دم المتعة على و القران على الترتيب ، يجب الهدي ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله .
لقوله تعالى: (فَمَن تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) ( البقرة / 196)
فإذا كان غير قادر عل الهدي ولا الصيام سقط عنه لأن الله تعالى لم يذكر إلا الهدي و الصيام فقط )
مسألة : ما الفرق بين دم المتعة والقران ، وبين الدم الواجب على من ارتكب محظوراً ؟
دمُ المتعة و القران : دم شكران ولذا فإنه يؤكل منه ويهدى منه و يتصدق منه ،
أما الدم الواجب على من ارتكب محظوراً ، دمُ جبران لا يؤكل منه ولا يُهدى منه ولكن يُصرف للفقراء .
مسألة : دمُ المتعة و القران متى يذبحه وأين يذبحه ؟
وقته : يوم النحر و أيام التشريق الثلاثة .
مكان ذبحه : منى وهو الأفضل ، أو مكة ، أو أي مكان داخل حدود الحرم ، وأما إذا دفعه إلى عرفة مثلاً أو الشرائع فإن ذلك لا يجزئ .
مسألة : ما هي مبطلات الحج ؟
يُبطل الحج بواحدٍ من اثنين :
( 1) الجماع إذا كان قبل جمرة العقبة ، أما إذا كان بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فلا يبطل حجه وإن أثم .
( 2) ترك ركن من أركان الحج .
{ تنبيه } :( وإذا بطل الحج بأحد هذين الإثنين فيجب عليه الحج من العام القادم لأن من دخل في النسك وجب عليه الإتمام ،
لقوله تعالى : (وَأَتِمّواْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) ( البقرة / 196)
مسألة : ما هو الإحصار ؟
الإحصار : هو كل ما يمنع الإنسان من نسكه من عدو أو غيره ، كضياع النفقة و المرض وغيره .
مسألة : ما هو الدم الواجب بالإحصار ؟
المحصر إذا لم يشترط ، عليه دم بالإحصار وعليه القضاء من العام المقبل ،
لأن من دخل في النسك وجب عليه الإتمام .
لقوله تعالى : (وَأَتِمّواْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) ( البقرة / 196)(2/146)
الدليل على الدم للمحصر قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ( البقرة / 196)
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) قال قد أُحصر رسولُ الله (، فحلق رأسهُ، وجامع نساءَهُ، ونحر هديَهُ، حتى اعتمر عاماً قابلاً )
مسألة : هل على المحصر حلق ؟
نعم عليه الحلق :
( لحديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) قال قد أُحصر رسولُ الله (
، فحلق رأسهُ، وجامع نساءَهُ، ونحر هديَهُ، حتى اعتمر عاماً قابلاً )
مسألة : ما هو جزاء الصيد ؟
الصيد نوعان : ( 1) نوع لا مثل له / ( 2) نوع له مثل )
( 1) نوعٌ لا مثل له : وهو نوعان :
( نوعٌ قضى به الصحابة ، فيرجع إلى ما قضوا به ، )
( نوعٌ لم يقض به الصحابة ، يحكم به ذوا عدلٍ من أهل الخبرة .)
( 2) نوعٌ له مثل : وهذا واضح وهنا يخير بين المثل أو كفارة طعام مساكين ،
لقوله تعالى: (فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) (المائدة / 95)
مسألة : لو صاد المحرم نعامة فماذا عليه ؟
عليه بدنة ( روي عن عمر و عثمان و علي ( )
مسألة : لو صاد المحرم حماراً وحشياً فماذا عليه ؟
عليه بقرة لأنها تشبهه ( روي عن عمر ( )
مسألة : لو قتل المحرم ضبع فماذا عليه ؟
فيه كبش .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة ) قال سألت رسول الله ( عن الضبع ؟ فقال : هو صيد ويجعل فيه كبشٌ إذا صاده المحرم )
مسألة : لو صاد المحرم غزالة فماذا عليه ؟
فيها عنزٌ لأنها أقرب شبهاً بها .
مسألة : ماذا لو صاد المحرم وبراً أو ضب فماذا عليه ؟
فيه جدي ( الذكر من أولاد الماعز له ستة أشهر ) ( قضى به عمر رضي الله عنه )
( الوبر : دويبة كحلاء دون السنور لا ذنب لها ) و الضب معروف .(2/147)
مسألة : ماذا لو صاد المحرم اليربوع فماذا عليه ؟
( اليربوع : حيوان يشبه الفأرة لكنه أطول منه رجلاً وله ذنب طويل في طرفه شعرٌ كثير وهو أذكى الحيوانات )
و اليربوع فيه جفرة ( لها أربعة أشهر )
مسألة : لو صاد المحرم أرنباً فماذا عليه ؟
فيه عناق ( وهو أصغر من الجفرة لها ثلاثة أشهرٍ ونصف )
مسألة : لو صاد المحرم حمامة فماذا عليه ؟
فيها شاة ( حكم بها عثمان و عمر و ابن عمر رضي الله عنهما ( )
مسألة : ما وجه الشبه و المماثلة بين الحمامة و الشاة ؟
وجه الشبه في الشرب فقط ، لا في الهيكل أو الهيئة ، وهذا كله قضاء الصحابة ( )
مسألة : إذا وجدنا شيئاً ليس فيه قضاءٌ للصحابة وام نجد له شبيهاً من النعم فماذا نصنع ؟
يكون من الذي لا مثل له ، فيكون فيه قيمته قلت أم كثرت .
مسألة : هل يجوز صيد الحرم المكي ؟
يحرم صيد الحرم المكي على المحرم و الحلال :
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : يوم افتتح مكة لا هجرة ولكن جهادٌ ونية وإذا استنفرتم فانفروا ، فإن هذا بلدٌ حرمَّ الله يوم خلق السماوات والأرض وهو حرامٌ بحرمةِ الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي وإنه لم يحلَّ لي إلا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحرمةِ الله إلى يوم القيامة ، لا يعضدُ شوكهُ ولا يُنفَّرُ صيدهُ ولا يلتقطُ لقطته إلا من عرَّفها ، ولا يختلى خلاها ، قال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه كان لقينهم ولبيوتهم ؟ قال : إلا الإذخر )
مسألة : هل يجوز قطع شجر الحرم المكي ؟
لا يجوز .
((2/148)
لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : يوم افتتح مكة لا هجرة ولكن جهادٌ ونية وإذا استنفرتم فانفروا ، فإن هذا بلدٌ حرمَّ الله يوم خلق السماوات والأرض وهو حرامٌ بحرمةِ الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي وإنه لم يحلَّ لي إلا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحرمةِ الله إلى يوم القيامة ، لا يعضدُ شوكهُ ولا يُنفَّرُ صيدهُ ولا يلتقطُ لقطته إلا من عرَّفها ، ولا يختلى خلاها ، قال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه كان لقينهم ولبيوتهم ؟ قال : إلا الإذخر )
الشاهد : ( لا يعضدُ شوكهُ )
مسألة : هل يحرم أن يحش حشيش الحرم المكي ؟
يحرم أن يُحش حشيشها إلا الإذخر لنفس الحديث .
الشاهد : (ولا يختلى خلاها ) أي لا يُحش حشيشها .
مسألة : هل أي شجر في الحرم يحرم قطعه ؟
الشجر الذي يحرم قطعه : هو الذي نبت بفعل الله لا دخل للآدمي فيه من غرس أو بذر ، أما ما غرزه الآدمي أو بذره فليس بحرام لأنه ملكه ولا يضاف إلى الحرم .
مسألة : ما هو الإذخر ؟
الإذخر : هو حشيش طيب الرائحة يستخدمه أهل مكة في البيوت و الحدادة و القبور .
( قينهم ) القين : الحداد ، ويستخدمه الحداد لأنه سريع الإشتعال ، و يستخدمونه في البيوت فيجعلونه فوق الجريد لئلا يتسرب الطين من بين الجريد فيختل السقف .
وكانوا يستخدمونه أيضاً في القبور ، فيما بين اللبنات ليمنع تسرب التراب إلى الميت .
مسألة : هل يحرم قطع الكمأة ونبات الأوبر من الحرم ؟
لا يحرم لأنه ليس شجر ولا حشيش .
مسألة : من قطع شجر الحرم المكي أو حشيشه فهل فيها جزاء ؟
ليس فيها جزاء لأنه ليس في السنة دليلٌ الثابت في صحيح على أنه فيها جزاء .
مسألة : ما حكم صيد حرم المدينة ؟
يحرم صيد حرم المدينة :
((2/149)
حديث عبد الله بن زيد الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (أنَّ إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وإني حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيمُ مكة، ودعوتُ لها في مُدَّها وصاعِها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : لو رأيتُ الظبَّاء بالمدينة ترتع ما ذعرتُها قال رسول الله ( ( ما بين لابتيها حرام )
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : ( المدينةُ حرمٌ من عَيْرٍ إلى ثور ، من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنةُ الله و الملائكةِ و الناس أجمعين )
مسألة : هل يُباح حشيش حرم المدينة ؟
يباح حشيش حرم المدينة للعلف :
(حديث علي الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : (المدينةُ حرمٌ من عَيْرٍ إلى ثور، (لا يُختلي خلاها ولا ينفر صيدُها ) ولا يصلح أن يُقطع منها شجرة إلا أن يعلفَ رجلٌ بعيره )
مسألة : هل يجوز الرعي في الحرمين ؟
يجوز لأن النبي ( كان معه إبلٌ ساقها إلى مكة وكانت بلا شك ترعى فلم يكمم أفواهها .
مسألة : هل مكة أفضل من المدينة ؟
(مكة أفضل من المدينة ولا شك :
( حديث عبد الله بن عدي بن حمراء الثابت في صحيحي الترمذي و ابن ماجه)
أن النبي ( قال : ( والله إنك لخيرُ أرضِ الله ، و أحبُ أرضِ الله إليَّ ، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجتُ )
وكذا الحرم المكي أفضل من الحرم المدني :
(لحديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي ( قال : صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام و صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (أُمرتُ بقريةٍ تأكلُ القرى ، يقولون يثرب وهي المدينة ، تنفى الناس كما ينفى الكيرُ خبث الحديد )
((2/150)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (على أنقاب المدينة ملائكةٌ لا يدخلها الطاعون ولا الدجال )
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلتَ بمكة من البركة )
(حديث زيد بن ثابت الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النارُ خبث الفضة )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : ( إن الإيمان ليأرزُ إلى المدينة كما تأرزُ الحيةُ إلى جحرها )
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (ليس من بلدٍ إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقبٌ إلا عليه الملائكة يحرسونها، ثم ترجُفُ المدينةُ بأهلها ثلاثَ رجَفات، فيُخرجُ الله كُلَّ كافرٍ ومنافق)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) قال : كان رسول الله ( إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أو وضع راحلته ، و إن كان على دابة حركها من حبها)
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : (لا يصبرُ على لأواءِ المدينة وشدتها أحدٌ إلا كنتُ له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة )
(حديث سفيان بن أبي زهيرالثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (يفتح اليمن فيأتي قومٌ يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم ، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون ، و تفتحُ الشام فيأتي قومٌ يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم ، و تفتحُ العراق فيأتي قومٌ يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير ٌ لهم لو كانوا يعلمون )
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : (لا يصبرُ على لأواءِ المدينة وشدتها أحدٌ إلا كنتُ له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة )
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : ( أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره النبي ( أن تُعرى المدينة ، فقال : ألا تحتسبون آثاركم )
((2/151)
حديث سعد بن أبي وقاص الثابت في الصحيحين ) أن النبي قال : (لا يكيدُ أهل المدينة أحدٌ إلا إنماع كما ينماعُ الملح في الماء )
( إنماع ) ذاب
( حديث أُسيد بن ظُهير الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه ) النبي ً يقول : ( صلاةٌ في مسجد قباء كعمرة )
مسألة : ما هي أركان الحج ؟
أركان الحج : أربعة
( 1 ) الإحرام
( 2) الوقوف بعرفة
( 3 ) طواف الإفاضة
( 4 ) سعي الحج
( أولاً ) الإحرام :
الإحرام ركن من أركان الحج :
(حديث عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي ( قال : إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )
( وجه الدلالة :
أن الإحرام هو نية الدخول في النسق ، و النية شرط لصحة أي عمل حيث قال النبي ( (إنما الأعمال بالنيات ) أي لكل عمل نية ،
(و إنما لكل امرئ ما نوى ) أي إنما جزاء كل عامل على عمله إنما يكون ذلك تبعاً لنيته إن خيراً فخير و إن شراً فشر .
( ثانياً) الوقوف بعرفة :
لقوله تعالى: (فَإِذَآ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)
( البقرة /198 )
وهذا يدل على أن الوقوف بعرفة أمرٌ مسلمٌ به .
( حديث عبد الرحمن بن يعمر الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : (الحَجّ عَرَفَةُ. مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجّ، أيامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ ومَنْ تَأَخّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ )
( ثالثاً) طواف الإفاضة :
لقوله تعالى: (ثُمّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطّوّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
(الحج / 29)
الشاهد : (وَلْيَطّوّفُواْ ) فعل مضارع مقرون بلام الأمر ، و الأصل في الأمر الوجوب .
((2/152)
حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن صفية بنت حيي، زوج النبي ( حاضت ، فذكرت ذلك لرسول الله ( فقال : (أحابستنا هي؟ قالوا : إنها قد أفاضت . قال : فلا إذاً )
الشاهد : قول النبي ( (أحابستنا هي؟ ) يدل على أن طواف الإفاضة لابد منه وأنه حابس لمن لم يات به حتى يؤديه .
( رابعاً ) سعي الحج :
( حديث أحمد الذي صححه الألباني في الإرواء ) أن النبي ( قال : ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي .
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أنها قالت : لعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا و المروة .
(حديث عروة الثابت في الصحيحين ) قال : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى: (إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطّوّفَ بِهِمَا )فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئسما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا، يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة،فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}. الآية ، قالت عائشة رضي الله عنها: فقد سن رسول الله ( الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
الشاهد : يبين الحديث أن قوله تعالى (قال تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطّوّفَ بِهِمَا) أنه رفع توهم وقع لبعض الناس حينئذ وذلك انه كان على الصفا و المروة صنمان يعبدان من دون الله في الجاهلية ، فتحرج المسلمون أن يطوفوا بين الصفا و المروة و عليهما صنمان ، فنفى الله تعالى هذا الجناح ليرتفع الحرج عن صدورهم حتى لا يبقى فيهم قلق .
مسألة : هل يوجد ركنُ خامس للحج ؟
[*] قال بعض أهل العلم :(2/153)
أن هناك ركنٌ خامس للحج وهو المبيتُ بمزدلفة واستدلوا بقوله تعالى (فَإِذَآ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [ البقرة / 198]
الشاهد : (فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) و الأصل في الآمر الوجوب ، فهو واجب في العبادة و تتركب منه العبادة فيكون ركن ،
و الصحيح أنه ليس بركن .
( حديث عبد الرحمن بن يعمر الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : (الحَجّ عَرَفَةُ. مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجّ، أيامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ ومَنْ تَأَخّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ )
الشاهد : أن النبي ( أخبر أنه من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، فمن الممكن أن الإنسان يأتي عرفة قبل طلوع الفجر بساعة مثلاً ويكون قد أدرك الحج و إن فاته المبيت بمزدلفة , وهذا دليلٌ واضح على أن المبيت بمزدلفة ليس بركن ، إذ لو كان ركناً لفسد الحج بفواته .
مسألة : ما هي واجبات الحج ؟
(واجبات الحج سبعة :
( 1 ، 2 ) الإحرام من الميقات ، و الوقوف بعرفة إلى الغروب
( 3 ، 4 ) المبيت بمنى و المبيت بمزدلفة
( 5 ، 6 ، 7 ) الرمي و الحلق و طواف الوداع .
مسألة : ما هي الأدلة على واجبات الحج السبعة ؟
( 1 ) الإحرام من الميقات :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : يُهلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة و أهل الشام من الجحفة )
الشاهد : هذا خبر بمعنى الأمر و الأصل في الأمر الوجوب .
{ تنبيه } :( الإحرام ركن ، الإحرام من الميقات واجب .
( 2) الوقوف بعرفة إلى الغروب :(2/154)
لمكث النبي ( إلى الغروب مع أنه لو دفع بالنهار لكان أرفق بالناس لآن ضوء النهار معيناً لهم على السير بعكس الغروب ، ولا سيما في عهد النبي ( وقد قال النبي ( ( خذوا عني مناسككم ) فترك النبي ( للأيسر ، يدل على أن الأيسر ممتنع ، لأن الأيسر لو لم يكن ممتنع لبادر النبي ( إلى فعله لأن من سنته ( أنه ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن اثماً .
حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : ما خُيرَّ رسول الله ( بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه ، وما انتقم النبي ( لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله، فينتقم لله بها )
(ثم إن الدفع قبل الغروب فيه مشابهة لأهل الجاهلية فقد كانوا يفعلون ذلك ، ومشابهة الكفار في عباداتهم محرمة .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : ( من تشبه بقومٍ فهو منهم )
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أقلُ أحوالِ هذا الحديث التحريم .
إن تأخير النبي ( إلى غروب الشمس ثم مفارقته قبل أن يصلي المغرب ، يدل على لزوم البقاء إلى الغروب .
( 3 ) المبيت بمنى ليالي منى :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( رخَّصَ للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته )
الشاهد : كون النبي ( رخص للعباس ترك المبيت بمنى يدل على أن المبيت بمنى كغيره عزيمة .
( حديث عاصم بن عدي الثابت في صحيح السنن الأربعة ) قال : (رَخّصَ رسولُ الله ( لِرعَاءِ الإبِلِ في البَيْتُوتَةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النّحْرِ ثُمّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النّحْرِ فَيَرْمُونَهُ في أحَدهِمَا)
الشاهد : كون النبي ( يُرخص لرعاء الإبل في البيتوتة يدلُ على أن المبيت بمنى لغيرهم عزيمة .
{(2/155)
تنبيه } :( يُلحق برعاء الإبل و السقاة ، ومن يماثلهم ممن يشتغلون بمصالح الحجيج العامة كرجال المرور و صيانة أنابيب المياة و المستشفيات .
تنبيه } :( يجب الدم على من ترك المبيت بمنى كليةً ، أما من ترك ليلةً فعليه إطعام مسكين ، ومن ترك ليلتين فعليه إطعام مسكينين )
مسألة : في هذه الآونة الأخيرة بعض الناس لا يجد مكاناً بمنى فماذا يصنع ؟
يجب عليهم في هذه الحالة أن ينزلون عند آخر خيمة أهل منى استدلالاً بقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (التغابن / 16)
و قوله تعالى : ({لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا )( البقرة /286)
مسألة : هل المبيت بمنى يلزم الإنسان أن يضطجع فيها ؟
لا يلزم الاضطجاع ، لأن المراد بالمبيت بمنى هو المكث لكن النوم أفضل من إحياءه بقراءة القرآن أو الذكر إقتداء بالنبي ( لأن النبي ( لا يفعلُ إلا الأفضل .
( 4 ) المبيت بمزدلفة :
(دليل الوجوب :
قوله تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )
( البقرة / 198 )
الشاهد : (فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) و الأصل في الأمر الوجوب .
مسألة : هل يُرخص للسقاة و الرعاة ترك المبيت بمزدلفة كترك المبيت بمنى ؟
لا يُرخص للسقاة و الرعاة ترك المبيت بمزدلفة لسببين :
( 1) عدم ورود السنة بذلك .
( 2) أنه لا حاجة لذلك ، فإن الإبل مع أصحابها في المزدلفة لا حاجة لرعيها .
( 5 ) رمي الجمار :
دليل الوجوب : أنه عمل يترتب عليه الحل فكان واجباً ليكون فاصلاً بين الحل و الإحرام ، و الرمي آكد وجوباً من المبيت بمنى ، ولذا فإن النبي ( رخصَ للرعاة في المبيت خارج منى و لم يرخص لهم في رمي الجمار .
( 6) الحلق أو التقصير :
دليل الوجوب : أن الله تعالى جعله وصفاً للحج أو العمرة حيث قال سبحانه :
((2/156)
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ )
( الفتح / 27)
الشاهد : أنه إذا عُبر عن العبادة بجزءٍ منها كان دليلاً على أنه واجب .
( 7) طواف الوداع :
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) قال : أُمر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلا أنه خُفف عن الحائض )
الشاهد : ( أُمر ) و الأصل في الأمر الوجوب .
مسألة : ما هي سنن الحج ؟
سنن الحج : الباقي بخلاف الأركان و الواجبات ,
على قاعدة ( وما كان ذا ضد فإني بضده غنيٌ ، فزاحم بالذكاء لتفضلا )
( الإمام الشاطبي )
مسألة : كيف يدخل الحاج مكة ؟
يدخل مكة من أعلاها ، أي من الحجون ، ويخرج من أسفلها .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها و خرج من أسفلها )
مسألة : هل دخول النبي ( مكة من أعلاها وقع اتفاقاً أم قصداً ؟
الصحيحن ذلك وقع اتفاقاً لا قصداً ، وعلى هذا فإنه يُسن أن يدخل مكة من أعلاها إذا كان ذلك أرفق لدخوله ، و دليل ذلك أن النبي ( قال لم يأمر الناس أن يدخلوها من أعلاها.
مسألة : هل يُسن دخول المسجد الحرام من باب أبي شيبة؟
نعم يُسن دخول المسجد الحرام من باب أبي شيبة .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب أبي شيبة ثم دخل .
{ تنبيه } :( قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : باب أبي شيبة الآن عفا عليه الدهر ولا يوجد له أثر الآن ، لكنا أدركنا عقداً حوالي مقام إبراهيم قريبٌ منه يقال أن هذا هو باب أبي شيبة ، وكأن الإنسان الذي يدخل من باب السلام يتجه إالى الكعبة يدخل من أبي شيبة .
مسألة : هل دخول النبي ( باب أبي شيبة وقع اتفاقاً أم قصداً ؟
الصحيح وقع اتفاقاً لا قصداً ، وعلى هذا فإنه يُسن أن يدخل من هذا الباب إن كان هذا أرفق به وإلا فحسبما تيسر.(2/157)
مسألة : هل يُسن للحاج أو المعتمر إذا رأى البيت أن يرفع يديه ويقول اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام ، اللهم زد الهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبراً وزد من عظمه وشرفه ممن حج واعتمر تعظيماً وتشريفاً وتكريماً ومهابة وبرا .
الصحيح أنه لا يُسن للحاج أو المعتمر أن يقول هذا الدعاء لأن الحديث ضعيف ، وعلى هذا فإنه يدخل باب المسجد كمل يدخل أي مسجد آخر يقول اللهم صلِّ على محمد وسلم اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
{ تنبيه } :( يبتدىء المعتمر بطواف العمرة والقارن والمفرد للقدوم لأن المفرد لم يقصد العمرة والقرن أدخل أعمال العمرة في الحج .
وسمي طواف القدوم بهذا الاسم ؛ لأنه أول ما يفعل عند قدوم الإنسان إلى مكة قبل أن يحط رحله .
مسألة : ما حكم طواف القدوم؟
طواف القدوم سنة مستحبة ، وسمي طواف القدوم بهذا الاسم ؛ لأنه يقع أول ما يقدم الإنسان إلى مكة.
مسألة : هل يُسن الاضطباع في طواف القدوم؟
دلت السنة الصحيحة على أنه يٍُسن الاضطباع في طواف القدوم .
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح أبي داوود أن النبي ( اضطبع فاستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا ثم يطلعون عليهم يرملون تقول قريش كأنهم الغزلان قال بن عباس فكانت سنة .
مسألة : ما الحكمة من الاضطباع ؟
الحكمة من الاضطباع إظهار القوة والنشاط لأن هذا أنشط للإنسان مما لو التحف بردائه .
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح أبي داوود أن النبي ( اضطبع فاستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا ثم يطلعون عليهم يرملون تقول قريش كأنهم الغزلان قال بن عباس فكانت سنة .
مسألة : كيفية الطواف ؟
((2/158)
1) يحاذي الحجر الأسود بكلِ بدنه ثم يبدأ الطواف. والحجر الأسود هو الذي في الركن الشرقي الجنوبي من الكعبة، ويوصف بالأسود لسواده، ويخطئ من يقول الحجر الأسعد، فإن هذه تسمية بدعية، فإن اسمه الحجر الأسود، لكن من العوام من يقول: الحجر الأسعد، فيجعل هذا الحجر من السعداء، بل أسعد السعداء، لأن الأسعد اسم تفضيل محلى بـ«أل» يدل على أنه لا أحد يساميه في السعادة، وهذا من الغلو بلا شك، بل نقول الحجر الأسود كما هو أسود، وإذا لقبناه بوصفه لم يكن في ذلك إهانة له ولا إذلالٌ له .
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي ( قال : «نَزَلَ الحَجَرُ الأسْوَدُ مِنَ الجَنّةِ وهُوَ أشَدّ بيَاضاً مِنَ اللّبَنِ فَسوّدَتْهُ خَطايا بَنيِ آدَمَ».
(2) يستلم الحجر الأسود أن يمسحه بيده لفعل النبي ( . (لحديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال : لم ار رسول الله ( يمسّ إلا اليمانيين .
(3) يقبل الحجر لأنه ثبت عن النبي ( أنه كان يقبله .
(لحديث عمر الثابت في الصحيحين) أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ( يقبلك ما قبلتك» فأفاد ـ رضي الله عنه ـ عنه بهذا أن تقبيله تعبُّد لله واتباع للرسول (.
(4) فإن شق عليه تقبيل الحجر فإن عليه ان يستلم الحجر بيدة _ أي يمسح الحجر بيده_ ثم يُقبَّل يده (لحديث نافع الثابت في الصحيحين) قال رأيت ابن عمر رضي الله عنهما استلم الحجر بيده ثم قبّل يده وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله ( يفعله.
(5)إذا لم يستطع إستلام الحجر الأسود ولا تقبيله فيكفي أن يشير إليه بيده لفعل النبي ( .
(لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال طاف النبي ( بالبيت على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيءٍ كان عنده وكبّر .
(6)عند استقبال الحجر الأسود يُكبّر :
((2/159)
لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال طاف النبي ( بالبيت على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيءٍ كان عنده وكبّر .
(7)ويجعل البيت عن يساره» ، أي: إذا طاف، يجعل البيت عن يساره لأن النبي ( طاف هكذا أي جعل البيت عن يساره، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم»
(8) ويطوف سبعاً يرمل في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً
(لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) عنهما قال: قدم رسول الله ( وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، وأمرهم النبي ( أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
{ تنبيه } :( والرمَل ليس هو هز الكتفين كما يفعله الجهال، بل الرمَل هو المشي بقوة ونشاط، بحيث يسرع، لكن لا يمد خطوه، والغالب أن الإنسان إذا أسرع يمد خطاه لأجل أن يتقدم بعيداً، لكن في الطواف نقول: أسرع بدون أن تمد الخطا بل قارب الخطا.
مسألة : ماذا يقول الإنسان أثناء الطواف؟
يقول الإنسان أثناء الطواف ما تيسر له من ذكر الله تعالى والاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل ويقول يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»
(لحديث ابن عبد الله ابن السائب الثابت في صحيح أبي داود) قال سمعت النبي ( يقول ما بين الركنين «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله :
«والمناسبة في ذلك أن هذا الجانب من الكعبة هو آخر الشوط، وكان النبي ( يختم دعاءه غالباً بهذا الدعاء».
{ تنبيه } :((2/160)
وأما الزيادة: «وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار»، فهذه لم ترد عن النبي (، ولا ينبغي للإنسان أن يتخذها تعبداً لله، لكن لو دعا بها لم ينكر عليه؛ لأن هذا محل دعاء، ولكن كونه يجعله مربوطاً بهذه الجملة: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار»، غير صحيح.
مسألة : هل يجوز الطواف على الشاذروان ؟
(الشاذروان) : هو السوار المحيط بالكعبة ، ولا يصح الطواف على الشاذروان لأن الشاذروان من الكعبة وقد قال الله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29) سورة الحج ولم يقل في البيت العتيق . فلابد أن يكون الطواف حول البيت .
مسألة : هل يصح الطواف على جدار الحجر؟
لا يصح الطواف على جدار الحجر ولو على الجانب الخارج من الكعبة (لأن الحجر ليس كله من الكعبة، فليس من الكعبة إلا مقدار ستة أذرع وشيء) ؛ فيكون هذا الزائد تابعاً للأصل.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: سألت النبي ( عن الجَدْرِ أَمِنَ البيت هو؟ قال: (نعم). قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: (إن قومك قصَّرت بهم النفقة). قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: (فعل ذاكِ قومكِ ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، لولا أن قومك حديث عهد بالجاهليَّة فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه في الأرض).
مسألة : هل الحجر يُسمى حجر إسماعيل ؟
«جدار الحجر» بكسر الحاء وسكون الجيم، الحجر معروف وهو البناء المقوس من شمالي الكعبة، ويسمى عند العامة حجر إسماعيل، ـ وسبحان الله ـ كيف يكون حجر إسماعيل وإسماعيل لم يعلم به؟! وقد بُنِيَ بعده بأزمان كثيرة؛ لأن سبب بنائه كما ثبت الثابت في صحيح أن قريشاً لما بنت الكعبة قصرت بهم النفقة، وقد أجمعوا على أن يكون البناء من كسب طيب، فقالوا: لا بد أن نبني البعض، وندع البعض، وأنسب شيء يدعونه أن يكون الناحية الشمالية، وجعلوا هذا الجدار وسمي الحجر؛ لأنه محجر.(2/161)
مسألة : ما حكم من طاف عُريانا ؟
من طاف عرياناً فإنه لا يصح طوافه؛ لأمر النبي (: «أن ينادي في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك ـ يعني العام التاسع ـ ولا يطوف بالبيت عريان»
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة، في مؤذنين يوم النحر، نؤذن بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله ( عليا، فأمره أن يؤذن بـ "براءة". قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
(وكان الناس في الجاهلية إن حصلوا على ثياب من قريش أخذوها عاريَّة، أو شراء، أو هدية، فطافوا بها، وإلا فلا، على أن بعض العرب، وإن كانوا من قريش يقولون لا نطوف بثيابنا؛ لأنها ثياب عصينا الله فيها فلا نطوف بها، نقول: إذا طفتم عراة فهي ثياب عصيتم الله بها، أي: بخلعها.
وكانت المرأة تأتي فتطوف عارية، وتضع يدها على فرجها، وترتجز في الطواف وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ، وما بدا منه فلا أحله .
أي: ما بدا منه فلا أحل لأحد أن ينظر إليه، وهذا من الجهل .
أما في الإسلام ـ ولله الحمد ـ فلا يطوف بالبيت عريان، ومن المعلوم أنه لا أحد يطوف خالعاً ثيابه.
لكن قد يطوف وهو لم يستر الستر الواجب بأن تكون عليه ثياب رقيقة، وعليه سراويل لا تصل إلى الركبة، فيطوف فلا يصح طوافه؛ لأنه لم يستر عورته؛ إذ لا بد من ستر ما بين السرة والركبة بالنسبة للرجال، أما النساء فحكم سترها في الطواف كحكم سترها في الصلاة
مسألة : هل يجوز للطائف أن يركب ويطوف؟
يجوز للطائف أن يركب ويطوف إن وجد سبب يدعو لركوب كالمرض مثلاً .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال طاف النبي ( بالبيت على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيءٍ كان عنده وكبّر .
((2/162)
حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين) قالت: شكوت إلى رسول الله ( أني أشتكي، قال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة). فطفت، ورسول الله ( يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
مسألة : هل يجوز الكلام في الطواف؟
يجوز الكلام في الطواف ولكن عليه أن لا يتكلم إلا بخير ، ويفضل أن يشغل نفسه بالذكر والاستغفار وقراءة القرآن .
(حديث ابنِ عَبّاسٍ الثابت في صحيح الترمذي) «أنّ النبيّ ( قالَ: الطّوافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصّلاَةِ إلاّ أنكُمْ تَتَكَلّمُونَ فيهِ فَمنْ تَكَلّمَ فِيهِ فَلاَ يَتَكَلّمنّ إلاّ بِخَيْرٍ».
(حديث ابنِ عَبّاسٍ الثابت في صحيح البخاري) أن النبي ( مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان، ربط يده إلى إنسان، بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك، فقطعه النبي ( بيده، ثم قال: (قده بيده).
مسألة : ما هي شروط الطواف؟
شروط الطواف ما يلي :
(1) الطهارة مكن الحدثين الأصغر والأكبر:
(حديث ابنِ عَبّاسٍ الثابت في صحيح الترمذي) «أنّ النبيّ ( قالَ: الطّوافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصّلاَةِ إلاّ أنكُمْ تَتَكَلّمُونَ فيهِ فَمنْ تَكَلّمَ فِيهِ فَلاَ يَتَكَلّمنّ إلاّ بِخَيْرٍ».
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال إني سمعت رسول الله ( يقول لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنها قالت: قدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، قالت: فشكوت ذلك إلى رسول الله ( قال: (افعلي كما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري).
(2) ستر العورة : لقوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف
((2/163)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة، في مؤذنين يوم النحر، نؤذن بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله ( عليا، فأمره أن يؤذن بـ "براءة". قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وكان الناس في الجاهلية إن حصلوا على ثياب من قريش أخذوها عاريَّة، أو شراء، أو هدية، فطافوا بها، وإلا فلا، على أن بعض العرب، وإن كانوا من قريش يقولون لا نطوف بثيابنا؛ لأنها ثياب عصينا الله فيها فلا نطوف بها، نقول: إذا طفتم عراة فهي ثياب عصيتم الله بها، أي: بخلعها.
وكانت المرأة تأتي فتطوف عارية، وتضع يدها على فرجها، وترتجز في الطواف وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
أي: ما بدا منه فلا أحل لأحد أن ينظر إليه، وهذا من الجهل.
أما في الإسلام ـ ولله الحمد ـ فلا يطوف بالبيت عريان، ومن المعلوم أنه لا أحد يطوف خالعاً ثيابه.
لكن قد يطوف وهو لم يستر الستر الواجب بأن تكون عليه ثياب رقيقة، وعليه سراويل لا تصل إلى الركبة، فيطوف فلا يصح طوافه؛ لأنه لم يستر عورته؛ إذ لا بد من ستر ما بين السرة والركبة بالنسبة للرجال، أما النساء فحكم سترها في الطواف كحكم سترها في الصلاة
(3) يطوف سبعة أشواط كاملة لأن النبيّ ( طاف سبعة أشواط كاملة وقال : خذوا عني مناسككم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: قدم النبي ( فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
(4) أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود وينتهي إليه جاعلاً البيت على يساره لأن النبيّ ( فعل ذلك وقال : خذوا عني مناسككم .
(5) أن يكون الطواف خارج البيت :(2/164)
وقد قال الله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29) سورة الحج ولم يقل في البيت العتيق . فلابد أن يكون الطواف حول البيت .
(6) الموالاة لأن النبيّ ( طاف كذلك وقال : خذوا عني مناسككم .
مسألة : ماذا يصنع الإنسان بعد أن يتم الطواف؟
بعد الفراغ من الطواف يصلي ركعتين خلف المقام، لفعل النبي (، وينبغي إذا تقدم إلى المقام أن يقرأ قول الله تعالى: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} [البقرة: 125] لأجل أن يشعر بفائدة عظيمة وهي أن فعله لهذه العبادة كان امتثالاً لأمر الله ـ عزّ وجل ـ حتى تتحقق بذلك الإنابة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، والذل لأوامره.و مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو معروف، وسمي مقاماً؛ لأنه قام عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين ارتفع بناء الكعبة ليبني مِن فوقه.
ثم يصلي ركعتين خلف المقام ويقرأ فيهما بسورتي الإخلاص (قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبيّ ( قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص (قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد)
مسألة : ماذا يصنع الإنسان بعد أن يصلي ركعتين خلف المقام ؟
بعد أن يصلي الإنسان ركعتين خلف المقام يعود ثُمَّ يَسْتَلِمُ الحَجَرَ، وَيَخْرُجُ إِلى الصَّفَا مِن بَابِهِ فَيَرْقَاهُ حَتَّى يَرَى البَيْتَ
{ تنبيه } :( استلام الحجر لمن أراد أن يسعى، وأما من طاف طوافاً مجرداً ولم يُرد أن يسعى فإنه لا يسن له استلامه، وهذا الاستلام للحجر كالتوديع لمن قام من مجلس، فإنه إذا أتى إلى المجلس سلَّم، وإذا غادر المجلس سلم.
((2/165)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ !< واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى >! فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي ( كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ !< إن الصفا والمروة من شعائر الله >! أبدأ بما بدأ الله به .
مسألة هل يستحب الشرب من ماء زمزم؟
بعد الفراغ من الطواف والصلاة ركعتين خلف المقام يستحب الشرب من ماء زمزم فإن لها فضلاً عظيما .
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري):أن النبي ( قال: (يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت عينا معينا). أي عيناً تجري
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع):أن النبي ( قال : خير ماءٍ على وجه الأرض ماء زمزم ، فيه طعامٌ من الطعم وشفاءٌ من السُّقم .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة):أن النبي ( قال : ماء زمزم لما شُرب له.
مسألة : هل يجوز حمل ماء زمزم؟
يجوز حمل ماء زمزم
(حديث عائِشَةَ الثابت في صحيح الترمذي)«أنّهَا كانَتْ تَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَم وتُخْبِرُ أنّ رسولَ الله ( كانَ يَحْمِلُهُ».
مسألة : هل يُسن الدعاء عند الملتزم؟
بعد الشرب من ماء زمزم يُسن الدعاء عند الملتزم .
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الجامع):أن النبي ( كان يلزق صدره ووجهه بالملتزم .
مسألة : ماذا يصنع الحاج أو المعتمر إذا دنا من الصفا؟(2/166)
إذا دنا الحاج أو المعتمر من الصفا يقرأ قوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158) سورة البقرة
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ !< واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى >! فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي ( كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ !< إن الصفا والمروة من شعائر الله >! أبدأ بما بدأ الله به .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: قدم النبي ( فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
{ تنبيه } :( قول الله تعالى: {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}} يكفي دليلاً في مشروعية السعي حيث جعلهما من شعائر الله، وقد قال الله تعالى: {{ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}} والطواف بهما تعظيم لهما، فيكون قوله تعالى: {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}} دليلاً على أن من طاف بهما فقد عظم شعائر الله وأنه لا جناح عليه.(2/167)
وأما قوله: {{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}}، فهذا رفع توهم وقع من بعض الناس حين نزول الآية، وذلك أنه كان على الصفا والمروة صنمان يعبدان من دون الله، فتحرج المسلمون من أن يطوفوا بالصفا والمروة، وعليهما صنمان قبل الإسلام، فنفى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك الجناح؛ ليرتفع الحرج عن صدورهم، فكان الغرض من نفي الجناح رفع الحرج عن صدورهم، حتى لا يبقى فيها قلق.
مسألة : ما مقدار السعي بين الصفا والمروة؟
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: قدم النبي ( فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
مسألة : هل تُسن الطهارة للسعي بين الصفا والمروة؟
تُسن الطهارة للسعي بين الصفا والمروة ولا يشترط :
( حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : دخل علىَّ رسول الله ( وأنا أبكي ، فقال مالك ، قلت لوددتُ أني لم أحجُ هذا العام . قال : لعلك نُفسْتِ ، قلت نعم . قال : فإن ذلك شئٌ كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري .
الشاهد : قوله ( لعائشة رضي الله تعالى عنها فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري .
مسألة : هل الموالاة شرطٌ في السعي ؟
الموالاة شرطٌ في السعي لأن النبيّ ( سعى متواليا وقال : خذوا عني مناسككم .
{ تنبيه } :( أما إذا قطع الإنسان السعي ليتنفس كأن يكون في زحام أو لقضاء حاجة من بولٍ أو غائط فلاحرج لأن الموالاة فاتت للضرورة.
...
مسألة : ما هي شروط صحة السعي بين الصفا والمروة؟
يشترط لصحة السعي بين الصفا والمروة أمور هي :
(1) أن يكون بعد طواف
(2) أن يكون سبعة أشواط
(3) أن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة
(4) أن يكون السعي في المسعى وهوالطريق الممتد بين الصفا والمروة ، وذلك لفعل النبيّ ( ذلك وقال : خذوا عني مناسككم .
مسألة : ماذا يصنع الحاج يوم التروية؟(2/168)
من السنة التوجه إلى منى يوم التروية ، فإن كان الحاج قارناً أو مفرداً توجه إليها بإحرامه وإن كان متمتعاً أحرم بالحج وفعل كما فعل عند الميقات ، والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازلٌ فيه .
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي ( وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن، ولكل آت أتى عليهن من غيرهم، ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة.
الشاهد : قوله ( فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة.
ويستحب الإكثار من الدعاء والتلبية عند التوجه إلى منى ، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر كلها في منى قصراً بلا جمع؛ لأن النبي ( لم يكن يجمع في منى وإنما جمع في عرفة، وفي مزدلفة.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله ( فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فأجاز حتى أتى عرفة .
مسألة : لماذا سمي يوم التروية بهذا الإسم؟
يوم التروية : هو اليوم الثامن من ذي الحجة ،وسمي يوم التروية بهذا الإسم لأنه مشتق من الرواية لأن الإمام يروي للناس مناسكهم وقيل من الإرتواء لأنهم يرتون الماء في ذلك اليوم ويجمعون بمنى.
مسألة : متى يتوجه الحاج إلى عرفة؟
يتوجه الحاج إلى عرفة إذا طلعت الشمس من يوم عرفة
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله ( فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فأجاز حتى أتى عرفة .
مسألة : هل عرفة كلها موقف؟
عرفة كلها موقف إلا بطن عُرنة
مسألة : هل يصير الحاج إلى عرفة رأساً ؟(2/169)
لا يصير الحاج إلى عرفة رأساً بل ينزل أولاً بنمرة ، ونمرة قرية قرب عرفة وليست من عرفة ، والنزول بنمرة سنة لمن تيسر له لأن النبيّ ( ضُربت له القبة بنمرة.
مسألة : إلى متى يظل الحاج بنمرة؟
يظل الحاج بنمرة إلى أن تزول الشمس فإذا زالت الشمس ركب إلى نمرة إلى عرفة لفعل النبيّ ( كما جاء في حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما عند مسلم .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله ( فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فأجاز حتى أتى عرفة فوج القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما .
مسألة : هل يسن للحاج أن يقف بعرفة راكباً؟
يسن للحاج أن يقف بعرفة راكباً لأن النبيّ ( وقف راكبا
مسألة : كيف يقف الإنسان راكبا ؟
المراد بالوقوف هنا المكث فالقاعد يعتبر واقفا.
مسألة : هل يسن للحاج أن يقف بعرفة عند الصخرات وجبل الرحمة؟
نعم يسن للحاج أن يقف بعرفة عند الصخرات وجبل الرحمة .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : ثم ركب رسول الله ( حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص .
مسألة : هل جبل الرحمة له اسم آخر ؟
يسمى جبل الرحمة بجبل الدعاء والمناسبة ظاهرة جداً فإن يوم عرفة يوم رحمة ودعاء .
مسألة : هل يستقبل الحاج جبل الرحمة عند الدعاء؟
لا يستقبل الحاج جبل الرحمة عند الدعاء بل هذا من الجهل وإنما السنة أن يستقبل القبلة عند الدعاء، وحينئذٍ سيكون الجبل خلفه أو عن يمينه أو شماله.
((2/170)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : ثم ركب رسول الله ( حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص .
مسألة : هل يشرع صعود جبل الرحمة؟
المسألة على التفصيل الآتي :
أما من صعده تعبداً فصعوده ممنوع؛ لأنه يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وأما من صعده تفرجاً، فهذا جائز ما لم يكن قدوة يقتدى به الناس، فيكون ممنوعاً.
وأما من صعده إرشاداً للجهال عما يفعلونه أو يقولونه فوق الجبل فصعوده مشروع، أو واجب حسب الحال؛ لأننا نسمع أن بعض الجهال إذا صعد الجبل يكتب كتابات، ويضع فيه خرقاً وأشياء منكرة، فإذا ذهب طالب علم يرشد الناس، ويبين أن هذا ابتداع، وأنه لا ينبغي، فنقول إنه مشروع، إما وجوباً، وإما استحباباً.
مسألة : هل يستحب الإكثار من الدعاء يوم عرفة؟
نعم يستحب الإكثار من الدعاء يوم عرفةولا سيما بالدعاء الوارد
«خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ ( قال : «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
مسألة : هل اشتغاله بغير الدعاء جائز؟
الجواب : نعم وربما يكون مطلوباً إذا كان وسيلة للنشاط والإنسان بشر يلحقه الملل، ونبينا ( يقول: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا»
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبيّ ( قال :
اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا )(2/171)
فإذا لحق الإنسان ملل؛ فلا حرج أن يستريح إما بنوم، أو بقراءة قرآن، أو بمذاكرة مع إخوانه، أو بمدارسة القرآن، أو في أحاديث تتعلق بالرحمة، والرجاء، والبعث والنشور وأحوال الآخرة حتى يلين ويرق قلبه، والإنسان طبيب نفسه في هذا المكان.
لكن ينبغي أن يغتنم آخر النهار بالدعاء، ويتفرغ له تفرغاً كاملاً.
مسألة : ما هو وقت الوقوف بعرفة ؟
القول الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن الوقت وقتان (وقت أفضلية ووقت إجزاء)
(1)(وقت الأفضلية) : من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة إلى غروب الشمس .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : ثم ركب رسول الله ( حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص .
(2)(وقت الإجزاء) : أن يقف بعرفة ولو لحظة قبل طلوع فجر يوم النحر.
(حديث عبدِ الرحمَنِ بنِ يَعْمَر الثابت في صحيح السنن الأربعة)َ «أنّ نَاساً مِنْ أهْلِ نَجْدٍ أتَوْا رسولَ الله ( وهُوَ بعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ فَأَمَرَ مُنَادِياً فَنَادَى: الحَجّ عَرَفَةُ. مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجّ، أيامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ فَمَنْ تَعَجّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ ومَنْ تَأَخّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ.
مسألة : ما هو فضل يوم عرفة؟
يوم عرفة من كنوز الحسنات بنص السنة الثابتة الصحيحة :
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ ( قال : «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبيّ ( قال : قال * ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة .
((2/172)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبيّ ( قال : إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم : انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شعثا غبرا .
مسألة : هل من السنة قصر الخطبة و تعجيل الصلاة يوم عرفة ؟
نعم من السنة قصر الخطبة و تعجيل الصلاة يوم عرفة .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن الحجاج عام نزل بابن الزبير رضي الله عنهما، سأل عبد الله بن عمر كيف تصنعُ في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السنة فهجِّر بالصلاة يوم عرفة. فقال عبد الله : صدق .
الشاهد : هجرِّ بالصلاة ، أي قصِّر الخطبة و هجر بالصلاة .
مسألة : هل السنة في الدفع من عرفة إلى مزدلفة ، أن يدفع مسرعاً أم بسكينة ؟
السنة أن يدفع بسكينة :
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري )أنه دفع مع النبي ( يوم عرفة، فسمع النبي ( وراءه زجراً شديداً، وضرباً بلإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: (أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البرَّ ليس بالإيضاع).
مسألة : هل يجمع الحاج بين المغرب و العشاء بمزدلفة ؟
نعم يسن للحاج أن يجمع بين المغرب و العشاء بمزدلفة لفعل النبي ( ، و قد قال ( لتأخذوا عني مناسككم )
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب و العشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين و لم يسبح بينهما شيئاً .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحجُ بعد حجتي هذه .
مسألة : هل يجب على الحاج أن بيت بمزدلفة ؟
الأصل في المسألة أنه يجب على الحاج أن يبيت بمزدلفة حتى طلوع الفجر لفعل النبي ( وقد قال ( (لتأخذوا عني مناسككم )
((2/173)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب و العشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين و لم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع رسول الله ( حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذانٍ وإقامةٍ ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة فدعاه وكبَّره وهلَّله فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحجُ بعد حجتي هذه .
و يُرخص للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة بعد نصف الليل ولا ينتظروا إلى طلوع الصبح .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : نزلنا بالمزدلفة، فاستأذنت النبي ( سودةُ، أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها، فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنتُ رسول الله ( كما استأذنت سودة، أحبُّ إلي من مفروحٍ به.
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) قال : أنه ممن قدَّم النبي ( ليلة المزدلفة في ضعفة أهله .
مسألة : لو حصل للحاج أنه لم يستطيع أن يصل إلى مزدلفة إلى بعد الفجر للزحام ، فهل عليه دم جبران لترك الواجب ؟
ليس عليه دم ، لأنه ترك الواجب عجزاً عنه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها
مسألة : لماذا سميت المزدلفة بجمع ؟
سميت المزدلفة بجمع لأن الناس يجتمعون فيها ، و كانوا في الجاهلية يجتمعون فيها كلهم ،
مسألة : إذا صلى الحاج الصبح في مزدلفة فماذا يصنع ؟
إذا صلى الحاج الصبح في مزدلفة يأتي المشعر الحرام ، وهو جبل صغير معروف في مزدلفة ، و عليه المسجد المبني الأن .
((2/174)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب و العشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين و لم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع رسول الله ( حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذانٍ وإقامةٍ ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة فدعاه وكبَّره وهلَّله فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً .
مسألة : لماذا وصف المشعر بأنه حرام ؟
وصف المشعر بأنه حرام لأن هناك مشعراً حلالاً وهو عرفات ، ووصف كذلك بأنه حرام لأنه داخل حدود الحرم .
مسألة : هل يلزم الحاج أن يقف بالمشعر الحرام ؟
لا يلزمه ذلك ، لأن النبي ( قال : وقفت هاهنا و مزدلفة كلها موقف .
مسألة : ماذا يصنع الحاج عند المشعر الحرام ؟
يذكر الله تعالى امتثالاً لقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّآلّينَ) (البقرة / 198)
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب و العشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين و لم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع رسول الله ( حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذانٍ وإقامةٍ ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة فدعاه وكبَّره وهلَّله فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً .
مسألة : متى يدفع الحاج من مزدلفة ؟
يدفع قبل أن تطلع الشمس .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فدفع قبل أن تطلعَ الشمس )
مسألة : ماذا يصنع الحاج إذا دفع من مزدلفة ؟
يدفع بسكينة فإذا بلغ مُحَسَّراً حرَّك قليلاً :
((2/175)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فدفع قبل أن تطلعَ الشمس ، حتى أتى بطنُ مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً )
مسألة : ما هو مُحَسِّر ؟
هو وادي بين مزدلفة و منى .
مسألة : ماذا يصنع الحاج بعد وادي مُحسِّر ؟
يسلك الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى حتى يرميها .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فدفع قبل أن تطلعَ الشمس ، حتى أتى بطنُ مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصياتٍ يُكبر مع كل حصاةٍ منها ، كلُ حصاةٍ مثل حصى الخذف .
مسألة : ما هي أعمال يوم النحر ؟
إذا وصل الحاج إلى منى يوم النحر فإنه يقوم بالآتي :
بالرمي / ثم النحر / ثم الحلق / ثم طواف الفاضة وسعي الحج إن لم يكن سعاه مع طواف القدوم .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فدفع قبل أن تطلعَ الشمس ، حتى أتى بطنُ مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصياتٍ يُكبر مع كل حصاةٍ منها ، كلُ حصاةٍ مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله ( فأفاض إلى البيت .
مسألة : هل هذا الترتيب على سبيل الندب أم الوجوب ؟
هذا الترتيب على سبيل الندب ، فإن قدَّم بعضها على بعض فالصحيح جواز ذلك سواء كان لعذر كالجهل أو النسيان أو لغير عذر لأن النبي ( كان يسأل في هذا اليوم فيقول : افعل ولا حرج .
أولاً الرمي
مسألة : ما هو وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
من دفع من مزدلفة بعد الفجر وقبل أن تطلع الشمس فالسنة أن يرمي جمرة العقبة ضحىً
((2/176)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : رمى رسول الله ( الجمرة يوم النحر ضحىً ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس .
و أما من كان من الضعفة أو مصاحباً لهم كالمحرم و السائق وكان قد دفع من مزدلفة بعد منتصف الليل فإنه يرمي جمرة العقبة بليل ،
( حديث أسماء الثابت في صحيح أبي داود) أنها رمت الجمرة ، قلت إنما رمينا الجمرة بليل . قالت : إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله ( )
مسألة : من أين يأخذ الحاج الحصاة ليرمي بها الجمرة ؟
ظاهر السنة أنه يأخذها من جمرة العقبة لأن النبي ( أمر ابن عباس رضي الله عنهما أن يلقط له الحصى من عند جمرة العقبة ،
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي النسائي و ابن ماجة ) أن النبي ( قال : غداة العقبة وهو على ناقته اُلقُطْ لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخَذْف ، فجعل ينفضُهُنَّ في كفه ويقولُ ( أمثال هؤلاء فارْموا ) ثم قال ( يا أيها الناس إياكم والغلوَّ في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين .
{ تنبيه } :( التقاط الحصى من مزدلفة ليس بمستحب ، و إنما استحب بعض المتقدمين من أجل أن يبدأ برمي جمرة العقبة من حين أن يصل إلى منى لأن جمرة العقبة هي تحيةُ منى ، ويفعل ذلك قبل كل شيء . حتى أن النبي ( أمر بجمع الحصاة وهو على بعيره قبل أن ينزل ، و الناس لا يتيسر لهم أن يُلقط لهم الحصى من منى ، و العجيب أن عامة الخلق يظنون أنه يجب عليهم أن يلتقطوا الحصى من مزدلفة حتى إن الواحد منهم يأخذ عدداً كبيراً من الحصى من مزدلفة فيأخذ سبعين حصاة من مزدلفة يخشى أن تسقط واحدة أو تضيع .
مسألة : هل يغسل الحصى ليطهره ؟
قال بعض العلماء يغسله تطهيراً له إن كان قد أصابه نجاسة ، والصحيح أن غسله بدعة لأن النبي ( لم يغسله ، بل جعل ينفضهن بيده .
((2/177)
حديث ابن عباس الثابت في صحيحي النسائي و ابن ماجة ) أن النبي ( قال : غداة العقبة وهو على ناقته اُلقُطْ لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخَذْف ، فجعل ينفضُهُنَّ في كفه ويقولُ ( أمثال هؤلاء فارْموا ) ثم قال ( يا أيها الناس إياكم والغلوَّ في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين .
مسألة : ما هي عدد الحصيات التي ترمى بها جمرة العقبة ؟
يرميها بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فدفع قبل أن تطلعَ الشمس ، حتى أتى بطنُ مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصياتٍ يُكبر مع كل حصاةٍ منها ، كلُ حصاةٍ مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله ( فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر .
مسألة : ما هو حجم الحصاة ؟
مثل حصى الخذف ، وهو ما بين الحُمص و البندق ،
( البندق ) هو هو الحصى الذي يُرمى به بين الإبهام و الوسطى .
مسألة : من أين يرمي الحاج جمرة العقبة ؟
يرميها من بطن الوادي ،
ثانياً : النحر
و النحر هو ثاني عمل من أعمال يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فدفع قبل أن تطلعَ الشمس ، حتى أتى بطنُ مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصياتٍ يُكبر مع كل حصاةٍ منها ، كلُ حصاةٍ مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله ( فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر .
ثالثاً: الحلق أو التقصير
يحلق الحاج رأسه أو يقصر ، و الحلق أفضل لثلثة أوجه :
(1) أنه قُدِّم ذكره في القرآن الكريم .
قال تعالى : (مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ) ( الفتح / 27)
((2/178)
2) أن النبي ( دعا للمحلِّقين ثلاث مرات و للمقصرين مرة واحدة ،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال : اللهم أغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال : اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال : وللمقصرين .
(3) أن النبي ( حلق رأسه في حجة الوداع وهو ( لا يفعل إلا الأفضل ،
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن رسول الله ( حلق رأسه في حجة الوداع .
مسألة : ما هو كيفية التقصير ؟
التقصير بالنسبة للرجال : يكون شاملاً الرأس ، أي يُقصر من الرأس كله و ليس كما يفعل بعض الناس من أخذ شعرات قليلة من اليمين و الشمال .
أما التقصير للنساء : فيكون قدر أنمله ، و التقصير واجب على النساء فليس عليهن حلق ،
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي ( قال : ليس على النساءِ حلق إنما على النساءِ تقصير .
رابعاً : طواف الإفاضة
ثم يطوف الحاج طواف الإفاضة ، و طواف الإفاضة ركن من أركان الحج ، لا يصح الحج بغيره ،
قال تعالى : (قال تعالى: (ثُمّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطّوّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ( الحج / 29)
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : فدفع قبل أن تطلعَ الشمس ، حتى أتى بطنُ مُحَسِّرٍ فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصياتٍ يُكبر مع كل حصاةٍ منها ، كلُ حصاةٍ مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله ( فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : أفاض رسول الله ( يوم النحر .
مسألة : هل يجوز للحاج تأخير طواف الإفاضة ؟(2/179)
له تأخيره لغير عذر إلى نهاية ذي الحجة ، لقوله تعالى : (قال تعالى: (الْحَجّ أَشْهُرٌ مّعْلُومَاتٌ) ( البقرة / 197)
وبانقضاء ذي الحجة تنقضي أشهر الحج ، وإذا أخرهَّ يكون لم يتحلل التحلل الثاني .
مسألة : هل يُسن الشرب من ماء زمزم بعد طواف الإفاضة ؟
نعم يُسن الشرب من ماء زمزم بعد طواف الإفاضة لأن النبي ( فعل ذلك ، و ينوي في ذلك الخير كتعلم العلم ، وسعة العلم و الرزق ، وحفظ الكتب الستة و الفقه ، وغير ذلك ، لأن ماء زمزم لما شُرب له ، و يستحضر عند شربه أنه طعام طعم و شفاء سقم .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال : ماءُ زمزم لما شرب له .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : ماءُ زمزم طعامُ طعم .
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام من الطعم و شفاء من السقم .
مسألة : هل يشرب الحاج منها كثيراً ؟
يُستحب للحاج ولغيره أن يكثر من الشرب من ماء زمزم فيشرب حتى يتضلع منه ، أي يملأ أضلاعه منه ويملأ بطنه لأن هذا الماء خيرُ ماءٍ على وجه الأرض ، ولأن ماء زمزم ليس عذباً بل يميلُ إلى الملوحة ، و الإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيماناً بما فيه من البركة ، فيكون التضلعُ منه دليلٌ على الإيمان .
مسألة : هل يجوز للحاج أن يحمل معه ماء زمزم ؟
نعم يجوز له ذلك .
(حديث عائشة الثابت في صحيح الترمذي ) أنها كانت تحملُ من ماء زمزم و تخبرُ أن رسول الله ( كان يحمله .
مسألة : هل يسعى الحاج بين الصفا و المروة بعد طواف الإفاضة ؟
إن كان متمتعاً يسعى بين الصفا و المروة لأن سعيه الأول كان للعمرة ، لأنه يلزمه ( طواف وسعي للعمرة / وطواف وسعي للحج )
أما إذا كان مفرداً أو قارناً فالمسألة على التفصيل الآتي :
(1) إن كان سعى مع طواف القدوم : لم يسعى ثانيةً
((2/180)
2) وإن لم يكن سعى مع طواف القدوم : يسعى سعي الحج .
مسألة : هل يشرع الرمل في طواف الإفاضة ؟
لا يشرع الرمل في طواف الإفاضة ، فالرمل خاصٌ بطواف القدوم فقط .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( لم يَرْمُل في السبع الذي أفاض فيه .
مسألة : هل الترتيب في أعمال يوم النحر واجب ؟
ليس هذا الترتيب ( رمي / نحر / حلق أو تقصير / طواف افاضة ) واجب ، و إنما هو على سبيل الندب فإن قدم بعضها على بعض فالثابت فيصحيح أن ذلك جائز سواء كان لعذر كالجهل و النسيان أو لغير عذر ، لأن النبي ( كان يُسأل في هذا اليوم فيقول ( افعل ولا حرج ) ولم يستفصل هل فعلت ناسياً أم غير ذلك .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) قال : كان النبي ( يُسأل يوم النحر فيقول : لا حرج ، فسأل رجلٌ فقال : حلقتُ قبل أن أذبح ، قال : اذبح ولا حرج ، قال رميت بعد ما أمسيت ، فقال : لا حرج .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن رسول الله ( قيل له في الذبح و الحلق و التقديم و التأخير فقال : لا حرج .
الشاهد : أن النبي ( قال : لا حرج ولم يستفصل منه هل رمى ليلاً لعذر أم لا ، وهذا دليل على أن الأمر واسع .
مسألة : ما هي الأمور التي يحصل بها التحلل الأول و الثاني ؟
(أمور التحلل الأول و الثاني ثلاثة :
( رمي / حلق أو تقصير / طواف إفاضة ) مجموعة في قوله ( رفح )
فالراء : الرمي
الفاء : طواف الإفاضة
الحاء : الحلق .
مسألة : متى يحصل التحلل الأول ؟
(يحصل التحلل الأول : إذا رمى الحاج جمرة العقبة ،حلق رأسه أو قصر .
و التحلل الأول : يترتب عليه أن يحلَّ للحاج بعده كل شيء كان مُحرماً عليه إلا النساء فيحلُ له لبس المخيط و الطيب و غير ذلك .
مسألة : متى يحصل التحلل الثاني ؟
يحصل التحلل الثاني : بعد طواف الإفاضة وهو طواف الركن ، ويترتب عليه أنه يحل للحاج فيه كل شيءٍ كان محرماً عليه حتى النساء .
مسألة : هل النحر له علاقة بالتحلل ؟(2/181)
ليس للنحر علاقة إطلاقاً بالتحلل الأول أو الثاني .
مسألة : ما هي أيام منى ؟
(أيام منى لمن تعجل يومين (الحادي عشر والثاني عشر) ولمن تأخر (الحادي عشر والثاني عشر والثلث عشر)
مسألة : ما هي أعمال أيام منى ؟
لأيام منى عملين أساسيين (الرمي والمبيت) ، ويجوز فيها بعض الأعمال إن كانت لم تؤد في وقتها المسنون كطواف الإفاضة والنحر وغير ذلك.
مسألة : ما وقت الرمي في أيام منى ؟
السنة في الرمي في أيام منى أن يكون بعد زوال الشمس .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : رمى رسول الله ( الجمرة يوم النحر ضحىً ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس.
مسألة : هل يجوز تأخير الرمي إلى الليل ؟
(إذا كان لا يتيسر للإنسان الرمي في النهار، فله أن يرمي في الليل، وإذا تيسر لكن مع الأذى والمشقة، وفي الليل يكون أيسر له وأكثر طمأنينة، فإنه يرمي في الليل؛ لأن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة من المتعلق بزمن العبادة، وما دام أنه ليس هناك دليل الثابت في صحيح صريح يحدد آخر وقت الرمي، فالأصل عدم ذلك .
وقد سئل الرسول ( كما الثابت في صحيح البخاري فقيل: «رميت بعدما أمسيت ، قال: «لا حرج» والمساء يكون آخر النهار، وأول الليل، ولما لم يستفصل الرسول ( ولم يقل بعدما أمسيت في آخر النهار، أو في أول الليل، علم أن الأمر واسع في هذا.
(ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( كان النبي ( يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: (لا حرج). فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: (اذبح ولا حرج). وقال: رميت بعدما أمسيت، فقال: (لا حرج).
مسألة : هل يجزئ الرمي في أيام منى قبل الزوال ؟
لا يجزئ الرمي في أيام منى قبل الزوال لعدة أوجه :
(1) أن النبي ( رمى بعد الزوال وقال لتأخذوا عني مناسككم .
((2/182)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه .
(2)لأنه لو كان الرمي في أيام منى قبل الزوال جائز لفعله النبي ( لما فيه من فضل العبادة في أول وقتها ولما فيه من التيسير للعباد.
(3) لا يجزئ الرمي في أيام منى قبل الزوال لأنه رمى قبل الزوال في أيام منى لكان قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .
مسألة : ما هي صفة الرمي في أيام منى ؟
( حديث عن ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري )أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي ( يفعله.
مسألة : ما العلة في أننا نقف بعد رمي الجمرة الدنيا ولا نقف عند رمي جمرة العقبة؟
العلة هي فعل النبي ( ، و من عمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد .
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .
مسألة : هل يجب رمي الجمار مرتباً الجمرة الدنيا ثم الوسطى ثم العقبة؟
الصحيح أنه يجب رمي الجمار مرتباً الجمرة الدنيا ثم الوسطى ثم العقبة لأن النبي ( رمي الجمار مرتباً وقال لتأخذوا عني مناسككم .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه .
مسألة : إذا رمى الجمار كلها في اليوم الثالث هل يجزئه؟(2/183)
القول الصحيح : من كان قادراً، والرمي عليه سهل لقربه من الجمرات، أو لكونه يستطيع أن يركب السيارات حتى يقرب من الجمرات، فإنه يجب أن يرمي كل يوم في يومه.
لأن النبي ( رمى كل يوم في يومه، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم»
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه .
وعلى ذلك فلا يجوز أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم إلا في حال واحدة مثل أن يكون منزله بعيداً، ويصعب عليه أن يتردد كل يوم، لا سيما في أيام الحر والزحام، فهنا لا بأس أن يؤخر الرمي إلى آخر يوم ويرميه مرة واحدة؛ لأن هذا أولى بالعذر من الرعاة الذين رخص لهم النبي ( أن يجمعوا الرمي في يوم .
لأنه «رخص للرعاة أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً»
وكلمة «رخص» تدل على أن من سواهم، لا رخصة له .
( حديث عاصم بن عَدِي الثابت في صحيح السنن الأربعة ) قال : «رَخّصَ رسولُ الله ( لِرعَاءِ الإبِلِ في البَيْتُوتَةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النّحْرِ ثُمّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النّحْرِ فَيَرْمُونَهُ في أحَدهِمَا.
مسألة : ما الدليل على أن المبيت بمنى واجب؟
الدليل أن الرسول (: «رخص لعمه العباس في السقاية أن يبيت بمكة من أجل سقي الناس ماء زمزم» لأن كلمة «رخص للعباس أن يبيت في مكة من أجل سقايته» ، يدل على أن ما يقابل الرخصة عزيمة لا بد منه.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله (: أن يبيت بمكة، ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له .
مسألة : ما حكم من ترك المبيت بمنى ؟
من ترك الثلاث ليالي عليه دم ، وأما من ترك ليلة من الليالي، فإنه ليس عليه دم بل عليه إطعام مسكين إن ترك ليلة، وإطعام مسكينين إن ترك ليلتين.
مسألة : هل المبيت بمنى يلزم الإنسان أن يضطجع فيه ؟(2/184)
في المبيت بمنى لا يلزم الإنسان أن يضطجع فيه لأن المراد في المبيت بمنى هو المكث ، لكن النوم أفضل من إحياءه بقراءة القرآن أو الذكر لأن ذلك هو فعل النبي ( و النبي ( لا يفعل إلا الأفضل .
مسألة : من تعجَّل متى يخرج؟
«ومن تعجل في يومين» : خرج من منى قبل أن تغرب الشمس، وذلك ليصدق عليه أنه تعجل في يومين؛ إذ لو أخر الخروج إلى ما بعد الغروب لم يكن تعجل في يومين؛ لأن اليومين قد فاتا، وإن لم يخرج قبل غروب الشمس لزمه المبيت ليلة الثالث عشر، والرمي من الغد، بعد الزوال، كاليومين قبله.
{ تنبيه } :( المراد باليومين الحادي عشر والثاني عشر؛ لقول الله تعالى: {{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}} [البقرة: 203] . أي: من هذه الأيام المعدودات، والأيام المعدودات هي أيام التشريق.
وبعض العوام يظنون أن المراد بقوله: {{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}} يوم العيد والحادي عشر، فيتعجلون في الحادي عشر، ولكن هذا غلط، لم يقل به أحد من أهل العلم، وإنما المراد من تعجل في يومين من هذه الأيام الثلاثة أيام التشريق.
مسألة: لو أن جماعة حلوا الخيام وحملوا العفش وركبوا، ولكن حبسهم المسير؛ لكثرة السيارات فغربت عليهم الشمس قبل الخروج من منى فهل يلزمهم المبيت بمنى ؟
الصحيح أنهم يستمروا في الخروج، ولا يلزمهم المبيت بمنى لأن هؤلاء حبسوا بغير اختيار منهم.
مسألة : متى يطوف الحاج طواف الوداع ؟
يطوف الحاج للوداع إذا أراد أن يخرج من مكة إلى بلده ، حتى يكون آخر عهده بالبيت كما أمر النبي ( بذلك .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) قال : أُمر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلا أنه خُفف عن الحائض )
مسألة : لو أراد الحاج أن يخرج من مكة إلى جده و ليست جده بلده فهل يطوف للوداع ؟(2/185)
لا يطوف للوداع إلا إذا أراد الخروج من مكة إلى بلده ، أما إذا خرج من مكة إلى جده أو غيرها فلا يطوف للوداع ، لأن النبي ( لم يأمر الصحابة أن يطوفوا للوداع حين خرجوا من مكة إلى المشاعر ,
مسألة : لو أقام بعد طواف الوداع أو أتجر بعده فماذا يصنع ؟
يُعيد طواف الوداع مرة أخرى ليكون آخر عهده بالبيت امتثالاً لقول النبي (
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) قال : أُمر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلا أنه خُفف عن الحائض )
مسألة : لو طاف للوداع ثم انتظر رفقته ليسافر وطال الوقت ، هل يعيد طواف الوداع ؟
لا يعيد طواف الوداع ، لأنه أقام لشيءٍ من أجل السفر .
مسألة : لو أن إنساناً اشترى هدية لأهله أو أشترى شيئاً من البقالة بعد طواف الوداع فهل يعيد طواف الوداع ؟
لا يعيد الطواف لأن هذا ليس تجارة فلا يضر و لكن يُفضل أن يشتري ذلك قبل طوافه .
مسألة : ماذا لو ترك الحاج طواف الوداع غير الحائض ؟
طواف الوداع واجب على الحاج إلا أنه خُفف عن الحائض .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) قال : أُمر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلا أنه خُفف عن الحائض )
الشاهد : ( أُمر ) و الأصل في الأمر الوجوب ،
(وعلى ذلك فمن ترك طواف الوداع يكون حاله على التفصيل الآتي :
(1) لزمه أن يرجع إلى مكة ليأتي بطواف الوداع .
(2) فإن شق عليه الرجوع / لزمه الدم و لا إثم عليه .
(3) فإن لم يشق عليه الرجوع / لزمه الدم و عليه الإثم لأنه تعمد ترك الواجب .
مسألة : أهل جده إذا خرجوا من مكة قبل طواف الوداع ثم رجعوا ليأتوا به فما الحكم ؟
يأتوا بطواف الوداع ، و عليهم الدم لأن القاعدة أنه إن ترك مكة مسافة القصر لزمه الدم ويأتي بالطواف .
مسألة : ما الدليل على وجوب الدم ؟
الدليل هو الأثر المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أنه قال : ( من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً )
وهذا نسكاً واجباً أمر به النبي (
وجه الدلالة :
((2/186)
أن قول الصحابي حجة بشرطين :
(1) أن لا يخالف نصاً ، فإن خالف نصاً فلا عبرة به .
(2) أن لا يخالف قول صحابي آخر ، فإن خالف قول صحابي نطلب الترجيح.
[*] قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
( نحن نفتي الناس بالدم على ترك الواجب وفي النفس من هذا شيء ، لكن من أجلِ الانضباط وفعل المناسك الواجبة ، نفتيهم بهذا ، لأن العامية إذا قلت لهم ليس عليك دم وإنما عليك أن تستغفر الله و تتوب إليه يقول لك ، سوف أملء الدنيا استغفاراً و توبة . )
مسألة : إذا أخر الحاج طواف الزيارة ( الإفاضة ) فطافه عند الخروج من مكة إلى بلده هل يجزئ عنه طواف الوداع ؟
الصحيح أنه يجزئ ، لأن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر عهده بالبيت و قد حصل .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) قال : أُمر الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلا أنه خُفف عن الحائض )
مسألة : هل يجوز الإلتزام في طواف الوداع ؟
الالتزام بمعنى أن الرجل يلزق صدره ووجهه بالملتزم وهو مكان بين باب الكعبة و الحجر الأسود ، وهو جائز في طواف القدوم و طواف الوداع فقط .
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( كان يلزق صدره ووجهه بالملتزم )
مسألة : هل يستحب زيارة قبر النبي ( في الحج ؟
قال بعض أهل العلم: تستحب زيارة قبر النبي ( في الحج و استدلوا بحديثين موضوعين :
الأول ( من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي )
الثاني ( من حج فلم يزرني فقد جفاني )
وكلا الحديثين موضوعين لا يصح نسبتهما إلى النبي ( ، ولا علاقة لزيارة قبر النبي ( بالحج إطلاقا .
مسألة : هل يجوز شد الرحال إلى قبر النبي ( ؟
لا يجوز شد الرحال إلى قبر النبي ( ، ولا يجوز شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد بنص حديث النبي ( الثابت في الصحيحين ،
((2/187)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام و مسجد النبي ( و المسجد الأقصى .
مسألة : ما هي العمرة ؟
العمرة : التعبد لله تعالى بالطواف والسعي والحلق أو التقصير .
مسألة : ما هو فضل العمرة ؟
(العمرة من أفضل القربات وأجّل العبادات ، يرفع الله تعالى بها الدرجات ويحط بها الخطيئات .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: العمرةُ إلى العمرة كفارةُ لما بينهما ، والحجُ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة )
( حديث ابن مسعود الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد والفضة ، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة )
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحابن ماجه ) أن النبي ( قال : ( الغازي في سبيل الله والحاج و المعتمر ، وفدُ الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم )
(حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجه ) قالت قلت * يا رسول الله على النساء جهاد قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة .
مسألة : ما هو وقت العمرة ؟
(وقت العمرة جميع أيام السنة إلا أنها في رمضان أفضل من غيره لأنها في رمضان تعدل حجة مع رسول الله ( .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : فإن عمرةً في رمضان تعدل حجة معي.
مسألة : اذكر الدليل على استحباب تكرار العمرة ؟
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: العمرةُ إلى العمرة كفارةُ لما بينهما ، والحجُ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة )
( حديث ابن مسعود الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد والفضة ، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة )(2/188)
مسألة : ما هي أركان العمرة ؟
أركان العمرة ما يلي :
(1) الإحرام : (لحديث عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي ( قال : إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
وجه الدلالة :
أن الإحرام هو نية الدخول في النسق ، و النية شرط لصحة أي عمل حيث قال النبي ( (إنما الأعمال بالنيات ) أي لكل عمل نية ،
(و إنما لكل امرئ ما نوى ) أي إنما جزاء كل عامل على عمله إنما يكون ذلك تبعاً لنيته إن خيراً فخير و إن شراً فشر .
(2) الطواف، والسعي» ( لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال:طوافك بالبيت و سعيك بين الصفا و المروة يكفيك لحجك و عمرتك .
مسألة : ما هي واجبات العمرة ؟
واجبات العمرة : الحلاق، والإحرام من الميقات .
وأما الإحرام من الميقات فلأن النبي ( وقّت المواقيت وقال: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة»
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( وقَّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهلِ الشام الجُحفة ، ولأهل نجد قرْنَ المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، (هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ من غيرهنَّ ممن أراد الحج والعمرة ) ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهلُ مكة من مكة )
(2) الحلق أو التقصير : دليل الوجوب : أن الله تعالى جعله وصفاً للحج أو العمرة حيث قال سبحانه :
( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ )
( الفتح / 27)
الشاهد : أنه إذا عُبر عن العبادة بجزءٍ منها كان دليلاً على أنه واجب .
مسألة : ما هي سنن العمرة؟
سنن العمرة: الباقي بخلاف الأركان و الواجبات ,
على قاعدة ( وما كان ذا ضد فإني بضده غنيٌ ، فزاحم بالذكاء لتفضلا )
( الإمام الشاطبي )(2/189)
مسألة : ما حكم من ترك ركناً من الحج أوالعمرة؟
(إذا كان الركن مما يفوت كالوقوف بعرفة فالحج لاغٍ وإن كان الركن يمكن الإتيان به كطواف الإفاضة فعليه أن يأتي به حتى يتم حجه وإلا فقد فسد الحج.
مسالة : ما الدليل على أن تارك الركن لا يصح حجه؟
والدليل على أن تارك الركن لا يصح حجه، أن الركن هو الماهية التي تنبني عليها العبادة، ولقوله ( في الوقوف: «من أتى ليلة جمع قبل الصبح فقد أدرك»[(446)] ، يدل على أنه إذا فاته الوقوف بعرفة فاته الحج.
مسألة : ما حكم من ترك واجباً من الحج أوالعمرة؟
من ترك واجباً فعليه دم : لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً)
الشاهد : أن هذا القول لامجال فيه للرأي فله حكم الرفع.
{ تنبيه } :( إذا أطلق الدم في لسان الفقهاء فهو: سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو واحدة من الضأن أو المعز، ولا بد فيها من شروط الأضحية، وهي أن تكون قد بلغت السن المعتبر وهو في الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن نصف سنة ستة أشهر، ولا بد أيضاً أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء كالعور البين ونحوه.
وهذا الدم دم جبران لا دم شكران، وعليه فيجب في الحرم أن يتصدق به جميعه على فقراء الحرم، ويوزع في الحرم، فإن ذبحه خارج الحرم لم يجزئ، ولو ذبح هدي المتعة والقران في عرفة لم يجزئ؛ لأنه في غير المكان المعتبر شرعا، فإذا ذبحه في عرفة فكأنما ذبحه في الصين، ولو ذبح في الصين مثلاً وجاء به إلى عرفة لم يجزئ، فالحل واحد من عرفة إلى أبعد الدنيا.
مسألة : إذا كان على الإنسان دم جبران ولم يستطع فماذا يصنع؟
[*] قال بعض العلماء:
الواجب عليه أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فإن لم يتمكن من صيامها في الحج صامها في بلده.
لكن هذا القول لا دليل عليه لا من أقوال الصحابة ولا من القياس.(2/190)
وليس هناك دليل على أن من عدم الدم في ترك الواجب يجب عليه أن يصوم عشرة أيام؛ لأن قياس ذلك على دم المتعة قياس مع الفارق؛ (فدم المتعة شكران)، وأما الدم لترك الواجب (فدم جبران)، لذلك نرى أن القياس غير الثابت في صحيح، وحينئذٍ نقول لمن ترك واجباً: اذبح فدية في مكة ووزعها على الفقراء بنفسك، أو وَكِّلْ من تثق به من الوكلاء، فإن كنت غير قادر فتوبتك تجزئ عن الصيام لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وهذا هو الذي نراه في هذه المسألة.
مسألة : ما حكم من ترك سنة من سنن الحج أوالعمرة؟
من ترك سنة من سنن الحج أوالعمرة فلا شيء عليه.
مسألة : ما هو الجهاد؟
الجهاد هو بذل الجهد في قمع أعداء الإسلام بالقتال وغيره؛ لتكون كلمة الله هي العليا.
وينقسم الجهاد إلى ثلاثة أقسام: جهاد النفس، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار المبارِزين المعاندين.
(أما النوع الأول:
(فهو جهاد النفس: وهو إرغامها على طاعة الله، ومخالفتها في الدعوة إلى معصية الله، وهذا الجهاد يكون شاقًّا على الإنسان مشقة شديدة، لا سيما إذا كان في بيئة فاسقة، فإن البيئة قد تعصف به حتى ينتهك حُرُمات الله، ويدع ما أوجب الله عليه .
(أما النوع الثاني:
(فهو جهاد المنافقين، ويكون بالعلم، لا بالسلاح؛ لأن المنافقين لا يقاتَلون، فإن النبي ( استؤذن أن يُقْتَلَ المنافقون الذين علم نفاقهم فقال: « معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي »
* ( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه .(2/191)
* والدليل على أنهم يُجاهَدون قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}} [التحريم: 9] . ولما كان جهاد المنافقين بالعلم، فالواجب علينا أن نتسلح بالعلم أمام المنافقين الذين يوردون الشبهات على دين الله؛ ليصدوا عن سبيل الله، فإذا لم يكن لدى الإنسان علم فإنه ربما تكثر عليه الشبهات والشهوات والبدع ولا يستطيع أن يردها.
(أما النوع الثالث:
(فهو جهاد الكفار المبارِزين المعاندين المحاربين، وهذا يكون بالسلاح، لقوله تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60]
( حديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح مسلم ) قال :سمعت رسول الله ( وهو على المنبر يقول !< وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة >! ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي .
الشاهد : قوله : «ألا إن القوة الرمي» ، يؤيد أن المراد بذلك السلاح، والمقاتلة.
مسألة : ما حكم الجهاد ؟
حكم الجهاد : فرض كفاية ، و فرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين.
مسألة : ما الدليل على أن حكم الجهاد فرض كفاية ؟
الدليل على أن حكم الجهاد فرض كفاية قوله تعالى: (لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) [سورة: النساء - الآية: 95]
الشاهد : بعد أن بين فضل المجاهدين على القاعدين قال تعالى [وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ] ، ولو كان القاعدون مضيعين فرضاً لكان لهم السّوَءَىَ لا الحسنى .
{(2/192)
تنبيه } :( هناك شرطٌ لكي يكون الجهادُ فرض كفاية وهوأن يكون للمسلمين قوةً يستطيعون بها الجهادوإلا سقط عنهم الجهاد كسائر الواجبات ، لأن جميع الواجبات يُشترطُ فيه القدرة لقوله تعالى: (فَاتّقُواْ اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة: التغابن - الآية: 16]
وقوله تعالى: (لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا) [سورة: البقرة - الآية: 286]
ولأن إقحام المسلمين أنفسهم بالقتال دون قدرة إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة .
مسألة : متى يصبح القتال فرض عين ؟
الجهاد يجب وجوب عين في أربع أحوال:
الأولى: إذا حضر القتال.
والثانية: إذا حصر بلدَه العدوُ.
والثالثة: إذا استنفره الإمام.
والرابعة: إذا احتيج إليه.
وما عدا ذلك فهو فرض كفاية.
(وإليك ذلك بشيءٍ من التفصيل :
(الحالة الأولى: إذا حضر القتال :
لقول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ *وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يُوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *}} [الأنفال]
الشاهد : أن الله تعالى بين أن من تولى يوم الزحف فقد باء بغضبٍ من الله تعالى إلا في حالتين فقط استثناهم الله تعالى هما :
الأولى: أن يكون متحرفاً لقتال بمعنى أن ينصرف؛ ليعمل من أجل القتال، كأن يستطرد لعدوه فإذا لحقه كرّ عليه فقتله. ومعنى (مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ) : أي يذهب ليأتي بقوةٍ أكثر .
الثانية: أن يكون (مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) كأن يذكر له أن فئة من المسلمين من الجانب الآخر تكاد تنهزم، فيذهب إليها تقوية لها، وهذه الحال يشترط فيها ألاَّ يَخَاف على الفئة التي هو فيها، فإن خاف على الفئة التي هو فيها فإنه لا يجوز أن يذهب إلى الفئة الأخرى، فيكون في هذه الحال فرض عين عليه لا يجوز له الانصراف عنه.
((2/193)
وقد أخبر النبي : أن التولي يوم الزحف من الموبقات
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
(الحالة الثانية: إذا حصر بلدَه العدوُ.
إذا حصر بلدَه العدوُّ فيجب عليه القتال دفاعاً عن البلد، وهذا يشبه من حضر الصف في القتال؛ لأن العدو إذا حصر البلد فإنه سيمنع الخروج من هذا البلد، والدخول إليه، وما يأتي لهم من الأرزاق، وغير ذلك مما هو معروف، ففي هذه الحال يجب أن يقاتل أهل البلد دفاعاً عن بلدهم.
(الحالة الثالثة : إذا استنفره الإمام ،ومعنى استنفره الإمام : أي: قال: انفروا.
{ تنبيه } :( المقصود بالإمام ولي الأمر وهو الرئيس الأعلى للدولة، ولا يشترط أن يكون إماماً عامّاً للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة .
( ولحديث أنس الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : اسمعوا و أطيعوا و إن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة .
( اسمعوا وأطيعوا) أي استمعوا كلام من تجب طاعته من ولاة أموركم وجوباً فيما لا معصية فيه لأنهم نواب الشرع .
( وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زَبيبة ) يعني وإن كان صغير الجثة حتى كأن رأسه زبيبة ، وفي هذا حث على السمع والطاعة للإمام ولو جائراً . وذلك لما يترتب عليه من اجتماع الكلمة وعز الإسلام وقمع العدو وإقامة الحدود وغير ذلك .
،(2/194)
فإذا تأمر إنسان على جهةٍ ما، صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذاً، وأمره مطاعاً، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابن الزبير في الحجاز، وبنو مروان في الشام، والمختار بن عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة؛ وبهذا نعرف ضلال ناشئة نشأت تقول: إنه لا إمام للمسلمين اليوم، فلا بيعة لأحد!! ـ نسأل الله العافية ـ ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟! أم يريدون أن يقال: كل إنسان أمير نفسه؟!
هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يموتون ميتة جاهلية ـ والعياذ بالله ـ؛ لأن عمل المسلمين منذ أزمنة متطاولة على أن من استولى على ناحية من النواحي، وصار له الكلمة العليا فيها، فهو إمام فيها .
فإذا استنفره الإمام ( الذي هو الرئيس الأعلى للدولة) وجب عليه الخروج؛ لقول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ *}{إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}} [التوبة: 38، 39]
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
، وهذه أدلة سمعية، والدليل العقلي: هو أن الناس لو تمردوا في هذا الحال على الإمام لحصل الخلل الكبير على الإسلام، إذ أن العدو سوف يُقدم إذا لم يجد من يقاومه ويدافعه.
