّت الحياة في الرجل من جديد، وأولاده لا يعلمون.
فقال: أخبرني بالله عليك، أسبوعًا كاملاً وأنت تحت الأرض ولم تمت.
قال: سأحدثك حديثًا عجبًا، لما نزلت ضعت وتشعبت بي الطرق، فقلت: آوي إلى الماء الذي وصلت إليه، وأخذت أشرب منه، ولكن الجوع لا يرحم، فالماء لا يكفي.
يقول: وبعد ثلاثة أيام، وقد أخذ الجوع مني كلَّ مأخذ، وبينما أنا متسلقٍ على قفاي، قد أسلمتُ وفوّضت أمري إلى الله، وإذا بي أحس بدفءِ اللبن يتدفق على فمي.
يقول: فاعتدلت في جلستي، وإذا بإناء في الظلام لا أراه يقترب من فمي فأشربُ حتى أرتوي، ثم يذهب، فأخذ يأتيني ثلاث مراتٍ في اليوم. ولكنه منذ يومين انقطع ما أدري ما سبب انقطاعه؟(1/46)
يقول: فقلت له: لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت، ظنَ أولادك أنك مت، وجاءوا إليَّ وسحبوا الناقة التي كان الله يسقيك منها، والمسلم في ظلِّ صدقته، قال تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ?(1). والجزاء من جنس العمل.
* * *
اللهم لك الحمد
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال رجل: لأتصدّقنّ بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق! فقال: اللهم لك الحمد على سارق؛ لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون، تصدق الليل على زانية، قال: اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غنيّ، فأصبحوا يتحدثون، تصدّق الليلة على غني! قال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني، فأتى فقيل له: أما صدقتك على سارق: فلعله يستعف عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني: فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله»(2).
* * *
هذه لقمة بلقمة
وقف سائل على امرأة وهي تتعشى، فقامت فوضعت لقمة في فيه، ثم بكرت إلى زوجها في مزرعته، فوضعت ولدها عنده، وقامت لحاجة تريد قضاءها فاختلسه الذئب فوقفت وقالت: يا رب: ولدي، فأتاها أتٍ فأخذ بعنق الذئب فاستخرجت ولدها من غير أذىً ولا ضرر، فقال لها: هذه اللقمة بتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل(3).
* * *
داووا مرضاكم بالصدقة
اشتكى والده من ألم مفاجئ لا يعرف سببه، ظل يتلوى من شدة الألم ذهب به ابنه إلى الطبيب لمعرفة سبب الألم. قام الطبيب بتشخيص العلاج وكان النتيجة «يوجد حصوة بالكلية» ولا بد من إخراجها بإجراء عملية جراحية وعاد الأب وابنه إلى البيت للاستعداد لهذه الجراحة.
__________
(1) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.
(2) رواه البخاري واللفظ له ومسلم النسائي.
(3) المستطرف في كل فن مستظرف: 1/37.(1/47)
في صباح اليوم التالي ذهب الابن إلى عمله الجديد الذي قام باستلامه منذ شهر تقريبًا، كان هذا اليوم هو آخر الشهر حيث استلم الابن الراتب وكان فرحًا مسرورًا؛ لأن هذا أول راتب يتقضاها عن عمله الجديد وفي أثناء عودته إلى المنزل رأى في الطريق رجلاً فقيرًا رث الهيئة كبير السن تظهر عليه علامات التعب والإعياء.
أخذ الابن يتأمل هذا المنظر، وفجأة اتخذ قرارًا سريعًا قرر أن يتصدق على هذا الفقير بكل راتبه الذي يتقاضاه، بنية أن يشفي الله ولده.
وبالفعل أخرج النقود وأعطاها لهذا الفقير، ثم انصرف إلى بيته وطرق الباب، فإذا بوالده يفتح له الباب ووجهه تعلوه الفرحة والسرور، وإذا به يقول لابنه: يا ولدي الحمد لله، الحمد لله، منذ قليل شعرت بألم شديد فذهبت إلى الحمام لأقضي حاجتي فنزلت الحصوة وأنا الآن أشعر بارتياح، بكى الابن من شدة الفرح وحمد الله عز وجل وصدق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: «داووا مرضاكم بالصدقة».