(الحالة الرابعة: إذا احتيج إليه صار فرض عين عليه.(2/195)
مثاله: عندنا دبابات وطائرات لا يعرف قيادتها إلا هذا الرجل، فحينئذ يجب عليه أن يقاتل؛ لأن الناس محتاجون إليه، وربما نقول: إن هذه المسألة الرابعة تؤخذ من قولنا: إنه فرض كفاية؛ لأنه إذا لم يقم به أحد واحتيج إلى هذا الرجل ففرض الكفاية يكون فرض عين عليه،
مسألة : هل يكون الجهاد بالمال أو بالنفس أو بهما؟.
الجواب: أنه تارة يجب بالمال في حال من لا يقدر على الجهاد ببدنه، وتارة يجب بالبدن في حال من لا مال له، وتارة يجب بالمال والبدن في حال القادر ماليّاً وبدنيّاً، وكما في القرآن الكريم فإن الله ـ عزّ وجل ـ يذكر الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، ويقدم الجهاد بالمال في أكثر الآيات؛ لأن الجهاد بالمال أهون على النفوس من الجهاد بالنفس، وربما يحتاج الجند إلى المال أكثر مما يحتاجون إلى الرجال.
مسألة : ما هي فضل الجهاد في الإسلام ؟
للجهاد في الإسلام منزلة عظيمة فله فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم والكتاب والسنة الصحيحية طافحان بما يدل على ذلك منها ما يلي :
(1) َفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً بنص القرآن الكريم :
قال تعالى: (لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) [سورة: النساء - الآية: 95]
[*] قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره :
(وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ ) : أي الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية .
((2/196)
وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات في غرف الجنان العاليات ومغفرة الذنوب والزلات وأحوال الرحمة والبركات إحسانا منه وتكريما .
(2) وعد الله تعالى لمن قتل في سبيله أن يدخله الجنة وليس هناك فوز
يعدل الجنة كما هو معلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل).
معنى (انتدب الله ) : أي سارع بجزائه وحسن ثوابه .
( حديث عبد الرحمن بن جبرالثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (ما أُغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار).
(3) ليس هناك عملٌ يعدل الجهاد في سبيل الله تعالى بنص السنة الصحيحة :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: (لا أجده). قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر). قال: ومن يستطيع ذلك. قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليَسْتَنُ في طِوَلِه، فيكتب له حسنات.
[*] قال الحافظ في الفتح :
(إن فرس المجاهد ليَسْتَنُ في طِوَلِه)
(ليَسْتَنُ ) أي يمرح بنشاط وقال الجوهري هو أن يرفع يديه ويطرحهما معا
في طوله بكسر المهملة وفتح الواو وهو الحبل الذي يشد به الدابة ويمسك طرفه ويرسل في المرعى وقوله فيكتب له حسنات بالنصب على أنه مفعول ثان أي يكتب له الاستنان حسنات .
((2/197)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :كل كَلْمٍ يُكْلَمْهُ المسلم في سبيل الله تعالى يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طُعِنت تُفَجَّرُ َدما و اللون لون الدم و العَرْفُ عَرْفُ مسك .
( كل كَلْم يُكْلَمْهُ) كل جرح يجرحه
( المسلم في سبيل اللّه ) قد يخرج في غير سبيله وفي رواية واللّه أعلم بمن يكلم في سبيله إشارة إلى الإخلاص .
( تكون يوم القيامة كهيئتها ) أعاد الضمير مؤنثاً لإرادة الجراحة ويوضحه رواية كل كلمة يكلمها
( إذ طعنت تفجر ) بفتح الجيم المشددة وحذف التاء الأولى أصله تتفجر
( دماً واللون لون الدم والعرف ) بفتح المهملة وسكون الراء الريح
( عرف مسك ) وإنما أتى على هيئته ليشهد لصاحبه بفضله وعلى ظالمه بفعله وفائدة طيب ريحه إظهار فضله لأهل الموقف وانتشار ذلك فيهم ومن ثم لم يشرع غسل الشهيد وفيه طهارة المسك ورد عليه من يقول بنجاسته لكونه دماً انعقد .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، فإن شِبْعَهُ وَرِيهَ ورَوَثَه وبَوله في ميزانه يوم القيامة).
(4) بين النبي ( أن الغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها :
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها .
( لغدوة في سبيل اللّه ) بفتح الغين المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه
( أو روحة ) بفتح الراء المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج أي وقت من الزوال إلى الغروب
[*] قال الأبي : الغدوة والروحة ذكراً للغالب فكذا من خرج في منتصف النهار أو منتصف الليل .
( خير ) أي ثواب ذلك في الجنة أفضل
( من الدنيا وما فيها ) من المتاع يعني أن التنعم بثواب ما رتب على ذلك خير من التنعم بجميع نعيم الدنيا لأنه زائل ونعيم الآخرة لا يزول .
((2/198)
5) بين النبي ( أن الدعاء عند البأس والقتال مستجاب .
( حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :ثنتان لا تردان : الدعاء عند النداء و عند البأس حين يلحم بعضهم بعضا .
( ثنتان ) أي دعوتان
( لا تردان )
( الدعاء عند النداء ) أي عند حضور النداء أي الأذان وفي رواية حين تقام الصلاة
( وعند البأس ) بهمزة بعد الباء بمعنى الصف في سبيل اللّه للقتال كما في رواية
( حتى يلحم بعضهم بعضاً ) بحاء مهملة مكسورة وأوله مضموم أي حين يلتحم الحرب بينهم ويلزم بعضهم .
(6) بين النبي ( أن ترك الجهاد يكون سبباً في حصول الذل والعياذ بالله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم .
الشاهد : قوله ( ( وتركتم الجهاد ) أي غزو أعداء الرحمن ومصارعة الهوى والشيطان
( سلط الله عليكم ذلاً ) أي أرسل بقهره وقوته
( لا ينزعه ) لا يزيله ويكشفه عنكم
( حتى ترجعوا إلى دينكم ) أي الاشتغال بأمور دينكم .
مسألة : ما هي منزلة الجهاد في الإسلام ؟
للجهاد في الإسلام منزلةً عظيمة فقد سمَّاه النبي : «ذروة سنام الإسلام» ، والسنام هو الشحم النابت فوق ظهر الجمل، وذروته أعلاه، وإنما جعله النبي ذروة سنام الإسلام؛ لأنه يعلو به الإسلام ويرتفع به، كما أن سنام البعير كان فوقه مرتفعاً.
(حديث معاذ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : ألاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الاْسْلاَمُ، وَعُمودُهُ الصّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ في سبيل الله .
مسألة : ما هو فضل الشهادة في سبيل الله ؟(2/199)
الشهادة في سبيل الله له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، والكتاب والسنة طافحين بما يدل على فضل الشهادة في سبيل الله، وإليك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في الوحيين في فضل الشهادة في سبيل الله .
( حديث مسروق الثابت في صحيح مسلم ) قال : سألنا عبد الله هو بن مسعود عن هذه الآية !< ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون >! قال أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا .
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (ما أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة).
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: أصيب الحارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي ( فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: (ويحك، أو هبلت، أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس).
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال:أتى النبي ( رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل وأسلم؟ قال: (أسلم ثم قاتل). فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله : (عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيرا).
((2/200)
حديث المِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«للشّهِيدِ عندَ الله سِتّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ في أَوّلِ دُفْعَةٍ ويرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنّةِ، ويُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ، وَيُوضَعُ على رأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ منها خَيْرٌ مِنَ الدّنْيَا وما فيها، ويُزَوّجُ اثْنَتَيْنِ وسْبعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ (الْعِينِ)، وَيُشَفّعُ في سَبْعِينَ مِنْ أقَارِبِهِ» .
( حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين .
(حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قالَ: «ما يَجِدُ الشّهِيدُ مِنْ مَسّ القَتْلِ إلاّ كَمَا يَجِدُ أحَدُكُمْ مِنْ مَسّ القَرْصَةِ» .
مسألة : من هم أفضل الشهداء ؟
( حديث نعيم بن همار الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة يضحك إليهم ربك فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه .
مسألة : ما فضل من سأل الله الشهادة بصدق ؟
( حديث سهل بن حنيف الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه .
( من سأل اللّه الشهادة بصدق ) قيد السؤال بالصدق لأنه معيار الأعمال ومفتاح بركاتها وبه ترجى ثمراتها .
( لحديث عن شداد بن الهاد الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :إن تصدق الله يصدقك .
( بلغه اللّه منازل الشهداء ) مجازاة له على صدق الطلب وفي قوله منازل الشهداء بصيغة الجمع مبالغة ظاهرة
((2/201)
وإن مات على فراشه ) لأن كلاً منهما نوى خيراً وفعل ما يقدر عليه فاستويا في أصل الأجر ولا يلزم من استوائهما فيه من هذه الجهة استواؤهما في كيفيته وتفاصيله إذ الأجر على العمل ونيته يزيد على مجرد النية.
مسألة : ما هي آداب القتال ؟
للقتال آداب يجب أن يتحلى بها المسلم منها ما يلي :
«لا يجوز قتل صبي ولا امرأة وخنثى وراهب وشيخ فانٍ وزمن وأعمى لا رأي لهم ولم يقاتلوا أو يُحرضوا» هؤلاء سبعة أجناسٍ لا يجوز قتلهم إلا بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: أن يكون لهم رأي وتدبير، فإن بعض كبار الشيوخ ولو كان شيخاً فانياً لا يستطيع أن يتحرك، فإن عنده من الرأي والتدبير ما ليس عند الشاب المقاتل.
الثاني: إذا قاتلوا كما لو اشترك النساء في القتال فإنهم يقتلن.
الثالث: إذا حرَّضوا المقاتلين على القتال وصاروا يغرونهم بأن افعلوا كذا، اضربوا كذا إلى آخره، فإنهم يقتلون؛ لأن لهم تأثيراً في القتال.
( حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) قال : كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .
((2/202)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال :وُجِدت امرأة في بعض مغازي النبي مقتولة، فأنكر رسول الله قتل النساء والصبيان.
مسألة : ما هو فضل النفقة في الجهاد في سبيل الله ؟
النفقة في الجهاد في سبيل الله لها فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، ، والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على فضل النفقة في الجهاد في سبيل الله، وإليك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في السنة الصحيحة في فضل النفقة في الجهاد في سبيل الله .
(حديث زيد بن خالد الثابت الجُهَنِّي في الصحيحين ) أن النبي ( قال :من جَهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا و من خلف غازيا في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا .
[ من جَهَّز غازيا ] : أي هيأ له أسباب سفره .
[ فقد غزا ] : قال ابن حبان معناه أنه مثله في الأجر وان لم يغز حقيقة .
( حديث عمر الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال :من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع .
( من جهز غازياً ) أي هيأ له أسباب سفره أو أعطاه عدّة الغزو ومنه تجهيز العروس وتجهيز الميت
( حتى يستقل ) وفي رواية للبخاري أو خلفه في أهله بخير
( كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع ) أي يستوي معه في الأجر إلى انقضاء غزوه بموته أو فراغ الوقعة ، فالوعد مرتب على تمام التجهيز المشار إليه بقوله حتى يستقل وعلى انقضاء الغزو .
( حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : حُرْمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم و ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة يأخذُ من عمله ما شاء فما ظنكم ؟
حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمّهاتكم :عليكم في حرمة التعرض لهن بريبة من نظر محرم وخلوة ونحو ذلك وفي برهن والإحسان إليهن وقضاء حوائجهنّ للّه تعالى
وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله :أي يقوم مقامه في محافظتهم ورعاية أمورهم(2/203)
فيخونه فيهم : أي يخون المجاهد في أهله
إلا وُقِفَ له يوم القيامة يأخذُ من عمله ما شاء :أي فتقول له الملائكة بإذن ربهم ( قد خانك هذا الرجل في أهلك فخذ من حسناته ما شئت فيأخذ من عمله ) أي الصالح
فما ظنكم :أي فما ظنكم بمن أحله اللّه بهذه المنزلة وخصه بهذه الفضيلة ربما يكون وراء ذلك من الكرامة والمراد فما تظنون في ارتكاب هذه الجريمة العظيمة هل تتركون معها أو ينتقم منكم ويلزم من هذا تعظيم شأن المجاهدين .
مسألة : ما هو الرباط في سبيل الله ، وما فضله ؟
الرباط :هو لزوم الثغر بين المسلمين والكفار، والثغر هو المكان الذي يخشى دخول العدو منه إلى أرض المسلمين، وأقرب ما يقال فيه ـ بالنسبة لواقعنا ـ: إنه الحدود التي بين الأراضي الإسلامية والأراضي الكفرية، فيسن للإنسان أن يرابط؛ لقوله تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة: آل عمران - الآية: 200]
، وأول ما يدخل في الآية الرباط على الثغور، فيرابط الإنسان ليحمي بلاد المسلمين من دخول الأعداء، ويجب على المسلمين أن يحفظوا حدودهم من الكفار إما بعهد وأمان، وإما بسلاح ورجال حسب ما تقتضيه الحال.
(فضل الرباط في سبيل الله :
الرباط في سبيل الله له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، له منافع عظيمة وفوائد عميمة في الدارين، والكتاب والسنة طافحين بما يدل على فضل الرباط في سبيل الله ، وإليك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في الوحيين في فضل الرباط في سبيل الله .
قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة: آل عمران - الآية: 200]
[*] قال الحسن البصري :(2/204)
أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم وكذلك قال غير واحد من علماء السلف .
( حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : أن رسول الله قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة، خير من الدنيا وما عليها).
( رباط يوم في سبيل اللّه ) أي ملازمة المحل الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين .
( خير من الدنيا وما عليها ) أي خيرٌ من النعيم الكائن في الدنيا وما عليها إنسان بحذافيرها وتنعم بجميعها لأنه نعيم زائل بخلاف نعيم الآخرة فإنه باق ، وهذا دليل على أن الرباط يصدق بيوم واحد
( والروحة يروحها العبد في سبيل اللّه والغدوة ) أي فضلها والغدوة بالفتح المرة من الغدو وهو الخروج أول النهار إلى انتصافه والروحة المرة من الرواح وهو من الزوال إلى الغروب وأو للتقسيم لا للشك .
( خير من الدنيا وما عليها ) أي ثوابها أفضل من نعيم الدنيا كلها لو ملكها إنسان بحذافيرها وتنعم بجميعها لأنه نعيم زائل بخلاف نعيم الآخرة فإنه باق.
( حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : رباط يوم خير من صيام شهر و قيامه .
( رباط يوم ) واحد في سبيل اللّه
( خير من صيام شهر وقيامه ) لا يناقضه ما قيل قبله إنه خير من الدنيا وما فيها ولا ما بعده خير من ألف يوم لأن فضل اللّه مستزاد وجوده وكرمه متوال كل وقت .
( حديث فضالة بن عبيد الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة و يُؤمَّن من فُتَّاِن القبر .
((2/205)
كل ميت يختم على عمله ) المراد به طيِّ صحيفته وأن لا يكتب له بعد موته عمل
( إلا المرابط فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ) : يعني الثواب المترتب على رباط اليوم والليلة يجري له دائماً .
( و يُؤمَّن من فُتَّاِن القبر ) أي منكر ونكير أي لا يأتيانه ولا يختبرانه بل يكتفى بموته مرابطاً شاهداً على صحة .
(كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله له بعدها فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبدالله بن المبارك .
[*] قال محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة: أملي على عبدالله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وودعته للخروج وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطلٍ ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبيا ... قول الصحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امريء ... ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميتٍ لا يكذب
((2/206)
قال : لقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبدالرحمن ونصحني ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال قلت: نعم قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبدالرحمن إلينا وأملى على الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: إن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟" فقال يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ثم قال النبي "فوالذى نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات"؟
مسألة : إذا كان الجهاد تطوعاً فهل يجب على الإنسان أن يستأذن والديه في الجهاد؟
إذا كان الجهاد تطوعاً فإنه يجب على الإنسان أن يستأذن والديه في الجهاد بنص السنة الصحيحة :
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال :جاء رجل إلى النبي فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والداك). قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد).
مسألة : متى يكون الجهاد بإذن الوالدين؟
يكون الجهاد بإذن الوالدين بشرطين :
(1) أن يكونا مسلمين :
(2) أن يكون الجهاد تطوعا :
فإذا كان الإنسان له أبوان مسلمان، وأراد الجهاد تطوعاً فإنه لا بد من إذنهما، فإن أذنا له وإلا حَرُمَ عليه الجهاد.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال :جاء رجل إلى النبي فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والداك). قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد).
مسألة : على من يجب القتال ؟
يجب القتال على المسلم البالغ العاقل الحر الذكر القادر على القتال الواجد من المال ما يكفيه وأهله في غيبته .
( أما وجوبه على المسلم فلأن الجهاد هو قتال الكافرين .
( و أما وجوبه على البالغ فللحديث الآتي :
((2/207)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال :عُرِضتُ على رسول الله ( يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجِزني. ثم عُرِضتُ عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة، فأجازني .
وأما شرط العقل فللحديث الآتي :
( حديث علىَ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :
«رُفِعَ القَلَمُ عنْ ثَلاَثةٍ، عنْ النّائِمِ حتّى يَسْتَيقِظَ، وعنْ الصّبيّ حَتّى يحتلم، وعنْ المجنون حتّى يُفيق»
( وأما وجوبه على الرجال دون النساء فللحديث الآتي :
( حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة ) قالت : قلت يا رسول الله على النساء جهاد قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة .
( وأما وجوبه على القادر دون الضعيف فلقوله تعالى: (لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة: التوبة - الآية: 91]
وقوله تعالى: (لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا) [سورة: البقرة - الآية: 286]
وقوله تعالى: (فَاتّقُواْ اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة: التغابن - الآية: 16]
(وأما عدم وجوبه على غير الحر فلأن العبد مملوكٌ لسيده ولا يستطيعُ الجهاد بدون إذنه .
مسألة : متى تملك الغنائم؟
إذا قاتل المسلمون أعداءهم، وهزم الأعداء، واستولى المسلمون على المال، فإن المال يكون ملكاً للمسلمين، ولو كانوا في دار الحرب، أي في ديار الكفار.(2/208)
فمثلاً: لو قاتلنا الكفار، ودخلنا عليهم أرضهم وهربوا وتركوا الأموال فإننا نملك الأموال، ولو كانت في دار الحرب، ولا يلزم أن نحوزها إلى بلاد الإسلام، فلا يشترط أن نحوزها إلى ديار الإسلام، بل بمجرد الاستيلاء عليها تكون ملكاً لنا، وإذا كانت ملكاً هل يجوز أن تقسم هناك؟ الجواب: نعم يجوز أن تقسم هناك؛ لأنها ما دامت ملكت فلا حاجة إلى تأخير قسمتها، فيعطى كل إنسان ما يناله منها ويتصرف به يميناً وشمالاً، وإن خيف من شر فللإمام ألا يقسمها إلا في بلاد الإسلام.
مسألة : لمن تكون الغنيمة؟
الغنيمة تكون لمن شهد الوقعة من أهل القتال» وهم الرجال الذين يقاتلون، فمن شهد منهم فإنه يقسم له، وأما من جاء بعد انتهاء الحرب فإنه لا شيء له منها، وكذلك من انصرف قبل بدء الحرب فإنه ليس له منها شيء، وإنما هي لمن حضر الوقعة من أهل القتال، لقول عمر ـ رضي الله عنه ـ: «الغنيمة لمن شهد الوقعة ، وأما من لم يشهدها فإنه لا حظَّ له فيها.
مسألة : كيف تقسم الغنائم ؟
تقسم الغنائم كالتالي :
(1) يخرج الإمام الذي هو الرئيس الأعلى في الدولة أو من ينوب عنه كقائد الجيش ـ مثلاً ـ الخمس ، أي: خمس الغنيمة؛ لقول الله تعالى: {{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}} [الأنفال: 41] ، فيخرج الخمس ويصرف على ما ذكر الله في القرآن: {{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}}، فهؤلاء خمسة، إذاً الخمس يقسم خمسة أسهم فيكون: (لله ورسوله ) من أصل الغنيمة جزء من خمسة وعشرين جزءاً.
وأين يصرف هذا؟
الجواب: خمس الخمس يكون فيئاً في مصالح المسلمين، هذا هو الصحيح.(2/209)
وقيل: ما لله فهو فيء، وما للرسول فللإمام؛ لأن الإمام نائب مناب الرسول في الأمة، ولكن الصحيح أن ما لله وللرسول يكون فيئاً يدخل في بيت المال ويصرف في مصالح المسلمين.
{{وَلِذِي الْقُرْبَى}}، وهم قربى رسول الله ، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، هؤلاء هم أصحاب خمس الخمس.
وكيف يقسم بينهم؟
قيل: يقسم بينهم بحسب الحاجة، وقيل: بل للذكر مثل حظ الأنثيين، وقيل: بل الذكر والأنثى سواء.
أما من قال: بحسب الحاجة، قال: لأننا نعلم أن من مقاصد الشرع دفع الحاجات، لكن خص ذوي القربى؛ لأنهم أحق الناس بمثل هذه الغنيمة.
وأما من قال: هم سواء، فقال: لأنهم يستحقونه بوصفٍ وهو القرابة، وهذا يستوي فيه الذكور والإناث، كما لو وقف على قريبه فإنه يستوي الذكر والأنثى.
وأما من قال: إنه يفضل الذكر على الأنثى، فقال: لأن الإرث في القرابة يكون هكذا للذكر مثل حظ الأنثيين.
والأقرب الأول وهو أننا نراعي الحاجة، فإن كانوا كلهم سواء في الغنى أو في الحاجة أعطيناهم بالتساوي.
{{وَالْيَتَامَى}} جمع يتيم، وهو من مات أبوه قبل أن يبلغ، وسواء كان ذكراً أو أنثى، وهل يختص بالفقراء منهم أو لا يختص؟.
الصحيح أنه لا يختص؛ لأننا لو جعلناه خاصاً بالفقراء لم يكن لعطف المساكين عليهم فائدة.
فالصواب أن اليتيم يستحق خمس الخمس من الغنيمة ولو كان غنيّاً؛ جبراً للنقص الذي حصل له بفقد أبيه، ولا سيما إذا كان اليتيم مترعرعاً في الشباب، أي يعرف قدر وجود أبيه، ويعرف ما يفوته بفقد أبيه، لكن لا شك أن من كان أحوج فهو أحق.
{{وَالْمَسَاكِينِ}} هم الفقراء، وهنا يدخل الفقراء في اسم المساكين.
{{وَابْنَ السَّبِيلِ}} هم المسافرون الذين انقطع به السفر، فيعطون ما يوصلهم إلى سفرهم، يعطون تذكرة أو متاعاً أو ما أشبه ذلك مما يحتاجون إليه.
((2/210)
3) ثم يقسم باقي الغنيمة (أربعة أخماس) : للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه» ، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه؛ لأن النبي فعل ذلك في خيبر، جعل للراجل ـ الذي على رِجْله ـ سهماً واحداً، وللفارس ثلاثة أسهم .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: قسم رسول الله يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما. قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم.
فإن قيل لماذا فرَّق بينهما؟.
الجواب: لأن غَناء الفارس ونفعه أكثر من غناء الراجل.
فإذا قال قائل: فماذا تقولون في حروب اليوم؟ فالناس لا يحاربون على خيل وإبل، بل بالطائرات والدبابات وما أشبهها؟.
فالجواب: يقاس على كل شيء ما يشبهه، فالذي يشبه الخيل الطائرات؛ لسرعتها وتزيد ـ أيضاً ـ في الخطر، والذي يشبه الإبلَ الدباباتُ والنقلياتُ وما أشبهها، فهذه لصاحبها سهم ولها سهمان، والراجل الذي يمشي على رجله مثل القناصة له سهم واحد.
فإن قال قائل: الطيار لا يملك الطائرة، فهل تجعلون له ثلاثة أسهم؟.
نقول: نعم نجعل له ثلاثة أسهم سهم له وسهمان للطائرة، وسهما الطائرة يرجعان إلى بيت المال؛ لأن الطائرة غير مملوكة لشخص معين، بل هي للحكومة، وإذا رأى ولي الأمر أن يعطي السهمين لقائد الطائرة فلا بأس؛ لأن في ذلك تشجيعاً له على هذا العمل الخطير.
مسألة : ماهو الغلول وما حكمه؟
الغال : من كتم شيئاً مما غنمه واختصه بنفسه،والغُلول من كبائر الذنوب .
قال تعالى: {{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}} [آل عمران: 161] ،
وحذر النبي من ذلك وبين أن الإنسان يأت بما غل يوم القيامة إن كان شاة أو بعيراً أو أي شيء، يأتي به حاملاً إياه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد .
((2/211)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :قام فينا النبي فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، قال: (لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير لها رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، أو على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك).
فهو إذاً من الكبائر، وإن كان شيئاً قليلاً فإنها تكون سبباً في دخول الغل النار والعياذ بالله.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: كان على ثقل النبي رجل يقال له كَركَرة فمات، فقال رسول الله : (هو في النار). فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها.
مسألة : هل كل أسرى الحرب يكونون رقيقاً بمجرد سبيهم ؟
سبي الحرب نوعين :
( النوع الأول) : يكونون رقيقاً بمجرد سبيهم وهو النساء والصبيان .
( النوع الثاني) : لا يكونون رقيقاً بمجرد سبيهم بل يُخَيَّرُ الإمام فيهم بين أربعة أمور (إما القتل، وإما أخذ الفداء، وإما الاسترقاق، وإما المنُّ بدون شيء).
وهؤلاء هم الرجال البالغون .
والفداء قد يكون بمال أو منفعة أو أسير مسلم، فمثلاً: لو أننا أسرنا أحد المقاتلين نأتي به للإمام، والإمام إن شاء قتله، وإن شاء مَنَّ عليه مجاناً، وقال له: اذهب إلى أهلك، وإن شاء استرقه، أي جعله رقيقاً، وإن شاء طلب الفدية منه إما مالاً وإما منفعة وإما بأسير مسلم.
وهذه التخييرات الأربعة هل هي حسب اختيار الإمام أو حسب المصلحة؟.
الجواب: حسب المصلحة؛ لأن القاعدة الشرعية أن كل من يتصرف لغيره إذا خيِّر بين شيئين فإن تخييره للمصلحة وليس للتشهي .(2/212)
قال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلََكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ) [سورة: محمد - الآية: 4]
وقد قتل النبي ( رجالاً من بني قُريظة واسترق بني المصطلق ومنّ على أبي العاص بن الربيع وثُمامة بن أثال ، وفدى أسرى بدر بمال ، وفدى رجلين من أصحابه برجلٍ من المشركين من بني عقيل .
مسألة : ما هو الفيء ؟
الفيء : مأخوذ من قولهم فاء إذا رجع
و الفيء شرعاً : هو ما أُخذ من الكفار من غير قتال كالمال الذي تركوه فزعاً من المسلمين والجزية والخراج والأموال التي يموت عنها من لا وارث لها من أهل الذمة .
مسألة : ما هو الأمان؟
الأمان: عبارة عن تأمين الكافر مدة محدودة، أي يؤمن حتى يبيع تجارته ويرجع، أو حتى يشاهد بلاد المسلمين ويرجع، أو حتى يسمع كلام الله ويرجع .
والدليل قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ) [سورة: التوبة - الآية: 6]
مسألة : هل يصح الأمان من الأمام لجميع المشركين؟
يصح الأمان من الأمام لجميع المشركين لأن ولايته عامة فجاز أن يكون تأمينه عاما.
مسألة : ممن يصح الأمان ؟
يصح الأمان من مسلم عاقل مختار غير سكران .
مسألة : ماذا يترتب على الأمان ؟
يترتب على الأمان تحريم قتل المستأمن أو رِقِّه أو أسْرِه لأن هذا غدرٌ والإسلام يُحرِّم الغدر .
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة و إن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما .
((2/213)
من قتل معاهداً ) أي من له عهد منا بنحو أمان
( لم يرح رائحة الجنة ) أي لم يشمها حين شمها من لم يرتكب كبيرة لا أنه لا يجدها أصلاً كما يفيده أخبار أخر جمعاً بينه وبين ما تعاضد من الدلائل النقلية والعقلية على أن صاحب الكبيرة إذا كان موحداً محكوماً بإسلامه لا يخلد في النار ولا يحرم من الجنة .
( وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ) والوعيد يفيد أن قتله كبيرة وبه صرح الذهبي وغيره لكن لا يلزم منه قتل المسلم به .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :إن الغادر يُْنْصَبُ له لواء يوم القيامة يُقال : هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان .
( إن الغادر ) أي المغتال لذي عهد أو أمان
( ينصب له لواء ) أي علم
( يوم القيامة ) خلفه تشهيراً له بالغدر وإخزاء وتفضيحاً على رؤوس الأشهاد
( فيقال ) أي ينادي عليه في ذلك المحفل العظيم
( هذه غدرة فلان ) أي علامة على غدرة فلان
( ابن فلان ) ويرفع في نسبه حتى يتميز عن غيره تمييزاً تاماً وظاهره أن لكل غدرة لواء فيكون للواحد ألوية بعدد غدراته ، وحكمة نصب اللواء أن العقوبة تقع غالباً بضد الذنب والعذر خفي فاشتهرت عقوبته بإشهار اللواء .
مسألة : ما هي الهُدْنة ؟
الهدنة عقد يُبْرَم بين المسلمين والكفار على ترك القتال مدة معلومة ولو طالت بقدر الحاجة ، كما فعل النبي في الحديبية
مسألة : من الذي يعقد الهدنة ؟
الذي يعقد الهدنة الإمام أو نائبه .
مسألة : ما هي أحوال العهد الذي بيننا وبين الكفار ؟
[*](العهد الذي بيننا وبين الكفار له ثلاث حالات كلها في القرآن:
(الحال الأولى: أن ينقضوا العهد هم بأنفسهم، فإذا نقضوا العهد انتقض العهد الذي بيننا وبينهم.(2/214)
ومثاله: قصة قريش؛ لأن قريشاً نقضوا العهد حين ساعدوا حلفاءهم على حلفاء النبي ، وحينئذ ينتقض العهد، والدليل قوله تعالى: {{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ *}{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}} [التوبة: 12، 13] .
(الحال الثانية: أن يستقيموا لنا ولا نخاف منهم خيانة ولم نر منهم خيانة، فحينئذ يجب علينا أن نستقيم لهم كما قال الله تعالى: {{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}} [التوبة: 7] .
الحال الثالثة: أن نخاف منهم نقض العهد، فهنا لا يلزمنا أن نبقى على العهد، ولا يجوز لنا أن نقاتلهم، بل ننبذ إليهم على سواء، وإليه الإشارة في قوله تعالى: {{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}} [الأنفال: 58] ، أي: انبذ العهد على سواء؛ لتكون أنت وإياهم على سواء في أنه لا عهد بينكم، وهذا هو الإنصاف؛ لأن الدين الإسلامي أقوم الأديان وأعدلها، فما استقاموا لنا فإننا نستقيم لهم، وإن نقضوا عهدنا فلا عهد لهم، وإن خفنا منهم ننبذ إليهم على سواء، فنقول: لا عهد بيننا وبينكم، ولا نأتيهم على غرة ونباغتهم؛ لأن الأصل قيام العهد.
مسألة : ما معنى الذمة لغةً واصطلاحا؟
الذمة لغةً : بمعنى العهد
الذمة اصطلاحاً: «إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام .
مسألة : من الذي يقوم بإجراء عقد الذمة ؟
الذي يقوم بإجراء عقد الذمة الحاكم أو نائبه .
مسألة : من الذي يُعقد له عقد الذمة ؟
الذي يُعقد له عقد الذمة : أهل الكتاب أو من الكفار .
{{(2/215)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}}{ التوبة :29}
مسألة : ما هي الجزية ؟
الجزية : هي التي توضع على كل فرد من أهل الذمة أو ومن الكفار عِوضاً عن إقامتهم في أرضنا وعن حمايتنا .
مسألة : ما الدليل على أن الجزية تُؤخذ من أهل الكتاب ؟
الدليل قوله تعالى :{{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}}{ التوبة :29}
مسألة : ما الدليل على أن الجزية تُؤخذ من الكفار ؟
( حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( أخذ الجزية من مجوس هجَر.
الشاهد : كون النبي أخذها من مجوس هجر مع أنهم ليسوا من أهل الكتاب فيدل على أنها تؤخذ من كل كافر، والمعنى يقتضي ذلك؛ لأنه إذا جاز أخذها من أهل الكتاب والمجوس، فغيرهم مثلهم؛ لأن المقصود إقرار الكافر على دينه على وجه معين أو مخصوص وهو حاصل لكل كافر، وعلى هذا فإذا طلب أحد من المشركين أن نأخذ منه الجزية ويقر على دينه ورأينا المصلحة في ذلك فإننا نفعله.
مسألة : ما معنى أحكام عقد الذمة ؟
معنى أحكام أهل الذمة، أي: ما يلزم المسلمين نحو أهل الذمة، وما يلزم أهل الذمة نحو المسلمين.
مسألة : إذا تم عقد الذمة فماذا يترتب عليه ؟
إذا تم عقد الذمة فإنه يترتب عليه حرمة قتالهم والحفاظ على أموالهم وصيانة أعراضهم وكفالة حريتهم والكف عن أذاهم .
((2/216)
حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .
مسألة : ما هي الأحكام التي تجري على أهل الذمة ؟
الأحكام التي تجري على أهل الذمة : تجري عليهم أحكام الإسلام في حقوق الآدميين وفي العقود والمعاملات وأروش الجنايات وقيم المتلفات وتقام عليهم الحدود .
إذا قتلوا أحداً قتلناهم، وإذا قتلهم مثلهم قتلناه ، وكذلك في المال فإذا أتلفوا مال مسلم ضَمَّناهم، وإن أتلف مسلم مالهم ضَمَّناه؛ لأن هذا مقتضى حكم الإسلام أن متلف المال ضامن سواء كان مسلماً أو كافراً.
كذلك العرض فلا يجوز لنا أن نغتابهم، ولا أن نقذفهم بالزنا؛ وذلك لأنهم محترمون، فهم من المعصومين، فيجب على الإمام أخذهم بذلك كله، وهم ـ أيضاً ـ إذا اغتابوا أحداً من المسلمين أو قذفوا أحداً من المسلمين ألزموا بما يقتضيه الإسلام في هذا الأمر.
وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حِله :(2/217)
الحدود هي عقوبة مقدرة شرعاً تمنع من الوقوع في مثلها وتكفر ذنب صاحبها، وإقامة الحدود فرض كفاية، والمطالب بها الإمام، فهؤلاء الذميون إذا فعلوا ما يوجب الحد إن كانوا يعتقدون التحريم أقمنا عليهم الحد، وإن كانوا لا يعتقدونه فإننا لا نقيم عليهم الحد، فالزنا مثلاً يقام عليهم الحد فيه؛ لأنهم يعتقدون تحريمه، فإذا ترافعوا إلينا في قضية زنا فإنه يجب علينا أن نحكم عليهم بمقتضى الإسلام، فإذا كانوا محصنين فالرجم، وإن كانوا غير محصنين فالجلد والتغريب، وإذا قدرنا أنهم يعتقدون التحريم، لكن لا يعتقدون إقامة الحد فهؤلاء نقول: إن ترافعوا إلينا ألزمناهم بحكم الإسلام، وإن لم يترافعوا إلينا تركناهم وشأنهم، مع أن حد الزنا ثابت حتى في التوراة والإنجيل.
ودليل ذلك ما ورد في قصة عبد الله بن صوريا في الذي زنا بامرأة يهودية وترافع إلى الرسول وجيء بالتوراة فإذا فيها آية الرجم.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما عنه الثابت في الصحيحين ) ( قال :إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله : (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم). فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة، يقيها الحجارة.
مسألة : إذا جيء إلينا بسكران من أهل الذمة فهل نقيم عليه حد الخمر ؟(2/218)
إذا جيء إلينا بسكران من أهل الذمة فإننا لا نقيم عليه حد الخمر، حتى وإن قلنا: إن عقوبة شارب الخمر حد فإننا لا نقيم عليه الحد؛ لأن أهل الكتاب يعتقدون أن الخمر حلال، والذي يعتقد حل الشيء كيف يعاقب عليه؟! لكنهم يمنعون من إظهار شرب الخمر، فإن أظهروا ذلك فإننا نعزِّرهم بما يردعهم.
مسألة : هل يجوز عيادة الذمي إذا مرض؟
الصحيح جوازعيادة الذمي إذا مرض، لكن للمصلحة أيضاً، بأن يرجى إسلامه بعرض الإسلام عليه، ( لحديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : كان غلام يهودي يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: (أسلم). فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم ، فأسلم، فخرج النبي وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار).
، فإذا كان في عيادتهم مصلحة كالدعوة للإسلام فلا بأس، بل قد تكون مندوبة مستحبة؛ لأن النبي قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
مسألة : متى ينتقض العهد الذي بيننا وبين أهل الذمة ؟
[*](ينتقض العهد الذي بيننا وبين أهل الذمة إذا حصل إحدى الأشياء الآتية :
(1) إن أبى الذمي بذل الجزية أي: رفض إعطاء الجزية، فإن عهده ينتقض، ويحل دمه وماله.
(2) إن أبى التزام حكم الإسلام» بأن صار يجهر بشرب الخمر ويعلنه، ولا يلتزم بإقامة الحدود عليه فيما يعتقد تحريمه، ولا يتورع عن نكاح ذوات المحارم في غير المجوسي؛ لأن المجوسي يرى أن نكاح ذوات المحارم جائز، لكن اليهود والنصارى لا يرون ذلك، فإذا أبى التزام أحكام الإسلام انتقض عهده.
((2/219)
3) إذا اعتدى على مسلم بأن قتل مسلماً فإن عهده ينتقض حتى لو عفا أولياء المقتول فإن عهده ينتقض؛ لأن أولياء المقتول إن طالبوا بالقصاص اقتص منه وإلا لم يقتص منه، لكن بالنسبة للعهد ينتقض؛ لأنه إذا قتل هذا يمكن أن يقتل آخر ، وكذلك إذا اعتدى على مسلم بزنا، فلو زنا بمسلمة ولو برضاها فإنه ينتقض عهده؛ لأن الواجب عليه أن يلتزم أحكام الإسلام، ومثل ذلك لو اعتدى على غلام بلواط فإنه ينتقض عهده.
وكذلك لو تعدى بقطع طريق، بأن كان يعترض الناس في الطرقات فيغصبهم المال مجاهرة ومعه السلاح، فمن جاء إليه قال له: سلم المال، وقاتله، فإن هذا قاطع طريق ويعتبر فعله هذا نقضاً للعهد.
وكذلك إذا تعدى على المسلمين بالتجسس، فصار ينقل أخبار المسلمين إلى العدو، فإن عهده ينتقض، ولا إشكال فيه، بل إن الجاسوس وإن كان مسلماً يجب أن يقتل إذا تجسس للعدو، والدليل على ذلك أن النبي لما اطلع على الجاسوس الذي تجسس لقريش وهو حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ وعلم به، استأذن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن يقتله فقال النبي : «إنه من أهل بدر، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فجعل النبي الجاسوسية مبيحة للدم، لكن وجد مانع وهو كونه من أهل بدر، وهذه العلة لا توجد في عهدنا الآن، فإذا وجد إنسان، جاسوس يكتب بأخبارنا إلى العدو، أو ينقلها مشافهة، أو ينقلها عبر الأشرطة، فإنه يجب أن يقتل حتى لو تاب؛ لأن ذلك كالحد لدفع شره، وردع أمثاله عن ذلك.
وكذلك لو آوى جاسوساً وتستَّر عليه، فإن عهده ينتقض؛ لأنه لما آوى الجاسوس، رضي بالجاسوسية، وهذا إضرار بالمسلمين.
((2/220)
4) «أو ذكر الله، أو رسوله، أو كتابه أو شريعته بسوء» وينبغي ، فإذا ذكر الله بسوء، فسبَّ الله كما قالت اليهود: {{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}} [المائدة: 64] ، فإذا قال: يد الله مغلولة، أو قال: إِن الله فقير، فإن عهده ينتقض؛ لأنه ذكر الله بسوء، أو قال: إن الله لم يعدل حيث جعل لأمة محمد كفلين من الأجر، وجعل لغيرهم كفلاً واحداً، وهذا غير عدل فإنه ينتقض عهده، أو قال: إن الله تعالى جاهل ولا يدري، فإن عهده ينتقض، المهم إذا ذكر الله تعالى بأي سوء فإن عهده ينتقض.
وكذلك إذا ذكر رسوله، والرسول هنا مفرد مضاف فيعم كل رسول، فلو ذكر اليهودي عيسى ابن مريم بسوء فإن عهده ينتقض، ولو ذكر النصراني محمداً بسوء فإن عهده ينتقض، وكذلك لو ذكر الشريعة الإسلامية بسوء فإن عهده ينتقض؛ لأنه ليس هذا الذي بيننا وبينه.
قوله: «انتقض عهده دون نسائه وأولاده» فيتبعض الحكم لتبعُّض موجِبِه، فالنساء والأولاد لم يفعلوا شيئاً يوجب نقض العهد فيبقون على العهد، وهو فَعَلَ ما يوجب نقض العهد فينتقض.
{ تنبيه } :( إن كان انتقاض عهده بسب الرسول ، فذهب بعض أهل العلم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أنه يتعين قتله إذا سب الرسول ولو تاب؛ لأن هذا حق للرسول ولا نعلم أنه عفا عنه، والأصل أن يؤخذ للرسول بالثأر، إلا إذا علمنا أنه عفا، فإنه عفا عن الناس الذين كانوا يسبونه في عهده، وارتفع عنهم القتل.
مسألة : إذا انتقض عقد الذمة فماذا يترتب على ذلك ؟
إذا انتقض عقد الذمة كان حكم الذمي حكم الأسير فإن أسلم حرُم دمه وإن لم يسلم يخير فيه الإمام بين أربعة أشياء: إما القتل، أو الاسترقاق، أو المنّ بدون شيء ـ يعني مجاناً ـ، أو المن بفداء، والفداء إما بمال أو بمنفعة، المهم أن يكون حكمه حكم الحربي.
مسألة : ما هو النكاح لغةً وشرعا ؟
النكاح في اللغة يطلق على أمرين:
الأول: العقد.
الثاني: الجماع.(2/221)
والأصل فيه الأول، وأنه للعقد، فقول الله تعالى: {{وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}} [النساء: 22] يعني لا تعقدوا عليهن، وأما قوله تعالى: {{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}} [البقرة: 230] ، فهنا قال بعض العلماء: المراد بالنكاح الجماع، وأن الذي حرَّفه عن المعنى الأول هو السُّنَّة، وقال آخرون: وأن الذي حرَّفه عن المعنى الأول هو قوله: {{زَوْجًا}} لأن الزوج لا يكون زوجاً إلا بعقد، وحينئذٍ يتعين أن يكون المراد بالنكاح في قوله: {{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا}} الوطء، ومعنى ذلك أن الزوجية سابقة على النكاح، ولا تكون زوجية سابقة على النكاح إلا إذا كان النكاح هو الوطء.
فإذا قيل: نكح بنت فلان، فالمراد عقد عليها، وإذا قيل: نكح زوجته، فالمراد جامعها.
فهو إذاً مشترك بين المعنيين بحسب ما يضاف إليه، إن أضيف إلى أجنبية فهو العقد، وإن أضيف إلى مباحة فهو الجماع.
أما في الشرع فهو : أن يعقد على امرأة بقصد الاستمتاع بها، وحصول الولد، وغير ذلك من مصالح النكاح.
مسألة : ما حكم النكاح؟
الأصل فيه أنه سنة ، بل من آكد سنن الأوليين .
والدليل على أنه من آكد سنن المرسلين لقوله تعالى: {{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}} [الرعد: 38] ، وقال: {{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}} [النور: 32] ، وقال ـ عزّ وجل ـ: {{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}} [النساء: 3]* وقد حث النبي عليه، ولما فيه من المصالح العظيمة التي ستتبين فيما بعد.
(حديث أبي ابن مسعود الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال:يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء .(2/222)
والمراد بالباءة النكاح بحيث يكون عنده قوة بدنية وقدرة مالية، إلا أنه سيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي ، يسألون عن عبادة النبي ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين ) قال: كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا شيء فقلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا: {يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا أن الله لا يحب المعتدين}.*
، ولأن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: لو أذن لنا رسول الله لاختصينا، ولكن نهانا عن التبتل يعني ترك النكاح؛ وذلك لما في النكاح من المصالح الكثيرة التي من أجلها صار سنة، ولأنه من ضرورة بقاء الأمة؛ لأنه لولا النكاح ما حصل التوالد، ولولا التوالد ما بقيت الأمة، ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، والشيء قد يكون مطلوباً وإن لم ينص على طلبه لما يترتب عليه من المصالح والمنافع العظيمة.
(حديث سعد بن أبي وقاص الثابت في الصحيحين ) يقول: رد رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا.
( حديث سعيد بن جبير الثابت في صحيح البخاري )قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت ؟ قلت: لا، قال: فتزوج، فأن خير هذه الأمة أكثرها نساء.
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :* الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة.(2/223)
مسألة : هل الزواج أفضل أم نوافل العبادات ؟
ما دام الإنسان ذا شهوة وعندك ما تقوم به بواجبات النكاح فإن الأفضل أن تتزوج؛ لأن فيه من المصالح العظيمة ما يربو على نوافل العبادة ، لكن ليس أفضل من واجباتها
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي ( قال : أن النبي ( قال : قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه ، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
مسألة : ما حكم الزواج في حق من يخاف زناً بتركه؟
الصحيح أنه يجب على من يخاف زنا بتركه؛ وذلك لشدة شهوته، ولتيسر الزنا في بلده؛ لأن الإنسان ربما تشتد به الشهوة ويخشى أن يزني، لكن لا يتيسر له؛ لأن البلد محفوظ، لكن مراده إذا اشتدت شهوته في بلد يتيسر فيه الزنا، أما إذا لم يتيسر فهو وإن اشتدت به الشهوة لا يمكن أن يزني، فإذا خاف الزنا لوجود أسبابه وانتفاء موانعه، صار النكاح في حقه واجباً دفعاً لهذه المفسدة؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
مسألة : متى يكون الزواج مباحاً ؟
يباح لمن لا شهوة له إذا كان غنياً؛ لأنه ليس هناك سبب يوجب، ولكن من أجل مصالح الزوجة بالإنفاق عليها وغير ذلك .
فإن قصد بذلك إعفاف الزوجة وتحصين الفرج كان مسنوناً لمصلحة الآخرين، وهكذا المباحات إذا كانت وسيلة للمحبوبات صارت محبوبة ومطلوبة.
مسألة : متى يكون الزواج مكروهاً ؟
يكره لفقير لا شهوة له؛ لأنه حينئذٍ ليس به حاجة، ويُحَمِّل نفسه متاعب كثيرة، فإن كانت المرأة غنية لا يهمها أن ينفق أو لا ينفق، فالنكاح في حقه سنة.
مسألة : متى يكون الزواج محرماً ؟(2/224)
يحرم بدار حرب، إذا صار الإنسان في دار الكفار يقاتل في سبيل الله، فإنه لا يجوز أن يتزوج؛ لأنه يخشى على عائلته في هذه الدار، ومن ذلك إذا كان الإنسان معه زوجة وخاف إذا تزوج ثانية ألا يعدل، فالنكاح حرام لقول الله تعالى: {{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}} [النساء: 3] ، فأمر الله ـ تعالى ـ بالاقتصار على الواحدة إذا خفنا عدم العدل، ويستحب فيما عدا ذلك؛ لأنه هو الأصل.
(ولهذا ذكر الفقهاء أن النكاح تجري فيه الأحكام الخمسة، تارة يجب، وتارة يُستحب، وتارة يُباح، وتارة يُكره، وتارة يَحْرُم).
{ تنبيه } :( وينبغي لمن تزوج ألا يقصد قضاء الشهوة فقط، كما هو مراد أكثر الناس اليوم، إنما ينبغي له أن يقصد بهذا التالي:
أولاً: امتثال أمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»
ثانياً: تكثير نسل الأمة؛ لأن تكثير نسل الأمة من الأمور المحبوبة إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ولأن تكثير نسل الأمة سبب لقوتها وعزتها، ولهذا قال شعيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقومه: {{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}} [الأعراف: 86]، وامتن الله به على بني إسرائيل في قوله: {{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}} [الإسراء: 6] .
ثالثاً: تحصين فرجه وفرج زوجته، وغض بصره وبصر زوجته، ثم يأتي بعد ذلك قضاء الشهوة.
مسألة : ما هو فضل النكاح؟
للزواج فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم من ما يلي :
(1) امتثال أمر الله تعالى ورسوله ( في الحث على النكاح :(2/225)
لقوله تعالى: {{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}} [الرعد: 38] ، وقال: {{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}} [النور: 32] ، وقال ـ عزّ وجل ـ: {{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}} [النساء: 3]* وقد حث النبي عليه، ولما فيه من المصالح العظيمة التي ستتبين فيما بعد.
(حديث أبي ابن مسعود الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء .
والمراد بالباءة النكاح بحيث يكون عنده قوة بدنية وقدرة مالية، إلا أنه سيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي ، يسألون عن عبادة النبي ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين ) قال: كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا شيء فقلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا: {يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا أن الله لا يحب المعتدين}.*
،(2/226)
ولأن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: لو أذن لنا رسول الله لاختصينا، ولكن نهانا عن التبتل ، يعني ترك النكاح؛ وذلك لما في النكاح من المصالح الكثيرة التي من أجلها صار سنة، ولأنه من ضرورة بقاء الأمة؛ لأنه لولا النكاح ما حصل التوالد، ولولا التوالد ما بقيت الأمة، ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، والشيء قد يكون مطلوباً وإن لم ينص على طلبه لما يترتب عليه من المصالح والمنافع العظيمة.
(حديث سعد بن أبي وقاص الثابت في الصحيحين ) يقول: رد رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا.
( حديث سعيد بن جبير الثابت في صحيح البخاري )قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت ؟ قلت: لا، قال: فتزوج، فأن خير هذه الأمة أكثرها نساء.
(2) المرأة الصالحة خير متاع الدنيا بنص السنة الصحيحة .
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :* الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة.
(3)الزواج علاج فتنة النساء التي هي أضرّ فتنة على الرجال بنص السنة الثابت الصحيحة.
(حديث أسامة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء .
( حديث أبي سعيد الخدري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.
(4)تكثير نسل الأمة إمتثالاً لقول النبي ( .
( حديث معقل بن يسار الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي ( قال :تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم .
(5)أن الله تعالى أوجب على نفسه إعانة الناكح الذي يريد العفاف :
((2/227)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«ثَلاَثَةٌ حَقّ على الله عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، والمُكَاتَبُ الّذِي يُرِيدُ الأدَاءَ، والنّاكِحُ الّذِي يُرِيدُ العَفَافَ» .
مسألة : ما هي الصفات التي يجب مراعاتها عند اختيار المرأة؟
هناك أمورٌ يجب مراعاتها عند اختيار المرأة حتى تبنى الأسرة الأسرة على أسسٍ سليمة وحتى تكون الرابطة الأسرية راسية القواعد مشيدة الأركان ثابتة الوطائد منها ما يلي :
(1) صلاح المرأة : أي «ديِّنَةٍ» ، أي: صاحبة دين، لقول النبي : «تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» .
فالديِّنة تعينه على طاعة الله، وتصلح من يتربى على يدها من أولاده، وتحفظه في غيبته، وتحفظ ماله وتحفظ بيته، بخلاف غير الدينة فإنها قد تضره في المستقبل، ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «فاظفر بذات الدين» ، فإذا اجتمع مع الدين جمال ومال وحسب فذلك نور على نور، وإلا فالذي ينبغي أن يختار الديِّنة.
فلو اجتمع عند المرء امرأتان: إحداهما جميلة وليس فيها فسق أو فجور، والأخرى دونها في الجمال لكنها أدين منها، فأيهما يختار؟ يختار الأدين.
(2)أن تكون بكراً : «بكر» ، وهي التي لم تتزوج من قبل، لقول النبي لجابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ لما سأله تزوجت؟ قال: نعم، قال: «بكراً أم ثيباً؟» ، قال: بل ثيباً، فقال: «فهلاَّ بكراً تلاعبك وتلاعبها» فالبكر أفضل؛ لأنها لم تطمح إلى رجال سابقين، ولم يتعلق قلبها بأحد قبله، ولأن أول من يباشرها من الرجال هذا الرجل، فتتعلق به أكثر.(2/228)
لكن قد يختار الإنسان الثيب لأسباب، مثل ما فعل جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ فإنه اختار الثيب؛ لأن والده عبد الله بن حرام ـ رضي الله عنه ـ استشهد في أحد، وخلف بناتاً يحتجن إلى من يقوم عليهن، فلو تزوج بكراً لم تقم بخدمتهن ومؤنتهن، فاختار ـ رضي الله عنه ـ ثيباً لتقوم على أخواته، ولهذا لما أخبر النبي بذلك أقره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فإذا اختار الإنسان ثيباً لأغراض أخرى فإنها تكون أفضل، وفي هذا دليل على اعتبار الأمور، وأن التفضيل يرجع إلى هذه الاعتبارات، كما سبق ذكره.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال:هلك أبي وترك سبع بنات أو تسع بنات، فتزوجت امرأة ثيبا فقال لي رسول الله: (تزوجت يا جابر). فقلت: نعم، فقال: (ابكرا أم ثيبا). قلت: بل ثيبا، قال: (فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، تضاحكها وتضاحكك). قال: فقلت له: إن عبد الله هلك، وترك بنات، وإني كرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن، فقال: (بارك الله لك، أو قال: خيرا).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين )قالت:قلت يا رسول الله، أرايت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرا لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال: (في التي لم يرتع منها). تعني أن رسول الله لم يتزوج بكرا غيرها.
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :عليكم بالأبكار فإنهن أنتق أرحاما و أعذب أفواها و أقل خبا و أرضى باليسير .
( عليكم بالأبكار ) قال القاضي : حث وإغراء على تزوجهن
( فإنهن أنتق أرحاماً ) أي أكثر حركة والنتق بنون ومثناة الحركة ويقال أيضاً للرمي وأراد أنها كثيرة الأولاد .
((2/229)
وأعذب أفواهاً ) قال الطيبي : أفرد الخبر وذكره على تقدير كقوله تعالى { هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم } قال القاضي : إضافة العذوبة إلى الأفواه لاحتوائها على الريق وقد يقال للريق والخمر الأعذبان .
( وأقل خباً ) بالكسر أي خداعاً .
(وأرضى باليسير ) من الإرفاق لأنها لم تتعود في سائر الأزمان من معاشرة الأزواج ما يدعوها إلى استقلال ما تصادفه .
(3) أن تكون ولود : «ولود» :أي كثيرة الولادة، وهذا ظاهره يتناقض مع قوله: «بكر» ؛ لأن البكر ما ولدت حتى نعلم أنها ولود أم لا، ولكن لا تناقض، ويمكن معرفة هذا بمعرفة قريباتها، فإذا كانت من نساء عرفن بكثرة الولادة فالغالب أنها تكون مثلهن، فيختار المرأة التي عرفت قريباتها بكثرة الولادة؛ لأن النبي أمر بذلك فقال: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» ولأن كثرة الأمة عِزٌّ لها، وإياك وقول الماديين الذين يقولون: إن كثرة الأمة يوجب الفقر، والبطالة، والعطالة، بل والكثرة عِزٌّ امتن الله به على بني إسرائيل، حيث قال: {{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}} [الإسراء: 6] ، وذَكَّر شعيب عليه الصلاة والسلام قومه بها، حيث قال: {{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}} [الأعراف: 86] .
مسألة : ما هي الصفات التي يجب مراعاتها عند اختيار الزوج ؟
المعتبر في اختيار الرجل أيضاً هو صلاح دينه وإن كان فقيراً فليس الفقر عيباً يرد به الزواج.
قال تعالى: (وَأَنْكِحُواْ الأيَامَىَ مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة: النور - الآية: 32]
((2/230)
حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين ) قال :أتت النبي امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله ، فقال: (ما لي في النساء من حاجة). فقال رجل: زوجنيها، قال: (أعطيها ثوبا). قال: لا أجد، قال: (أعطها ولو خاتما من حديد). فاعتل له، فقال: (ما معك من القرآن). قال: كذا وكذا، قال: (فقد زوجتكها بما معك من القرآن).
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي ) قالَ: قالَ رسولُ الله ( : «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ، فَزَوّجُوهُ. إلاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسَادٌ عرِيضٌ».
[*] قال رجلٌ للحسن بن علي : إن لي بنتاً فمن ترى أن أزوجها له ؟ قال: زوجها ممن يتقي الله فإن احبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.
[*] وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : النكاح رقٌ فلينظر أحدكم عند من يسترق كريمته.
{ تنبيه } :( ويجوز للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح وليس في هذا دليلٌ على قلة حياؤها عند من فهم السنة ويجوز كذلك للإنسان أن يعرض ابنته أو أخته على أهل الصلاح والتقوى فإن ذلك من السنة .
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) قال:جاءت امرأة إلى رسول الله تعرض عليه نفسها، قالت يا رسول الله، ألك بي حاجة ؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءك، واسوأتاه واسوأتاه، قال هي خير منك، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها.
((2/231)
حديث ا بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله ، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ، ولو تركها رسول الله قبلتها.
مسألة : ما الفرق بين الخِطبة والخُطبة؟
الخِطبة: بكسر الخاء هي طلب التزوج من المرأة
والخُطبة: بضم الخاء هي الكلمة التي يتكلم بها الخطيب مثل خُطبة الجمعة.
مسألة : ما النظر إلى المخطوبة ؟
(النظر إلى المخطوبة سنة؛ لأن النبي أمر به وقال: «إنه أحرى أن يؤدم بينكما» ، أي: يؤلف بينكما.
(حديث الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة )أَنّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فقَالَ النبيّ ( : «أنْظُرْ إِلَيْهَا فإِنّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا».
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم )قال * كنت عند النبي فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله أنظرت إليها قال لا قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا .
مسألة : كيف ينظرالخاطب إلى مخطوبته ؟(2/232)
إذا أمكن أنه ينظر إليها باتفاق مع وليها، بأن يحضر وينظر لها فله ذلك، فإن لم يمكن فله أن يختبئ لها في مكان تمر منه، وما أشبه ذلك، وينظر إليها، لقول النبي : «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل»
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل قال فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها.
مسألة : ما هي المواضع التي ينظرإليها الخاطب إلى مخطوبته ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة: أن ينظر الخاطب إلى ما يدعوه إلى نكاحها مثل الوجه، والرقبة، واليد والقدم، ونحوها ، أما تقييد النظر في الوجه والكفين فهو تقييد عموم السنة بغير دليل.
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل قال فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها.
مسألة : ما هي شروط جواز نظر الخاطب إلى مخطوبته؟
(شروط جواز نظر الخاطب إلى مخطوبته ما يلي :
الأول: أن يكون بلا خلوة بلا خلوة» لأنها لم تزل أجنبية منه، والأجنبية يحرم على الرجل أن يخلو بها؛ (حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم» ، والنهي للتحريم، و(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :
: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» ، وهذا يدل على أن تحريمه مؤكد.
الثاني: أن يكون بلا شهوة، فإن نظر لشهوة فإنه يحرم؛ لأن المقصود بالنظر الاستعلام لا الاستمتاع.
الثالث: أن يغلب على ظنه الإجابة،
فإن قيل كيف يغلب على ظنه الإجابة ؟(2/233)
فالجواب: الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل الناس طبقات، كما قال تعالى: {{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}} [الزخرف: 32] ، فلو تقدم أحد الكنَّاسين إلى بنت وزير، فالغالب عدم إجابته، وكذلك إنسان كبير السن زمِن، أصم، يتقدم إلى بنت شابة جميلة، فهذا يغلب على ظنه عدم الإجابة.
الرابع: أن ينظر إلى ما يظهر غالباً.
الخامس: أن يكون عازماً على الخطبة، أي: أن يكون نظره نتيجة لعزمه على أن يتقدم لهؤلاء بخطبة ابنتهم، أما إذا كان يريد أن يجول في النساء، فهذا لا يجوز.
السادس: ـ ويخاطب به المرأة ـ ألا تظهر متبرجة أو متطيبة، مكتحلة أو ما أشبه ذلك من التجميل؛ لأنه ليس المقصود أن يرغب الإنسان في جماعها حتى يقال: إنها تظهر متبرجة، فإن هذا تفعله المرأة مع زوجها حتى تدعوه إلى الجماع، ولأن في هذا فتنة، والأصل أنه حرام؛ لأنها أجنبية منه، ثم في ظهورها هكذا مفسدة عليها؛ لأنه إن تزوجها ووجدها على غير البهاء الذي كان عهده رغب عنها، وتغيرت نظرته إليها، لا سيما وأن الشيطان يبهي من لا تحل للإنسان أكثر مما يبهي زوجته، ولهذا تجد بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ عنده امرأة من أجمل النساء، ثم ينظر إلى امرأة قبيحة شوهاء؛ لأن الشيطان يبهيها بعينه حيث إنها لا تحل له، فإذا اجتمع أن الشيطان يبهيها، وهي ـ أيضاً ـ تتبهى وتزيد من جمالها، وتحسينها، ثم بعد الزواج يجدها على غير ما تصورها، فسوف يكون هناك عاقبة سيئة.
{ تنبيه } :( يُستحب للخاطب القصد في الكلام حال الخطبة ولا يتقعر في الكلام أو يتكلم بكلام يوهم السامعين أنه في مستوى أعلى من مستواه .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال :جاء رجلان من المشرق فخطبا، فقال النبي : (إن من البيان لسحرا).
مسألة: من التي تباح خطبتها؟(2/234)
لا تباح خطبة امرأةِ إلا إذا توافر شرطان :
(1) أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجها في الحال .
(2) ألا يسبقه إليها غيره بخطبةِ شرعية فإن ذلك لا يحل .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :لا يخطب أحدكم على خطبة على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك.
مسألة : ماهي المعتدة و ماهي المبانة؟
«المعتدة» يعني التي في عدة الغير، مثل معتدة من وفاة، أو من طلاق رجعي
«والمبانة» ، أي: التي فارقها زوجها في الحياة فراقاً بائناً لا يستطيع الرجوع إليها، وهي إما أن تكون مطلقة آخر ثلاث تطليقات؛ أو مطلقة على عوض، أو مفسوخة فسخاً لا طلاقاً، مثلاً: وجدت في زوجها عيباً ففسخت النكاح، أو وجد هو بها عيباً ففسخ النكاح.
مسألة : هل يجوز خطبة المعتدة ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) إن كانت المعتدة من طلاقٍ رجعي فإنه يحرم خطبتها تصريحاً وتعريضاً لآنها مازالت زوجة :
(2) وإن كانت معتدة من طلاقٍ بائن أو من وفاة يحرم خطبتها تصريحاً ويجوز تعريضاً :
والدليل قوله تعالى: {{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}} [البقرة: 235] ، فقوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}} مفهومه عليكم جناح إذا صرَّحتم :
مسألة : ما هو التصريح في الخطبة وما هو التعريض؟
التصريح : ما لا يحتمل غير الزواج مثل زوجيني نفسك ، أطلبك للزواج
التعريض : ما يحتمل غير الزواج مثل أن يقول لها: والله إن امرأة مثلك غنيمة، أو: إذا انقضت العدة فأخبريني، أو: أم العيال كبرت وأنا محتاج لزوجة، أو ما أشبه ذلك،
يستحب الخطبة بين يدي العقد بخطبة الحاجة «بخُطبة ابن مسعود» التي رواها عن رسول الله (
((2/235)
لحديث ابن مسعود الثابت في صحيح السنن الأربعة ) قال : علمنا رسول الله ( خطبة الحاجة أن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله !< يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !< يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا >! !< يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >! !< يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما .
ثم يقال للولي: زوِّج الرجل، فيقول: زوجتك بنتي فلانة، ولا حاجة أن يقول: على سنة الله وسنة رسوله (؛ لأن الأصل في المسلم أنه على سنة الله وسنة رسوله (، ويقول الزوج: قبلت، ثم يقال للزوج: بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير،
( لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير. ، وبعض الناس يقول ما يقوله أهل الجاهلية: «بالرفاء والبنين»، نسأل الله ألا يعمي قلوبنا، يأتي لفظ عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ خير وبركة ونعدل عنه، ربما لا يكون هذا رفاء، فربما يحصل من الخروق أكثر من الرفاء بين الزوج والزوجة ، وقد تكون البنت خيراً من الابن بكثير.(2/236)
ثم إذا زفت إليه يأخذ بناصيتها ، ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه (لحديث أبي عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال :إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه .
مسألة : ما هي أركان عقد النكاح؟
(أركان عقد النكاح :
(1) الزوجان
(2) الإيجاب والقبول ، الإيجاب هو اللفظ الصادر من الولي، أو من يقوم مقامه، والقبول هو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه.
فيقول ـ مثلاً ـ الولي، كالأب، والأخ، وما أشبه ذلك: زَوَّجْتك ابنتي، زوجتك أختي، وسمي إيجاباً؛ لأنه أوجب به العقد، والقبول هو اللفظ الصادر من الزوج، أو من يقوم مقامه.
مسألة : ما هي شروط صحة النكاح؟
[*](شروط صحة النكاح :
(1) تعيين الزوجين ، لأن عقد النكاح على أعيانهما، الزوج والزوجة؛ والمقام مقام عظيم يترتب عليه أنساب، وميراث، وحقوق، فلذلك لا بد من تعيين الزوجين، فلا يصح أن يقول: زوجت أحد أولادك، أو زوجت أحد هذين الرجلين، أو زوجت طالباً في الكلية، بل لا بد أن يعين، وكذلك الزوجة فلا بد أن يعيِّنها فيقول: زوجتك بنتي.
والأدلة الواردة في الكتاب والسنة تدل على التعيين، قال الله تعالى: {{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}} [النساء: 25] ، وقال: {{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}} [الأحزاب: 37] ، وقال: {{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}} [النساء: 12] وإن كان هذا حكاية عن عقد تام.
((2/237)
حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين ) قال :أتت النبي امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله ، فقال: (ما لي في النساء من حاجة). فقال رجل: زوجنيها، قال: (أعطيها ثوبا). قال: لا أجد، قال: (أعطها ولو خاتما من حديد). فاعتل له، فقال: (ما معك من القرآن). قال: كذا وكذا، قال: (فقد زوجتكها بما معك من القرآن).
ولأن النكاح لا بد فيه من الإشهاد، والإشهاد لا يكون على مبهم، بل لا يكون إشهاد إلا على شيء معين.
(2) رضا الزوجين : (لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : «لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا تنكح الأيِّم حتى تستأمر» ، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها ؟ قال: «أن تسكت. حتى لو كان الأب هو الذي يزوج، والدليل العموم «لا تنكح البكر» لم يستثن الأب
وإذا كان الإنسان لا يمكن أن يجبر في البيع على عقد البيع ففي النكاح من باب أولى؛ لأنه أخطر وأعظم؛ إذ إن البيع إذا لم تصلح لك السلعة سهل عليك بيعها، لكن الزواج مشكل، فدل هذا على أنه لا أحد يجبر البنت على النكاح، ولو كانت بكراً، ولو كان الأب هو الولي، فحرام عليه أن يجبرها ولا يصح العقد.
وقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا تنكح» ، لو قال قائل: هذا ليس نهياً، هذا خبر، فما الجواب؟ نقول: هذا الخبر بمعنى النهي، واعلم أن الخبر إذا جاء في موضع النهي فهو أوكد من النهي المجرد، فكأن الأمر يكون مفروغاً منه، ومعلوم الامتناع؛ لأن النفي دليل على الامتناع، والنهي توجيه الطلب إلى المكلف، فقد يفعل وقد لا يفعل، ولهذا قلنا في قوله تعالى: {{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}} [البقرة: 228] إنه أبلغ مما لو قال: وليتربَّص المطلقات؛ لأن قوله: {{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}} كأن هذا أمر واقع لا يتغير.
( حديث خنساء بنت خذام الأنصارية الثابت في صحيح البخاري ) أن أباها زوجها وهي ثيِّب فكرهت ذلك، فأتت النبي فردَّ نكاحها.
((2/238)
3) الولي: الثالث من شروط النكاح الولي، يعني أن النكاح لا ينعقد إلا بولي، والدليل على ذلك القرآن والسنة، والنظر الصحيح.
(أما القرآن فقوله تعالى: {{وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}}، [البقرة: 220] ، وقوله: {{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}} [النور: 32] . «وأنكح» فعل متعدٍ يتعدى إلى الغير، والخطاب للأولياء فدل هذا على أن النكاح راجع إليهم، ولذلك خوطبوا به، فيكون هذا دليلاً على أن المرأة لا يمكن أن تزوج نفسها، بل لا بد من أن ينكحها غيرها، وقوله تعالى: {{فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}} [البقرة: 232] ، {{فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}} أي: لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، ووجه الدلالة من الآية أنه لو لم يكن الولي شرطاً لكان عضله لا أثر له.
وفي قوله تعالى: {{فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}} دليل على أنه لا فرق في اشتراط الولي بين الثيب والبكر؛ لأن قوله: {{أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}} دليل على أنهن قد تزوجن من قبل، وعلى هذا فنقول: إن الآية دلالتها صريحة على أن الولي شرط في النكاح، سواء في البكر أو في الثيب .
(أما السنة ( لحديث عائشة الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :
لا نكاح إلا بولي و شاهدي عدل . ، و«لا» نافية للجنس، والنفي هنا منصب على الصحة وليس على الوجود؛ لأنه قد تتزوج امرأة بدون ولي، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما يخبر عن شيء فيقع على خلاف خبره.
وعلى هذا فقوله: «لا نكاح إلا بولي» ، أي: (لا نكاح صحيح إلا بولي).
فلو قال قائل: لِمَ لا نقول: لا نكاح كامل، ونحمل النفي على نفي الكمال لا على نفي الصحة؟(2/239)
قلنا: هذا غير صحيح؛ لأنه متى أمكن حمله على نفي الصحة كان هو الواجب؛ لأنه ظاهر اللفظ، ونحن لا نرجع إلى تفسير النفي بنفي الكمال، إلا إذا دل دليل على الصحة، ولأن الأصل في النفي انتفاء الحقيقة واقعاً أو شرعا.
وهذه القاعدة تقدمت لنا مراراً، وقلنا: إن النفي يحمل على نفي الوجود، فإن تعذر فنفي الصحة، فإن تعذر فنفي الكمال.
( حديث عَائِشَةَ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :«أيّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهَا، فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فإنْ دَخَلَ بهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلّ مِنْ فَرْجِهَا. فإنِ اشْتَجَرُوا، فالسّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لاَ وَلِيّ لَهُ».
(4) شاهدي عدل : أي: مستقيمين ديناً ومروءة أن يشهد على عقد النكاح شاهدان مستقيمين ديناً ومروءة، ودليل ذلك قوله تعالى: {{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} [الطلاق: 2] .
فأمر الله ـ تعالى ـ بالإشهاد على الرجعة، والرجعة إعادة نكاح سابق، فإذا كان مأموراً بالإشهاد على الرجعة، فالإشهاد على العقد ابتداءً من باب أولى؛ لأن المراجَعة زوجته، وهذه أجنبية منه
( حديث عائشة الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :لا نكاح إلا بولي و شاهدي عدل .
مسألة : ما هي شروط الولي ؟
شروط الولي خمسة :
(1)أن يكون مكلف ،أي بالغاً عاقلاً، فالذي دون البلوغ لا يعقد لغيره، والمجنون لا يعقد لغيره؛ لأنهما يحتاجان إلى ولي، فكيف يكونان وليين لغيرهما؟!
(2)أن يكون ذكرا : لأنه إذا كانت المرأة لا تزوج نفسها فكيف تزوج غيرها؟! وعلى هذا فالأم لا تزوج بنتها لاشتراط الذكورية، فلو كان لها أم وابن عم، وجاءت تسأل من وليها؟ نقول: ابن عمها، أما الأنثى فلا تكون ولياً.
((2/240)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :لا تزوج المرأة المرأة و لا تزوج المرأة نفسها .
(3)أن يكون راشد العقل : وهذا من أهم الشروط أن يكون الولي رشيداً، والرشد في كل موضع بحسبه، الرشد في العقد بأن يكون بصيراً بأحكام عقد النكاح، بصيراً بالأكْفَاء، ليس من الناس الذين عندهم غِرَّة وجهل، بل يعرف الأكفاء ومصالح النكاح، وهذا في الحقيقة هو محط الفائدة من الولاية؛ لئلا نضيع مصالح المرأة، فإذا لم يكن رشيداً، ولا يهمه مصلحة البنت، ولا يهمه إلا المال، وجاء إليه شخص، وقال: أنا أعطيك مليون ريال وزوجني بنتك، وهذا الرجل ليس كفؤاً، فوافق الأب وزوج ابنته، وقال: أنا لي إجبار بنتي، وأخذ المليون، فهذا لا يمكن أن يولى، ولا تصح ولايته، فلا بد أن يكون عنده رشد في العقد، ولو فرضنا أن هذا الولي عنده رشد في العقد، ويعرف مصالح النكاح، ويعرف الأكفاء ويعرف الناس معرفة تامة، لكنه في بيعه وشرائه ليس برشيد، فلا يحسن البيع ولا الشراء، فهذا لا يضر؛ لأن الرشد في كل موضع بحسبه، فما دام أن الرجل يعرف مصالح النكاح والكفء، وما يجب للزوجة وجميع ما يتعلق بالنكاح فهو رشيد ويزوِّج.
(4)اتفاق الدين بين الولي والمرأة : يعني أن يكون الولي والمرأة دينهما واحد، سواء كان دين الإسلام أو غير دين الإسلام؛ وذلك لانقطاع الولاية بين المختلفين في الدين، ويدل على انقطاع الولاية أنه لا يتوارث أهل ملتين، فإذا انقطعت الصلة بالتوارث، فانقطاعها بالولاية من باب أولى، فعلى هذا يزوج النصراني ابنته النصرانية، وكذلك يزوج اليهودي ابنته اليهودية.
((2/241)
5)العدالة : «والعدالة» ، وهي استقامة الدين والمروءة، فغير العدل لا يصح أن يكون ولياً؛ لأنها ولاية نظرية، ينظر فيها الولي ما هو الأصلح للمرأة؟ فيشترط فيها الأمانة، والفاسق غير مؤتمن حتى في خبره، فكيف في تصرفه؟! والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}} [الحجرات: 6] ، إذاً الفاسق لا يصح أن يكون ولياً على ابنته، ولا على أخته، ولا على بنت أخيه، وما أشبه ذلك .
مسألة : ما هو سلم الترتيب في الولي للمرأة؟
يقدَّم أبو المرأة في إنكاحها» ثُمَّ جَدُّهَا لأَبٍ وَإنْ عَلاَ، ثُمَّ ابْنُهَا، ثُمَّ بَنُوهُ وَإِنْ نَزَلُوا، ثُمَّ أَخُوهَا لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَِبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ عَمُّهَا لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَةٍ نَسَباً كَالإِرْثِ ، ثُمَّ الْمَوْلَى المُنْعِمُ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ نَسَباً، ثُمَّ وَلاَءً، ثُمَّ السُّلْطَانُ.
{ تنبيه } :( في باب الولي يقدم الأب على الإبن بعكس الإرث لأن الأب أكمل نظراَ وأشد شفقة .
مسألة : إذا لم يكن للمرأة ولي فمن يزوجها؟
السّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لاَ وَلِيّ لَهُ
( حديث عَائِشَةَ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :«أيّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهَا، فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فإنْ دَخَلَ بهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلّ مِنْ فَرْجِهَا. فإنِ اشْتَجَرُوا، فالسّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لاَ وَلِيّ لَهُ».
مسألة : ما هي المحرمات من النساء ؟
المحرمات من النساء على قسمين :
( 1) تحريم مؤبد ( أي يمنع المرأة أن تكون زوجة للرجل في جميع الأوقات .
( 2) تحريم مؤقت ( أي يمنع المرأة من التزوج بها ما دامت على حالة خاصة قائمة بها ، فإن تغير الحال زال التجريم و صارت حلالاً .(2/242)
مسألة : ما هي أسباب التحريم ؟
أسباب التحريم ما يلي :
( 1 /2 ) النسب و الرضاعة
( 3) المصاهرة
وهي المذكورة في آية النساء .
قال تعالى : (حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الاُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً) [النساء / 23]
أولاً : المحرمات بالنسب :
( سبع / الأمهات و البنات و الأخوات / العمات و الخالات / بنات الاخ و بنات الأخت )
ثانياً : المحرمات بالرضاعة :
( أيضاً سبع ، فيحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب :
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : يحرُمُ من الرَّضاع ما يحرُمُ من النسب .
وعلى هذا يحرم على الرجل أمه من الرضاع و بنته من الرضاعة و أخته من الرضاعة و عمته وخالته وبنت أخيه وبنت أخته من الرضاعة .
الرضاع الذي يثبت به التحريم ( خمس رضعات معلومات ، وأن تكون قبل الفطام
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) قالت : كان فيما أنزل من القرآن عشْرَ رضعات يُحِّرمنَّ، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات ، فتوفي رسول الله ( وهي مما يقرأ من القرآن .
معنى فتوفي رسول الله ( وهي مما يُقرأ من القرآن : المعنى أن النسخ تأخر حتى أن رسول الله ( توفي وبعض الناس لم يعرف ، فكان يقرأها على أنها آية من كتاب الله .
( حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لا تحرم الإملاجةُ ولا الإملاجتان )
( الإملاجة ) الإرضاعة .
((2/243)
حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لا تُحِّرم المصَّة ولا المصَّتان)
(حديث أم سلمة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : لا يُحِّرم من الرضاعة إلا ما فتَّقَ الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام .
مسألة : اذكر المحرمات بالمصاهرة ؟
المحرمات بالمصاهرة ما يلي :
( 1) أم الزوجة ( تحرم بمجرد العقد
( 2) زوج البنت ( يحرم بمجرد العقد
( 3) ابنة الزوجة المدخول بها ، لقوله تعالى (وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) ( النساء / 23)
( 4) زوجة الأب ( تحرم على الابن بمجرد عقد الأب عليها .
مسألة : ما معنى المحرمات مؤقتا ً ؟
المحرمات مؤقتاً : أي المحرمات لسبب ، وبزوال السبب يزول التحريم .
مسألة : ما هي المحرمات مؤقتاً ؟
[*](المحرمات مؤقتاً خمسة :
( 1) الجمع بين الأختين :لقوله تعالى : (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً) [النساء / 23]
( 2) الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : لا يُجمعُ بين المرأةِ و عمتها و لا بين المرأةِ و خالتها .
( 3) زوجة الغير ومعتدته :لقوله تعالى : (قال تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ) (النساء / 24)
والمعنى أي حُرم عليكم المحصنات من النساء أي المتزوجات منهنَّ ، إلا المسبية ( ملك اليمين ) فإنها تحلُ لسابيها بعد الإستبراء وإن كانت متزوجة .
((2/244)
حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم ) أن رسول الله ( الله بعث جيشاً إلى أوطاس ، فلقوا عدواً فقاتلوهم ، فظهروا عليهم وأصابوا سبايا وكان ناسٌ من أصحاب رسول الله تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجل في ذلك (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ) أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن ، ويكون الستبراء بحيضة .
( 4) المطلقة ثلاثاً : لا تحلُ لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً الثابت في صحيحاً .
لقوله تعالى : (قال تعالى: (فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [البقرة / 230]
( 5) زواج الزانية : فإنه لا يحل للرجل أن يتزوج بزانية ، ولا يحل للمرأة أن تتزوج بزانٍ إلا أن يحدث كلُ منهما توبة .
لقوله تعالى : قال تعالى: (الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور / 3]
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن مَرثَدبن أبي مرثد الغنوي كان يحملُ الأسارى بمكة , وكان بمكة بغيٌ يقال لها عَناق وكانت صديقته ، قال جئت إلى النبي فقلت يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ قال فسكت عني . فنزلت ( وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فدعاني فقرأها علىَّ وقال : لا تنكحها .
مسألة : لو أن إنساناً وطئ أخت زوجته بشبهة أو زنا , هل تحرم عليه زوجته ؟
الصحيح أن الزنا لا أثر له ، ولا يمكن أن نجعل الزنا السفاح كالنكاح الصحيح .(2/245)
مسألة : لو أن إنساناً طلق زوجته وما زالت في عدتها ثم تزوج أختها هل يصح النكاح ؟
لا يصح النكاح ، لأن المطلقة إن كانت رجعية فهي في حكم الزوجة ، وإن كانت بائناً لم ينقطع عنها عِلقُ النكاح .
مسألة : ما معنى الإستبراء ؟
الإستبراء : طلب براءة الرحم وتكون بحيضة ، بمعنى أننا ننتظر حتى تحيض حيض حتى نعرف أنها ليس بها حمل .
مسألة : ما هي عدة المراة ؟
[*](عدةُ المرأة :
(إن كانت تحيض ( ثلاثة قروء )
لقوله تعالى : ( وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ) [البقرة / 228]
(الآيسة من الحيض و التي لا تحيض : عدتها ( ثلاثة أشهر )
لقوله تعالى : (قال تعالى: (وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّتِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق / 4]
(و الحامل عدتها بوضع الحمل :
لقوله تعالى: (وَأُوْلاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق /4]
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : لا تُوطأ حاملٌ حتى تضع ولا ذاتِ حملٍ حتى تحيض حيضة .
( حديث رُوَيفع بنت ثابت الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي (قال : ( لا يحل ُ لامرئٍ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يَسْقيَ ماءَهُ زرع غيره .
مسألة: ما الفرق بين النكاح الباطل والفاسد ؟
النكاح الباطل : ما أجمع العلماء على فساده مثل أن ينكح الرجل امرأةً ثم يتبين له أنها أخته من الرضاعة .
أما النكاح الفاسد : ما اختلف العلماء في فساده مثل النكاح بلا ولي ولا شهود.
مسألة : ما هي الأنكحةُ الفاسدة ؟
[*](الأنكحةُ الفاسدة هي ما يلي :
(1) نكاح الشغار : وفُسِّر الشغار بأن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته ولا مهر بينهما.
((2/246)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( نهى عن الشغار. والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق.
(2) نكاح المحلل : وهو أن يتزوج (المطلقة ثلاثا) بعد انقضاء عدتها ثم يطلقها لتحل للزوج الأول .
( حديث عليّ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :لعن الله المحلِّل والمحلَّل له .
( حديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال :ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل ، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له .
(3) نكاح المتعة : هو أن يعقد الرجل على المرأة يوماً أو أسبوعاً أو شهراً أو غير ذلك من الآجال المعلومة ، فالقاعدة إذاً كل نكاح موقت بعمل، أو زمن فإنه نكاح متعة لا يجوز.
(حديث عليّ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأنسية .
و ثبت عن النبي ، كما في حديث مسلم عن سبرة بن معبد الجهني ـ رضي الله عنه ـ أنه خطب، وقال عن المتعة: «إنها حرام إلى يوم القيامة» فصرح النبي بحرمتها، وصرح بقوله: «إلى يوم القيامة» ، وهذا خبرٌ، والخبر لا يدخله النسخ، ثم هو خبرٌ مقيد بأمد تنتهي به الدنيا، فما دام الرسول حرمه إلى يوم القيامة، فمعنى ذلك أنه لا يمكن أن ينسخ هذا الحكم أبداً، فلو أن أحداً قال: إنها حرام، وهذا خبر الثابت في صحيح لكن بمعنى الحكم، والخبر الذي بمعنى الحكم يدخله النسخ، قلنا: لكن هذا ما يمكن دخول النسخ فيه؛ والسبب أنه قال: «إلى يوم القيامة».
مسألة : ما الفرق بين شروط النكاح و الشروط في النكاح؟
الشرط في اللغة العلامة، ومنه قوله تعالى: {{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}} [محمد: 18] أي: علاماتها،
[*](أما الفرق بين شروط النكاح والشروط في النكاح، فهو من أربعة أوجه:
((2/247)
أولاً: أن شروط النكاح من وضع الشارع، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي وضعها وجعلها شروطاً، وأما الشروط في النكاح فهي من وضع العاقد، وهو الذي شرطها.
(ثانياً: شروط النكاح يتوقف عليها صحة النكاح، أما الشروط فيه فلا تتوقف عليها صحته، إنما يتوقف عليها لزومه، فلمن فات شرطه فسخ النكاح.
(ثالثاً: أن شروط النكاح لا يمكن إسقاطها، والشروط في النكاح يمكن إسقاطها ممن هي له.
(رابعاً: شروط النكاح لا تنقسم إلى الثابت في صحيح وفاسد، والشروط في النكاح تنقسم إلى الثابت في صحيح وفاسد.
مسألة : ما حكم الشروط؟
حكم الشروط : يجب الوفاء بها إذا صح .والدليل على ذلك عموم الأدلة الآمرة بالوفاء بالعقد: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] ، {{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}} [الإسراء: 34]
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :« أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(حديث عمرو ابن عوفٍ المُزَني الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً .
مسألة : ما هي أنواع الشروط في النكاح ؟
[*](الشروط في النكاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صحيحة، وفاسدة غير مفسدة، وفاسدة مفسدة.
( (الأول): شروط صحيحة، يصح معها العقد، ومنها:
والدليل على ذلك عموم الأدلة الآمرة بالوفاء بالعقد: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] ، {{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}} [الإسراء: 34]
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :« أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(حديث عمرو ابن عوفٍ المُزَني الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً .
( ((2/248)
الثاني) : شروط فاسدة مفسدة : تبطل العقد ولا يجب الوفاء بها . مثل نكاح الشغار ونكاح المحلل ونكاح المتعة .
( (الثالث) شروط فاسدة غير مفسدة :[هو ما كان منافياً لمقتضى العقد] وهو لا يبطل العقد ولا يجب الوفاء به .مثل أن يشترط أن لا نفقة لها ومثل أن تسأل المرأة طلاق ضرتها عند النكاح.
والدليل على أنه لا يجب الوفاء بهذه الشروط
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط ، شرط الله أحق وأوثق .
مسألة : لو شرط الزوج أن تكون الزوجة بكراً فباتت ثيباً فهل له الفسخ؟
له الفسخ لأن الشرط صحيح ويرجع بالمهر على من غرّه :
(حديث عقبة ابن عامر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :« أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»
(حديث عمرو ابن عوفٍ المُزَني الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً .
مسألة : هل يجوز للمرأة أن تشترط طلاق ضرتها؟
لا يجوز للمرأة أن تشترط طلاق ضرتها ولا يجب الوفاء بهذا الشرط، فكل شرطٍ ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط ، شرط الله أحق وأوثق .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :نهى رسول الله أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها).
مسألة : ما هو العيب الذي يثبت به الخيار؟
العيب الذي يثبت به الخيار : [هو كل ما يفوِّت مقصود النكاح]
وأهم مقاصد النكاح : الإستمتاع والإنجاب والخدمة .(2/249)
مسألة : ما هي أقسام العيوب في النكاح التي يثبت بها الفسخ؟
[*](أقسام العيوب في النكاح التي يثبت بها الفسخ :
(1) عيوب تختص بالرجل .
(2) عيوب تختص بالمرأة .
(3)عيوب مشتركة بينهما .
(أولاً العيوب التي تختص بالرجل و التي يثبت بها الفسخ :
[1] أن يكون مجبوباً» أي: مقطوع الذكر .
قوله: «أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ» ، أي: ما بقي له من ذكره جزء صغير، لا يتمكن من الوطء به، فهذا وجوده كالعدم.
[2] أن يكون عنيناً : أي محبوس عن الجماع أي لا يتمكن من جماع زوجته .
[3] أن يكون به خِصاء أو وِجاء (رض الخصيتين) أي رض عروق الخصيتين كأن يضربه إنسان فيكون شبيه بالخصاء .
وهذه العيوب يثبت للمرأة الخيار فيها ؛ لأنهه تفوت مقصود النكاح ، من الاستمتاع، والإنجاب .
(ثانياً : العيوب التي تختص بالمرأة و التي يثبت بها الفسخ :
(1) أن يكون بها رَّتَقُ : والرتق معناه أنه يكون فرج المرأة مسدوداً، ما يسلكه الذكر، فهذا يثبت للزوج الخيار؛ لأنه يفوت مقصود النكاح من الولد والاستمتاع.
(2) أن يكون بها قَرَن: وهو لحم ينبت في الفرج فيسده، وحكمه كالأول، وهو طارئ، والأول أصلي.
(3) أن يكون بها عَفَلُ : وهو ورم في اللحمة التي بين مسلكي المرأة، فيضيق منها فرجها، فلا ينفذ فيه الذكر.
(4) أن يكون بها فَتْقُ : وهو انخراق ما بين سبيليها، أي: ما بين مخرج بول ومَنِيٍّ، وهذا يمنع التلذذ، وربما يؤدي إلى تسرب البول إلى مخرج المني، وأيضاً قد يمنع الحمل، بحيث يكون هذا الانفتاق سبباً لضياع المني، فلا يصل إلى الرحم، وحينئذٍ يكون هذا عيباً.
وهذه العيوب يثبت للمرأة الخيار فيها ؛ لأنهه تفوت مقصود النكاح ، من الاستمتاع، والإنجاب .
(ثالثاً : العيوب المشتركة بين الرجل والمرأة و التي يثبت بها الفسخ :
((2/250)
1) استطلاق بول أو غائط، ومعنى استطلاقهما أنه لا يمكن أن يحبسهما، يعني هو السلس، فسلس البول أو الغائط عيب، من أشد ما يكون من العيوب، وهذا يثبت به الخيار لما فيه من النفرة .
(2)أن يكون بأحدهما باسوراً أم ناصوراً ، وهما داءان يصيبان المقعدة ،الباسور يكون داخل المقعدة، والناصور يكون بارزاً، ودائماً يكون ملوثاً، ومع أنهما لا يحدثان أي شيء بالنسبة للجماع، ولا يشوهان المنظر أيضاً، ومع ذلك يقولون: إن هذا من العيوب؛ لأنه إذا ذكر أن بامرأته باسوراً أو ناسوراً لا يرتاح لها، وكذلك بالنسبة للمرأة مع الرجل، وهذا يثبت به الخيار لما فيه من النفرة .
(3) أن يكون بأحدهما برصٌ أو جذام ، وهذا يثبت به الخيار لمل فيه من النفرة .
{ تنبيه } :( [البرص] : مرضٌ معروف وهو بياض الجلد، فهذا البرص ولو بقدر رأس الإبرة يعتبر عيباً، سواء كان بالزوج أو بالزوجة، ولهذا جاء في الحديث في قصة الثلاثة الذين كان أحدهم أبرص قال: «ويذهب عني الذي قذرني الناس به» وهذا العيب أيضاً يثبت به الخيار لما فيه من النفرة .
[والجذام] : داءٌ معروف تتساقط منه الأطراف ويتناثر منه اللحم ، وهو لا شك عيب، وهو ـ أيضاً ـ معدٍ، وقد جاء في السنة أن النبي أمر بالفرار من المجذوم، كما في * ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :قال رسول الله : (لا عدوى ولا طيَرة، ولا هامة ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد).
حتى إن العلماء قالوا: يجب على السلطان أن يعزل الجذمى في مكان واحد؛ لئلا يختلطوا بالناس فينتشر هذا الداء.
مسألة : هل العيوب محصورةٌ فيما سبق ؟
ليست العيوب التي يثبت بها الفسخ محصورةٌ فيما سبق وإنما العيوب التي يثبت بها الفسخ لخا ضابط معين هو ( كل ما يفوت به مقاصد النكاح من الإستمتاع والإنجاب والخدمة).
مسألة : لو وجد الزوجة عمياء هل يعد هذا عيباً يثبت به الفسخ؟(2/251)
نعم هذا عيبٌ يثبت به الفسخ لأنه يفوت مقصودين من مقاصد النكاح هما (الإستمتاع والخدمة).
مسألة : لو وجد أحد الزوجين عقيماً هل يعد هذا عيباً يثبت به الفسخ؟
نعم هذا عيبٌ يثبت به الفسخ لأنه يفوت أهم مقصود من مقاصد النكاح وهو الإنجاب .
مسألة : ما هي الصيغة التي يفسخ بها النكاح؟
يقول فسخت نكاحي من فلانة للعيب الذي فيها ، فيكون قد باشر الفسخ بنفسه أو يوكل أحد الزوجين بذلك.
مسألة : لو فسخ الزوج الزواج بعد الدخول وبعد ظهور العيب فهل للزوجة المهر؟
للزوجة المهر المسمى في العقد بعد الدخول وبعد ظهور العيب ، نأخذ ذلك من مفهوم قوله: {{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}} [البقرة: 237] ، فمفهوم قوله: {{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}} أنه من بعد المسيس يثبت المهر، وهو كذلك، و( لحديث عَائِشَةَ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :«أيّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهَا، فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فَنِكاحُهَا بَاطِلٌ. فإنْ دَخَلَ بهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلّ مِنْ فَرْجِهَا. فإنِ اشْتَجَرُوا، فالسّلْطَانُ وَلِيّ مَنْ لاَ وَلِيّ لَهُ».
، فالمهر إذاً يثبت بعد الدخول ، ولكن للزوج أن يرجع بالمهر على من غرَّه.
جعل الله تعالى لكلٍ من الزوجين حقوقاً وواجبات تجاه الآخر حتى تديم المودة والرحمة بينهما ، وجمع هذه الحقوق في قوله تعالى: (وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَيْهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) [سورة: البقرة - الآية: 228]
(وجاءت السنة الصحيحة بتفصيل حقوق الزوجين :
((2/252)
حديث عَمْروِ بنِ الأحْوَصِ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«ألاَ واسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيراً، فإنّمَا هُنّ عَوانٌ عِنْدَكمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ، إلاّ أَنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهجُرُوهُنّ في المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ. فَإنْ أطَعْنكُمُ فَلاَ تَبْغُوا علَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقّاً. ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقاً. فَأَمّا حَقكّمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن».
وهاك شيئاً من التفصيل في حقوق الزوجين مبتدأَ بحقوق المرأة .
مسألة : ما هي حقوق الزوجة ؟
[*](لقد حفظ الإسلام للمرأة حقها بعد إذ كانت تباع وتشترى وتورث في المجتمعات الجاهلية، وقد وردت في الشريعة الغراء عدة نصوص تبين هذه الحقوق ، وتثبتها للمرأة ، ولقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه أن يجعل القوامة للرجال على النساء، وذلك بما فضلهم به عليهن من النفقة وغيرها قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنففوا من أموالهم } [النساء:34].. ولكن لم يجعل سبحانه وتعالى مثل هذه القوامة سبباً للاستهانة بحقوق النساء ، أو لعضلهن إياها ، كما كان الحال في المجتمعات الجاهلية ، إن النساء أمانات في أيديكم، وإن الله قد استرعاكم هذه الأمانات فصونوها، وأحسنوا رعايتها يحسن الله إليكم ، وإنكم مسئولون عنها يوم القيامة، هل أديتم حقوقها أم فرطتم وضيّعتم؟!
و بين النبي ( قاعدة شرعية هي أن خير الناس من كان خيراً لأهله ، فكلما كان الإنسان أقرب إلى هذا القول كان أكثر امتثالاً لقول النبي ( وأكثر تأسياً به ( .
((2/253)
حديث عائشة الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأهلي.
وحرص سبحانه وتعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على حفظ هذه حقوق النساء وتأديتها إليهن على الوجه الشرعي المسنون ، وهاك حقوق الزوجة جملةً وتفصيلا :
[*](حقوق الزوجة جملةً :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) المعاشرة بالمعروف وحسن الخلق .
(2) المهر
(3) القوامة عليها وتأديبها إذا خاف نشوزها
(4) النفقة والسُكْنَى
(5) حق المبيت والمعاشرة وقضاء الوطر
(6) التأدب في معاملتها وعدم التعرض للوجه بالضرب أو التقبيح:
(7) عدم الهجر في غير البيت
(8) مداراتها وملاطفتها
(9) أن يصبر عليها ويتحمل الأذى منها وأن يعفو عن زلاتها :
(10) النهي عن التماس عثرات النساء
(11) أن يعين الزوجة في أمور الدنيا والآخرة
(12) أن يحفظها ويصونها عن كل ما يخدش دينها وشرفها
(13) الغَيْرة عليها
(14) أن يعلمها الخير ويأمرها به ولاسيما الضروري من أمور دينها
(15) ألا يُفْشِي سِرَها وألا يذكر عيبها :
(16) أن يعدل بينها وبين ضرتها
(17) أن يتعاهدها بالهدايا التي تجلب المحبة :
(18) ألا يمنعها من زيارة أهلها
(19) المحافظة على مالها وعدم التعرض له إلا بإذنها :
(20) حق الخلع :
[*][*][*][*]
{ وهاك حقوق الزوجة بشيءٍ من التفصيل } :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
(1) المعاشرة بالمعروف وحسن الخلق :
قال الله تعالى مبيِّناً هذا الحقّ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19).
[*] قال ابن كثير ( رحمه الله تعالى :
وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي: طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة:228](2/254)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
(حديث عائشة الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأهلي .
(وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بهم، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك كما في الحديث الآتي :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أنها:كانت مع النبي في سفر قالت فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال هذه بتلك .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :كل شيء ليس من ذكر الله لهو و لعب إلا أن يكون أربعة : ملاعبة الرجل امرأته و تأديب الرجل فرسه و مشي الرجل بين الغرضين و تعليم الرجل السباحة .
(ومن المعاشرة بالمعروف أن يتصنع لها كما تتصنع له:
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: " إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي ". الجامع لأحكام القرآن
[*] وقال ابن سعدي رحمه الله:
"وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما. فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في ذلك الزمان والمكان، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال".
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله)).
[*] قال النووي رحمه الله :
"فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف. وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن، وبيان حقوقهن، والتحذير من التقصير في ذلك.
((2/255)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر .
[*] قال الشوكاني رحمه الله :
"فيه الإرشاد إلى حسن العشرة، والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خُلُق من أخلاقها، فإنها لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه منها، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه فلا ينبغي ترجيح مقتضى الكراهة على مقتضى المحبة".
{ تنبيه } وليعلم أن الناس في العشرة طرفان مذمومان ، فمنهم من لا تعرف الرحمة والعطف إلى قلبه سبيلاً ، ومنهم من يفرط في التساهل والتسامح حتى ينفلت زمام الأمور من يده، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
[*](وجعل العلماء المحاور التي تكون بها العشرة بالمعروف في الأقوال بين الزوجين في أربع أحوال:
(الأول: في النداء، إذا نادى الزوج الزوجة، وإذا نادت الزوجة زوجها.
(الثاني: في الطلب عند الحاجة، تطلب منه أو يطلب منها.
(والثالث: عند المحاورة، والكلام، والحديث، والمباسطة.
(والرابع: عند الخلاف والنقاش.
الحالة الأولى : عند النداء. إذا نادت المرأة بعلها فإنه ينبغي لكل من الزوجين أن يحسن النداء، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيقول: (يا عائش!)
قال العلماء: إن هذا اللفظ يدل على الإكرام والملاطفة، وحسن التبعُّل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهله،
فالغلظة والوحشية في النداء بأسلوب القسر والقهر من الرجل أو بأسلوب السخرية والتهكم من المرأة تفسد المحبة، وتقطع أواصر الألفة بين الزوج والزوجة...
ومن الأخطاء كذلك أن الزوجة تختار لزوجها كلمة تنتقصه أو تحقِّره بها، وكان بعض العلماء يقول: الأفضل ألا تناديه وألا يناديها بالاسم المجرد، فمن أكرم ما يكون في النداء النداء بالكنية، فهذا من أفضل ما يكون.(2/256)
وقال العلماء: إنه ما من زوج يألف ويعتاد نداء زوجته بالملاطفة إلا قابلته المرأة بمثل ذلك وأحسن، فإن النساء جبلن على الملاطفة، وجبلت على حب الدعة والرحمة والألفة، فإذا قابلها الزوج بذلك قابلته بما هو أحسن وأفضل.
الحالة الثانية: عند الطلب. إذا خاطب الرجل امرأته عند الطلب وأراد منها أمراً، يطلب ذلك منها بأسلوبٍ لا يشعرها بالخدمة والإذلال والامتهان والانتقاص، والمرأة إذا طلبت من بعلها شيئاً لا تجحفه ولا تؤذيه ولا تضره، ولا تختار الكلمات والألفاظ التي تقلقه وتزعجه، فهذا مما يحفظ اللسان، ويعين على العشرة بالمعروف في الكلمات، وانظر إلى الحديث الآتي : (
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) قالت : بينما رسول الله ( في المسجد فقال يا عائشة ناوليني الثوب فقلت : إني حائض فقال : إن حيضتك ليست في يدك فناولته .
(فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، يسأل حاجته من أم المؤمنين، فلما اعتذرت، اعتذرت بالعذر الشرعي، وما قالت: لا أستطيع إبهاماً، أو معللة عدم استطاعتها بشيءٍ مجهول، وإنما قالت: إني حائض، فبماذا تأمرني؟ وماذا تريد؟ وكيف أفعل؟ فقال: (إن حيضتك ليست في يدك)، أي إذا ناولتينيها فإن دخول اليد ليس كدخول الكل.
الحالة الثالثة: حالة الحديث والمباسطة، فلا ينبغي للمرأة ولا ينبغي للرجل أن يُحدِّث كلٌ منهما الآخر في وقتٍ لا يتناسبُ فيه الحديث؛ ولذلك ذكر بعض أهل العلم أن من الأذية بالقول أن تتخير المرأة ساعات التعب والنصب لمحادثة الزوج، أو يتخير الزوج ساعات التعب والنصب لمحادثة زوجته، فهذا كله مما يحدث السآمة والملل، ويخالف العشرة بالمعروف التي أمر الله عز وجل بها، وقالوا: إذا باسط الرجل امرأته فليتخير أحسن الألفاظ، وإذا قص لها تخير أحسن القصص وأفضلها، مما يحسن وقعه ويطيب أثره.(2/257)
الحالة الرابعة: عند الخصومة والنزاع، فمن العشرة بالمعروف إذا وقع الخلاف بين الرجل والمرأة أن يحدد الخلاف بينه وبين امرأته، وأن يبين لها الخطأ إن أخطأت بأسلوبٍ بعيدٍ عن التعنيف والتقريع إذا أراد أن يقرِّرها، وبعد أن تقر وتعترف إن شاء وبخها وإن شاء عفا عنها، أما أن يبادرها بالهجوم مباشرة قبل أن يبين لها خطأها فإن هذا مما يقطع الألفة والمحبة ويمنع من العشرة بالمعروف؛ لأنها تحس وكأنها مظلومة،
(والأفضل والأكمل: أن الرجل إذا عتب على امرأته شيئاً أن يتلطف في بيان خطئها، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم متى تكون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها راضيةً عنه ومتى تكون ساخطة، فإن كانت راضيةً عنه قالت: (ورب محمد)،
وإن كان في نفسها شيئاً قالت رضي الله عنها: (ورب إبراهيم)، فعلم عليه الصلاة والسلام أنها ما اختارت الحلف
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى) قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: (أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم). قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك .
[*][*][*][*]
(2) المهر :
وهو المال الواجب للمرأة على الرجل بالنكاح أو الوطء ، فهو المال الذي يجب في عقد النكاح على الزوج لزوجته، ويسمى " الصداق" لإشعاره بصدق رغبةٍ بَاذِلِه في النكاح، وهو حق خالص للمرأة كما قال تعالى : ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [ النساء/ الآية4]
والنحلة تعني الهبة؛ لأن كل واحد من الزوجين يستمتع بصاحبه، وجعل الصداق للمرأة، فكأنه عطية بغير عوض .
((2/258)
حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله (بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، قال: فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟. قال: سوق قينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجت). قال: نعم، قال: (ومن). قال: امرأة من الأنصار، قال: (كم سقت). قال: زنة نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة).
[*] قال الطبري رحمه الله :
"يعني بذلك تعالى ذكره: وأعطوا النساء مهورهن عطية واجبة وفريضة لازمة".
[*] قال ابن عبد البر قال : "أجمع علماء المسلمين أنه لا يجوز له وطء في نكاح بغير صداق ديناً أو نقداً".
وهذا المهر حق للمرأة أثبته الشارع لها توثيقاً لعقد الزواج الذي هو أخطر العقود، وتأكيداً على مكانة المرأة، وشرفها، ودليلاً على صدق رغبة الرجل في الارتباط بها حيث بذل لها المال الذي هو عزيز على النفس، ولا يبذل إلا فيما هو عزيز، كما إنه سبب لديمومة النكاح واستمراره.
[(2/259)
*] قال الكاساني رحمه الله: "إن ملك النكاح لم يشرع لعينه، بل لمقاصد لا حصول لها إلا بالدوام على النكاح والقرار عليه، ولا يدوم إلا بوجوب المهر بنفس العقد؛ لما يجري بين الزوجين من من الأسباب التي تحمل الزوج على الطلاق من الوحشة والخشونة، فلو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزوج عن إزالة هذا الملك بأدنى خشونة تحدث بينهما، لأنه لا يشق عليه إزالته لما لم يخف لزوم المهر فلا تحصل المقاصد المطلوبة من النكاح، ولأن مصالح النكاح ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة، ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة عزيزة مكرَّمة عند الزوج، ولا عزة إلا بانسداد طريق الوصول إليها، ولا يكون ذلك إلا بمال له خطر عند الزوج لأن ما ضاق طريق إصابته يعز في الأعين فيعزّ به إمساكه وما يتيسر طريق إصابته يهون في الأعين فيهون إمساكه، ومتى هانت في عين الزوج تلحقها الوحشة فلا تقع الموافقة ولا تحصل مقاصد النكاح، ولأن الملك ثابت في جانبها – أي الزوجة – إما في نفسها وإما في المتعة، وأحكام الملك في الحرة تشعر بالذل والهوان، فلا بد أن يقابله مال له خطر لينجبر الذل من حيث المعنى .
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله :
"والمستحب في الصداق مع القدرة واليسار أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، نحوا من تسعة عشر دينارا، فهذه سنة رسول الله من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله في الصداق... فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة فهو جاهل أحمق. وكذلك صداق أمهات المؤمنين. وهذا مع القدرة واليسار. فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة".
{(2/260)
تنبيه } :مما تَجْدُرُ الإشارة إليه في موضوع المهر أنه ينبغي عدم المغالاة في المهور وحفلات الزواج:
(بوب الإمام مسلم رحمه الله : باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به .
(حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين ) قال :أتت النبي امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله ، فقال: (ما لي في النساء من حاجة). فقال رجل: زوجنيها، قال: (أعطيها ثوبا). قال: لا أجد، قال: (أعطها ولو خاتما من حديد). فاعتل له، فقال: (ما معك من القرآن). قال: كذا وكذا، قال: (فقد زَوَجْتُكَهَا بما معك من القرآن).
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : خير النكاح أيسره .
( حديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خير الصداق أيسره .
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : ألا لا تغالوا بِصُدُقِ النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية .
( حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أنه قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم * كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا قالت أتدري ما النش قال قلت لا قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه
{ تنبيه } : "إن التوسط والبعد عن الإفراط والخيلاء وحب المظاهر، من أسباب السعادة الزوجية والتوفيق بإذن الله، وهو أمر مطلوب من الأغنياء والوجهاء قبل غيرهم؛ لأنهم هم الذين يصنعون تقاليد المجتمع، والآخرون يتشبهون بهم".(2/261)
إن بساطة المهر، وحفل الزفاف، خطوة تحتاج إلى عزيمة صادقة، وهمّة عالية، لا تبالي بأقوال سفهاء الناس ودَهْمائهم.
وأكثر الناس في قضية المهر، طرفان: غالٍ، وجافٍ ، وكلاهما مذموم، فبينما نرى رجلاً يُبالغ في التبسيط حتى يصل مهر ابنته إلى ريال واحد، نجد آخر يغلو ويسرف حتى تبلغ نفقات ليلة الزفاف ما يكفي لزيجات كثيرة.
(سُئل سعيد بن المسيب رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم : (خير النساء أيسرهن مهورا) فقيل له : كيف تكون حسناء ورخيصة المهر ؟ فقال : يا هذا ، انظر كيف قلت أهم يساومون في بهيمة لا تعقل أم هي بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس ! ثم قرأ : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها )
[*][*][*][*]
(3) القوامة عليها وتأديبها إذا خاف نشوزها :
قال تعالى: (الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَآءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [سورة: النساء / 34]
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
يقول تعالى { الرجال قوامون على النساء } أي : الرجل قيِّم على المرأة ، أي : هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت .
[*] وقد بين الجصاص وابن العربي رحمهما الله :
المقصود بقوامة الزوج على زوجته: بأنه قيامه عليها بالتأديب والتدبير، والحفظ والصيانة، وتولي أمرها وإصلاح حالها، آمراً ناهياً لها كما يقوم الولاة على الرعايا.
((2/262)
والقوامة أمر منطقي، إذ لا بد لكل كيان من قيادة تدير شؤونه، والأسرة أعظم كيان إنساني، فلا بد لها من قائد، وقد حسم القرآن هذه القضية بتولية الرجل هذه القيادة بصريح العبارة، وعلل ذلك بأمرين: أمر فطري وأمر كسبي, فالأمر الفطري: هو التهيئة النفسية والجسمانية لتولي القيادة، حيث يفوق الرجل المرأة في البنية الجسمانية والقدرة على التحمل، وتغلب عقلانيته عاطفته، مما يجعله أقدر منها على اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية ، والأمر الثاني: تحمله للأعباء المالية من مهر ونفقة وتكاليف أخرى ألزمه الشرع بها، في حين لم يلزمها الشارع بأي نفقة وإن كانت أغنى منه،
وعلى كل حال فالقوامة في الإسلام تكليف لا تشريف، ومسؤولية لا وجاهة.
{ تنبيه } وهذا حق تنازل عنه كثير من الرجال بمحض اختيارهم، مما سبب كثيراً من المشكلات العاصفة باستقرار عش الزوجية، وقد يظن قوم أن في تنازل الرجل عن قِوامته لزوجته إسعادٌ لها، وهذا ظنٌّ خاطئ ، ذلك لأن المرأة بفطرتها تحب أن تأوي إلى ركن تلجأ إليه، حتى وإن تحدثت بعض النساء أمام صويحباتها بفخر أن زوجها يطيعها، ولا يعصي لها أمراً، مما يوحي بضعف قوامته عليها، فإنها في داخل نفسها تشعر بضعف وخلل في بنية الأسرة.
وعلى العكس منها، تلك المرأة التي تظهر الشكوى من زوجها ذي الشخصية القوية، والقوامة التامة، فإنها وإن باحت بذلك، تشعر براحة توائم فطرتها، وسعادة تناسب ما جُبلت عليه.
ولعلي أوضح هذه القضية بمثالٍ يسفر عن وجه الحق فيها فبالمثال يتضح المقال: إذا انفلت زماما الأمن في بلد ما، فإن للشعب أن يفعل ما يشاء، لكنه لا يشعر بالاستقرار النفسي، وسيلاحقه خوف مقلق، وجزع مؤرق من جراء ذلك، وقل ضد ذلك إذا ضبطت أركان الدولة، وتولى زمام الأمور رجال أقوياء، مع أنه سيضايق فريقاً من الناس، إلا أنهم سيشعرون باستقرار داخلي، وراحة وأمن وهدوء بال.(2/263)
ولذلك فإن تنازل الرجل عن قوامته أمر يُشقي المرأة ولا يُسعدها، ويُسبب وهناً في بناء الأسرة، وتقويضاً في أركانها لأنه لن يُفلح قومٌ وَلّوْا أمرهم امرأةً بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي بكرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي ( قال : لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة .
وأرى من أجل استقرار الحياة الزوجية أن تُطالب المرأة زوجها بالقيام بقوامته على الأسرة كما تُطالبه بالنفقة إذا قصّر فيها.
[*] تأديبها إذا خاف نشوزها :
على الزوج أن يؤدب زوجته إذا خاف نشوزها وأن يقوِّمها إذا اعوجت وأن يقوم بواجب القوامة الذي أُنِيطَ به وأن يمتثل قوله تعالى : (الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَآءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [سورة: النساء / 34]
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
يقول تعالى { الرجال قوامون على النساء } أي : الرجل قيِّم على المرأة ، أي : هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت .
قال تعالى: (وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) [سورة: النساء - الآية: 34]
فيعظها وينصحها ويرشدها، والله مع النية الطيبة ييسر الأمر.
( وتأديب الرجل للمرأة على نشوزها يكون على ثلاثة مراحل مرتبة) :
( أن يعظها موعظةٍ حسنةٍ من غير سب ولا شتم ولا تقبيح ، فإن أطاعت وإلا هجرها في الفراش ، فإن أطاعت وإلا ضربها في غير الوجه ضرباً غيرُ مبرح.
والكلام على هذه الآية على ثلاثة مقامات:
الأول: قوله تعالى: ( واضربوهن ) لفظ عام ، وقد قيدته السنة بالضرب غير المبرح كما في حديث أبي الأحْوَصِ الجُشَمِّي الآتي :
((2/264)
حديث أبي الأحْوَصِ الجُشَمِّي الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيْراً، فإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهِنّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ إِلاّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ في المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ وَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا، فأَمّا حَقّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوْطِئْنَ فُرُشَكُمْ من تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. أَلاَ وَإِنّ حَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهنّ في كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ» .
الشاهد : ( وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرّحٍ ) فهذا الضرب مما يكسر النفس، وليس مما يكسر العظم، فهو ضرب تأديب، لا ضرب انتقام وتشويه.
الثاني: أن ضرب المرأة للتأديب لا يكون إلا بعد عدم جدوى الموعظة والهجر لها في المضجع.
فإن الهجر في المضجع قد يؤثر في المرأة ما لا يؤثره فيها الضرب ، فإنها تحس أنها غير مرغوبة من زوجها ، فلا تنشغل إلا بالتفكير في حالها وما آل إليه، فتنزجر بهجره ، وترتدع بتركه لها.
الثالث: وجوب رفع الضرب عنها في حالة الطاعة ، ويدل عليه قوله تعالى:{فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ) ثم إن النبي نهى الرجل أن يجلد جلد العبد بدلالة الحديث الآتي :
(عبد الله بن زمعة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم).
[*](وهاك صفوة المسائل في نشوز المرأة تعريفاً وَحُكْمَاً وعلاجاً في إيجازٍ غيرِ مُخِّل :
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
[(2/265)
*]( معنى نشوز المرأة :
والنشوز (لغة) معناه الارتفاع والعلو يقال أرض ناشز يعني مرتفعة ومنه سميت المرأة ناشزا إذا علت وارتفعت وتكبرت على زوجها .
والنشوز في اصطلاح الشرع هو امتناع المرأة من أداء حق الزوج أو عصيانه أو إساءة العشرة معه ، فكل امرأة صدر منها هذا السلوك أو تخلقت به فهي امرأة ناشز ما لم تقلع عن ذلك أو تصلح خلقها
[*] قال ابن قدامة رحمه الله تعالى : "معنى النشوز معصية الزوج فيما فرض الله عليها من طاعته مأخوذ من النشز وهو الارتفاع فكأنها ارتفعت وتعالت عما فرض الله عليها من طاعته".
[*] وقال الواحدي رحمه الله تعالى : النشوز هنا معصية الزوج وهو الترفع عليه بالخلاف
[*](مظاهر نشوز المرأة:
1- إمتناع المرأة عن المعاشرة في الفراش ، وقد ورد ذم شديد لمن فعلت ذلك (حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح).
(فأبت) : امتنعت بلا عذر ( فبات ) أي فبسبب ذلك بات وهو ( غضبان عليها ) فقد ارتكبت جرماً فظيعاً ومن ثم ( لعنتها الملائكة حتى تصبح ) ، وفيه إرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب رضاه وأن يصبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة ، وأن أقوى المشوشات على الرجل داعية النكاح ، ولذلك حث المرأة على مساعدته على كسر شهوته ليفرغ فكره للعبادة . قال العراقي : وفيه أن إغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطاً عليها من الكبائر وهذا إذا غضب بحق .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبي عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها .
((2/266)
فيحرم على المرأة الإمتناع عن زوجها إذا دعاها للفراش على أي حالت كانت إلا إذا كانت مريضة أو بها عذر شرعي من حيض أو نفاس ولا يحل لها حينئذ أن تمنعه من الإستمتاع بما دون الفرج ، ولا يجوز للمرأة أن تتبرم أو تتثاقل وتتباطأ أو تطلب عوضا أو تنفره بأي طريقة وكل ذلك يدخل في معنى النشوز ، والواجب عليها أن تجيبه راضية طيبة نفسها بذلك محتسبة الأجر.
2- مخالفة الزوج وعصيانه فيما نهى عنه كالخروج بلا إذنه وإدخال بيته من يكرهه وزيارة من منع من زيارته وقصد الأماكن التي نهى عنها والسفر بلا إذنه وقد نص الفقهاء على تحريم ذلك
(حديث هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بأذنه، ولا تأذن في بيته إلا بأذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره).
(حديث عَمْروِ بنِ الأحْوَصِ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«ألاَ واسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيراً، فإنّمَا هُنّ عَوانٌ عِنْدَكمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ، إلاّ أَنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهجُرُوهُنّ في المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ. فَإنْ أطَعْنكُمُ فَلاَ تَبْغُوا علَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقّاً. ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقاً. فَأَمّا حَقكّمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن».(2/267)
3- ترك طاعة الزوج فيما أمر به وكان من المعروف كخدمته والقيام على مصالحه وسائر حقوقه وتربية ولده ، والإمتناع عن الخروج معه إلى بيت آخر أو بلد أخرى آمنة ولا مشقة عليها في مصاحبته ما لم يكن قد اشترطت على الزوج في العقد عدم إخراجها من بيتها أو بلدها إلا برضاها ،
[*] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "{الرجال قوامون على النساء} يعني أمراء ، عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته ، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صلت المرأة خمسها, وصامت شهرها, وحفظت فرجها, وأطاعت زوجها, قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت) رواه أحمد .
والضابط في حدود طاعة الزوج ما تعارف عليه أوساط الناس وكان شائعا بينهم ، ويختلف ذلك بحسب غنى الزوجين وفقرهما والبيئة التي يعيشون فيها.
4- سوء العشرة في معاملة الزوج والتسلط عليه بالألفاظ البذيئة وإغضابه دائما لأسباب تافهة وإيذائه ، ويدخل في ذلك إيذاء أهل الزوج ، وقد فسر ابن عباس وغيره الفاحشة في قوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) بما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال.
[*](خطورة النشوز :
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما : عبد آبق من مواليه حتى يرجع و امرأة عصت زوجها حتى ترجع .
((2/268)
لا تجاوز صلاتهما رءوسهما ) :لا ترفع إلى الله تعالى في رفع العمل الصالح بل أدنى شيء من الرفع أحدهما ( عبد ) يعني قن ولو أنثى ( آبق) أي هارب ( من مواليه ) أي مالكيه إن كانوا جماعة ومن مالكه إن كان واحداً فلا ترفع صلاته رفعاً تاماً ( حتى يرجع ) إن الطاعة إن هرب لغير عذر شرعي ( و ) الثاني ( امرأة عصت زوجها ) بنشوز أو غيره مما يجب عليها أن تطيعه فلا ترفع صلاتها كما ذكر ( حتى ترجع ) إلى طاعته ، فإباقه ونشوزها بلا عذر كبيرة قالوا : ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة فالصلاة الثابت في صحيحة لا يجب قضاؤها لكن ثوابها قليل أو لا ثواب فيها أما لو أبق لعذر كخوف قتل أو فعل فاحشة أو تكليفه على الدوام ما لا يطيقه أو عصت المرأة بمعصية كوطئه في دبرها أو حيضها فثواب صلاتهما بحاله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال في المهذب : هذا الحديث يفيد أن منع الحقوق في الأبدان كانت أو في الأموال يوجب سخط الله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي ( قال : لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه.
( حديث حصين بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :
انظري أين أنت منه ؟ فإنما هو جنتك و نارك .
(انظري أين أنت منه ؟ ) أي في أي منزلة أنت منه أقريبة من مودّة مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته أم متباعدة من مرامه كافرة لعشرته وإنعامه ( فإنما هو ) أي الزوج ( جنتك ونارك ) أي هو سبب لدخولك الجنة برضاه عنك وسبب لدخولك النار بسخطه عليك فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية وهذا قاله للتي جاءت تسأله عن شيء فقال : أذات زوج أنت؟ قالت : نعم قال : كيف أنت منه؟ قالت : لا آلوه إلا ما عجزت عنه فذكره وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أن النشوز كبيرة .
[*](علاج نشوز المرأة :(2/269)
قال تعالى: (وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) [سورة: النساء - الآية: 34]
بينت الآية الكريمة إجراءات علاج نشوز المرأة على الترتيب الآتي :
( الخطوة الأولى : يبدأ بالموعظة الحسنة والنصح والإرشاد، بأن يعظ الزوج زوجته ويبين لها وجوب طاعته، وما افترضه الله عليها وعليه من الحقوق، مترفقا بها تارة، وزاجراً لها أخرى بحسب المقام والأحوال. فإن استجابت فبها ونعمت وإن لم تستجب ولم تجدي نفعاً انتقل إلى الخطوة الثانية (
( الخطوة الثانية الهجر في المضجع :
فيسوغ له عند تعذر الأمر الأول أن يهجرها في الفراش، إظهاراً لها منه بعدم الرضا عنها، والاستياء من معاملتها.
[*] قال ابن عباس : هو أن يوليها ظهره على الفراش ولا يكلمها
[*] وقال الشعبي ومجاهد : هو أن يهجر مضاجعتها فلا يضاجعها
{ تنبيه } : معنى قوله تعالى (وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ) : أي لا تجامعها في فراشك سواء نمت معها في الحجرة أو في حجرةٍ أخرى ، لأن الله تعالى قال : (وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ) والمضاجع جمع مضجع ، فلا يلزم أن ينام معها في نفس الفراش ، وقد هجر النبي ( نساءه فلم يدخل عليهن شهرا .
(حديث أم سلمة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( حلف أن لا يدخل على بعض أهله شهرا، فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا عليهن أو راح، فقيل له: يا نبي الله حلفت أن لا تدخل عليهن شهرا؟. فقال: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما).
( الخطوة الثالثة الضرب غير المُبَّرِح في غير الوجه :
فإن استوفى الزوج هاتين الخطوتين، وبذل وسعه في ذلك ولم ينصلح الأمر، جاز له أن يضربها تأديباً لها مراعيا جملة أمور في ذلك:(2/270)
أولاً : أن لا يكون الضرب مبرحا، أي شديداً ، بل يكون على وجه التأديب والتأنيب ضرباً غير ذي إذاية شديدة، ضربا خفيفا لا يكسر عظما ولا يسم لحما ويتجنب الوجه والمقاتل ويكون في ملاين الجسم .
[*] قال الخلال " سألت أحمد بن يحي عن قوله (ضربا غير مبرح) قال غير شديد ".
[*] وقال ابن عباس وعطاء: " الضرب غير المبرح بالسواك، ويتجنب الوجه، وأن لا يترك الضرب أثراً على الجسد".
ثانياً : أن لا يضربها على وجهها.
ثالثاً : أن لا يشتمها بالتقبيح.
رابعاً : أن يستصحب أثناء هذه المعاملة، أن القصد حصول المقصود من صلاح الزوجة وطاعتها زوجها، لا أن يكون قصده الثأر والانتقام.
خامساً : أن يكف عن هذه المعاملة عند حصول المقصود.
سادساً : لا يجوز أن يزيد على عشر ضربات .
(حديث عبد الله بن زمعة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم).
(حديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله).
{ تنبيه } : ليس الضرب اعتداء علي حرية المرأة ، ولكنه علاج والعلاج انما يحتاج اليه عند الضرورة فالمرأة اذا أساءت عشرة زوجها وركبت رأسها ، وسارت وراء الشيطان ، وبقيادته ، لا تكف عن غيها وضلالها فماذا يصنع الرجل ؟
(وإن أمر الضرب في شريعة الله ( تعالي ) ليس الا طريقا" من طرق الإصلاح ومعلومٌ من الدين بالضرورة أن الله تعالى لا يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا .
والأصل في كل ما قدمناه قوله ـ عزَّ من قائل ـ (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرون في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان عليا كبيراً) [النساء :34].
((2/271)
حديث عَمْروِ بنِ الأحْوَصِ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«ألاَ واسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيراً، فإنّمَا هُنّ عَوانٌ عِنْدَكمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ، إلاّ أَنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهجُرُوهُنّ في المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ. فَإنْ أطَعْنكُمُ فَلاَ تَبْغُوا علَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقّاً. ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقاً. فَأَمّا حَقكّمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن».
{ تنبيه } : فمتى أطاعت الزوجة، فليس للزوج أن يعاود ضربها أو أن يسخر منها ويهزأ بها، فالله تعالى الذي أباح له تأديبها هو الذي أمره في قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء: 34].
(أحكام المرأة الناشز:
إذا نشزت المرأة سقط عنها حقوق لا تثبت لها إلا إذا تركت النشوز:
1- النفقة.
2- السكنى والقسم لها.
[*] قال ابن قدامة رحمه الله تعالى : فمتى امتنعت من فراشه أو خرجت من منزله بغير إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو من السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم " .
والأصل في ذلك عند الفقهاء أن هذه الحقوق تثبت للمرأة في مقابل استمتاع الرجل بها وتمكينه له فإذا زال زالت الحقوق .
وما سوى ذلك فهي زوجة يثبت لها سائر الأحكام من المحرمية والإرث وغير ذلك.
مسألة : ما معنى نشوز الرجل ؟
[(2/272)
*](معنى نشوز الرجل : هو أن تخاف المرأة إعراض زوجها عنها، لكبر سنها، أو لمرض بها، أو غير ذلك، فللمرأة أن تسقط بعض حقوقها تسترضي زوجها إن كانت تريد أن تبقى في عصمته، كما فعلت أم المؤمنين سودة رضي الله عنها، فإنها لما كبرت وخشيت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسكها ولا يفارقها وتهب يومها وليلتها لعائشة رضي الله عنها، وذلك رغبة منها رضي الله عنها أن تكون من زوجاته في الآخرة؛ فوافق النبي صلى الله عليه وسلم .
[*] (تصرف المرأة عند نشوز الزوج :
(في نشوز الرجل وإعراضه عن المرأة أرشد الكتاب والسنة الصحيحة المرأة أن تبادر إلى المصالحة مع زوجها إن خشيت أن يطلقها ولا تنتظر حتى تقع المفارقة .
(فقد بيَّن الكتاب والسنة الصحيحة كيفية معالجة نشوز الرجل عند خوف المرأة من وقوع هذا النشوز بأن رأت بوادره، فالقلوب- كما قلنا- تتقلب، والمشاعر تتغير، فإن خافت المرأة من أن تصبح مجفوة أو أن يعرض عنها زوجها فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو غير ذلك ؛ كأن تترك له جزءًا أو كلاً من نفقتها الواجبة عليه، أو تترك له ليلتها إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها عليها، وكانت هي قد فقدت حيويتها وجمالها، وذلك بكامل اختيارها ورضاها، فذلك خير لها من طلاقها.
قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [سورة: النساء - الآية: 128]
((2/273)
حديث ابنِ عَبّاسٍ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال :«خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلّقَهَا النّبيّ ( ، فَقَالَتْ: لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ} فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْء فَهُوَ جَائِزٌ» .
فيقول الله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي خير من الجفوة والإعراض والطلاق، ثم يحث الله تعالى الرجل على الإحسان إلى هذه المرأة الراغبة فيه وقد تنازلت عن بعض حقوقها لتبقى في عصمته.
[*](الحكمان سبيل شرعي إذا استنفذت وسائل الإصلاح :
قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) [ النساء / 35]
[*](قال ابن كثير رحمه الله :
وقال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم، إلى جانب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق، وتشوف الشارع إلى التوفيق، ولهذا قال تعالى :{ إن يريدا إصلاحاً يوفق بينهما} (1) .
ولا ينبغي للزوجين أن يصل بهما الأمر إلى هذه الحالة، فإن مرحلة تعيين الحكمين؛ مرحلة تدل على فقدان كلا الزوجين لمعاني حسن العشرة؛ من الرحمة والمودة، والتغاضي عن الهفوات، وإقالة العثرات، والعفو عن الزلات.
[*](دور الأصهار في استمرار الحياة الزوجية
__________
(1) . تفسير القرآن العظيم (1/482)(2/274)
يطلق الصهر على زوج بنت الرجل وزوج أخته، وقد يطلق أيضاً على أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته (1). وللأصهار دور عظيم في استمرار العشرة بين الزوجين، وأبو الزوجة ينبغي له أن يتلمس حال ابنته مع زوجها، وكذلك أخو الزوجة . وكما مر معنا أن الحياة الزوجية لا تستقيم على حال واحدة، فيوم صفاء، ويوم كدر، ويوم رضا، ويوم غضب . فإن كانا على الحال المكروه، فإن على أبي الزوجة أو أخيها أن يعمل جاهداً للقضاء على أسباب الخصومة، وملاطفة الزوج، لا سيما في المسائل المعتادة التي يكثر وقوعها بين الزوجين . وسوف نسوق نماذج تبين دور الصهر أبي الزوجة أو أخيها في حل بعض المشاكل والخلافات الزوجية .
(فمن ذلك ما يلي :
الموقف الأول :
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت، فقال: ( أين ابن عمك ؟ ). قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان : ( أنظر أين هو ؟ ). فجاء فقال يا رسول الله هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: ( قم أبا تراب، قم أبا تراب )
(وفي هذا الحديث فوائد: فمنها سؤال أبو الزوجة عن حال ابنته مع زوجها ، وفيه تسكين غضب الزوج وملاطفته، وفيه أن الخلافات المعتادة بين الأزواج لا ينبغي أن تضخم ويؤجج نارها، فقول فاطمة رضي الله عنها : ( كان بيني وبينه شيء فغاضبني) دليل على أن سبب غضب زوجها كان بسبب أمر معتاد بين الأزواج، ولو كان بسبب أمر مخل بالدين أو المروءة لبينته .
__________
(1) . انظر : لسان العرب، مادة ( صهر) ( 4/ 471)(2/275)
أقول: كثير من آباء الزوجات، أو إخوانهن، إذا حدث بين الزوجة وزوجها خلاف وخصام، فإنهم ينتصرون لبناتهم سواء كان الحق لهن أو عليهن. والمنهج القويم هو الإصلاح وملاطفة الزوج، وهو السبيل الأقوم لحياة زوجية سعيدة .
الموقف الثاني:
موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما علم أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه، فخرج حتى أتى ابنته حفصة فقال لها : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل ؟ قالت: نعم، فقلت : قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلكي ؟
[ ثم قال لها وهو موضع الشاهد] : لا تستكثري النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك ... الحديث (1) .
(فانظر إلى حرص عمر على ابنته، وكونه يرغب في بقاء ابنته تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أبو الزوجة وأخوها ، ليرغب كل واحد منهما في توثيق الصلة بين ابنته وزوجها، ولو بدفع شيء من المال لها لقضاء بعض حوائجها التي لم تقضى . ويتأكد هذا الأمر إن كان الزوج من أهل التدين والأمانة والمروءة، فإن مثل هذا الزوج لا ينبغي التفريط فيه .
الموقف الثالث :
هو من جانب الزوج؛ فعلى الزوج الأدب مع أهل زوجته، وإكرامهم، ومراعاة شعورهم، فهم قد سلموه شرفهم، وقطعة قلوبهم . فلا يقابل الإحسان بالإهانة والتجريح وسوء الأدب . وسنذكر جانباً من أدب علي بن أبي طالب مع صهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف راعى علي بن أبي طالب مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( حديث علي الثابت في الصحيحين ) قال كنت رجلاَ مذاءاً ، وكنت أستحي أن أسال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن ألأسود فسأله فقال { يغسل ذكره ويتوضأ}
__________
(1) . رواه البخاري (5191)(2/276)
فَعَلِي بن أبي طالب كان محتاجاً لسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر يشكل عليه دائماً، ولكنه تردد لكون بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند علي بن أبي طالب فاستحيا من ذلك ولم يباشر سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بل جعل ذلك عن طريق واسطة .
أقول: يعمد بعض الأزواج إلى ذكر شيء مما يكون بينه بين وأهله، وذلك بمشهد من أبي الزوجة أو أخيها، وهذا الفعل جمع بين أمرين مذمومين، الأول: ارتكاب ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من التحدث بما يكون بين الرجل وأهله في أمر الفراش- وسبق بيانه-، والثاني: هو جرح مشاعر أبا الزوجة أو أخاها بذكر مثل هذه الأمور أمامهم .
[*](الطلاق آخر الحلول :
رغب الله عز وجل عباده إلى إمساك الزوجة وعدم تطليقها حتى مع الكراهة، قال تعالى: ( فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)
[ النساء / 19]
[*] قال ابن كثير رحمه الله : أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عباس في هذه الآية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً، ويكون في ذلك الولد خير كثير، ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر .
(معنى [ لا يفرك مؤمن مؤمنة ] _ يعني لا يبغضها _ إن كره منها خلقاً لا توجد امرأة إلا ولها بعض المزايا، وفيها بعض العيوب، وإن من التمس امرأة كاملة من جميع النواحي، فقد التمس محالاً، وهب الله هذه حظاً من الجمال وإن كان في خلقها شيء، ووهب هذه حظاً من الخلق وإن كان في جمالها شيء، وفاوت بين هذه الحظوظ والأقسام كما قضت بذلك مشيئته (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) (القصص/ 68)
((2/277)
هذه حقيقة من عرفها استراح وأراح، وأمكنه أن يغض عن العيوب المحتملة بجانب المزايا، وأن يغفر بعض نواحي الضعف لما يجبرها من نواحي القوة، وهذا هو معنى قوله (ص): "إن كره منها خلقاً رضي منها غيره" وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) (النساء/ 19)
(فلا ينبغي أن يطلق الزوج زوجه لكونه وجد فيها خلقاً سيئاً، فإنه لو نظر إليها من جوانب أخرى لوجد فيها محاسن أخلاق، وجميل صفات خُلقية أو خلقية .
وليعلم الزوج الذي أمسك أهله وصبر عليهم مع كراهيته لذلك، أنه موعود بنص القرآن بخير كثير، قال تعالى: ( فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [ النساء / 19]
(وإن تعذر الصبر، وساءت العشرة، فالطلاق سبيل شرعي لحياة أخرى لكل من الزوج والزوجة :
قال تعالى: (وَإِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً)
[ النساء / 130]
فيعوض الله الزوج خيراً منها، ويعوضها خيراً منه . فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وما أعظم جميل صفات رجلٍ فارق أهله فما وجدوا منه كلمة نابية، أو فعالاً قبيحة، ورحم الله رجلاً فارق أهله وهم يذكرونه بالخير، ويدعون له بظهر الغيب .
[*](أمر الوالدان أو أحدهما الابن أن يطلق زوجته :
(فصلُ الخِطاب في هذه المسألة :
إن أمر الوالدان أو أحدهما الابن أن يطلق زوجته فلا يخلو من حالين :
الأول : أن يبين الوالد سبباً شرعياً يقتضي طلاقها وفراقها، مثل أن يقول: طلق زوجتك، لأنها مريبة في أخلاقها كأن تغازل الرجال أو تخرج إلى مجتمعات غير نزيهة وما أشبه ذلك . فطلاقها في هذا الحال يجيب والده ويطلقها، لأنه لم يقل طلقها لهوى في نفسه ولكن حماية لفراش ابنه من أن يكون فراشه متدنساً هذا الدنس فيطلقها .(2/278)
الثانية: أن يقول الوالد لولده: طلق زوجتك لأن الابن يحبها، فيغار الأب على محبة ولده لها، والأم أكثر غيرة، فكثير من الأمهات إذا رأت الولد يحب زوجته غارت جداً حتى تكون زوجة ابنها ضرة لها –نسأل الله العافية- ففي هذه الحالة لا يلزم الأبن أن يطلق زوجته إذا أمره أبوه بطلاقها أو أمه ولكن يداريهما ويبقي الزوجة ويتألفهما ويقنعهما بالكلام اللين حتى يقتنعا ببقائها عنده ولا سيما إذا كان الزوجة مستقيمة في دينها وخلقها
[*][*][*][*]
(4) النفقة والسُكْنَى : فيجب عليه يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى :
بمجرد تمام عقد الزواج وتمكن الزوج من الاستمتاع بالزوجة يلزم الزوج الإنفاق على زوجته، وتوفير ما تحتاجه من مسكن وملبس ،
قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) لقوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 233).
وقوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) (*) (الطلاق: 6).
: فمن حقوق المرأة وجوب نفقتها على زوجها وإن كانت غنية، وهي مقدرة شرعاً بكفايتها من الطعام واللباس والسكن على قدر حال الزوج يساراً وإعساراً، وهي واجبة،
[*] قال ابن قدامة رحمه الله:
نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، واحتج بقوله تعالى{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}(الطلاق: 7)،
(حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) قال : قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال أن تطعمها إذ طعمت وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت .
[*] قال الصنعاني رحمه الله :(2/279)
"دل الحديث على وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وأن النفقة بقدر سعته لا يكلَّف فوق وسعه، لقوله: ((إذا طعمت)) كذا قيل، وفي أخذه من هذا اللفظ خفاء، فمتى قدر على تحصيل النفقة وجب عليه أن لا يختص بها دون زوجته، ولعله مقيد بما زاد على قدر سدِّ خلته لحديث: ((ابدأ بنفسك))، ومثله القول في الكسوة. وفي الحديث دليل على جواز الضرب تأديبا إلا أنه منهي عن ضرب الوجه للزوجة وغيرها. وقوله: ((لا تقبح)) أي: لا تسمعها ما تكره وتقول: قبَّحكِ الله ونحوه من الكلام الجافي، ومعنى قوله: ((لا تهجر إلا في البيت)) أنه إذا أراد هجرها في المضجع تأديبا لها كما قال تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] فلا يهجرها إلا في البيت، ولا يتحول إلى دار أخرى أو يحوِّلها إليها".
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت .
وقد أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على وجوب إنفاق الزوج على الزوجة.
[*] قال ابن قدامة : "اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين ، إلا الناشز منهن... وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب، فلا بد من أن ينفق عليها".
(ولا شك أن إنفاق الرجل على زوجته من أعظم أسباب استقرار الأسرة واستدامة الزواج، كما إنه دليل على علو مكانة المرأة ورفيع منزلتها.
لكن ينبغي أن يعلم أن النفقة على الزوجة والأولاد يكون بقدر كفايتهم وأن ذلك بالمعروف، دليل ذلك قوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق:7]
{(2/280)
تنبيه } : بعض الناس يأخذه الكرم والسخاء مع الأصدقاء وينسى حق الزوجة، مع أن المرء يؤجر على إنفاقه في بيته أعظم من غيره كما بينته السنة الصحيحة ومن ذلك ما يلي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك .
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في امرأتك)).
{ تنبيه } : ويجوز للمرأة أن تأخذ نفقتها ونفقة أولادها من مال زوجها بالمعروف- بغير إذنه- إذا كان بخيلاً.
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :
أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
ولكن لتنتبه النساء أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((بالمعروف)) أي في غير إسراف ولا تبذير ، ولا مجاوزة الحد ، بل تأخذ من ماله نفقة مثيلاتها ، ولا تزيد كما يفعل بعض النساء اليوم من إطلاق أيديهن في أموال أزواجهن دون إذنهن بدعوى أنه بخيل ، فيأخذن من ماله ما ينفقنه فيما يغضب الله من الذهاب إلى صالونات تصفيف الشعور ، وصالات التجميل ، والتبذير في الملبس والمشرب ، فهؤلاء محاسبات على تعديهن على أموال أزواجهن لغير حاجة شرعية، ولإفسادهن هذه الأموال.
{ تنبيه } : أن النفقة على الزوجات وإن كانت واجبة على الزوج؛ إلا أن شريعة الله جعلت للمنفق على أهله أجراً، وهذا فضل من الله ، لكن حصول الأجر في النفقة على الأهل مرتب على احتساب تلك النفقة، وابتغاء وجه الله، ومن أنفق على أهله ذاهلاً عن الاحتساب فقد برأت الذمة، وفاته أجر الاحتساب للأحاديث الآتية :
((2/281)
حديث أبي مسعود الأنصاري الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي ( قال :( إذا أنفق الرجلُ على أهله يحتسبها فهو له صدقة )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :( دينارٌ أنفقته في سبيل الله ، و دينارٌ أنفقته في رقبة ، و دينارٌ تصدقت به على المسلمين ، و دينارٌ أنفقته على أهلك ، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك )
(حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك).
{ تنبيه } : وتجب النفقة على الزوجة ولو كانت موظفة ؛ فإن النفقة عليها هو في مقابل الاستمتاع، فهو حق لها، ولا ينظر في هذه المسائل إلى ضعف دخل الزوج من عدمه . أما إن طابت نفس الزوجة وتسامحت عن حقها فيما يتعلق بالإنفاق عليها، فالأمر يعود إليها والحق لها .
(وإن كان عند الرجل أكثر من زوجة؛ فهو مطالب بالعدل بينهن في النفقة، ولا يقول هذه غنية وهذه فقيرة، فالجميع أزواجه .
[*] قال ابن سعدي رحمه الله :
الصحيح الرواية التي اختارها شيخ الإسلام أنه يجب التسوية في ذلك، لأن عدم التسوية ظلم وجور ليس لأجل عدم القيام بالواجب، لأن كل عدل يقدر عليه بين زوجاته فإنه واجب عليه، بخلاف ما لا قدرة له عليه كالوطء وتوابعه (1) .
[*](وتسقط نفقة الزوجة عن زوجها بعدة أسباب:
منها ما يلي :
(1) إذا امتنعت الزوجة من تسليم نفسها لزوجها، فلا نفقة لها .
(2) وإذا سافرت لحاجتها ، فلا نفقة لها، لأنها قد منعت زوجها حقه منها؛ إلا أن تطيب نفسه بذلك .
(3) وإذا نشزت الزوجة على زوجها فلا نفقة لها – أيضاً- .
(4) المطلقة حكم النفقة عليها على التفصيل الآتي :
(1) المطلقة طلاقاً رجعياً يجب لها النفقة ما دامت في العدة لأنها زوجة ،
__________
(1) . الفتاوى السعدية . ص 117(2/282)
لقوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً) [البقرة / 228]
فدلَّ ذلك على أنها زوجة .
(2) والمطلقة طلاقاً بائناً ، سواء كان بينونة صغرى أم كبرى ، فلا نفقة لها ولا سكنى إلا إذا كانت حاملاً فينفق عليها حتى تضع حملها .
( حديث فاطمة بنت قيس الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : إنما النفقة و السكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرَّجعة .
والدليل على أن المطلقة طلاقاً بائناً إذا كانت حاملاً ينفق عليها حتى تضع حملها.
قوله تعالى: (وَإِن كُنّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنّ حَتّىَ يَضَعْنَ حَمْلَهُ[ الطلاق / 6]
[*][*][*][*]
(5) حق المبيت والمعاشرة وقضاء الوطر :
فيجب على الزوج أن يَتعاهد زوجته بالجماع ويقضى وطرها كما قضى وطره ، وأن لا يعجلها في ذلك.
فيُكره النزع قبل فراغها ، أي قبل أن تُنزل لأنه يحرمها من كمال الإستمتاع ، وربما يحصل لها ضرراً إذا كان الماء متهيأ للخروج ثم ينزع الرجل قبل إنزالها ، والنبي ( قال :( لا ضرر ولا ضرار ) كما في الحديث الآتي :
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح ابن ماجه )أن النبي ( قال :( لا ضرر ولا ضرار )
أما حديث ( ثم إذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها ) فهو ضعيف .
{ تنبيه } الوطء واجب على الرجل، وهو من مقاصد الزواج الكبرى ،
[*] قال ابن قدامة رحمه الله : والوطء واجب على الرجل - أي تجاه زوجته- إذا لم يكن له عذر، وبه قال مالك. ومن أدلته قوله تعالى{فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}(النساء: 129)، قال الجصاص - رحمه الله: إن عليه وطأها بقوله{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني لا فارغة فتتزوج ولا ذات زوج إذا لم يوفها حقها من الوطء.
((2/283)
ويجب على الزوج أن يُراعي حق الوطء لزوجته حتى لا يضطر حليلته إلى الخروج عن حيائها . وهذا الحق من الحقوق التي يقع الخلل في أدائها من قبل بعض الأزواج ، فتراه في دنياه لاهثاً أو يدمن السهرات مع الأصحاب والخلان ولا يَؤوب إلا في ساعة متأخرة من الليل، قد أرهقه التعب وأضناه اللعب، واستنفد ما في جعبته من المرح واللهو مع مسامريه، فيدخل بلا سلام ولا كلام، ويرتمي على فراشه كالجيفة، ولو قُدّر له أن يقضي وَطَرَه منها، قضاه على وجه لا تشعر معه المرأة بسعادة، وكأنها ما بقيت في البيت إلا للكنس والطبخ والخدمة وتربية الأطفال ، فهي في نظره أو كما يعبر عنه واقعه معها ليست بحاجة إلى قلب يعطف عليها ورجل يداعبها ويحنّ إليها ، ويروي عاطفتها، ويُشبع غريزتها . وإذا كان الرجل يُنهى عن الانهماك في العبادة لأجل إتمام هذا الحق لزوجته فكيف بإهدار الوقت وإضاعته في السهرات العابثة والليالي اللاهية؟ وكيف يتناسى أن النبي ( يقول : ولأهلك عليك حقاً كما في الحديث الآتي :
( حديث أبي جحيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟. قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان).
((2/284)
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة فقلت بلى يا نبي الله ولم أرد بذلك إلا الخير قال فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فإن لزوجك عليك حقا ولزورك عليك حقا ولجسدك عليك حقا .
(شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من زوجها فأحال القضاء إلى
كعب الأسدي ، فلما جيء بالرجل قال القاضي : إن امرأتك تشكوك .
قال : أفي طعام أو شراب ؟ !
قال : لا .
فقالت المرأة:
أَلْهَى خليلي عن فِراشي مسجدُه
ولستُ في أمرِ النساءِ أحْمَدُه ، يا أيها القاضي الحكيم أرْشِدُه ،
زَهَدَه في مضجعي تَعَبُدُه
فقال زوجها :
إني امرؤ أذهلني ما قد نزل
وفي كتاب الله تخويفٌ جَلَل ، زَهدتُ في فِراشِها وفي الحُجَل
في سورة النحل وفي السبع الطول
فقال كعب :
تصيبها في أربعٍ لمن عَقَل ، إن لها عليك حقاَ يا رجل
فأعطها ذاك وَدَعْ عنك العِلل .
{ تنبيه } : ومن كمالات قضاء الوطر تجمل الزوجين لبعضهما : فينبغي أن يحرص كلٌ من الزوجين أن يبدو جميلاً في نظر صاحبه، لئلا يتنافرا، وليزداد قرباً وتألفاً، وأعظم طيب الماء وأعظم تجمل النظافة، ولقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرجل شعره، ويكثر دَهنَ رأسه وتسريحَ شعره، وأنه كان كثير الاكتحال، وكثير الاستياك وكثير التطيب، لذلك لم يشم من في رسول الله ولا من جسمه رائحة تكره، وإذا كان التقصير غالباً ما يكون من الرجال
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني أحب أن أتزين للمرأة ، كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله يقول : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} .
[*][*][*][*]
(6) التأدب في معاملتها وعدم التعرض للوجه بالضرب أو التقبيح :(2/285)
لما في ذلك من الاستهانة بالمرأة، وتحقيرها، وإنزالها غير المنزلة التي ارتضاها الله سبحانه وتعالى لها من الاحترام فينبغي على الزوج في معاملته مع زوجته أن يكون حسن الخلق، هين لين قريب سهل، حديثه عذب، كلامه حلو، لا يعرف السب ولا الشتم ولا الألفاظ النابية ولا الوجه المكفهر.
وكذلك فالتعرض للوجه بالضرب أو التقبيح مناف لما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي :
(حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال أن تطعمها إذ طعمت وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت .
وأن هذا مخالفاً لهدي النبي ( تقويم النساء عند النشوز .
فالذي أمر به الله سبحانه وتعالى من ضرب النساء لتقويمهن عند النشوز هو الضرب غير المبرح، لقوله تعالى: ( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً ) [النساء: 34].
والكلام على هذه الآية على ثلاثة مقامات:
الأول: قوله تعالى: ( واضربوهن ) لفظ عام ، وقد قيدته السنة بالضرب غير المبرح كما في حديث أبي الأحْوَصِ الجُشَمِّي الآتي :
((2/286)
حديث أبي الأحْوَصِ الجُشَمِّي الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيْراً، فإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهِنّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ إِلاّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ في المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ وَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا، فأَمّا حَقّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوْطِئْنَ فُرُشَكُمْ من تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. أَلاَ وَإِنّ حَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهنّ في كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ» .
الشاهد : ( وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرّحٍ ) فهذا الضرب مما يكسر النفس، وليس مما يكسر العظم، فهو ضرب تأديب، لا ضرب انتقام وتشويه.
الثاني: أن ضرب المرأة للتأديب لا يكون إلا بعد عدم جدوى الموعظة والهجر لها في المضجع.
فإن الهجر في المضجع قد يؤثر في المرأة ما لا يؤثره فيها الضرب ، فإنها تحس أنها غير مرغوبة من زوجها ، فلا تنشغل إلا بالتفكير في حالها وما آل إليه، فتنزجر بهجره ، وترتدع بتركه لها.
الثالث: وجوب رفع الضرب عنها في حالة الطاعة ، ويدل عليه قوله تعالى:{فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً )
ثم إن النبي نهى الرجل أن يجلد جلد العبد بدلالة الحديث الآتي :
(عبد الله بن زمعة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم).
[*][*][*][*]
(7) عدم الهجر في غير البيت :
هذا هو الأصل في المسألة ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تهجر إلا في البيت ".
((2/287)
حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال أن تطعمها إذ طعمت وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت .
{ تنبيه } الأصل في المسألة عدم الهجر في غير البيت ولكن يجوز هجر المرأة في غير البيت بحسب المصلحة المترتبة على ذلك، كما صح عن النبي ( أنه هجر أزواجه شهراً في غير بيوتهن .
(حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( حلف لا يدخلُ على بعض أهله شهراً ، فلما مضى تسعةٌ وعشرون يوماً غداً عليهن أوراح ، فقيل له : يا نبي الله حلفت أن لا تدخل عليهن شهراً ، قال : إن الشهر يكونُ تسعةً وعشرين يوماً .
[*][*][*][*]
(8) مداراتها وملاطفتها :
والمداراة : هي المجاملة والملاينة لاستمالة النفوس وتأليف القلوب .
وقد ندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مداراة النساء، لما علم منهن من تسرع ، وسوء تصرف في بعض المواقف ، فالزوج مطلوب منه أن يداري زوجه ويستميل قلبها، وأن يصبر على ما يبدر منها- مالم يكن فيه تضييع لحق الله أو حقه-، والزوجة كذلك مطالبة بحسن التبعل والطاعة في غير معصية الله، وبهذا وذاك تستقيم الحياة الزوجية، ويسعد أهلها .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: (استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء).
* وهذا الحديث يرشدنا إلى ثلاثة أمور رئيسية وهي:
الأمر الأول: أن الوصية بالنساء واجبة لأن قوله صلى الله عليه وسلم " استوصوا " أمر ، والأمر يقتضي الوجوب، ما لم ترد قرينة تصرفه عن ذلك.
الأمر الثاني: بيان قصور النساء عن الرجال ، واختلاف بعض طبائعهن عن طبائع الرجال.
الأمر الثالث: جواز مداراة النساء، والاستمتاع بهن على عوجهن.(2/288)
ولا شك أن في هذا الحديث قاعدة أساسية في معاملة النساء، والوصية بهن، عند الصحابة رضوان الله عليهم- ومن تبعهم من الرجال في كل عصر، وما دام هذا الدين قائما ، فإن الإنسان إذا لم يغضُّ الطرف عن زلات النساء وأراد أن يحاسبها على كل ما يصدر منها أفضى ذلك إلى كسرها وكسرها طلاقها كما بينته السنة الصحيحة في حديث مسلم الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها .
ولا شك أن تقويم المرأة واجب ، ولكن على النحو الذي لا تتضرر به المرأة أو الرجل أو الحياة الزوجية ما دام هذا التقويم يتم حسب الحدود الشرعية.
وأما المبالغة في التقويم- كالتشديد عليهن كما يشدد على الرجال- للوصول بها إلى المرتبة العليا من التقويم بحيث لا يصدر منها ما يدل على نقصان عقلها أو كفران عشيرها ، ففيه الخاطرة بالحياة الزوجية من حيث احتمال وقوع الطلاق بين الزوجين، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها .).
فإن كانت المرأة على دين وخلق كريم ، إلا أنها يصيبهما ما يصيب باقي النساء من التضجر، أو طلب ما لا يقدر الزوج عليه، أو التنكر له، فلا شك أن مثل هذه يندب المداراة معها ويستحب الإبقاء عليها، حفاظاً على رباط الزوجية، لما لها من خلق كريم ودين متين.
* ثم إن التلطف معها ومداعبتها اقتداءاً برسول الله ( فقد كان يتلطف مع أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ويسابقها .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أنها:كانت مع النبي في سفر قالت فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال هذه بتلك .
((2/289)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :كل شيء ليس من ذكر الله لهو و لعب إلا أن يكون أربعة : ملاعبة الرجل امرأته و تأديب الرجل فرسه و مشي الرجل بين الغرضين و تعليم الرجل السباحة .
(ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله لقد كان ضحوكاً إذا ولج، سكيتاً إذا خرج، آكلاً ما وجد، غير سائل عما فقد.
رَحِمَ اللّه رجلًا محمود السَيرة، طيِّب السريرة، سهلًا رفيقًا، ليِّنًا رؤوفًا ، رحيمًا بأهله حازمًا في أمره، لا يكلف شططا ولا يرهق عُسرًا، ولا يهمل في مسؤولية.
[*][*][*][*]
(9) أن يصبر عليها ويتحمل الأذى منها وأن يعفو عن زلاتها :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: (استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء).
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها .
(وهذا الحديث يرشدنا إلى ثلاثة أمور رئيسية وهي:
الأمر الأول: أن الوصية بالنساء واجبة لأن قوله صلى الله عليه وسلم " استوصوا " أمر ، والأمر يقتضي الوجوب، ما لم ترد قرينة تصرفه عن ذلك.
الأمر الثاني: بيان قصور النساء عن الرجال ، واختلاف بعض طبائعهن عن طبائع الرجال.
الأمر الثالث: الصبر على النساء وتحمل الأذى منهن ، والاستمتاع بهن على عوجهن.(2/290)
ولا شك أن في هذا الحديث قاعدة أساسية في معاملة النساء، والوصية بهن، عند الصحابة رضوان الله عليهم- ومن تبعهم من الرجال في كل عصر، وما دام هذا الدين قائما ، فإن الإنسان إذا لم يغضُّ الطرف عن زلات النساء وأراد أن يحاسبها على كل ما يصدر منها أفضى ذلك إلى كسرها وكسرها طلاقها كما بينته السنة الصحيحة في حديث مسلم الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :ان المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها .
{ تنبيه } إن من أفضل ما يُعين على الصبر على النساء وتحمل الأذى منهن هذا
الحديث العظيم ، لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقا رضى منها آخر ، فإذا صدر من المرأة ما يُعَكِّرُ صَفو زوجها أحياناً فليتذكر دينها وعفتها وفضلها على النساء اللاتي تنكرن للأدب وانسلخن من الفضيلة ، ويتذكر أنها طبُّاخة طعامه غَسَّالة ثيابه وبها يسكن قلبه عن الحرام ، ففي هذا ما يكون عوناً بعد الله تعالى في الصبر عليهن وتحمل الأذى منهن
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر .
(معنى [ لا يفرك مؤمن مؤمنة ] _ يعني لا يبغضها _ إن كره منها خلقاً لا توجد امرأة إلا ولها بعض المزايا، وفيها بعض العيوب، وإن من التمس امرأة كاملة من جميع النواحي، فقد التمس محالاً، وهب الله هذه حظاً من الجمال وإن كان في خلقها شيء، ووهب هذه حظاً من الخلق وإن كان في جمالها شيء، وفاوت بين هذه الحظوظ والأقسام كما قضت بذلك مشيئته (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) (القصص/ 68)
((2/291)
هذه حقيقة من عرفها استراح وأراح، وأمكنه أن يغض عن العيوب المحتملة بجانب المزايا، وأن يغفر بعض نواحي الضعف لما يجبرها من نواحي القوة، وهذا هو معنى قوله (ص): "إن كره منها خلقاً رضي منها غيره" وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) (النساء/ 19)
[*] وهآنذا أسوق لك قصصاً عَطِرةً في تحمل الأذى من الزوجة وأنه سيكون له عاقبةً حسنة إن شاء الله تعالى في الدنيا والآخرة ، أسوقها لك لعلها تجد لك في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً عسى الله أن ينفعك بها ويفقك إلى تنفيذها :
(القصة الأولى :
قد روي أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه يشكو خلق زوجته فوقف على باب عمر ينتظر خروجه فسمع امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها وتخاصمه وعمر ساكت لا يرد عليها فانصرف الرجل راجعاً وقال : إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين فكيف حالي ؟ فخرج عمر فرآه مولياً عن بابه فناداه وقال ما حاجتك يا رجل فقال: يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها علي فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت: إذا كان حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي فقال: عمر يا أخي إني احتملتها لحقوق لها علي إنها طبَّاخة لطعامي خبَّازة لخبزي غسَّالة لثيابي مُرْضِعة لولدي وليس ذلك كله بواجب عليها ويسكن قلبي بها عن الحرام فأنا أحتملها لذلك. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين وكذلك زوجتي قال عمر: فاحتملها يا أخي فإنما هي مدة يسيرة .
(القصة الثانية :(2/292)
حكي أن بعض الصالحين كان له أخ في الله وكان من الصالحين ، وكان يزوره في كل سنة مرة فجاء لزيارته فطرق الباب فقالت امرأته من ؟ فقال أخو زوجك في الله جئت لزيارته ، فقالت راح يحتطب لا رَدَهُ الله ولا سَلَمَه وفَعَل به وفعل وجعلت تذمذم عليه ، فبينما هو واقف على الباب وإذا بأخيه قد أقبل من نحو الجبل وقد حمل حزمة الحطب على ظهر أسد وهو يسوقه بين يديه فجاء فسلم على أخيه ورحب به ودخل المنزل وأدخل الحطب وقال للأسد اذهب بارك الله فيك ثم أدخل أخاه والمرأة على حالها تذمذم وتأخذ بلسانها وزوجها لا يرد عليها فأكل مع أخيه شيئا ثم ودعه وانصرف وهو متعجب من صبر أخيه على تلك المرأة
((2/293)
قال فلما كان العام الثاني جاء أخوه لزيارته على عادته فطرق الباب فقالت امرأته : من بالباب ؟ قال أخو زوجك فلان في الله ، فقالت مرحبا بك وأهلا وسهلا اجلس فإنه سيأتي إن شاء الله بخير وعافية ، قال فتعجب من لطف كلامها وأدبها ، إذ جاء أخوه وهو يحمل الحطب على ظهره فتعجب أيضا لذلك فجاء فسلم عليه ودخل الدار وأدخله وأحضرت المرأة طعاما لهما وجعلت تدعو لهما بكلام لطيف ، فلما أراد أن يفارقه قال يا أخي أخبرني عما أريد أن أسألك عنه ؟ قال وما هو يا أخي ؟ قال عام أول أتيتك فسمعت كلام امرأة بذيئة اللسان قليلة الأدب تذم كثيرا ورأيتك قد أتيت من نحو الجبل والحطب على ظهر الأسد وهو مسخر بين يديك ؟ ورأيت العام كلام المرأة لطيفا لا تذمذم ورأيتك قد أتيت بالحطب على ظهرك فما السبب قال يا أخي توفيت تلك المرأة الشرسة وكنت صابرا على خلقها وما يبدو منها كنت معها في تعب وأنا أحتملها فكأن الله قد سخر لي الأسد الذي رأيت يحمل عني الحطب بصبري عليها واحتمالي لها فلما توفيت تزوجت هذه المرأة الصالحة وأنا في راحة معها فانقطع عني الأسد فاحتجت أن أحمل الحطب على ظهري لأجل راحتي مع هذه المرأة المباركة الطائعة فنسأل الله أن يرزقنا الصبر على ما يحب ويرضى إنه جواد كريم .
[*][*][*][*]
(10) النهي عن التماس عثرات النساء :
اعلموا- رحمنا الله وإياكم-:
أن في التماس عثرات النساء وتتبع زلاتهن هدم للحياة الزوجية ، فالمرأة خلقت من ضلع أعوج ، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فلا شك أن عثراتها وزلاتها أكثر من الرجل ، وتتبع مثل هذه العثرات والزلات يوغر صدر الزوج عليها شيئاً فشيئاً ، حتى يؤدى به ذلك إلى طلاقها.
وقد نهينا عن تتبع زلات النساء ، والتماس عثراتهن ، أو تخوينهن ، ولذا نهى نهى رسول الله ( أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم
((2/294)
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : نهى رسول الله ( أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم .
وكذلك فطرقه لها ليلاً يكون مظنة رؤية ما لا يستحب له رؤيته منهم ، ففيه من تخونهن ، وتلمس العثرات لهن ما يبعث إلى نفسه استقباح بعض أمورهن ، أو كراهية بعض أخلاقهن ، فتضطرب بذلك حياتهما الزوجية ، وقد يؤدي ذلك إلى كثرة المشاكل ، بل قد يصل الحد إلى الطلاق.
وكذلك نهى النبي ( عن أن يطرق الرجل أهله إذا قدم من سفره ليلاً من أجل أن تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة، أي لكي تتهيأ لزوجها بالامتشاط والتزين، والاستحداد له ، فيراها في أحسن صورة، وفي أجمل حلة ، فتبعث في نفسه السرور، بعد طول التعب والإرهاق الذي ناله في سفره هذا.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إذا دخلتم ليلا، فلا تدخل على أهلك، حتى تستحد المغيبة ، وتمتشط الشعثة). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فعليك بالكيس الكيس).
{ تنبيه } ولكن من الله علينا في هذا العصر بكثير من المخترعات التي تسهل علينا طرق الاتصال بالأهل والأزواج والأولاد ، كالهاتف، والبرق ، والتلكس ، فإذا استطاع الرجل إخبار أهله بموعد قدومه من الليل ، فلا مانع من أن يطرقهم في هذا الوقت من الليل ، لأنه قد زالت علة النهي بالاتصال بهم ، وإخبارهم بموعد القدوم ، فليس في طرقهم في هذا الوقت ما يجعله تخوناً لهم، أو التماساً لعثراتهم، والله أعلم .
[*][*][*][*]
(11) أن يعين الزوجة في أمور الدنيا والآخرة :
( حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري ) قال :سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي ( يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت:كان النبي يصلي وأنا راقدة، معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت.
((2/295)
حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا لَيْلَه، وأيقظ أهله.
[*][*][*][*]
(12) أن يحفظها ويصونها عن كل ما يخدش دينها وشرفها :
ومن حق المرأة على الرجل أن يحفظها ويصونها من كل ما يخدش دينها وشرفها فيمنعها من السفور والتبرج ويحول بينها وبين الإختلاط بغير محارمها من الرجال لأنه هو الراعي الذي سوف يُسأل أمام الله تعالى عن رعيته.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
( حديث أنس الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته .
[*][*][*][*]
(13) الغَيْرة عليها :
من أبرز حقوق الزوجة وواجبات الزوج أن يصون كرامتها ويحفظ عِرْضها، ويَغَار عليها.
ومن المؤسف أن بعض حيوانات الغابة أكثر غِيرةً على زوجاتهن من بعض الرجال، فتراه يطلق العنان لزوجته تختلط مع الرجال وتحادثهم، وتذهب للأسواق وحدها، وقد تركب مع السائق وحده،
(
(عن علي (رضي الله عنه) قال: " بلغني أن نسائكم يزاحمن العلوج في الأسواق، ألا تستحون؟ ألا تغارون ؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال ". المغني
وإذا كان الحمو هو الموت كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآتي :
(حديث عقبة بن عامر في الصحيحين) أن النبي ( قال : إياكم و الدخول على النساء قالوا : يا رسول اللّه أرأيت الحمو قال : الحمو الموت أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة فهو
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير: ...
((2/296)
إياكم والدخول على النساء ) بالنصب على التحذير وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز منه أي اتقوا الدخول النساء ،وتضمن منع الدخول منع الخلوة بأجنبية بالأولى والنهي ظاهر العلة والقصد به غير ذوات المحارم ، ذكر الغزالي أن راهباً من بني إسرائيل أتاه أناس بجارية بها علة ليداويها فأبى قبولها فما زالوا به حتى قبلها يعالجها فأتاه الشيطان فوسوس له مقاربتها فوقع عليها فحملت فوسوس له الآن تفتضح فاقتلها وقل لأهلها ماتت فقتلها وألقى الشيطان في قلب أهلها أنه قتلها فأخذوه وحصروه فقال له الشيطان : اسجد لي تنج فسجد له ، فانظر إلى حيله كيف اضطره إلى الكفر بطاعته له في قبوله للجارية وجعلها عنده
(قالوا : يا رسول اللّه أرأيت الحمو قال : الحمو الموت) والحمو أخو الزوج وقريبه ، الحمو الموت : أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة فهو
محرم شديد التحريم وإنما بالغ في الزجر بتشبيهه الموت لتسامح الناس في ذلك حتى كأنه غير أجنبي من المرأة وخرج هذا مخرج قولهم الأسد الموت أي لقاؤه يقضي إليه وكذا دخول الحمو عليها يفضي إلى موت الدين أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه وقد بالغ مالك في هذا الباب حتى منع ما يجر إلى التهم كخلوة امرأة بابن زوجها وإن كانت جائزة لأن موقع امتناع الرجل من النظر بشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعه منه لأمه هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية وذاك أنست به النفس الشهوانية.
{ تنبيه } :فإذا كان هذا مع أخ الزوج ، فما بالنا بمن يتركون الرجال الأجانب يدخلون على نساءهم ومحارمهم دون أن يحرك ذلك ساكناً فيهم من شعور بالغيرة على أعراضهم ومحارمهم ، مدعين بذلك العفة لدى الجنسين ، وأقول : والله إنه ضعف في الدين ، وقلة حيلة لدى أولئك المساكين .
ولهذا قال تعالى محذراً من الدخول على النساء : ( وإذا سألتموهن متاعاً(2/297)
فسألوهن من وراء حجاب ) ثم ذكر المولى جل وعلا الحكمة البالغة من ذلك فقال : ( ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) [ الأحزاب 53 ] ، وحرَّم الإسلام على المرأة أن تخرج أمام الرجال الأجانب وهي متخذة زينتها لما في ذلك من جنوح إلى الذنب والمعصية ، وإقبال على الفاحشة والرذيلة ، واستمالة ضعاف النفوس والإيمان والتقوى للانجراف في بحر الفاحشة ، والوقوع في براثن الزانيات العاهرات الداعيات إلى البعد عن عالم الخفيات فاطر الأرض والسموات .
قال تعالى: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة: النور - الآية: 31]
{ تنبيه } : إنَّ الغَيْرَة المباحة شرعًا من شيم النفوس الكريمة ،ولكن منها ما هو محمود وما هو مذموم وهاك فصل الخطاب في موضوع الغيرة وبيان المحمود والمذموم منها:
(والغَيْرَة هي: ما ركّبه الله في العبد من قوة روحية تحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر، والغيرة في الإسلام خلق محمود، وجهاد مشروع؛
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله .
[(2/298)
*] الغيرة صفة من صفات الله عز وجل :
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله .
[*] فالمسلم يحب زوجته ، ويتمنى لها الخير والصلاح ، ويكره لها الفحش والمجون ، وكل ما يهون من رفعتها ومقدارها عنده ، فغيرة الزوج على زوجته من الإيمان ، وبها تسعد وتفخر كل زوجة مسلمة ، فالغيرة المعتدلة شيء مطلوب ومهم ، ومن لا يغار على أهله فهو ديوث ومطرود من رحمة الله تعالى ، فغيرة الرجل على أهله أن يأتين ما حرم الله أو يخلون مع غير ذي محرم ، أو يتحدثن مع أحد بخضوع في القول .. واجبة لحماية شرفه وصيانة عرضه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله).
والرجل الذي لا يغار على أهله ، ولا يغضب إذا رأى زوجته متبرجة ، أو رآها وهي تحدث الرجال في ميوعة أو خضوع فإنه ديوث يقبل الفحش والسوء على أهله ،
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر و العاق و الديوث الذي يُقرُّ في أهلهِ الخَبث .
[*] من مواقف الغيورين :
[*] غيرة النبي ( على النساء :
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت : دخل علي رسول الله ( وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه . قالت : فقلت : يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة . قالت : فقال : انظرن إخوتكن من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة .
[*] غيرة داود - عليه السلام - :(2/299)
كان داود ( فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلق الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع . قال : فخرج ذات يوم وغلقت الدار ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار . فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود . فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال : أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب . فقال داود : أنت والله إذن ملك الموت ، مرحباً بأمر الله ، ثم مكث حتى قبضت . البداية والنهاية ج: 2 ص: 17
[*] في قصة موسى - عليه السلام - مع المرأتين :
روى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس قال : { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } . قال : فأحفظته الغيرة أن قال : لا ، وما يدريك ما قوته وأمانته ؟ قالت : أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه ولم ينظر إلي حتى بلغته رسالتك ، ثم قال امشي خلفي وانعتي لي الطريق ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين . فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت . تفسير الطبري ج: 20 ص: 63
[*] غيرة الصديق رضي الله عنه:
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس رضي الله عنها ، فدخل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وهي تحته يومئذ فرآهم فكره ذلك . فذكر ذلك لرسول الله ( وقال لم أر إلا خيراً . فقال رسول الله ( : إن الله قد برأها من ذلك . ثم قام رسول الله ( على المنبر فقال : لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان .
[*] غيرة الفاروق رضي الله عنه :
((2/300)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته، فوليت مدبرا). فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله.
[*] غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه:
(حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين ) أنه قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال: ( أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني ).
(سعد بن عبادة ) هو الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم
(غَيْرَ مُصْفَّحٍ) : صفح السيف أي عرضه ، ومعنى غَيْرَ مُصْفَّحٍ أي لا أضربه بعرض السيف بل بحدِّه .
[*] وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [ 6 / 120 ] اتصاف الله تعالى بهذه الصفة ، والأدلة على ذلك ، وأنها صفة كمال ، كما رد على من زعم أنها انفعالات نفسية .
(حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين ) أنه قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال: ( أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني ).
(سعد بن عبادة ) هو الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم .
(غَيْرَ مُصْفَّحٍ) : صفح السيف أي عرضه ، ومعنى غَيْرَ مُصْفَّحٍ أي لا أضربه بعرض السيف بل بحدِّه .
[*] أنواع الغَيرة :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : (من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يكره الله، فأمَّا ما يحبُّ الله فالغيرة في الريبة وأما ما يكره فالغيرة في غير ريبة)
فالغيرة في الريبة : أي: في مواطن الشك.