* * *
الصدقة تدفع البلاء(1)
كان عيسي - عليه السلام - في جماعة من أصحابه، فمر عليهم قصار ومعه رزمة من الثياب، فسلم عليهم ومشى فقال عيسى: احضروا جنازة هذا الرجل وقت الظهيرة. فلما كان نصف النهار ذهب عيسى إلى موضع يغسل القصار فيه الثياب، فرآه يغسلها فتعجب عيسى من ذلك فنزل جبريل ـ - عليه السلام - ـ فقال له عيسى: أليس قد أخبرتني أن فلانًا القصار يموت ظهر هذا اليوم؟ فقال: قلت ولكن لما جاوزكم تصدق بثلاث أرغفة فدفع الله عنه البلاء. وذلك أنه كان في رزمته حية سوداء، وكان من التقدير أنها تلسعه، فلما تصدق بالأرغفة الثلاثة دفع الله عنه البلاء، ففتح رزمته فإذا الحية قد أغلق على فمها.
* * *
أكرمه الله بتلك الصدقة
__________
(1) مختصر رونق المجالس للعامة عثمان بن يحيي الميري، ص60، ط1، 1405هـ
- 1985، دار الإيمان ـ دمشق ـ بيروت.(1/48)
كان في نيسابور رجل يقال له أبو عمرو الخفاف وكان من أول حاله فقيرًا مقلاً وكان بارًا بوالدته، فدعت له بالغنى فأغناه الله تعالى، وكان كثير الصدقات والخيرات. فكان في أحد الأيام في داره وحده وكان ذلك اليوم كثير المطر والثلج فجاء سائل على بابه فقام وأخذ رغيفًا ومشى حافيًا على الثلج وأعطاه. فلما توفي رُئِي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أكرمني وأحبني. فقيل له بتلك الصدقات الكثيرة. فقال لا ولكن بإعطائي الرغيف إلى الفقير لأجل الله عز وجل خاصة.
الأقرع والأبرص والأعمى
يخبرنا - صلى الله عليه وسلم - عن قصة ثلاثة رجال، أقرع وأبرص وأعمى طلبوا من الله الشفاء والمال، فأعطاهما الخير الكثير، وشفاهم مما هم فيه، وبعد فترة من الزمن جاء لكل منهم سائل على صورته السابقة «أي أقرع ثم أبرص ثم أعمى» ولكن القرع والأبرص تنكرا للسائل وبخلا وادعيا أنهما ورثا المال كابرًا عن كابر، وكأنهما لم يكن لهما سابق عهد بالفقر أو المرض، ويعلل كل منهما المنع بقوله: «الحقوق كثيرة» فنزع الله منهما الخير وعادا إلى ما كانا فيه من بؤس ومرض.
وأما الأعمى فيقول للسائل: «لا أجهدك في شيء أخذته لله» وأعطى للفقير حقه، واعترف بنعم الله عليه من مال وإبصار. فزاده الله من الخير، ورُدّت إليه أمواله التي دفعها للسائل: حيث لم يكن ذلك السائل سوى ملك أرسله الله لاختبار هؤلاء، فأفلح منهم الأعمى وخاب صاحباه.
* * *
من قصص الأجواد
* مرض قيس بن سعد - رضي الله عنه - فاستبطأ إخوانه، فسأل عنهم فقيل له: إنهم يستحون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديًا ينادي: من كان عليه لقيس حق فهو منه في حلّ. فلما فعل ذلك انكسرت عتبة بابه بالعشي من كثرة الزوار.(1/49)
* دخل علي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل يبكي. فقال له: ما شأنك؟ قال عليَّ دين. فقال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار. فقال علي بن الحسين: فهي علىَّ!!
* اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوق بتسعين ألف درهم. فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد. فقال لأهله: ما لهؤلاء. قالوا: يبكون على دارهم. فقال عبد الله بن عامر: يا غلام؟ ائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعًا.
أخي الكريم: هذه صفات سلف الأمة وأهل الفضل من الصحابة والتابعين، الذين تخرجوا من مدرسة النبوة، ونهلوا من معين الوحي المطهر، فأثمر فيهم ذلك رقة للقلوب، وصفاء للنفوس، وعاطفة جياشة، ورحمة وإيثارًا، وكرمًا وجودًا، ومروءة وبذلاً وفداء وتضحية. فأين نحن من هؤلاء؟ ومن أي المدارس تخرجنا؟ ومن أي معين نهلنا.؟ وإلى من ننتسب؟ وإلى أين نسير؟
أخي القارئ: قد يجد صاحب الدين أن المدين ذو عسرة، وأنه مقدور، وأنه
لا يملك قوت يومه، فلا يتحرك لذلك قلبه، ولا ترق له نفسه، بل يأخذ في مطالبته بالدين، ويحيط بالرجل من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره، ويلاحقه في بيته وفي عمله وفي المسجد، وفي كل مكان وعن طريق الهاتف، ناسيًا قول الله تعالى: ?وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ?(1)(2).
فمن محاسن الدين الإسلامي الأمر بإنظار المعسر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا، قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا- فتجاوز الله عنه»(3).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة»(4).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 280.
(2) من كتاب موسوعة أجمل الفوائد، أحمد سالم بادويلان، جـ2، ص85 – 87. دار طويق، الرياض.
(3) رواه البخاري.
(4) من كتاب محسن الدين الإسلامي، الشيخ عبد العزيز الحمد السلمان.(1/50)
فالعاقل من يسابق في ميدان الخيرات بما يقدمه من الصِّلة والإحسان لإخوانه الفقراء الذين أناخ الفقر عليهم وعضَّهُم البؤس بنابه وأوجعهم بكلابه الذين لا موارد لهم لا قليل ولا كثيرٌ، الذين لو رأيتهم لظننتهم من الأغنياء وأهل الثروة والمال، والله أعلم بما يقاسونه من الديون لما تحت أيديهم من الصغار والكبار، وما يقاسون من ألم الجوع، والفقر والشدة والعُسْر، لكن يمنعهم الحياء وعزَّة النفس أن يمدوا أيديهم للسؤال وأن يطلبوا الرزق إلا من الله الكبير المتعالي الرزاق. وهؤلاء هم الذين ينبغي الاعتناء بهم والبحث عن أحوالهم وذلك
عن طريق جيرانهم وأقربائهم حتى تقع الصدقة موقعها. وقد ورد في القرآن
وصفهم قال تعالى: ?يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ?(1) حيث أوصى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ففي الحديث الذي رواه البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تَردُّهُ اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطنُ له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس».
* * *
افعل هذا وأضمن لك حياة أفضل
هذه قصَّة حقيقية:
فهناك عمل بسيط إذا قمت به أضمن لك حياة أفضل، وبركة في دنياك وفوزًا في آخرتك. وإليكم هذه الحكاية: مضمون ومجرب.
عبد الله موظف براتب شهري 4000 أربعة آلاف ريال، يعاني من مشاكل مالية وديون، يقول: كنت أعتقد أني سأعيش على هذا الحال إلى أن أموت، وأن حالي لن يتغير، وأكثر ما أخافه أن أموت وعلي هذه الديون التي كل فترة تزيد والمفروض أنها تنقص. فهذه متطلبات الحياة والزواج.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 273.(1/51)
على الرغم أني مرتاح مع زوجتي وتقدر ظروفي، إلا أن تلك الديون تنغص عيشنا. وفي يوم من الأيام ذهبت كالعادة إلى الاستراحة. شباب مثل حالي وأردأ، فعندما تسمع مصيبة غيرك تهون عليك مصيبتك. وكان في ذلك اليوم أحد الأصدقاء الذين أحترم رأيهم، فشكوت له ما أنا فيه، ونصحني بتخصيص مبلغ من راتبي للصدقة، قلت له: «أنا لاقي أكل عشان أتصدق». ولما رجعت البيت قلت لزوجتي هذه السالفة، قالت: جرب يمكن يفتحها الله علينا.