[*] عن علي بن أبي طالب قال : الغيرة غيرتان غيرة حسنة جميلة يصلح بها الرجل أهله ، وغيرة تدخله النار تحمله على القتل فيقتل . رواه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ج: 2 ص: 226 وقال : إسناده صحيح .
[(2/301)
*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله وهي أن تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة . لكن غيرة العبد الخاصة هي من أن يشركه الغير في أهله فغيرته من فاحشة أهله ليست كغيرته من زنا الغير لأن هذا يتعلق به وذاك لا يتعلق به إلا من جهة بغضه لمبغضة الله ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي في غيرته على أهله وأعظم ذلك امرأته ثم أقاربه ومن هو تحت طاعته ، ولهذا كان له إذا زنت أن يلاعنها لما عليه في ذلك من الضرر بخلاف ما إذا زنا غير امرأته ، ولهذا يحد قاذف المرأة التي لم يكمل عقلها ودينها إذا كان زوجها محصناً في أحد القولين وهو إحدى الروايتين عن أحمد .اهـ
{ تنبيه } ويجب على المسلم أن لا يغار على زوجته إلا في موطن يستحق
الغيرة -وكذا الزوجة بدلالة الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : (من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يكره الله، فأمَّا ما يحبُّ الله فالغيرة في الريبة وأما ما يكره فالغيرة في غير ريبة)
فالغيرة في الريبة : أي: في مواطن الشك.
فأنت أيها الزوج المسلم قد اخترت زوجتك على أساس الدين كما أمر الشرع فهي بإذن الله مسلمة مؤمنة عفيفة ، ولم يرد منها ما يستدعي ذلك الشك وتلك الغيرة الحمقاء ، فلا تعذب نفسك ولا تعذبها معك ..
وقد عُلم أنَّ حسن العشرة وأسباب السعادة لا تكون إلا في اللين والبعد عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها، إن الغيرة قد تذهب ببعض الناس إلى سوء ظنّ.. يحمله على تأويل الكلام والشك في التصرفات، مما ينغص العيش ويقلق البال من غير مستند صحيح.
{ ويجب على كل زوجين أن يبتعدا عن مواطن الشبهات } .
((2/302)
لحديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي ( قال : الحلال بين و الحرام بين و بينهما مشبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه و عرضه و من وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
ولذا يجب على المسلم أن يبتعد عن دور اللهو والفساد ، فيراه الله حيث أمره ، ويفتقده حيث نهاه.
والمرأة تمنع الغيرة والريبة عن زوجها إذا تحلتْ بالفضائل ، والتزمتْ بأوامر الشرع في خروجها من بيتها ، وفي زيها ، وقولها ، وفعلها ، ومِشْيَتها ، وفي سائر أخلاقها، والرجل يدفع الغيرة عن زوجته ، إذا تمسك بأوامر الله، وانتهى عن نواهيه في كل أحواله.
والغيرة المعتدلة تحفظ العلاقة الزوجية ، وتوفر السعادة ، وتقضي على كثير من المشكلات، أما إذا اشتدتْ الغيرة (وهي الغيرة في غير ريبة) ، فأصبح كل من الزوجين يشك في الآخر ، ويتمنى أن يكون شرطيًّا على رفيقه ، يراقبه في كل أعماله ، ويسأله عن كل صغيرة وكبيرة ، فهذا مما يوجد أسباب الخلاف، فتكون الغيرة مدخلاً للشيطان بين الزوجين ، وربما أحدث الفرقة من هذه السبيل، وعلى الزوجين أن يثقا في بعضهما البعض ، فلا يكثرا من الظن والشك ، فذلك وسوسة ، وعليه أن يطرح عن نفسه الظن فإنه أكذب الحديث بنص السنة الصحيحة .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا).(2/303)
والزوجة الفَطِنَة هي التي تبعد الغيرة عن زوجها ، فلا تصف رجلا أمامه ، ولا تمدحه ولا تثني عليه؛ فذلك مما يسبب غيرته ، وضيق صدره ، مما قد يدخل التعاسة بين الزوجين ، بل تمتدح زوجها وتثني عليه بما فيه من خير، وتعترف بفضله ، وعلى الزوجة أن لا تمنع زوجها من زيارة أهله بدافع الغيرة ، وليكن شعارها: من أحب أحدًا أحب من يحبه. وهذا يساعد على استقرار الحياة الزوجية ودوام المودة والقربى.
[*][*][*][*]
(14) أن يعلمها الخير ويأمرها به ولا سيما الضروري من أمور دينها:
ومن حق المرأة على الرجل أن يعلمها الخير ويأمرها به ولا سيما الضروري من أمور دينها وليضع نصب عينيه أن حاجة المرأة لإصلاح دينها لا يقل أهمية عن حاجتها للطعام والشراب ، فلا ينظر للمرأة على أنها مجرد خادم بالنهار وفراش بالليل ، فيجب عليه تعليمها العلم الشرعي وما تحتاج إليه من أمور العبادات وحثها وتشجيعها على ذلك،
قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
[*] قال الطبري رحمه الله :
"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأمر ـ يا محمد ـ أهلك بالصلاة واصطبر عليها، يقول: واصطبر على القيام بها وأدائها بحدودها أنت".
[*] وقال ابن كثير رحمه الله : "وأمر أهلك بالصلاة، واصطبر عليها أي: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها".
وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
[*] قال الطبري رحمه الله :
"قوله: {وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم من النار".
[*] وقال ابن سعدي رحمه الله :(2/304)
"قوله: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة. ووقاية الأنفس بإلزامها أمر الله امتثالا، ونهيه اجتنابا، والتوبة عما يسخط الله، ويوجب العذاب. ووقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتعليمهم وإجبارهم على أمر الله. فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه وفيمن تحت ولايته وتصرفه".
قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
[*] قال الطبري رحمه الله :
"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأمر ـ يا محمد ـ أهلك بالصلاة واصطبر عليها، يقول: واصطبر على القيام بها وأدائها بحدودها أنت".
[*] وقال ابن كثير رحمه الله : "وأمر أهلك بالصلاة، واصطبر عليها أي: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها".
وقال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
[الأحزاب:34]
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: ( نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين ) [رواه البخاري]. وعلى الزوج أن يتابع تعليمها القرآن الكريم والسنة المطهرة ويشجعها ويعينها على الطاعة والعبادة،
قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [ طه:132]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى و أيقظ امرأته فصلت فإن أبتْ نضح في وجهها الماء ، و رحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت و أيقظت زوجَها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء .
((2/305)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أيقظ الرجلُ أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات .
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [سورة: التحريم - الآية: 6]
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
( حديث أنس الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته .
[*] قال النووي رحمه الله :
"قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره. ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته".
{ تنبيه } :إن تعليم الزوج لزوجته الضروري من أمور دينها أهم من النفقة والمبيت أن يعلمها الزوج أمور دينها وبخاصة إذا كانت المرأة لم تأخذ من التعليم الشرعي ما يكفيها في أمور دينها ودنياها، وعلى الزوج أن يتخذ من الوسائل الشرعية ما يُكمّل به هذا الجانب، والرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعلم نساءه أمور دينهن، وزوّج رجلاً من الصحابة امرأة على ما معه من القرآن.
وهذا الأمر تساهل فيه كثير من الأزواج فالله المستعان.
[(2/306)
*] قال ابن الجوزي في أحكام النساء (22) : « المرأة شخص مكلف كالرجل ، فيجب عليها طلب علم الواجبات عليها ، لتكون من أدائها على يقين.فإن لم يكن لها أب ، أو أخ ، أو زوج ، أو محرم ، يعلمها الفرائض ، ويعرفها كيف تؤدي الواجبات كفاها ذلك ، وإن لم تكن سألت وتعلمت ، فإن قدرت على امرأة تعلم ذلك ، تعرفت منها ، وإلا تعلمت من الأشياخ ، وذوي الأسنان من غير خلوة بهم ، وتقتصر على قدر اللازم ، ومتى حدثت حادثة في دينها سألت عنها ، ولم تستح ، فإن الله لا يستحي من الحق » ا.هـ.
وقال رحمه الله في كتاب «صيد الخاطر » (110) : « نظرت في أحوال النساء فرأيتهن قليلات الدين ، عظيمات الجهل ، ما عندهن من الآخرة خبر ! إلا من عصم الله » .
[*][*][*][*]
(15) ألا يُفْشِي سِرَها وألا يذكر عيبها :
ألا يفشي سرها وألا يذكر عيبها إذ هو الأمين عليها والطالب برعايتها والزود عنها ، ومن أخطر الأسرار أسرار الفراش ولذا حذر النبي ( إذاعتها .
( حديث أبي سعيد الخدري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها .
( حديث أسماء بنت يزيد الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :عسى رجل يحدث بما يكون بينه و بين أهله أو عسى امرأة تحدث بما يكون بينها و بين زوجها فلا تفعلوا فإن مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في ظهر الطريق فغشيها و الناس ينظرون .
[*][*][*][*]
(16) أن يعدل بينها وبين ضرتها :(2/307)
من حقوق الزوجة التي عدّد زوجها ، فإن كان للرجل أكثر من زوجة وجب عليه العدل بينهن ، وقد علق الشارع إباحة التعدد أصلاً على العدل فقال تعالى{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}(النساء: 3) ، وقد مال كثير من المعددين وقد ثبت في السنة الصحيحة النكير الشديد على ذلك كما في الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة و شقُه مائل ) معنى شقُه مائل : أي أحدى جنبيه و طرفه مائل أي مفلوج ،
والله تعالى يقول : (وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً) [النساء/ 129]
{ تنبيه } : المقصود بالعدل: التسوية في حقوقهن التي يمكن للزوج التسوية فيها بينهن ؛ من القَسْم والنفقة والكسوة ، فيعدل بينهن في المأكول والمشروب والملبوس والسكنى والبيتوتة ، وفي تهيئة مسكن لكل واحدة منهن على حدة، لكنه لا يطالب بالعدل فيما لا يملك كميل القلب والمحبة ونحوها، لقوله تعالى{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}(النساء: 129)، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه- أي المبيت- فيعدل ويقول(اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) رواه ابن حبان .
[*] قال الإمام الترمذي رحمه الله : فلا تلمني فيما لا أملك: يعني الحب والمودة.
مسألة : لو تبرعت إحدى الزوجات بيومها إلى أخرى فهل يجوز ذلك ؟
((2/308)
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أنه يجوز ذلك ،
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كان رسول الله ( إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسمُ لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبتغي بذلك رضا رسول الله .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) خَشيَت سودةُ أن يطلقها النبي ( فقالت : (لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ} )
وكان رسول الله( إذا أراد السفر أقرع بين زوجاته فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه،
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كان رسول الله ( إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسمُ لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبتغي بذلك رضا رسول الله .
وكان عليه الصلاة والسلام يراعي العدل وهو في مرض موته حتى أذن له زوجاته فكان في بيت عائشة، وكان لمعاذ بن جبل امرأتان فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء.
وهاك صفوة المسائل في القَسْمِ بين الزوجات حتى يتضح لك الأمر وضوحاً جلياً :
مسألة : هل يجب على الزوج أن يساوي بين زوجاته في القسم ؟
نعم يجب ذلك ، لقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء / 19]
وليس من المعروف أن يقسْم لهذه ليلة و لهذه ليلتين ، وحذر النبي ( من الميل إلى إحدى الزوجات عن الأخرى ،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة و شقُه مائل ) معنى شقُه مائل : أي أحدى جنبيه و طرفه مائل أي مفلوج ،(2/309)
والله تعالى يقول : (وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً) [النساء/ 129]
و المراد بالعدل هنا : في القسم و الإنفاق لا في المحبة لأنها مما لا يملكه )
مسألة : لو تبرعت إحدى الزوجات بيومها إلى أخرى فهل يجوز ذلك ؟
(القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أنه يجوز ذلك ،
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كان رسول الله ( إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسمُ لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبتغي بذلك رضا رسول الله .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) خَشيَت سودةُ أن يطلقها النبي ( فقالت : (لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ} )
مسألة : ما هو عماد القسم ؟
من كان عمله بالنهار ( يكون القسم بالليل )
ومن كان عمله بالليل ( يكون القسم بالنهار )
مسألة : هل يجب القسمة للزوجة المريضة ؟
يجب على الزوج إن كان له أكثر من زوجة أن يساوي بينهن في القسم ، أي في توزيع الزمن بينهن . فيقسم بين أزواجه بلا استثناء، سواء كانت مريضة أو حائضاً أو نفساء أو غير ذلك ، فإن المراد بالقسم هو حصول الأنس بالزوج ولو لم يحصل الوطء .
مسألة : هل يقسم الرجل لحائض أو نفساء ؟
نعم يقسم الرجل للحائض و النفساء ، وإن كان لا يتمتع بالوطأ ، لأن القسم هو أن يأتي إليها و ينام عندها ويؤنِسُها .
{ تنبيه } : النفساء إذا كانت في بيت زوجها فلها القسم ، وأما إذا كانت في بيت أهلها فلا تُلزمه بالقسم ولا تطالبه بالقضاء على ما فات )(2/310)
مسألة : هل يعني القسم لزوم حصول الجماع من الزوج ؟
(ولا يعني القسم لزوم حصول الجماع من الزوج، فإن جامع بعض أزواجه وترك بعضهم فإنه غير آثم، إلا أن يضر ببعض أهله .
ويحرم على الزوج أن يدخل على أحد نسائه في غير ليلتها إلا لضرورة .
[*] قال الشيخ محمد بن إبراهيم : إذا كانت الليلة المعينة ليلة ضرتها فيحرم عليه أن يفعل ذلك لأنه ظلم للضرة فلم يجز له إلا لضرورة . أما إن كان ضرورة دعت إلى أن يأتي بيتها فإن الضرورات لها أحكامها والضرورات جنسها معروف: كحدوث حريق، أو مرض مفاجئ لها، أو لمن تبعها، وقد تكون ضرورات دون ذلك (1) .
(وأما الدخول نهاراً على المرأة في غير ليلتها فجائز للحاجة، لقضاء حوائج ، أو سؤال عن مريض ، أو تفقد لأحوال أهل البيت ، ونحو ذلك
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود ) قالت :
وقالت رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها.
(فالحديث مصرحٌ بأنه يجوز للزوج أن يطوف على نسائه نهاراً وأن يقبل ويفعل كل شيء إلا الجماع .
مسألة : لو كانت امرأةٌ كبيرة في السن وقال لها زوجها إني لا أريد أن أقسم لك ، فهل تُحبين أن تبقي عندي في عصمتي بدون قسم وإلا طلقتك ، واختارت أن تبقى في عصمته بدون قسم ، فهل يجوز ذلك ؟
(القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أن هذا جائز :
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) خَشيَت سودةُ أن يطلقها النبي ( فقالت : (لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ} )
__________
(1) . فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (10/281-282)(2/311)
مسألة : هل يجوز أن يبدأ بإحداهن في القسم بدون قُرعة ؟
لا يجوز إلا برضاهن ، لأن البدأ بها تفضيلٌ لها و التسوية واجبة .
مسألة : هل يجوز أن يسافر بإحداهن بدون قرعة ؟
لا يجوز إلا برضاهن ، لأن السفر بإحداهن بدون قرعة تفضيلٌ لها و التسوية واجبة .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كان رسول الله ( إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسمُ لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبتغي بذلك رضا رسول الله .
مسألة : إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها فهل لها قسم ؟
لو سافرت بغير إذنه فليس لها ( قسم ولا نفقة ) لأنها ناشز من ناحية ، ولأنها فوتت فرصة الاستمتاع مختارة لذلك .
{ تنبيه } المقصود بـ( ليس لها قسم ) أي لا يلزمه القضاء إذا رجعت من السفر لأنها هي التي اختارت ذلك .
مسألة : إذا سافرت بإذنه في حاجة خاصة بها مثل أن تزور والديها ، فهل لها قسم ؟
ليس لها قسم في الأيام التي سافرت فيها ، بمعنى أنها لا تلزمه بقضاء هذه الأيام وذلك لأنها اختارت ذلك بسفرها ، ولكن لها النفقة ، لأنها سافرت بإذنه .
مسألة : إذا كان للإنسان إماء كثيرة فهل يجب أن يقسم بينهن ؟
لا يجب عليه أن يقسم بينهنَّ ، بل يطأ من شاء متى شاء .
لقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ) (النساء / 3)
فدلَّ ذلك على أن ملك اليمين لا يجب فيه القسم وكذا أمهات الأولاد لا يجب القسم بينهن .
مسألة : إن تزوج الرجل بكر وعنده زوجات كيف يقسم ؟
يقيم عند البكر سبعاً ثم يقسم .
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) قال : من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاث ثم قسم.
مسألة : إذا تزوج ثيباً و عنده زوجات كيف يقسم ؟(2/312)
يقيم عندها ثلاثة ثم يقسم ،
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) قال : من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاث ثم قسم.
مسألة : ما هي الحكمة من الفرق بين البكر و الثيب في ذلك ؟
الحكمة في ذلك لأمرين :
( 1) رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب فأعطاه الشارع مهلة حتى تطيب نفسه .
( 2) أن البكر تنفر من الرجل أكثر من نفور الثيب ، فجعلت هذه المدة حتى تطمئن ولا تنفر من الزوج .
مسألة : لو أحبت الزوجة الثيب أن يقيم الزوج عندها أكثر من ثلاث ، هل يجوز ذلك ؟
يجوز ذلك ، بشرط أن يقضي مثلهن لبقية الزوجات ، بمعنى أنه إذا أقام عندها سبعاً يقيم عند كل زوجة سبعاً ،
( حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال : ليس بك على أهلكِ هَوَان ، إن شئتِ سبَّعتُ لكِ ، وإن سبَّعتُ لكِ سَّبعتُ لنسائي .
مسألة : ما الحكمة في أن الزوج إذا سبع للثيب سبع للباقيات ، مع أن حقها ثلاث فيكون الزائد على حقها أربعة أيام ؟
الحكمة أولاً : هي قول النبي ( في حديث أم سلمة رضي الله عنها ،
( حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال : ليس بك على أهلكِ هَوَان ، إن شئتِ سبَّعتُ لكِ ، وإن سبَّعتُ لكِ سَّبعتُ لنسائي .
ثانياً : ولأنها لما أخذت الزيادة على الأخريات وكانت الأخريات في انتظار الزوج أن يأتي لهن عن قريب ، صار نصيبها أن حصل لها سبع أيام ، ثم هي في الحقيقة لا تُجبر على ذلك بل باختيارها فلا ظلم عليها .
{(2/313)
تنبيه } :وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس بك على أهلك هوان) أي لن ينقص شيء من حقك، فحقك كامل غير منقوص . والسنة كما جاء في الحديث، أن الرجل يمكث عند الثيب ثلاث ليال متواليات وهذا حق لها ، ثم يدور على نسائه ليلة ليلة، أو يمكث عندها سبع ليال متواليات، ثم يطوف على نسائه الأخريات سبعاً ثم يقسم لها معهن، فالحق للمدخول بها إن شاءت سبعاً وإن شاءت ثلاثاً، على التفصيل السابق. وإن كان المدخول بها بكراً فإن الرجل يمكث عندها سبع ليال متوالية بلا قضاء، ثم يقسم، وهو حق البكر .
مسألة : إذا مرض الرجل هل يسقط القسم ؟
(إذا مرض الزوج فإن مرضه لا يسقط القسم، فيدور على نسائه، ولا يمكث عند إحداهن إلا إذا أُذِنّ له.
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه يقول: ( أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ ) يريد يوم عائشة . فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها.
(فانظر رعاك الله ، إلى عدله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه حتى في حال مرضه ، مما يدل على أن الزوج مطالب ببذل الجهد في تحقيق العدل بين زوجاته .
[*][*][*][*]
(17) أن يتعاهدها بالهدايا التي تجلب المحبة :
فالهدية لها أثرٌ بالغ في تحقيق السعادة ودوام المحبة والألفة ، إن الهدية تذهب السخيمة، وتزيل البغضاء، ومهما كانت الهدية بسيطة ويسيرة فإن لها من الآثار النفسية ما يصعب حصره وتعدد مزاياها. فتهادوا تحابوا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : تهادوا تحابوا.
[*][*][*][*]
(18) ألا يمنعها من زيارة أهلها :(2/314)
أن لا يمنعها من زيارة أهلها لأن هذا ينافي العشرة بالمعروف إلا إذا خشيَ مفسدةَ كما لو علم أن أمها تفسدها عليه فهنا يجوز منعها من ذلك إذا كان يترتب على ذهابها إليهم مفسدة في دينها أو في حق زوجها لأن في منعها من الذهاب في هذه الحالة درءا للمفسدة ، وبإمكان المرأة أن تصل أهلها بغير الذهاب إليهم في هذه الحالة بل عن طريق المراسلة أو المكالمة الهاتفية إذا لم يترتب عليها محذورا لقوله تعالى : {فاتقوا الله ما استطعتم} ، والله أعلم .
وقد جاء الوعيد الشديد في حق من يفسد الزوجة على زوجها ويخببها عليه ، فقد جاء في الحديث : « ليس منا من خبب امرأة على زوجها » ، ومعناه أفسد أخلاقها عليه وتسبب في نشوزها عنه ، والواجب على أهل الزوجة أن يحرصوا على صلاح ما بينها وبين زوجها لأن ذلك من مصلحتها ومصلحتهم .
[*] يجب على أم الزوجة تنصح ابنتها بما فيه مصلحتها، وينبغي أن لا تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في بيت ابنتها.. وما يقال عن أم الزوجة يقال أيضاً عن أم الزوج .. مع الفرق في المنزلة إذ أن أم الزوج لها من الحقوق على ابنها في بيته ما ليس لأم الزوجة في بيت ابنتها.
وإنما ذكرنا ذلك لأن هناك بعض الأمهات لا تترك شاردة ولا واردة في بيت ابنها أو ابنتها إلا وتتدخل فيها، بل ربما توغر صدر ابنتها على زوجها، أو توغر صدر ابنها على زوجته، فتتسبب في تشتيت أسرة وتفريق جمعها، وقد تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم ممن سعى للإفساد بين الرجل وزوجته فقال عليه أفضل الصلاة والسلام : "ليس منا من خبب امرأة على زوجها".
وأسوق هذه القصة لتتأسى بها كل امرأةٍ تريد الخير لابنتها : في قصة القاضي شريح :
.. فلما كان رأس الحول .. جئت من عملي .. وإذا بأم الزوجة في بيتي..
فقالت (أم الزوجة) لي : كيف رأيت زوجتك؟ قلت: خير زوجة .... قالت: يا أبا أمية.. والله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة فأدب ما شئت أن تؤدب، وهذب ما شئت أن تهذب..
((2/315)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي ( قال : ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده .
{ تنبيه } : هذا ما تبين لي من حقوق المرأة على زوجها على سبيل المثال لا
الحصر ، وقد بين النبي ( قاعدة شرعية هي أن خير الناس من كان خيراً لأهله ، فكلما كان الإنسان أقرب إلى هذا القول كان أكثر امتثالاً لقول النبي ( وأكثر تأسياً به ( .
(حديث عائشة الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأهلي .
(19) المحافظة على مالها وعدم التعرض له إلا بإذنها :
فقد يكون لها مال من إرث أو عطية أو راتب شهري تأخذه من عملها، فاحذر التعرض له لا تصريحاً ولا تلميحاً ولا وعداً ولا وعيداً إلا برضاها، قال الله تعالى: وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4] وقد كان رسول الله أميناً على مال زوجته خديجة فلم يأخذ إلا حقه ولم يساومها ولم يظهر الغضب والحنق حتى ترضيه بمالها! قال تعالى محذراً عن أخذ المهر الذي هو مظنة الطمع وهو من مال الزوج أصلاً: وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً [النساء:22،21]. فما بالك بأموال زوجتك التي تكد وتتعب لتجمعها. وأخذ المال منها ينافي قيامك بأمر القوامة، ووجوب النفقة عليها حتى وإن كانت أغنى منك، وليحذر الذين يتعدون على أموال زوجاتهم ببناء مسكن أو استثمار ثم يضع مالها باسمه ويبدأ يستقطعه، فإنه مال حرام وأخذ مال بدون وجه حق، إلا بإذن صاحبه.
(20) حق الخلع :(2/316)
ولنا هنا وقفة عظيمة مع موضوع الخلع فقد صار الناس فيه على طرفي نقيض بين إفراطٍ وتفريط ، والحق هو الحسنة بين السيئتين ، وفصل الخطاب في موضوع الخلع من حيث جوازه وعدمه أنه على التفصيل الآتي : (
أولاً الأصل في المسألة النهي عن طلب الخلع من غير بأس فقد زجر النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن طلب الطلاق من أزواجهن من غير بأس ، وعليه يحمل : (
( حديث ثوبان الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :أيُما امرأةٍ سألت زوجها طلاقاً من غير بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنة.
( حديث ثوبان الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :
المختلعات هن المنافقات .
( المختلعات هن المنافقات ) أي اللاتي يطلبن الخلع والطلاق من أزواجهن لغير عذر هنّ منافقات نفاقاً عملياً .
ولا شك أن هذا الحديث الشريف يدل على حرمة طلب المرأة الطلاق من زوجها من غير بأس ، ولكن إذا ترجحت في ذلك مصلحة شرعية، أو إذا ترجحت في استمرار الزواج مفسدة شرعية، جاز لها أن تطلب الطلاق.
قال الله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229].
[*] قال ابن كثير رحمه الله :(2/317)
"وقوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} أي: لا يحل لكم أن تضاجِروهن وتضيِّقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَّأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}. فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها فقد قال تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هُنِيئًا مَّرِيئًا}. وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ..} الآية".
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله : (أتردين عليه حديقته). قالت: نعم، قال رسول الله : (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة).
((2/318)
ولأن المرأةً إذا أقدمت على طلب الخلع فقد انقطعت أعذارها عند زوجها فلم يبقَ لها عذراً يلتمسه لها ، وتكون قد أزالت نعمتها بيدها طواعيةً ، فوجب على زوجها أن يُسارع في تلبيةِ طلبها للخُلْعِ بسرعةٍ وإنجاز دون تروي ، ووجب عليه أن يزهدَ فيها زُهْدَ مَنْ في القبور طالما أنها طلبت مثل هذه الأمور واجترئت على ذلك ولم ترى أن ذلك أمرٌ محظور أو أنه من دواهي الأمور ، وليس له أن يقول ربما تقصد أو لا تقصد لأنها تكون ذبحت نفسها بغير سكين ثم هي التي أدخلت نفسها هذا المضيق باختيارها، ومن زرع الشوك لا يجني عنبا ، ومن ألقى بنفسه في النار احترق بها ، وليس له أن يقول لها: كوني بردا وسلاما علي كما كنت على إبراهيم ، فإذا أحرقته النار وهو يصرخ ويطلب الإنقاذ دون جدوى ، كان هو الذي أحرق نفسه ، لأنه الذي عرضها للنار بإرادته واختياره .
[*][*][*][*]
مسألة : ما هو عِظَمِ حق الزوج ؟
دلت السنة الصحيحة على أن حق الرجل على المرأة عظيم وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك :
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه .
(فلحستها) : أي بلسانها غير متقذرة لذلك
( ما أدت حقه ) :حكى البيهقي في الشعب أن أسماء بنت خارجة الفزاري لما أراد اهداء ابنته إلى زوجها قال لها : يا بنية كوني لزوجك أمة يكن لك عبداً ولا تدني منه يملك ولا تباعدي عنه فتثقلي عليه وكوني كما قلت لأمك : خذي العفو مني تستديمي مودتي * ولا تنطقي في سورتي حين أغضب فإني رأيت الحب في الصدر والأذى * إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب .
( حديث معاذ الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه و عشاؤه حتى يفرغ منه .
( لم تقعد ) أي تقف
( ما حضر غداؤه وعشاؤه ) أي مدة دوام حضوره
((2/319)
حتى يفرغ منه ) لما له عليها من الحقوق وإذا كان هذا في حق نعمة الزوج وهي في الحقيقة من اللّه تعالى فكيف بمن ترك شكر نعمة اللّه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«لَوْ كُنْتُ آمراً أحَداً أنْ يَسْجُدَ لأِحَدٍ، لأمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».
(لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) فيه تعليق الشرط بالمحال لأن : السجود لمخلوق لا يجوز وأخبر المصطفى أن ذلك لا يكون ولو كان لجعل للمرأة في أداء حق الزوج ،وفيه تأكد حق الزوج وحث على ما يجب من بره ووفاء عهده والقيام بحقه ولهن على الأزواج ما للرجال عليهن .
(حديث مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«لاَ تُؤْذِي امْرَأةٌ زَوْجَهَا فِي الدّنْيَا. إِلاّ قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لاَ تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ الله، فَإِنّمَا هُوَ عِنْدَك دَخِيلٌ يُوشِكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا».
(وبينت السنة الثابتة الصحيحة أن طاعة الزوج من موجبات الجنة كما أن معصيته تكون سبباً في سخط الله ولعنة الملائكة له.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :إذا صلت المرأة خمسها و صامت شهرها و حصنت فرجها و أطاعت زوجها قيل لها : ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح).
(فأبت) : امتنعت بلا عذر
( فبات ) أي فبسبب ذلك بات وهو
( غضبان عليها ) فقد ارتكبت جرماً فظيعاً ومن ثم
((2/320)
لعنتها الملائكة حتى تصبح ) ، وفيه إرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب رضاه وأن يصبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة ، وأن أقوى المشوشات على الرجل داعية النكاح ، ولذلك حث المرأة على مساعدته على كسر شهوته ليفرغ فكره للعبادة . قال العراقي : وفيه أن إغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطاً عليها من الكبائر وهذا إذا غضب بحق .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبي عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها .
( حديث حصين بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال انظري أين أنت منه ؟ فإنما هو جنتك و نارك .
(انظري أين أنت منه ؟ ) أي في أي منزلة أنت منه أقريبة من مودّة مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته أم متباعدة من مرامه كافرة لعشرته وإنعامه
( فإنما هو ) أي الزوج
( جنتك ونارك ) أي هو سبب لدخولك الجنة برضاه عنك وسبب لدخولك النار بسخطه عليك فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية وهذا قاله للتي جاءت تسأله عن شيء فقال : أذات زوج أنت؟ قالت : نعم قال : كيف أنت منه؟ قالت : لا آلوه إلا ما عجزت عنه فذكره وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أن النشوز كبيرة .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما : عبد آبق من مواليه حتى يرجع و امرأة عصت زوجها حتى ترجع .
(لا تجاوز صلاتهما رءوسهما ) :لا ترفع إلى الله تعالى في رفع العمل الصالح بل أدنى شيء من الرفع أحدهما
( عبد ) يعني قن ولو أنثى
( آبق) أي هارب
( من مواليه ) أي مالكيه إن كانوا جماعة ومن مالكه إن كان واحداً فلا ترفع صلاته رفعاً تاماً
( حتى يرجع ) إن الطاعة إن هرب لغير عذر شرعي
( وامرأة عصت زوجها ) بنشوز أو غيره مما يجب عليها أن تطيعه فلا ترفع صلاتها كما ذكر
((2/321)
حتى ترجع ) إلى طاعته ، فإباقه ونشوزها بلا عذر كبيرة قالوا : ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة فالصلاة الثابت في صحيحة لا يجب قضاؤها لكن ثوابها قليل أو لا ثواب فيها أما لو أبق لعذر كخوف قتل أو فعل فاحشة أو تكليفه على الدوام ما لا يطيقه أو عصت المرأة بمعصية كوطئه في دبرها أو حيضها فثواب صلاتهما بحاله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال في المهذب : هذا الحديث يفيد أن منع الحقوق في الأبدان كانت أو في الأموال يوجب سخط الله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة ) أن النبي ( قال : لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه.
(1) من حق الرجل على المرأة أن تطيعه في غير معصية :
من حق الرجل على المرأة أن تكون دائمة الطاعة : قال تعالى: (فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) [سورة: النساء - الآية: 34]
فقد امتدح الله تعالى المرأة الصالحة بصفتين صفة يحبها الزوج حال وجوده وهي أن تكون قانتة أي دائمة الطاعة و صفة يحبها الزوج حال غيابه وهي أن تحفظ غيبته .
( حديث عبد الله بن سلام الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خير النساء من تسرك إذا أبصرت و تطيعك إذا أمرت و تحفظ غيبتك في نفسها و مالك .
(وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك ) ومن فاز بهذه فقد وقع على أعظم متاع الدنيا وعنها قال في التنزيل : { قانتات حافظات للغيب }
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :إذا صلت المرأة خمسها و صامت شهرها و حصنت فرجها و أطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت .
[*] قال ابن الجوزي رحمه الله:
"وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها، أن تجتهد في مرضاته، وتتجنب ما يؤذيه، فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكره، أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها"(1).(2/322)
ومعرفة الزوجة لما يحبه زوجها ويكرهه من الأقوال والأعمال فتقوم به، إنما هو من أركان سعادتها داخل بيتها ومما يكون عوناً لها بعد الله تعالى على طاعة زوجها .
( حديث حصين بن محصن الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :
انظري أين أنت منه ؟ فإنما هو جنتك و نارك .
(انظري أين أنت منه ؟ ) أي في أي منزلة أنت منه أقريبة من مودّة مسعفة له عند شدته ملبية لدعوته أم متباعدة من مرامه كافرة لعشرته وإنعامه ( فإنما هو ) أي الزوج ( جنتك ونارك ) أي هو سبب لدخولك الجنة برضاه عنك وسبب لدخولك النار بسخطه عليك فأحسني عشرته ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية وهذا قاله للتي جاءت تسأله عن شيء فقال : أذات زوج أنت؟ قالت : نعم قال : كيف أنت منه؟ قالت : لا آلوه إلا ما عجزت عنه فذكره وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أن النشوز كبيرة .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع و امرأة عصت زوجها حتى ترجع .
{ تنبيه } هذه الطاعة للزوج مشروطة بما ليس فيه معصية لله عز وجل، فإنه إن أمرها بما فيه معصية لله عز وجل فلا طاعة له في هذا الأمر . (لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :( لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف).
( حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)
[*] قال ابن الجوزي في (أحكام النساء) (ص 81):
__________
(1) أحكام النساء.
((على ما ذكرنا من وجوب طاعة الزوج ، فلا يجوز للمرأة أن تطيعه فيما لا يحل، مثل أن يطلب منها الوطء في زمان الحيض، أو في المحل المكروه، أو في نهار رمضان، أو غير ذلك من المعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى )).
((2/323)
2) تحفظ غيبته : قال تعالى: (فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) [سورة: النساء - الآية: 34]
( حديث عبدالله بن سلام الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خير النساء من تسرك إذا أبصرت و تطيعك إذا أمرت و تحفظ غيبتك في نفسها و مالك .
( وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك ) ومن فاز بهذه فقد وقع على أعظم متاع الدنيا وعنها قال في التنزيل : { قانتات حافظات للغيب }
{ تنبيه } :( ومن حفظها لغيبته أن لا تكلم رجلاً أجنبياً إلا بإذنه
( حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن .
( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ) لأنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان ، والكلام في رجال غير محارم .
(3) من حق الرجل على المرأة أن ترعى ماله وولده وتحافظ عليها :
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
(4) ومن حق الرجل على المرأة أن تتزين له وأن تبتسم في وجهه ولا تعبس في وجهه حتى تصل إلى النتيجة المرجوة [ تسرك إذا أبصرت ]
( حديث عبدالله بن سلام الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خير النساء من تسرك إذا أبصرت و تطيعك إذا أمرت و تحفظ غيبتك في نفسها و مالك .
( خير النساء من تسرك إذا أبصرت ) أي نظرت إليها
( وتطيعك إذا أمرت ) وتطيعك إذا أمرتها بشيء
( وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك ) ومن فاز بهذه فقد وقع على أعظم متاع الدنيا وعنها قال في التنزيل : { قانتات حافظات للغيب }
((2/324)
5) ومن حق الرجل على المرأة أن تلزم بيته فلا تخرج منه إلا بإذنه ولو إلى المسجد قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ) [سورة: الأحزاب - الآية: 33] ...
(6) ومن حق الرجل على المرأة أن لا تأذن في بيته إلا بإذنه :
(حديث أبي الأحْوَصِ الجُشَمِّي الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيْراً، فإِنّمَا هُنّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهِنّ شَيْئاً غَيْرَ ذَلِكَ إِلاّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ في المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ وَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّا، فأَمّا حَقّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوْطِئْنَ فُرُشَكُمْ من تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. أَلاَ وَإِنّ حَقّهُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهنّ في كِسْوَتِهِنّ وَطَعَامِهِنّ» .
(7) ومن حق الرجل على المرأة أن تحفظ ماله ولا تنفق من ماله إلا بإذنه :
( حديث عبدالله بن سلام الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خير النساء من تسرك إذا أبصرت و تطيعك إذا أمرت و تحفظ غيبتك في نفسها و مالك .
(8) ومن حق الرجل على المرأة أن لا تصوم تطوعاً إلا بإذنه :
(حديث هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بأذنه، ولا تأذن في بيته إلا بأذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره).
((2/325)
9) ومن حق الرجل على المرأة أن ترضى باليسير وأن تقنع بالموجود وأن لا تكلفه من النفقة ما لا يطيق .قال تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمّآ آتَاهُ اللّهُ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [سورة: الطلاق - الآية: 7]
(10) ومن حقه عليها ألا تمنع نفسها منه متى طلبه :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح).
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبي عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها .
(7) ومن حقه عليها أن لا تسأل الطلاق من غير بأس :
( حديث ثَوْبَانَ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : «أيّمَا امْرَأةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاَقاً مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنّة».
{تنبيهٌ هام} : إنه ينبغي على أم الزوجة دائماً أن تذكر ابنتها بخقوق زوجها عليها لأن ذلك أجدر أن يؤدم بين الزوجين ولأن التذكرة تذكر العاقل وتنبه الغافل وتقوِّم المائل ، وهذا هو ما كان عليه نساء السلف رحمهن الله تعالى ، وإليك وصية جامعة لإحدى نساء السلف أوصت بها ابنتها ليلة زفافها ، وصيةٌ تذكر تذكر العاقلة وتنبه الغافلة وتقوِّم المائلة ، فيها نفعٌ قويم وتوجيةٌ سليم ، فيها فوائدٌ عظيمة ومنافعٌ عميمة ، وصيةٌ حُقَّ لها أن تنقش على الصدور وأن تكتب بماء الذهب فاغتنمها وانشرها بين الناس فإن الدال على الخير كفاعله .
قالت الأم : احفظي له خِصالاً عشراً تكن لك ذخرا :
الصحبةُ بالقناعة ... والمعاشرةُ بحسنِ السمعِ والطاعة(2/326)
لا تقع عيناه منك على قبيح ... ولا يشمُّ منك إلا أطيب ريح
التعاهدُ لوقتِ طعامه ... والتفقد لحين منامه
فإن حرارة الجوع مُلهِبة ... وتنغيص حاله مُكَرِّبة
الاحتفاظُ ببيته وماله ... والرعايةُ لحشمه وعِياله
فإن حفظ المالِ أصلُ التقدير ... والرعايةُ لِحَشَمِه وعياله من حسن التدبير
لا تفشِين له سرا ... ولا تعصين له أمرا
فإنك إن أفشيت سِرَه لم تأمني غدره ... وإن عصيت أمره أوغرت صدره
مسألة : ما هو أعظم حقٍ للزوج؟
فصل الخطاب في هذه المسالة : أن أعظم حقٍ للزوج الذي به قِوام الحياة الزوجية وبفقده تنهدم الحياة الزوجية وتتلف هو أن تحفظ الزوجةُ غيبةَ زوجها في نفسها وماله امتثالاً لقوله تعالى : (فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) [سورة: النساء - الآية: 34]
( حديث عبدالله بن سلام الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خير النساء من تسرك إذا أبصرت و تطيعك إذا أمرت و تحفظ غيبتك في نفسها و مالك .
( وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك ) ومن فاز بهذه فقد وقع على أعظم متاع الدنيا وعنها قال في التنزيل : { قانتات حافظات للغيب } ، ومن فاته فلا يُعَوِضُه شيء .
{ تنبيه } :( ومن حفظها لغيبته أن لا تكلم رجلاً أجنبياً إلا بإذنه
( حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن .
( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ) لأنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان ، والكلام في رجال غير محارم .
((2/327)
نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ) لأنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان ، ألا فلتحذر العاقلة ولْتَنْتَبه الغافلة فلا تتساهل في الكلام مع رجلٍ أجنبيٍ عنها بغير إذن زوجها فلربما أفضى ذلك بها إلى الهوةِ السحيقة ، وربما كان ذلك سبباً في هلاكها في الدنيا والآخرة ، وربما زَلَّت قدمُها بعد ثبوتها وانزلقت في ورطةٍ لا مخرج لها منها أبدا ، ولا تنسى أن الله تعالى يقول : (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة: النور : 21]
مسألة : إذا ارتكبت الزوجة جريمة الزنا _ والعياذ بالله _ وتبين زوجها من زناها ، فهل يجب أن يطلقها زوجها ؟
إذا ارتكبت الزوجة جريمة الزنا والعياذ بالله _ والعياذ بالله _ وتبين زوجها من زناها ، فإنه يجب أن يطلقها زوجها للأسباب الآتية :
(1) حتى لا يكون ديوثاً والعياذ بالله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر و العاق و الديوث الذي يُقرُّ في أهلهِ الخَبث .
[*] روي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه .
((2/328)
2) ولأنها بارتكابها لجريمة الزنا الشنعاء النكراء _ والعياذ بالله _ قد قضت على العلاقة الزوجية وأتلفتها وطعنتها في مقتلٍ عظيم ، وقتلت المودةَ والرحمةَ بينهما ، وذبحت الثقةَ بينهما بسكين البأس * فتستحيل العشرة بينهما لأنها لم تخشَ ربها ، فَوَكَلَهَا إلى نفسها ، وسلبَ حفظَه عن فعلِها، فدمَّرت وأوبقت نفسَها حين دنست طهارةَ بيتها ، وانتهكت حُرمةَ زوجِها ، واستخفت بحقه ، وأسقطت هيبتة من عينها حين مَكَّنت غيرَه من نفسها ، فسقطت في الرذيلة بِوَحْلِهَا ، وَصَيَّرَتْه ذليلاً بين الناس بجُرْمها، وصارت عاراً عليه بفُحشها ، صيَّرت منزلتَه بين الناس ما بين مُشفقٍ عليه مُطْرِقِ الرأسِ صامت ، و متغامزٍ عليه للخوضِ في عِرْضِه متهافت ، وثالثٍ حقيرٍ فيه متشامِت ، ورابعٍ لئيم يَدَّعِي لها المروءةَ لأنه عن إخبار زوجها بفعلها ساكت ، ثم تراه يطلب منها المُقابِل ، لأنه لسكوته عن إخبار زوجها قابل ، فصارت تنتقلُ من دمارٍ إلى دمار ، ومن خِزيٍ إلى عار ، ومن عارٍ إلى شَنَار ، صار أشقى الناس بِجُرمها لأنه لم تُكْسَرْ شوكَتُه إلا بها ، كسر الله ظهرها ، وأعمى بصرها ، ودمَّر أعضاءَها ، وهتك سِتَرها ، وأخرجها من الدنيا كلِّها * فتعساً لها بشنيعِ فِعلها ، وسحقاً لها لشؤمِها ولؤمِها وخيانتِها لزوجها ، وتَبَّاً لها من امرأةً دنيئةٍ خسيسةٍ لم تخش ربها ولم تحفظ غَيبةَ زوجها * وتقشعرُ الفضيلةُ من فعلها ، واحتوتها الرزيلةُ لقبحها ، لم تمتثل للفضيلة طاعة ، ولها في الرزيلة باعا * * لما تَخَلَّت عن خشيةِ الرحمن وامتثال القرآن ، و لما جحدت قوله تعالى هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان ، وَكَلَها الملك الديَّان إلى العصيان والخذلان واستحواذِ الشيطان ، فصارت ممقوتةً عند ربها في كلِ زمان * قاتلها الله وصدَّع بنيانها ، وأتلفها وشَلَّ أركانها ، فلا تُؤتمنُ مثلُها ، ولا تُُصانُ من كانت على شاكِلَتِها ، لعن الله كل خائنة لعنةً(2/329)
تدخل معها قبرها وتهلكها عند عرضه على ربه .
* هذه الجِبِلة النَكِدة الشقية التَعِسة التي فيه عِوَجٌ لا يُرجَى اعتداله * لقد استبدلت بالاستقامة روغانَ الثعالب ، ورَاحَت تبحثُ عن المثالب ، ولولا أنها ألانَت الجانب ما اقترب منها أحدٌ من الأجانب ، ولا أظهروا لها المخَالب ، والحاصلُ :أنهم لم يفترسوها إلا لأنها كانتْ ممن (إذا خلوْا بمحارِم اللهِ انتهكوها) ، ولو كانت غيرَ ذلك ما اقترب منها هالك ، فلما قدَّمت اللين ، فعلوا بها الفعلَ المَشِين ، وخانت زوجَها الأمين ، فخَسِرت الدنيا والدين ، وتَعَرَضت إلى سخط الجبارِ ذِي القوةِ المتين ، صَبَّ الله عليها أشدَّ العذابِ في كلِ وقتٍ وحين ، وأذاقها ألواناً شَتى من العذاب المُهين * فلما خضعت بالقول أنشأت في نفسِ كلِ هالكٍ منها غَرَض وتناست أن الله تعالى يقول " فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ " * ولما زهدت في الأخلاقِ النبيلة ، واستوطئت الحِيلة ، وقعت في الرزيلة ، وكان عاقبتها وبيلا * ومن سَوادِ قلبها الحَاِلك ، مكَّنَت من نفسها خَبِيثاً مثلها هالك ، مكان زوجها المالك ، واستغفلت زوجها بذلك ، وقالت مستخفةً في نفسها : وكيف يعرِفُ زوجي ذلك ؟ وتناست أن ربَها مُطَّلِعٌ على كلِ ذلك ، وهو سبحانه أغيرُ على محارِمِه من زوجها المالك ، ولو شاء لهَتَكَ سِترَها ودمَّرَها ببطشِه الفَاِتك * و استهانت بمراقبةِ الملكِ الوهَّاب ، وتناست أن رؤيته لِجُرْمِها لا تُحْجَبُ بِحِجَاب ، وأصَرَّت على الخيانة دون إياب ، وخانت زوجها حال الغياب ، صَبَّ الله عليها ألوان العذابِ من كلِ باب ، وحَشَرَها يوم القيامة مع كلِ مُسْرِفٍ كذاب ، وأصْلاها نارَ جهنم يوم يقوم الحساب * جعلت الله أهون الناظرين إليها ، وهو سبحانه قادرٌ عليها ، ولو شاء لأهلكها ومن حَوَالَيْها ، وتناست مِنَتَه عليها بزوجٍ صالحٍ يأوي إليها ، وتحتمي به دون من حَوَالَيْها ،(2/330)
فبدَّلت الشكر الجزيل ، والعرفان بالجميل ، بالفعلِ الوبيل * * وبعد أن كانت في حَرَمِ زوجها جوهرةً مصونة ، ولؤلؤةً مكنونة ، صارت بفُحْشها خائنةً مفتونة ، وسِلْعَةً مَعْفُونة ، وسِيرتها بين الناسِ سِيِرَةً ملعونة * وبعد أن كانت في حُرمةِ زوجها في حِصنٍ ومَناعة ، صيََّرت نفسها كلأً مباحا ، وسلعةً متاحة * وبعد أن كانت مع زوجها في عزةٍ ووقار ، وسكينةٍ واستقرار ، ونقاءٍ يُشْبِهُ الأبرار ، صيَّرت نفسها في ذِلةٍ وَصَغَار ، وتَشَتُتٍ ودَمَار ، وخِزيٍ وعار ، كأنها مَطْلِيَةٌ بالقار * والحاصلُ أنها لمَّا جَحَدَت ما أنعم الله عليها من النِعَم وتناست ما غمَرها من المِنَنْ ، وألْقَت بنفسها في براثنِ الفتن ، صارت أهونَ على الله تعالى من الجِعْلان (الخُنفساء) التي تدفَعُ بأنفها النَتَن ، ولا عجَب فقد زهدت في الطهارة وغَرِقت في القذارة ، كحالِ الخُنفساء تماماً فإنها لاتجد بُغْيَتها إلا في مواضع القَذرِ والنَتَن ، وما ذلك إلا لِخِسَةِ نفْسِها ودناءةِ طَبْعِها وسواد قلبها ، ولو أحبها ربها لعَصًمَها وحَفَظَها عن سُوء فِعْلِها ، وكان سَمْعَها التي تسمعُ به وبصرَها التي تُبْصِرُ به ، ويدها التي تبطشُ بها ورِجلها التي تمشي بها ، ولئن سألته لَيُعْطِيَنَّها ، ولئن اسْتَعاذَته لَيُعِذَنَّها ، لكنه سبحانه أبْغَضَها لسوادِ قلبها فصارت أهونَ على الله تعالى من الجِعْلان (الخُنفساء) التي تدفعُ بأنفِها النَتَن * وبعد أن كان زوجُها يفتخرُ بها ، ويتقرَبُ إلى الله بِودِّها ، ويبذلُ نفسَه من أجلها ، عسى الله أن ينفَعَه بها ، صار أشقى الناس بِجُرْمها ، وأبغضَ الناسِ لها ، وصار يختفي من ذِكْرِها ، ويتبرأ إلى الله من فِعلها ، وتقرَّب إلى الله بطلاقها ، وطهَّر اسمه من دنسِ الاقتران بها ، وكَرِه الدنيا كلِّها من أجلها ، فَلَيْتَهَا ماتت قبل ذلك ، قبل أن تُوْرِد نفسَها المهالك ، وتصيرَ مَطْمَعَاً لكلِ هالك * لم(2/331)
تعرف للطهارة طريقا ، ولم تسلك للنقاء سبيلا ، وليس بينها وبين الصدقِ قِيلا * كم أوصاها زوجها بفعل المأمور وتركِ المحظور والبعدِ عن دواهي الأمور ، وكم أوصاها أن تحفظ غَيْبَتَه في كلِ الأمور ، وأن لا تُشِينَ عِرْضه بأي محظور ، لكنْ لأن قلبَها خَرِبٌ وبور ، وما فيه من نور ، أَبَتْ كلَ ذلك وأصَرَتْ على الفجور ، مع خَبيثٍ مثلها مَحْقور ، وتناست أن الله تعالى يعلمُ خائنةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصدور ، فكيف بها إذا دخلت قبرها المحفور ، وما فيه من الدواهي والأمور ، تحت الجنادلِ والصخور ، ثم سُئِلت عن هذه الأمور، أم كيف بها حين تقفُ بين يدي ربها ويسألها عن هذه الأمور ، وما ارتكبته في حقِ زوجها المقهور ، والذي جعلته بفعلها مَنْحُور ، ثم لم تجد جواباً على هذه الأمور ، هنالك تعرفُ أنها ما كانت إلا في غرور ، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور ، ولا يُكْتَبُ بالسطور ، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور ، لا تجدُ للسؤالِ جوابا ، ولا للجواب صوابا ، ولا تملكُ توبةً أو مآبا ، فأُسقط في يَدَيْها ، ولا ينفَعُها من حَوَالَيْها ، فحينذاك تندمُ ندماً فوقَ ما يخطرُ ببالٍ أو يدورُ في الخيال ، لأنها بين يدي ربها الكبير المُتَعال ، بذنبها العِضَال ، لكنه ندمٌ لا يَنفعُ بأي حال ، فلا تُجْدِي هنالك الحسرات ولا تنفعُ الآهات ، ولا تنفعُ الحِيَلُ مع ربِ الأرضِ والسماوات ، لأن علمَه محيطٌ بكلِ شيءٍ ماضٍ وحاضرٍ وآت ، هنالك تعلم علم اليقين أن خيانتها لزوجها هي بئس الزاد ليوم الميعاد ، فورب السماواتِ والأرضِ إنما توعدون لآت ، أما زوجها المقهور فإذا رأيته وجدَتَه من جُرْحِه مَنْحُور ، وكَرْبَه يُبْكِي الصُخور ، وَزَهدَ فيها زهدَ من في القبور ، عاش يطْمَح في زوجةٍ تقيةٍ نقية ، عفيفةٍ حَيِيَّة ، حرةٍ أبية، تحفظ غيبته وتصون كرامته وترافقه حتى تأتيه المَنِيَّة ، زوجةٌ تحْفَظُه في نفسها ، ويبذلُ نَفْسَه من أجلها
،(2/332)
زوجةٌ تُعِينُه على الطاعة ، وتُعِدُّ معه لقيامِ الساعة ، لكن خاب أملُه بها ، وكَرِه الدنيا من أجلِها ، وقَتَلَه سَوَادَ قلبِها ، قلبٌ لم يؤثر القرآن فيه ولم يعي معانيه ، قلبٌ لم تدخل الخشيةُ فيه ولا التقوى تحتويه ، قلبٌ لم يُلَيِنْه القرآن ولم يخش الرحمن ، قلبٌ جحد معنى قوله تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ، قلبٌ صار أسيرَ العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان ، صار حالُه يُنَغَصُ من ذِكْرِها ، فلا يهنأُ بنومٍ كلما ذكر فعلَها ، ولا ينطفئُ لهيبُ صدرِه من فُحْشِها ، ولا يغيبُ فكرُه عن جُرْمها ، ، يتقلبُ في همٍ وغم ، كأنما يبكي الدم .
، ثم إن هذا أمرٌ شنيعٌ لا يطيقه رجلٌ مسلمٌ حرٌ حيِّي يخشى الله تعالى ، فما من مسلم إلا يغارُ على عِرضه وشرفه ، بل وعِرضه وشرفه أغلى عنده من حياته كما هو معلوم شرعأً وعقلاً وبداهةً ويتضح هذا وضوحاً جلياً في (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما ، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
الشاهد : قوله ( : [ مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء ] فقدَّم العرض على كل شيء لأنه أعز ما يملكه الإنسان وأعز من كل شيء بل ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتضح ذلك من ( حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من قتل دون أهله فهو شهيد .
، ولذا قال سعدُ بن عُبادة رضي الله تعالى عنه قولةَ الرجلِ الحرِّ الحيِّي الأبيِّ التقي النقي
[ لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ ] أي لَضَرَبْتُهُ بِحَدِّ السيف لا بعرضِه ، ولا عجب فإنه الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم،
((2/333)
حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين ) أنه قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال: ( أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني ).
(سعد بن عبادة ) هو الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم
(غَيْرَ مُصْفَّحٍ) : صفح السيف أي عرضه ، ومعنى غَيْرَ مُصْفَّحٍ أي لا أضربه بعرض السيف بل بحدِّه .
[**] وإذا كان هذا هو حال من تصوَّر حالَه من تمَّعْرِ وجهِهِ وفورانِ دمِّهِ ولهيبِ صدرهِ إذا رأى رجلاً مع امرأته فكيف بمن تحقق من زناها والعياذ بالله تعالى من ذلك ، إنه أمرٌ مشينٌ وفعلٌ مُهِين لا يتحمله رجلٌ مسلم
، ثم هل يصير الرجل رجلاً حراً أبِّياً إلا بهذه المشاعر النبيلة (من تمَّعْرِ وجهِهِ وفورانِ دمِّهِ ولهيبِ صدرهِ غَيْرةً على زوجته) ، وهل هو إذا فقد هذه المشاعر إلا خِنزيراً مَسخاً ميتَ الحِس .
[**] وهل تُصانُ المرأةُ إلا بعِفتها ! فإذا انسلخت المرأةُ من عِفتها كان ذلك في حقِ زوجها (كسراً لا ينجبر وجُرحاً لا يَنْدَمِل ولهيباً في صدرِه لا يَنْطَفئ ) وعلى هذا فلا يُتصَّورُ الرأفةُ بها ولا الإبقاء عليها ووجب طلاقها .
* روي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه
(3) ولا تنسى أن الله تعالى قال في شأن هذه الجريمة الشنعاء النكراء
(وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ) [سورة: النور - الأية: 2]
(وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ) : أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة .
((2/334)
إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) : هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر فلا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى النكراء أشنع من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة .
{ تنبيه } :( للمرأة في هذه المسألة بعد ارتكابها لجريمة الزنا الشنعاء حُكمين:
حكمها مع زوجها و حكمها مع ربها على التفصيل الآتي :
(أما حكمها مع زوجها) : لا يُتصَّورُ الرأفةُ بها ولا الإبقاء عليها ووجب طلاقها للأسباب السالف ذكرها .
(وأما حكمها مع ربها) : حكمها حكم مرتكب الكبيرة ، و حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار ما دام قد مات على التوحيد ، وأنه مستحقٌ للعقوبة لكنه تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه بذنبه ، لكن مآله إلى الجنة ما دام قد مات على التوحيد [ يدخل الجنة يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه ]
لقوله تعالى : (إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الاية48) .
مسألة : هل المرأة إذا ارتكبت جريمة الزنا _ والعياذ بالله _ ثم تابت إلى الله تعالى ، هل يسقط حق زوجها في الآخرة؟
فصلُ الخطابِ في هذه المسألة : أن حق زوجها لا يسقط في الآخرة بتوبتها إلى ربها تعالى لأن توبتها إلى ربها تعالى تتعلق بحق ربها تعالى حيث أنها ارتكبت كبيرة من الكبائر وهي تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنها وإن شاء آخذها بذنبها ، لكن مآلها إلى الجنة ما دامت قد ماتت على التوحيد
[ تدخل الجنة يوماً من الأيام أصابها قبل ذلك اليوم ما أصابها ](2/335)
أما حق زوجها المكلوم المطعونُ في شرفه فلا يسقط أبدا لأنها انتهكت حُرمته ، واستخفت بحقه ، وأسقطت هيبتة من عينها حين مَكَّنت غيرَه من نفسها ، وطعنته في أعز ما يملكه الإنسان وهو شرفه وعرضه * وصيْرَتْه ذليلاً بين الناس بجُرْمها ، وصارت عاراً عليه بفُحْشها ، وألصقت به ذُلاً لا يزال محفوراً في ذاكرته حتى يموت ، وألهبت في صدره لهيباً لا ينطفئُ مادام حيا * صيَّرت منزلتَه بين الناس ما بين مُشفقٍ عليه مُطْرِقِ الرأسِ صامت ، و متغامزٍ عليه للخوضِ في عِرْضِه متهافت ، وثالثٍ حقيرٍ فيه متشامِت ، ورابعٍ لئيم يَدَّعِي لها المروءةَ لأنه عن إخبار زوجها بفعلها ساكت ، ثم تراه يطلب منها المُقابِل ، لأنه لسكوته عن إخبار زوجها قابل ، فصارت تنتقلُ من دمارٍ إلى دمار ، ومن عارٍ إلى شنار * وصار زوجها أشقى الناس بِجُرمها لأنه لم تُكْسَرْ شوكَتُه إلا بها ، كسر الله ظهرها ، وأعمى بصرها ، ودمّر أعضاءها ، وهتك سِتْرَها ، وأخرجها من الدنيا كلِّها ،
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة ، فإن التوبة وإن أسقطت حق الله ، فحق العبد باق ، فإن ظلم الزوج بإفساد حليلته ، والجناية على فراشه أعظم من ظلم أخذ ماله ، بل لا يعدل عنده إلا سفك دمه!.
فالحاصلُ أن هذه الشقِيَّة التَعِسَة لقد أورطت نفسها في ورطةٍ لا مخرج لها منها أبدا في الدنيا والآخرة
[*] فأما في الدنيا : فإن زوجها متى تبين من جنايتها وخيانتها تقرَّب إلى الله تعالى بطلاقها ، وطهَّر اسمَه من دَنَسِ الاقتران بها ، وتبرأ إلى ربه من فِعلها، وصبَّ عليها الدعاء صبَّا حتى ينفَرِطَ عِقدُها ، جزاءاً لارتكابها لأشنعِ جنايةٍ في حقه .
وهي كذلك لابد أن ترى عقوبة خيانتها لزوجها في الدنيا قبل الآخرة إيماناً وتصديقاً بقول النبي ( في الحديث الآتي :
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي ( قال :بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا : البغي و العقوق .(2/336)
الشاهد :
قوله ( ( بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ) أي قبل موت فاعليها
( البغي ) أي مجاوزة الحد والظلم وليس هناك ظلمٌ أفحش من خياتة الزوجة لزوجها .
[*] وفي الآخرة : يأخذ من حسناتها بقدر مظلمتها له ، فعند الله تجتمعُ الخُصوم ويُقْتَصُ من الظالمِ للمظلوم ، وليس هناك أبشع من مظلمةِ خيانةِ الزوجةِ لزوجها وهنا نذكر الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسنات أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
{ تنبيه } :( هذه الفاحشة لا يصبر عليها ولا يقرها في أهله إلا الديوث الذي يقر الخنا في أهله، فهذان اثنان من الصحابة هلال وعويمر ، كل منها صبر على فراق زوجته وادعى أنها زانية ولاعنها ولم يقرها أن تبقى معه وهو يعلم أنها قد فجرت، ولو مرة واحدة، وذلك دليل على حماستهم وغيرتهم على نسائهم، لا يرضى أحدهم أن يشاركه في امرأته شخص أجنبي يفسد عليه فراشه ، ولا يرضى أن امرأته تخونه فتدخل في بيته من لا يرضاه، وتجلس على فراشه غيره، وتمكن من نفسها غير زوجها، فإن ذلك حرام، وفعلها يعتبر خيانة لزوجها، وإقرار الزوج على ذلك يعتبر دياثة وإقراراً للإثم والحرام، ولم يكن الصحابة يقرون شيئاً من ذلك. وهكذا أيضاً كل غيور، وكل من عنده حماسة وغيرة على محارمه لا يقر الخنا في أهله .
وعلى هذا إذا تحقق الزوج أن الزوجة قد خانته في فراشه إن عليه أن يفارقها وألا يكشف سترها ، ولكن يخبرها فيما بينه وبينها حتى يكون ذلك عذراً له عندها، فيخبرها بأنه قد اطلع على كذا وكذا .
مسألة : هل يجوز لعن بعض عصاة المسلمين ؟
جاءت النصوص الشرعية بلعن أصحاب بعض المعاصي على سبيل العموم والإطلاق، بذكر وصف المعصية.
ومما ورد في ذلك ما يلي:(2/337)
قول الله تعالى:{ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
و قول الله تعالى:{ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61].
(ومن السنة الصحيحة ما يلي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده).
(حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) .
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض)
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء .
( حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه) .
فهذه النصوص ونحوها تدل على جواز لعن فاعل تلك المعاصي لا على جهة التعيين للأشخاص، بل يلعن العاصي بوصفه لا بشخصه، فيقال مثلاً: لعن الله آكل الربا، ولعن الله السارق، أو أكلة الربا ملعونون، والسارقون ملعونون، ولعنة الله على الظلمة، وعلى الكاذبين ونحو ذلك.
{ تنبيه } :( وهذا اللعن على سبيل العموم لأصحاب المعاصي التي جاءت النصوص بلعن فاعليها لا خلاف في جوازه .
[*] قال الإمام النووي في شرحه لحديث: "لعن الله السارق" " هذا دليل لجواز لعن غير المعين من العصاة؛ لأنه لعن للجنس لا لمعين، ولعن الجنس جائز كما قال الله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (واللعنة تجوز مطلقاً لمن لعنه الله ورسوله}(2/338)
اللعن العام يدل على أن من فعل تلك المعصية فهو مستحق للعنه، ومعرض للعقوبة، فيحصل من هذا الإطلاق الزجر والردع عن ارتكاب تلك المعصية، وهذه اللعنة العامة المذكورة في النص قد تلحق بعض الأشخاص فتكون سبباً في عذابه ويكون معه إيمان يمنعه من الخلود في النار، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
[*] وقال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد" (1/226)
" الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم ؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع ، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز ، فإذا رأيت محدثا ، فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعنة الله على من آوى محدثا ، على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : (اللهم ! العن فلانا وفلانا وفلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) رواه البخاري" اهـ .
مسألة : هل يزوج للزوج أن يدعو على زوجته إذا زنت والعياذ بالله ؟
قبَّح الله الظلم، وحذر منه ، لأن ظلم العباد بئس الزاد ليوم الميعاد ، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة ، ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب ، ودعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه .
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [سورة: غافر - الآية: 18]
(ما للظالمين من حميم) محب
(ولا شفيع يطاع) تقبل شفاعته لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلا فما لنا من شافعين أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا
و قال تعالى: (وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ) [سورة: الحج - الآية: 71]
(وما للظالمين) بالإشراك (من نصير) يمنع عنهم عذاب الله
و قال الله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ )[ سورةإبراهيم /42]
(ومن السنة الصحيحة التي بينت شناعة الظلم ما يلي :
((2/339)
حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله ( لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
الشاهد : قوله ([ واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .
( اتقوا دعوة المظلوم ) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله (
( فإنها تُحمل على الغمام ) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس
( يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
( ولو بعد حين ) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله .
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي ( قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .
((2/340)
اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه .
( دعوة المظلوم مستجابة ) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب .
( وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } .
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا : البغي و العقوق .
(بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ) أي قبل موت فاعليها
( البغي ) أي مجاوزة الحد والظلم
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي ( قال : الظلم ظلماتٌ يوم القيامة .
( اتقوا الظلم ) بأخذ مال الغير بغير حق أو التناول من عرضه ونحو ذلك قال بعضهم : ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم
( الظلم ظلمات يوم القيامة ) فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب التقوى احتوشت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني عنه ظلمه شيئاً .
((2/341)
حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي ( قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار .
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي ( قال : إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .
( إن اللّه تعالى لَيملي ) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر .
( للظالم ) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } فإمهاله عين عقابه
( حتى إذا أخذه ) أي أنزل به نقمته
( لم يُفلته ) أي لم يفلت منه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسنات أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
( ومن هنا يتضح قبح الظلم ويتضح كذلك جواز أن يدعو المظلوم على من ظلمه ، وأن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، وعلى ذلك فيجوز للزوج أن يدعو على زوجته إذا هي ارتكبت جريمة الزنا وذلك من وجهين :
(1) أن خيانة الزوجة لزوجها وارتكابها لجريمة الزنا هي أبشع ظلم ارتكبته في حق زوجها لأنها بخيانتها له تكون قد طعنته في عِرْضه وشرفه و دينه ومروءته ، وتكون قد أسقطت هيبته بين الناس ، وتكون قد ألصقت به ذلاً لا يزال محفوراً في ذاكرته حتى يموت ، وتكون قد ألهبت في صدره لهيباً لا ينطفئُ ما دام حيا .
((2/342)
2) أن هذا هو الموافق لقوله تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة) أي لا تأخذكم بهما رِقةٌ ورحمة لأن جريمة الزنا النكراء أشنع من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة ، فمن تصور غير ذلك قلنا له أأنت أرحم من الله تعالى حين قال (ولا تأخذكم بهما رأفة)
(وإليك هذه القصة التي تبين عاقبة الظالم حين سمح لنفسه أن يستخف بالمظلوم ويشينه بما يعيب به دينه :
أخرج البخاري من قصة سعد بن أبي وقاص ودعائه على ذلك الرجل الذي قال فيه:( فإن سعداً لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية) ، قال سعد: أما واللّه لأدْعونّ بثلاْثٍ : اللّهمّ إنْ كان عبْدك هذا كاذبًا قام رياءً وسمعةً ، فأطلْ عمره ، وأَطِلْ فقْرَه ، وعرّضه للْفتن . فكان الرجل يقول بعد ذلك : شيخٌ مفْتونٌ أصابتْني دعْوة سعْدٍ. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
الشاهد : إذا كان هو التصرف الصادر من سعد ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وهو التقي النقي الحييّ الأبي وهو أحد العشرة المبشرين في الجنة تجده يدعو على من شَانَه وعابه بكلام يقدح في دينه وعدله فما ظنك بمن طعنت زوجها في عِرْضهِ وشرفه الذي هو أعز ما يملك ، فلا شك أن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن عِرض الإنسان هو أعز عنده من كل شيء ، ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتشهد لذلك بالآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لا يكون ديناراً ولا درهما ، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).(2/343)
الشاهد : قوله ( : [ مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء ] فقدَّم العرض على كل شيء لأنه أعز ما يملكه الإنسان وأعز من كل شيء بل ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتضح ذلك من ( حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من قتل دون أهله فهو شهيد .
ومن هنا يتضح أن الدعاء على من طعن الإنسان في عِرْضه [ من باب أولى ] مما دونه من المظالم .
إن من المعلوم عقلاً وبداهةً أنه لا تكاد أسرةٌ تسلم من الخلافات الزوجية ، فهو واقعٌ لا محالة ، والنجاح في كيفية علاج هذه المشكلات بشكل يضمن المحافظة على الحياة الزوجية وبشكلٍ يجعل المودةُ بينهما راسية القواعد مشيدةُ الأركان ثابتةُ الوطائد ، وينبغي على الزوج أن لا يغض الطرف عن معالجة الخلاف في مهده قبل أن يستفحل ويتسع الخرق على الراقع وقبل أن يستعصي الداء فلا ينفع دواء ، وهذا هو منهج القرآن الكريم في معالجة ما يحصل بين الزوجين من خلافاتٍ ونشوز .
ففي نشوز المرأة قال تعالى: (وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) [سورة: النساء - الآية: 34]
فالآية صريحة في أن الإنسان يجب عليه أن يعالج الخطأ بمجرد أن يشعر به ولا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل .
وفي نشوز الرجل وإعراضه عن المرأة أرشد الكتاب والسنة الصحيحة المرأة أن تبادر إلى المصالحة مع زوجها إن خشيت أن يطلقها ولا تنتظر حتى تقع المفارقة .
قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [سورة: النساء - الآية: 128]
((2/344)
حديث ابنِ عَبّاسٍ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال :«خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلّقَهَا النّبيّ ( ، فَقَالَتْ: لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ} فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ مِنْ شَيْء فَهُوَ جَائِزٌ» .
قال تعالى: (وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) [سورة: النساء - الآية: 34]
بينت الآية الكريمة إجراءات علاج نشوز المرأة على الترتيب الاتي :
(1) يبدأ بالموعظة الحسنة فإن استجابت فبها ونعمت ، وإن لم تجدي نفعاً فبالهجر في المضجع فإن لم تجدي نفعاً في بالضرب الغير مبرح في غير الوجه .وأما عدد الضرب فلا يجوز أن يزيد على عشر ضربات .
(حديث عبد الله بن زمعة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم).
(حديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله).
مسألة : ما معنى قوله تعالى (وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ) ؟
معنى قوله تعالى (وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ) : أي لا تجامعها في فراشك سواء نمت معها في الحجرة أو في حجرةٍ أخرى ، لأن الله تعالى قال : (وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ) والمضاجع جمع مضجع ، فلا يلزم أن ينام معها في نفس الفراش ، وقد هجر النبي ( نساءه فلم يدخل عليهن شهرا .
((2/345)
حديث أم سلمة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( حلف أن لا يدخل على بعض أهله شهرا، فلما مضى تسعة وعشرون يوما غداعليهن أو راح، فقيل له: يا نبي الله حلفت أن لا تدخل عليهن شهرا؟. فقال: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما).
مسألة : هل نقر الكفار و الكتابين على نكاحهم ؟
الصحيح في هذه المسألة : أننا نقرهم على نكاحهم بشرطين متلازمين :
( 1) يعتقدون صحته في شرعهم
( 2) أن لا يرتفعوا إلينا لنحكم بينهم
ويدل ذلك أن النبي ( أخذ الجزية من مجوس هجر ولم يتعرض لأنكحتهم مع العلم بأن المجوس كانوا يجوزون نكاح ذوات المحارم مثل ( أن ينكح الرجل أخته أو عمته أو خالته أو ابنته ) و العياذ بالله .
مسألة : فإن ترافعوا إلينا لنحكم بينهم فهل نقرهم على نكاحهم ؟
إذا ترافعوا إلينا لنحكم بينهم وجب علينا أن نحكم بينهم بالقسط ولا نلتفت إليهم ،
لقوله تعالى :( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ)
[المائدة /42]
مسألة : لو أسلم الزوجان معاً هل يُقَرَّ على نكاحهما الأول ؟
نعم يُقَرَّ على نكاحهما الأول لأنهما لم يختلفا ديناً .
مسألة : لو تزوج رجل و امرأة كتابيان وأسلم الرجل و بقيت المرأة على دينها ، هل يُقرَّان على نكاحهما الأول ؟
نعم نقرهما على نكاحهما الأول لأن المسلم يجوز له أن يتزوج كتابية .
مسألة : إذا تزوج كتابيان و أسلمت المرأة وبقي الرجل كتابياً فهل يظلان على نكاحهما ؟
يبطل النكاح ، لأنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج الكتابي .
لقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ لاَ هُنّ حِلّ لّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ) [الممتحنة / 10]
مسألة : إذا أسلمت المرأة قبل الرجل ، ثم أسلم الرجل بعدها وكانا متزوجان ، فهل يُقرَّان على نكاحهما الأول ؟(2/346)
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة أنهما يُقرَّان على نكاحهما الأول ولا نُحدِّثُ نكاحاً جديداً .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال : ردَّ رسول الله ( ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول و لم يُحدث نكاحاً .
مسألة : اذكر جملة من آداب الجماع ؟
( 1) تُسن التسمية عند الجماع :
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :لو أن أحدكم إذا أتي أهله قال : بسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا،فإنه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضره شيطانٌ أبداً)
( 2) يُكره النزع قبل فراغها ، أي قبل أن تُنزل لأنه يحرمها من كمال الإستمتاع ، وربما يحصل لها ضرراً إذا كان الماء متهيأ للخروج ثم ينزع الرجل قبل إنزالها ، و النبي ( قال : ( لا ضرر ولا ضرار )
{ تنبيه } :( أما حديث ( ثم إذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها ) فهو ضعيف .
( 3) أن يتعاهد الجماع في بعض الأيام وليس كل يوم :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : زُر غِباً تزدد حُباً )
( 4) يكره كثرة الكلام عند الجماع ، لأن لكل مقامٍ مقال :
أما حديث ( لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء فإن منه يكون الخرس والفأفأة )فهو ضعيف .
( 5) يحرم الوطء بمرأى أحدٍ أو مسمعه إلا إذا كان طفلاً لا يدري ولا يتصور ما يُفعل .
( 6) يحرم التحدث بجماع أهله عند أصحابه :
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها .
( 7) ويجوز له أن يجمع بين وطء نسائه في غسل واحد :
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) قال : النبي ( يدور على نسائه في الساعة الواحدة، من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة، وفي رواية تسع نسوة ، قال: قلت لأنس: أو كان يُطيقُه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين.
((2/347)
8) إذا أراد أن يعاود الجماع يُستحب له أن يتوضأ :
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ .
مسألة : ما هي الأمور التي تُباح في الجماع ؟
(1) ويباح للرجل في جماع زوجته جسد امرأته كله- إلا الدبر- مقبلة أو مدبرة، لقوله تعالى: ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) [البقرة: 223].
(حديث جابر بن عبد الله الثابت في الصحيحين ) * أن يهود كانت تقول إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول قال فأنزلت ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم )
تحريم الدبر :
وأما تحريم الدبر فالنصوص دالة عليه.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضاً أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أُنزل على محمدٍ ( .
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه-: أن رجلاً قال له: آتي امرأتي أنى شئت، وحيث شئت، وكيف شئت؟ قال: نعم، فنظر له رجل فقال له : إنه يريد الدبر!
قال عبد الله: محاش النساء عليكم حرام .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : ملعون من أتى امرأته في دبرها .
وأما الاستمتاع بالإليتين ، وجعل الذكر بينهما ، فلا شيء فيه ، وهو مباح كما ما لم يولج في الدُبُر.
(2) جواز التجرد من الثياب عند الجماع وحكم نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسة
وأما تجرد الزوجين عند الجماع فجائز،
( لحديث عائشة- رضي الله عنها- الثابت في الصحيحين ) أنها قالت: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من جنابة" .
قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري )) (1/ 290):(2/348)
" استدل به الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه، ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق: سليمان بن موسى، أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته ، فقال: سألت عطاء، فقال: سألت عائشة، فذكر هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة ". قلت: ويدل عليه أيضاً حديث معاوية بن حيدة الآتي :
( حديث معاوية بن حيده رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قيل : إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال : إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قيل : إذا كان أحدنا خاليا ؟ قال : الله أحق أن يستحيا منه من الناس .
{ تنبيه } :وأما ما روى عنه صلى الله عليه وسلم في أنه قال:(إذا أتى أحدكم أهله، فليلقى على عجزه وعجزها شيئاً، ولا يتجردا تجرد العيرين)) . فمنكر، ولا يصح في المنع حديث.
(3) استحباب الوضوء لمن جامع وأراد المعاودة :
ويستحب الوضوء لمن جامع امرأته، وأراد أن يعاودها قبل أن يغتسل: فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود، فليتوضأ))
(4) طواف الرجل على نسائه بغسل واحد :
ويجوز للرجل أن يطوف على نسائه- يجامعهن- بغسل واحد:
(لحديث أنس- رضى الله عنه- الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( كان
يطوف على نسائه بغسل واحد .
( وحديث عائشة- رضى الله عنها-:الثابت في صحيح البخاري ) قالت :
كنت أطيب رسول الله ( فيطوف على نسائه ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً .
وقد أورد النسائي- رحمه الله- هذا الحديث في سننه (( المجتبى ))،في باب: (الطواف على النساء في غسل واحد).
قال الإمام السندي- رحمه الله- في حاشيته على (( سنن النسائي )):
((قوله: (ينضح) أي يفوح،... وأخذ منه المصنف وحدة الاغتسال ، إذ العادة أنه لو تكرر الاغتسال عدد تكرر الجماع لما بقى من أثر الطيب شيء، فضلاً عن الانتفاح )).
{(2/349)
تنبيه } : وأما ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال- في الغسل عند كل
مرة يجامع ((هذا أزكى وأطهر)). فلا حجة فيه لضعفه، ولمخالفته الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في طوافه على نسائه بغسل واحد كما في الحديث الآتي :
(حديث عائشة- رضى الله عنها-:الثابت في صحيح البخاري ) قالت :
كنت أطيب رسول الله ( فيطوف على نسائه ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً .
(5) وجوب الغسل بالتقاء الختانين :
يجب على الزوجين الغسل بالتقاء الختانين ، وإن كسلا فلم ينزلا .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل .
{ جهدها } أي بلغ منه الجهد حال المعالجة والإدخال .
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل .
{ تنبيه } :لا يحصل التقاء ختان الرجل بختان المرأة إلا بتغيب حشفة الرجل في
فرج المرأة ، لأن ختان الرجل فوق الحشفة ، وعلى هذا فيُحمل مس الختان على أنه مس وتغييب للحشفة بدلالة الحديث الآتي :
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل .
(6) تحريم إتيان المرأة وهي حائض :
مسألة : ما هو حكم من أتى حائضاً ؟
المسألة على التفصيل :
إن اعتقد حلَ الجماع للحائض في فرجها كان كافراً لاستحلاله شيئاً حرمه الله تعالى .
وإن فعله غير معتقداً حِله : فإن كان ناسياً أو جاهلاً فلا إثم عليه ،
( لحديث أبي ذر الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
وإن تعمد ذلك فإنه يحرم جماع الحائض لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } [البقرة: 222].
((2/350)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضاً أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أُنزل على محمدٍ ( .
(حديث أنس الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : اصنعوا كل شئٍ إلا النكاح . [ أي إلا الوطء]
مسألة : ما هي كفارة من أتى حائضاً ؟
من غلته نفسه فأتى الحائض قبل أن تطهر من حيضها، فعليه أن يتصدق يتصدق بدينار أو بنصف دينار .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : في الذي يأتي امرأته وهي حائض ، يتصدق بدينار أو بنصف دينار .
{ تنبيه } :التخير في حديث ابن عباس راجع إلى التفريق بين أول الدم وآخره لما
ثبت في صحيح أبي داوود موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أصابها في فور الدم تصدق بدينار ، وإن كان في آخره فنصف دينار ، والدِّينار: العُملة من الذَّهب، وزِنَةُ الديِّنار الإسلاميِّ مثقالٌ من الذهب، والمثقالُ غرامان وربع، والجنيه السعودي: مثقالان إلا قليلاً، فنصف جنيه سعودي يكفي، فيُسأل عن قيمته في السُّوق.
فمثلاً: إذا كان الجنيه السعودي يساوي مائة ريال، فالواجب خمسون أو خمسة وعشرون ريالاً تقريباً، ويُدفع إلى الفقراء.
مسألة : المرأةُ إذا وُطئت في فرجها وهي حائض هل عليها كفارة ؟
إن كان باختيارها كان عليها كفارة لأن شروط الكفارة ( أن يكون الإنسان عالماً ، ذاكراً ، مختاراً )
وإن كانت مكرهة فليس عليها كفارة .
( لحديث أبي ذر الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
مسألة : ما الذي يحلُ للرجل من زوجته وهي حائض ؟
يجوز للرجل من زوجته وهي حائض كل جسدها إلا الفرج والدبر، فأما الفرج فلورود الأمر من الكتاب والسنة باعتزاله في الحيض ، وأما الدبر فلما ذكرناه آنفاً من الأدلة.(2/351)
ويحل للرجل أن يستمتع بجسد امرأته- إلا ما ذكرنا- كيفما شاء
(لحديث أنس الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : اصنعوا كل شئٍ إلا النكاح . [ أي إلا الوطء]
(حديث عائشة- رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا، فأراد رسول الله (أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضتها ، ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه.
فيجوز للرجل أن يتلذذ بجسد امرأته كله إلا الفرج في وقت حيضتها .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله ( أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها قالت وأيكم يملك إربه كما كان النبي ( يملك إربه .
مسألة : إذا استمتع الزوج بزوجته فيما بين الفخذين هل يجب على أحدهما الغسل؟
لا يجب على أحدهما غسلُ إلا إذا حدث إنزال .
مسألة : متى يجوز إتيانها إذا طهرت :
فإذا طهرت من حيضها، وانقطع الدم عنها، جاز له وطؤها بعد أن تغسل موضع الدم منها فقط، أو تتوضأ أو تغتسل، أي ذلك فعلت، جاز له إتيانها، لقوله تعالى : ?فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحبّ المتطهرين?.
مسألة : إذا انقطع الدم ولم تغتسل المرأة ماذا يحل لها ؟
لا يحلُ إلا الصيام والطلاق :
دليل الصيام :
أنها إذا انقطع الدم ولم تغتسل تكون كالجنب ، والجنب يصح منه الصوم .
( حديث عائشة متفق عليه ) قالت : كان رسول الله ( يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم .
الدليل على جواز الطلاق إذا انقطع الدم .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما متفق عليه ) أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ( فسأل عمر بن الخطاب رسول الله ( عن ذلك فقال رسول الله (
مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء .(2/352)
مسألة : هل يجوز جماع المرأة إذا انقطع الدم قبل أن تغتسل ؟
لا يجوز ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تَقْرَبُوهُنّ حَتّىَ يَطْهُرْنَ) [ البقرة / 222]
والتطهر لا يكون إلا من حدث ، وهذا حدثٌ أكبر لا يحصل التطهر منه إلا بغسل
لقوله تعالى : ( وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطّهّرُواْ ) [ المائدة /6]
(فدل على أن الطهارة من الحدث الأكبر لا تكون إلا بالغسل )
(7) يجوز جماع المستحاضة :
( لحديث فاطمة بنت أبي جيش الثابت في الصحيحين ) قالت : يا رسول الله إني امرأة ُاُستحاضُ فلا أطهر أفأدعُ الصلاة قال إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهبت قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي .
قال الإمام الشافعي- رحمه الله- في ((الأم)) (1/ 50):
" لما أمر الله تعالى باعتزال الحيض، وأباحهن بعد الطهر والتطهير، ودلت السنة على أن المستحاضة تصلي ، دل ذلك على أن لزوج المستحاضة إصابتها- إن شاء الله تعالى- لأن الله أمر باعتزالهن وهن غير طواهر، وأباح أن يؤتين طواهر)).
(8) تحريم نشر أسرار الاستمتاع بين الزوجين إلا لمصلحة شرعية :
ويحرم على الزوج- وكذلك على الزوجة- نشر ما يكون بينهما من أسرار الاستمتاع.
( لحديث أبي سعيد الخدري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها .
قال الإمام النووي- رحمه الله- في " شرح صحيح مسلم " (3/610): ((في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك ، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل أو نحوه ".
ولكن يجوز نشر مثل هذه الأسرار لمصلحة شرعية .
فهؤلاء هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يذكرن هديه صلى الله عليه وسلم في معاشرته ، وتقبيله ومباشرته لهن ، وذلك كله لرجحان المصلحة من ذكره.
بل أبلغ من ذلك:
((2/353)
حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله ( أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها قالت وأيكم يملك إربه كما كان النبي ( يملك إربه .
فدل ذلك على جواز ذكر ما يدور بين الرجل والمرأة من أسرار الجماع للمصلحة الشرعية الراجحة من ذكرها.
وهذا ما فهمه الإمام النسائي، فذكر هذا الحديث في ((عشرة النساء )) من ((السنن الكبرى )) ، وبوب له: (الرخصة في أن يحدث الرجل بما يكون بينه وبين زوجته) .
نهى النبي ( المرأة أن تصف المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها ، فلربما وقعت في قلبه ،
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا تباشرُ المرأةُ المرأةَ فتنعتها لزوجها كأنه ينظرُ إليها )
مسألة : هل يجب على الزوج أن يساوي بين زوجاته في القسم ؟
نعم يجب ذلك ، لقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء / 19]
وليس من المعروف أن يقسْم لهذه ليلة و لهذه ليلتين ، وحذر النبي ( من الميل إلى إحدى الزوجات عن الأخرى .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة و شقُه مائل )
( شقُه مائل ) أي أحدى جنبيه و طرفه مائل أي مفلوج ،
والله تعالى يقول : (وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً) [النساء/ 129]
و المراد بالعدل هنا : في القسم و الإنفاق لا في المحبة لأنها مما لا يملكه )
مسألة : لو تبرعت إحدى الزوجات بيومها إلى أخرى فهل يجوز ذلك ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أنه يجوز ذلك .
((2/354)
حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كان رسول الله ( إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسمُ لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبتغي بذلك رضا رسول الله .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) خَشيَت سودةُ أن يطلقها النبي ( فقالت : (لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ} )
مسألة : ما هو عماد القسم ؟
من كان عمله بالنهار ( يكون القسم بالليل )
ومن كان عمله بالليل ( يكون القسم بالنهار )
مسألة : هل يقسم الرجل لحائض أو نفساء ؟
نعم يقسم الرجل للحائض و النفساء ، وإن كان لا يتمتع بالوطأ ، لأن القسم هو أن يأتي إليها و ينام عندها ويؤنِسُها .
{ تنبيه } النفساء إذا كانت في بيت زوجها فلها القسم ، وأما إذا كانت في بيت أهلها فلا تُلزمه بالقسم ولا تطالبه بالقضاء على ما فات )
مسألة : لو كانت امرأةٌ كبيرة في السن وقال لها زوجها إني لا أريد أن أقسم لك ، فهل تُحبين أن تبقي عندي في عصمتي بدون قسم وإلا طلقتك ، واختارت أن تبقى في عصمته بدون قسم ، فهل يجوز ذلك ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أن هذا جائز .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) خَشيَت سودةُ أن يطلقها النبي ( فقالت : (لاَ تُطَلّقْنِي وَأَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ} )
مسألة : هل يجوز أن يبدأ بإحداهن في القسم بدون قُرعة ؟
لا يجوز إلا برضاهن ، لأن البدأ بها تفضيلٌ لها و التسوية واجبة .
مسألة : هل يجوز أن يسافر بإحداهن بدون قرعة ؟(2/355)
لا يجوز إلا برضاهن ، لأن السفربإحداهن بدون قرعة تفضيلٌ لها و التسوية واجبة .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) قالت : كان رسول الله ( إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسمُ لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبتغي بذلك رضا رسول الله .
مسألة : إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها فهل لها قسم ؟
لو سافرت بغير إذنه فليس لها ( قسم ولا نفقة ) لأنها ناشز من ناحية ، ولأنها فوتت فرصة الإستمتاع مختارة لذلك .
المقصود ( بليس لها قسم ) أي لا يلزمه القضاء إذا رجعت من السفر لأنها هي التي اختارت ذلك .
مسألة : إذا سافرت بإذنه في حاجة خاصة بها مثل أن تزور والديها ، فهل لها قسم ؟
ليس لها قسم في الأيام التي سافرت فيها ، بمعنى أنها لا تلزمه بقضاء هذه الأيام وذلك لأنها اختارت ذلك بسفرها ، ولكن لها النفقة ، لأنها سافرت بإذنه .
مسألة : إذا كان للإنسان اماء كثيرة فهل يجب أن يقسم بينهن ؟
لا يجب عليه أن يقسم بينهنَّ ، بل يطأ من شاء متى شاء .
لقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ) (النساء / 3)
فدلَّ ذلك على أن ملك اليمين لا يجب فيه القسم وكذا أمهات الأولاد لا يجب القسم بينهن .
مسألة : من هي أم الولد ؟
أم الولد : هي الأمة إذا ولدت من سيدها تسمى أم ولد ، وبعد وفاة سيدها تُصبح حرة .
مسألة : إن تزوج الرجل بكر وعنده زوجات كيف يقسم ؟
يقيم عند البكر سبعاً ثم يقسم .
(حديث أنس الثابت في الصحيحين ) قال : من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاث ثم قسم.
مسألة : إذا تزوج ثيباً و عنده زوجات كيف يقسم ؟
يقيم عندها ثلاثة ثم يقسم .
((2/356)
حديث أنس الثابت في الصحيحين ) قال : من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاث ثم قسم.
مسألة : ما هي الحكمة من الفرق بين البكر و الثيب في ذلك ؟
(الحكمة في ذلك لأمرين :
( 1) رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب فأعطاه الشارع مهلة حتى تطيب نفسه .
( 2) أن البكر تنفر من الرجل أكثر من نفور الثيب ، فجعلت هذه المدة حتى تطمئن ولا تنفر من الزوج .
مسألة : لو أحبت الزوجة الثيب أن يقيم الزوج عندها أكثر من ثلاث ، هل يجوز ذلك ؟
يجوز ذلك ، بشرط أن يقضي مثلهن لبقية الزوجات ، بمعنى أنه إذا أقام عندها سبعاً يقيم عند كل زوجة سبعاً .
( حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال : ليس بك على أهلكِ هَوَان ، إن شئتِ سبَّعتُ لكِ ، وإن سبَّعتُ لكِ سَّبعتُ لنسائي .
مسألة : ما الحكمة في أن الزوج إذا سبع للثيب سبع للباقيات ، مع أن حقها ثلاث فيكون الزائد على حقها أربعة أيام ؟
الحكمة أولاً : هي قول النبي ( في حديث أم سلمة رضي الله عنها .
( حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( لما تزوجها أقام عندها ثلاثا وقال : ليس بك على أهلكِ هَوَان ، إن شئتِ سبَّعتُ لكِ ، وإن سبَّعتُ لكِ سَّبعتُ لنسائي .
ثانياً : ولأنها لما أخذت الزيادة على الأخريات وكانت الأخريات في انتظار الزوج أن يأتي لهن عن قريب ، صار نصيبها أن حصل لها سبع أيام ، ثم هي في الحقيقة لا تُجبر على ذلك بل باختيارها فلا ظلم عليها .
مسألة : ما معنى الإيلاء ؟
الإيلاء لغة : اليمين ، ومنه قوله تعالى : (لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ)
[البقرة / 226]
الإيلاء شرعا : هو حلف الرجل ألا يطأ زوجته مدة دون الأربعة أشهر ،(2/357)
قال تعالى: (لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطّلاَقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 227:226]
(حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( حلف لا يدخلُ على بعض أهله شهراً ، فلما مضى تسعةٌ وعشرون يوماً غداً عليهن أوراح ، فقيل له : يا نبي الله حلفت أن لا تدخل عليهن شهراً ، قال : إن الشهر يكونُ تسعةً وعشرين يوماً .
مسألة : هل يصحُ الإيلاء من مجبوب ؟
المجبوب : هو مقطوع الذكر .
و المجبوب لا يصح منه إيلاء لأن المتناع هنا بسبب العجز و ليس لليمين .
مسألة : ما هي الفيئة في قوله تعالى (فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ ) ؟
الفيئة هنا : أن يطأ الرجل زوجته في قُبلها ، ويكفي تغييب الحشفة لأنه به يكون جماعاً ، وبه يجب الغسل ،
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحابن ماجه ) أن النبي ( قال : إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل .
مسألة : لو مرًّ أربعة أشهر ولم يرجع الرجل فماذا يصنع؟
لو مرًّ أربعة أشهر ولم يرجع الرجل فإنه لا يحل له إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أنه كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله:لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق كما أمر الله عز وجل.
مسألة : ما هو الظهار؟
الظهار لغةً : مشتق من الظهر ، وخٌصَّ به من بين سائر الأعضاء لأنه موضع للركوب ، ولذك سُمِيَ المركوب ظهرا ، والمرأة مركوبة إذا غُشِيت .
مسألة : ما هو حكم الظهار؟
الظهار محرم بالكتاب والسنة والإجماع(2/358)
دليل الكتاب : أن الله تعالى سماه [مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً] قال تعالى: (الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مّا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ إِنْ أُمّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ) [سورة: المجادلة - الآية: 2]
ودليل السنة : (حديث بن عباس الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي فذكر ذلك له فقال ما حملك على ذلك فقال يا رسول الله رأيت بياض حجليها في القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها فضحك رسول الله وأمره ألا يقربها حتى يكفر .
(حجليها) : أي خلخالها
مسألة : هل يصح الظهار من المرأة ؟
لا يصح الظهار من المرأة لأن الله تعالى خصَّه بالرجال لقوله تعالى ((الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ)ولا يكون عليه كفارة ولكن يكون عليه كفارة يمين .
مسألة : هل يصح أن يكون الظهار مؤقتاً بشهرٍ مثلاً كأن يقول لامرأته أنت عليّ كظهر أمي حتى يمضي رمضان ؟
يصح يصح أن يكون الظهار مؤقتاً بشهرٍ بنص السنة الصحيحة :
( حديث سَلْمَانَ بنَ صَخْرٍ الأنْصَارِيّ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أنه جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ حَتّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ. فَلَمّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلاً. فَأَتى رسُولَ الله ( فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فقَالَ لَهُ رسولُ الله ( «أَعْتِقْ رَقَبَة» قالَ: لاَ أَجِدُهَا. قالَ «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» قالَ: لاَ أسْتَطِيعُ. قالَ: «أطِعمْ سِتّينَ مِسْكِيناً» قالَ: لاَ أَجِدُ. فقَالَ رسولُ الله ( لِفَرْوَةَ بنِ عَمْروٍ «أعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ (وهُوَ مِكْتَلٌ يأخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً أوْ سِتّةَ عَشَرَ صَاعاً) إطْعَامَ سِتّينَ مِسْكِيناً».
مسألة : متى تثبت في الذمة كفارة المظاهر؟(2/359)
لا تثبت إلا بالوطأ ، والوطء هو (العَوْد) المذكور في قوله تعالى: (وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة: المجادلة - الآية: 3]
مسألة : هل تكون الكفارة قبل الوطء؟
دل الكتاب والسنة الصحيحة على أن الكفارة تكون قبل الوطء :
قال تعالى : (وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة: المجادلة - الآية: 3]
(حديث بن عباس الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي فذكر ذلك له فقال ما حملك على ذلك فقال يا رسول الله رأيت بياض حجليها في القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها فضحك رسول الله وأمره ألا يقربها حتى يكفر .
مسألة : لو جامع امرأته قبل أن يُكَفِّر فهل عليه كفارةٌ واحدة أم كفارتان ؟
دلت السنة الصحيحة على أن عليه كفارةٌ واحدة :
(حديث سلمة بن صخر البياضي الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) عن النبي * في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال كفارة واحدة .
مسألة : إذا كرر الظهار هل يلزمه كفارةٌ لكل واحدة؟
إذا كفَّر عن الأول كفَّر عن الثاني وإن لم يكفِّر عن الأول تجزئ كفارةٌ واحدة لأن التكرارلا يؤثر في تحريم الزوجة.
مسألة : لو قال لزوجاته الأربع أنتنّ علىّ كظهر أمي فما الكفارة؟
كفارةٌ واحدةٌ لأن الظهار واحد .
مسألة : لو قال لكل واحدة أنتِ علىّ كظهر أمي فما الكفارة؟
لكلِ واحدةٍ كفارة لتعدد الظهار
مسألة : لو هل كفارة الظهار على الترتيب أم التخيير؟
دل الكتاب والسنة الصحيحة على أن كفارة الظهار على الترتيب :(2/360)
قال تعالى: (وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا فَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة: المجادلة – الآيتان 4،3 ]
( حديث سَلْمَانَ بنَ صَخْرٍ الأنْصَارِيّ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أنه جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ حَتّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ. فَلَمّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلاً. فَأَتى رسُولَ الله ( فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فقَالَ لَهُ رسولُ الله ( «أَعْتِقْ رَقَبَة» قالَ: لاَ أَجِدُهَا. قالَ «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» قالَ: لاَ أسْتَطِيعُ. قالَ: «أطِعمْ سِتّينَ مِسْكِيناً» قالَ: لاَ أَجِدُ. فقَالَ رسولُ الله ( لِفَرْوَةَ بنِ عَمْروٍ «أعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ (وهُوَ مِكْتَلٌ يأخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً أوْ سِتّةَ عَشَرَ صَاعاً) إطْعَامَ سِتّينَ مِسْكِيناً».
مسألة : متى تجب الرقبة؟
ولا تجب الرقبة إلا على من يملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها فاضلاً عن كفايته دائماً وكفاية من يمونه وعما يحتاجه من مسكن وخادم ومركوب وعرض بذله وثياب تجمل ومال يقوم كسبه بمؤنته وكتب علم ووفاء دين.
مسألة : ما الشروط الواجب توافرها في الرقبة التي يحررها؟
الشروط الواجب توافرها في الرقبة التي يحررها :
(1) يشترط في الكفارات كلها أن تكون رقبة مؤمنة(2/361)
والدليل أن الله تعالى اشترط أن تكون الرقبة مؤمنة في كفارة القتل الخطأ قال تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ) [سورة: النساء - الآية: 92]
الشاهد : لما كانت كفارة القتل الخطأ مقيدة ب(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ) وكفارة الظهار مطلقة (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) حملنا المطلق على المقيد .
(2) يشترط كذلك أن تكون الرقبة سليمة من عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً كالعمى والشلل وليد أو رجل أو أقطعهما أو أقطع الأصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام أو الأنملة من الإبهام أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة ولا يجزيء مريض ميؤوس منه ونحوه حتى ما يكون عالةً على غيره بعد عتقه.
مسألة : ماذا يشترط لصحة التكفير بالصوم ؟
يشترط لصحة التكفير بالصوم ما يلي :
(1) ألا يقدر على العتق لأن كفارة الظهار على الترتيب وليس على التخيير :
قال تعالى: (وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا فَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة: المجادلة – الآيتان 4،3 ]
((2/362)
حديث سَلْمَانَ بنَ صَخْرٍ الأنْصَارِيّ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أنه جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ حَتّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ. فَلَمّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلاً. فَأَتى رسُولَ الله ( فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فقَالَ لَهُ رسولُ الله ( «أَعْتِقْ رَقَبَة» قالَ: لاَ أَجِدُهَا. قالَ «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» قالَ: لاَ أسْتَطِيعُ. قالَ: «أطِعمْ سِتّينَ مِسْكِيناً» قالَ: لاَ أَجِدُ. فقَالَ رسولُ الله ( لِفَرْوَةَ بنِ عَمْروٍ «أعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ (وهُوَ مِكْتَلٌ يأخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً أوْ سِتّةَ عَشَرَ صَاعاً) إطْعَامَ سِتّينَ مِسْكِيناً».
(2) أن يصوم شهريين متتابعيين لا يفصل بين أيام الصيام إلا بصومٍ واجب كصوم رمضان أو فطر يجب كعيد وأيام تشريق أو الإفطار لعذرٍ يبيحه كالسفر والمرض فالإفطار في هذه الأحوال لا يقطع التتابع.
(3) أن ينوي الصيام من الليل لأنه صيام فرض :
( حديث حفصة الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : ( من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له )
(يُجِْمع ) من الإجماع وهو إحكام النية و العزيمة .
مسألة : ما هي شروط إطعام ستين مسكينا؟
شروط إطعام ستين مسكينا :
(1) ألا يقدر على الصيام لأن كفارة الظهار على الترتيب وليس على التخيير :
قال تعالى: (وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسّا فَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة: المجادلة – الآيتان 4،3 ]
((2/363)
حديث سَلْمَانَ بنَ صَخْرٍ الأنْصَارِيّ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أنه جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمّهِ حَتّى يَمْضِيَ رَمَضَانُ. فَلَمّا مَضَى نِصْفٌ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ عَلَيْهَا لَيْلاً. فَأَتى رسُولَ الله ( فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فقَالَ لَهُ رسولُ الله ( «أَعْتِقْ رَقَبَة» قالَ: لاَ أَجِدُهَا. قالَ «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» قالَ: لاَ أسْتَطِيعُ. قالَ: «أطِعمْ سِتّينَ مِسْكِيناً» قالَ: لاَ أَجِدُ. فقَالَ رسولُ الله ( لِفَرْوَةَ بنِ عَمْروٍ «أعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ (وهُوَ مِكْتَلٌ يأخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً أوْ سِتّةَ عَشَرَ صَاعاً) إطْعَامَ سِتّينَ مِسْكِيناً».
(2) أن يكون المسكين المطعم مسلماً حراً يجوز دفع الزكاة له .
(3) أن يكون مقدار ما يُدفع لكل مسكين لا ينقص عن مُد من البُر ونصفُ صاعٍ من غيره.
مسألة : هل يشترط في إطعام ستين مسكينا أن يكون العدد ستين؟
الصحيح أنه يشترط في إطعام ستين مسكينا أن يكون العدد ستين لقوله تعالى (فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً) فلو أطعم ثلاثين على يومين لم يجزئ لآن الله تعالى نص على الستين إلا إذا لم يجد أحداً فيكرر الثلاثين مرتين لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها . قال تعالى: (لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا) [سورة: البقرة - الآية: 286]
مسألة : ما هو الطعام الذي يُطعم به الستين مسكينا ؟
يجزئ أي شيء يكون طعام للناس لأن الله تعالى ذكر الإطعام ولم يذكر نوع الطعام فيرجع ذلك إلى العرف والعرف جائزٌ فيما ليس فيه تحديدٌ شرعي ، وعلى هذا يجوز إطعامهم من الأرز وما شابه ذلك .
مسألة : ما هو مقدار الإطعام لكل مسكين؟
مقدار الإطعام لكل مسكين نصف صاع ، كما ثبت في بعض الروايات الثابت في الصحيحين ، و الإطعام يكون مما يطعمه الناس ( بُر / تمر / شعير / الخ )
مسألة : ما هو الطلاق لغةً وشرعا؟(2/364)
الطلاق لغةً : مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال والترك تقول أطلقت الأسير إذا حللت قيده وأرسلته .
الطلاق شرعا : حل رابطة النكاح وإنهاء العلاقة الزوجية .
مسألة : هل يجوز الطلاق قبل النكاح ؟
لا يجوز الطلاق قبل النكاح لقوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً) [سورة: الأحزاب - الآية: 49]
الشاهد : قوله تعالى [إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ] فإن (ثُمّ) تقتضي الترتيب .
( حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :«لا نَذْرَ لاِبنِ آدمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ».
(حديث عليّ الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال : لا طلاق قبل النكاح.
مسألة : ما حكم الطلاق ؟
الطلاق يجري فيه الأحكام التكليفية الخمسة (الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة)
فالأصل فيه أنه مكروه لقوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُواْ الطّلاَقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة: البقرة - الآية: 227]
الشاهد : قوله تعالى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيه شيئٌ من التهديد فدل ذلك على أن الطلاق ليس محبوباً لله تعالى ، ولما في الطلاق من شتات الأسرة وضياع المرأة ، أما حديث أبغض الحلال عند الله الطلاق فإنه ضعيف.
مسألة : متى يكون الطلاق واجباً ؟
يكون الطلاق واجباً بأحد أمرين :
(1) إذا مضت مدة الإيلاء (الأربعة أشهر) وأبى الفيئة قال تعالى: (لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ* وَإِنْ عَزَمُواْ الطّلاَقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة: البقرة - الآيتان: 226 ، 227]
((2/365)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أنه كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله:لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق كما أمر الله عز وجل .
(2) إذا اختلت عفة المرأة فإنه يجب عليه الطلاق فلو كانت المرأة تفعل الفاحشة فإنه يجب عليه أن يطلقها وإلا كان ديوثاً ، وله عضلها في هذه الحالة والتضييق عليهالتفتدي منه.
( حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر وعاق والديه و الديوث الذي يُقِرَُ في أهله الخُبث .
مسألة : متى يكون الطلاق مندوباً ؟
يكون الطلاق مندوباً عند تفريط المرأةُ في حقوق الله الواجبة عليها مثل الصلاة ونحوها ، ولا يمكنه إجبارها عليه ، ويكون مندوباً أيضاً في حالةالشقاق إذا لم ينفع الصلح بين الزوجين.
مسألة : متى يُحَرَّم الطلاق ؟
يُحَرَّم الطلاق إذا كان طلاقاً بدعيا
{ تنبيه } :( قد يكون الطلاق بدعياً بالوقت أو بالعدد ، فيكون بدعياً بالوقت مثل أن يطلقها وهي حائض أو يطلقها في طُهْرٍ جامعها فيه ، ويكون بدعياً بالعدد مثل أن يطلقها أكثر من واحدة مثل أن يقول : أنتِ طالق طلقتين أو يقول : أنتِ طالق ثلاثا .
مسألة : متى يكون الطلاق مباحا ؟
يكون الطلاق مباحا للحاجة أي لحاجة الزوج مثل أن لا يستطيع الصبر على امرأته ، فقد لايتمكن الإنسان من البقاء مع هذه الزوجة لسوء خلقها .
والدليل قوله تعالى: (يَأيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ) [ الطلاق / 1]
الشاهد : أن الله تعالى لم يق لا تطلقوا النساء بل قال (فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ) فدل على جواز الطلاق عند الحاجة .(2/366)
وهذا من حكمة الإسلام البالغة لأن الرجل إذا أمسك المرأةَ وهو لايُطِيقها بغضاً يحصل لها من التعاسة ما الله به عليم ، أما إذا طلقها فلعل الله تعالى أن يرزقها برجلٍ صالح ويرزقه هو بامرأةٍ صالحة ، و الله تعالى يقول: (وَإِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) [سورة: النساء - الآية: 130]
مسألة : ما حكم من سألت زوجها طلاقاً من غير بأس ؟
( حديث ثوبان الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :أيُما امرأةٍ سألت زوجها طلاقاً من غير بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنة.
مسألة : متى يُستَحب الطلاق ؟
يُستَحب الطلاق إذا تضررت المرأةُ بالنكاح فإذا رأى الرجل أن زوجته متضررة بالنكاح منه فيُستَحب أن يطلقها ولو كان راغباً فيها لما في ذلك من الإحسان إليها .
مسألة : ممن يصح الطلاق ؟
يصح الطلاق من [ زوج مكلف ومميز يعقله]
مسألة : ما الدليل على اشتراط أن يكون الرجل زوج ليصح منه الطلاق ؟
الدليل على اشتراط أن يكون الرجل زوج ليصح منه الطلاق هو قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً) [سورة: الأحزاب - الآية: 49]
الشاهد : قوله تعالى [إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ] فإن (ثُمّ) تقتضي الترتيب .
( حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :«لا نَذْرَ لاِبنِ آدمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ عِتْقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ، ولاَ طَلاَقَ لَهُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ».
(حديث عليّ الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال : لا طلاق قبل النكاح.
مسألة : ما معنى المكلف و ما الدليل على اشتراط أن يكون الرجل مكلف ليصح منه الطلاق؟(2/367)
معنى مكلف : أي بالغ عاقل
و الدليل على اشتراط أن يكون الرجل مكلف (بالغ عاقل ) ليصح منه الطلاق
( حديث علىَ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :
«رُفِعَ القَلَمُ عنْ ثَلاَثةٍ، عنْ النّائِمِ حتّى يَسْتَيقِظَ، وعنْ الصّبيّ حَتّى يحتلم، وعنْ المجنون حتّى يُفيق»
مسألة : من زال عقله باختياره كالسكران هل يقع منه الطلاق ؟
الصحيح أنه لا يقع منه الطلاق لأنه زال عقله حال السكر ، ثم هو إذا أثم عوقب على إثمه ، لكن إذا تكلم بدون عقل فكيف نلومه على كلامٍ لا يعقله ، هذا يخالف قول النبي ( إنما الأعمال بالنيات .
( حديث عمر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )
مسألة : من أُكره على الطلاق هل يقع منه الطلاق ؟
لا يقع طلاق المكره
( حديث أبي ذر الغفاري الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال :إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
مسألة : ما هو ضابط الإكراه ؟
ضابط الإكراه : إما بالإيلام بالضرب أو بالتهديد من إنسان يغلبُ على ظنه أنه يضره في نفسه أو ماله.
مسألة : هل يقع طلاق الغضبان؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) إذا وصل الغضب إلى حالة تزيل العقل بحيث إن الرجل لا يدري ما يقول فإنه لا يقع منه الطلاق لأنه مسلوب الإرادة وهو في إغلاق .
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال : لا طلاق ولا عتاق في إغلاق .
(2) إذا كان الغضب في ابتدائه بحيث يدري ما يقول ويقصد الكلام فهذا يقع طلاقه اتفاقاً لأنه غير مغلق عليه .
((2/368)
3) أن يكون الغضب بين بين (ليس هو في حالة تزيل عقله بحيث يكون مغلقاً عليه ولا هو في بداية الغضب ) ولكن كان غضبه شديد فلم يملك نفسه وطلق لشدة غضبه ، لأنه ليس كلُ إنسانٍ يملك نفسه عند الغضب ولذا قال النبي ( : ليس الشديد بالصرعة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
[وهذا النوع من الغضب : في وقوع الطلاق من صاحبه خلاف بين أهل العلم ، والأقرب للصواب – والعلم عند الله- أنه لايقع ، وهواختيار ابن القيم رحمه الله تعالى.
مسألة : هل يقع طلاق الهازل؟
نعم يقع طلاق الهازل بنص السنة الصحيحة
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال ثلاث جِدهُنَّ جِد وهَزْلِهُن جِد النكاح والطلاق والرجعة .
مسألة : ما هي أقسام الطلاق ؟
ينقسم الطلاق إلى أربعة أقسام رئيسية :
(1) من حيث اللفظ : ينقسم إلى (صريح وكناية)
(2) من حيث التعليق والتنجيز : ينقسم إلى (منجز ومعلق)
(3) من حيث السنة والبدعة : ينقسم إلى (سني وبدعي)
(4) من حيث الرجعةوعدمها : ينقسم إلى (رجعي وبائن)
ينقسم الطلاق من حيث اللفظ إلى (صريح وكناية)
مسألة : ما هو الطلاق الصريح؟
الطلاق الصريح : هو الذي يُفهم منمعنى الكلام عند التلفظ به ولا يحتمل غيره ، مثل طالق أو مطلّقة .
مسألة : هل الطلاق الصريح يحتاج إلى نية ؟
الصحيح أن الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية وذلك لأنه فراقٌ معلقٌ على لفظ فحصل به وليس عملاً يُتقرب به إلى الله تعالى فيحتاج إلى نية .
مسألة : ما هو الطلاق بالكناية؟
الطلاق بالكناية : هو التلفظ بألفاظ تحتمل الطلاق وتحتمل غيره ولهذا يفتقر إلى نية مثل ألحقي بأهلك ونحوه .
فكلمة ألحقي بأهلك قد يقصد بها الطلاق وقد لا يقصد بها الطلاق كأن يقول ألحقي بأهلك حتى أعود من السفرِ مثلاَ .
((2/369)
مثال لكلمة ألحقي بأهلك و قد يقصد بها الطلاق :
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن ابنة الجون، لما أدخلت على رسول الله ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك فقال لها: (لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك).
( مثال لكلمة ألحقي بأهلك و لا يقصد بها الطلاق :
(حديث كعب ابن مالك الثابت في الصحيحين ) أن رسول الله ( أرسل إليه أن اعتزل امرأتك، فقال: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها. فقال لامرأته: الحقي بأهلك.
مسألة : ما هو الطلاق المنجز؟
الطلاق المنجز : هو الذي قصد به من أصدره وقوعه في الحال مثل أن يقول لزوجته أنتِ طالق .
مسألة : ما حكم الطلاق المنجز؟
حكم الطلاق المنجز : يقع في الحال
مسألة : ما هو الطلاق المعلّق ؟
الطلاق المعلّق: هو تعليق الطلاق على شرط مثل أن يقول لزوجته (إن ذهبت إلى مكان كذا فأنتِ طالق)
مسألة : ما حكم الطلاق المعلّق ؟
حكم الطلاق على التفصيل الآتي :
(1) إن قصد به المنع فقط أي قصد بذلك أن يمنع زوجته فلا يُعد هذا طلاقا
(2) وإن الطلاق عند وقوع الشرط فهو طلاق
مسألة : ما هو الطلاق السني ؟
الطلاق السني : هو أن يطلقها طلقةً واحده في طهرٍ لم يجامعها فيه أو يطلقها وهي حامل .
قال تعالى: (يَأيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ) [سورة: الطلاق - الآية: 1]
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :أنه طلق امرأته وهي حائض، على رسول الله وسلم ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عن ذلك، فقال رسول الله : (مره فليرجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).
( حديث بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أنه طلق امرأته وهى حائض فذكر ذلك عمر للنبي فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا .
مسألة : ما هو الطلاق البدعي؟(2/370)
الطلاق البدعي : هو المخالف للسني مثل أن يطلقها أكثر من طلقة أو يطلقها وهي حائض أو في طهرٍ جامعها فيه.
مسألة : ما حكم الطلاق البدعي؟
حكم الطلاق البدعي : حرام ويأثم صاحبه .
مسألة : هل يقع الطلاق البدعي ؟
[*] اختلف أهل العلم في وقوع الطلاق البدعي فقال بعضهم (ومنهم الأئمة الأربعة) أنه يقع واحتجوا ب(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :أنه طلق امرأته وهي حائض، على رسول الله وسلم ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عن ذلك، فقال رسول الله : (مره فليرجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).
الشاهد : قوله ( [مره فليرجعها] والمراجعة لاتكون إلا بعد وقوع الطلاق .
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أنه قال : حُسِبت عليّ تطليقة .
[*] وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : طلاق الحيض لايقع وهو الصحيح واستدل على ذلك بأن طلاق الحيض ليس عليه أمر الله ورسوله لن الله تعالى يقول (فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ) [سورة: الطلاق - الآية: 1]
والنبي ( أخبر أن يطلقها في طهرٍ لم يجامعها فيه .
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :أنه طلق امرأته وهي حائض، على رسول الله وسلم ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عن ذلك، فقال رسول الله : (مره فليرجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).
( حديث بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أنه طلق امرأته وهى حائض فذكر ذلك عمر للنبي فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا .
[ وكلُ عملٍ ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد]
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .(2/371)
مسألة : كيف نرد على الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة في أدلتهم على وقوع طلاق الحائض ؟
الرد من وجهين :
أولاً : هم يستدلون بقوله ( ( مُره فليراجعها ) و يقول أن الرجعة تكون بعد الطلاق ، ونقول بتوفيق الله تعالى : أن المراجعة في الكتاب و السنة لا تعني المرجعة في الإصطلاح ( وهي ردُّ الرجعية إلى النكاح ) بل هي أعمُ من ذلك .
لقوله تعالى: (فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [البقرة / 230]
الشاهد : قوله تعالى [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ] فإن المراجعة هنا ليست مراجعة من طلاق بل هو ابتداء نكاح ، فدّل على أن المراجعة في الكتاب والسنة لا تعني المراجعة في الإصطلاح والتي هي ردَّ الرجعية إلى زوجها بل هي أعم من ذلك .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) قال : فردها ولم يرها شيئا .
{ تنبيه } :( هذه المسألة هامةٌ جداً وينبغي على طالب العلم أن يهتم بها اهتماماً بليغاً لأن الاحتياط فيها متعذر .
ينقسم الطلاق من حيث الرجعة وعدمه إلى طلاقٍ رجعي وبائن .
مسألة : ما هو الطلاق الرجعي ؟
الطلاق الرجعي : [هو الذي يملك الزوج فيه حق الرجعة]
(ولكي يكون الطلاق رجعياً لابد من توافر ثلاث شروط فيه :
(1) يكون طلاق المدخول بها : فإن كان قبل الدخول لم يكن رجعياً لأنها ليس لها عدة فتكون بائنة .
(2) ألا يكون الطلاق على عِوض وإلا كان خلعاً وكانت بائنة .
(3) ألا يكون بتَّ الطلاق أي طلق ثلاثا وإلا كانت بائنةً بينونةً كبرى .
مسألة : ما هو الطلاق البائن؟
الطلاق البائن: [هو الذي لايملك الزوج فيه حق الرجعة]
(وله أربعة صور :
((2/372)
1) أن يطلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً ثم لا يراجعها في العدة فتنقضي عدتها فتبين منه بانقضاء العدة وتكون هذه بينونة صغرى ، وإذا أراد أن يعود إلى زوجته فلها القبول والرد ، وفي حالة القبول يكون الزواج بعقدٍ ومهرٍ جديدين .
(2) أن يطلق زوجته على عِوض فتكون خلعاً وهذا أيضاً بينونة صغرى كالحالة الأولى .
(3) أن يبتَّ طلاقها أي يطلقها ثلاثاً ، فتبين منه (بينونة كبرى) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره زواجاً صحيحاً يجامعها فيه .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، أن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وأني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة، قال رسول الله : (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته).
[وإنما معه مثل الهدبة] : تقصد أن ذكره مثل الهدبة (الشراشيب) في الإسترخاء وعدم الإنتشار ، وكأنها ادعت عليه العنة .
مسالة : ما معنى (لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) ؟
دلت السنة الصحيحة على أن العُسَيْلةَ الجماع
( لحديث عائشة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : العُسَيْلةَ الجماع .
مسألة : ما حكم الطلاق الرجعي ؟
الطلاق الرجعي يُنقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل على امراته ، وللزوج مراجعة زوجته في العدة في أي وقت شاء وبغير إذنها لقوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً) [سورة: البقرة - الآية: 228]
مسألة : ما حكم الطلاق البائن ؟
المسألة على التفصيل :
(1) إذا كانت البينونة صغرى ، فإنه يزيل قيد الزوجية ، وإذا أراد أن يعود إلى زوجته فلها القبول والرد ، وفي حالة القبول يكون الزواج بعقدٍ ومهرٍ جديدين .
((2/373)
2) إذا كانت البينونة كبرى مثل أن يبتَّ طلاقها أي يطلقها ثلاثاً ، فإنه يزيل قيد الزوجية، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره زواجاً الثابت في صحيحاً يجامعها فيه .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، أن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وأني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة، قال رسول الله : (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته).
مسألة : هل يجوز لإنسان أن يتزوج امرأةً ليحللها لزوجها الأول ؟
يحرم ذلك قطعاً ، وأن هذا هو التيس المستعار بنص حديث النبي ( .
( حديث عليّ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :
لعن الله المحلِّل والمحلَّل له .
( حديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال :ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل ، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له .
مسألة : لو طلق إنسانٌ امرأته ثلاثاً ثم نكحت بعده زوجاً آخر ، ثم طلقها فعادت للأول فهل لها ثلاث طلقات أم طلقةٍ واحدة ؟
لها ثلاث طلقات لأنها الطلاق من جديد وذلك لأن النكاح الثاني له تأثير وهو أنه أحلها للأول ، ولأن الزوج الثاني هدم الطلاق الذي حصل من الأول .
مسألة : هل الطلاق الثلاث يقع ؟
الصحيح أن الطلاق الثلاث لا يقع لأنه طلاقاً بدعياً ، والصحيح أن الطلاق البدعي لايقع لأنه ليس عليه أمر الله ورسوله لأن الله تعالى يقول (فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ) [سورة: الطلاق - الآية: 1]
[ وكلُ عملٍ ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد]
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .
أما ما حصل من عمر رضي الله تعالى عنه فهو اجتهادٌ منه غايته أن يكون سائغاً لمصلحةٍ رآها .
((2/374)
حديث بن عباس الثابت في صحيح مسلم ) قال * كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم .
مسألة : لو شك الرجل في الطلاق ها طلق واحدةً أم اثنين ماذا يفعل ؟
لو شك الرجل في الطلاق ها طلق واحدةً أم اثنين يكون الطلاق واحدةً عملاً باليقين وطرحاً للشك .
(حديث عبد الله ابن زيد الثابت في الصحيحين ) أنه شكا إلى رسول الله : الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: (لا ينفتل - أو: لا ينصرف - حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا).
(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي ( قال : دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة .
مسألة : ما هي الرجعة؟
الرجعة : هي إعادة المطلقة طلاقاً رجعياً إلى زوجها بغير عقد.
مسألة : ما الدليل على أنها يراجعها بغير عقد ؟
الدليل قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً) [سورة: البقرة - الآية: 228]
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما متفق عليه ) أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ( فسأل عمر بن الخطاب رسول الله ( عن ذلك فقال رسول الله ( مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء .
( حديث عمر الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :طلق حفصة ثم راجعها .
مسألة : ما لفظ الرجعة ؟
تحصل الرجعة بلفظ راجعت امرأتي ونحوه مثل رددتها وأمسكتها .
مسألة : هل يُسنُ الإشهاد على الرجعة؟
نعم يُسنُ الإشهاد على الرجعة لقوله تعالى : (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مّنكُمْ) [سورة: الطلاق - الآية: 2]
((2/375)
حديث عمران بن حصين الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد .
(يقع بها) : أي يجامعها
(ولا تعد) : أي ولا تعد إالى عدم الإشهاد
مسألة : هل الرجعية زوجة ؟
الرجعية زوجة بنص كتاب الله تعالى لقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً) [سورة: البقرة - الآية: 228]
الشاهد : أن الله تعالى سمَّاه بعلاً زوجا مع أنه مُطَلِّق فدل على أنها زوجة .
مسألة : هل يجوز للرجعية أن تتكشف له وأن ينفرد بها ؟
يجوز للرجعية أن تتكشف له وأن ينفرد بها لأنها زوجة .
مسألة : ما هو الخلع ؟
الخلع» بالفتح والضم، أما بالضم فهو المعنى، وأما بالفتح فهو الفعل، مثل: الغَسل، والغُسل، الغُسل للمعنى، والغَسل للفعل.
والخلع شرعا [فراق الزوج زوجته على عوض].
والمقصود به هو فداء المرأة نفسها من زوجها، وعلى هذا فكل لفظ يدل على الفراق بالعوض فهو خلع، وهذا هو المروي عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن كل ما دخل فيه العوض فليس بطلاق،
مسألة : ما حكم الخلع ؟(2/376)
إن كان لسبب شرعي(أي لسبب تنقص به العشرة ولا يمكنها المُقَام مع الزوج فلها ذلك، فلها أن تطلب الخلع). ، مثال ذلك: امرأة كرهت عشرة زوجها، إما لسوء منظره، أو لكونه سيئ الخلق، أو لكونه ضعيف الدين، أو لكونه فاتراً دائماً، ولهذا قالت امرأة ثابت بن قيس بن شماس ـ رضي الله عنهما ـ للنبي : «يا رسول الله ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين ـ فهو مستقيم الدين، مستقيم الخلق ـ ولكني أكره الكفر في الإسلام، تعني بالكفر عدم القيام بواجب الزوج، كما قال : «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» وليس مرادها أن تكفر بالله ـ عزّ وجل ـ، بل تكفر بحق الزوج، لأنها قالت: في الإسلام، و«في» للظرفية، وهذا يعني أن إسلامها باقٍ، وفي بعض الروايات شددت في هذا حتى قالت: لولا مخافة الله لبصقت في وجهه من شدة بغضها له، ولا يُستغرب، فالنساء لهن عواطف جياشة كرهاً وحباً، فقال لها النبي : «أتردين عليه حديقته» ، والحديقة هي المهر، حيث كان قد أمهرها بستاناً، فقالت: نعم، فقال النبي لثابت: «خذ الحديقة وطلقها» فأخذها وطلقها.
الشاهد من هذا الحديث : أنها قالت: «لا أعيب عليه في خلق ولا دين»،
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله : (أتردين عليه حديقته). قالت: نعم، قال رسول الله : (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة). لا شك أنه يستحب للزوج أن يوافق، وهو خير له في حاله ومستقبله، لقوله تعالى: {{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ}} [النساء: 130]
(وإن كان لغير سبب فليس لها ذلك :
( حديث ثَوْبَانَ الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : «أيّمَا امْرَأةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاَقاً مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنّة».
((2/377)
حديث ثوبان الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :
المختلعات هن المنافقات .
( المختلعات هن المنافقات ) أي اللاتي يطلبن الخلع والطلاق من أزواجهن لغير عذر هنّ منافقات نفاقاً عملياً .
مسألة : هل الخلع فسخاً أم طلاقا؟
الصحيح أن الخلع فسخاً وليس طلاقا (بمعنى أنه لا يُعَدُ من الطلقات الثلاث) وهذا هو المنقول عن ترجمان القرآن ، فالخلع فسخاً وإن وقع بلفظ الطلاق .
( مما يدل لذلك أن الله تعالى قال : (الطّلاَقُ مَرّتَانِ) ثم ذكر الإفتداء ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ثم عقب بقوله تعالى: (فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [سورة: البقرة - الآيتان:229، 230]
الشاهد : لو كان الخلع طلاقاً محسوباً لكان الطلاق الذي لا تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ هو الطلاق الرابع ، وليس كذلك .
مسألة : ما هي عدة المختلعة؟
عدة المختلعة حيضة بنص السنة الصحيحة :
( حديث بن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي ( عدتها حيضة .
مسألة : ما هي العِدَة لغة وشرعا ؟
العدة لغة : مفرد عِدد ، وهي ملأخوذة من العدد و الإحصاء ، أي ما تحصيه المرأة و تعده من الأيام و الأقراء .
العِدَة شرعا : هي اسمٌ للمدة التي تنتظر فيها المرأةُ وتمتنع من التزويج بسبب فراق زوجها إما فرقة حياة أو موت .
{ تنبيه } :( فرقةالحياة تحصل إما بالطلاق أو الخلع أو الفسخ .
مسألة : ما حُكْمُ العِدَة ؟
العدة واجبة لقوله تعالى: (وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [سورة: البقرة - الآية: 228](2/378)
الشاهد : قوله تعالى(يَتَرَبّصْنَ) وهو خبر بمعنى الأمر وإنما جاء بصيغة الخبر لإقراره وتثبيته كأنه أمرٌ مفروغٌ منه، وكذا قوله تعالى قال تعالى: (وَأُوْلاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ) [سورة: الطلاق - الآية: 4]
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قالت: أُمرت بريرة أن تعتد بثلاث حِيَض.
الشاهد : [أُمرت] أمر والأصل في الأمر الوجوب .
مسألة : ما هي أنواع العِدد ؟
أنواع العِدد يتوقف على ما إذا كانت المرأةُ مدخولاً بها أم غير مدخولٍ بها .
مسألة : ما عِدةُ المدخول بها ؟
المرأة المدخول بها لها أربعُ عدات بحسب حالتها :
( 1) الحامل ، وعدتها بوضع الحمل ، و تسمى أمَّ العدات لأنها تقضي على كل عدة :
لقوله تعالى: (وَأُوْلاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق / 4]
(حديث المسور بن مخرمه الثابت في الصحيحين ) أن سُبيعة الأسلمية نُفست بعد وفاة زوجها بليالٍ فجاءت إلى النبي ( فاستأذنته أن تُنكح فُنكحت .
( 2) المتوفي عنها زوجها : وهي على التفصيل الآتي :
أولاً : إن كانت حاملاً ، عدتها بوضع الحمل :
(حديث المسور بن مخرمه الثابت في الصحيحين ) أن سُبيعة الأسلمية نُفست بعد وفاة زوجها بليالٍ فجاءت إلى النبي ( فاستأذنته أن تُنكح فُنكحت .
ثانياً : إن كانت حائلاً غير حامل : عدتها أربعة أشهر و عشراً
لقوله تعالى: (وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة /234]
ثالثاً : عدة الحائل ( غير الحامل ) ذاتُ الحيض :
ذات الحيض : أي التي ، وعدتها ثلاث حيض .
لقوله تعالى: (وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة / 228](2/379)
الشاهد : ( قروء) جمع قرء ، و القرء على الصحيح هو الحيض لأنه قول عشرة من الصحابة من بينهم الخلفاء الراشدين الأربعة ، فلا قولَ لأحدٍ معهم إلا إذا كان كتاب الله و سنة نبيه معه ،لقوله ( : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين )) فدَّل ذلك على أن سنتهم من سنته ( .
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) قالت : أُمرت بريرة أن تعتدَّ بثلاثِ حِيَضْ .
رابعاً : عدةُ الآيسة وكذا الصغيرة التي لا تحيض ، ثلاثة أشهر :
( الآيسة : الكبيرة التي يئست من المحيض )
لقوله تعالى: (وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّتِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق / 4]
مسألة : ما عِدةُ غير المدخول بها ؟
عِدةُ غير المدخول بها على التفصيل الآتي :
(1) إذا كانت فرقة حياة ، فلا عدة عليها .
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً) [الأحزاب / 49]
وإن كانت فرقة ممات : فعليها عدة المتوفى عنها زوجها ، لعموم قوله تعالى: (وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)
[البقرة /234]
( حديث ابن مسعود الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أنه قال في رجلٍ تزوج امراةً فمات ولم يدخل ، ولم يفرض لها ، لها الصداق وعليها العدة ولها الميراث.
مسألة : هل يجب على المعتدة أن تلزم بيت الزوجية ؟
الذي دلَّ عليه الكتاب و السنة الثابتة الصحيحة أنه يجب على المعتدة أن تلزم بيت الزوجية .(2/380)
قال تعالى: (يَأيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ وَأَحْصُواْ الْعِدّةَ وَاتّقُواْ اللّهَ رَبّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) [الطلاق / 1]
( حديث فُريْعة بنت مالك الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أَنّ زَوْجَهَا خَرَجَ في طَلَبِ أعْبدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ. قَالتْ: فَسَأَلتُ رسولَ الله ( أَنْ أرْجعَ إِلَى أهْلِي. فَإِنّ زَوْجِي لَمْ يَتْركْ لِي مَسْكَناً وَلاَ نَفَقة. فقَالَ «نَعَمْ». فلما كُنْتُ في الْحُجْرَةِ نَادَانِي فقالَ : امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أجَلَهُ. قَالتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً. قَالتْ: فقَضَى به بعد ذلك عُثمَانُ .
مسألة : ما هو الإحداد، وعلى من يجب ؟
الإحداد هو : ترك الزينة و الطيب ، ولبس الحُلي ولبس الملون من الثياب و الخضاب و الكحل ، و الإحداد يجب على المتوفى عنها زوجها حتى تنقضي عدتها :
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين ) قالت : كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر، إذا اغتسلت إحدانا من محيضها، في نُبْذة من كست أظفار، وكنا ننهى عن اتباع الجنائز.
مسألة : هل للمعتدة نفقة ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) المطلقة طلاقاً رجعياً يجب لها النفقة ما دامت في العدة لأنها زوجة :
لقوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوَاْ إِصْلاَحاً) [البقرة / 228]
(فدلَّ ذلك على أنها زوجة .
((2/381)
2) والمطلقة طلاقاً بائناً ، سواء كان بينونة صغرى أم كبرى ، فلا نفقة لها ولا سكنى إلا إذا كانت حاملاً فينفق عليها حتى تضع حملها .
( حديث فاطمة بنت قيس الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : إنما النفقة و السكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرَّجعة .
والدليل على أن المطلقة طلاقاً بائناً إذا كانت حاملاً ينفق عليها حتى تضع حملها .
قال تعالى: (وَإِن كُنّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنّ حَتّىَ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ)
[ الطلاق / 6]
مسألة : ما هو الإستبراء ؟
الإستبراء لغةً : التميز والقطع ، يُقال برئ اللحم من العظم إذا قُطع منه وفُصل .
الإستبراء شرعا : تربصُ يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك يمين .
( حديث رُوْيْفع الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسقي ماءَهُ زرعَ غيره .
( حديث أبي سعيد الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : لا توطأ حامل حتى تضع و لا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة .
مسألة : إذا كانت الأمة آيسة فكيف تُستبرئ ؟
تُستبرأ الأمة الآيسة : بمضي شهر ، لقيامُ الشهر مقام الحيضة في العدة .
مسألة : ما هي الحضانة ؟
الحضانة لغة : مشتقة من الحضن و هو الجنب ، لأن المربي يضمُ الطفل إلى حضنه ، و الحاضنة هي المربية .
الحضانة شرعا : هو حفظ الطفل عما يضره ، و القيام بمصالحه .
مسألة : إذا فارق الرجل زوجته ، فهل هو أحق بالحضانة أم أُم الولد ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة :
أن الرجل إذا فارق زوجته وله منها ولد ، فهي أحقُ به إلى سبع سنين ، مالم تُنكح ، فإذا بلغ سبع سنين خُيَّر بين أبويه فأيهما اختار ذهب به .
((2/382)
حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داوود ) أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاءً وثديي له سقاءاً وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني ، فقال لها رسول الله أنت أحق به ما لم تَنْكحي .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) جاءت امرأة إلى النبي ( فقالت : إن زوجي يريد أن يذهب بابني فقال : ياغلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به .
مسألة : ما هي شروط التخيير ؟
للتخيير شرطان :
(1) أن يكون الأبوان من أهل الحضانة
(2) أن يكون الغلام عاقلاً ، فإن كان معتوهاً مثلاً بقى عند الأم لأنها أشفق عليه و أقوم بمصالحه .
{ تنبيه } :( وإذا اختار الغلام أباه ، صار عنده ليلاً ونهاراَ ليحفظه و يعلمه ويؤدبه ، لكن لا يمنعه من زيارة أمه لأن منعه من ذلك تنشئة له على العقوق و قطيعة الرحم .
وإن اختار أمه صار عندها ليلاً و عند أبيه نهاراً ليعلمه ويؤدبه ، و إن لم يختر واحداً منهما ، أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر إلا بالقرعة.
مسألة : إذا بلغت الأنثى سبع سنين فهل تكون عند الأب أم عند الأم ؟
إذا بلغت الأنثى سبع سنين فإنها تكون عند أبيها إلى أن يتسلمها زوجها ، لأنه أحفظُ لها وأحقُ بولايتها من غيره .
ولا تمنع الأم من زيارتها مع عدم المحذور .
فإن كان الأب عاجزاً عن حفظ البنت أو لا يبالي بها لشغله أو قلة دينه ، و الأم أصلح لحفظها فإنها تكون عند أمها .
مسألة : ما هو الرضاع ؟
الرضاع لغة : مصُ اللبن من الثدي أو شربه .
الرضاع شرعا : مصُ أو شرب مَنْ دون الحولين لبناً اجتمع عن حمل .
مسألة : ما حكم الرضاع ؟
حكم الرضاع حكم النسب في النكاح و الخلوة المحرمية و جواز النظر .
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : يحرُمُ من الرَّضاع ما يحرُمُ من النسب .
مسألة : ما هو شروط الرضاع التي تثبت به المحرمية ؟
له شرطان متلازمان :
((2/383)
1) أن يكون خمسُ رضعات فأكثر :
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) قالت : كان فيما أنزل من القرآن عشْرَ رضعات يُحِّرمنَّ، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات ، فتوفي رسول الله ( وهي مما يقرأ من القرآن .
{ تنبيه } :( معنى ( فتوفي رسول الله ( وهي مما يُقرأ من القرآن )
المعنى أن النسخ تأخر حتى أن رسول الله ( توفي وبعض الناس لم يعرف ، فكان يقرأها على أنها آية من كتاب الله و إنما نسخ لفظها و بقى حكمها .
(2) أن تكون الخمس رضعات في الحولين أي في زمن الفطام :
لقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمّ الرّضَاعَةَ) [البقرة /233]
(حديث أم سلمة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : لا يُحِّرم من الرضاعة إلا ما فتَّقَ الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام .
مسألة : ما حَدُّ الرضعة ؟
الظاهر أن الرضعة هي أن يأخذ الصبي الثدي و يمتص منه اللبن ولا يتركه إلا طائعاً من غير عارض يعرضُ له ، فلو مصَّ مصةً أو مصتين فإن ذلك لا يُحرِّم لأنه دون الرضعة ولا يؤثر في الغذاء .
( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لا تُحِّرم المصَّة ولا المصَّتان)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : إنما الرضاعة من المجاعة .
مسألة : ما هي مدى الحُرمة التي تسببها الرضاعة ؟
متى أرضعت المرأة طفلاً دون الحولين خمس رضعات فأكثر صار الولد المرتضع ولدها في التحريم أي في تحريم نكاحها عليه وفي إباحة نظره إليها و خلوته بها ، ويكون محرماً لها ،
قال تعالى: (وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء / 23]
ولا يكون ولداً لها في بقية الأحكام ، فلا تجب نفقتها عليه ولا توارث بينهما ولا يكون ولياً لها .
والسبب في ذلك :
أن النسب أقوى من الرضاع فلا يساويه إلا فيما ورد فيه النص وهو التحريم ، وما يتفرع منه من المحرمية و الخلوة .(2/384)
مسألة : هل يثبت الرضاع بشهادة امرأة فقط ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة :
أن الرضاع يثبت بشهادة امرأة واحدة فقط .
( حديث عقبة بن الحارث الثابت في صحيح البخاري ) أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب: قال: فجاءت أمة فقالت: قد أرضعتكما،فسأل النبي ( فقال : كيف وقد قيل ، ففارقها عقبة فنكحت زوجاً غيره .
مسألة : إن شك في وجود الرضاع أو شك في كمال خمس رضعات و ليس هناك تبيين فما الحكم ؟
الحكم أنه لا تحريم لأن الأصل عدم الرضاع .
مسألة : ما الذي يلزم الزوج من النفقة لزوجته ؟
يلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً، وكسوةً، وسكناها بما يصلح لمثلها
مسألة : لو حصل نزاع في نفقة المرأة ووصل النزاع إلى القاضي فهل يعتبر حال الزوج أو الزوجة؟
الصواب أن المعتبر حال الزوج عند النزاع ، فإن كان الزوج غنياً ألزم بنفقة غني، وإن كان فقيراً ألزم بنفقة فقير، ولم يلزم بنفقة غني ولا نفقة متوسط، حتى لو كانت هي غنية.
والله تعالى يقول: {{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}}، والعلة: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] ،
، والشرع إنما أوجب ما هو مستطاع {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7].
مسألة : هل يلزم الزوج مؤونة نظافة زوجته ؟
الصحيح أنه يلزم الزوج مؤونة نظافة زوجته أي: على الزوج كلفة نظافة الزوجة، كالماء، والسدر، والمشط، وأجرة الماشطة، ومنه الدهن والشامبو وما أشبه ذلك، فكل ما فيه نظافة الزوجة يلزم الزوج، والسبب أن هذا من النفقة، والواجب أن ينفق بالمعروف.(2/385)
قوله: «دون خادمها» أي: امرأة تخدمها، وظاهر هذه العبارة أنه لا يلزمه خادم لها، وليس الأمر كذلك، بل إن قوله: «دون خادمها» يدل على أن لها خادماً، ولكن المراد دون مؤونة نظافة خادمها، فنظافة الخادم ومؤونته على الزوجة، لا على الزوج، أو إذا كان الخادم له أجرة فمؤونته على نفسه.
مسألة : هل يلزم الزوج نفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها، وسكناها ؟
يلزم الزوج نفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها، وسكناها كالزوجة، والدليل قوله تعالى: {{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}} [البقرة: 228] .
وجه الدلالة من الآية أن الله سمى المطلقين بعولة، والأصل في الإضافة الحقيقة، فإذا قلت ـ مثلاً ـ: هذه دار زيد، فالأصل أن الدار له، إلاّ بدليل على أنها مستأجرة، أو مُعارة، أو غير ذلك، وعليه فالمطلقات الرجعيات في حكم الزوجات.
والرجعية هي التي طلقها زوجها في نكاح صحيح، على غير عوض، بعد الدخول .
مسألة : هل يلزم الزوج نفقة المطلقة طلاقاً بائنا، وسكناها ؟
المطلقة طلاقاً بائنا لا نفقة لها ولا سكنى إلاّ أن تكون حاملاً ، وإن لم تكن حاملاً فلا شيء لها، والدليل قوله تعالى: {{وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}} [الطلاق: 6] ، وأما التعليل فلأنها تحمل للمُفارِق جنيناً يجب عليه أن ينفق عليه، ولا طريق إلى الإنفاق على الجنين إلاّ بالإنفاق على أمه، وليس لها كذلك سكنى إلا أن تكون حاملاً .
(لحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ) قالت طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله سكنى ولا نفقة .
مسألة : لو صارت المرأة ناشزاً هل تسقط نفقتها ؟
النشوز لغة من النَّشَز هو الارتفاع، وفي الشرع: معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها، ومن ذلك إذا كانت تأبى إذا دعاها إلى فراشه، أو تأبى إذا منعها من الخروج، أو تأبى إذا ألزمها بالحجاب الشرعي الإسلامي.
المرأة إذا كانت ناشزاً فإنها تسقط نفقتها.
((2/386)
والخلاصة ـ على الأرجح ـ أن الأصل وجوب النفقة بمقتضى العقد، كما قال النبي : «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» ، وهذا الأصل لا يمكن سقوطه إلا بمقتضى دليل شرعي، والدليل الشرعي هو أن يقال: [هذه النفقة في مقابل الاستمتاع]، فمتى فوتت المرأة الاستمتاع أو كماله على الزوج بدون رضاً منه سقطت نفقتها، ومتى لم تفوته إلاّ بإذنه فإنها لا تسقط؛ لأنه راضٍ بذلك، هذه هي القاعدة التي هي مقتضى الأدلة الشرعية.
مسألة : المتوفى عنها زوجها هل لها نفقة أو سكنى؟
المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها، ولا سكنى، ولو كانت حاملاً، أما إذا لم تكن حاملاً فالأمر ظاهر؛ لأنها بانت، وأما إن كانت حاملاً فلا نفقة لها أيضاً.
فإن قيل: أي فرق بينها وبين البائن في حال الحياة ؟
الجواب: أن البائن في حال الحياة ـ إذا كانت حاملاً ـ أوجبنا الإنفاق على زوجها في ماله، وأمَّا المتوفى عنها زوجها فالمال انتقل للورثة فكيف نجعل النفقة في التركة؟! فنقول: لا نفقة لها وإن كانت حاملاً.
مسألة : متى تجب النفقة على المرأة ، هل هو بالخطبة أو بالعقد، أو بالدخول، أو بالتسليم ؟
أما الخطبة فلا تجب بها النفقة؛ لأنه لم يتم العقد ولا تكون بها زوجته، وأما العقد فتكون به زوجته، ولكن لا تجب به النفقة؛ لأنه لم يستمتع بها، والنفقة تكون في مقابل الاستمتاع بالزوجة.
وأما الدخول فإنه لا عبرة به أيضاً؛ لأنه إذا حصل الدخول المسبوق بالتسليم والتمكين فإن العبرة تكون بالتمكين، فإذا تسلمها، أو بذلت نفسها، وقالت: نحن مستعدون متى شئت، فإنه تجب نفقتها .
مسألة : ما هو اللعان ؟
اللعان لغة : مشتق من اللعن لأن الملاعن يقول في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .(2/387)
اللعان شرعا : أن يحلف الرجل إذا رمى زوجته بالزنا أربع مرات إنه لمن الصادقين ، و الخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ، وأن تحلف المرأة عند تكذيبه أربع مرات إنه لمن الكاذبين و الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .
مسألة : ما هي مشروعية اللعان ؟
إذا رمى الرجل امراته بالزنا و العياذ بالله ولم تقر هي بذلك ولم يرجع عن رميه ، فقد شرع الله اللعان .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي بشريك ابن سحماء، فقال النبي : (البينة أو حد في ظهرك). فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي يقول: (البينة وإلا حد في ظهرك). فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه قوله تعالى: (وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ) (وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) (وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ) فانصرف النبي فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب). ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لاأفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي : (أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء). فجاءت به كذلك، فقال النبي : (لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن).
((2/388)
تلكأت ) تباطأت عن الشهادة .
( نكصت ) احجمت عن استمرارها في اللعنة .
( لاأفضح قومي سائر اليوم ) أي لا أكون سبب فضيحتهم فيما بقى من الأيام حيث يعيرون بأن منهم امرأة زنت .
(أكحل العينين ) شديد سواد الجفون من غير كحل .
(سابغ الأليتين ) ضخمهما .
(خدلج ) ممتلئ .
مسألة : لو قذف رجل امرأته بالزنا فما الواجب نحوها ؟
(1) إما أن تُعدَّ هي بالزنا ، فيقام عليها الحد .
(2) أو يأتي هو بأربع شهداء ، فيقام عليها الحد .
(3) أو اللعان ، ويفترقان فرقة مؤبدة .
مسألة : ما هي شروط صحة اللعان ؟
شروط صحة اللعان :
(1) أن يكون بين زوجين :
لقوله تعالى: (وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) [النور / 6]
(2) أن يكون القذف بصريح الزنى ، فإن قال : قبَّلك فلان أو استمتع بك في غير وطأ ، فلا يدخل في اللعان .
(3) أن يكون الزوجان مكلفان :
( حديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
(4) أن يبدأ الزوج قبل المرأة .
لقوله تعالى: (وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ) 6(وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) 7 (وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) 8 (وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ)9 (النور )
(5) أن يقول الزوج أربع مرات ( أشهد بالله لقد زنت زوجتي ،ويسميها ، ويقول في المرة الخامسة ( أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين )
ثم تقول هي أربع مرات : أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا ، ثم تقول في الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .(2/389)
مسألة : أيهما أشد : اللعن أم الغضب ؟
الغضبُ أشد من اللعن ، وإنما الزمت بالغضب لأن زوجها أقرب إلى الصدق منها ، والزمت بالغضب أيضاً لأنها عالمة بحقيقة الأمر فإذا أنكرت الحق مع علمها استحقت الغضب ، ولهذا كان اليهود مغضوباً عليهم لأنهم علموا الحق و جحدوه ، فلما كان ذنبها مشبهاً لذنب اليهود استحقت الغضب .
مسألة : إذا ارتكبت الزوجة جريمة الزنا _ والعياذ بالله _ وتبين زوجها من زناها ، فهل يجب أن يطلقها زوجها ؟
إذا ارتكبت الزوجة جريمة الزنا والعياذ بالله _ والعياذ بالله _ وتبين زوجها من زناها ، فإنه يجب أن يطلقها زوجها للأسباب الآتية :
(1) حتى لا يكون ديوثاً والعياذ بالله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر و العاق و الديوث الذي يُقرُّ في أهلهِ الخَبث .
* روي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه .
((2/390)
2) ولأنها بارتكابها لجريمة الزنا الشنعاء النكراء _ والعياذ بالله _ قد قضت على العلاقة الزوجية وأتلفتها وطعنتها في مقتلٍ عظيم ، وقتلت المودةَ والرحمةَ بينهما ، وذبحت الثقةَ بينهما بسكين البأس * فتستحيل العشرة بينهما لأنها لم تخشَ ربها ، فَوَكَلَهَا إلى نفسها ، وسلبَ حفظَه عن فعلِها، فدمَّرت وأوبقت نفسَها حين دنست طهارةَ بيتها ، وانتهكت حُرمةَ زوجِها ، واستخفت بحقه ، وأسقطت هيبتة من عينها حين مَكَّنت غيرَه من نفسها ، فسقطت في الرذيلة بِوَحْلِهَا ، وَصَيَّرَتْه ذليلاً بين الناس بجُرْمها، وصارت عاراً عليه بفُحشها ، صيَّرت منزلتَه بين الناس ما بين مُشفقٍ عليه مُطْرِقِ الرأسِ صامت ، و متغامزٍ عليه للخوضِ في عِرْضِه متهافت ، وثالثٍ حقيرٍ فيه متشامِت ، ورابعٍ لئيم يَدَّعِي لها المروءةَ لأنه عن إخبار زوجها بفعلها ساكت ، ثم تراه يطلب منها المُقابِل ، لأنه لسكوته عن إخبار زوجها قابل ، فصارت تنتقلُ من دمارٍ إلى دمار ، ومن خِزيٍ إلى عار ، ومن عارٍ إلى شَنَار ، صار أشقى الناس بِجُرمها لأنه لم تُكْسَرْ شوكَتُه إلا بها ، كسر الله ظهرها ، وأعمى بصرها ، ودمَّر أعضاءَها ، وهتك سِتَرها ، وأخرجها من الدنيا كلِّها * فتعساً لها بشنيعِ فِعلها ، وسحقاً لها لشؤمِها ولؤمِها وخيانتِها لزوجها ، وتَبَّاً لها من امرأةً دنيئةٍ خسيسةٍ لم تخش ربها ولم تحفظ غَيبةَ زوجها * وتقشعرُ الفضيلةُ من فعلها ، واحتوتها الرزيلةُ لقبحها ، لم تمتثل للفضيلة طاعة ، ولها في الرزيلة باعا * * لما تَخَلَّت عن خشيةِ الرحمن وامتثال القرآن ، و لما جحدت قوله تعالى هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان ، وَكَلَها الملك الديَّان إلى العصيان والخذلان واستحواذِ الشيطان ، فصارت ممقوتةً عند ربها في كلِ زمان * قاتلها الله وصدَّع بنيانها ، وأتلفها وشَلَّ أركانها ، فلا تُؤتمنُ مثلُها ، ولا تُُصانُ من كانت على شاكِلَتِها ، لعن الله كل خائنة لعنةً(2/391)
تدخل معها قبرها وتهلكها عند عرضه على ربه .
* هذه الجِبِلة النَكِدة الشقية التَعِسة التي فيه عِوَجٌ لا يُرجَى اعتداله * لقد استبدلت بالاستقامة روغانَ الثعالب ، ورَاحَت تبحثُ عن المثالب ، ولولا أنها ألانَت الجانب ما اقترب منها أحدٌ من الأجانب ، ولا أظهروا لها المخَالب ، والحاصلُ :أنهم لم يفترسوها إلا لأنها كانتْ ممن (إذا خلوْا بمحارِم اللهِ انتهكوها) ، ولو كانت غيرَ ذلك ما اقترب منها هالك ، فلما قدَّمت اللين ، فعلوا بها الفعلَ المَشِين ، وخانت زوجَها الأمين ، فخَسِرت الدنيا والدين ، وتَعَرَضت إلى سخط الجبارِ ذِي القوةِ المتين ، صَبَّ الله عليها أشدَّ العذابِ في كلِ وقتٍ وحين ، وأذاقها ألواناً شَتى من العذاب المُهين * فلما خضعت بالقول أنشأت في نفسِ كلِ هالكٍ منها غَرَض وتناست أن الله تعالى يقول " فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ " * ولما زهدت في الأخلاقِ النبيلة ، واستوطئت الحِيلة ، وقعت في الرزيلة ، وكان عاقبتها وبيلا * ومن سَوادِ قلبها الحَاِلك ، مكَّنَت من نفسها خَبِيثاً مثلها هالك ، مكان زوجها المالك ، واستغفلت زوجها بذلك ، وقالت مستخفةً في نفسها : وكيف يعرِفُ زوجي ذلك ؟ وتناست أن ربَها مُطَّلِعٌ على كلِ ذلك ، وهو سبحانه أغيرُ على محارِمِه من زوجها المالك ، ولو شاء لهَتَكَ سِترَها ودمَّرَها ببطشِه الفَاِتك * و استهانت بمراقبةِ الملكِ الوهَّاب ، وتناست أن رؤيته لِجُرْمِها لا تُحْجَبُ بِحِجَاب ، وأصَرَّت على الخيانة دون إياب ، وخانت زوجها حال الغياب ، صَبَّ الله عليها ألوان العذابِ من كلِ باب ، وحَشَرَها يوم القيامة مع كلِ مُسْرِفٍ كذاب ، وأصْلاها نارَ جهنم يوم يقوم الحساب * جعلت الله أهون الناظرين إليها ، وهو سبحانه قادرٌ عليها ، ولو شاء لأهلكها ومن حَوَالَيْها ، وتناست مِنَتَه عليها بزوجٍ صالحٍ يأوي إليها ، وتحتمي به دون من حَوَالَيْها ،(2/392)
فبدَّلت الشكر الجزيل ، والعرفان بالجميل ، بالفعلِ الوبيل * * وبعد أن كانت في حَرَمِ زوجها جوهرةً مصونة ، ولؤلؤةً مكنونة ، صارت بفُحْشها خائنةً مفتونة ، وسِلْعَةً مَعْفُونة ، وسِيرتها بين الناسِ سِيِرَةً ملعونة * وبعد أن كانت في حُرمةِ زوجها في حِصنٍ ومَناعة ، صيََّرت نفسها كلأً مباحا ، وسلعةً متاحة * وبعد أن كانت مع زوجها في عزةٍ ووقار ، وسكينةٍ واستقرار ، ونقاءٍ يُشْبِهُ الأبرار ، صيَّرت نفسها في ذِلةٍ وَصَغَار ، وتَشَتُتٍ ودَمَار ، وخِزيٍ وعار ، كأنها مَطْلِيَةٌ بالقار * والحاصلُ أنها لمَّا جَحَدَت ما أنعم الله عليها من النِعَم وتناست ما غمَرها من المِنَنْ ، وألْقَت بنفسها في براثنِ الفتن ، صارت أهونَ على الله تعالى من الجِعْلان (الخُنفساء) التي تدفَعُ بأنفها النَتَن ، ولا عجَب فقد زهدت في الطهارة وغَرِقت في القذارة ، كحالِ الخُنفساء تماماً فإنها لاتجد بُغْيَتها إلا في مواضع القَذرِ والنَتَن ، وما ذلك إلا لِخِسَةِ نفْسِها ودناءةِ طَبْعِها وسواد قلبها ، ولو أحبها ربها لعَصًمَها وحَفَظَها عن سُوء فِعْلِها ، وكان سَمْعَها التي تسمعُ به وبصرَها التي تُبْصِرُ به ، ويدها التي تبطشُ بها ورِجلها التي تمشي بها ، ولئن سألته لَيُعْطِيَنَّها ، ولئن اسْتَعاذَته لَيُعِذَنَّها ، لكنه سبحانه أبْغَضَها لسوادِ قلبها فصارت أهونَ على الله تعالى من الجِعْلان (الخنفساء) التي تدفعُ بأنفِها النَتَن * وبعد أن كان زوجُها يفتخرُ بها ، ويتقرَبُ إلى الله بِودِّها ، ويبذلُ نفسَه من أجلها ، عسى الله أن ينفَعَه بها ، صار أشقى الناس بِجُرْمها ، وأبغضَ الناسِ لها ، وصار يختفي من ذِكْرِها ، ويتبرأ إلى الله من فِعلها ، وتقرَّب إلى الله بطلاقها ، وطهَّر اسمه من دنسِ الاقتران بها ، وكَرِه الدنيا كلِّها من أجلها ، فَلَيْتَهَا ماتت قبل ذلك ، قبل أن تُوْرِد نفسَها المهالك ، وتصيرَ مَطْمَعَاً لكلِ هالك * لم تعرف(2/393)
للطهارة طريقا ، ولم تسلك للنقاء سبيلا ، وليس بينها وبين الصدقِ قِيلا * كم أوصاها زوجها بفعل المأمور وتركِ المحظور والبعدِ عن دواهي الأمور ، وكم أوصاها أن تحفظ غَيْبَتَه في كلِ الأمور ، وأن لا تُشِينَ عِرْضه بأي محظور ، لكنْ لأن قلبَها خَرِبٌ وبور ، وما فيه من نور ، أَبَتْ كلَ ذلك وأصَرَتْ على الفجور ، مع خَبيثٍ مثلها مَحْقور ، وتناست أن الله تعالى يعلمُ خائنةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصدور ، فكيف بها إذا دخلت قبرها المحفور ، وما فيه من الدواهي والأمور ، تحت الجنادلِ والصخور ، ثم سُئِلت عن هذه الأمور، أم كيف بها حين تقفُ بين يدي ربها ويسألها عن هذه الأمور ، وما ارتكبته في حقِ زوجها المقهور ، والذي جعلته بفعلها مَنْحُور ، ثم لم تجد جواباً على هذه الأمور ، هنالك تعرفُ أنها ما كانت إلا في غرور ، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور ، ولا يُكْتَبُ بالسطور ، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور ، لا تجدُ للسؤالِ جوابا ، ولا للجواب صوابا ، ولا تملكُ توبةً أو مآبا ، فأُسقط في يَدَيْها ، ولا ينفَعُها من حَوَالَيْها ، فحينذاك تندمُ ندماً فوقَ ما يخطرُ ببالٍ أو يدورُ في الخيال ، لأنها بين يدي ربها الكبير المُتَعال ، بذنبها العِضَال ، لكنه ندمٌ لا يَنفعُ بأي حال ، فلا تُجْدِي هنالك الحسرات ولا تنفعُ الآهات ، ولا تنفعُ الحِيَلُ مع ربِ الأرضِ والسماوات ، لأن علمَه محيطٌ بكلِ شيءٍ ماضٍ وحاضرٍ وآت ، هنالك تعلم علم اليقين أن خيانتها لزوجها هي بئس الزاد ليوم الميعاد ، فورب السماواتِ والأرضِ إنما توعدون لآت ، أما زوجها المقهور فإذا رأيته وجدَتَه من جُرْحِه مَنْحُور ، وكَرْبَه يُبْكِي الصُخور ، وَزَهدَ فيها زهدَ من في القبور ، عاش يطْمَح في زوجةٍ تقيةٍ نقية ، عفيفةٍ حَيِيَّة ، حرةٍ أبية ، تحفظ غيبته وتصون كرامته وترافقه حتى تأتيه المَنِيَّة ، زوجةٌ تحْفَظُه في نفسها ، ويبذلُ نَفْسَه من أجلها ،(2/394)
زوجةٌ تُعِينُه على الطاعة ، وتُعِدُّ معه لقيامِ الساعة ، لكن خاب أملُه بها ، وكَرِه الدنيا من أجلِها ، وقَتَلَه سَوَادَ قلبِها ، قلبٌ لم يؤثر القرآن فيه ولم يعي معانيه ، قلبٌ لم تدخل الخشيةُ فيه ولا التقوى تحتويه ، قلبٌ لم يُلَيِنْه القرآن ولم يخش الرحمن ، قلبٌ جحد معنى قوله تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ، قلبٌ صار أسيرَ العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان ، صار حالُه يُنَغَصُ من ذِكْرِها ، فلا يهنأُ بنومٍ كلما ذكر فعلَها ، ولا ينطفئُ لهيبُ صدرِه من فُحْشِها ، ولا يغيبُ فكرُه عن جُرْمها ، ، يتقلبُ في همٍ وغم ، كأنما يبكي الدم .
، ثم إن هذا أمرٌ شنيعٌ لا يطيقه رجلٌ مسلمٌ حرٌ حيِّي يخشى الله تعالى ، فما من مسلم إلا يغارُ على عِرضه وشرفه ، بل وعِرضه وشرفه أغلى عنده من حياته كما هو معلوم شرعأً وعقلاً وبداهةً ويتضح هذا وضوحاً جلياً في (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما ، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
الشاهد : قوله ( : [ مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء ] فقدَّم العرض على كل شيء لأنه أعز ما يملكه الإنسان وأعز من كل شيء بل ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتضح ذلك من ( حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من قتل دون أهله فهو شهيد .
، ولذا قال سعدُ بن عُبادة رضي الله تعالى عنه قولةَ الرجلِ الحرِّ الحيِّي الأبيِّ التقي النقي
[ لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ ] أي لَضَرَبْتُهُ بِحَدِّ السيف لا بعرضِه ، ولا عجب فإنه الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم،
((2/395)
حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين ) أنه قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال: ( أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني ).
(سعد بن عبادة ) هو الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم
(غَيْرَ مُصْفَّحٍ) : صفح السيف أي عرضه ، ومعنى غَيْرَ مُصْفَّحٍ أي لا أضربه بعرض السيف بل بحدِّه .
[**] وإذا كان هذا هو حال من تصوَّر حالَه من تمَّعْرِ وجهِهِ وفورانِ دمِّهِ ولهيبِ صدرهِ إذا رأى رجلاً مع امرأته فكيف بمن تحقق من زناها والعياذ بالله تعالى من ذلك ، إنه أمرٌ مشينٌ وفعلٌ مُهِين لا يتحمله رجلٌ مسلم
، ثم هل يصير الرجل رجلاً حراً أبِّياً إلا بهذه المشاعر النبيلة (من تمَّعْرِ وجهِهِ وفورانِ دمِّهِ ولهيبِ صدرهِ غَيْرةً على زوجته) ، وهل هو إذا فقد هذه المشاعر إلا خِنزيراً مَسخاً ميتَ الحِس .
[**] وهل تُصانُ المرأةُ إلا بعِفتها ! فإذا انسلخت المرأةُ من عِفتها كان ذلك في حقِ زوجها (كسراً لا ينجبر وجُرحاً لا يَنْدَمِل ولهيباً في صدرِه لا يَنْطَفئ ) وعلى هذا فلا يُتصَّورُ الرأفةُ بها ولا الإبقاء عليها ووجب طلاقها .
* روي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه
(3) ولا تنسى أن الله تعالى قال في شأن هذه الجريمة الشنعاء النكراء
(وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ) [سورة: النور - الأية: 2]
(وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ) : أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة .
((2/396)
إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) : هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر فلا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى النكراء أشنع من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة .
{ تنبيه } :( للمرأة في هذه المسألة بعد ارتكابها لجريمة الزنا الشنعاء حُكمين:
حكمها مع زوجها و حكمها مع ربها على التفصيل الآتي :
(أما حكمها مع زوجها) : لا يُتصَّورُ الرأفةُ بها ولا الإبقاء عليها ووجب طلاقها للأسباب السالف ذكرها .
(وأما حكمها مع ربها) : حكمها حكم مرتكب الكبيرة ، و حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار ما دام قد مات على التوحيد ، وأنه مستحقٌ للعقوبة لكنه تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه بذنبه ، لكن مآله إلى الجنة ما دام قد مات على التوحيد [ يدخل الجنة يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه ]
لقوله تعالى : (إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الاية48) .
مسألة : هل المرأة إذا ارتكبت جريمة الزنا _ والعياذ بالله _ ثم تابت إلى الله تعالى ، هل يسقط حق زوجها في الآخرة؟
فصلُ الخطابِ في هذه المسألة : أن حق زوجها لا يسقط في الآخرة بتوبتها إلى ربها تعالى لأن توبتها إلى ربها تعالى تتعلق بحق ربها تعالى حيث أنها ارتكبت كبيرة من الكبائر وهي تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنها وإن شاء آخذها بذنبها ، لكن مآلها إلى الجنة ما دامت قد ماتت على التوحيد
[ تدخل الجنة يوماً من الأيام أصابها قبل ذلك اليوم ما أصابها ](2/397)
أما حق زوجها المكلوم المطعونُ في شرفه فلا يسقط أبدا لأنها انتهكت حُرمته ، واستخفت بحقه ، وأسقطت هيبتة من عينها حين مَكَّنت غيرَه من نفسها ، وطعنته في أعز ما يملكه الإنسان وهو شرفه وعرضه * وصيْرَتْه ذليلاً بين الناس بجُرْمها ، وصارت عاراً عليه بفُحْشها ، وألصقت به ذُلاً لا يزال محفوراً في ذاكرته حتى يموت ، وألهبت في صدره لهيباً لا ينطفئُ مادام حيا * صيَّرت منزلتَه بين الناس ما بين مُشفقٍ عليه مُطْرِقِ الرأسِ صامت ، و متغامزٍ عليه للخوضِ في عِرْضِه متهافت ، وثالثٍ حقيرٍ فيه متشامِت ، ورابعٍ لئيم يَدَّعِي لها المروءةَ لأنه عن إخبار زوجها بفعلها ساكت ، ثم تراه يطلب منها المُقابِل ، لأنه لسكوته عن إخبار زوجها قابل ، فصارت تنتقلُ من دمارٍ إلى دمار ، ومن عارٍ إلى شنار * وصار زوجها أشقى الناس بِجُرمها لأنه لم تُكْسَرْ شوكَتُه إلا بها ، كسر الله ظهرها ، وأعمى بصرها ، ودمّر أعضاءها ، وهتك سِتْرَها ، وأخرجها من الدنيا كلِّها ،
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة ، فإن التوبة وإن أسقطت حق الله ، فحق العبد باق ، فإن ظلم الزوج بإفساد حليلته ، والجناية على فراشه أعظم من ظلم أخذ ماله ، بل لا يعدل عنده إلا سفك دمه!].
فالحاصلُ أن هذه الشقِيَّة التَعِسَة لقد أورطت نفسها في ورطةٍ لا مخرج لها منها أبدا في الدنيا والآخرة
[*] فأما في الدنيا : فإن زوجها متى تبين من جنايتها وخيانتها تقرَّب إلى الله تعالى بطلاقها ، وطهَّر اسمَه من دَنَسِ الاقتران بها ، وتبرأ إلى ربه من فِعلها، وصبَّ عليها الدعاء صبَّا حتى ينفَرِطَ عِقدُها ، جزاءاً لارتكابها لأشنعِ جنايةٍ في حقه .
وهي كذلك لابد أن ترى عقوبة خيانتها لزوجها في الدنيا قبل الآخرة إيماناً وتصديقاً بقول النبي ( في الحديث الآتي :
((2/398)
حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي ( قال :بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا : البغي و العقوق .
الشاهد :
قوله ( ( بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ) أي قبل موت فاعليها
( البغي ) أي مجاوزة الحد والظلم وليس هناك ظلمٌ أفحش من خياتة الزوجة لزوجها .
[*] وفي الآخرة : يأخذ من حسناتها بقدر مظلمتها له ، فعند الله تجتمعُ الخُصوم ويُقْتَصُ من الظالمِ للمظلوم ، وليس هناك أبشع من مظلمةِ خيانةِ الزوجةِ لزوجها وهنا نذكر الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسنات أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
{ تنبيه } :( هذه الفاحشة لا يصبر عليها ولا يقرها في أهله إلا الديوث الذي يقر الخنا في أهله، فهذان اثنان من الصحابة هلال وعويمر ، كل منها صبر على فراق زوجته وادعى أنها زانية ولاعنها ولم يقرها أن تبقى معه وهو يعلم أنها قد فجرت، ولو مرة واحدة، وذلك دليل على حماستهم وغيرتهم على نسائهم، لا يرضى أحدهم أن يشاركه في امرأته شخص أجنبي يفسد عليه فراشه ، ولا يرضى أن امرأته تخونه فتدخل في بيته من لا يرضاه، وتجلس على فراشه غيره، وتمكن من نفسها غير زوجها، فإن ذلك حرام، وفعلها يعتبر خيانة لزوجها، وإقرار الزوج على ذلك يعتبر دياثة وإقراراً للإثم والحرام، ولم يكن الصحابة يقرون شيئاً من ذلك. وهكذا أيضاً كل غيور، وكل من عنده حماسة وغيرة على محارمه لا يقر الخنا في أهله .
وعلى هذا إذا تحقق الزوج أن الزوجة قد خانته في فراشه إن عليه أن يفارقها وألا يكشف سترها ، ولكن يخبرها فيما بينه وبينها حتى يكون ذلك عذراً له عندها، فيخبرها بأنه قد اطلع على كذا وكذا .
مسألة : هل يجوز لعن بعض عصاة المسلمين ؟
يجوز لعن بعض عصاة المسلمين على سبيل العموم(2/399)
جاءت النصوص الشرعية بلعن أصحاب بعض المعاصي على سبيل العموم والإطلاق، بذكر وصف المعصية.
ومما ورد في ذلك ما يلي:
قول الله تعالى:{ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
و قول الله تعالى:{ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61].
ومن السنة الصحيحة ما يلي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده).
(حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) .
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض)([5]).
(8) ( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء .
(9) ( حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه) .
فهذه النصوص ونحوها تدل على جواز لعن فاعل تلك المعاصي لا على جهة التعيين للأشخاص، بل يلعن العاصي بوصفه لا بشخصه، فيقال مثلاً: لعن الله آكل الربا، ولعن الله السارق، أو أكلة الربا ملعونون، والسارقون ملعونون، ولعنة الله على الظلمة، وعلى الكاذبين ونحو ذلك.
{ تنبيه } :( وهذا اللعن على سبيل العموم لأصحاب المعاصي التي جاءت النصوص بلعن فاعليها لا خلاف في جوازه .
[(2/400)
*] قال الإمام النووي في شرحه لحديث: "لعن الله السارق" " هذا دليل لجواز لعن غير المعين من العصاة؛ لأنه لعن للجنس لا لمعين، ولعن الجنس جائز كما قال الله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
{ تنبيه } :( وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (واللعنة تجوز مطلقاً لمن لعنه الله ورسوله} اللعن العام يدل على أن من فعل تلك المعصية فهو مستحق للعنه، ومعرض للعقوبة، فيحصل من هذا الإطلاق الزجر والردع عن ارتكاب تلك المعصية، وهذه اللعنة العامة المذكورة في النص قد تلحق بعض الأشخاص فتكون سبباً في عذابه ويكون معه إيمان يمنعه من الخلود في النار، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
[*] وقال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد" (1/226)
" الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم ؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع ، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز ، فإذا رأيت محدثا ، فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعنة الله على من آوى محدثا ، على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : (اللهم ! العن فلانا وفلانا وفلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) رواه البخاري" اهـ .
مسألة : هل يزوج للزوج أن يدعو على زوجته إذا زنت والعياذ بالله ؟
قبَّح الله الظلم، وحذر منه ، لأن ظلم العباد بئس الزاد ليوم الميعاد ، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة ، ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب ، ودعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه .
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [سورة: غافر - الآية: 18]
(ما للظالمين من حميم) محب
(ولا شفيع يطاع) تقبل شفاعته لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلا فما لنا من شافعين أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا(2/401)
و قال تعالى: (وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ) [سورة: الحج - الآية: 71]
(وما للظالمين) بالإشراك (من نصير) يمنع عنهم عذاب الله
و قال الله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) { إبراهيم / } 42
ومن السنة الصحيحة التي بينت شناعة الظلم ما يلي :
( حديث ابن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله ( لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
الشاهد : قوله ([ واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .
( اتقوا دعوة المظلوم ) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله
( فإنها تُحمل على الغمام ) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس .
( يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
( ولو بعد حين ) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي ( قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .
((2/402)
اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه .
( دعوة المظلوم مستجابة ) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب
( وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } .
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا : البغي و العقوق .
(بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ) أي قبل موت فاعليها
( البغي ) أي مجاوزة الحد والظلم
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي ( قال : الظلم ظلماتٌ يوم القيامة .
( اتقوا الظلم ) بأخذ مال الغير بغير حق أو التناول من عرضه ونحو ذلك قال بعضهم : ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم
( الظلم ظلمات يوم القيامة ) فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب التقوى احتوشت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني عنه ظلمه شيئاً .