قلت إذا سأخصص 300 ريال من الراتب للصدقة، والله بعد التخصيص لاحظت تغيرًا في حياتي النفسية؛ زانت، ما فيه تشكي صرت متفائلاً مبسوطًا رغم الديون. وبعد شهرين تنظمت حياتي، راتبي جزأته، ووجدت فيه بركة ما وجدتها قبل.
حتى أني من قوة التنظيم عرفت متى ستنتهي ديوني بفضل الله، وبعد
فترة عمل أحد أقاربي مساهمة عقارية، وأصبحت أجلب له مساهمين، وأخذ السعي، وكلما ذهبت لمساهم دلني على الآخر. والحمد لله أحسست أن ديوني ستزول قريبًا، وأي مبلغ أحصل عليه من السعي يكون جزء منه للصدقة.
والله إن الصدقة ما يعرفها إلا اللي جربها، تصدق واصبر، فسترى الخير والبركة بإذن الله، واللي ما يعرف الصدقة يشويها.
فهناك العديد من القصص اللي تبين فضل الله وبالذات التخصيص. «أحب الأعمال أدومها» الضمان على أن الصدقة تغير حياتك إلى الأفضل برهان على صحة الإيمان قال - صلى الله عليه وسلم -: «والصدقة برهان» سبب في شفاء الأمراض قال - صلى الله عليه وسلم -: «داووا مرضاكم بالصدقة».
تظل صاحبها يوم القيامة. قال - صلى الله عليه وسلم -: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس».
تطفئ غضب الرب. قال - صلى الله عليه وسلم -: «صدقة السر تطفئ غضب الرب».(1/52)
محبة الله عز وجل قال - عليه السلام -: «أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا؛ ولأن أمشي مع أخي في حاجة، أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا».
قال الله تعالى: ?لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ?(1).
تفتح لك أبواب الرحمة. قال - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
يأتيك الثواب وأنت في قبرك. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.... وذكر منها: صدقة جارية».
توفيتها نقص الزكاة الواجبة حديث تميم الداري ـ - رضي الله عنه - ـ مرفوعًا قال: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن كان أكملها كتبت له كاملة، وإن كان لم يكملها. قال الله تبارك وتعالى لملائكته: هل تجدون لعبدي تطوعًا تكملوا به ما ضيع من فريضة؟ ثم الزكاة مثل ذلك، ثم سائر الأعمال على حسب ذلك إطفاء خطاياك وتكفير ذنوبك. قال - صلى الله عليه وسلم -: «الصوم جُنّة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار».
وتقي مصارع السوء. قال - صلى الله عليه وسلم -: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء». وأنها تطهر النفس وتزكيها قال الله تعالى: ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا?(2). وغيره من الفضائل.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار»، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن وتكفرن العشير».
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 92.
(2) سورة التوبة، الآية: 103.(1/53)
أخي القارئ.. أختي القارئة: تصدق وحث غيرك على الصدقة. فلا تفوتكم هذه الفضائل وتندم ?يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?(1).
إذًا اتقوا النار ولو بشق تمرة. فلو أن للصدقة إحدى هذه الفضائل لكان حريًّا بنا أن نتصدق، فما بالك لو كانت هذه الفضائل جميعًا تأتيك من الصدقة ولو بريال واحد فقط؟ لا تحقرن من المعروف شيئًا، فاحصد الأجور وادفع عن نفسك البلاء.
* * *
أهم المصادر
ـ القرآن الكريم.
ـ التفسير الميسر، الشيخ الدكتور، عائض القرني، مكتبة العبيكان، الرياض ـ ط1، 1427هـ - 2006م.
ـ كتب أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ـ دليل السائلين، أنس إسماعيل أبو داود، ط1، 1416هـ - 1996م، الناشر نفسه جدة.
ـ التداوي بالصدقة، حسن أحمد حسن همام، ط1، 1426هـ - 2005م، دار الحضارة ـ الرياض.
ـ صدقة التطوع في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة، د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني، مؤسسة الجريسي، ط1، 1427هـ.
ـ الصدقات وأثرها على الفرد والمجتمع، إبراهيم بن محمد الضبيعي، ط1، 1408هـ - 1988م.
ـ الأعمال الصالحات، الشيخ فضل عبد الرازق محمود، ط1، 1406هـ - 1985م، دار المنار، القاهرة.
ـ لا تحزن، د. عائض القرني، ط1، 1423هـ - 2002م، مكتبة العبيكان، الرياض.
ـ تهذيب خالصة الحقائق، محمود بن أحمد الفارياني، هذبه وخرج
أحاديثه محمد خير رمضان يوسف، مجلد أول وثاني، دار ابن حزم، ط
1، 1421هـ - 2000. بيروت، لبنان.
ـ مختصر رونق المجالس، للعلامة عثمان بن يحي الميري، ط1، 1405هـ - 1985م، دار الإيمان دمشق سورية.
ـ موارد الظمآن لدروس الزمان، الشيخ عبد العزيز الحمد السلمان، جـ1، ط26، 1420هـ.
ـ كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار، العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفسي، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، ط1، 1426هـ - 2005م، دار ابن حزم، بيروت.
__________
(1) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89.(1/54)
ـ من أخبار السلف، زكريا بن غلام قادر الباكستاني، ط1، 1426هـ - 2005م، مكتبة الرشد، الرياض.
ـ مفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني.
ـ الأحاديث القدسية، الدكتور عمر على عبد الله محمد، جـ1، 1424هـ مكتبة العلوم والحكم ـ المدينة المنورة.
ـ أين نحن من هؤلاء؟ عبد الملك القاسم، ج4، 1424هـ - 2004م. ط1، دار القاسم، الرياض.
ـ بلوغ المرام في ثوبه الجديد. د. عائض القرني، ط2، 1427هـ - 2006م. مكتبة العبيكان، الرياض.
ـ المنتقى من الفوائد الإيمانية، مصطفى حقي، ط1، 1424هـ دار طويق، الرياض.
ـ روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، أبو حاتم البستي.
ـ الأربعون حديثًا في الأخلاق، د. أحمد معاذ حقي، ط1، دار طويق، الرياض.
ـ قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا.
ـ مرشد الخطيب في الخطب المنبرية، عبد الرحمن المصطفاوي، ط1، 1423هـ 2002م. دار المعرفة، بيروت.
ـ المغني لابن قدامة، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، جـ4، 1412هـ 1992م، ط2، طبعة مصر.
ـ المفلحون، محمد منير الجنباز، ط1،ٍ 1408هـ - 1988، دار الأماني ـ الرياض.
* * *
الفهرس
الافتتاحية…5
المقدمة…7
الابتلاء…11
الصدقة من البيان الإلهي…16
هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة…25
جود النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة…27
صدقة التطوع…29
أنواع الصدقة…32
آداب الصدقة…33
أي الصدقة أفضل؟…37
فيمن تحل له الصدقة…42
الصدقة الجارية…45
صدقات بلا مال!…46
الصدقة سعة في الصدر…47
خصال تربي الصدقة وتعظمها…49
ثواب الصّدقة في شهر رمضان وفي الحرمين…50
فوائد الصدقة…51
إذا أردت أن تتصدق…55
أسئلة عن الصدقة والحسنات…56
أقوال السلف في الصدقة…59
مواعظ في الصدقة…64
أشعار في الصدقة…67
حكايات في الصدقة والإحسان…68
هوَّنً علىَّ الدنيا…68
أبقيت لهم الله ورسوله…69
رجل اشترى الجنة…71
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها…72
عبرة..!…73
صنائع المعروف تقي مصارع السوء…74(1/55)
اللهم لك الحمد…77
هذه لقمة بلقمة…78
داووا مرضاكم بالصدقة…79
الصدقة تدفع البلاء…81
أكرمه الله بتلك الصدقة…82
الأقرع والأبرص والأعمى…83
من قصص الأجواد…84
افعل هذا وأضمن لك حياة أفضل…87
أهم المصادر…91
الفهرس…94
* * *(1/56)