((2/403)
حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي ( قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار .
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي ( قال : إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .
( إن اللّه تعالى لَيملي ) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر
( للظالم ) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } فإمهاله عين عقابه
( حتى إذا أخذه ) أي أنزل به نقمته
( لم يُفلته ) أي لم يفلت منه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسنات أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
[**] ومن هنا يتضح قبح الظلم ويتضح كذلك جواز أن يدعو المظلوم على من ظلمه ، وأن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، وعلى ذلك فيجوز للزوج أن يدعو على زوجته إذا هي ارتكبت جريمة الزنا وذلك من وجهين :
(1) أن خيانة الزوجة لزوجها وارتكابها لجريمة الزنا هي أبشع ظلم ارتكبته في حق زوجها لأنها بخيانتها له تكون قد طعنته في عِرْضه وشرفه و دينه ومروءته ، وتكون قد أسقطت هيبته بين الناس ، وتكون قد ألصقت به ذلاً لا يزال محفوراً في ذاكرته حتى يموت ، وتكون قد ألهبت في صدره لهيباً لا ينطفئُ ما دام حيا .
((2/404)
2) أن هذا هو الموافق لقوله تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة) أي لا تأخذكم بهما رِقةٌ ورحمة لأن جريمة الزنا النكراء أشنع من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة ، فمن تصور غير ذلك قلنا له أأنت أرحم من الله تعالى حين قال (ولا تأخذكم بهما رأفة)
وإليك هذه القصة التي تبين عاقبة الظالم حين سمح لنفسه أن يستخف بالمظلوم ويشينه بما يعيب به دينه :
أخرج البخاري من قصة سعد بن أبي وقاص ودعائه على ذلك الرجل الذي قال فيه:( فإن سعداً لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية) ، قال سعد: أما واللّه لأدْعونّ بثلاْثٍ : اللّهمّ إنْ كان عبْدك هذا كاذبًا قام رياءً وسمعةً ، فأطلْ عمره ، وأَطِلْ فقْرَه ، وعرّضه للْفتن . فكان الرجل يقول بعد ذلك : شيخٌ مفْتونٌ أصابتْني دعْوة سعْدٍ. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
الشاهد : إذا كان هو التصرف الصادر من سعد ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وهو التقي النقي الحييّ الأبي وهو أحد العشرة المبشرين في الجنة تجده يدعو على من شَانَه وعابه بكلام يقدح في دينه وعدله فما ظنك بمن طعنت زوجها في عِرْضهِ وشرفه الذي هو أعز ما يملك ، فلا شك أن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن عِرض الإنسان هو أعز عنده من كل شيء ، ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتشهد لذلك بالآتي :
(من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما ، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).(2/405)
الشاهد : قوله ( : [ مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء ] فقدَّم العرض على كل شيء لأنه أعز ما يملكه الإنسان وأعز من كل شيء بل ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتضح ذلك من ( حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من قتل دون أهله فهو شهيد .
ومن هنا يتضح أن الدعاء على من طعن الإنسان في عِرْضه [ من باب أولى ] مما دونه من المظالم .
مسألة : هل يجوز للمرأة أن تكلم رجلاً أجنبياً بغيرِ إذن زوجها ؟
لا يجوز للمرأة أن تكلم رجلاً أجنبياً بغيرِ إذن زوجها بنص السنة الصحيحة
( حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن .
( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ) لأنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان ، والكلام في رجال غير محارم .
( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ) لأنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان ، ألا فلتحذر العاقلة ولْتَنْتَبه الغافلة فلا تتساهل مع رجلٍ أجنبيٍ عنها بغير إذن زوجها فلربما أفضى ذلك بها إلى الهوةِ السحيقة ، وربما كان ذلك سبباً في هلاكها في الدنيا والآخرة ، وربما زَلَّت قدمُها بعد ثبوتها وانزلقت في ورطةٍ لا مخرج لها منها أبدا ، ولا تنسى أن الله تعالى يقول : (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة: النور : 21]
مسألة : هل يسن في اللعان أن يأمر القاضي من يضع يده على فم الزوج أو الزوجة عند الخامسة و يقول إنها موجبة ؟
دلت عليه السنة الثابت الصحيحة على أن هذا جائز .
( حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي ( أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يتلاعنا أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول إنها موجبة .(2/406)
مسألة : إذا تم اللعان فماذا يترتب عليه ؟
يترتب على ذلك ثلاثة أمور :
(1) يسقط الحد ، و الدليل على ذلك قصة هلال بن أمية التي ذكرناها في أول هذا الباب ، فإن النبي ( جعل يقول لهلال بن أمية ((البينة وإلا حد في ظهرك) و أنزل الله تعالى آيات اللعان التي برئت ظهر هلال بن أمية من الحد .
(2) تثبت الفرقة بينهما ، وهي فرقة مؤبدة تصبح محرمة عليه تحريماً مؤبداً لا تحل له أبداً ، لا بعد زوج ولا بدون زوج .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( لاعن بين رجلٍ و امرأة فانتفى من ولدها ففرَّق بينهما وألحق الولد بالمرأة .
مسألة : من لاعن زوجته هل يجوز له أن يسترد الصداق ؟
دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة على أن من لاعن زوجته فلا يستحق له أن يسترد الصداق ، فإن كان صادقاً فيما اتهمها به فالصداق بما استحله من فرجها ، وإن كان كاذباً فذاك أبعدُ له .
(حديث ابن عمرالثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال للمتلاعنين: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها). قال: مالي؟ قال: (لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك).
مسألة : هل يجوز للرجل أن ينتفي من ولده لمجرد أن لونه مختلف عن لونه أو شكله مختلف عن شكله ؟
لا يجوز ذلك مطلقاً ، فلعل ذلك نَزَعة عِرْق .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن رجلاً أتى النبي ( فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال: (هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: (ما ألوانها ؟ قال: حمر، قال: (هل فيها من أورق ؟ قال: نعم، قال: (فأنى ذلك ؟ قال: لعله نزعه عرق ، قال: (فلعل ابنك هذا نزعه عرق)
( أورق ) أي لونه بياض في سواد ، وهو أطيبُ الإبل لحماً
من ولدت زوجته ولداً أمكن كون الولد من الزوج لحقه نسبه ما لم ينفه باللعان .
((2/407)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : الولدُ للفراش و للعاهر الحجر .
الشاهد : قوله ( (الولدُ للفراش ) و المرأة لا تكون فراشاً إلا إذا وطأها زوجها ، فالمقصود بالفراش ، ولمن وطئت على فراشه .
مسألة : ما هي الأحوال التي يمكن أن يولد له فيها ؟
الأحوال التي يمكن أن يولد له فيها :
(1) أن يكون ممن يولد لمثله ، كابن عشر سنوات .
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع .
الشاهد : (وفرقوا بينهم في المضاجع ) أمره ( بالتفريق في المضاجع يدل علىإمكان الوطء الذي هو سبب الولادة .
(2) أن يتحقق أنه وطأها بالفعل لأنها لا تكون فراشاً إلا بالوطأ .
(3) أن تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤها لأن أقل الحمل الذي يعيش ستة أشهر الذي هو أقلُ الحمل الذي يعيش .
(4) أن تلده دون أربع سنوات منذ أبانها زوجها ولم تخبر بانقضاء عدتها بالقروء بناءاً على أن أكثر مدة للحمل أربع سنوات .
(5) إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً فتلد بعد مضي أربع سنوات منذ طلقها و قبل انقضاء العدة .
(6) إذا وطأ السيد أمته وولدت لستة أشهر فأكثر من هذا الوطأ يلحقه نسبه لأن الأمة صارت فراشاً لسيدها بوطأه لها فتدخل في عموم قوله (( الولد للفراش )
كتاب البيوع
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي ( قال :( والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
( فيحتطب ) بتاء الافتعال وفي مسلم فيحطب بغير تاء أي يجمع الحطب
( خير له ) ليست خير هنا أفعل تفضيل بل من قبيل { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً }
((2/408)
من أن يسأل الناس ) أي من سؤال الناس أمراً دنيوياً أعطوه أو منعوه وإن كان الاكتساب بعمل شاق كالاحتطاب لثقل المنة أو ذل الخيبة ، وهذا حث على التعفف وتفضيل الكسب والسبب على البطالة .
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :( ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً ) بالنصب صفة لمصدر محذوف أي أكلاً خيراً ( من أن يأكل من عمل يده ) وفيه تحريض على الكسب الحلال وهو متضمن لفوائد كثيرة منها إيصال النفع لآخذ الأجرة إن كان العمل لغيره وإيصال النفع إلى الناس بتهيئة أسبابهم من نحو زرع وغرس وخياطة وغير ذلك ومنها أن يشتغل الكاسب به فيسلم عن البطالة واللهو ومنها كسر النفس به فيقل طغيانها ومرحها ومنها التعفف عن ذل السؤال والاحتياج إلى الغير وشرط المكتسب أن لا يعتقد الرزق من الكسب بل من الرزاق ذي القوة ثم أكد ذلك وحرض عليه وزاده تقريراً بقوله
( وإن نبي اللّه داود كان يأكل من عمل يده ) في الدروع من الحديد ويبيعه لقوته وخص داود لكون اقتصاره في أكله على عمل يده لم يكن لحاجة لأنه كان خليفة في الأرض بل أراد الأفضل وفيه أن الكسب لا ينافي التوكل وأن ذكر الشيء بدليله أوقع في النفس وجواز الإجارة إذ عمل اليد أعم من كونه لغيره أو نفسه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :( كان زكرياء نجاراً )
( كان زكريا نجاراً ) فيه إشارة إلى أن كل أحد لا ينبغي له أن يتكبر [ عن كسب يده لأن نبي اللّه مع علو درجته اختار هذه الحرفة وفيه أن التجارة لا تسقط المروءة وأنها فاضلة لا دناءة فيها فالاحتراف بها لا ينقص من مناصب أهل الفضائل .
((2/409)
لا بأس بالغنى لمن اتقى ) فالغنى بغير تقوى هلكة ، يجمعه من غير حقه ويمنعه ويضعه في غير حقه فإذا كان مع صاحبه تقوى فقد ذهب البأس وجاء الخير قال محمد بن كعب : الغني إذا اتقى آتاه اللّه أجره مرتين لأنه امتحنه فوجده صادقاً وليس من امتحن كمن لا يمتحن
( والصحة لمن اتقى خير من الغنى ) فإن صحة البدن عون على العبادة فالصحة مال ممدود
(حديث عمرو بن العاص الثابت في صحيحالأدب المفرد) أن النبي ( قال : نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث يسار بن عُبيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي ( قال : لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم .
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ
رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ .
[*] قال سعيد ابن المسيب رحمه الله تعالى : لا خيرَ فيمن لا يريد المال من حِله يكفُ به وجهه عن الناس ، ويصل فيه رحمه ويعطي منه حقه .
[*] وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى : المال في زماننا هذا سلاحُ المؤمنين
[(2/410)
*] وقال الفُضَيلُ ابن عِياض لابن المبارك رحمها الله تعالى : أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبُلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خُرسان إلى البلد الحرام كيف ذاك ؟
[*] فقال ابن المبارك رحمه الله تعالى : يا أبا علي إنما أفعل ذلك لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي ، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به ، فقال الفضيل : ما أحسن ذا إذا تم ذا .
وقال ابن المبارك مرةً للفضيل : لولا أنت وأصحابك ما اتجَّرت .
وقال ابن المبارك مرةً : لولا خمسةٌ ما اتجَّرت ، السفيانان وفضيل وابن السماك وابن علية
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي ( قال : أيها الناس اتقوا الله و أجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب خذوا ما حل و دعوا ما حرُم .
*(أيها الناس اتقوا اللّه وأجملوا في الطلب ) ترفقوا في السعي في طلب حظكم من الرزق ( فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها ) فهو لا بد يأتيها فلا فائدة للانهماك والاستشراف والرزق لا ينال بالجد ولا بالاجتهاد وقد يكدح العاقل الذكي في طلبه فلا يجد مطلوبه والغر الغبي يتيسر له ذلك المطلوب ، وهذه المطالب إنما تحصل وتسهل بناء على قسمة قسَّام لا يمكن منازعته ومغالبته {نحن قسمنا بينهم معيشتهم } فقد ترى أحمقاً مرزوقاً وعالماً محروماً ، وقرن ذلك بالأمر بالتقوى لأنها من الأوامر الباعثة على جماع الخير إذ معها تنكف النفس عن أكثر المطالب وترتدع عن الشهوات وتندفع عن المطامع ومن ثم كرر لك فقال ( فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب ) أي اطلبوا الرزق طلباً رفيقاً وبين كيفية الإجمال بقوله فيه
( خذوا ما حل ) لكم تناوله
( ودعوا ) أي اتركوا ( ما حرم )
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : الرزق أشد طلبا للعبد من أجله .
((2/411)
الرزق أشد طلباً للعبد من أجله ) لأن اللّه تعالى وعد به بل ضمنه ووعده لا يتخلف وضمانه لا يتأخر ومن علم أن ما قدر له من رزقه لا بد له منه علم أن طلبه لما لا يقدر له عناء لا يفيد ولهذا قال بعض الأنجاب : الرزق يطرق على صاحبه الباب وقال بعضهم : الرزق يطلب المرزوق وبسكون أحدهما يتحرك الآخر .
والسقيم عاجز والعمر الذي أعطى به يقوم العبادة والصحة مع الفقر خير من الغنى مع العجز والعاجز كالميت
( وطيب النفس من النعيم ) لأن طيبها من روح اليقين وهو النور الوارد الذي أشرق على الصدر فإذا استنار القلب ارتاحت النفس من الظلمة والضيق والضنك فإنها لشهواتها في ظلمة والقلب مرتبك فيها فالسائر إلى مطلوبه في ظلمة يشتد عليه السير ويضيق صدره ويتنكد عيشه ويتعب جسمه فإذا أضاء له الصبح ووضح له الطريق وذهبت المخاوف وزالت العسرة ارتاح القلب واطمأنت النفس وصارت في نعيم
(حديث عبيد الله ابن محصن الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي ( قال : من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها .
(من أصبح منكم آمنا في سِربه ) أي في بيته
( معافى في جسده ) أي صحيحاً بدنه
( عنده قوت يومه ) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك
يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله
( فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) كأنما أعطي الدنيا بأسرها
{ تنبيه } :( ويجوز الاستكثار من المال الحلال ما لم ينكب الإنسان عليه مع صلاح النية من إعطاء حق الله تعالى فيه وصلة الرحم ومساعدة المحتاجين .
(حديث عمرو بن العاص الثابت في صحيحالأدب المفرد) أن النبي ( قال : نعم المال الصالح للمرء الصالح .
(حديث يسار بن عُبيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي ( قال : لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم .
((2/412)
لا بأس بالغنى لمن اتقى ) فالغنى بغير تقوى هلكة ، يجمعه من غير حقه ويمنعه ويضعه في غير حقه فإذا كان مع صاحبه تقوى فقد ذهب البأس وجاء الخير قال محمد بن كعب : الغني إذا اتقى آتاه اللّه أجره مرتين لأنه امتحنه فوجده صادقاً وليس من امتحن كمن لا يمتحن ( والصحة لمن اتقى خير من الغنى ) فإن صحة البدن عون على العبادة فالصحة مال ممدود
(حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
الشاهد : [فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما]
( فإن صدقا ) يعني صدق كل منهما فيما يتعلق به من ثمن ومثمن وصفة مبيع وغير ذلك
( وبينا ) ما يحتاج لبيانه من نحو عيب وإخبار بثمن وغير ذلك من كل ما كتمه غش وخيانة
( بورك لهما في بيعهما ) أي أعطاهما اللّه الزيادة والنمو
( وإن كتما ) شيئاً مما يجب الإخبار به شرعا
( وكذبا ) في نحو صفات الثمن والمثمن
( محقت بركة بيعهما ) أي ذهبت
(حديث عن قيس بن أبي غرزةالثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال :يا معشر التجار ! إن الشيطان و الإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة .
( حديث صخر الغامدي الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : اللهم بارك لأمتي في بكورها وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم في أول النهار وكان صخر رجلا تاجرا وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله .
( اللّهم بارك لأمتي في بكورها ) قال النووي في رؤوس المسائل : يسن لمن له وظيفة من نحو قراءة أو علم شرعي وتسبيح أو اعتكاف أو صنعة فعله أول النهار وكذا نحو سفر وعقد نكاح وإنشاء أمر لهذا الحديث .(2/413)
يجب على كل من تصدى للعمل بالبيع والشراء أن يكون عالماً بأحكام البيع والشراء ، فقد كان الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب يطوف بالسوق ويضربُ بعض التجار بالدُّرة ويقول ( لا يبعْ في سوقنا إلا من يفقه وإلا أ:ل الربا شاء أم أبى) ، وقد أهمل كثيراً من المسلمين الآن هذا الشيء حتى انطبق عليهم قول النبي ( (ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام)
*( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام).
(ليأتين على الناس زمان لا يبالي الرجل بما أخذ من المال أمن حلال أم من حرام ):
[وجه الذم] من جهة هذه التسوية بين الأمرين وإلا فأخذ المال من الحلال غير مذموم من حيث هو وهذا من معجزاته فإنه إخبار عن أمر غيبي وقد وقع على وفق ما أخبر .
( حديث أبي بكرالثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به .
( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) هذا وعيد شديد يفيد أن أكل أموال الناس بالباطل من الكبائر قال الذهبي : يدخل فيه المكاس وقاطع الطريق والسارق والخائن والزاني ومن استعار شيئاً فجحده ومن طفف في وزن أو كيل ومن التقط مالاً فلم يعرفه وأكله ولم يتملكه ومن باع شيئاً فيه عيب فغطاه والمقامر ومخبر المشتري بالزائد وهكذا .
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب .
((2/414)
الحلال بين ) أي ظاهر واضح لا يخفى حله وهو ما نص اللّه أو رسوله وأجمع المسلمون على تحليله بعينه أو جنسه ومنه ما لم يرد فيه منع في أظهر الأقوال
( والحرام بين ) واضح لا يخفى حرمته وهو ما نص أو أجمع على تحريمه بعينه أو جنسه أو على أن فيه عقوبة أو وعيداً ثم التحريم إما لمفسدة أو مضرة خفية كالزني ومذكي المجوس وإما لمفسدة أو مضرة واضحة كالسم والخمر وتفصيله لا يحتمله المقام
( وبينهما ) أي الحلال والحرام الواضحين
( أمور مشتبهات ) بغيرها لكونها غير واضحة الحل والحرمة
( لا يعلمها كثير من الناس ) أي من حيث الحل والحرمة لخفاء نص أو عدم صراحة أو تعارض نصين وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس أو استصحاب أو لاحتمال الأمر فيه الوجوب والندب والنهي والكراهة والحرمة أو لغير ذلك إنما يعلمه قليل من الناس وهم الراسخون فان تردد الراسخ في شيء لم يرد فيه نص ولا إجماع اجتهد بدليل شرعي فيصير مثله وقد يكون دليل غير خال من الاحتمال فيكون الورع تركه كما قال
( فمن اتقى المشبهات ) أي اجتنبها
( فقد أستبرأ ) أي طلب البراء رضي الله عنه ة
( لدينه ) من الذم الشرعي
( وعرضه ) بصونه عن الوقيعة فيه
( ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام ) أي يوشك أن يقع فيه لأنه حام حول حريمه وقال وقع دون يوشك أن يقع كما قال في المشبه به الآتي لأن من تعاطى المشبهات صادف الحرام وإن لم يتعمده إما لإثمه بسبب تقصيره في التحري أو لاعتياده التساهل وتجرئه على شبهة بعد أخرى إلى أن يقع في الحرام أو تحقيقاً لمداناة الوقوع كما يقال من اتبع هواه هلك وسره أن حمى الملوك محسوسة يحترز عنها كل بصير وحمى اللّه لا يدركه إلا ذو البصائر ولما كان فيه نوع خفاء ضرب المثل بالمحسوس بقوله
( كراعٍ يرعى حول الحمى ) أي المحمى وهو المحذور على غير مالكه
((2/415)
يوشك أن يواقعه ) أي تأكل ماشيته منه فيعاقب شبه آخذ الشهوات بالراعي والمحارم بالحمى والشبهات بما حوله ثم أكد التحذير من حيث المعنى بقوله
( ألا ) حرف افتتاح قصد به أمر السامع بالإصغاء لعظم موقع ما بعده
( وإن لكل ملك ) من ملوك العرب
( حمى ) يحميه عن الناس ويتوعد من قرب منه بأشد العقوبات
( ألا وإن حمى اللّه في أرضه محارمه ) أي المحارم التي حرمها وأريد به هنا ما يشمل المنهيات وترك المأمور ومن دخل حمى اللّه بارتكاب شيء منها استحق العقاب ومن قاربه يوشك الوقوع فيه فالمحافظ لدينه لا يقرب مما يقرب إلا الخطيئة والقصد إقامة البرهان على تجنب الشبهات وأنه إذا كان حمى الملك يحترز منه خوف عقابه فحمى الحق أولى لكون عذابه أشق ولما كان التورع يميل القلب إلى الصلاح وعدمه إلى الفجور أردف ذلك بقوله
(ألا وإن في الجسد مضغة ) قطعة لحم بقدر ما يمضغ لكنها وإن صغرت حجماً عظمت قدراً ومن ثم كانت
( إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ) باستعمالها في المنكرات
( ألا وهي القلب ) فالقلب ملك والأعضاء رعيته وهي تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده وأوقع هذا عقب قوله الحلال بين إشعاراً بأن أكل الحلال ينوره ويصلحه والشبه تقسيه .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال !< يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم >! وقال !< يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم >! ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك .
((2/416)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :أن رسول الله قال: (رحم الله رجلا، سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى).
( رحم اللّه رجلا) دعاء أو خبر وقرينة الاستقبال المستفاد من إذا تجعله دعاء
( سمحاً ) بفتح فسكون جواداً أو مساهلاً غير مضايق في الأمور وهذا صفة مشبهة تدل على الثبوت ولذا كرر أحوال البيع والشراء والتقاضي حيث قال :
( إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى ) أي وفى ما عليه بسهولة
( سمحاً إذا اقتضى ) أي طلب قضاء حقه وهذا مسوق للحث على المسامحة في المعاملة وترك المشاححة والتضييق في الطلب والتخلق بمكارم الأخلاق وقال القاضي : رتب الدعاء على ذلك ليدل على أن السهولة والتسامح سبب لاستحقاق الدعاء ويكون أهلاً للرحمة والاقتضاء والتقاضي وهو طلب قضاء الحق
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال : من أقال مسلما أقاله الله عثرته .
( من أقال مسلماً ) أي وافقه على نقض البيع أو البيعة وأجابه إليه
( أقال اللّه عثرته ) أي رفعه من سقوطه يقال أقاله يقيله إقالة وتقاؤلاً إذا فسخا البيع وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال ما هذا يا صاحب الطعام قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس منا .
((2/417)
حديث بن عمر الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :من قال حين يدخل السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبني له بيتا في الجنة .
مسالة : ما معنى البيع لغةً وشرعا ؟
البيع لغةً : المبادلة
البيع شرعا :مبادلة مال بمال على سبيل التراضي أو نقل ملك بعوض على الوجه المأذون فيه.
مسألة : ما هو المال ؟
المال هو كل ما يُملك وينتفع به.
مسالة : ما حكم البيع ؟
البيع جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، والنظر الصحيح .
أما الكتاب فقوله تعالى: {{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}} [البقرة: 275] .
وأما السنة «(حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
وأما الإجماع فمعلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وأما النظر الصحيح فلأن الإنسان يحتاج لما في يد غيره من متاع الدنيا، ولا وسيلة إلى ذلك إلا بالظلم وأخذه منه قهراً، أو بالبيع.(2/418)
فلهذا كان من الضروري أن يَحِلَّ البيعُ فأحله الله ـ عزّ وجل ـ، وفي حل البيع دليل على شمول الشريعة الإسلامية، وأنها ليست كما قال أعداؤها: لا تنظم إلا المعاملات التي بين الخالق والمخلوق، بل هي تنظم المعاملات بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوقين بعضهم مع بعض، وتنظيمها للمعاملة بين المخلوقين بعضهم مع بعض من أهم الأمور؛ لأنه لولا ذلك لأكل الناس بعضهم بعضاً، واعتدى الناس بعضهم على بعض، فكان من الحكمة ومن مقتضى عدل الله ـ عزّ وجل ـ أن تنظم المعاملات بين الخلق؛ لئلا ترجع إلى أهوائهم وعدوانهم، ثم إن أطول آية في كتاب الله هي آية الدين، وهي في المعاملات بين الخلق فكيف يقال: إن الشريعة الإسلامية تنظم المعاملة بين الخالق والمخلوق فقط.
مسالة : ما هي أركان البيع؟
أركان البيع: الإيجاب والقبول
والإيجاب هو اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه،
والقبول هو اللفظ الصادر من المشتري، أو من يقوم مقامه
{ تنبيه } :( يجب أن يكون القبول بعد الإيجاب؛ لأنه فرع عنه، بحيث يقول: بعتك هذا، ويقول المشتري: قبلت، فلو تقدم القبول على الإيجاب، بأن قال المشتري: قبلت، ثم قال البائع: بعتك، فإنه لا يصح؛ لأن القبول فرع الإيجاب.
مسألة : ملذا يُشترط في القبول ؟
يُشترط في القبول الأمور الآتية :
(1) أن يكون القبول بعد الإيجاب
(2) أن يكون مطابقاً للإيجاب
(3) أن يكون في المجلس
(4) أن لا يتشاغل عنه بما يقطعه
مسألة : هل يشترط في القبول أن يكون عقيب الإيجاب مباشرةً ؟(2/419)
القبول يجوز أن يكون عقيب الإيجاب، ويجوز أن يكون متراخياً عنه، أما كونه جائزاً عقيب الإيجاب فالأمر واضح، كأن يقول: بعتك هذا بعشرة، ويقول المشتري: قبلت، فالقبول هنا أعقب الإيجاب وهذا لا إشكال فيه، ويجوز أن يتراخى عن الإيجاب، فيقول: بعتك هذا بعشرة، ثم يسكت المشتري يفكر؛ لأن الإنسان قبل أن يبتاع الشيء يجد في نفسه رغبة فيه، فإذا قال: بعتك، ربما يتريث وتزول هذه الرغبة، وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنِعَ، ولهذا تجد الصيادين الذين يصيدون الطيور قبل أن يرمي الطير يكون عنده رغبة في هذا الطير، فإذا رماه وسقط على الأرض صار لا يساوي شيئاً عنده، وهذه السلع التي في يد البائع، إذا قال: هل تبيعني هذا الشيء بعشرة؟ قال: نعم أبيعه بعشرة، فهنا لو تأخر القبول فلا بأس، لكن نقول: إذا تراخى عنه فلا بد من شروط:
الأول: أن يكون في مجلسه.
الثاني: ألا يتشاغلا عنه بما يقطعه.
الثالث: أن يطابق القبول الإيجاب.
أما كونه في المجلس فهو احتراز مما لو كان في غير المجلس، بأن قال: بعتك هذه السلعة بعشرة ثم تفرقا ثم رجع، وقال: قبلت فلا يصح هذا القبول لتغير المجلس.
وكذلك لو تشاغلا بما يقطعه بأن قال: بعتك هذه السيارة بثلاثين ألفاً، فقال: مررت اليوم بالكلية، ووجدت فلاناً ناجحاً، وفلاناً راسباً، وفلاناً مكملاً، وقال: هذه النتيجة ليست بطيبة، ثم قال: قبلت فلا يصح؛ لأنه تشاغلَ بما يقطعه، فلا بد إذاً في صحة هذا العقد من أن يعيد البائع الإيجاب حتى يكون القبول عقبه.(2/420)
وكذلك لا بد أن يطابق القبول الإيجاب كمية وجنساً ونوعاً، فلو قال: بعتك شرح ابن عقيل بعشرة، فقال: قبلت الروض المربع بعشرة فلا يصح؛ لأنه اختلف القبول عن الإيجاب، وكذا لو قال: بعتك شرح ابن عقيل بعشرة، فقال: قبلته بتسعة فلا يصح لعدم المطابقة، ولو قال: قبلته بأحد عشر صح؛ لأن ذلك في مصلحة البائع، فيقول: آخذ العشرة والباقي لك، إذا كان لا يريد أن يمن عليه بالزيادة فالظاهر الصحة، وأن الذي لا يصح إذا نقص الثمن عما أوجبه البائع.
فإذا زاد فقد زاده خيراً، وعادة لا يرد البائع الزيادة، هذا هو الغالب.
مسألة : ما هي صيغ عقد البيع؟
لعقد البيع صيغتان: صيغة قولية، وصيغة فعلية.
الصيغة القولية هي الإيجاب والقبول.
الصيغة الفعلية هي المعاطاة، وهي أن يعطي كل واحد الثاني بدون قول.
ولها ثلاث صور:
الأولى: أن تكون معاطاة من الجانبين.
الثانية: أن تكون معاطاة من البائع.
والثالثة: أن تكون معاطاة من المشتري.
مثالها من الجانبين: أن يكون هنا أدوية مثلاً قد كتب عليها سعرها، ووضع إلى جانبها وعاء للثمن، فيأتي المشتري، ويضع ثمن هذا الدواء بوعاء الثمن ويأخذ الدواء، هذه معاطاة من الجانبين.
معاطاة من البائع: قال المشتري: أعطني بهذا الدرهم خبزاً، فأخذ البائع كيس الخبز وأعطاه للمشتري، هذه معاطاة من البائع.
معاطاة من المشتري: قال البائع: خذ هذا الكتاب بعشرة فأخذه المشتري، ولم يقل: قبلت، ولكن أعطاه عشرة، فالمعاطاة هنا من المشتري، فالبائع قدر الثمن وأوجب فقال: بعتك هذا الكتاب بعشرة، أو قال: خذ هذا الكتاب بعشرة، فأخذ المشتري، ولم يتكلم وأعطاه العشرة، وهذا يدلنا على أن مسألة المعاملات أمرها سهل يرجع فيه إلى ما تعارفه الناس، والناس كلهم قد تعارفوا على أن هذه المعاطاة تعدّ عقداً واضحاً.
مسألة : ما هي شروط البيع؟
شروط البيع قسمان :
القسم الأول : قسم يختص بالعاقد (البائع والمشتري)(2/421)
القسم الثاني : قسم يختص بالمعقود عليه (المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الآخر)
مسالة : ما هي شروط البيع التي تختص بالعاقد(البائع والمشتري) ؟
شروط البيع التي تختص بالعاقد(البائع والمشتري) :
(1) التراضي منهما.
أي يشترط التراضي من البائع والمشتري، ودليل ذلك:
الأول: من القرآن قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] ، ومعنى {{تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}}: أي تجارة صادرة عن تراضٍ منكم.
الثاني: من السنة ( حديث أبي سعيد الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال :: «إنما البيع عن تراضٍ»
الثالث: أن النظر الثابت فيصحيح يقتضي ذلك أيضاً؛ لأننا لو لم نشترط التراضي لأصبح الناس يأكل بعضهم بعضاً، فكل إنسان يرغب في سلعة عند شخص يذهب إليه ويقول له: اشتريتها منك بكذا قهراً عليك، وهذا يؤدي إلى الفوضى والشغب والعداوة والبغضاء.
(2)أن يكون العاقد جائز التصرف:
وجائز التصرف من جمع أربعة أوصاف: أن يكون حرّاً، بالغاً، عاقلاً، رشيداً.
فالأول: أن يكون حرّاً، وضده العبد، والعبد لا يصح بيعه ولا شراؤه إلا بإذن سيده؛ ووجه ذلك أن العبد لا يملك، فما في يد العبد ملك لسيده؛ والدليل على هذا، قول النبي : «من باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المُبتاع)، فهنا نقول: العبد لا يصح بيعه إلا بإذن سيده.
الثاني: أن يكون بالغاً، وضد البالغ الصبي.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}} [النساء: 6] ، فاشترط الله لدفع أموالهم شرطين: بلوغ النكاح وذلك بالبلوغ، والرشد.(2/422)
الثالث: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، فالمجنون لا يصح تصرفه، ومن ذلك المُهَذْري لا يصح بيعه، فلو أن رجلاً أصيب بالهذرات، أي: هرم وكبر، وجاء إلى إنسان، وقال له: أنا أبيع عليك بيتي وسيارتي فلا يصح البيع منه لفقد العقل، ومن شرط جواز التصرف أن يكون الإنسان عاقلاً.
الرابع: أن يكون رشيداً، والرشيد هو الذي يحسن التصرف في ماله، بحيث لا يبذله في شيء محرم، ولا في شيء لا فائدة منه، كأن يبيع الشيء الذي يساوي مائة بعشرة، أو يشتري ما يساوي عشرة بمائة، فالمهم أنه يحسن التصرف، وضد الرشيد السفيه .
مسألة : ما هي شروط البيع التي تختص بالمعقود عليه(المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الآخر) ؟
[*](شروط البيع التي تختص بالمعقود عليه هي ما يلي :
(1) طهارة العين : فالأدهان النجسة لا يجوز بيعها (كالأدهان التي تكون من شحم الميتة)؛ لأن الميتة نجسة والأدهان الخارجة من شحمها نجسة، ، ودليل ذلك عن (حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح، وهو بمكة: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير، والأصنام). فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: (لا، هو حرام). ثم قال رسول الله عند ذلك: (قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه).
الشاهد : قوله : لا، هو حرام»أي: بيعها، مع أنهم ذكروا أن الناس ينتفعون بها، وهل يجوز الانتفاع بها؟ الجواب: نعم، يجوز الانتفاع بها على وجه لا تتعدى، كأن تدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس.
{ تنبيه } :( بيع الأدهان المتنجسة جائز؛ لأنه يمكن تطهيرها، فتكون كبيع الثوب المتنجس.
(حديث ميمونة الثابت في الصحيحين ) أن رسول الله سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: (ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم).
((2/423)
2) أن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة ، أي: أن تكون العين التي وقع العقد عليها بالشراء مباحة النفع بغير حاجة، وهذه تقتضي ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون فيها نفع.
الثاني: أن يكون النفع مباحاً.
الثالث: أن تكون الإباحة بلا حاجة.
فخرج بقولنا: مباحة النفع، محرمة النفع، مثل آلات اللهو، فإنه لا يجوز بيعها؛ لأن منفعتها محرمة، وكذلك الخمر؛ لأن منفعته محرمة.
وخرج بقولنا: أن يكون فيها نفع، ما لا نفع فيه كالحشرات، فلا يصح بيعها، فلو أن شخصاً جمع صراصر في إناء، وقال لإنسان: أبيع عليك هذه الصراصر فلا يجوز بيعها؛ لأنها ليس فيها نفع، لكن لو جمع جراداً في إناء، وقال: أبيع عليك هذا الجراد فهنا يجوز البيع؛ لأن فيها نفعاً مباحاً؛ إذاً الحشرات لا يجوز بيعها؛ لأنها ليس فيها نفع.
وقولنا: من غير حاجة، احترازاً مما إذا كانت مباحة النفع لحاجة كالكلب، فالكلب يباح نفعه لكن لا مطلقاً بل لحاجة كالصيد، والحرث والماشية، فلا يصح بيع الكلب، حتى وإن كان كلب صيد، ولو كان معلماً مع أن فيه نفعاً مباحاً؛ لأن النبي نهى عن ثمن الكلب .
(3) أن يكون معلوماً :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال :نهى رسول الله عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر .
(4) أن يكون مقدوراً على تسليمه :(2/424)
أولاً لأن بيع ما لا يقدر على تسليمه من الميسر؛ ووجه ذلك أن بيع ما لا يقدر على تسليمه سيكون بأقل من ثمنه الحقيقي؛ لأن المشتري مخاطر قد يحصل عليه وقد لا يحصل، فإذا قدر أن هذا الذي لا يقدر على تسليمه يساوي مائة لو كان مقدوراً على تسليمه، فسيباع إذا كان لا يقدر على تسليمه بخمسين، فيبقى المشتري الآن إما غانماً وإما غارماً، إن قدر عليه فهو غانم، وإن فاته فهو غارم، وهذه هي قاعدة الميسر. قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}} [المائدة: 90]
ثانياً: قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] ، ووجه الدلالة أن ما يعجز عن تسليمه لا يرضى به الإنسان غالباً، ولا يقدم عليه إلا رجل مخاطر قد يحصل له ذلك، وقد لا يحصل له.
ثالثاً : لأنه إن لم يكن مقدوراً على تسليمه لكان غررا وقد نهى النبي ( عن بيع الغرر
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال :نهى رسول الله عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر .
(5) أن يكون مقبوضاً :
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه. قلت لابن عباس: كيف ذاك؟. قال: ذاك دراهم بدراهم، والطعام مرجأ.
( من ابتاع ) أي اشترى
( طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) أي يقبضه كما جاء مصرحاً به في رواية لئلا يكون متصرفاً في ملك غيره .
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه). قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله.
(6) أن يكون البيع من البائع و من يقوم مقامه.
والدليل على هذا الشرط : القرآن، والسنة، والنظر الصحيح .(2/425)
أما القرآن : فقوله تبارك وتعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] ، ومعلوم أنه لا يوجد أحد يرضى أن يتصرف غيره في ماله ويبيعه.
وأما السنة فقول النبي لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» فنهاه أن يبيع ما ليس عنده، والمراد ما ليس في حوزته أو ما ليس قادراً عليه، كما سيأتي إن شاء الله في الشرح.
( حديث حكيم بن حزام الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال * يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي أفأبتاعه له من السوق فقال لا تبع ما ليس عندك .
وأما النظر فلأنه لو جاز أن يبيع الإنسان ما لا يملك لكان في ذلك من العدوان والفوضى ما لا تستقيم معه حياة البشر، فلا يمكن أن يسلط الناس بعضهم على بعض في بيع أموالهم .
...
يُندب الإشهادُ على عقد البيع لقوله قال تعالى: (وَأَشْهِدُوَاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ) [سورة: البقرة - الآية: 282]
ومما يدل على أن الأمر للندب وليس للوجوب أن الأمة نقلت خلفاً عن سلف عقود المداينات والأشربة في أمصارهم من غير إشهاد مع علم فقهائهم بذلك من غير نكيرٍ منهم عليهم ، ولو كان الإشهاد واجباً لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم بهم .
{ تنبيه } :( الأشياء لا تتم إلا باجتماع الشروط وانتفاء الموانع
مسألة : ما هي موانع البيع؟
موانع البيع ما يلي :
(1) لا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني :(2/426)
أما من لا تلزمه، فيجوز له البيع والشراء كالنساء والأولاد الصغار فيما يتبايعونه بينهم؛ لأن من لا تلزمه الجمعة لا يلزمه السعي إليها، وإذا لم يلزمه السعي إليها صار البيع والشراء في حقه حلالاً، إذ إن الذي لا يصح البيع منه هو الذي يوجه إليه الخطاب في قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}} [الجمعة: 9]
، فأمر بالسعي إلى ذكر الله، وهي الخطبة والصلاة، والمراد بالسعي هنا مجرد الانطلاق، وليس المراد به السعي الذي هو الركض؛ لأن النبي نهى عن الإسراع فيمن أتى إلى الصلاة .
: «بعد ندائها الثاني» أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن للجمعة ندائين، أولاً وثانياً، فأما الثاني فهو الموجود على عهد النبي حين يجيء الإمام فيؤذن المؤذن فحملت الآية عليه؛ لأنها نزلت في وقت لا يوجد فيه إلا أذان واحد وهو الثاني، فلذلك نقول: إن الحكم معلق به. أما الأذان الأول فإنما حدث في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حين اتسعت المدينة وبَعُدَ الناس، جعل للجمعة نداءين من أجل أن يتهيأ الناس إلى الحضور فيمكنهم الحضور حين حضور الإمام.
مسألة : فإن قال قائل: إحداث ذلك بدعة؛ لأن النبي لم يشرع إلا أذاناً واحداً، والأذان عبادة لا يمكن شرعها إلا بإذن من الشارع ؟.
فالجواب على ذلك من وجهين:
الأول: أن هذا من سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن عثمان ـ رضي الله عنه ـ منهم، وللخلفاء الراشدين سنة متبعة بسنة الرسول فقد قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» .(2/427)
الثاني: أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ لم يسنه إلا لسبب لم يكن موجوداً في عهد الرسول ، وهو سعة المدينة وتباعد الناس، فلا يقال: إن الرسول لم يشرعه؛ لأنه في عهد الرسول لم يكن هناك سعة يحتاج الناس معها إلى أن ينادوا للصلاة، وقد علم أن الرسول شرع أذاناً في آخر الليل ليس لصلاة الفجر، بل من أجل إيقاظ النائم، وإرجاع القائم، فقد قال : «إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم».
إذاً فقد شرع النبي أذاناً في آخر الليل لا من أجل وقت صلاة، ولكن من أجل أن يستعد الناس للسحور، قد يكون الداعي إلى مشروعية الأذان الأول يوم الجمعة أقوى من ذلك، فعلى هذا تكون هذه السنة التي سنها أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ سنة شرعية نحن مأمورون باتباعها.(2/428)
وبهذا يعرف غرور بعض الأغرار الصغار من طلاب العلم الذين ينتسبون إلى علم الحديث، فيضللون أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ويقولون: إنه مبتدع ـ نسأل الله العافية ـ وهم إذا قالوا: إن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ مبتدع، لزم من ذلك أن يكون جميع الصحابة الذين أدركوا عهده مبتدعة؛ لأنهم أقروا البدعة، وهذا مبدأ خطير ينبئ عن غرور وإعجاب بالنفس ـ والعياذ بالله ـ وعدم اكتراث بما كان عليه السلف الصالح، ووالله إن علم السلف الصالح أقرب إلى الصواب من علم المتأخرين، وأهدى سبيلاً، وهذا شيء معلوم، حتى إن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كان يأمر باتباع هدي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ويقول: «إنهم أعمق علوماً، وأبر قلوباً»، فإذا اجتمع بِرُّ القلب وعمق العلم، تبين أن من بعدهم خَلْفٌ وليسوا أماماً، وإني أحذر إخواني طلبة العلم من ركوب مثل هذا الصعب، وأقول: لا ترتقوا مرتقًى صعباً، عليكم بسنة الخلفاء الراشدين كما أمركم نبيكم ، وإياكم أن تطلقوا ألسنتكم عليهم بمثل هذا الكلام السخيف، أيقال لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين: إنه مبتدع؟!! أو يقال لمن أدرك زمنه من الصحابة: إنهم مقرُّون للبدعة؟!! من أنت أيها الصبي؟ من أنت أيها الغر؟ اعرف قدر نفسك حتى تعرف قدر الناس، نسأل الله السلامة.
مسألة : ما الدليل على عدم صحة البيع؟
الدليل على عدم صحة البيع نهي الله ـ عزّ وجل ـ؛ لأن قوله {{وَذَرُوا الْبَيْعَ}} [الجمعة: 9] يعني لا تبيعوا، والنهي يقتضي الفساد، هذه القاعدة التي دلت عليها سنة الرسول لقوله : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» ولأننا لو صححنا ما نهى عنه الله ورسوله ( لكان في ذلك مضادة لله ورسوله، إذ إن النهي يقتضي البعد عنه وعدم ممارسته، والتالثابت في صحيح يستلزم ممارسة هذا الشيء ونفاذه، وهذا مضادة لله ورسوله .
((2/429)
2) ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمراً كالعنب والتفاح والدليل قول الله تعالى: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] .
مسألة : فإن قال قائل: ما الذي يدريني أن هذا الرجل اشترى العصير ليتخذه خمراً أو ليشربه في الوقت الحاضر؟.
نقول: إذا غلب على الظن أن هذا من القوم الذين يشترون العصير ليتخذوه خمراً كفى ذلك وصار هذا حراماً؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد نهى عن ذلك، وإلا فالأصل الصحة، وعدم المنع .
وكذلك لو اشترى رجل سلاحاً ليصطاد به صيداً في الحرم، بأن تعرف أن هذا الرجل من أهل الصيد، وهو الآن في الحرم واشترى السلاح لأجل أن يصطاد به صيداً في الحرم، فهذا حرام ولا يصح البيع؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وتأمل القرآن الكريم في قوله: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2]
وكذلك لا يصح بيع أوانٍ لمن يسقي بها الخمر، بأن أعرف أن صاحب هذا المطعم يأتيه الناس يشربون الخمر عنده، وأتى ليشتري أواني يسقي بها الخمر، فلا يجوز بيعه؛ لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان.
كذلك لا يصح بيع سلاح في فتنة بين المسلمين، فلو حصل فتنة وقتال بين المسلمين، وجاء رجل يشتري سلاحاً، وغلب على الظن أنه اشترى السلاح ليقاتل المسلمين، فإنه يحرم بيعه.
ولا يصح بيع عبد مسلم لكافر» لأنه من المعلوم أن السيد له سلطة وإمرة على عبده، فإذا بعت العبد المسلم على الكافر سلطت الكافر عليه ، وأذللت المسلم أمام الكافر، وإذلال المسلم حرام، فلا يحل للإنسان المسلم أن يبيع عبده المسلم على كافر .
قال تعالى: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2]
((2/430)
حديث بن عمر الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة .
( حديث حذيفة الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال :لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه .
ولا بيع العبد الكافر على الكافر الثابت في صحيح، بأن كان عند إنسان عبد كافر وباعه على كافر.
مسألة : ما هو الشرط لغةً وشرعا ؟
الشرط لغةً: العلامة، ومنه قول الله تعالى: {{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}} [محمد: 18] .
أما في الاصطلاح : فهو بحسب ما يكون شرطاً فيه، فقد يراد به ما تتوقف عليه الصحة، أي: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، ويختلف عن السبب بأن السبب يلزم من وجوده الوجود، ويشتركان في أنهما يلزم من عدمهما العدم.
فالوضوء شرط لصحة الصلاة يلزم من عدمه عدم صحة الصلاة، وهل يلزم من وجوده الوجود؟ لا؛ لأن الإنسان قد يتوضأ ولا يصلي.
ومنه شروط البيع السابقة فإنه يلزم من عدمها العدم ولا يلزم من وجودها الوجود، لأنه قد تتم الشروط كلها ويوجد مانع كأن يقع البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة.
الشروط في البيع غير شروط البيع:
الشروط في البيع: هي إلزام أحد المتعاقدين الآخر ما لا يلزمه بمقتضى العقد، وكذلك في غيره.
وأما ما يلزمه بمقتضى العقد، فإنه إن شرط فهو من باب التوكيد.
مسألة : ما الفرق بين الشروط في البيع وشروط البيع ؟
الفرق بين الشروط في البيع وشروط البيع، من وجوه أربعة:
الأول : أن شروط البيع من وضع الشارع، والشروط في البيع من وضع المتعاقدين.
الثاني: شروط البيع يتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزوم البيع، فهو صحيح، لكن ليس بلازم؛ لأن من له الشرط إذا لم يوف له به فله الخيار .(2/431)
الثالث: أن شروط البيع لا يمكن إسقاطها، والشروط في البيع يمكن إسقاطها ممن له الشرط .
الرابع : أن شروط البيع كلها صحيحة معتبرة؛ لأنها من وضع الشرع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح معتبر، ومنها ما ليس صحيح ولا معتبر؛ لأنه من وضع البشر، والبشر قد يخطئ وقد يصيب، فهذه أربعة فروق بين الشروط في البيع وشروط البيع .
وهل تكون هذه الفروق بين شروط النكاح والشروط في النكاح؟
نعم تكون كذلك، فهذه الشروط تكون في البيع أو في غيره من العقود .
مسألة : ما هي أنواع الشروط في البيع ؟
أنواع الشروط في البيع نوعان (صحيح وفاسد)
أولاً الشرط الصحيح : وهو ما لا ينافي مقتضى العقد
ثانياً الشرط الفاسد : وهو الذي ينافي مقتضى العقد
فمثلاً: إذا بعت عليك شيئاً فمقتضى العقد أنني أتصرف فيه بالبيع والرهن والتأجير والتوقيف، وكل التصرفات التي أملكها شرعا، فإذا شرط عليَّ البائع ألا أبيعه على أحد، فهذا ينافي مقتضى العقد، فمقتضى العقد أنني أتصرف فيه، فكيف يحبسني ؟!
مسألة: ما حكم الشروط إذا كانت صحيحة وفقدت ؟
الصحيح في هذه المسألة أن يقال: إن تبين أن البائع مدلس، وأنه غرَّ المشتري، فللمشتري أرش فقد الصفة، وإن لم يكن مدلساً فللمشتري الخيار بين الإمساك بلا أرش والرد؛ لأن البائع ـ أيضاً ـ قد يكون مغترّاً، ويقول: لم أرض ببيعه إلا بهذا الثمن، ولا أرضى أن ينزل من الثمن شيء .
مسألة : أعط مثالاً للشرط الصحيح ؟
من أمثلة الشرط الصحيح الرهن وتأجيل الثمن .
فالرهن من الشروط الصحيحة، والذي يشترطه غالباً البائع.
فإذا اشترط البائع على المشتري رهناً بالثمن فالشرط صحيح ، لأن فيه مصلحة للبائع وللمشتري أيضاً؛ لأن البائع إذا لم يلتزم المشتري بهذا الشرط فإنه لا يبيع عليه وحينئذٍ يحرم مما يريد من هذه السلعة.(2/432)
مثاله: أن يقول المشتري: اشتريت منك هذا الشيء بمائة؟ فيقول: بعت عليك، لكن أريد أن تعطيني رهناً، فأعطاه رهناً، فهذا الشرط الثابت في صحيح؛ لأنه لا ينافي مقتضى العقد، بل يزيد العقد قوة وتوثقة؛ لأن البائع الآن يطمئن إذا علم أن الثمن الذي باعه به فيه رهن، إذ أن فائدة الرهن أنه إذا لم يوف فإنه يُباع، ويستوفى الثمن منه.
«وتأجيل الثمن» يشترطه المشتري، عكس الأول، فالرهن يشترطه البائع، وتأجيل الثمن يشترطه المشتري .
مثاله : باع عليه متاعاً بمائة، فقال: أنا ليس بيدي شيء الآن، ولكن أريد أن يكون الثمن مؤجلاً إلى شهر، فتم البيع على ذلك ، فهذا البيع صحيح ، والشرط صحيح؛ لأن هذا لا ينافي مقتضى العقد؛ بل يزيده قوة وإحكاماً، ولأنه لا يوجد ضرر لأنه من مصلحة المشتري لأجل أن يتوسع، ومن مصلحة البائع كأن يخشى من أحد ينم عليه أن عنده أموالاً ثم تجعل عليه ضرائب من الحكومة أو يعتدي السراق عليه ، فصار من مصلحة البائع والمشتري وقد لا يكون من مصلحة المشتري، فالمشتري يود أن يسلم الثمن ويستريح .
ومنها يشترط البائع سكنى الدار شهراً، فيصح البيع، ويصح الشرط، والدليل ذلك
(حديث عمرو ابن عوفٍ المُزَني الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً .
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط ، شرط الله أحق وأوثق .
مسألة : هل يجوز أن يشترط شرطين في بيع ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) إن كان الشرطان يوقعان في محذور شرعي كالجهل، والظلم، والربا، وما أشبه ذلك، فلا يجوز ويكون الشرط فاسد مفسد أي يبطل العقد وعليه يحمل الحديث الاتي :
((2/433)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك»
(2) إما إن كان الشرطان لا يوقعان في محذور شرعي
فالصحيح جواز الجمع بين شرطين، بل بين ثلاثة شروط وأربعة شروط حسب ما يتفقان عليه.
مسألة : أعط مثالاً للشرطين في بيع الذي نهى عنهما النبي ( بقوله (ولا شرطان في بيع) ؟
مثاله (مسألة العينة) : وهي أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل، ثم يشتريه نقداً بأقل، فهنا نقول: هذه بيعتان في بيعة؛ لأن المبيع واحد والعقد اثنان، ولهذا قال: «له أوكسهما أو الربا» ، فهنا إذا باعه بمائة مؤجلاً، واشتراه بثمانين نقداً، فنقول: إما ألا تأخذ من المشتري شيئاً وهو الزائد، وخذ بالأقل، وهو الثمانون، فإن أخذت الزائد فقد وقعت في الربا؛ لأن النبي قال: «له أوكسهما أو الربا» .
مثاله: بعت هذه السيارة بمائة ألف إلى سنة، فهذه بيعة، اشتريتها من المشتري بثمانين نقداً، فهذه بيعة أخرى، أيهما أوكس؟ الثمانون، البائع إما أن يقتصر على الثمانين، ولا يطالبه بالزائد وهو عشرون، فإن طالبه بالزائد فهذا هو الربا، ولهذا قال: «له أوكسهما أو الربا» ، بمعنى أن نقول للبائع: ليس لك إلا الثمانون ولا تطالب المشتري بشيء، أو له «الربا» لأن هذا لا شك حيلة على الربا.
مسألة : هل يجوز للبائع أن يقول بعتك بيتي بشرط أن تقرضني مائة ألف ريال ؟
لا يجوز ، فهذا الشرط فاسد ومفسد للعقد، فلا يصح القرض، ولا يصح البيع.
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :«لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك»
مسألة : هل يجوز الوفاء بالشرط فاسد ؟
لا يجوز الوفاء بالشرط فاسد فهو مردودٌ على صاحبه.
((2/434)
حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط ، شرط الله أحق وأوثق .
مسألة : إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن والبيع قائم بعينه فما الحكم ؟
إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينه والبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع .
( حديث ابن مسعود الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال : إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينه والبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع .
مسألة : ما هو الخيار ؟
الخيار هو الأخذ بخير الأمرين، يقال: اختار، أي: أخذ بخير الأمرين فيما يرى، وإن كان بعضهم يقول: طلب خير الأمرين، إلا أن قولنا: الأخذ بخير الأمرين، هو الأولى؛ لأنه قد لا يكون طالب ومطلوب.
والخيار هنا : الأخذ بخير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ، سواء كان للبائع أو للمشتري.
مسألة : ما هي أقسام الخيار ؟
أقسام الخيار خمسة :
(1) خيار المجلس
(2) خيار الشرط
(3) خيار العيب
(4) خيار التدليس
(5) خيار الغبن
مسألة : ما هو خيار المجلس ؟
خيار المجلس : الإضافة من باب إضافة الشيء إلى مكانه والمجلس موضع الجلوس، والمراد به هنا: مكان التبايع، حتى لو وقع العقد وهما قائمان، أو وقع العقد وهما مضطجعان، فإن الخيار يكون لهما وهو خيار مجلس؛ لأن المراد بالمجلس مكان التبايع، لا خصوص الجلوس .
و خيار المجلس «يثبت للمتعاقدين» أي: للبائع والمشتري ما دام المتعاقدان في المجلس.
*ودليل ذلك :
(حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
قول النبي : «البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا» . وقوله في : (حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي النسائي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :(2/435)
إذا تبايع الرجلان فكل واحد منها بالخيار ما لم يتفرقا و كانا جميعا أو يخيرأحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع و إن تفرقا بعد أن تبايعا و لم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع .
«ما» مصدرية ظرفية يعني مدة عدم تفرقهما، وقوله: «وكانا جميعاً» تأكيد لعدم التفرق، وفيها فائدة وهي ما إذا تبايع رجلان بالهاتف فإنه في هذه الحال لا خيار، بمجرد ما يقول أحد: بعت والثاني يقول: اشتريت وجب البيع.
والحكمة من خيار المجلس هي أن الإنسان قد يتعجل في بيع الشيء أو شرائه ويقع ذلك منه من غير تروٍّ، فيحتاج إلى أن يعطى هذه الفسحة، وإنما أعطي هذه الفسحة لأنه إذا وقع الشيء في ملك الإنسان فإن الرغبة التي كانت عنده قبل أن يتملكه تقل فجعل الشارع له الخيار، وهذا من حكمة الشارع، ولم يكن طويلاً لانتفاء الضرر.
{ تنبيه } :( يحرُم الفرقة من المجلس خشية الاستقالة
( حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال:«الْبَيّعَانِ بالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرّقَا، إلاّ أنْ تَكُونَ صَفقَةَ خِيَارٍ. ولاَ يَحِلّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» .
مسألة : ما هو خيار الشرط ؟
خيار الشرط : وهو أن يشترطا أو أحدهما الخيار إلى مدةٍ معلومةٍ ولو طالت .(2/436)
مثال ذلك: قال: آجرتك بيتي مدة سنة بمائة ريال، ابتداء من اليوم، قال: نعم لكن لي الخيار لمدة شهر، فعلى القول الراجح يصح، فالعقد تم وسكن المستأجر، وبعد مضي عشرين يوماً فسخ الإجارة، فنقول: لا بأس، وعليك أجرة المثل في المدة التي سكنتها، فالآن لم يفت شيء لا على المستأجر ولا على المؤجر، وإنما قلنا: على المستأجر أجرة المثل وليس عليه القسط من الأجرة؛ لأن العقد بعد فسخه رُفع من أصله وتبين أنه لا عقد، والإنسان إذا استوفى منافع من غيره فعليه أجرة مثله، وهذا القول هو الثابت فيصحيح في هذه المسألة؛ لأن هذا في الحقيقة لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، ولا يضيع لأحدهما حقاً، وكل منهما رضي بهذا الشرط ؛ لأنه في الحقيقة سوف يعطي صاحب البيت حقه، وسوف يستوفي المستأجر حقه أيضاً، فليس فيه غرر.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا، أو يكون البيع خيارا).
(حديث عَمْرِو بنِ عَوْفٍ المُزْنِيّ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«الصّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ. إلاّ صُلْحاً حَرّمَ حَلاَلاً أوْ أحَلّ حَرَاماً. والمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلاّ شَرْطاً حَرّمَ حَلاَلاً أوْ أحَلّ حَرَاماً».
مسألة : ما هو خيار العيب؟
خيارالعيب : الخيار الذي سببه العيب، والعيب ضد السلامة، فيقال: هذا معيب، وهذا سليم، ويقال في البهيمة التي لا تجزئ في الأضحية: هذه معيبة، والسالمة يقال لها: سليمة، فالعيب ضد السلامة، والمعيب ضد السليم والفرق بين
فإذا اشتر الرجل سلعةً معيبةً ولم يدر بالعيب حتى تفرقا فله رد السلعة على صاحبها .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر).(2/437)
مسألة : ما هو ضابط العيب الذي يكون الخيار بسببه ؟
ضابط العيب الذي يكون الخيار بسببه : هو ما يُنقِص قيمة المبيع .
كمرض الحيوان وفقد عضو كأصبع وسن .
مسألة : إذاعلم المشتري العيب بعد العقد فماذا يصنع؟
إذاعلم المشتري العيب بعد العقد فإنه يُخير بين أن يمسكه بأرشه أي بعوضٍ أو يردَّه ويأخذ الثمن .
مسألة : ما هو الأرش ؟
الأرش : هو قسط ما بين الصحة والعيب ، أي يُقَوَّم المبيع وهوسالماً من العيب ثم يُقَوَّم وهو معيب فما بين القيمتين فهو أرش .
مسألة : ما هو خيار التدليس ؟
خيار التدليس : أن يدلس البائع على المشتري بما يزيد به الثمن ، ومعناه خيار الإخفاء؛ لأن الذي يخفي الشيء مدلس .
وللمشتري الخيار بين الإمساك والرد .
ولو صورتان:
الأولى : أن يظهر الشيء على وجه أكمل مما كان عليه .
الثانية : أن يظهر الشيء على وجه كامل وفيه عيب .
والفرق بينهما ظاهر ، فالأولى ليس في المبيع عيب ولكنه يظهره على وجه أجود وأكمل، وفي الثانية فيه شيء ولكنه أخفاه وأظهره على وجه سليم .
أمثلة التدليس فعل الصحابي ـ عفا الله عنه ـ حين وضع الطعام السليم فوق الطعام الذي أصابته السماء، فإن هذا تدليس .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال ما هذا يا صاحب الطعام قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس منا .
ومنه أن يكون عند الإنسان بيت قديم فيليسه حتى يظهره، وكأنه جديد.
ومنه أن يكون عنده سيارة مخدشة فيضربها صبغاً حتى يظن الظان أنه ليس فيها شيء .
ومنها تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، أي: جمع اللبن في ضرع البهيمة، ، فيربط ضرع البهيمة ويجتمع اللبن في الضرع، فإذا جلبها في السوق ورآها المشتري ظن أن هذه عادتها،
وهو محرم، قال النبي : «لا تصروا الإبل والغنم»
((2/438)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر).
مسألة : مالفرق بين خيار العيب وخيار التدليس ؟
الفرق بين خيار العيب وخيار التدليس، أن العيب فوات كمال، أما التدليس فهو إظهار محاسن والمبيع خالٍ منها.
مسألة : ما هو خيار الغبن ؟
الغبن بمعنى الخديغة ومنه قوله ( (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). وإذا حصل الغبن فللمشتري الخيار بين الإمساك والرد .
{تنبيه} : الغبن يكون في ثلاث صور :( النجش والمسترسل وتلقي الركبان)
مسألة : ما هو النجش ؟
النجش : والنجش هو زيادة السلعة ممن لا يريد شراءها ليوقع غيره من المسلمين فيها .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :نهى عن النجش .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا).
والناجش هو من يزيد في السلعة، وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد الإضرار بالمشتري، أو نفع البائع، أو الأمرين جميعاً.
مثال ذلك: عرضت سلعة للسوم فصار الناس يتزايدون فيها، وكان أحد هؤلاء يزيد في الثمن، وهو لا يريد الشراء، ولكن من أجل منفعة البائع؛ لأنه صاحبه، أما هو فلا يريد السلعة، أو يريد إضرار المشتري؛ لأنه عدوه، أو يريد نفع نفسه كأن يكون عنده سلعة مثلها فزاد في ثمنها لأجل أن يزيد ثمن سلعته، أو يريد أن يقول الناس: فلان ما شاء الله يزيد في السلعة، وهذا معناه أنه عنده أموال وتاجر.
فالضابط هو: أن يزيد وهو لا يريد الشراء، وإنما يريد غرضاً آخر، فإذا غبن المشتري بسبب هذه الزيادة غبناً يخرج عن العادة فإن له الخيار.(2/439)
والنجش محرم؛ لأن النبي نهى عنه فقال: «لا تناجشوا» ولأنه يورث العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأنه إذا علم أن هذا ينجش من أجل الإضرار بالمشترين كرهوه وأبغضوه، ثم عند الفسخ في الغبن ربما لا يرضى البائع بالفسخ، فيحصل بينه وبين المشتري عداوة أيضاً.
مسألة : ما هو المسترسل ؟
المسترسل» وهو المنقاد مع غيره المطمئن إلى قوله، هذا في اللغة.
وفي الاصطلاح: من جهل القيمة ولم يحسن المماكسة.
والمماكسة هي المحاطة في الثمن، وهي التي تعرف عندنا بالمكاسرة، فإذا أتى إلى صاحب الدكان، وقال: بكم هذه الحاجة؟ قال: بعشرة ريالات، وهو رجل يجهل القيمة ولا يحسن أن يماكس فأخذها بعشرة، فلما عرضها على الناس، قالوا: هذه بخمسة ريالات، قال: ما علمت، فنسمي هذا مسترسلاً له الخيار؛ لأنه إذا كانت قيمة الشيء بخمسة، واشتراها بعشرة فهذا غبن يخرج عن العادة فله الخيار، والدليل أن النبي قال: «من غش فليس منا» ، وهو من الخيانة للمسلمين، وكل من غش فيجب أن يحال بينه وبين مأربه، فإن كان يعلم القيمة ويدري أن قيمتها خمسة، ولكنه أخذها بعشرة تطييباً لقلب البائع، كما يعمله بعض الناس مثلاً إذا وجد رجلاً فقيراً عنده بسطة صغيرة، قال: بكم هذه يا فلان؟ قال: بعشرة وهو يعرف أنها بخمسة فأخذها بعشرة فلا يكون مسترسلاً؛ لأنه يعلم القيمة، وكذلك لو رأى مع صبي دجاجة تساوي عشرة، قال: بكم يا بني هذه؟ قال: هذه يا عم بعشرين وهو يدري أنها تساوي عشرة، لكن جبراً لقلب هذا الصبي وإدخالاً للسرور عليه، قال: خذ هذه العشرين، ثم بعدئذٍ ندم قال: كيف أبذل عشرين بما يساوي عشرة؟ فرجع إلى الصبي وقال: يا بني غبنتني فلا خيار له؛ لأنه يعلم القيمة ودخل على بصيرة.
مسألة : ما المقصود بتلقي الركبان ؟
تلقي الركبان، أي: أن يخرج عن البلد ليتلقى الجالبين إليه فيشتري منهم، ومن المعلوم أن هذا المتلقي سوف يشتري بأقل من الثمن،
((2/440)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :لا تلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى منه شيئا فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق .
«لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه ـ أي: من الجلب ـ فإذا أتى سيده السوق ـ وهو البائع ـ فهو بالخيار» ، هذا خيار غبن .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال :كنا نتلقى الركبان، فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام.
فلا يجوز للإنسان أن يتلقاهم ويشتري منهم حتى يذهبوا إلى السوق لأن في الشراء منهم قيل وصولهم إلى السوق إضراراً لهم وإضراراً للسوق
(إضراراً لهم) : لأن الذي يتلقاهم ربما يخدهم فيشتري منهم ما ثمنه مائة بخمسين .
(وإضراراً للسوق) : لأنه يحرم أهل السوق من الكسب في تجارة هؤلاء .
مسألة : ما هو الربا لغةً وشرعا ؟
الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}} [فصلت: 39] أي: اهتزت بأشجارها وعشبها، وربت أي: زادت، وليس المراد الأرض نفسها، بل المراد ما ينبت فيها.
وأما شرعا فهو زيادة في أشياء ونسأ في أشياء، ولو قيل: إن ربا الفضل هو التفاضل في بيع كل جنس بجنسه مما يجري فيه الربا، وربا النسيئة تأخير القبض فيما يجري فيه الربا.
فليس كل زيادة ربا في الشرع، وليس كل زيادة في بيع ربا، إذا كان المبيعان مما تجوز فيهما الزيادة، فلو بعت سيارة بسيارتين فلا بأس، وكتاباً بكتابين فلا بأس؛ لأنه ليس كل زيادة تكون ربا، بل الزيادة التي تكون ربا هي ما إذا وقع العقد بين شيئين يحرم بينهما التفاضل، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك، وأما الصرف فسيأتي تعريفه.
مسألة : ما حكم الربا ؟(2/441)
الربا محرم بالقرآن والسنة، وإجماع المسلمين، ومرتبته أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال: {{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [البقرة: 278، 279] ، ولأن الرسول : «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: هم سواء»
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال :لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء .
والربا من السبع الموبقات بنص السنة الثابتة الصحيحة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
( اجتنبوا ) أبعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة ذكره الطيبي
(السبع الموبقات) بضم الميم وكسر الموحدة التحتية المهلكات جمع موبقة وهي الخصلة المهلكة أو المراد الكبيرة أجملها وسماها مهلكات ثم فصلها ليكون أوقع في النفس .
الشاهد : قوله ( ( أكل الربا ) أي تناوله بأي وجه كان
، فهو من أعظم الكبائر. وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتابه «إبطال التحليل»، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال : الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه .
( الربا سبعون حوباً ) حوباً : أي إثما
((2/442)
حديث عبدالله بن حنظلةالثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :درهم ربا يأكله الرجل و هو يعلم أشد عند الله من ستة و ثلاثين زنية .
( درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم ) أي والحال أنه يعلم أنه رباً أو يعلم الحكم فمن نشأ بعيداً عن العلماء ولم يقصر فهو معذور
( أشد عند اللّه من ) ذنب ( ستة وثلاثين زنية )
قال الطيبي : إنما كان أشد من الزنا لأن من أكله فقد حاول مخالفة اللّه ورسوله ومحاربتهما بعقله الزائغ . قال تعالى : { فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله } أي بحرب عظيم فتحريمه محض تعبد ولذلك رد قولهم { إنما البيع مثل الربا } وأما قبح الزنا فظاهر شرعا وعقلاً وله روادع وزواجر سوى الشرع فأكل الربا يهتك حرمة اللّه والزاني يخرق جلباب الحياء اهـ . وهذا وعيد شديد لم يقع مثله على كبيرة إلا قليلاً . قال الحرالي : وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية لنفسه حق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه من جهة غيره فيتورع عن أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما خبيء له في الآجل . قال سبحانه وتعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } فهو آكل نار وإن لم يحس به . وكما عرّف اللّه تعالى أن أكل مال الغير نار في البطن عرف أن أكل الربا جنون في العقل وخبال في النفس { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } وظاهر صنيع المصنف أن هذا هو الحديث بتمامه والأمر بخلافه بل بقيته عند مخرجه أحمد في الحطيم هكذا ذكره وكأنه سقط من قلم المصنف .
وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.
مسألة : ما هي أقسام الربا ؟(2/443)
الربا ينقسم إلى قسمين، ربا الفضل، ربا النسيئة، ربا الفضل هو الزيادة، يعني أن يكون الربا بالزيادة كما لو بعت عليك صاعين من البر بثلاثة أصواع من البر.
وربا النسيئة هو أن أبيع عليك شيئاً ربوياً بشيء ربوي مع تأخير القبض فيهما، مثل أن أبيع عليك صاعاً من البر بصاع من الشعير مع تأخير القبض، واعلم أن هذين القسمين قد ينفردان وقد يجتمعان وقد يرتفعان، فإذا بعت عليك عشرة دراهم بدينار مع تأخير القبض فهذا ربا نسيئة، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين من البر مع القبض في مجلس العقد فهذا ربا فضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين منه مع تأخير القبض، اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاع من البر مع التسليم انتفى ربا الفضل وربا النسيئة .
مسألة: ما هي الأشياء الربوية ؟.
الأشياء الربوية: حددها النبي بالعد، ( حديث أبي سعيد الخدري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء .
وهذه الأشياء الستة مجمع عليها على حسب ما جاء في الحديث، أي مجمع على أنها هي الأموال الربوية، وأن الربا يجري فيها، واختلف العلماء في سواها، هل يلحق بها بالقياس أو لا يلحق ؟
الصحيح أنه لا يجري الربا إلا في هذه الستة فقط لأن الرسول حصره، وقد أعطي ـ عليه الصلاة والسلام ـ جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً ، ولو كان الربا يجري في كل مكيل أو موزون لقال: المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون؛ لأن هذا أعم وأخصر وأوضح، فلما عيَّن لا نتعدى ما قال ولا نتجاوز ما جاءت به السنة، وهذا استدلال قوي في الواقع.
مسألة : ما هو ربا الفضل ؟(2/444)
ربا الفضل أي : ربا الزيادة في الأصناف الستة المذكورة في الحديث الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ، فيحرم فيهما ربا الفضل، شعير بشعير يحرم، تمر بتمر يحرم، ملح بملح يحرم، ذهب بذهب يحرم، فضة بفضة يحرم .
[وكل شيء حرم فيه ربا الفضل فإنه يحرم فيه ربا النسيئة، لا العكس]
مسألة : ما هي شروط بيع الربوي بجنسه ؟
(يشترط في بيع الربوي بجنسه شرطان :
الأول : التقابض من الطرفين.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي، المكيل بالمكيل، والموزون بالوزن.
وإذا بيع الربوي بربوي من غير جنسه اشترط شرط واحد، وهو التقابض قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط، ولهذا يجوز بيعهما مكايلة وموازنة وجزافاً.
مثال ذلك: اشترى شعيراً ببر، أي: كيلو بر بكيلو شعير فهذا جائز؛ لأنه من غير جنسه وإذا اختلف الجنس، فقد قال النبي : «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد»
( حديث عبادة بن الصامت الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد .
، وإذا باع شعيراً بتمر وزناً، كيلو من هذا بكيلو من هذا، فهذا جائز؛ لاختلاف الجنس، وإذا اختلف الجنس لم يشترط التساوي.
وإذا باع تمراً ببر من غير تقدير لا بالوزن ولا بالكيل، فهذا جائز أيضاً؛ وذلك أنه لا يشترط فيه التساوي.
( وإذا بيع ربوي بغير ربوي فيجوز التفرق قبل القبض، ويجوز التفاضل، مثل أن يبيع شعيراً بشاة، أو يبيع شعيراً بثياب، أو ما أشبه ذلك، فهذا يجوز فيه التفرق قبل القبض والتفاضل .
مسألة : ما هو ربا النسيئة ؟
ربا النسيئة وهو تأخير التقابض في بيع الربويين وهم الأصناف الستة المذكورة في الحديث .
((2/445)
حديث الخدري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء .
فلو بعت ذهباً بذهب مع تأخر القبض فإن هذا هو ربا النسيئة .
مسألة : هل يجوز بيع صاعين تمر بصاعٍ تمر؟
لا يجوز بيع صاعين تمر بصاعٍ تمر لأنه يشترط في بيع الربوي بجنسه شرطان :
الأول: التقابض من الطرفين.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي، المكيل بالمكيل، والموزون بالوزن .
(حديث الخدري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء .
مسألة : هل يجوز بيع الرطب بالتمر ؟
لا يجوز بيع الرطب بالتمر لأن الرطب إذا يبس نقص
( حديث سعد بن أبي وقاص الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال :
سمعت رسول الله يسأل عن شراء التمر بالرطب فقال رسول الله أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا نعم فنهىعن ذلك .
{ تنبيه } :( يسستثنى من بيع الرطب بالتمر أصحاب العرايا فإن النبي ( أذن لهم .
(حديث رافع بن خديج الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :أن رسول الله نهى عن المزابنة، بيع الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن لهم .
مسألة : من هم أصحاب العرايا ؟
العرايا : جمع عرية وهي عطية ثمر النخل دون الرقبة
(و أصحاب العرايا) : هم الفقراء الذين لا نخل لهم ، كانوا يمنحون نخلةً أو أكثر عريةً يأخذون ثمرها ، فلهم أن يشتروها بخرصها تمراً .
مسألة : هل يجوز بيع ربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسه ؟
[ لا تباع حتى تفصل ]
((2/446)
حديث فضالة بن عبيد الثابت في صحيح مسلم ) قال :اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي فقال لا تباع حتى تفصل .
مسألة : ما هو الصرف ؟
الصرف وهو بيع النقد بالنقد ، تبيع مثلاً ذهباً بفضة أو فضة بفضة يعني دراهم بدراهم أو دراهم بدنانير، وسمي صرفاً لأنهم كانوا يزنون الدراهم والدنانير، يتبايعون بالوزن، حينما نضعها في الميزان يكون لها صريف، أي: صوت ولهذا سمي صرفاً.
(ومن أمثلة الصرف في العصر الحالي بيع الدولار بالجنيه المصري أو الدولار بالريال السعودي .
مسألة : ما هي شروط بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة؟
شروط بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة شرطان بنص حديث النبي (
[مثلا بمثل يدا بيد]
مثلا بمثل: التساوي
يدا بيد : التقابض من الطرفين.
الخدري الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء .
مسألة : ما هي شروط بيع الذهب بالفضة ؟
(شروط بيع الذهب بالفضة شرطٌ واحد بنص حديث النبي (
[يداً بيد] : التقابض من الطرفين.
( حديث عبادة بن الصامت الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد .
(حديث أبي المنهال الثابت في الصحيحين ) قال : سألت البراء رضي الله عنه بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، فقالا:كنا تاجرين على عهد رسول الله ، فسألنا رسول الله عن الصرف، فقال: (إن كان يدا بيد فلا بأس، وإن كان نساء فلا يصلح).
مسألة : ما هي الأصول ؟(2/447)
الأصول جمع أصل، وهو في اللغة ما يتفرع منه الشيء أو يُبنى عليه الشيء، فالأب أصل للابن؛ لأن الابن متفرع منه، وأساسُ الجدار أصلٌ للجدار؛ لأن الجدارَ مبنيٌّ عليه.
الأصل في الاصطلاح فإنه يختلف بحسب المواضع، والمقصود به في هذا الباب : هي الأشياء الثابتة من العقار، أي: الأراضي، والدور، والأشجار.
مسألة : ما هي الثمار؟
الثمار جمع ثمر، وهو ما ينتج من الأشجار، فالنخلة تعتبر أصلاً، وتمرها ثمر؛ لأنه نامٍ منها.
مسألة : من باع فما الذي يدخل في الدار ؟
إذَا بَاعَ دَاراً شَمِلَ أَرْضَهَا، وَبِنَاءَهَا، وَسَقْفَهَا، وَالبَابَ المَنْصُوبَ، وَالسُّلَّمَ، وَالرَّفَّ المَسْمُورَيْنِ .
{ تنبيه } :( هذه الأمور التي تدخل ضمن بيع الدار ليس لها دلالة شرعية، وإنما لها دلالة عُرفية، فكل ما دخل في بيع الدار عُرفاً دخل ضمن بيع الدار فإن العرف يؤخذ به فيما ليس فيه تحديدٌ شرعي .
مسألة : فإذا وجد المشتري في هذه الأرض كنزاً فهل يدخل في البيع ؟
لو وجد المشتري كنزاً مدفوناً، فليس للبائع أن يطالبه ويقول: إن الكنز لي، حتى يثبت ببينة أنه له؛ لأن الكنز لا يتبع الأرض فإذا وجد المشتري في هذه الأرض كنزاً فإنه لا يدخل في البيع، بل يكون لصاحبه، إذا كان مكتوباً عليه، أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن مكتوباً عليه فإنه لمن وجده؛ لأنه ليس داخلاً في البيع ، فلو استأجرت عمالاً يحفرون لي بيارة في البيت، وأثناء الحفر وجدوا هذا الكنز يكون للعمال، إلا إذا استأجرهم لحفر الكنز فيكون له .
فلو استأجرت عمالاً يحفرون لي بيارة في البيت، وأثناء الحفر وجدوا هذا الكنز يكون للعمال، إلا إذا استأجرهم لحفر الكنز فيكون له .
مسألة: إذا باع الأرض وفيها غرس فهل يتبع الغرس الأرض ؟(2/448)
إذا باع الأرض وفيها غرس فإن الغرس يتبع الأرض؛ لأن الغرس بالنسبة للأرض يعتبر فرعاً تابعاً لأصله، وكذلك البناء، فإذا باع أرضاً وفيها بناء فإنه يدخل في بيع الأرض؛ لأن البناء بالنسبة للأرض فرع فيتبع الأصل
مسألة: إذا كانت الأرض بيضاء ليس فيها بناء ولا غرس ولا زرع، فإذا باع هذه الأرض دخل كل ما فيها، ولكن هل يدخل فيها ما ينبته الله تعالى من الكلأ ؟
الجواب: لا يدخل؛ لأنه لا يملك بملك الأرض لقول النبي في الحديث الاتي :
( حديث رجلٍ من المهاجرين أصحاب النبي ( الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : «الناس شركاء في ثلاث الماء، والكلأ، والنار»
، فلا يدخل في البيع، أما ما غرسه الآدمي فيدخل.
مسألة : من باع غرساً، نخلا ـ مثلاً ـ ً فهل تدخل الأرض ؟
الجواب: لا ؛ لأن النخل فرع فلا يتبعه الأصل، فالأرض أصل والنخل فرع، ولا يمكن أن يتبع الأصلُ الفرعَ، ولكن في عرفنا نحن وإلى عهد قريب، إذا باع عليه نخله، أو باع عليه أثله، أو ما أشبه ذلك، فإنه يشمل الأرض ولا يعرف الناس إلا هذا، وعليه فيجب أن تنزل الألفاظ على الحقائق العرفية، ما لم ينص على أن المراد بها الحقائق اللغوية، فيتبع ما نصّ عليه، وأما عند الإطلاق فالواجب حمل الألفاظ على لسان أهل العرف.
وهذه قاعدة مطردة: (أن الواجب حمل الألفاظ على لسان أهل العرف)، فما اقتضاه لسان أهل العرف وجب حمل اللفظ عليه وما لا فلا.
مسألة : ماحكم من من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر؟
والصواب أن الحكم معلق بالتأبير لما يلي :
أولاً: لأن النبي علقه به، وليس لنا أن نتجاوز ما حده الرسول .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع و إن ابتاع عبدا و له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع .(2/449)
ثانياً: أن البائع إذا أبّره فقد عمل فيه عملاً يصلحه وتعلقت نفسه به، بخلاف ما إذا لم يؤبره فإنه لم يصنع شيئاً فيه .
وعلى هذا فالصواب: أنه إذا باع نخلاً تشقق طلعه قبل أن يؤبره فالثمر للمشتري، وإن أبره فهو للبائع.
فإذا أبر نخلة ولم يؤبر الأخرى فلكلٍ حكمه، فتكون ثمرة النخلة المؤبرة للبائع، وثمرة النخلة غير المؤبرة للمشتري.
مسألة : هل يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحه؟
لا يجوز الثمر ثمر قبل بدو صلاحه بنص السنة الصحيحة .
(حديث بن عمر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع .
أيُّ ثمرٍ لا يباع حتى يصلح، فلنمثل بالنخل: فلا يجوز أن تبيع ثمرة النخلة حتى يبدو صلاحها، ويجوز أن تبيع النخلة قبل بدو صلاح ثمرها.
مسألة : ما هو صلاح الثمر؟
صلاح الثمر في كلٍ بحسبه ففي ثمر النخل يكون الصلاح أن يحمرّ أو يصفرّ ، وفي العنب أن يسوّّد ، وفي الحب أن يشتد .
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي:نهى عن بيع ثمر التمر حتى يزهو. فقلنا لأنس: ما زهوها؟. قال: تحمر وتصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك.
( حديث أنس الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد .
وهذا دليل أثري، وهناك دليل نظري، وهو أنها إذا بيعت قبل بدو صلاحها فإنها لا تصلح للأكل وتكون عرضة للآفات والفساد، وإذا حصل هذا صار نزاع بين البائع والمشتري، والشريعة تقطع كل شيء يكون سبباً للنزاع والبغضاء والفرقة.
مسألة : إن بدا في النخلة صلاح حبة واحدة فهل يجوز بيعها ؟
الجواب : نعم يجوز ؛ لأنه بدا الصلاح
مسألة : فإن أخذ الحبة التي بدا صلاحها فهل يجوز البيع بعد أخذها ؟(2/450)
الجواب: يجوز، وكذلك لو أخذ الملونة بعد البيع فهذا يجوز، يعني لو أنه كان فيها حبة واحدة بدا صلاحها، ثم إنها أخذت وبيعت بعد ذلك فالظاهر الجواز؛ لأنه بدا صلاحها، فتدخل في الحديث.
مسألة : هل يكون الحصاد على المشتري أم البائع ؟
الحصاد واللقاط على المشتري : الحصاد في الزرع ، واللقاط للقثاء ونحوه، والجذاذ للنخل ونحوه، هذا على المشتري؛ لأنه تفريغ ملكه من ملك غيره، فهو المسؤول عنه، لكن لو اشترط المشتري على البائع أن يكون ذلك عليه ، فلو قال المشتري: أنا اشتريت منك ثمر النخل، لكن ليس عندي من يجذه فأنت أيها الفلاح جُذه لي وأت به، فقال البائع: لا بأس، فالجذاذ عليه بالشرط، وهذا شرط لا يستلزم جهالة ولا غرراً ولا ظلماً ولا ربا، والأصل في الشروط الحل والصحة إلا ما قام الدليل على منعه، ولأن غاية ما فيه أنه أضاف إلى البيع ما يصح عقد الأجرة عليه، وهذا جائز ولا حرج فيه.
مسألة : إذا تلفت الثمرة بعد أن بيعت بعد بدو الصلاح بآفة سماوية مثل حر شديد أفسد الثمر، أو بَرَدٍ أسقط الثمر، أو جرادٍ أكلها فهل يرجع المشتري على البائع بكل الثمن الذي دفعه له ؟
الجواب : إن تلفت بآفة سماوية» الضمير يعود على الثمرة، أي: إذا تلفت الثمرة بعد أن بيعت بعد بدو الصلاح بآفة سماوية مثل حر شديد أفسد الثمر، أو بَرَدٍ أسقط الثمر، أو جرادٍ أكلها، رجع المشتري على البائع بكل الثمن الذي دفعه له، والدليل ( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق .
مسألة : ما هو السَّلَمِ ؟
السَّلَمِ : هو السلف وزناً ومعنى
وَهُوَ عَقْدٌ عَلَى مَوْصوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مَقْبُوضٍ بِمَجْلِسِ العَقْدِ
[(2/451)
عقد على موصوف] : احترازاً من المعين، فلا يصح السلم في المعين؛ لأنه لا حاجة إلى الإسلام فيه ، ما دام حاضراً يباع بيعاً بدون أن يكون سلماً.
مثال ذلك: رجل عنده مائة صاع برٍّ في أكياس، فقال له آخر: أسلمت إليك مائة ريال بهذا البر، فهذا لا يصح؛ لأنه ليس على موصوف، فهذا على معين، إذاً لا يصح، حتى وإن كانا قد اتفقا على أن البائع لا يسلم هذا البر إلا بعد سنة فإنه لا يصح ولا يكون سلماً.
[في الذمة] : احترازاً من الموصوف المعين؛ لأن هناك شيئاً موصوفاً معيناً ليس في الذمة، مثل أن يقول: أسلمت إليك أربعين ألفاً بسيارتك التي في الكراج، صفتها كذا وكذا، فهذا موصوف معين فلا يصح السلم فيه؛ لأن هذا كالمعين الحاضر، فالمؤلف اشترط أن يكون موصوفاً في الذمة.
أما إن قال: أسلمت إليك هذه الأربعين ألفاً بسيارة بعد سنة فهذا يصح؛ لأنه موصوف في الذمة، ولم يعينه وليست موصوفة معينة في مكان معين.
[مؤجل] : أيضاً لا بد فيه من التأجيل، فإن لم يكن مؤجلاً فإنه لا يصح سلماً.
مثال ذلك: أن يقول: أسلمت إليك مائة الريال التي بيدي الآن بمائة صاع بر، فحكم هذا العقد لا يصح سلماً؛ لأن السلم لا بد أن يكون مؤجلاً، والدليل قول الرسول : «فليسلف في شيء معلوم إلى أجل معلوم»
الشاهد قوله: «إلى أجل معلوم»
[بثمن مقبوض] : يعني لا بد أن يكون الثمن مقبوضاً، فإن لم يقبض بطل ولم يصح.
[بمجلس العقد] : يعني لا بد أن يقبض المسلم إليه الثمن بمجلس العقد، فإن قبضه بعد التفرق فلا يصح، و المراد بمجلس العقد ألا يتفرقا قبل القبض فلو اتفقا على السلم في السوق، ثم اصطحبا إلى بيت المُسْلِم وأعطاه الثمن من بيته وهما لم يتفرقا فالسلم صحيح؛ لأنه حصل القبض قبل التفرق .
(وصورة السَّلَمِ): أن تأتي لرجل فلاح وتقول: يا فلان خذ هذه عشرة آلاف ريال بمائة كيلو من التمر تحل بعد سنة، فهذا هو السلم؛ لأن المشتري قدم الثمن، والمثمن مؤخر.
مسألة : ما حكم السَّلَمِ ؟(2/452)
والسّلم جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح :
أما الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}} [البقرة: 282] . وقد استدل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بهذه الآية على جوازه لأن قوله: {{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}} يعم ما إذا كان الدين هو الثمن أو المثمن، فإن كان الدين هو المثمن فهذا هو السلم.
وأما السنَّة: (حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين )
قال: قدم النبي المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: (من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، إلى أجل معلوم).
وأما الإجماع : فقد انعقد الإجماع على ذلك.
{ تنبيه } :( وجواز السلم من محاسن الإسلام، ويدل على هذا أن الفلاحين فيما سبق يحتاجون إلى دراهم، فيأتي الفلاح إلى التاجر فيقول: أعطني ـ مثلاً ـ مائة ريال، فيقول: لا أعطيك، فيقول: أعطيك بعد تمام ستة أشهر أو سنة بالمائة ريال مائة صاع برّ، فينتفع هذا وهذا، المسلم إليه ـ أي: البائع ـ منتفع بالثمن الذي قدم له، والمُسْلِمُ انتفع بأنه سوف يكون الثمن أقل من بيع الحاضر، يعني إذا كانت مائة الصاع بر تساوي خمسين سيسلم إليه أربعين؛ لأنه لا بد أن ينتفع، ولو أراد أن يُسلم إليه بالثمن العادي ما قبل؛ لأنه لو أسلم إليه بالثمن الحاضر صار كأنه قرض، فيقول: بدلاً من أن أعقد السلم وأتعب معك خذ قرضاً.
فصار كل من المسلِم والمسلَم إليه مستفيداً منتفعاً، أما المسلم إليه فينتفع بالدراهم التي حصل عليها، وأما المسلم فينتفع بنقص الثمن؛ لأنه سيأخذها بثمن أقل، فهو من محاسن الشريعة في الحقيقة.
مسألة : هل يصح السلم بألفاظ البيع ؟(2/453)
الجواب : يصح السلم بألفاظ البيع بأن يقول: اشتريت منك مائة صاع بر بعد سنة بهذه الدراهم، وإذا أراد المسلَم إليه أن يعقده فقال: بعتك مائة صاع بر تحل بعد سنة بمائة ريال، فيصح بألفاظ البيع لأنه نوع من البيع، فالبيع أعم منه.
مسألة : هل يصح السلم بألفاظ السَّلَف ؟
الجواب : يصح السلم بألفاظ السلم والسلف مع أن السلف يُطلق أحياناً على القرض، لكن لما كان العقد على هذا الوجه تعين أن يكون سلماً لا قرضاً.
والصواب أن جميع العقود تنعقد بما دل عليه اللفظ عرفاً وأنها لا تتقيد بشيء؛ لأن هذه الأمور لم يرد الشرع بتعيينها وتقييدها، وليست من أمور العبادة التي يتقيد الإنسان فيها باللفظ .
مسألة : ما هي شروط السّلم ؟
شروط السّلم ما يلي :
(الأول) : انضباط صفاته بمكيل موزون مذروع .
" الثاني " ذكر النوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً
" الثالث " ذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع
" الرابع " ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن فلا يصح حالاً
الخامس " أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء.
" السادس " أن يقبض الثمن تاماً معلوماً قدره ووصفه قبل التفرق
" السابع " أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين .
مسألة : ما المقصود بانضباط صفاته؟
المقصود بانضباط صفاته : أي أن يكون انضباط صفاته ممكناً، وأما ما لا يمكن انضباطه فلا يصح السلم فيه لوجود الغرر والجهالة
مسألة : كيف يمكن انضباط صفاته؟
انضباط الصفات يكون بالكيل والوزن والذرع.
فالكيل : مثل البر.
والوزن : كاللحم، والسكر، وما أشبه ذلك.
والمذروع : كالأقمشة والفرش والحبال وما أشبهها.
هل المعدود يصح فيه السلم؟
الجواب : أن المعدود فيه تفصيل: فإذا أمكن انضباطه صح وإن لم يمكن فلا، فالبرتقال لا يمكن انضباطه؛ لأن بعضه صغير وبعضه كبير، والبطيخ لا ينضبط، وهلم جرّاً.
مسألة : هل البقول يصح فيه السلم؟
«(2/454)
البقول» جمع بقل وهو الذي ليس له ساق من الزورع، مثل: البصل والكراث وما أشبه ذلك، فهذه ـ أيضاً ـ لا تصح؛ لأنها لا يمكن انضباطها، فأسلمت إليك مائة ريال بمائة حزمة من البصل، فهذا لا يصح؛ لأنه لا يمكن انضباطه، لكن لو جعلتها وزناً صح؛ لأنها لا تختلف.
مسألة : هل الجلود يصح فيها السلم؟
الجلود أيضاً لا يمكن انضباطها، إذا قلت: أسلمت إليك ألف ريال بمائة جلد شاة فهذا لا يصح؛ لأنها تختلف اختلافاً عظيماً بالكبر والصغر والقوة وحسن السلخ؛ لأن بعض الذين يسلخون يأتي الجلد وكأنه منخل؛ لأنه لا يعرف أن يسلخ؛ وبعضهم يكون سلخه جيداً، وبعضه يُلحِقُ اللحم بالجلد، فالمهم أنه لا يصح في الجلود .
مسألة : هل الرؤوس يصح فيها السلم ؟
الرؤوس لا يصح فيها السلم أي: إذا أسلمت إليك ألف ريال بمائة رأس شاة بعد سنة، فهذا لا يصح؛ لأن الرؤوس تختلف لا شك، حتى لو قلت: مائة رأس شاة رباعية ـ مثلاً ـ فهنا لا يصح؛ لأنه يختلف، فبعض الضأن إذا رأيت رأسه تقول: هذا رأس بقرة تقريباً، وبعضه يكون صغيراً جداً، ، لكن لو بعتها وزناً يجوز؛ لأن الوزن يضبطها.
مسألة : هل الجواهر يصح فيها السلم؟
«الجواهر» وهي ما يلقط من البحر، وهي لا يمكن أن يسلم فيها؛ لأنها لا يمكن انضباطها؛ لأن من الجواهر ما يصل إلى الآلاف، ومنها ما لا يساوي العشرات؛ ولذلك لا تباع بالصفة، فلا يمكن أن تباع الجواهر إلا بالمعاينة؛ لأن انضباطها بالصفة غير ممكن.
مسألة : هل الحامل من الحيوان يصح فيها السلم ؟
«الحامل من الحيوان» فلا يمكن السلم فيه؛ لأنه يندر جداً أن تجد حاملاً يمكن ضبط صفاتها مع حملها، وإن أطلقت فقلت: حامل فقط فلا صفة؛ لأن الحامل إن أردت أن تصفها وتصف حملها فهذا متعذر، وإن أطلقت فهذا فيه غرر؛ لأن هناك فرقاً بين الحامل الكبير حملها والحامل الصغير حملها.
مسألة : هل يصح السلم في المغشوش ؟
((2/455)
كل مغشوش لا يمكن انضباطها) فلا يصح السلم فيها لا يصح السلم فيه، ، فإنه وُجِدت فضة مغشوشة وذهب مغشوش، ولا يعلم قدر الغش فإنه يصح السلم فيها، أما الآن فإن قدر الغش معلوم يحكم عليه بأدق ما يكون، فيقال: هذا الذهب من عيار كذا، وهذا من عيار كذا، وهذه الفضة فيها غش ونسبته كذا.
لكن إذا وجد مغشوشات أخرى لا يمكن انضباطها فلا يصح السلم فيها.
مسألة : ما هي الغالية وهل يصح السلم فيها؟
الغالية أنواع من الطيب تخلط وتجمع، لا يصح السلم فيه؛ لأن الخلط غير المتميز مجهول، فإذا كان مجهولاً فإنه لا يصح.
وكذلك ما يجمع من الأدوية أخلاطاً غير متميزة .
مسألة : ما هي المعاجين وهل يصح السلم فيها ؟
المعاجين يستعملها الناس للمرضى ، والصحيح أنه يصح السلم فيها؛ لأنه وإن كانت النسبة مجهولة لكنها قليلة والغرض من ذلك منفعتها.
مسألة : هل يصح السلم في الحيوان ؟
الجواب يصح السلم في الحيوان (أي حيوان) من إبل أو بقر أو غنم أو حُمُر أو ظباء أو أرانب، والدليل أن النبي استسلف من رجل بَكراً، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما ـ رضي الله عنهما ـ قد أمره النبي أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على إبل الصدقة البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة ، فهذا دليل على جواز السلم في الحيوان، لكن لا بد من ضبطه، فيقال: ثني أو رباع أو جذع، سمين، ضعيف، متوسط، فلا بد أن يضبط، بكل وصف يختلف به الثمن .
{ تنبيه } :( ويستثنى من الحيوان شيء؟ نعم، الحامل كما سبق، فعليه يصح في الحيوان بشرط ألا يكون حاملاً .
مسألة : هل يصح السلم في الثياب المنسوجة من نوعين؟
الجواب : يصح السلم في الثياب المنسوجة من نوعين» مثل الخز منسوج من الحرير ومن القطن أو من الصوف، فيصح؛ لأن هذا معلوم وينضبط بالصفة فيصح السلم فيها.
مسألة : هل يصح السلم فيما خِلطه غير مقصود كالجبن؟(2/456)
الجبن فيه خلط وهو الإِنْفِحَّةُ، وهذه الإنفحة توضع في اللبن فيكون جبناً.
والإنفحة هي التي تكون في معدة الرضيع، الذي رضع أول مرة ثم ذبح، فهذا الذي في معدته جُبْن يجبِّن الأشياء، فلو وضعت منه شيئاً قليلاً في ماء وجدته يجمد، فهذا الجبن نقول: لا بأس به؛ لأن ما خلط فيه من الإنفحة غير مقصود.
مسألة : ما المقصود بذكر النوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً؟
المقصود بذكر النوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً :
إذا قلت: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع بر فلا بأس، لكن هذا البر يحتاج إلى ذكر نوع أخص؛ لأن البر في الواقع أنواع كما أن التمر أنواع، فنذكر النوع فنقول: بر حنطة، أو بر معية، أو بر لقيمي، كما هو معروف من هذه الأنواع في القصيم .
مسألة : ما المقصود بذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع؟
المقصود بذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع : يعني لا بد أن يذكر قدره بكيل في المكيل، ووزن في الموزون، وذرع في المذروع ولم يقل: أو عدٍّ؛ لأن العد فيه تفصيل، إن كان المعدود يختلف فإنه لا يصح الإسلام فيه، وإن كان لا يختلف صح الإسلام فيه.
مسألة : ما المقصود بذكر أجل معلوم له وقع في الثمن؟
المقصود بذكر أجل معلوم له وقع في الثمن:
(ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن) : هذه ثلاثة قيود: ذكر أجل، معلوم، له وقع في الثمن، ومعنى: «له وقع في الثمن» ، أي: له تأثير في الثمن بالزيادة أو النقص، وعلى هذا فإذا أسلم في شيء حالٍّ فإنه لا يصح السلم؛ لأنه لا بد من ذكر أجل، ولا بد ـ أيضاً ـ أن يكون الأجل معلوماً، بأن يقال: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع بر تحل في أول يوم من رمضان.
وقوله: «له وقع في الثمن» يعني له تأثير، فإن لم يكن له تأثير فإنه لا يصح الأجل؛ لأنه لا فائدة منه،
«فلا يصح حالًّا» هذا مفهوم قوله: «إلى أجل» .
مسألة : ما المقصود بأن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء؟
المقصود بأن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء :
((2/457)
أن يوجد غالباً» لأنه لا يمكن أن نقول يقيناً؛ لأن هذا الأمر مستقبل، والمستقبل لا يمكن لأحد أن يحكم عليه حكماً يقينياً.
«في محله ومكان الوفاء» ـ أيضاً ـ لا بد أن يكون المسلم فيه مما يوجد غالباً في محله، أي: في وقت حلوله. وقوله: «ومكان الوفاء» هذا مكان الحلول، أن يوجد المسلم فيه في الزمن والمكان عند الحلول؛ فإن جعله إلى وقت لا يوجد فيه المسلم فيه فإنه لا يصح، مثل أن يسلم إليه في عنب يحل في الشتاء فهذا لا يصح؛ لأن العنب في الشتاء لا يوجد، لكن في وقتنا الحاضر يمكن أن يوجد بواسطة الثلاجات، فيكون كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ مقيداً بهذا، فمتى وجد في محله ومكان الوفاء فإنه يصح.
مسألة : ما المقصود ب( يقبض الثمن تاماً معلوماً قدره ووصفه قبل التفرق) ؟
(يقبض الثمن تاماً معلوماً قدره ووصفه قبل التفرق :
«أن يقبض الثمن تامّاً» الفاعل المسلَم إليه، وهذا مأخوذ من قوله : «من أسلف في شيء فليسلف» ، فإن هذا يقتضي أنه لا بد من أن يقبض الثمن تامّاً، ومن المعنى أنه إذا لم يقدم الثمن فقد يتأخر، وحينئذ يكون الضرر على المسلم إليه؛ لأنه سيعطي المسلم أرخص مما يعطي الناس في مقابل تقديم الثمن، فإذا تأخر الثمن خسر مرتين، المرة الأولى حين غلب فاشتري منه ما يساوي عشرة بثمانية، والمرة الثانية حينما تأخر عليه قبض الثمن فلم ينتفع به، ثم إنه يسمى سلماً وسلفاً وهو مشتق من التقديم، فإذا أخر صار منافياً لما اشتق منه، فيدل على هذا الشرط المعنى واللفظ والأثر.
«معلوماً قدره» هذا في الكمية.
«(2/458)
ووصفه» هذا في الكيفية، يعني لا بد أن يقبض الثمن تامّاً معلوماً قدره ومعلوماً وصفه، ولا يكفي أن يقول: أسلمت إليك هذا الشيء المعين بكذا وكذا، بينما لو قلت: بعت عليك هذا الشيء المعين، ولو لم يعلم وصفه، يجوز لكن هذا لا بد أن يكون معلوماً وصفه، أي مما يمكن ضبطه بالوصف؛ وذلك من أجل الرجوع إذا تعذر الوفاء إلى هذا الثمن المعلوم قدره ووصفه؛ لأنه إذا كان غير مضبوط بالوصف يبقى الأمر مجهولاً.
«قبل التفرق» لا بد ـ أيضاً ـ أن يكون القبض قبل التفرق من مجلس العقد، ولو قمنا عن المكان ومشينا جميعاً، مثل أسلمت إليه بمائة درهم مائة صاع من البر، ولكن ليس معي مائة الدرهم، فمشينا جميعاً إلى أحد أصدقائي وتسلفت منه مائة الدرهم وأعطيتها الرجل يجوز؛ لأننا لم نتفرق.
مسألة : ما المقصود بأن يسلم في الذمة فلا يصح في عين؟
المقصود بأن يسلم في الذمة فلا يصح في عين :
ويجب والوفاء موضع العقد ويصح شرطه في غره وإن عقد ببر أو بحر شرطاه ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا هبته ولا الحوالة به ولا عليه ولا أخذ عوضه ولا يصح الرهن والكفيل به .
(أن يُسلم في الذمة) أي: ذمة المسلم إليه.
«فلا يصح في عين» بأن يقول: أعطيتك مائة درهم بمائة كيلو بر، فإن أسلم في عين بأن قال: أسلمت إليك مائة درهم بهذه العين فإنه لا يصح؛ لأنه ما دام المسلم فيه معيناً فلا حاجة فيه إلى السلم، يعطيه الدراهم ويأخذ هذا الشيء، ولا يبقى وديعة عند البائع، لا يستفيد منه البائع ولا يستفيد منه المشتري، ولأنه قد يتلف قبل حلول الأجل.
مسألة : ما هو القرض لغةً وشرعا؟
القرض لغةً: القطع، ومنه المقراض، أي: المقص؛ لأنه يقطع الثوب.
القرض شرعا: هو تمليك مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
مسألة : ما حكم القرض ؟
[(2/459)
بالنسبة للمقرض]: القرض في حقه مندوب، أي: مستحب؛ وذلك لأنه من الإحسان فيدخل في عموم قول الله تعالى: {{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 195] ، ومن حيث المعنى فإن فيه دفع حاجة أخيك المسلم، وتنفس عنه كربةً من كرب الدنيا ، ولهذا قال النبي ( في الحديث الآتي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
والشاهد قوله ( ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)
وللقرض أجرٌ عضيم وفضلٌ جسيم ولهذا قال النبي (في (حديث ابن مسعود الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة .
ويجب القرض أحياناً فيما إذا كان المقترض مضطراً لا تندفع ضرورته إلا بالقرض، ولكن لا يجب إلا على من كان قادراً عليه من غير ضرر عليه في مؤونته ولا مؤونة عياله.
كما أنه يكون أحياناً حراماً إذا كان المقترض اقترض لعمل محرم لقوله تعالى: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] ولكنه من حيث الأصل هو بالنسبة للمقرض مندوب؛ لأنه من الإحسان.
[أما بالنسبة للمستقرض] : فهو مباح، ولا يقال: إن هذا من المسألة المذمومة.(2/460)
مسألة : لو اشترط المقرض شيئاً كأن يقول : سوف أقرضك عسرة آلاف ريال على أن تعطينى معها ساعةً عند الوفاء فما الحكم ؟
الحكم أن كل قرضٍ جرَّ نفعاً فهو ربا .
مسألة : ماذا يجب على من اقترض ديناً ؟
[*](يجب على من اقترض دينا أموراً منها ما يلي:
(1) أن ينوي الأداء :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله).
( من أخذ أموال الناس ) بوجه من وجوه التعامل أو للحفظ أو لغير ذلك كقرض أو غيره كما يشير إليه عدم تقييده بظلماً لكنه
( يريد أداءها ) الجملة حال من الضمير المستكن في أخذ
( أدى اللّه عنه ) جملة خبرية أي يسر اللّه له ذلك بإعانته وتوسيع رزقه
( ومن أخذها ) أي أموالهم
( يريد إتلافها ) على أصحابها بصدقة أو غيرها
( أتلفه اللّه ) يعني أتلف أمواله في الدنيا بكثرة المحن والمغارم والمصائب ومحق البركة . وعبر بأتلفه لأن إتلاف المال كإتلاف النفس أو في الآخرة بالعذاب وهذا وعيد شديد يشمل من أخذه ديناً وتصدق به ولا يجد وفاء فترد صدقته لأن الصدقة تطوع وقضاء الدين واجب ، واستدل البخاري على ردّ صدقة المديان بنهي النبي عن إضاعة المال قال الزين زكريا : ولا يقال الصدقة ليست إضاعة لأنا نقول إذا عورضت بحق الدين لم يبق فيها ثواب فبطل كونها صدقة وبقيت إضاعة .
(2) أن يكون حسن القضاء :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :كان لرجل على النبي سن من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال : (أعطوه). فطلبوا سنه فلم يجدوا له إلا سنا فوقها، فقال: (أعطوه). فقال: أوفيتني أوفى الله بك، قال النبي : (إن خياركم أحسنكم قضاء).
الشاهد قوله ( (إن خياركم أحسنكم قضاء).
( إن خياركم ) أي من خياركم
((2/461)
أحسنكم قضاء ) للدين أي الذين يدفعون أكثر مما عليهم ولم يمطلوا رب الدين ويوفوا به مع اليسار ومفهومه أن الذي يمطل ليس من الخيار وهو ظاهر لأن المطل للغني ظلم .
(3) أن يدعو لمن أقرضه :
( حديث عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( استلف منه حين غزا حنينا ثلاثين أو أربعين ألفا فلما قدم قضاها إياه ثم قال له النبي بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد .
الشاهد قوله ( (إنما جزاء السلف الوفاء والحمد).
( إنما جزاء السلف الحمد والوفاء ) أي حمد المقترض للمقرض والثناء عليه وأداء حقه له قال الغزالي : فيستحب للمدين عند قضاء الدين أن يحمد المقضي له بأن يقول بارك اللّه لك في أهلك ومالك .
(4) ألا يماطل وهو يقدر على السداد :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع .
( مطل الغني ) أي تسويف القادر المتمكن من أداء الدين الحال
( ظلم ) منه لرب الدين فهو حرام .
( حديث الشريد بن سويد الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي ( قال : لي الواجد يحل عرضه و عقوبته .
( لي الواجد ) و«الواجد» هو القادر على الوفاء
( يحل عرضه ) بأن يقول له المدين أنت ظالم أنت مماطل ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش
( وعقوبته ) بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي
مسألة : ماذا يجب على صاحب الدين؟
[*](يجب على صاحب الدين أمورٌ منها :
(1) حسن المطالبة :
( حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال :من طالب حقا فليطلبه في عفافٍ وافٍ أو غير وافٍ .
(2) إنظار المعسر :
قال تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة: البقرة - الآية: 280]
((2/462)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه).
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال :«مَنْ أنْظَرَمُعْسِراً أوْ وَضَعَ لَهُ، أظَلّهُ الله يَوْمَ القِيامَةِ تحْتَ ظِلّ عرشِهِ، يَوْمَ لاَ ظِلّ إلاّ ظِلّهُ» .
مسألة كيف نتصرف مع المدين ؟
المسألة : على التفصيل الآتي :
(1) من لم يقدر على وفاء شيء من دينه، يعني ليس عنده شيء يفي به، كرجل عليه مائة درهم، لكن ليس عنده شيء، فكيف نعامل هذا؟
«لم يطالب به وحرم حبسه» يعني لا يحل لغريمه أن يطالبه، بل ولا أن نطلبه؛ دليل ذلك قوله ـ تعالى ـ: {{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}} [البقرة: 280]، ولما قال: {{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}}. قال: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] ، إذاً هذا لا يتعرض له ويترك حتى يرزقه الله ويوفي دينه، هذا الذي لا يستطيع وفاء شيء من دينه، فليس عنده شيء أبداً.
وبهذا نعرف أن أولئك الظلمة، الذين يطالبون الغرماء الذين ليس عندهم شيء، لا يخافون الله، ولا يرحمون عباد الله، لا يخافون الله؛ لأنهم عصوا الله، فالله يقول: {{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}}، وهؤلاء لم ينظروه، ولم يرحموا عباد الله؛ لأنهم يكلفون العبد ما لا يطيق، وربما أدى ذلك إلى حبسه؛.
وإن كان لديه ما يسدُّ دينه أمر بوفائه ، فإن أبى حبس بطلب صاحب الدين، فيحبسه ولي الأمر إما في السجن العام، وإما في بيته، وإما في بيت آخر، المهم أنه يمنع من التصرف، ومن التجول.(2/463)
والدليل على الحبس قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( حديث الشريد بن سويد الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي ( قال : لي الواجد يحل عرضه و عقوبته .
( لي الواجد ) و«الواجد» هو القادر على الوفاء
( يحل عرضه ) بأن يقول له المدين أنت ظالم أنت مماطل ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش
( وعقوبته ) بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي.
(2) إذا كان ماله لا يفي بما عليه حالًّا وجب الحجر عليه :
مثاله: رجل له ألف ريال وهو مطلوب بألفين، فالمال الذي عنده لا يفي بما عليه حالًّا، فماذا نصنع؟
خلاصة الأمر هنا : أنه يحجر على المدين إذا كان ماله أقل من دينه، لكن بشرط سؤال الغرماء أو بعضهم، فإن لم يسألوا فلا حرج إذا لم يحجر عليه، لكن الصحيح أنه محجور عليه شرعا، لا حكماً، والدليل قول النبي : «مطل الغني ظلم» ،والتبرع بماله يؤدي إلى المطل، وعدم الوفاء، فيكون ذلك ظلماً، لكن يفترق عن المحجور عليه حكماً، بأن هذا يصح أن يتصرف في ماله بغير التبرع، فيجوز أن يتصرف لكن لا يتبرع فيبيع ويشتري ـ مثلاً ـ ولا حرج، فهذا هو الفرق.
ولهذا نقول للمدين الذي ماله أقل من دينه ولم يحجر عليه: بع واشتر ليس ثمة مانع، لكن لا تتصدق ولا تتبرع، وإذا جاءه صاحب له وأراد أن يبيع عليه ما يساوي عشرة بثمانية فهذا لا يجوز؛ لأن هذا تبرع في الواقع.
مسألة : من وجد ماله عند إنسان قد أفلس فماذا يصنع؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) إن وجد ماله بعينه ولم يكن قبض منه شيئاً فهو أحقُ به .
(2) وإن كان قبض منه شيئاً فالمالُ أُسوة الغرماء .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من أدرك ماله بعينه عند رجل، أو إنسان، قد أفلس فهو أحق به من غيره).
((2/464)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال :أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل وقد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة للغرماء .
مسألة : ما هو الرهن لغةً وشرعا؟
الرهن لغةً: الحبس، ويطلق على الثبوت، فمن الأول قوله تعالى: {{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *}} [المدثر] ، أي: محبوسة بما كسبت، وقوله تعالى: {{كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}} [الطور: 21] ، أي: محبوس، وأما الثبوت فمنه قولهم: ماء راهن، أي: راكد ثابت.
الرهن شرعا: هو جعل مال وثيقة بدين ليستوفي منهإن تعذر وفاؤه من المدين.
مسألة : ما حكم الرهن ؟
الرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع، والنظر الصحيح، فأدلته أربعة:
أما الكتاب: قال تعالى : {{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}} [البقرة: 283] .
وأما السُّنة :
( لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :«الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة».
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) : أن النبي ( اشترى طعاما من يهودي إلى أجل، ورهنه درعا من حديد.
والإجماع منعقد على هذا، والنظر والقياس يقتضي ذلك؛ لأن الناس محتاجون إلى أن تمشي معاملاتهم فيستفيد الراهن والمرتهن؛ لأن المرتهن يقول: أنا لا أقرضك إلا برهن، فإذا أعطى الراهن المرتهن رهناً انتفع المرتهن، والراهن ينتفع ـ أيضاً ـ حيث يجد من يقرضه ويقضي حاجته، وكل شيء يتضمن مصلحة بدون مفسدة راجحة فإن القياس يقتضي حله وجوازه؛ لأن أصل الشريعة مبني على المصالح الخالصة أو الراجحة، هذا مبنى الشريعة الإسلامية.
مسألة : هل يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن؟(2/465)
لا يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن لما سبق في الرهن أن كل قرض جرَّ نفعاً فهو ربا إلا أن يكون الرهن مركوباً أو محلوباً فيجوز للمرتهن أن يركب المركوب ويحلب المحلوب وعليه النفقة .
( لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : «الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة».
مسألة : ما هي الأشياء التي يجوز رهنها ؟
القاعدة أن كل عين يجوز بيعها يجوز رهنها وما لا فلا».
المثال الأول: إنسان أراد أن يستدين، فقال له الدائن: لا أديِّنك إلا إذا رهنتني ولدك، فقال: لا بأس أرهنك ولدي، فهذا لا يصح؛ لأن الولد لا يصح بيعه.
المثال الثاني: إنسان بدوي عنده ماشية وله كلب يحرس هذه الماشية، فجاء إلى إنسان وقال: أريد أن تقرضني ألف ريال، قال: لا أقرضك إلا برهن، قال: أرهنك كلبي، فهذا لا يصح؛ لأن الكلب لا يصح بيعه، فإذا كان لا يصح بيعه فما فائدته، فلا يكون فيه توثقة، فإذا كانت العين لا يصح بيعها فلا فائدة في رهنها إطلاقاً؛ لأنه إذا حل الدين، وأراد صاحب الدين أن يبيع الرهن ليستوفي حقه، صار الرهن ممنوعاً بيعه فلا يستفيد.
المثال الثالث: إنسان عنده بيت موقوف عليه وعلى ذريته، فأراد أن يستدين من آخر، فقال: لا بد من رهن، قال: أرهنك هذا البيت، فلا يجوز؛ لأنه لا يصح بيعه وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.
مسألة : ما هو الضمان لغةً وشرعا ؟
الضمان لغةً مشتق من الضِّمن، والضمن معناه دخول الشيء في الشيء؛ لأن ذمة الضامن دخلت في ذمة المضمون عنه.
ومنه ضمان أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ دين الميت الأنصاري، حين قُدِّم إلى الرسول ليصلي عليه فقال: «أعليه دين»؟ قالوا: نعم، فتأخر وقال: «صلوا على صاحبكم» ، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ ، فتقدم النبي فصلى عليه
((2/466)
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: (هل عليه من دين). قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: (هل عليه من دين). قالوا: نعم، قال: (صلوا على صاحبكم). قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه.
مسألة : ما هو حكم الضمان ؟
حكم الضمان:
الضمان جائز في حق المضمون عنه ؛ لأنه لو جاء شخص، وقال لآخر: اضمني جاز كما يجوز أن يقول: أقرضني .
أما في حق الضامن فهو سنة مستحبة؛ لأنه من الإحسان، والله يحب المحسنين، ولكنه سنة بقيد وهو قدرة الضامن على الوفاء، فإن لم يكن قادراً فلا ينبغي أن تأخذه العاطفة في مساعدة أخيه لمضرة نفسه، فإن هذا من الخطأ، ويوجد الآن أناس غارمون، وسبب الغرم الضمان، فنقول: هذا خطأ لا تحسن إلى غيرك وتسيء إلى نفسك؛ فإن هذا ليس من الحكمة.
مسألة : ما هي الألفاظ التي يصح بها الضمان ؟
الألفاظ التي يصح بها الضمان (ضمين أو كفيل أو زعيم)
( حديث أبي أمامة الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :الزعيم غارم .
مسألة : ممن يصح الضمان ؟
لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف ، هو البالغ العاقل، الحر، الرشيد،
[*](أي: من جمع أربعة أوصاف:
(الأول: أن يكون بالغاً، وضده الصغير، والصغير لا يعطى ماله، حتى وإن كان يحسن التصرف؛ لقول الله ـ تعالى ـ: {{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}} [النساء: 6] ، فاشترط الله لدفع المال شرطين:
الأول: {{إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}}.
(الثاني: أن نبصر منهم الرشد، لقوله: {{آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}}.(2/467)
والرشد: هو إحسان التصرف في المال، وهو في كل موضع بحسبه، فمثلاً الرشد في الدين استقامة الدين، الرشد في باب الولي في النكاح، معرفة الكفء ومصالح النكاح، والرشيد في العبادات هو الذي قام بالواجبات وترك المحرمات، والرشد في المال إحسان التصرف فيه؛ لأن هناك كلمات تفسر في كل موضع بما يناسب.
الثاني: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، ودليله أن الله اشترط إيناس الرشد، والرشد لا يكون مع الجنون أبداً.
(الثالث: أن يكون حراً، والحر ضده العبد، فالعبد لا يصح أن يضمن؛ لأن العبد لا يتصرف إلا بإذن سيده.
(الرابع: أن يكون رشيداً، والرشيد هو من أحسن التصرف في ماله بيعاً وشراء وتأجيراً وإيجاراً ورهناً وارتهاناً، وما أشبه ذلك.
مسألة : ما هي الكفالة وما الفرق بينها وبين الضمان ؟
الكفالة : التزام جائز التصرف إحضار بدن من عليه الحق .
الفرق بينها وبين الضمان : أن الضمان التزم إحضار الدين، وهذا إحضار البدن، فإذا أحضر الكافل المكفول وسلمه لصاحب الحق برئ منه، سواء أوفاه أو لم يوفه، وهذا فرق واضح وحينئذٍ تكون الكفالة أدنى توثقة من الضمان؛ لأن الضمان يضمن الدين، وهذا يضمن من عليه الدين، فإذا أحضره برئ منه، وإذا مات المكفول برئ، وإذا مات في الضمان لا يبرأ.
مسألة : ما حكم الكفالة ؟
الكفالة من حيث هي سنة للكفيل وهذا بشرط أن يعلم أنه قادر على إحضار بدن المكفول، أو إيفاء الدين عنه، فإن عرف من نفسه أنه غير قادر فلا ينبغي أن يكفل أحداً؛ ولهذا نجد الآن أناساً كثيرين يأتون وهم يشكون ديوناً عظيمة عليهم، سببها أنهم يكفلون الناس، والإنسان إذا عرف أن مكفوله متساهل ومتلاعب فلا يكفله.
فنقول: احرص على ألا تكفل؛ لأن الناس في الوقت الحاضر خاصة لا أحد يوثق به إلا من شاء الله.(2/468)
أما من حيث المكفول والمضمون، فهذا لا يعتبر له رضاً، ولا يعتبر له علم؛ لأنه ليس عليه ضرر، وقد سبق لنا التفصيل في مسألة الضمان أنه إذا كان عليه ضرر، فإنه لا ينبغي للضامن أن يُقْدِم ويضمن.
مسألة : ما هي الحوالة؟
الحوالة معناها التحويل أو التحول، أي: تحول الحق من ذمة إلى ذمة، وهو عبارة عن انتقال الحق من فلان إلى فلان، مثاله: عندي لشخص مائة درهم وعند زيد لي مائة درهم، فجاء يطلبني حقه الذي عليَّ فقلت له: أحلتك به على زيد، فالآن نقلتُ الحق من ذمتي أنا المطلوب، إلى ذمة رجل آخر وهو الذي أنا أطلبه.
وهي من حسن القضاء والاقتضاء؛ لأن المحال إذا قَبِل فقد يسر الأمر على المحيل؛ ولأن المحيل ـ أيضاً ـ إذا أحال صاحبَ الدين بدينه فهذا من التيسير؛ لأن المحيل قد يكون معسراً فيحيله على موسر.
وهي من الإحسان والمعروف، إذا كان فيها تسهيل وتيسير على المكلف.
أما حكمها شرعا فإنها جائزة بل مستحبة بل واجبة عند بعض العلماء لكن بشروط، والدليل على جوازها
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع .
الشاهد : قوله ( [فإذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع ]
( وإذا أُتبع) بالبناء للمجهول أحيل
( أحدكم على مليءٍ ) كغني لفظاً ومعنى وقيل بالهمز بمعنى فعيل . وضمن اتبع معنى أحيل فعداه بعلى
( فليتبع ) فهذا أصل في جواز الحوالة .
ما هي شروط صحة الحوالة؟
[*]( شروط صحة الحوالة ما يلي :
(1) أن يكون الدين المحال عليه مستقرّاً، أي ثابتاً ثبوتاً ليس فيه فسخ أو عرضة لفسخ، كثمن المبيع، والأجرة بعد تمام المدة، والقرض ، المهم أن يكون على دين مستقر، احترازاً من الدَّين غير المستقر كدين الكتابة.(2/469)
مثاله: إنسان كاتب عبده بعشرة آلاف، فصار على العبد دين، حيث اشترى نفسه من سيده بعشرة آلاف ريال، فلا يملك السيد الآن أن يحيل على الدين الذي في ذمة المكاتب؛ لأنه غير مستقر، فإذا كان هذا السيد عليه عشرة آلاف وأراد أن يحيل صاحب الدين على دين الكتابة، فقد تحصل وقد لا تحصل، فيكون هذا الذي تحول إما سالماً وإما غارماً، أي: أنه لا يدري هل يغرم أو يحصل على حقه؛ لأن هذا العبد قد يعجز عن تسليم المال المكاتب عليه فيضيع حق المحتال، فلهذا لا بد من أن يكون المحال عليه مستقراً.
(2) ويشترط اتفاق الدَّينين» أي المحال به، والمحال عليه.
«جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً» أي: اتفاقهما في أربعة أمور:
الأمر الأول: الجنس، بأن يحيل مائة صاع بر في ذمته، على من له في ذمته مائة صاع بر، فإن أحاله بمائة صاع بر على مائة صاع شعير فإنه لا يصح، لاختلاف الجنسين، فهي ليست حوالة ولكنها في الحقيقة بيع.
وأيضاً لو أحاله بعشرة دنانير على عشرة دراهم، فلا يصح لاختلاف الجنسين.
الأمر الثاني: الوصف بأن يكون كل منهما جيداً، أو رديئاً، أو وسطاً، لا يصح أن يحيل جيداً على رديء، ولا رديئاً على جيد إلا إذا وافق صاحب الدين كأن أنا أحب أن آخذ الرديء ولا يبقى حقي في ذمة هذا الرجل الفقير أو المماطل.
الأمر الثالث: الوقت، وذلك فيما إذا كان الدَّينان مؤجلين، فلا بد من اتفاق الدينين في الأجل، فلا يحيل ما يحل بعد شهر، على ما يحل بعد شهرين إلا إذا وافق صاحب الدين .
الأمر الرابع: القدر فيشترط ـ أيضاً ـ اتفاق الدَّينين قدراً، فلا يحيل بعشرة على ثمانية؛ لأن هذا يشبه البيع، والبيع مع التفاضل لا يجوز، فلو أسقط عنه اثنين، وأحاله على فلان بثمانية فهذا يجوز، لأنه لما أسقط الاثنين صار الذي عنده ثمانية، فإذا أحاله بها على من يطلبه ثمانية تساويا.
((2/470)
3) رضا صاحب الحق (المُحيل) لا رضا المحال عليه» المحال عليه لا يعتبر رضاه، فلو أحال رجل بدينه على آخر، وقال المحال عليه: لا أقبل؛ لأن المحتال رجل سيئ الطلب، ويتعب المطلوب، أنا أريد الأول؛ لأنه أسهل وأيسر، فلا يملك ذلك، قال العلماء: لأنه ـ أي: صاحب الحق ـ يملك استيفاءه بنفسه وبوكيله، والمحتال كأنه وكيل، فكما أن لصاحب الحق أن يوكل رجلاً خصماً لدوداً في استيفاء حقه فله أن يحيله أيضاً.
مسألة : متى تصح الحوالة؟
تصح الحوالة بتمام الشروط وانتفاء الموانع؛ لأن كل شيء من عبادة أو معاملة لا يصح إلا باجتماع شروطه وانتفاء موانعه.
مسألة : ماذا يترتب على صحة الحوالة؟
إذا صحت الحوالة نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل، وبرئ المحيل براءة تامة، لقوله ( ( وإذا اتبع أحدكم على مليءٍ ) كغني لفظاً ومعنى وقيل بالهمز بمعنى فعيل . وضمن اتبع معنى أحيل فعداه بعلى
( فليتبع ) بالتخفيف أجود أي فليحتل . أي يتحول من المحيل إلى المحال عليه، فلو كان رجل عليه مائة ألف، وأحال بها على شخص، وتمت الشروط، ثم إن المحال عليه افتقر، فإن المحال لا يملك الرجوع إلى المحيل، فيقول المحيل: أنا أحلتك والحوالة تمت، وإذا تمت، فإنها تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
والحوالة غير الضمان، فالضمان سبق أنه لا ينقل الحق؛ فلا ينقل الحق من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وكذلك الكفالة، لكن الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويبقى المحيل بريئاً.
مسألة :لو فرض أن المحال عليه أعسر، فهل يرجع المحال على المحيل؟
الجواب: لا؛ لأن الحق انتقل وبرئ المحيل براءة تامة.
مسألة :من هو المليء؟
الجواب: هو القادر على الوفاء بقوله وماله وبدنه.
أما «قوله»: فألا يكون كاذباً يَعِدُ ويُخْلِفُ، وهذا هو المماطل، فإذا أحاله على شخص غني، لكن من عادَته أن يماطل فيعد ويكذب، فإنه يعتبر رضا المحتال.
«(2/471)
وماله» بأن يكون عنده مال يستطيع الوفاء منه، فإن كان فقيراً اعتبر رضا المحتال.
«وبدنه» وهو أن يمكن إحضاره عند المحاكمة إلى مجلس الحكم، فإن كان لا يمكن محاكمته شرعا أو عادة، فإنه لا يلزمه أن يتحول، ولا بد من رضاه.
مسألة : ما هو الصلح لغةً ؟
الصلح لغةً : قطع النزاع وشرعا عقد وضع لرفع النزاع بين المتخاصمين. ، هذا هو الأصل، وله أنواع كثيرة، ويتعلق بجميع الحقوق المالية وغيرها، فكلها يمكن أن يقع فيها الصلح، قال الله تعالى: {{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}} [النساء: 128] .
وهذا فيما بين الزوجين من حقوق، وقال الله تعالى: {{لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}} [النساء: 114] ، وجاز شرعا أن يكذب الإنسان من أجل السير إلى الصلح والمصالحة بين الناس، وحث الشرع على الإصلاح بين الناس، وثبت عن النبي أنه صالح المشركين في غزوة الحديبية، وهذا فيما يقع بين المسلمين والمشركين من العهود.
المهم أن الصلح جارٍ في كل شيء، وبين كل متعاقدين، وهو كما جاء في الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول «الصلح جائز بين المسلمين» ، أي في كل شيء، وجائز بمعنى نافذ، «إلاَّ صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»، أي: فإنه لا ينفذ.
(حديث عَمْرِو بنِ عَوْفٍ المُزْنِيّ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «الصّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ. إلاّ صُلْحاً حَرّمَ حَلاَلاً أوْ أحَلّ حَرَاماً. والمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إلاّ شَرْطاً حَرّمَ حَلاَلاً أوْ أحَلّ حَرَاماً».
( حرم حلالاً ) كمصالحة امرأته على أن لا يطأ أمته أو ضرتها.(2/472)
والصلح أنواع، فيكون في الحقوق والأموال والأعراض، كل شيء، ولهذا أطلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ فقال: {{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}} [النساء: 128]
وهنا في هذا الباب، يريد الفقهاء به الصلح في الأموال، ويذكرون الصلح في النزاع بين الزوج وزوجته في باب عِشْرَة النساء، وفي باب أهل الزكاة في الغارم لإصلاح ذات البين، ففي كل موضع بحسبه، فالذي معنا هنا الصلح في الأموال، وهو على نوعين صلح على إقرار وصلح على إنكار، أي: الصلح يكون على شيء أقرَّ به مَنْ عليه الحق، ويكون على شيء أنكره من عليه الحق.
مسألة : إنسان عنده لشخص مائة درهم قد أقر بها، فقال له: أنا أريد أن تسقط عني خمسين درهماً وتؤجل الباقي، فقال: لا بأس أفعل، ففعل هل يصح ذلك؟
الصحيح في هذه المسألة أنه يصح، فإذا قال: وضعت عنك خمسين درهماً وأجَّلت الخمسين، فإنه يجب أن يفي بوعده؛ لأن إخلافَ الوعدِ ـ ولا سيما في مثل هذه الأمور المالية التي قد يترتب عليها ضمان أو نقص ـ محرمٌ، والنبي قال محذراً منه: «آية المنافق ثلاث ومنها إذا وعد أخلف»
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان .
ويلزمه خمسون مؤجلة.
فالصواب أنه [يصح الوضع، وأن الحال يتأجل بالتأجيل] لعموم قوله ( (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ)وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لأنه عهد ووعد، وقد قال الله تعالى: {{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}} [الإسراء: 34] .
مسألة : رجل في ذمته لآخر مائة درهم مؤجلة إلى سنة، وفي أثناء السنة جاء الدائن للمدين، وقال: أعطني منها خمسين وأبرئك من الباقي فهل يصح ذلك؟(2/473)
الصحيح أنه جائز، وأن الإنسان إذا أخذ البعض في المؤجل وأسقط الباقي فإن ذلك صحيح؛ لأن السنة وردت به في قصة إجلاء بني النضير من المدينة، حيث قال الرسول : «ضعوا وتعجلوا» ، ضعوا أي: أسقطوا، وتعجلوا أي: المؤجل؛ وعموم قوله ( (الصلح جائز بين المسلمين )ولأن فيه مصلحة للطرفين، أما الطالب فمصلحته التعجيل، وأما المطلوب فمصلحته الإسقاط، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بمنع عقد فيه مصلحة للطرفين، وليس فيه غرر ولا جهالة، وأيضاً فإن الربا في هذا بعيد جداً؛ لأن المدين لم يطرأ على باله حين استدان أنه سوف يرده أنقص معجلاً، فمحظور الربا بعيد جداً .
مسألة : ما هو الحجر لغةً وشرعا ؟
الحجر لغةً : المنع والتضييق، ومنه سمي العقل حِجْراً، قال: ـ تعالى ـ: {{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ *}} [الفجر: 5] ، أي: لذي عقل، وسمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل ما لا يليق شرعا أو عرفاً.
الحجر شرعا: فهو منع إنسان من التصرف في ماله، وذمته، أو في ماله فقط.
وهو قسمان: إما لمصلحته أو لمصلحة غيره، أي أن الحجر قد يكون لمصلحة المحجور عليه، وقد يكون لمصلحة غيره، فإن كان لمصلحته فهو حجر في المال والذمة، وإن كان لمصلحة الغير فهو حجر في المال فقط.
فمثلاً إذا قلنا للموصي: لا توص بأكثر من الثلث، أي: حجرنا عليه فيما زاد على الثلث فهذا لمصلحة الغير، فيمنع من التصرف في ماله ولا يمنع من التصرف في ذمته، وإذا حجرنا على السفيه ألا يتصرف في ماله أو ذمته فهذا لمصلحة نفسه .
مسألة كيف نتصرف مع المدين ؟
المسألة : على التفصيل الآتي :
(1) من لم يقدر على وفاء شيء من دينه، يعني ليس عنده شيء يفي به، كرجل عليه مائة درهم، لكن ليس عنده شيء، فكيف نعامل هذا؟
«(2/474)
لم يطالب به وحرم حبسه» يعني لا يحل لغريمه أن يطالبه، بل ولا أن نطلبه؛ دليل ذلك قوله ـ تعالى ـ: {{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}} [البقرة: 280]، ولما قال: {{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}}. قال: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] ، إذاً هذا لا يتعرض له ويترك حتى يرزقه الله ويوفي دينه، هذا الذي لا يستطيع وفاء شيء من دينه، فليس عنده شيء أبداً.
وبهذا نعرف أن أولئك الظلمة، الذين يطالبون الغرماء الذين ليس عندهم شيء، لا يخافون الله، ولا يرحمون عباد الله، لا يخافون الله؛ لأنهم عصوا الله، فالله يقول: {{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}}، وهؤلاء لم ينظروه، ولم يرحموا عباد الله؛ لأنهم يكلفون العبد ما لا يطيق، وربما أدى ذلك إلى حبسه؛.
وإن كان لديه ما يسدُّ دينه أمر بوفائه ، فإن أبى حبس بطلب صاحب الدين، فيحبسه ولي الأمر إما في السجن العام، وإما في بيته، وإما في بيت آخر، المهم أنه يمنع من التصرف، ومن التجول.
والدليل على الحبس قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( حديث الشريد بن سويد الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي ( قال : لي الواجد يحل عرضه و عقوبته .
( لي الواجد ) و«الواجد» هو القادر على الوفاء
( يحل عرضه ) بأن يقول له المدين أنت ظالم أنت مماطل ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش
( وعقوبته ) بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي .
(2) إذا كان ماله لا يفي بما عليه حالًّا وجب الحجر عليه :
مثاله: رجل له ألف ريال وهو مطلوب بألفين، فالمال الذي عنده لا يفي بما عليه حالًّا، فماذا نصنع؟(2/475)
خلاصة الأمر هنا : أنه يحجر على المدين إذا كان ماله أقل من دينه، لكن بشرط سؤال الغرماء أو بعضهم، فإن لم يسألوا فلا حرج إذا لم يحجر عليه، لكن الصحيح أنه محجور عليه شرعا، لا حكماً، والدليل قول النبي : «مطل الغني ظلم» ،والتبرع بماله يؤدي إلى المطل، وعدم الوفاء، فيكون ذلك ظلماً، لكن يفترق عن المحجور عليه حكماً، بأن هذا يصح أن يتصرف في ماله بغير التبرع، فيجوز أن يتصرف لكن لا يتبرع فيبيع ويشتري ـ مثلاً ـ ولا حرج، فهذا هو الفرق.
ولهذا نقول للمدين الذي ماله أقل من دينه ولم يحجر عليه: بع واشتر ليس ثمة مانع، لكن لا تتصدق ولا تتبرع، وإذا جاءه صاحب له وأراد أن يبيع عليه ما يساوي عشرة بثمانية فهذا لا يجوز؛ لأن هذا تبرع في الواقع.
مسألة : من هم اللذين نحجر عليهم لمصلحتهم ؟
اللذين نحجر عليهم لمصاحتهم هم (السفيه والصغير والمجنون لحظِّهم)
مسألة : من هو السفيه؟
السفيه: وهو الذي لا يحسن التصرف في المال، فهو بالغ عاقل لكن لا يحسن التصرف في المال، فيذهب يشتري به ما لا نفع فيه ولا فائدة.
الصغير: وهو الذي لم يبلغ.
المجنون: وهو فاقد العقل.
فهؤلاء الثلاثة يحجر عليهم، فلا يمكنون من التصرف في مالهم، لكن لمصلحتهم لا لمصلحة غيرهم، فإذا كان السفيه مراهقاً حجرنا عليه من وجهين، هما: السفه، والصغر، ولكن لا بأس أن نعطيه ما يتصرف به مما جرت به العادة لنختبره؛ لأن الله تعالى قال: {{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}} [النساء: 6] ، بمعنى أننا لا نحجر عليه حجراً تاماً، بل نعطيه ما يتصرف به بقدره، حتى نعرف أنه يحسن التصرف فإذا بلغ أعطيناه ماله.
والسفيه البالغ كالمراهق، بمعنى أننا لا نمكنه من التصرف في ماله كما يريد، ولكن نعطيه شيئاً مما جرت به العادة من الأشياء اليسيرة.
مسألة : هل نعطي للمجنون شيئاً للاختبار؟(2/476)
الجواب: لا؛ لأنه مجنون، فلو أعطيناه أيَّ شيء فسوف يفسده.
{ تنبيه } :( هؤلاء محجور عليهم في الأموال، بمعنى أنهم لا يتصرفون في أموالهم، وفي الذمم بمعنى أنهم لا يتصرفون في ذممهم، فلا يستقرضون ولا يشترون شيئاً بدين؛ لأنهم محجور عليهم في المال والذمة.
مسألة : ما هي الوكالة لغةً شرعا؟
الوكالة لغةً : التفويض، ومنه قوله ـ تعالى ـ: {{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}} [النساء: 132] ، أي كفى به مُفَوضاً إليه الأمور، يقال: وكلت الأمر إليه، أي: فوضته إليه.
الوكالة شرعا: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
مسألة : من هو جائز التصرف ؟
جائز التصرف هو من جمع أربعة أوصاف (الحر البالغ العاقل الرشيد)
مسألة : ما حكم الوكالة؟
وحكمها : أنها جائزة بالنسبة للموكل، سنة بالنسبة للوكيل؛ لما فيها من الإحسان إلى أخيه وقضاء حاجته، أما بالنسبة للموكل فهي جائزة؛ لأنها من التصرف الذي أباحه الله، ويدل على جوازها كتاب الله وسنة رسوله .
أما كتاب الله فقد قال الله ـ تعالى ـ عن أصحاب الكهف لما استيقظوا من نومهم: {{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}} [الكهف: 19] ، فهذا توكيل، وكَّلوا واحداً منهم أن يذهب إلى المدينة ويأتي بطعام، ويكون في ذهابه متلطفاً يعني مستتراً ما أمكنه، ولا يخبر عنهم؛ لأنهم قالوا: {{لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}}، وكانوا قد أووا إلى الغار خوفاً من ظلم رجل مشرك هربوا منه، لكن تغيرت الأحوال؛ لأنهم بقوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وهم أوصوه بهذه الوصايا بناء على بقاء الملك الأول.(2/477)
وقال الله ـ تعالى ـ عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال لهارون: {{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي}} [الأعراف: 142] ، وهذه وكالة، ووكل سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ الهدهد فقال: {{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}} [النمل: 28] .
أما من السنة: فقد ثبت عن النبي أنه وكل في العبادات، ووكل في المعاملات، فوكل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: «أن ينحر ما تبقى من هديه وأن يقسم لحومها وجلودها»
( حديث علي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( أمره أن يقوم على بدنه، وأن يقسم بدنه كلها، لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطي في جزارتها شيئا.
ووكل رجلاً في أن يشتري له أضحية بدينار فاشترى الرجل اثنتين بدينار، وباع واحدة بدينار، ثم رجع إلى النبي بشاة ودينار، فقال له النبي : «بارك الله لك في بيعك» ، فكان لا يبيع شيئاً أو يشتريه إلا ربح فيه، حتى ولو كان تراباً؛ ببركة دعوة النبي .
وكذلك ـ أيضاً ـ النظر يدل على جواز الوكالة؛ لأنها من مصلحة العباد فكم من إنسان لا يستطيع أن يعمل أعماله بنفسه، فمن رحمة الله ـ عزّ وجل ـ وحكمته أن أباح لهم الوكالة، فإذا كان ـ مثلاً ـ مشتغلاً بطلب العلم أو بغير ذلك من الأعمال، وهو يريد أن يشتري لأهله خبزاً ولا يستطيع أن يترك عمله ليشتري الخبز فإنه يوكل، إذاً المصلحة تقتضي أن تكون الوكالة جائزة، هذا من حيث الشرع، إذاً دل عليها الكتاب والسنة والنظر الصحيح .
مسألة : ما هي الشركة لغةً وشرعا؟
الشركة لغةً : الإختلاط
الشركة شرعا: هي ما يحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا من الإختلاط لتحصيل الربح .
مسألة : ما حكم الشركة ؟
حكم الشركة جائزة
مسألة: هل نحتاج على دليل على جواز الشركة؟(2/478)
الجواب: لا نحتاج إلى دليل على الجواز، فلو قال لنا قائل: ما دليلكم على جواز الشركة؟ قلنا: لا حاجة إلى دليل؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، فنقول: دليلنا عدم الدليل على المنع؛ لأن الأصل في المعاملات هو الحل .
مسالة : ما الدليل على جواز الشركة؟
الدليل على جواز الشركة قوله تعالى ـ: {{فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}} [النساء: 12] ،
ومن السنة ( حديث السائب الثابت في صحيح ابن ماجة ) أنه قال للنبي ( :
كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك كنت لا تداريني ولا تماريني .
أما حكمها من حيث الحكم الوضعي فإنها من العقود الجائزة وليست من العقود اللازمة، بمعنى أنه يجوز لكل واحد من المشتركين أن يفسخ الشركة.
مسألة : ما هي الشركة الشرعية؟
[*] قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في السيل الجرار (246/3) (248/3) (والشركة الشرعية : توجد بوجود التراضي بين اثنين أو أكثر على أن يدفع كل واحدٍ منهم من ماله مقداراً معلوماً ثم يطلبون به المكاسب والأرباح على أن لكلِ واحدٍ منهم بقدرِ ما دفعه من ماله مما حصل لهم من الربح ، وعلى كل واحدٍ منهم بقدرِ ذلك مما لزم في المؤن التي تخرج من مال الشركة فإن حصل التراضي على الإستواء في الربح مع اختلاف مقاديرالأموال كان ذلك جائزاً سائغاً ولو كلن مال أحدهم يسيراً ومال غيره كثيرا، وليس في هذا بأسٌ في الشريعة ، فإنها تجارةٌ عن تراضٍ ومسامحةٍ بطيب نفس .
مسألة: هل الأولى المشاركة أو الأولى الانفراد؟ يعني هل الأولى أن يتصرف الإنسان في ماله بنفسه ولا يجعل معه شريكاً، أو الأولى أن يشارك؟(2/479)
الجواب: لا تستطيع أن تقول: هذا أولى أو غير أولى، لكن إذا تردد الإنسان فالانفراد أولى؛ لأن الإنسان يكون حرّاً في ماله لا أحد يحاسبه، وهو إن شاء تبرع وإن شاء منع، وإن شاء تصدق وإن شاء جمع؛ ولأنه أسلم في الغالب، لكن قد يكون الإنسان لا يستطيع أن يتصرف في ماله بنفسه، فيحتاج إلى المشاركة، وعلى هذا فتجويز المشاركة من نعمة الله ـ عزّ وجل ـ ومن رحمته بالخلق، وإلا لو قيل: لا أحد يتصرف إلا في ماله الخاص، صار في هذا تضييق، فقد يكون الإنسان عنده مال كثير لكنه لا يحسن التصرف، إما لعجز في بدنه أو لعجز في فكره أو لانشغاله في علمه أو ما أشبه ذلك، لكن المال كثير فيعطيه لإنسان حاذق في البيع والشراء، ويقول له: خذ بع واشتر في هذا المال، ولك نصف الربح أو ربع الربح أو ما أشبه ذلك.
مسألة : ما هي أنواع الشركة؟
[*](
(أنواع الشركة :
( النوع الأول :[ شركة العنان] : وهي جامعة بين المال والبدن ( إذاً هناك مال، وهناك بدن).
مثاله: زيد وعمرو أرادا أن يشتركا في المال والتصرف، كل واحد جاء بماله وقال للآخر: نحن شركاء، فهذه نسميها شركة عنان؛ لأنها جامعة بين المال والبدن.
مسألة : وإذا قال قائل: ما الفائدة؟
قلنا: فائدتها ما يلي :
أولاً: أن كلًّا من الشريكين ينشط الآخر.
ثانياً: ربما يكون مال كل واحد منهما ليس كثيراً يُمَكِّنُهُمَا أن يستوردا البضائع الكثيرة التي بها الفائدة الكثيرة، وهذا واقع، فمثلاً شخص عنده مليون ريال، والآخر عنده مليون ريال، لكن مليوناً واحداً لا يكفي لشراء بضائع كبيرة، تكون فائدتها كثيرة، فيجتمعان ويشتريان البضائع.
ثالثاً: أنه قد لا يتمكن كل واحد منهما أن يتجر بماله، فيحتاج إلى ضم مال الآخر إليه، حتى تتسع التجارة.
((2/480)
النوع الثاني :[ شركة المُضَارَبَةُ] : المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، وهو السير فيها، قال الله ـ تعالى ـ: {{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}} [المزمل: 20] .
ومعلوم أن كل تجارة فهي مضاربة، يعني يضرب الإنسان في الأرض، لكن خُصت بهذا النوع من المعاملة اصطلاحاً لا لغة
مثال ذلك: أعطى رجل آخر مائة ألف ريال، وقال له: خذ هذه اتجر بها ولك نصف الربح، فهذا يصح، أو قال له: خذ هذه اتجر بها ولك ربع الربح، فهذا ـ أيضاً ـ يصح، أو خذ هذه واتجر بها ولك ثلاثة أرباع الربح، فهذا ـ أيضاً ـ يصح، فلا بد أن يكون معلوماً مشاعاً .
النوع الثالث: [ شَرِكَةُ الوُجُوهِ] والمراد بالوجه هنا الجاه، وجاه الإنسان يعني شرفه وقيمته عند الناس ومنزلته بينهم.
بمعنى «أن يشتريا في ذمتيهما بجاههما فما ربحا فبينهما»
مثال ذلك: هذان رجلان عاملان، لكن ليس عندهما مال، وكلاهما فقير، فذهبا إلى رجل غني كبير، وقالا له: نريد أن نشتري منك هذا المحل، فقال: أعطوني المال، فقالا: ليس عندنا شيء، لكننا نشتري بالذمة، فهو الآن ـ مثلاً ـ يساوي مائة ألف، فنشتريه منك بمائة ألف وعشرة في ذمتينا، فهذه تسمى شركة الوجوه؛ لأنهما اكتسبا المال بجاههما وثقة الناس بهما، فقال رب المحل: بعته عليكما، فصارا شريكين في هذا المحل بدون أن يسلما دراهم، لا منهما ولا من أحدهما؛ لأنهما لو سلما دراهم منهما صار ذلك شركة عنان، ولو سلم أحدهما فمضاربة، فهذان لم يسلما مالاً؛ لأنهما اشتريا في ذمتيهما بجاههما.
فتبين الآن أن شركة الوجوه معناها أن الشريكين ليس لهما مال، لا منهما، ولا من أحدهما، وإنما لهما الذمة والجاه والاعتبار عند الناس.
وهذه الشركة يحتاج إليها الفقراء الأقوياء على التكسب، قال النبي في الصدقة: في( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ):لا تحل الصدقة لغني و لا لذي مرة سوي .(2/481)
والناس قد لا يكون عندهم مال فيذهبون إلى التجار ويقولون: أعطونا أموالكم نتجر بها واكتبوها في ذمتنا، فالملك هنا ملكهما، والتاجر ليس له إلا ثمن ثابت في الذمة.
(النوع الرابع: [ شَرِكةُ الأَبْدانِ ] شركة الأبدان (شركة في عمل) أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما» وهذه ـ أيضاً ـ ليس فيها مال، وقد يكون عند كل واحد منهما مال، لكنهما لم يشتركا في المال، وشركة الأبدان شركة في العمل بأن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما.
وهذه ليس فيها مال وإنما هو عمل، والفرق بينها وبين شركة الوجوه، أن شركة الوجوه، يأخذان المال من ثالث ويعملان بأبدانهما، أما هذه فلا يأخذان من أحد مالاً ولا يأتي أحدهما بمال، وإنما يشتركان في العمل.
ومن صور الاشتراك في العمل أن يكون كل منهما نجاراً ـ مثلاً ـ، أو أن أحدهما نجار والثاني حداد والثالث بَنَّاء، فيشتركون فهذا ـ أيضاً ـ جائز، وتسمى شركة أبدان، وهذه تقع أحياناً مع اتفاق الصنائع، كأن يشترك نجاران في ورشة يعملان فيها، أو يشترك حدادان في ورشة حدادة، أو ميكانيكيان في ورشة ميكانيكا وهلم جرّا.
فهذا اشتراك في عمل صناعة، فالمادة ليست لهما بل لغيرهما، لكنهما يصنعانها ويحوِّلانها إلى شيء معين، أو يصلحانها أو ما أشبه ذلك.
ومنها ـ أيضاً ـ شركة الدلالين، بأن يكون في هذا السوق دلاَّلون مشهورون بالحذق، فيشترك هؤلاء الدلالون في الدلالة فلا بأس، فأحدهما ـ مثلاً ـ يبيع الثياب، والثاني يبيع الأواني، والثالث يبيع الفرش، والرابع يبيع سلعاً أخرى، وتسمى شركة الدلالين؛ لأنهم يشتركون في عمل بدني، ليس عندهم مال، والمال ليس لهما ـ أيضاً ـ وإنما هو لغيرهم ويأخذون عليه الأجرة بالدلالة.
(النوع الخَامِسُ : شَرِكةَ المفاوَضَةِ
والمفاوضة في الحقيقة شركة عامة لجميع أنواع الشركات السابقة وهي أربع: العنان، المضاربة، الوجوه، الأبدان.
وشركة المفاوضة أن يشتركا في جميع أنواع الشركة.(2/482)
فيفوض كل واحد منهما للآخر كل نوع من أنواع الشركة: مضاربة، عنان، أبدان، وجوه، فهي عامة، وهذه عليها عمل كثير من الناس اليوم، وأكثر الشركات اليوم على هذا، فتجد الشركاء ـ مثلاً ـ كل واحد منهم يبيع بمؤجل، ويضارب، ويسافر بالمال، ويقرض المال يعني في كل شيء .
(ولا مانع من هذا لأن كل أنواع الشركة تدخل في عقد المفاوضة، فلم تَعْدُ أن تجمع بين متفرق؛ لأن المضاربة وحدها جائزة، والعنان وحدها جائزة، والوجوه جائزة، والأبدان جائزة، إذاً هذه لم تعدُ إلا أنها جمعت بين هذه الأربعة، وما جاز أفراداً جاز جمعاً، فهي جائزة والحاجة تدعو إليها، وعمل الناس اليوم على هذا، فكثير من الشركاء التجار الكبار، شركاتهم مفاوضة، تجد أحدهم ـ مثلاً ـ في المدينة والثاني في مكة، هذا يعطي مضاربة ويعطي قرضاً، وربما ـ أيضاً ـ يتبرع أحياناً في الشيء الذي ليس بكثير وأخوه يجيزه، فالصواب أنها جائزة .
مسألة : ما هي المساقاة ؟
المساقاة عقد بين اثنين، وهي أن يدفع شجراً لمن يقوم عليه بجزء من ثمره، كالنصف ونحوه .
وهي جائزة بالدليل العام والسنة، والنظر الصحيح .
أما الدليل العام فهو أن الأصل في المعاملات الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه.
أما السنة : (حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( أعطى رسول الله خيبر لليهود: أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: قالت الأنصار للنبي : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: (لا). فقالوا: تكفوننا المؤونة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا.(2/483)
وأما النظر الصحيح ؛ فلأنها من المصلحة، فقد يكون الإنسان مالكاً لبساتين كثيرة ويعجز عن القيام بما تحتاجه هذه البساتين عجزاً بدنياً أو عجزاً مالياً فيكون حينئذٍ بين أمرين، إما أن يهمل هذا الشجر فيموت ويهلك وهذا فساد وإضاعة مال، وإما أن يعطيه من يعمل به بأجرة، وهذا قد يكون شاقاً عليه، فهو جائز لكن قد يشق على صاحب المال، وقد يكون هناك أناس عاطلون عن العمل يحتاجون إلى عمل، فإذا انضم كثرة البساتين عند هذا، وحاجة العمال إلى العمل، صار من المصلحة أن نُجَوِّز المساقاة، ونقول: ادفعها لهؤلاء العمال بجزء من الثمرة.
مسألة : ما هي المزارعة وما حكمها؟
المزارعة هي أن يدفع أرضاً لمن يزرعها بجزء من الزرع.
مسألة : ما بين المزارعة وما المساقاة ؟
والفرق بينها وبين المساقاة أن المساقاة على الشجر، والمزارعة على الزرع، والفرق بين الشجر والزرع أن ما له ثمر وساق وأغصان يسمى شجراً، وما ليس كذلك فإنه يسمى زرعاً.
حكم المزارعة : تصح المزارعة بجزء معلوم النسبة كانصف ونحوه .
مثال الزرع: القمح، والذرة، والشعير، والأرز، وما أشبه ذلك.
وإباحتها من حكمة الشرع، وتيسير الإسلام، فقد يكون عند الإنسان أرض بيضاء لا يستطيع زرعها، وفي مقابل ذلك عمال ليس لهم ما يكتسبون، فيأخذون هذه الأرض ويزرعونها، فيكون في ذلك مصلحة لصاحب الأرض وللعامل، وهذا لا شك أنه من محاسن الإسلام.
مسألة : رجل عنده أرض، وله صديق عاطل، فقال له: يا فلان خذ أرضي، وازرعها واسترزق الله بها، بدون أي سهم لصاحب الأرض فهل هذه تسمى مزارعة؟
هذه لا تسمى مزارعة، وإنما هي منحة منحها صاحب الأرض لمن يعمل فيها فلا تصح مزارعة؛ لأن المزارعة نوع من المشاركة، لكنها تبرع.
مسألة : هل يصح في المزارعة أن يقول: لك الجانب الشرقي من الأرض، ولي الجانب الغربي؟(2/484)
لا يصح في المزارعة أن يقول: لك الجانب الشرقي من الأرض، ولي الجانب الغربي، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد يسلم هذا ويهلك هذا أو بالعكس.
[والقاعدة في المشاركة أن يتساوى الشريكان في المغنم والمغرم]
مسألة : ما هي الإجارة ؟
«الإجارة» مأخوذة من الأجر وهو العوض المقابل بعمل، ولهذا يُسمى ثواب العمل أجراً، قال تعالى: {{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}} [آل عمران: 185] وهي عقدٌ على منفعة معلومة أو على عمل معلوم، فمستأجر الدار عَقَدَ على منفعة معلومة، ومستأجر العامل، البَنَّاء، عقد على عمل معلوم، ولهذا لا يملك الذي يستأجر العامل أن يؤجره لشخص آخر؛ لأنه لم يملك إلا المنفعة فقط، ما مَلَك الرجل، فالإجارة تكون على عمل وتكون على منفعة في عين، وهي نوع من البيع، ولذلك يحرم عقد الإجارة في المسجد كما يحرم البيع، ويحرم عقد الإجارة بعد نداء الجمعة الثاني، كما يحرم البيع؛ لأنها بيع منافع في الواقع.
مسألة : ما حكم الإجارة ؟
وعقد الإجارة جائز بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما القرآن ففي قول المرأتين اللتين سقى لهما موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26]
وأما السنة فقد ثبت أن النبي استأجر عبد الله بن أريقط على أن يدله على الطريق من مكة إلى المدينة
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم). فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: (نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).(2/485)
وأما إجماع الأمة فمعلوم، وتجويزها من محاسن الشريعة؛ وذلك لأن الإنسان قد يضطر إلى سكنى بيت وليس معه ما يستطيع أن يملك به البيت فإنه ليس له طريق إلا الاستئجار، كذلك ـ أيضاً ـ صاحب البيت قد يكون ممسكاً ببيته ويريد الانتفاع به ولا يتعطل، وليس له سبيل إلى ذلك إلا بالتأجير، فلما كانت المصلحة للمستأجر والمؤجر واضحة ولا ظلم فيها ولا ربا كان من محاسن الشريعة المطهرة أن تباح .
مسألة : متى تكون الإجارة صحيحة ومتى تكون الإجارة فاسدة ؟
الإجارة تكون صحيحة وفاسدة، فما وافق الشرع منها صحيحة وما خالف الشرع ففاسدة .
مسألة : إذا فسدت الإجارة فإنه لا يترتب عليها ما جاء في العقد؟
إذا فسدت الإجارة فإنه لا يترتب عليها ما جاء في العقد، بل يثبت فيها أجرة المثل.
مسألة : ما هي شروط صحة الإجارة؟
[*](شروط صحة الإجارة ما يلي :
(الشرط الأول) : معرفة المنفعة كسكنى دار وخدمة آدمي وتعليم علم :
قال تعالى: (يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة: المائدة - الآية: 90]
وجه الدلالة من الآية: أنه إذا كانت المنفعة مجهولة صارت من الميسر؛ لأن المستأجر وكذلك المؤجر بين غانم وغارم للجهالة،و ( لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( نهى رسول الله عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر ، وكل مجهول فهو غرر، والإجارة بيع لكنه بيع للمنافع، ولأنه إذا كانت المنفعة مجهولة ستؤدي إلى الخصومة والمنازعة المؤدية إلى العداوة والبغضاء.
(الشرط الثاني) : معرفة الأجرة :
ودليل ذلك هو دليل اشتراط معرفة المنفعة؛ لأنها أحد المعقود عليهما، فلا بد من العلم بها.(2/486)
فلو قال: استأجرت منك هذا البيت ببعض ما في يدي من الدراهم، فالإجارة غير صحيحة؛ لأن ما في يده من الدراهم مجهول، وبعضه ـ أيضاً ـ مجهول، حتى لو كان الذي في يده من الدراهم معلوماً، بأن كان معه عشرة آلاف ريال، وقال: ببعض ما في يدي من الدراهم، فإن الأجرة لا تصح.
ولو قال: استأجرت منك هذا البيت بما تلده هذه الفرس، فهو ـ أيضاً ـ لا يصح؛ لأن الأجرة غير معلومة.
مسألة : إذا قال المؤجر: أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما ينهدم منه، فهل هذا يصح ؟
إذا قال المؤجر أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما ينهدم منه، فهذا لا يصح؛ لأن ما زاد مجهول .
مسألة : إذا قال المؤجر: أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما انهدم منه من الأجرة، فهل هذا يصح ؟
إذا قال المؤجر: أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما انهدم منه من الأجرة، فهذا يصح لأن الأجرة معلومة .
(الشرط الثالث ) : إباحة نفع العين :
وإنما قلنا ذلك؛ لأن الباب باب الإجارة، والمعقود عليه في الإجارة هو نفع العين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن المقصود الإباحة في النفع لا في العين، ولهذا يجوز استئجار الحمار للعمل عليه مع أن عينه حرام، فيشترط أن يكون النفع المعقود عليه مباحاً، فإن كان محرماً فإن الإجارة لا تصح، ودليل ذلك قول النبي : «إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه» والإجارة نوع من البيع .
و( لحديث عائشة الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :(من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق).
و( حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
مسألة : ما هو السَّبْقِ ؟(2/487)
السَّبْقِ بسكون الباء معناه فَوْت لا يدرك ، بمعنى أن يفوتك الإنسان على وجه لا تدركه، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، لا يمكن لمن بعدهم أن يلحقهم في هذا الوصف، ومن سابقك جرياً على الأقدام حتى وصل المنتهى قبل أن تصله فقد سبقك على وجه لا تدركه.
فالسبْق فوت لا يدرك، سواء كان معنوياً أو كان حسياً، وسواء كان في الزمان أو كان في المكان، فالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ سبقونا بالزمان، وهذا سبق حسي، وكذلك سبقونا سبقاً معنوياً بالعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.
[*](والسبق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
(قسم لا يجوز لا بعوض ولا بغيره.
(وقسم يجوز بعوض وغيره.
(وقسم يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض.
والأصل فيه منع العوض؛ لأنه من باب الميسر، فإن الإنسان إما أن يكون غانماً وإما أن يكون غارماً، فإذا جعلنا مائة ريال لمن سبق، وتسابق اثنان في الجري على الأقدام، فأحدهما إما غانم وإما غارم، إما أن يأخذ مائة الريال من صاحبه فيغنم، أو تؤخذ منه المائة فيغرم، فهو في الحقيقة ميسر، ولذلك فالأصل هو منع العوض في المسابقة، ولا يجوز إلا لسبب كما سيأتي إن شاء الله.
مسألة : ما هو القسم الذي يجوز بغير عِوض ؟
القسم الذي يجوز بغير عِوض هو السبق على الأقدام (أي المسابقة على الأقدام)، وهو ما لا مضرة فيه شرعية، وليس فيه منفعة تربو على مفسدة المراهنة فيه، فهذا القسم يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، سواء كان هذا العوض نقداً أو عروضاً أو منفعة، مثل أن يتسابق رجلان أيهما أسرع وصولاً إلى الغرض الذي عيَّنَّاه، وهو جائز بين الرجلين، وبين المرأتين، وبين الرجل وزوجته، كما سابق النبي عائشة ـ رضي الله عنها ـ، لأن في ذلك ترويحاً عن النفس، وتنشيطاً وتقوية للبدن، وتحريضاً على المغالبة.
((2/488)
حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أنها:كانت مع النبي في سفر قالت فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال هذه بتلك .
ولكن يجب أن نعلم أن المباح إذا تضمن ضرراً صار محرماً، فلو أجريت المسابقة في هذه الأمور في وقت صلاة الجماعة، كانت المسابقة حراماً، ولو أدى ذلك إلى العداوة والبغضاء والتحيز والتعصب كان ذلك حراماً.
{ تنبيه } :( كرة القدم من هذا النوع، أي: أنها تجوز بغير عوض ولا تجوز بعوض؛ لأن فيها ترويحاً للنفس، وتقوية للبدن، وتعويداً على المغالبة، ولكن بشرط أن لا يدخلها التحزب المشين، كما يحصل من بعض الناس يتحزبون لنادٍ معين، حتى تحصل فتنة تصل إلى حد الضرب بالأيدي والعصي والحجارة.
مسألة : لوقال قائل أن المسابقة على الأقدام تجوز بعوض لأن السبق على الأقدام ينتفع به في الحرب، في الكر والفر، فهو مفيد ، فما الجواب؟
الجواب : أننا لو أجزنا العوض في هذه الأشياء لكانت سبباً للتجارة، بمعنى أن الناس يتجرون بها؛ لأنها سهلة المؤونة، ولا تحتاج إلى اقتناء فرس أو إصلاح رمح أو ما أشبه ذلك، فتتخذ تجارة وينشغل الناس بها عن أمور أهم منها، فهذه المصلحة التي قد يتوقعها الإنسان مع العَدْوِ معارضة بالمفسدة، وهو أن ينكب الناس عليها ثم يتخذونها تجارة، وهذا مانع قوي.
مسألة : هل يجوز المسابقة على الحيوان ؟
يجوز المسابقة على الحيوان بلا عِوض إلا في إبل وخيل وسهام
(حديث بن عمر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( سابق بين الخيل التي أضمرت: من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل .
(خف) : كناية عن الإبل
(حافر) : كناية عن الخيل
(نصل) : أي ذي النصل والمقصود السهم(2/489)
مسألة : ما معنى لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ؟
«لا سبق» أي: لا عوض إلا في هذه الثلاثة، وإنما جاز في هذه الثلاثة لما فيها من المصلحة العامة من الجهاد في سبيل الله؛ لأن الإبل يحمل عليها المجاهدون الأمتعة، والخيل فيها الكر والفر، والسهام فيها الرمي، ويقاس عليها ما يشبهها من آلات الحرب الحاضرة، فالدبابات ونحوها تشبه الإبل، والصواريخ وشبهها تشبه السهام، والطائرات وشبهها تشبه الخيل، فهذا القسم يجوز بعوض وبدونه.
مسألة : ما معنى السبق في الإبل ؟
معنى السبق في الإبل : أن يتسابق اثنان على بعيريهما.
مسألة : ما معنى السبق في الخيل ؟
معنى السبق في الخيل : أن يتسابق اثنان على فرسيهما.
مسألة : ما معنى السبق في السهام ؟
معنى السبق في السهام : أن يتسابق اثنان بسهاميهما أيهما يصيب.
مسألة : هل يجوز المسابقة بالحيوان نفسه، بمعنى أن يطلق الرجلان كلبيهما ويتسابقا على ذلك ؟
الظاهر أنه لا يجوز؛ لأنه لا فعل من المتسابقين في هذه الحال، وقد يقال بالجواز؛ لأن فعل الكلاب ونحوها بأمر صاحبها، كفعل صاحبها، ولهذا جاز صيدها إذا أرسلها صاحبها.
ويشترط في المسابقة على الحيوانات نفسها أن لا يكون في ذلك أذية لها، فإن كان في ذلك أذية، كما يفعله بعض الناس في المسابقة في نقر الديوك بعضها ببعض، فإن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يربي ديكه على أن يكون قوياً في المناقرة، فهذا حرام ولا يجوز، ومثل ذلك نطاح الكباش، ومثل ذلك صراع الثيران، إذاً كل ما فيه أذية للحيوان فإن المسابقة فيه محرمة.
مسألة : ما الأشياء التي لا يجوز السبق فيها لا بعوضٍ ولا بغيره ؟
[*](الأشياء التي لا يجوز السبق فيها لا بعوضٍ ولا بغيره :
الضابط فيها : إما أن يكون محرماً لذاته كالمسابقة على العدوان على الناس، وقطع الطريق، ونهب الأموال، وإخافة الآمنين، وما أشبه ذلك، فهذا حرام سواء كان بعوض أو بغير عوض .(2/490)
وإما أن يكون مما يلهي كثيراً عن المهمات في الدين أو الدنيا ولا فائدة فيه ويتعلق به القلب كثيراً، ولا خير فيه ولا منفعة كالنرد، والشطرنج، وما أشبههما من هذه الألعاب التي كثرت أنواعها في الوقت الحاضر.
مسألة : ما هي العارية؟
العارية : إباحة نفع عين بلا عِوض .
مثال ذلك: الماعون ـ الإناء ـ هذا يمكن أن ينتفع به الإنسان مع بقائه، القلم يمكن أن ينتفع به مع بقائه ولا يضر إذا كان فيه شيء من الحبر؛ لأن هذا يعتبر تبعاً لا يؤثر، وإلا فمن المعلوم أنه إذا أعطاه قلماً مملوءاً بالحبر، فسوف يفنى هذا الحبر بالكتابة به لكن هذا شيء لا يؤبه له.
والسيارة تبقى بعد استيفائها وما استُهلك من البنزين الذي فيها حين العارية فهو تبع، ولا يقال: إن هذا لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه.
مسألة : ما حكم العارية؟
العارية بالنسبة للمستعير جائزة ولا تُعد من السؤال المذموم لجريان العادة بها، فيجوز للإنسان أن يستعير من أخيه قلماً أو ساعة أو سيارة أو إناءً أو ما أشبه ذلك، هذا بالنسبة للمستعير، أما بالنسبة للمعير فإنها سُنَّة على الأصل وقد تجب أحياناً، فهي سُنَّة لدخولها في عموم قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 195] وهي إحسان بلا شك فتدخل في عموم الآية، وقد تجب أحياناً، كإعارة شخص رداء يدفع به ضرر البرد، فهذه واجبة فلو طلب منك شخص في برد شديد أن تعطيه رداء يلتحف به، وجب عليك أن تعطيه، وضابط ذلك أنه متى توقف عليها إنقاذ معصوم صارت واجبة، ومن ذلك عند كثير من العلماء إعارة المصاحف؛ لأن المصحف يجب أن يبذل لمن أراد أن يتعلم به.(2/491)
ومن ذلك ـ أيضاً ـ إعارة الكتب التي يحتاج إليها الناس فتجب إعارتها، لكن يشترط في ذلك ضرورة المستعير وعدم تضرر المعير، فلو قال المعير فيما إذا طلب منه استعارة مصحف: إني لو أعطيت هذا الرجل مصحفاً لأفسده، فإنه لا تجب عليه الإعارة، وكذلك لو قال: إن أعطيته الكتاب أفسده فلا تجب الإعارة؛ لأن فيها ضرراً على المعير .
مسألة : ما هي الأشياء التي تباح إعارتها؟
تباح إعارة كل عين فيها نفع مباح ، فخرج ما لا نفع فيه كالديدان والصراصير والجِعلان والخنافس وما أشبه ذلك، هذه لا تباح إعارتها؛ لأنها ليس فيها نفع مقصود.
ولا بد أن يكون النفع مباحاً، فإن كان فيها نفع محرم لم تجز إعارتها كإعارة الطبول والمعازف وما أشبهها، فهذه إعارتها محرمة؛ لأن نفعها محرم، ومن ذلك إعارة مغنية لتغني غناءً محرماً فإن إعارتها محرمة، ودليل ذلك قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {{وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] وإعارة ذي النفع الحرام لا شك أنها إعانة على هذا النفع المحرم.
فلو أراد أن يعير شخصاً كلباً عقوراً وقال: الناس يكثرون عند مزرعتي، أعرني كلبك العقور من أجل أن يعقر كل من مرَّ من حولها، فهذا لا يجوز؛ لأن الكلب العقور لا يجوز إبقاء الملك عليه بل يجب قتله، حتى إن الرسول أذن بقتله في الحِلَّ والحرم، كما في: (حديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم : الغراب و الحدأة و العقرب و الفأرة و الكلب العقور .
مسألة : هل على المستعير ضمان؟
إن كانت عاريةً مضمونةً فإنها تُضمن إذا تلفت بالقيمة لقول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}} [المائدة: 1] ولقوله: {{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}} [الإسراء: 34](2/492)
و(لحديث عمرو ابن عوفٍ المُزَني الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً .
وإن كانت مؤداة فإنها لا تُضمن إذا تلفت بالقيمة إلا بتعدٍّ أو تفريط .
( حديث صفوان بن يعلى الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) قال :
قال لي رسول الله * إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا وثلاثين بعيرا قال فقلت يا رسول الله أعارية مضمونة أو عارية مؤداة قال بل مؤداة .
(حديث عمرو ابن عوفٍ المُزَني الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً .
مثال العارية المؤداة : إنسان استعار من شخص عشرين فنجالاً، والفنجال من الزجاج، يمكن أن ينكسر، فقال المستعير: لا ضمان عليَّ إن تكسرت الفناجيل، فوافق المعير، ثم تكسرت فليس عليه ضمان إلا بتعدٍّ أو تفريط ، فإذا تعدَّ أو فرَّط فإن عليه اضمان لذلك لأنها أمانة في يده و الله تعالى يقول : {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}} [النساء: 58]
مسألة : إذا اشترط المُعير أنها عاريةٌ مضمونة فكيف تُضمن؟
تضمن العارية ببدلها يوم تلفت
والقاعدة في ضمان المُتلفات: (أن المثلي يضمن بمثله، والمتقوم يضمن بقيمته)
مسألة : ما الفرق بين المتقوم والمثلي ؟
الصحيح أن المثلي ما كان له مثيل مطابق أو مقارب تقارباً كثيراً، ويدل لهذا أن النبي قال لزوجته التي كسرت الإناء، وأفسدت الطعام: «إناء بإناء، وطعام بطعام» ولم يضمنها بالقيمة ، و المتقوم ما ليس له مثيل مطابق أو مقارب تقارباً كثيراً .
مسألة : ما هو الغصب لغةً واصطلاحا؟
الغصب لغةً : القهر
الغصب اصطلاحا : هو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق .
مسألة : ما حكم الغصب ؟(2/493)
حكمه الشرعي أنه حرام، لقول الله تعالى: {{وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}} [البقرة] وقال الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] وإذا كان في حق اليتامى ونحوهم من القُصَّار صار أشد إثماً كما قال الله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *}} [النساء] .
والدليل من السنة أن النبي خطب المسلمين في أوسع تجمع لهم في حجة الوداع حيث قال: في حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما عند مسلم «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»
و( حديث حنيفة الرقاشي الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :«لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه، خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين).
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن .
والعلماء مجمعون على تحريمه في الجملة، أي على أنه يحرم على الإنسان أن يأخذ مال أخيه بغير حق، والمصلحة تقتضي تحريمه لما يحصل به من العدوان على أموال الناس والفوضى.
مسألة : هل يجوز الإنتفاع بالمغصوب ؟
لا يجوز الإنتفاع بالمغصوب ويجب عليه ردَّه .
((2/494)
حديث يزيد بن سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :«لاَ يأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لاَعِباً أو جَادّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدّهَا إِلَيْهِ».
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه).
مسألة : هل يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه وماله إذا قصده آخر لقتاله وأخذ ماله؟
الصحيح أنه يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه وماله إذا قصده آخر لقتله وأخذ ماله .
( لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :جاء رجلٌ إلى رسول الله ( فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «لا تعطه» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» ، قال: وإن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» .
( لحديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من قتل دون ماله فهو شهيد .
مسألة : ما هي الشفعة لغةً واصطلاحاً؟
الشفعة لغةً : مأخوذة من الشَفْعِ وهو جعل الواحد اثنين وهو ضد الوتر، وسميت بذلك؛ لأن الشريك يضم نصيب شريكه إلى ملكه فلذلك صار كجعل الوتر شفعاً.
الشفعة اصطلاحاً: «هي انتقال حصة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى» مثال ذلك: رجلان شريكان في أرض فباع أحدهما نصيبه على ثالث، فللشريك الذي لم يبع أن ينتزع من المشتري هذا النصيب قهراً عليه، ويضمه إلى ملكه، فتكون الأرض كلها للشريك الأول الذي لم يبع .
مسألة: فإذا قال قائل: كيف يؤخذ منه قهراً؟! وهل هذا إلا من أكل أموال الناس بالباطل؟!(2/495)
فيقال: معاذ الله أن يكون من أكل المال بالباطل؛ لأن أخذ المال بالباطل أن يأخذه الإنسان بغير حق، وهذا أخذه بحق جعله الشارع له.
مسألة: فإذا قال قائل: إذاً ما وجه تسليط الشارع الشريك على هذا المشتري حتى ينتزع منه ملكه قهراً ؟
فيقال: لما في ذلك من المصلحة، وعدم المضرة على المشتري؛ فالمشتري ليس عليه ضرر؛ لأن ثمنه الذي دفع سوف يدفع إليه، وليقدر أنه لم يشترِ، وأما انتفاء الضرر الذي يحصل بالشفعة فلأن هذا الشريك قد يكون شريكاً سيئ الشركة متعباً لشريكه يحوجه إلى النزاع والخصومة دائماً، فجعل الشارع للشريك أن يدفع ما يخشى من ضرره بالشفعة .
مسألة : ما الدليل على مشروعية الشفعة؟
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال : قضى النبي بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة.
الشاهد : أن هذا القضاء قضاء حكم وتشريع، وعلى هذا فالشفعة حكم قهري يثبت للشريك القديم على الحادث .
مسألة : ما معنى(كل ما لم يقسم)؟
معنى(كل ما لم يقسم) :كل ما لم يمكن قسمته .
فإذا أمكن شفعته فلا شفعة .
مسألة : زيدٌ وعمرو شريكان في كيس من القمح قدره مائة كيلوجرامات ، فباع زيدٌ نصيبه من هذا الكيس على بكر ، فهل لعمرو شفعة؟
ليس لعمرو شفعة لأنه يمكن قسمة الكيس وقد قضى النبي بالشفعة في كل ما لم يقسم .
مسألة : هل للجار شفعة ؟
الصحيح في هذه المسألة : أن الجار له حق الشفعة إذا كان بينهما حقٌ مشترك
من طريق أو ماء أو غيره ، وعليه يُحمل الأحاديث الآتية :
( حديث سمرة ابن جندب الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض .
((2/496)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بنِ عَبْدِ الله الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال :«مَنْ كانَ لَهُ شَرِيكٌ في حَائِطٍ، فَلاَ يَبِيعُ نَصِيبَهُ مِنْ ذلِكَ حَتّى يَعْرِضَهُ على شَرِيكهِ» .
{ تنبيه } :( أما إذا لم يكن حقٌ مشترك من طريق أو ماء أو غيره فليس له شفعة لأنه ليس شريك .
مسألة : ما معنى الوديعة لغةً وشرعا؟
الوديعة لغةً : بمعنى متروكة
الوديعة شرعا : التوكيل بالحفظ ، أي يوكِّل الإنسانُ رجلاً في حفظ شيء ولا يجوز التصرفُ فيه، وتسمى في عرف الناس أمانة .
مسألة : ما حكم الوديعة ؟
الوديعة بالنسبة للمودِع مباحة، يعني يباح أن يودِع الإنسان ماله، وهي بالنسبة للمودَع سُنَّة بشرط أن يكون قادراً على حفظها وصيانتها والعناية بها، ودليل ذلك قوله تعالى: {{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 195] فهي من الإحسان ؛ لأن الرجل إذا أعطاك شيئاً تحفظه له فلولا أنه محتاج إلى ذلك ما أعطاك، وإذا كان محتاجاً إلى هذا وقضيت حاجته كان ذلك من الإحسان المأمور به المحبوب إلى الله .
و(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
والشاهد قوله ( ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)(2/497)
مثال ذلك : رجل أعطى شخصاً بقرته وديعة، فصاحب البقرة يجوز أن يعطيها وديعة لهذا الشخص، والمودَع الذي سيأخذ البقرة يجوز أن يقبل البقرة وديعة، بشرط أن يكون قادراً على مؤونتها وحفظها وإلا فلا يجوز، ولو فرض أن صاحب البقرة أراد أن يودعها عند من يضيعها، فلا يجوز له أن يودعها؛ لأنها حيوان يحتاج إلى رعاية وعناية، بخلاف المال فالمال لا حياة فيه.
مسألة : هل على المودَع ضمان ؟
عندنا مودِع، ومودَع، ومودَع إليه، فالمودِع: صاحب المال، والمودَع: المال، والمودَع إليه: المؤتمن .
المودَع (المال) ليس عليه ضمان إلا إذا فرَّط أو تعدَّى .
( حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال :من أُودِعَ وديعةً فلا ضمان عليه .
مسألة : ما معنى إحياء الموات ؟
الموات : هي الأرض التي لم تُعْمَر ، شُبِّهت العمارة بالحياة وتعطيلها بفقد الحياة ،
وإحياء الموات : أن يعمد الشخصُ لأرضٍ لا يعلم تقدم ملكٌ عليها لأحد فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه .
مسألة : ما الدليل على مشروعية إحياء الموات ؟
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق).
( حديث سمرة بن جندب الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :من أحاط حائطا على أرض فهي له .
( من أحاط حائطاً على أرض فهي له ) أي من أحيا مواتاً وحاط عليه حائطاً من جميع جوانبه ملكه فليس لأحد نزعه منه .
مسألة : هل للإمام أن يقطع مَوَات لمن يحييها ؟
دلت السنة الصحيحة أن الإمام (وهو الرئيس الأعلى للدولة) يجوز له أن يقطع موات لمن يحييها .
( حديث وائل بن حُجر الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( أقطعه أرضا بحضرموت .
مسألة : لو أن إنساناً أخذ أرضاً مواتاً وبنى عليها هل تصبح له؟
نعم تصبح له
((2/498)
حديث سمرة بن جندب الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : من أحاط حائطا على أرض فهي له .
( من أحاط حائطاً على أرض فهي له ) أي من أحيا مواتاً وحاط عليه حائطاً من جميع جوانبه ملكه فليس لأحد نزعه منه .
مسألة : ما هي الجَعَالة ؟
«الجعالة» فَعَالة من الجَعْل، والجَعْل معناه وضع الشيء،
«وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً، أو مجهولاً، مدة معلومة أو مجهولة» فالجعالة عقد لا يشترط فيه العلم بأحد العوضين، وهو ـ أي عقد الجعالة ـ فيه عوض مدفوع، وعوض معمول، فالعوض المدفوع لا بد فيه من العلم، والمعمول لا يشترط فيه العلم، المدفوع يكون من الجاعل، والمعمول يكون من العامل.
مسألة : ما الفرق بين الجَعَالة والإجارة؟
الفرق بين عقد الجعالة والإجارة، أن الإجارة مع معين بخلاف الجعالة فهو يطلق فيقول: من فعل كذا فله كذا؛ ولهذا صارت عقداً جائزاً.
مسألة : فإن قال قائل: كيف تجيزون هذا العمل مع ما فيه من الجهالة؟
قلنا: نجيزه لدعاء الحاجة إليه وليس هو على سبيل الإلزام؛ لأن العامل له أن يدع العمل في أي لحظة شاء؛ لأن الجعالة عقد جائز، ولو لم يوجد هذا الشيء لضاع للناس مصالح كثيرة، فمثلاً هذا الشخص ضاعت بعيره فلا يمكن أن يستأجر شخصاً لإحضاره؛ لأن هذا الشخص لا يدري متى يجد البعير، فلم يبق إلا الجعالة.(2/499)
فإذا قال: من رد بعيري فله مائة ريال، فهنا العوض من الجاعل معلوم، والعمل مجهول؛ لأنه لا يُعلَم أيردها عن قريب أو عن بعيد، فربما يتعب ويظن أنه يردها في يومين ولا يردها إلا في عشرة أيام، أو ربما لا يستطيع ردها مطلقاً، فنقول: العمل لا يشترط فيه العلم بالنسبة للجعالة، وهذا من محاسن الشريعة؛ لأنه قد يصعب تعيين العمل في مثل هذه الحال، فلو قال: مَنْ رد لقطتي ـ مثلاً ـ من مسافة عشرة كيلو، فقد توجد في عشرة كيلو وقد لا توجد، لكن إذا جعل العوض عوضاً عن العمل مطلقاً، والعامل حظه ونصيبه كما يقولون، فهذا لا بأس به.
مسألة : هل يجوز أن يكون الجعل مجهول كأن يقول من رد بعيري فله ما في هذا الكيس من الدراهم ؟
لا يجوز أن يكون الجعل مجهول كأن يقول من رد بعيري فله ما في هذا الكيس من الدراهم لأنه مجهول، لا ندري أمائة أم مائتان أم أكثر؟ فلا بد أن يكون العوض المدفوع من الجاعل معلوماً ليكون العامل على بصيرة.
ولو قدر أن الجاعل جعل جُعلاً كبيراً؛ لأنه يظن أن هذه البعير لا توجد إلا بمشقة وبُعْد شُقَّة، فيسرها الله للعامل، فهل يطالب الجاعلُ العاملَ بنقص العوض أم لا؟ الجواب: لا، نقول: هذا من رزق الله للعامل، كما أنه لو لم يجدها إلا بعد مدة طويلة وشُقَّة بعيدة فإنه لا يطالب الجاعلَ بزيادة.
مسألة : لو قال: إذا رددت بعيري الشارد فلك نصفه ، فهل يجوز ذلك؟
لو قال: إذا رددت بعيري الشارد فلك نصفه، فإن ذلك يجوز لأنه معلوم، لكنه معلوم بالنسبة؛ لأنه جزء مشاع، فلا بأس؛ كالمضارب تعطيه المال وتقول: اتجر به ولك نصف الربح، فربما يتجر به اتجاراً شاقاً عظيماً ولا يحصل ربح، وربما تظن أنه لن يربح إلا قليلاً فيربح كثيراً.
فالمعلوم إذاً إما أن يكون بالتعيين بالعدد والوصف، وإما أن يكون بالمشاع أي بالسهم.
مسألة : ما هي اللقطة لغةً وشرعا ؟
اللقطة لغةً : فُعَلَة من الأخذ واللقط، فهي الشيء الملقوط(2/500)
اللقطة شرعا : هي كل مالٍ معصومٍ معرض للضياع لا يُعرف مالكه ، وكثيراً ما تُطلق على ما ليس بحيوان ، أما الحيوان فيقال له ضالة .
مسألة : ما هل أخذ اللقطة أفضل أم تركها ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) إن كنت تعلم من نفسك أنك قادرٌ على تعريف هذا المال لكن تخشى عليه الضياع لو تركته فالأفضل أن تأخذه لأن في هذا حفظ مال أخيك .
(2) وإن كنت تعلم من نفسك أنك قادرٌ على تعريفه ولا تخشى عليه الضياع لو تركته لاحتمال أن يجده صاحبه فالسلامة لا يعدلها شيء.
مسألة : هل كل مال يجده الإنسان يجب تعريفه؟
[*](الصحيح أن من وجد مالاً فعلى ثلاثة أقسام :
(الأول: أن يعلم أن صاحبه تركه رغبة عنه فهذا لواجده، كما يوجد الآن بعض الكراسي المكسرة ترمى في الأسواق، أو بعض الزنابيل، أو بعض الأواني، أو ما أشبه ذلك، نعلم أن صاحبها تركها رغبة عنها، هذه يملكها واجدها بدون شيء.
الثاني: أن يكون مما لا تتبعه الهمة؛ لكونه زهيداً، كقلم يساوي درهماً، فهذا زهيد لا تتبعه همة أوساط الناس، فأي إنسان يجده فهو له، إلا إذا كان يعلم صاحبه فعليه أن يوصله إلى صاحبه أو يبلِّغ صاحبه به؛ لأنه أصبح الآن غير لقطة، لأن صاحبه معلوم .
(الثالث: وهو الذي تتبعه همة أوساط الناس فهذا يجب أن يعرَّف لمدة سنة .
مسألة : ما المقصود بأوساط الناس ؟
المقصود بأوساط الناس (خُلُقاً ومالاً)، خلقاً يعني ليس من الكرماء الذين لا يهتمون بالأمور، ولا من البخلاء الذين همتهم تتبع كل شيء .
{ تنبيه } :( الذي تتبعه همة أوساط الناس يختلف باختلاف الأحوال والأماكن والأزمان، فيما سبق الدرهم الواحد تتبعه همة أوساط الناس؛ لأنه يحصل به شيء كثير، يعني يمكن أن الدرهم الواحد يشتري به الإنسان شاة ويشتري به ـ أيضاً ـ حباً يطبخه ويكفي ضَيْفَه .(3/1)
والآن ـ والحمد لله ـ الدرهم لا يهتم به أحد، وكذا خمسة دراهم، وكذا عشرة، والخمسون يهتم بها أوساط الناس، إذاً يقدر هذا بحسب الأحوال، والأحوال يختلف فيها الناس .
مسألة : هل يجوز التقاط ضالة الإبل ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) إذا كان لا يخشى عليها من قطاع الطرق فلا يجوز التعرض لها، تترك حتى يجدها ربها لأن النبي ( سئل عن ضالة الإبل فغضب وقال: «دعها، ما لك ولها؟! معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها»
(حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: جاء رجل إلى رسول الله فسأله عن اللقطة، فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها). قال: فضالة الغنم؟ قال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب). قال: فضالة الإبل؟ قال: (ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها).
فقوله : «معها سقاؤها» يعني بطنها؛ لأنها إذا شربت تبقى مدة حتى في أيام الصيف لا تحتاج إلى شرب «وحذاؤها» يعني خفها، «ترد الماء وتأكل الشجر» ولا أدل من البعير على الماء، حتى إن الناس فيما سبق إذا خافوا على أنفسهم من العطش ربطوا أنفسهم على الإبل، ثم إن البعير تشم الماء من بعيد وتقف عليه، فمعها سقاؤها، ومعها حذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها.
(2) إذا كان يخشى عليها من قطاع الطرق، ففي هذه الحال له أن يأخذها إن لم نقل بالوجوب، ويمكن أن يؤخذ هذا من الحديث، وهو قوله: «حتى يجدها ربها» فإن هذا التعليل يشير إلى أنه إذا كانت في مكان يخشى أن يأخذها قطاع الطرق، فإنه يلتقطها ولا بأس؛ لأنه في هذه الحال يغلب على الظن أن صاحبها لا يجدها.
مسألة : الحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع كالضأن والمعز وصغار الإبل وما أشبهها، هل يجوز التقاطها؟(3/2)
الحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع كالضأن والمعز وصغار الإبل وما أشبهها، فهذه يجوز التقاطها، وينفق عليها، ويرجع بها على ربها إن وجده، فإن خشي أن تزيد النفقة على قيمتها فإنه يضبط صفاتها ثم يبيعها ويحفظ ثمنها لربها، فإذا جاء ووصفها وانطبقت الأوصاف على الموجود فإنه يعطيه الثمن.
مسألة : ما معنى يُعَرِّف اللقطة ؟
معنى يُعَرِّف اللقطة : أي يطلب من يَعْرِفها.
مسألة : أين يُعَرِّف اللقطة؟
يُعَرِّف اللقطة في مجامع الناس مثل أسواق البيع والشراء، بل وما كان خارج باب المسجد عند خروج الناس من الصلاة، لا سيما صلاة الجمعة مثلاً.
مسألة : هل يجوز تعريف اللقطة في المساجد :
لا يجوز إنشاد الضالة في المساجد، بل قد أمر النبي من سمع الذي ينشد الضالة في المسجد فليقل: «لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبنَ لهذا» وهذا من باب التعزير، كما أمر النبي بعدم تشميت العاطس إذا لم يحمد الله تعالى ، فإذا رأى الإنسان أنه إذا أقام هذا التعزير عُزِّر هو فلا يقدم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ولو فتح المجال للناس أن ينشدوا الضوال في المسجد لامتلأت المساجد من أصوات الناشدين، وألهوا الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، فصار الدليل في هذا أثرياً ونظرياً.
( حديث عبد اله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( نهى عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال :«إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أوْ يبْتَاعُ في الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ الله تِجَارَتَكَ. وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالّة فَقُولوا: لا ردّ الله عَلَيْكَ» .
مسألة : كيف تُعَرَّف اللقطة ؟(3/3)
وكيفية التعريف، أن يقول: من ضاع له المال؟ ولا يعين؛ لأنه لو عيَّن وقال: من ضاع له كذا وكذا ويفصل، لكان ذلك سبيلاً إلى أن يدعيه أي شخص، ولكن يعمم .
مسألة : ما هي مدة التعريف ؟
مدة التعريف: «حولاً» يعني عاماً كاملاً، واعلم أنه إذا أطلق العلماء ـ رحمهم الله ـ الحول أو العام أو السنة فمرادهم بالهلال، أي: السنة الهلالية؛ لأن السنة الهلالية هي السنة الحقيقية التي وقَّتها الله لعباده، قال الله تعالى: {{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}} [التوبة: 36] وهذه التواريخ التي بنيت على أشهر غير هلالية هي في الحقيقة أوهام غير منضبطة بشيء معين، ولهذا تجد بعضها يصل إلى واحد وثلاثين يوماً، والثاني إلى ثمانية وعشرين يوماً مثلاً، فهذه ليست مبنية على أصل، لكن الأشهر الهلالية مبنية على أصل جعله الله ـ تعالى ـ للناس كما قال الله ـ تعالى ـ {{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}} [البقرة: 189] وقال تعالى: {{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}} [يونس: 5] فكلما رأيت في كلام أهل العلم حولاً، أو سنة، أو عاماً، فالمراد بالهلال.
مسألة : ما هو الدليل على أنها تعرَّف حولاً ؟
(حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: جاء رجل إلى رسول الله فسأله عن اللقطة، فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها). قال: فضالة الغنم؟ قال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب). قال: فضالة الإبل؟ قال: (ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها).
الشاهد : قوله ( [عرفها سنة]
مسألة : كيف تعرَّف اللقطة في هذه السنة ؟(3/4)
نعلم علم اليقين أن الرسول لا يريد أن يبقى ليلاً ونهاراً يعرِّف، فيرجع في ذلك إلى العرف، وقد اجتهد بعض العلماء فقال: يُعَرِّفها في الأسبوع الأول كل يوم، ثم كل أسبوع مرة لمدة شهر، ثم في كل شهر مرة، وهذا التقدير اجتهاد ليس عليه دليل، ولكن الأولى أن يرجع في ذلك إلى العرف لأن العرف يؤخذ به فيما ليس فيه تحديدٌ شرعي .
مسألة :هل يجب عليه أن يذكر النوع عند الإنشاد، كأن يقول مثلاً: من ضاعت له الدراهم بدلاً من أن يقول: من ضاع له المال؟
الصحيح أنه يجب عليه؛ لأنه إذا قال: من ضاع له المال؟ فقد يتصوره الإنسان غير الذي ضاع له، لكن إذا قال: من ضاعت له الدراهم؟ صار هذا أقرب لفهم المقصود، وكذلك يقال لو أنه وجد حلياً، فلو قال: من ضاع له الذهب؟ فإن الناس أول ما يقع في قلوبهم أنه الدنانير، لكن إذا قال: من ضاع له الحلي؟ صار هذا أقرب إلى فهم المخاطب، فيذكر أقرب ما يكون من إدراك الناس له، لكن لا يذكر كل الأوصاف حتى لا يدعيه من ليس له.
فمثلاً إذا وجد دراهم وقال: من ضاعت له الدراهم فإنه يجوز؛ لأنه إذا قال أحد: أنا، سيقول له: كم عددها؟ وما نوعها؟ هل من فئة خمسة، أو من فئة عشرة أو من فئة خمسين، أو من فئة مائة، أو من فئة خمسمائة؟ وهل هي دراهم سعودية أو هل هي دراهم بلد آخر؟ ثم العدد، ثم الكيس إذا كانت في كيس، كل هذا يحددها، إنما يذكر أقرب وصف يمكن للمخاطب أن يعرفه بدون أن يفصل؛ لئلا يدعيها من ليست له.
مسألة : هل يجب أن يكون التعريف فوراً أم مؤجلاً ؟
التعريف يجب أن يكون فوراً، فلو أخره فهو آثم ويضمنها ضمان غصب.
مسألة : ما هو إثم من لم يُعَرِّف اللقطة ؟
جاءت السنة الثابتة الصحيحة بالنكير الشديد على من لم يُعَرِّف اللقطة
( حديث زيد بن خالد الجهني الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها .
( من آوى ضالة) أي من يضمها إلى نفسه متملكاً لها ولا ينشدها
((3/5)
فهو ضال ) عن طريق الصواب أو آثم أو ضامن إن هلكت .
مسألة: من ترك حيوانا ً بفلاة لانقطاعه أو لجهله فأخذه إنسانٌ آخر فهل يملكه؟
الصحيح أنه يملكه
( حديث عامرا الشعبي الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له .
مسألة: هل له الانتفاع باللقطة ؟
الجواب: إن كان بعد تمام الحول فله أن ينتفع بها؛ لأنها تصبح ملكه.
(حديث عياض بن حمار الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال : من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء .
وأما قبل فإن احتاجت إلى نفقة كالحيوان يحتاج إلى علف وسقي، فله أن ينتفع بقدرها، وإلا فلا كالإناء فليس له أن ينتفع به.
مسألة : هل يجب على الملتقط أن يشهد على صفات اللقطة ؟
يجب على الملتقط أن يشهد على صفات اللقطة، لكن يشهد من يثق به؛ لأنه إذا أشهد سلم من صاحبها لو ادعى أنها على وجه أكمل، وهذا الإشهاد من وسائل الضبط.
(حديث عياض بن حمار الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال : من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء .
مسألة : ما هو حكم لقطة مكة ؟
الصحيح أن لقطة مكة لا تحل إلا لمنشد يريد أن يعرِّفها مدى الدهر
((3/6)
حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال:قال رسول الله يوم فتح مكة: (لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا). وقال يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه). فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، قال: (إلا الإذخر).
الشاهد : قوله ( [ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها]
وهذا من خصائص الحرم، والحكمة في ذلك أنه إذا علم الإنسان أنه لا يحل له التقاط لقطة الحرم إلا إذا كان مستعداً لإنشادها دائماً فإنه سوف يدعها، وإذا كان هذا يدعها والآخر يدعها ومَنْ بَعده يدعها، بقيت في مكانها حتى يجدها ربها .
مسألة : ما هو حكم لقطة الحاج ؟
( حديث عبدالرحمن بن عثمان التيمي الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( :نهى عن لقطة الحاج .
( نهى عن لقطة الحاج ) قال القاضي : يحتمل أن المراد النهي عن أخذ لقطتهم في الحرم ويحتمل أن المراد النهي عن أخذها مطلقاً لتترك مكانها وتعرف بالندى عليها لأنه أقرب طريقاً إلى ظهور صاحبها لأن الحاج لا يلبثون مجتمعين إلا أياماً معدودة ثم يتفرقون ويصدرون مصادر شتى فلا يكون للتعريف بعد تفرقهم جدوى .
مسألة : ما هو اللقيط لغةً وشرعا؟
اللقيط لغةً : بمعنى ملقوط أي: مأخوذ.
اللقيط شرعا : اللقيط طفل لا يعرف نسبه ولا رقه ( وُجِد منبوذا)ً.
مسألة : ما معنى ( وُجِد منبوذا)ً ؟
معنى ( وُجِد منبوذا)ً : يعني أن صاحب هذا الطفل قد نبذه وطرحه، لا يريده
مسألة : كيف نعرف أنه وُجِد منبوذاً ؟(3/7)
ونعرف أنه منبوذ بالقرائن، وهذا من المعلوم أنه لا يُتصور غالباً إلا فيمن لا يستطيع المشي، كطفل في المهد وجدناه ـ مثلاً ـ في المسجد، أو في الحمامات أو على الأرصفة، وغلب على ظننا أنه منبوذ بقرائن، ومن هذه القرائن أنه إذا نبذ يكتب عليه في مهاده «هذا ليس له أحد»، وهذا يقع فيما إذا حصل ـ والعياذ بالله ـ زنا ثم وضعت المرأة من هذا الزنا، وقد عُرِف أنها ليست متزوجة فإنها تنبذ هذا الطفل، وأحياناً يكثر هذا في المساجد، وأحياناً يقل، وعلى كل حال إذا نبذ فواضح أنه لقيط .
مسألة : ما حكم أخذ اللقيط ؟
حكم أخذ اللقيط : فرض كفايةلأنه آدمي محترم فصار حفظه فرض كفاية، وفرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فما طُلب فعله من كل أحد فهو فرض عين أو سنة عين، وما كان الغرض منه إيجاد الفعل فقط صار كفاية إما فرض وإما سنة، فأخذ اللقيط ليس مطلوباً من كل أحد، بل المطلوب حفظ هذا الطفل فيكون فرض كفاية.
مسألة : هل يجب على أول من يراه أن يأخذه؟
هذا هو الأصل، فيجب على أول من يراه أن يأخذه؛ لأننا لو لم نقل بهذا وقلنا للأول: ليس هناك مانع أن تتركه، وجاء الثاني وقلنا له كذلك، فهنا لا شك أنه سوف يضيع الطفل، لا سيما إذا كان في أيام الصيف والحر فيحتاج إلى رعاية، أو أيام الشتاء والبرد في البلاد الباردة، فعلى هذا نقول: هو فرض كفاية، لكن يجب على أول من يجده أن يأخذه، إلا إذا رأى شخصاً آخر يقول: دعه لي، فهنا نقول: حصلت الكفاية.
مسألة : هل اللقيط حر؟
اللقيط حر، فلا يقول واجده إنه عبد وأنا أخذته فهو عبد لي أبيعه وأشتري بدله، حتى لو كان في حي أهله عبيد فإنه حر؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية.
مسألة : من ينفق على اللقيط ؟(3/8)
اللقيط ُ يُنفقُ عليه من ماله إن وجد معه مال ، فإن لم يوجد معه مال فنفقته من بيت المال لأن بيت المال مُعَد لحوائج المسلمين ، فإن لم يتيسر فعلى من علم بحاله أن ينفق عليه لأن ذلك إنقاذٌ له من الهلاك ولا يرجع على بيت المال إلا إذا كان القاضي أذن له بالنفقة عليه فإن لم يكن أذن له كانت النفقةُ تبرعا .
مسألة : هل اللقيط مسلم ؟
اللقيط مسلم : يعني يُحكم بإسلامه؛ لأن الأصل أن كل مولود يولد على الفطرة، حتى وإن وجد في دار كفر، الثابت في صحيح أنه إذا وجد في دار كفر فإن الغالب أنه من هؤلاء الكفار، لكننا نقول: إن انقطاع تبعيته نسباً يستلزم انقطاع تبعيته ديناً؛ لأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» وهذا الطفل ليس له أبوان، فلما انقطعت تبعيته في الأبوين من حيث النسب فلتنقطع من حيث الدين، ونرجع إلى الأصل وهو الفطرة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي ( قال : ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرةِ فأبواه يهودَّانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة ُ بهيمةً جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ، يقول أبو هريرة : ( فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ) [سورة: الروم - الآية: 30]
{ تنبيه } :( وإذا حكمنا بإسلامه ترتب عليه أحكام، وكان له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فلو مات هذا الطفل قبل أن يبلغ فإننا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في مقابر المسلمين .
مسألة : ما معنى حضانة اللقيط ، و لمن تكون حضانة اللقيط ؟
حضانة اللقيط : (تعني ضمه، وتربيته)(3/9)
و تكون حضانة اللقيط لواجده الأمين ، وكفالته تكون لواجده، لكن بشرط أن يكون الواجد أميناً، فإذا كان الذي وجده امرأة وهي أمينة لا نخشى عليه بوجوده عندها، فحضانته للمرأة، وإذا كان رجلاً أميناً فحضانته للرجل، أما إذا كان غير أمين مثل أن يكون فاسقاً، أو مشهوراً باستلاب الأموال فإنه لا حضانة له؛ لأن المقصود بالحضانة في كل أحوالها حفظ المحضون والقيام بمصالحه، فإذا عرفنا أن الواجد ليس بأمين فلا حضانة له، والحاكم يجعل حضانته لشخص أمين، ومن هنا نعرف أن الحضانة لها أهمية كبيرة، وليست الأم أولى بها من الأب مطلقاً، ولا الأب أولى بها من الأم مطلقاً، ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ في باب الحضانة: إن المحضون لا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه مهما كان حتى لو كانت الأم.
مسألة : لمن يكون ميراث اللقيط أو ديته؟
الصحيح أن ميراثه وديته لواجده، وهو لحديث رواه أهل السنة وهو قول النبي : «تحوز المرأة ثلاثة: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» وهو اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ومعلوم أن هذا أولى من أن نجعله في بيت المال؛ لأن بيت المال ينتفع به عامة المسلمين، لكن هذا ينتفع به الواجد الذي تعب عليه وحضنه، وربما يكون هو السبب ـ أيضاً ـ في تحصيل المال، فالصواب هذا القول وأن من أسباب الإرث الولاء بالالتقاط.
{ تنبيه } :( ولو تزوج هذا اللقيط وأتاه أولاد فميراثه لورثته، للزوجة إن بقيت معه ولأولاده، لكن إذا لم يتزوج فميراثه يكون لواجده.
مسألة : إن أقر رجل أن اللقيط له، فإننا نلحقه به بدون بينة ؟
إن أقر رجل أن اللقيط له، فإننا نلحقه به بدون بينة ولو بعد موت اللقيط؛ لأن الشرع يتشوَّف إلى إلحاق الأنساب؛ (لحديث عائشة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :«الولد للفراش وللعاهر الحجر»
، فالشارع له تشوُّفٌ في إلحاق النسب، ولهذا حرم على الإنسان أن يتزوج المرأة في العدة؛ لئلا تختلط الأنساب وتشتبه.(3/10)
مثاله: رجل علم باللقيط، فجاء إلى القاضي أو إلى الأمير أو إلى المحافظ، وقال: هذا ولدي، فإنه يلحق به بشرطين:
الأول: ألا يتبين كذب الدعوى، مثل أن يأتي وله عشر سنوات ويقول: الولد ولدي، فإن هذا لا يمكن، أو يأتي وهو له عشرون سنة واللقيط له اثنتا عشرة سنة، فإن هذا لا يمكن ويستحيل عادة، فإذا لم تمكن صحة الدعوى فإنه لا يقبل.
الثاني: ألا ينازعه أحد
مسألة : إذا ادعى اللقيط اثنان أو أكثر فماذا نفعل ؟
إذا ادعى اللقيط اثنان أو أكثر ثبت نسبه لمن أقام البينة على دعواه،فإن لم تكن عُرض على القافه الذين يعرفون الأنساب بالشبه ثم ألحق بمن حكم له القائف أنه ولده .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت:دخل علي قائف، والنبي شاهد، وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، قال: فسر بذلك النبي وأعجبه، فأخبر به عائشة.
فإن لم يتيسر ذلك اقترعوا بينهم فمن خرجت قرعته كان له .
مسألة : ما هو الوقف لغةً واصطلاحا؟
الوقف لغةً: بمعنى الحبس
الوقف اصطلاحا: «تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة» .
أي جعل المنفعة سبيل
مسألة : ما معنى تحبيس الأصل؟
( تحبيس الأصل) أي: منعه، و «الأصل» أي: العين، كالدار ـ مثلاً ـ والشجر، والأرض، والسيارة، وما أشبه ذلك؛ لأن الوقف يكون في المنقول والعقار.
مسألة : ما معنى تسبيل المنفعة؟
معنى (تسبيل المنفعة) يعني إطلاقها، وعلمنا بأن التسبيل بمعنى الإطلاق لقوله في الأصل إنه «تحبيس» ، فيكون ضده الإطلاق.
والمعنى أن المُوقِف يحبس الأصل عن كل ما ينقل الملك فيه، ويسبل المنفعة ـ يعني الغلة ـ كأجرة البيت مثلاً، والثمرة، والزرع، وما أشبه ذلك.(3/11)
والأصل في هذا أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أصاب أرضاً في خيبر، وكانت نفيسة عنده، فجاء يستشير النبي ماذا يصنع فيها؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ينفقون مما يحبون، فأرشده إلى الوقف، وقال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها»
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفسُ عندي منه، فما تأمر به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها). قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير مُتَمَوِّل.
(غير مُتَمَوِّل) : أي غير متملك لأي شيءٍ من رقابها .
{ تنبيه } :( هذا أول وقف في الإسلام، وهو غير معروف في الجاهلية، بل أحدثه الإسلام .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما ـ رضي الله عنهما ـ إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، يتأول قوله تعالى: {{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}} [آل عمران: 92] .
وأبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ لما أنزل الله هذه الآية، جاء إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن الله أنزل: {{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}}، وإن أحب مالي إليَّ «بيرحاء»، وهي اسم نخل مستقبلة مسجد الرسول في المدينة، وكان فيها ماء عذب طيب يأتي إليه الرسول ويشرب منه، وهذا لا شك أغلى شيء عند أبي طلحة، فقال: يا رسول الله ضَعْهَا حيثُ شِئْتَ، فقال الرسول : «بَخٍ بَخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وأرى أن تجعلها في الأقربين» ، فجعلها في قرابته وبني عمه.
((3/12)
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، أحب ماله إليه بَيْرُحَاء، مستقبلة المسجد، وكان النبي يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. وأن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: (بخ، ذلك مال رابح، أو رايح - شك ابن مسلمة - وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن يجعلها في الأقربين). قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وفي بني عمه.
مسألة : ما حكم الوقف ؟
لوقف تبرع بالمال، وحبس له عن التصرف فيه، فإذا كان على جهة مشروعة كان مستحباً؛ لأنه من الصدقة، وإذا نذره الإنسان كان واجباً بالنذر، وإذا كان فيه حيف أو وقف على شيء محرم كان حراماً، وإذا كان فيه تضييق على الورثة كان مكروهاً، فيمكن أن تجري فيه الأحكام الخمسة .
فإذا جاءنا إنسان يقول: أنا أريد أن أوقف هذه الأرض لأعمر عليها مسجداً، نقول له: هذا مستحب؛ لأنه من الإحسان والصدقة، والله ـ تعالى ـ يحب المحسنين.
مسألة : ما هي الهبة وما الفرق بينها وبين العطية ؟
الهِبة بكسر الهاء هي تمليك الإنسان ماله لغيره في الحياةِ بغيرِ عِوض .
والفرق بين الهبة والعطية : أن العطية هي التبرع بالمال في مرض الموت المخوف، فهي أخص من الهبة، والهبة أن يتبرع بالمال في حال الصحة، أو في مرضٍ غير مخوف، أو في مخوف لم يمت به.
{(3/13)
تنبيه} : خروج المال بالتبرع يكون هبة، ويكون هدية، ويكون صدقة، فما قصد به ثواب الآخرة بذاته فهو صدقة، وما قصد به التودد والتأليف فهو هدية، وما قصد به نفع المعطَى فهو هبة، فهذا هو الفرق بينها، والتودد والتأليف من الأمور المقصودة شرعاً ويقصد بها ثواب الآخرة، لكن ثواب الآخرة لم يقصد فيها قصداً أولياً، ولهذا يخصها بشخص معين، أما الصدقة فلا يخصها بشخص معين، بل أي فقير يواجهه يعطيه، وكلها تتفق في أنها تبرع محض لا يطلب الباذل عليها شيئاً.
مثال ذلك: شخص أعطى إنساناً كتاباً بدون قيمة، فإننا نسمي هذا هبة، فإن قصد بها ثواب الآخرة سمَّيناها صدقة، وإن قصد بها التودد إلى هذا الشخص فهي هدية، والغالب أن الهدية تكون من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الأدنى لا يريد أن ينفع الأعلى وإنما يريد التودد إليه.
والهبة تكون مع المساوي، ومع من دونه، لكنه لا يقصد بها ثواب الآخرة قصداً أولياً.
مسألة : اذكر الدليل في الحث على الهبات ؟
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَن شاة).
مسألة : ما معنى فِرْسَن شاة ؟
معنى فِرْسَن شاة : حافر الشاة
والمراد منه أي لا تحقرن أن تهدى إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به ، كناية عن التحابب والتوادد فكأنه قال لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت فيتساوى في ذلك الغني والفقير وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع إنفعالا في كل منهما .
مسألة : اذكر الدليل في الحث على الهدايا ؟
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : تهادوا تحابوا .
( تهادوا تحابوا ) وذلك لأن الهدية خلق من أخلاق الإسلام دلت عليه الأنبياء وحث عليه خلق وهم الأولياء تؤلف القلوب وتنفي سخائم الصدور، وقبول الهدية سنة ولو كانت قليلة القيمة .
((3/14)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :عن النبي قال: (لو دعيت إلى ذراع، أو كُراع، لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كُراع لقبلت).
مسألة : ما هو الكُراع ؟
الكُراع : ما استدق من ساق الحيوان ، وفي الحديث قبول الهدية وإن كانت قليلة القيمة كالكُراع .
مسألة : هل يجوز الإثابة على الهدية ؟
دلت السنة الصحيحة أنه يجوز الإثابة على الهدية .
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( :كان يقبل الهدية و يثيب عليها .
( كان يقبل الهدية ) إلا لعذر كما رد على العصب بن جثامة الحمار الوحشي وقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حزم وذلك فرار عن التباغض والتقاطع بالتحابب والتواصل ( ويثيب عليها ) أي يجازي عليها بأن يعطي بدلها فيسن التأسي به في ذلك ، وقال : يثيب ولم يقل يكافئ لأن المكافأة تقتضي المماثلة.
مسألة : هل يجوز لأحدٍ أن يرجع في هبته؟
مسألة : ما حكم هدايا العمال ؟
دلت السنة الصحيحة على أن هدايا العمال غُلول ؟
(حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال:استعمل النبي رجلا من الأزد، يقال له ابن اللتبية، على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: (فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر يهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاه تيعر، ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه: (اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت). ثلاثا.
( حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :هدايا العمال غلول .
( هدايا العمال غلول ) بضم اللام والغين ، أصله الخيانة لكنه شاع في الغلول في الغي فالمراد أنه إذا أهدى العامل للإمام أو نائبه فقبله فهو خيانة منه للمسلمين فلا يختص به دونهم .
((3/15)
حديث بريدة الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول .
مسألة : ما هي العُمرى والرُقبى ؟
العُمرى والرُقبى : نوعان من الهبة مؤقت بوقت .
العُمرى : مأخوذة من العمر وهي أن يهبك الشيء مدة حياتك .
والرُقبى : أن يهبك الشيء على إن مات قبلك صارت لك وإن مت قبله رجعت إليه ، وسميت بذلك لأن كل منهما يرقب موت صاحبه .
وكان هذا يحصل في الجاهلية ، وقد اعتبر النبي ( هذا التوقيت ملغياً وجعل كلً من العُمرى والرُقبى لمن وهبت له حياته ولورثته من بعده ولا ترجع للواهب .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (العمرى جائزة).
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال:قضى النبي بالعمرى، أنها لمن وهبت له.
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : العمرى جائزة لأهلها والرقبى جائزة لأهلها .
مسألة : هل يجوز لأحدٍ أن يُعْطِيَ عَطِيّةً ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا ؟
لا يجوز لأحدٍ أن أَنْ يُعْطِيَ عَطِيّةً ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا إِلاّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ .
((3/16)
حديث ابنِ عَبّاسٍ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «لا يَحِلّ لِلرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيّةً ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا إِلاّ الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الّذِي يُعْطِي الْعَطِيّةَ ثُمّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكلْبِ أَكَلَ حتى إذا شَبِع قَاءَ ثُمّ عَاد في قَيْئِهِ».
( حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه .
مسألة : هل يجوز للإنسان شراء هبته ؟
دلت السنة الصحيحة على أنه لا يجوز للإنسان شراء هبته .
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أنه قال :حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي فقال: (لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه).
( العائد في هبته كالعائد في قيئه ) أي كما يقبح أن يقيء ثم يأكله يقبح أن يتصدق بشيء ثم يسترجعه بوجه من الوجوه كشرائه من المنتقل إليه فشبه بأخس الحيوانات في أخس أحوالها زيادة للتهجين والتنفير فيكره تنزيهاً لمن وهب أو تصدق أن يشتريه حتى ممن انتقل إليه من المتصدق .
مسألة : ما حكم الهبة التي توهب للأبناء؟
يجب العدل في الهبة التي توهب للأبناء
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال :أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فأتى رسول الله فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: (أعطيت سائر ولدك مثل هذا). قال: لا، قال: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). قال: فرجع فرد عطيته.
مسألة : هل في إعطاء الهبة للأولاد يُعطون بقدر إرثهم (للذكر مثل حظ الأنثيين) ؟(3/17)
الصحيح أن الأولاد يُعطون بقدر إرثهم (للذكر مثل حظ الأنثيين) هذا في العطية المحضة، فلو أعطاهم بالسوية لكان هذا جَوْراً، لأنه زاد الأنثى ونقص الذكر، أما ما كان لدفع الحاجة فإن يتقدر بقدرها.
فالراجح، أن الأولاد يعطون على حسب ما ذكر الله ـ عزّ وجل ـ في كتابه في إرثهم: {{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}} [النساء: 11] ولا شك أنه لا أعدل من قسمة الله ـ عزّ وجل ـ، ومن قال: إن هناك فرقاً بين الحياة والممات، فإنه يحتاج إلى دليل على ذلك، فنقول: هم في الحياة وبعد الممات سواء.
مسألة : بالنسبة للنفقة هل يكون التعديل بينهم بقدر إرثهم، أم بقدر حاجتهم ؟
بالنسبة للنفقة لا يكون التعديل بينهم بقدر إرثهم، بل بقدر حاجتهم، فيجب التعديل في الإنفاق على ولده بقدر الحاجة، فإذا قدر أن الأنثى فقيرة، والذكر غني، فهنا ينفق على الأنثى ولا يعطي ما يقابل ذلك للذكر؛ لأن الإنفاق لدفع حاجة، فالتعديل بين الأولاد في النفقة أن يعطي كل واحد منهم ما يحتاج، فإذا فرضنا أن أحدهم في المدارس يحتاج إلى نفقة للمدرسة، من كتب ودفاتر وأقلام وحبر وما أشبه ذلك، والآخر هو أكبر منه لكنه لا يدرس، فإذا أعطى الأول لم يجب عليه أن يعطي الثاني مثله.
ولو احتاج الذكر إلى غترة وطاقية قيمتهما مائة ريال مثلاً، واحتاجت الأنثى إلى خرصان في الآذان قيمتها ألف ريال، فالعدل أن يشتري لهذا الغترة والطاقية بمائة ريال، ويشتري للأنثى الخرصان بألف ريال، وهي أضعاف الذكر عشر مرات، فهذا هو التعديل.(3/18)
ولو احتاج أحدهم إلى تزويج والآخر لا يحتاج، فالعدل أن يعطي من يحتاج إلى التزويج ولا يعطي الآخر، ولهذا يعتبر من الغلط أن بعض الناس يزوج أولاده الذين بلغوا سن الزواج، ويكون له أولاد صغار، فيكتب في وصيته: إني أوصيت لأولادي الذين لم يتزوجوا، أن يُزَوج كل واحد منهم من الثلث، فهذا لا يجوز؛ لأن التزويج من باب دفع الحاجات، وهؤلاء لم يبلغوا سن التزويج، فالوصية لهم حرام، ولا يجوز للورثة ـ أيضاً ـ أن ينفذوها إلا البالغ الرشيد منهم إذا سمح بذلك، فلا بأس بالنسبة لحقه من التركة.
مسألة : هل يفضِّل بينهم باعتبار البِرِّ؟ يعني إذا كان أحدهما أبر من الآخر، فقال: سأعطي البار أكثر مما أعطي العاق؛ تشجيعاً للبار وحثاً للعاق ؟
الصحيح أن ذلك لا يجوز لأن البر ثوابه أعظم من دراهم تعطيه إياها، فالبر ثوابه عند الله ـ عزّ وجل ـ، ولا تدري فلعل البار اليوم يكون عاقاً بالغد، والعاق اليوم يكون باراً بالغد، فلا يجوز أن تفضله من أجل برِّه.
مسألة : إذا كان أحد الأولاد يعمل معه في متجره أو مزرعته، فهل يجوز أن يعطيه زيادة على الآخر الذي لم ينتفع منه بشيء؟
المسألة فيها تفصيل : إن كان الذي يُعِين أباه يريد بذلك وجه الله فإنه لا يعطيه شيئاً؛ لأنه يدخل في البر، وإن كان يريد عوضاً على ذلك، أو أن أباه فرض له العوض قبل أن يعمل فلا بأس، ولكن يُعطى مثل أجرته لو كان أجنبياً.
مسألة : ما هي الوصية ؟
الوصية : هي التبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعده.
فالتبرع بالمال بعد الموت بأن يقول: إذا مت فأعطوا فلاناً ألف ريال.
وأما الأمر بالتصرف بعده، مثل أن يقول: إذا مت فالوصي على أولادي الصغار فلان، فالأول بالمال والثاني بالحقوق.
ومن الوصية بالتصرف ما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين جعل أمر الخلافة شورى بين الستة من أصحاب رسول الله .
مسألة : هل تكون الوصية للوارثين ؟(3/19)
القول الصحيح الذي دل عليه الكتاب و السنة الثابتة الصحيحة أنه لا وصية لوارث .
الوصية تكون للأقارب غير الوارثين، ودليل ذلك قول الله تعالى: {{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}}، والآية عامة في الوارث وغير الوارث؛ لأنه قال: {{لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}}، لكن نقول: هذه الآية مُخَصَّصة بآيات المواريث، و (لحديث أبا أمامة الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ولا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها فقيل يا رسول الله ولا الطعام قال ذاك أفضل أموالنا ثم قال العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم .
فيكون العموم في قوله تعالى: {{لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}} مخصوصاً بآيات المواريث.
مسألة : هل يمكن أن يكون الوالدان غيرَ وارثين؟
فالجواب: يمكن أن يكونا غير وارثين، كما لو كانا كافرين والولد مسلم، فإنه يوصي لهما؛ لقول الله تعالى: {{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}} [لقمان: 15] .
مسألة : مسألة : ما حكم الوصية للأقارب غير الوارثين ؟
الراجح في هذه المسألة أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة؛ لأن الآية صريحة قال تعالى {{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}} [البقرة: 180] .
، والنسخ ليس بالأمر الهيِّن أن يُدَّعى مع هذه الصراحة، ومع إمكان الجمع بين هذه الآية وآية المواريث، والجمع أن آيات المواريث صريحة في أنها من بعد وصية، وكيف نلغي هذه الأوصاف العظيمة: {{كُتِبَ}}، {{حَقًّا}}، {{عَلَى الْمُتَّقِينَ}} مع إمكان العمل بآيات المواريث وهذه الآية؟! ولأنه لا دليل على النسخ.
((3/20)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).
مسألة : لو قال قائل: لو كان الوجوب باقياً لتوافرت النقول عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بالوصية، مع أن الوصية بين الصحابة قليلة، فالجواب: لا شك أن هذا الاحتمال يضعف القول بالوجوب، لكن ما دام أمامنا شيء صريح من كتاب الله ـ عزّ وجل ـ فإن عدم العمل به يدل على أن من الصحابة أو أكثر الصحابة يقولون بأن الوجوب منسوخ، ونحن إنما نكلف بما يدل عليه كلام الله ـ عزّ وجل ـ.
الصحيح أن آية الوصية محكمة، وأنه يجب العمل بها، لكن نسخ منها من كان وارثاً من هؤلاء المذكورين، فإنه لا يوصى له، وبقي من ليس بوارث.
مسألة : من ترك مالاً قليلاً هل تجب له الوصية ؟
من ترك مالاً قليلاً لا تسن له الوصية، (لحديث سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ الثابت في الصحيحين) أن النبي ( قال :«إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة» ، وصاحب المال القليل إذا أوصى فإنه ربما يجعل ورثته عالة على الناس.
مسألة : ما هو المال الكثير الذي تجب له الوصية؟
المال الكثير يرجع فيه إلى العرف، فقد يكون القليل كثيراً في وقت، وقد يكون الكثير قليلاً في وقت آخر.
مسألة : أين تُصرف الوصية ؟
تُصرف في أعمال الخير، وأولاها القرابة الذين لا يرثون؛ لأن الله فرض الوصية لهم، فإذا قلنا: إن الآية لم تنسخ صارت الوصية للقرابة الذين لا يرثون واجبة، وإذا قلنا: إنها منسوخة صارت مستحبة، فتصرف إلى الأقارب غير الورثة سواء كانوا أغنياء أو فقراء، وإذا أوصى إلى جهة عامة صار أكثر أجراً وأعم نفعاً.
مسألة :هل تجوزالوصيةبأكثر من الثلث ؟
(لا تجوزالوصيةبأكثر من الثلث :
((3/21)
لحديث سعد بن أبي وقاص الثابت في الصحيحين ) قال :قلت يارسول الله أنا ذو مالٍ ولايرثني إلاابنة ،أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: (لا). قال: قلت: فالشطر؟ قال: (لا). قلت: الثلث؟ قال: (الثلث كبير، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك).
الشاهد: [أتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» ، قال: فالنصف؟ قال: «لا»] ـ وكلمة: «لا» في مقام الاستفتاء تعني التحريم ـ فقال: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» .
مسألة : متى تستحقُ الوصية ؟
لا تستحقُ الوصية إلا بعد موت المُوصِي وبعد سداد الديون ، فإذا استغرقت الديون التركة كلها فليس للمُوصَى له شيء .( حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن قال :«إن النبي قضى بالدين قبل الوصية» وأنتم تقرؤنها {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
مسألة: لو قال قائل أليس الله ـ تبارك وتعالى ـ قدم الوصية على الدين فقال: {{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}} [النساء: 11] ، وفي الآية الثانية: {{يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}}، وقال: {{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}}، وقال: {{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}} [النساء: 12] ، فبدأ بالوصية، والقاعدة أنه يبدأ بالأهم فالأهم؟
فالجواب عن هذا من وجهين :
أولاً: أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن النبي قضى بالدين قبل الوصية» .
ثانياً: أن الحكمة في تقديم الوصية هو الاعتناء بها؛ لأن الوصية لا مُطالِب بها والدين له مُطالِب، فالوصية لما كانت لا مطالب بها ربما يتوانى الورثة في تنفيذها، أو يجحدونها أيضاً، والدين لا يمكنهم هذا فيه، فلو أنهم توانوا في قضائه فصاحبه يطالب.(3/22)
والخلاصة : أنه يقضى الدين قبل الوصية، وبعد قضاء الدين نرجع للوصية، وننظر إن استغرقت أكثر من الثلث الباقي بعد الدين لم ينفذ منها إلا الثلث، فإذا قدَّرنا أن رجلاً عنده أربعون ألفاً وعليه عشرة آلاف دين، وقد أوصى بالثلث، فإننا نجعل الوصية في هذه المسألة عشرة آلاف، ولو أننا اعتبرنا الوصية قبل الدين لكانت ثلاثة عشر ألفاً وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثاً، لكننا لا نعتبر الوصية إلا بعد قضاء الدين، فنخرج أولاً الدين ثم ننظر إلى ثلث الباقي وننفذ منه الوصية .
مسألة: ما هي الفرائض لغةً واصطلاحا ؟
الفرائض : جمع فريضة بمعنى مفروضة، وهى لغة : الشي الموجَبُ والمقطوع .
وفي الاصطلاح هنا : العلم بقسمة المواريث فقها وحسابا .
وهو نوعان شرعي وفني، ويقال: فقهي وحسابي، فالعلم بالمواريث فقهاً هذا شرعي، والعلم بالمواريث حساباً هذا فني مرادٌ لغيره، والأول مراد لذاته؛ لأن المقصود إيصال حقوق أصحاب المواريث إليهم، سواء عرفت الحساب أم لم تعرف، لكن مع ذلك يحتاج طالب العلم إلى معرفة حساب المواريث وإن عرف فقهها، فمثلاً: إذا هلك هالك عن بنت وأخت شقيقة، فكوننا نعرف أن للبنت النصف وللأخت الشقيقة ما بقي، فهذا علم شرعي فقهي، وإذا قلنا: المسألة من اثنين للبنت النصف واحد وللأخت الشقيقة ما بقي وهو واحد، فهذا فني حسابي .
مسألة : ما حدّ علم الفرائض ،وما موضوعه ، وما ثمرته ؟
حدّ علم الفرائض : العلم بقسمة المواريث فقهاً وحساباً.
موضوعه : التركات وهي ما يخلفه الميت من أموال وحقوق واختصاصات.
ثمرته : إيصال كل وارث ما يستحقه من التركة، ومن ثم نعرف أهميته وحكمه.
مسألة : ما حكم تعلم الفرائض ؟
حكم تعلم هذا العلم فرض كفاية، إن قام به من يكفي سقط الفرض عن الباقين، وإلا وجب على جميع الأمة؛ لأنه لا يمكن تنفيذ شريعة الله في هذا الباب إلا بتعلمه.
مسألة : ما منزلة علم الفرائض ؟
علم الفرائض من أجلِّ العلوم وأشرفها؛ لأمور :(3/23)
أولاً : أنه تنفيذ لفريضة من فرائض الله، قال الله تعالى لما ذكر ميراث الأصول والفروع: {{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}} [النساء: 11] ، فأنت إذا تعلَّمت الفرائض فإنك تتوصل بها إلى القيام بفريضة من فرائض الله.
ثانياً : أن المواريث حدٌّ من حدود الله ـ عزّ وجل ـ فإذا تعلمتها التزمت بها حدود الله، قال الله تعالى في ميراث الزوجين والإخوة من الأم لما ذكر هذا: {{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}} [النساء: 13] .
ثالثاً : أن الفرائض هدى وبيان، ولهذا لما ذكر الله ـ عزّ وجل ـ ميراث الإخوة الأشقاء أو لأب في آخر سورة النساء، قال: {{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}} [النساء: 176] ، ولهذا كان علم الفرائض من أفضل العلوم.
مسألة : ما هي الحقوق الذي تتعلق بتركة الإنسان إذا مات ؟
إذا مات الإنسان فإنه يتعلق بتركته خمسة حقوق مرتبة كالتالي:
1ـ مؤن تجهيز الميت من ثمن ماء تغسيله وكفنه وحنوطه وأجرة غاسله وحافر قبره .
2ـ الحقوق المتعلقة بعين التركة كالديون الموثقة بالرهن .
3ـ الحقوق المتعلقة بذمة الميت كالديون التي ليس فيها رهن سواء كانت لله تعالى كالزكاة أم للآدميين كالقرض .
4ـ الوصية الجائزة ، وهى ما كانت بالثلث فأقل لغير وارث .
5ـ الإرث ، ويقدم منه الإرث بالفرض ثم التعصيب ثم الرحم .
مثال يوضح ذلك : أن يموت ميت ويبلغ ما يتعلق بتركته كالتالي :
100 ريال مؤن تجهيزه .
100 ريال دين موثق برهن .
100 ريال دين ليس فيه رهن .
100 ريال وصية جائزة .
وارث : زوج أخت شقيقة .
فإذا خلف مائة ريال صرفت في مؤن تجهيزه ،وترك الباقي .
وإذا خلف مائتي ريال فقط صرفت في مؤن تجهيزه والدين الموثق ، وترك الباقي .
وإذا خلف ثلاثمائة ريال فقط صرفت في مؤن تجهيزه والدين الموثق والدين غير الموثق وترك الباقى .(3/24)
وإذا خلف ستمائة ريال صرفت منها ثلاثمائة فيما سبق ، ومائة ريال فى الوصية ومائة ريال للزوج ، ومائة ريال للأخت الشقيقة .
ووجه تقديم الوصية على الإرث هنا أن فرض كل واحد من الزوج والأخت الشقيقة النصف ، ولم يفرض لهما النصف إلا بالنسبة لما بقي بعد الوصية ولو لم تقدم الوصية عليهما لكان للوصية خمسة وسبعون ، ولكل واحد من الزوج والأخت مائة واثنا عشر ريالا ونصف ريال .
مسألة : هل يلزم الوارثَ أن يقضي الدينَ عنه؟
لا يلزم حتى لو كان الميت أباه أو ابنَه أو أخاه الأكبر، لكن إذا كان من باب التبرع فباب التبرع واسع.
مثال هذا: رجل هلك وعنده مائة ريال، وله شاة مرهونة بمائة ريال، وعليه دين ليس موثقاً مائة ريال هذه ثلاثمائة، فنبدأ بالتجهيز، نأخذ مائة الريال ونجهز الميت بها، ثم الدين الموثق برهن فنقول لصاحب الرهن: هذه الشاة بعها واسْتَوْفِ حقك مائة ريال، فإذا قال الدائن الآخر: أنا ـ أيضاً ـ أطلبه، نقول: دينك مؤخر عن الدين الذي فيه الرهن، والدين المرسل لم يبق شيء له ولا يلزم الوارث أن يقضيه، ولكنا نبشر المدينين إذا أخذوا أموال الناس ليؤدوها، ولكن أخلفت الأمور أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يؤدي عنهم من فضله وكرمه(لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي ( قال : من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه و من أخذها يريد إتلافها أتلفه الله .
( حديث ميمونة الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : من ادان دينا ينوي قضاءه أداه الله عنه ( يوم القيامة )
( من ادّان ديناً ينوي ) أي وهو ينوي كما جاء مصرحاً به في رواية الثابت في صحيحة
( قضاءه أداه اللّه عنه يوم القيامة ) بأن يرضي خصماءه ، وقال الغزالي : الشأن في صحة النية فهي معدن غرور الجهال ومزلة أقدام الرجال .(3/25)
مسألة : فلو هلك هالك عن مائتي ريال، وشاة قيمتها مائة ريال مرهونة بدين قدره مائة ريال، وعليه دين مرسل قدره مائة ريال، ووصيةفكيف توزع تركته؟
توزع التركة كالآتي:
المائة الأولى للتجهيز، والثانية ـ الشاة ـ للدين الموثق برهن، والثالثة للدين المرسل، والوصية لا تنفذ؛ لأن الوصية تكون بعد هذه الثلاثة ولم يبق لها شيء.
مسألة : إذا هلك هالك وخلّف مائتين وتسعين ريالاً وعليه دين برهنٍ مائة ريال والمرهون يساوي مائة ريال، وعليه دين مرسل مائة ريال، ووصية بالثلث فكيف نوزع تركته؟
توزع التركة كالآتي:
أولاً: نأخذ مائة ريال للتجهيز، ثانياً: مائة ريال بالدين الموثق بالرهن، ثالثاً: مائة ريال بالدين المرسل، بقي تسعون ريالاً، وهو موصٍ بالثلث نأخذ ثلاثين ريالاً للوصية يبقى للميراث ستون ريالاً، هنا قدمنا الوصية على الميراث؛ لأننا أخذنا للوصية الثلث من رأس المال كاملاً، وإذا أخذنا الثلث يبقى ثلثان فيكون للذي يرث النصفَ الثلثُ، إذاً الوصية ما نقصت، أُعطي الموصى له الثلاثين كاملة، أي: الثلث كاملاً، والميراث نقص؛ لأن الوصية مقدمة عليه، ولهذا كان لصاحب النصف في الوصية الثلث.
{ تنبيه } :( وتأمل يا أخي، فالمالُ الذي تجمعه إذا مت إلى من يذهب؟ يذهب إلى أشياء ضرورية، للتجهيز، أو غرامات ديون عليك، أو لغيرك، فمالُك حقيقةً هو ما قدمته في حياتك تقرباً إلى الله ـ عزّ وجل ـ، وأما ما خلَّفته فليس لك.
مسألة : إذا قيل: ما معنى تقديم الوصية على الإرث، مع أنها لا ينفذ منها - إذا لم تجز الورثة - إلا الثلث، والباقي للورثة ، فما الجواب ؟
فالجواب: أن معناه أن الموصَى به يُخْرَجُ من التركة قبل المواريث كاملاً، ثم يقسم الباقي على الورثة كتركة مستقلة فيدخل النقص عليهم دون الوصية، ويتبين ذلك بالمثال:(3/26)
فإذا هلكت امرأة عن زوجها وأختها الشقيقة وقد أوصت بالثلث؛ فالمسألة من ثلاثة: للوصية الثلث واحد، ويبقى اثنان هي التركة الموروثة؛ للزوج نصفها وهو واحد، وللأخت نصفها وهو واحد.
فأنت تعرف في هذا المثال أن للوصية الثلث، وللزوج النصف، وللأخت النصف، ولم يحصل لكل من الزوج والأخت حقيقة إلا الثلث.
أما الوصية فَأُعْطِي الموصَى له الثلث كاملاً، وصار النقص على الورثة. ولو قلنا بعدم تقديم الوصية لجعلنا الثلث الموصَى به كثلث مفروض؛ فتكون المسألة من ستة، وتعول إلى ثمانية؛ للوصية الثلث اثنان، وللزوج النصف ثلاثة، وللأخت النصف ثلاثة، وتعول إلى ثمانية فيدخل النقص على الجميع.
مسألة : ما هي أركان الإرث ؟
أركان الإرث ثلاثة: مورِّث، ووارث، وموروث.
فالمورِّث:انتقلت التركة منه وهو الميت.
والوارث:انتقلت التركة إليه.
والموروث: التركة.
مسألة : ما هي أسباب الإرث ؟
أسباب الإرث ثلاثة : نكاح ، ونسب ، وولاء .
أ ـ فالنكاح : عقد الزوجية الثابت فيصحيح ، فيرث به الزوج من زوجته ، والزوجة من زوجها بمجرد العقد وإن لم يحصل بينهما اجتماع .
ب ـ والنسب : القرابة وهى الاتصال بين شخصين بولادة قريبة أو بعيدة .
ج_ والولاء : عصوبة تثبت للمعتق وعصبته المتعصبين بأنفسهم بسبب العتق .
مسألة : ما هو النكاح الذي يكون سبباً في الإرث ؟(3/27)
النكاح الذي يكون سبباً في الإرث : هو الاتصال بين ذكر وأنثى بعقد الثابت في صحيح، فعقد النكاح الباطل لا توارث فيه، وعقد النكاح الفاسد لا توارث فيه، فلا بد أن يكون نكاحاً الثابت في صحيحاً حتى يورث به من الجانبين، الزوج يرث الزوجة، والزوجة ترث زوجها، ويثبت التوارث بين الزوجين من حين ما يعقد الرجل على المرأة، حتى وإن هلك في نفس مجلس العقد قبل أن يجتمع بها فإنها ترثه، ولو هلكت هي في مجلس العقد فإنه يرثها، إذاً يثبت التوارث بمجرد العقد، وينتهي بالبينونة، فلو طلق الرجل زوجته وانتهت العدة ثم مات لا يبقى التوارث، ولو طلق زوجته ومات وهي في العدة فالإرث باقٍ.
مسألة : رجل تزوج امرأة بدون ولي ثم مات فهل ترثه؟
لا؛ لأن النكاح غير الثابت في صحيح، النكاح فاسد.
مسألة : رجل تزوج امرأة وبعد موته تبين أنها أخته من الرضاعة فهل ترثه ؟
لا ترثه لأن النكاح باطل .
{ تنبيه } :( الفرق بين النكاح الفاسد والباطل، أن النكاح الفاسد ما اختلف العلماء فيه، والباطل ما أجمعوا على بطلانه، فنكاح الأخت من الرضاعة باطل؛ لأن العلماء مجمعون عليه، والنكاح بلا ولي فاسد؛ لأن العلماء مختلفون فيه، وعليه فلا توارث في نكاح فاسد ولا في نكاح باطل.
مسألة : ما المقصود بالولاء الذي يكون سبباً في الإرث ؟
المقصود بالولاء الذي يكون سبباً في الإرث هو الاتصال بين إنسانين بسبب العتق، ويورث به من جانب واحد وهو الجانب الأعلى وهو المعتِق، فالمعتِق يرث عتيقَه، والعتيق لا يرث معتِقَهُ .
{ تنبيه } :( العتق يورث به من جانب واحد وهو الجانب الأعلى وهو المعتِق، فالمعتِق يرث عتيقَه، والعتيق لا يرث معتِقَهُ .
والنكاح يورث به من الجانبين، والرحم تارة من جانبين وتارة من جانب واحد، فابن الأخ يرث عمته وهي لا ترثه، لأنها من ذوي الأرحام .
{(3/28)
تنبيه } :( هذا العلم يمكن أن نقول: ثلاثي، أسبابه ثلاثة، موانعه ثلاثة، شروطه ثلاثة، أقسام الميراث به ثلاثة ـ أيضاً ـ.
مسألة : ما هي شروط الإرث ؟
شروط الإرث ثلاثة :
أ ـ تحقق موت المورث أو إلحاقه بالأموات .
مثال إلحاقه بالأموات : المفقود إذا مضت مدة انتظاره .
ب ـ تحقق حياة الوارث بعده أو إلحاقه بالأحياء .
مثل إلحاقه بالأحياء : الحمل إذا تحقق وجوده حين موت مورثه وإن لم تنفخ فيه الروح ، وكذلك المفقود في مدة انتظاره إذا لم نتحقق أن موته قبل موت مورثه .
وبناء على هذين الشرطين فلا توارث بين متوارثين ماتا ولم يُعلم أيهما أسبق موتا ، مثل أن يموتا بهدم أو غرق أو حريق أو حادث طريق ونحوه لعدم تحقق المورث قبل الوارث وحياة الوارث بعده .
جـ ـ العلم بالجهة الموجبة للإرث من زوجية أو قرابة أو ولاء ، بأن نعلم أن هذا يرث هذا الميت لكونه زوجه و نحوه .
مسألة : ما هي موانع الإرث ؟
موانع الإرث ثلاثة : اختلاف الدين ، والرق ، والقتل .
فمتى وُجد واحد منها في شخص صار كالمعدوم فلا يرث ولا يؤثر على غيره من الورثة .
أ ـ فأما اختلاف الدين فمعناه : أن يكون إحداهما على ملة والثاني على ملة أخرى ، وهو مانع من الجانبين ، فالكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر ، واليهودي لا يرث النصراني ، والنصراني لا يرث اليهودي وهكذا . فلا توارث بينهما لانقطاع الصلة بينهما شرعاً، ولذلك قال الله تعالى لنوح عن ابنه الكافر: ) إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود: من الآية46) (ولحديث أسامة بن زيد رضي الله الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ".(3/29)
ب ـ وأما الرق فهو وصف يكون به الشخص مملوكا وهو مانع من الجانبين فلا يرث الرقيق ولا يورَّث. وإنما كان الرق مانعاً من الإرث؛ لأن الله أضاف الميراث إلى مستحقه باللام الدالة على التمليك، فيكون ملكاً للوارث، والرقيق لا يملك
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :من ابتاع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع .
فإذا كان لا يملك لم يستحق الإرث لأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي من الميت .
ج ـ واما القتل فهو إزهاق الروح والمانع منه ما كان بغير حق سواء كان عمداً أم غير عمد وسواء كان مباشرة أم بسبب . وهو مانع من جانب واحد ، جانب القاتل ، فالقاتل لا يرث من المقتول . واما المقتول فيرث من القاتل مثل أن يجرح أحد الشقيقين أخاه جرحاً مميتاً ثم يموت الجارح قبله فيرث منه المجروح حينئذ .فأما القتل بحق فلا يمنع من الإرث مثل أن يقتل مورثه قصاصاً فيرث منه حينئذ .
(لحديث عبد الله بن عمرو الثابت في سنن أبي داوود وصححه الألباني في الأرواء) أن النبي ( قال : لا يرث القاتل شيئاً" .
ولأنه قد يقتل مورّثه ليتعجل إرثه منه؛ فحرم من الإرث سداً للذريعة.
مسألة : ما أقسام القرابة باعتبار جهاتهم ؟
ينقسم القرابة باعتبار جهاتهم إلى ثلاثة أقسام : أصول وفروع وحواشي .
أ ـ فالأصول من تفرَّع الميت منهم كالآباء والأمهات وكلهم وارثون بالفرض أو التعصيب سوى صنفين :
1 ـ كل ذكر حال بينه وبين الميت أنثى مثل أب الأم .
2 ـ كل أنثى أدلت بذكر حال بينه وبين الميت أنثى مثل أم أب الأم .
وهذان الصنفان من ذوي الأرحام .
ب ـ والفروع : من تفرعوا من الميت كالأولاد ، وكلهم وارثون بالفرض أو التعصيب إلا من أدلى بأنثى مثل : ابن البنت وبنت البنت فمن ذوى الأرحام .
جـ : والحواشي : من تفرعوا من أصول الميت كالإخوة والأعمام وكلهم وارثون بالفرض أو التعصيب سوى صنفين :(3/30)
1ـ كل ذكر أدلى بأنثى سوى الإخوة من الأم مثل : ابن الأخت وابن الأخ من الأم والعم لأم والخال .
2ـ جميع الإناث سوى الأخوات مثل بنت الأخ والعمة وبنت العم والخالة .
وهذان الصنفان من ذوى الأرحام .
مسألة : ما هي أقسام الورثة باعتبار نوع الإرث ؟
ينقسم الورثة باعتبار نوع الإرث ثلاثة أقسام : وارثين بالفرض ، ووارثين بالتعصيب ، ووارثين بالرحم .
أ ـ فالوارثون بالفرض : من إرثهم مقدٌر بجزء كالنصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس .
ب ـ والوارثون بالتعصيب : من يرثون بلا تقدير .
جـ ـ والوارثون بالرحم كل قريب ينزل منزلة ذوى الفرض أو التعصيب ، وليس وارثا بهما بنفسه .
مسألة : من هم أصحاب الفروض ؟
أصحاب الفروض عشرة : الزوج، والزوجة فأكثر، والأم والأب، والجد، والجدة فأكثر، والبنات، وبنات الابن، والأخوات لغير أم، وأولاد الأم.
مسألة : ما هو ميراث الزوج ؟
الزوج ينحصر ميراثه في النصف أو الربع لا ثالث لهما .
فيرث الزوج من زوجته النصف: إن لم يكن لها فرع وارث؛ والفرع الوارث هم الأولاد، وأولاد الأبناء وإن نزلوا، فأما أولاد البنات فهم فروع غير وارثين، فلا يحجبون من يحجبه الفرع الوارث.
ويرث الربع: إن كان لزوجته فرع وارث سواء كان منه أم من غيره؛ لقوله تعالى: )وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ) (النساء:الآية12) ، ولفظ الولد يشمل الذكر والأنثى من الأولاد وأولاد البنين وإن نزلوا.
فلو هلكت امرأة عن زوج وأب: فللزوج النصف لعدم الفرع الوارث والباقي للأب.
ولو هلكت عن زوج وابن: فللزوج الربع لوجود الفرع الوارث والباقي للابن.
مسألة : ما هو ميراث الزوجة ؟
ميراث الزوجة الربع أو الثمن :
فترث الربع بشرط أن لا يكون للزوج فرع وارث ، وترث الثمن بشرط أن يكون للزوج فرع وارث .(3/31)
مثال إرثها الربع : أن يموت شخص عن زوجته وأبيه فللزوجة الربع وللأب الباقي .
مثال إرثها الثمن : أن يموت شخص عن زوجته وابنه فللزوجة الثمن وللابن الباقي .
والزوجتان فاكثر كالزوجة الواحدة ، فلا يزيد الفرض بزيادتهن .
والدليل قوله تعالى: {{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}} [النساء: 12] ، الحمد لله الذي فرض هذا، فلولا هذه الفريضة من الله ـ عزّ وجل ـ لبقي الناس في مشاكسة ونزاع لا نهاية له، لكن الله ـ جل وعلا ـ تولى ذلك بنفسه، هذا له الربع، هذا له الثمن، هذا له النصف.
{ تنبيه } :( الفرع الوارث كل من لم يُدْلِ بأنثى.
مسألة : ما هو ميراث الأم؟
ميراث الأم على التفصيل الآتي :
(1) الأمُ ترث السدسَ( سدس المال) مع وجود الفرع الوارث، والفرع الوارث كل من لم يُدْلِ بأنثى.
مثال ذلك: هلك هالك عن أم وابن، للأم السدس والباقي للابن تعصيباً.
مثال آخر :هلك هالك عن أم وبنت وعم، للأم السدس؛ لوجود فرع وارث، والبنت لها النصف، والباقي للعم.
(2) وترث الثلث(ثلث المال) مع عدم الفرع الوارث والجمع من الإخوة.
مثال ذلك: هلك هالك عن أم وأخ شقيق، للأم الثلث لعدم الفرع الوارث .
(3 )(ثلث الباقي) مع[ زوج وأب، أو زوجة وأب ].
مثال الأولى: إذا كان معها زوج وأب، فالمسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة، لعدم الفرع الوارث، والباقي ثلاثة، لها ثلث الباقي واحد، والباقي للأب .
مثال الثانية: إذا هلك زوج عن زوجته وأمه وأبيه، فالمسألة من أربعة، للزوجة الربع واحد لعدم الفرع الوارث، وللأم ثلث الباقي واحد، والباقي للأب.
فصار ميراث الأم إما الثلث يعني ثلث المال كله، وإما السدس، وإما ثلث الباقي في مسألتين فقط زوج وأم وأب، أو زوجة وأم وأب .
مسألة :لو قال قائل: ما الدليل على أن ميراث الأم بهذه الحال؟(3/32)
الجواب: قول الله ـ عزّ وجل ـ: {{وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}} [النساء: 11] ، فبيَّن الله ـ عزّ وجل ـ أن للأبوين السدس مع الولد، وأن للأم السدس مع الإخوة،
فإذا قال قائل: ما دليلكم على ثلث الباقي، هل في القرآن ثلث الباقي؟
الجواب: لا، لكن دليلنا النص والقياس، النص عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ له سنة متبعة؛ ( لحديث العرباض بن سارية الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال ، صلى بنا رسول الله ( ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَ محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة )
الشاهد : ( فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها ) وإفراد الضمير دل على أن سنة الخلفاء الراشدين من سنته ( إذا لو لم تكن كذلك لثنى الضمير .
(وإذا كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحالنا على عمر ـ رضي الله عنه ـ صار ما يحكم به ثابتاً بالنص، لكن ليس النص المباشر، بل على طريق أنه أحد الخلفاء الراشدين، فكان قوله متبوعاً بأمر النبي .(3/33)
وأما القياس، فإذا أخذ الزوج نصيبه انفردت الأم والأب بما بقي، وإذا انفردت الأم والأب بالمال كُلِّهِ تأخذ الثلث لعدم الفرع الوارث ولعدم الإخوة، فالآن انفردت الأم والأب بما بقي بعد فرض الزوج فنعطيها ثلث ما انفردا به، كما أنهما لو انفردا بالمال كله أعطيناها ثلث المال، إذاً هذا قياس واضح، وأيضاً القاعدة الغالبة في الفرائض أنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في درجة واحدة فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.
فتبين ـ والحمد لله ـ أن هاتين المسألتين هما ما قضى به عمر ـ رضي الله عنه ـ، ولهذا تسمى هاتان المسألتان بالعمريتين نسبة إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ؛ لأنه أول ما وقعتا في زمانه ـ رضي الله عنه ـ وقضى بهما على هذا الوجه.
مسألة : لو قال قائل: الآية الكريمة تبين أنه إذا لم يكن فرع وارث أو عدد من الإخوة أن للأم الثلث، قلنا: لا؛ لأن الله لم يجعل لها الثلث إلا فيما إذا ورثه أبواه حيث قال: {{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}}، فلا بُدَّ أن نعتبر هذا الشرط، وفي العمريتين ورثه أبواه ومعهما غيرهما، إذاً فلا تخالف القرآن، وما قضى به عمر
ـ رضي الله عنه ـ هو الحق الذي دلت عليه السنة ومفهوم القرآن.
ميراث الأب
ميراث الأب بالفرض فقط وهو السدس أو بالتعصيب فقط ، أو بالفرض والتعصيب معا .
فيرث بالفرض فقط بشرط أن يكون للميت فرع وارث ذكر .
ويرث بالتعصيب فقط بشرط أن لا يكون للميت فرع وارث .
ويرث بالفرض والتعصيب معاً بشرط أن يكون للميت فرع وارث أنثى لا ذكر معها .
مثال إرثه بالفرض فقط : أن يموت شخص عن أبيه وابنه فللأب السدس وللابن الباقي .
مثال إرثه بالتعصيب فقط:أن يموت شخص عن زوجته وأبيه فللزوجة الربع وللأب الباقي .
مثال إرثه بالفرض والتعصيب : أن يموت شخص عن ابنته وأبيه فللبنت النصف وللأب السدس فرضا والباقي تعصيبا .
أن يكون مع الأب فرع وارث ذكر ... يرث بالفرض فقط(3/34)
أن لا يكون مع الأب فرع وارث ... يرث بالتعصيب فقط
أن يكون للأب فرع وارث أنثى لا ذكر معها ... [يرث بالفرض وبالتعصيب]
مسألة : لماذا قلنا في هذه المسألة للأب السدس فرضاً والباقي تعصيبا ؟
قلنا في هذه المسألة للأب السدس فرضاً والباقي تعصيبا للآية الكريمة، قال الله تعالى: {{وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}} [النساء: 11] ، والمراد هنا بالولد الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة وفي الشرع ـ أيضاً ـ يطلق على الذكر والأنثى، فإذا كان الله يقول: له السدس إن كان له ولد، فيجب أن نقول: له السدس فرضاً، وكيف نقول: الباقي تعصيباً؟ نقول ذلك (لحديث ابن عباس الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :« ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»، ألحقنا الفرائض بأهلها للبنتين الثلثان وللأب السدس بقي سدس، يأخذه أولى رجل ذكر وهو الأب؛ فلذلك نحافظ على لفظ النص في هذا الباب، والجد مثل الأب تماماً .
مسألة : ما هو ميراث الجدة ؟
المراد بالجدة هنا : من لم تدل بذكر بينه وبين الميت أنثى كأم أبى الأم . ولا ترث جدة مع وجود الأم ولا مع وجود جدة أقرب منها كأم الأم مع وجود أم الأب .
الجدات من أسهل ما يكون فرضهن، فميراثهن السدس فقط مع الفرع الوارث أو عدم الفرع الوارث ، ومع الإخوة وعدم الإخوة ومع العاصب وعدم العاصب .
وميراث الجدة الواحدة السدس فان تعددن فالسدس بينهن بالسوية ولا يزيد الفرض بزيادتهن .
مثال الجدة الواحدة : أن يموت شخص عن جدته ( أم أبيه ) وابنه فللجدة السدس وللابن الباقي .
ومثال المتعددات : أن يموت شخص عن جداته ( أم أم أمه ، وأم أم أبيه ، وأم أبى أبيه) وأبيه فللجدات السدس بالسوية وللأب الباقي .
مسألة :هلك هالك عن أم أم وأم أب وأم جد فمن الذي يرث منهن ؟
السدس بين أم الأم، وأم الأب، أما أم الجد فلا ترث؛ لأنها أبعد منهما.(3/35)
مسألة : هلك هالك عن أم أم أم، وأم أم أب وأم جد فمن الذي يرث منهن ؟
السدس بينهن بالسوية؛ لأنهن متحاذيات (أي متساويات في المنزلة).
مسألة : هلك هالك أم أم أم، وأم أب، وأم جد فمن الذي يرث منهن ؟
السدس لأم الأب؛ لأنها أقربهن.
مسألة : ما هو ميراث الجد ؟
المراد بالجد هنا : من لم يكن بينه وبين الميت أنثى كأبي الأم ولا يرث جدٌ مع وجود الأب ولا مع وجود جدٌ أقرب منه كأبي أبى الأب مع وجود أبى الأب .
وميراث الجد بالفرض فقط وهو السدس ، وبالتعصيب فقط وبالفرض والتعصيب معاً .
فيرث بالفرض فقط بشرط أن يكون للميت فرع وارث ذكر .
ويرث بالتعصيب فقط بشرط أن لا يكون للميت فرع وارث .
ويرث بالفرض والتعصيب معا بشرط أن يكون للميت فرع وارث أنثى لا ذكر معها .
مثال إرثه بالفرض فقط : أن يموت شخص عن جده وابنه فللجد السدس وللابن الباقي .
مثال إرثه بالتعصيب فقط: أن يموت شخص عن أمه وجده فللأم الثلث وللجد الباقي .
ومثال إرثه بالفرض والتعصيب : أن يموت شخص عن بنته وجده فللبنت النصف وللجد السدس فرضا والباقي تعصيبا .
مسألة : هل الإخوة يرثون مع الجدّ ؟
القول الصحيح أن الإخوة لا يرثون مع الجدّ، (لأن الجد أب) يسقط الإخوة كلهم ، وهذا القول ـ أعني أن الإخوة لا يرثون مع الجد ـ هو ظاهر الأدلة، وهو ـ أيضاً ـ مروي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وثلاثة عشر من الصحابة ، وهؤلاء لا شك أن قولهم حجة لا سيما أنه موافق للأدلة،
فالله ـ تعالى ـ سمَّى الجد أباً، قال الله تعالى يخاطب هذه الأمة: {{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}} [الحج: 78] ، وقال تعالى: {{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}} [يوسف: 38] ، يقول هذا يوسف، ويعقوب أبوه، وإسحاق جده، وإبراهيم جد أبيه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.
مسألة : ماهي الحالة الوحيدة التي يختلف فيها ميراث الأب عن الجد ؟(3/36)
الجد بمنزلة الأب، لكنه يختلف عن الأب في مسألة واحدة، وهي مسألة العمريتين فإنه ليس كالأب، فزوجة وأم وجد، للزوجة الربع وللأم الثلث والباقي للجد، وزوج وأم وجد، للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للجد، فهذه المسألة يخالف فيها الجدُ الأبَ فليس كالأب، والفرق ظاهر أن الجد أبعد من الأم مرتبة، ولا يمكن للأبعد أن يزاحم الأقرب، فنعطي الأم فرضها كاملاً ونقول: للجد ما بقي، بخلاف الأم مع الأب فهم سواء.
مسألة : ما هو ميراث البنات؟
ميراث البنات بالتعصيب فقط وبالفرض فقط .
البنات يرثن تارة بالفرض، وتارة بالتعصيب بالغير.
فيرثن بالتعصيب بالغير إذا كان معهن أخوهن، لقوله تعالى :(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن)(النساء/11)
ويرثن بالفرض إذا لم يكن معهن أخوهن، فإن كانت واحدة فلها النصف، وإن كانتا اثنتين فأكثر فلهما الثلثان، لقوله تعالى: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف) [ النساء/11]، وروى جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي أعطى ابنتي سعد بن الربيع الثلثين، رواه الخمسة إلا النسائي
فلو هلك هالك عن بنت وعم: فللبنت النصف؛ لأنها واحدة ولا معصب معها، والباقي للعم.
ولو هلك هالك عن بنتين، وأب: فللبنتين الثلثان؛ للتعدد، وعدم المعصب، وللأب السدس فرضاً، والباقي تعصيباً.
ولو هلك عن بنت، وابن: فالمال بينهما تعصيباً، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا فرض للبنت لوجود المعصب.
مسألة : ما هو ميراث البنتان فأكثر ؟
ميراث البنتان فأكثر الثلثان وهناك قاعدةٌ في الفرائض هي :
[متى استحقت الواحدة النصف في مسألة فالثنتان فأكثر يستحققن الثلثين].(3/37)
والدليل على ذلك قول الله ـ عزّ وجل ـ: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}} [النساء: 11] ، فقال: {{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}}، ونحن نقول: الثنتان لهما الثلثان، والآية: {{فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}}، اقرأ بقية الآية: {{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}} مفهومه أن الثنتين ليس لهما النصف، فلا بد أن يزيد عن النصف، ولا يوجد فرض يزيد على النصف إلا الثلثان، إذاً ما زاد على الواحدة فله الثلثان لمفهوم قوله: {{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}}.
مسألة : ما هو ميراث بنات الابن ؟
ميراث بنات الابن إذا لم يوجد فرع وارث أعلى منهن كميراث البنات، فيرثن بالتعصيب بالغير، إذا وجد ابن ابن بدرجتهن، ويرثن بالفرض، إذا لم يوجد ابن ابن بدرجتهن، للواحدة النصف وللثنتين فأكثر الثلثان؛ وذلك لأن أولاد الأبناء أولاد فيدخلون في عموم قوله تعالى: )يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(النساء:الآية11) وإن وجد فرع وارث أعلى منهن، فإما أن يكون ذكراً، أو أنثيين، أو أنثى واحدة.
فإن كان ذكراً سقطن ؛ لأن كل ذكر من الفروع، يسقط من تحته من أولاد الابن.
وإن كانتا أنثيين فأكثر لا ذكر معهن، فلهما الثلثان، ويسقط من دونهن من بنات الابن؛ لاستغراق من فوقهن الثلثين، إلا أن يعصبهن ذكر بدرجتهن، أو أنزل منهن.
وإن كانت أنثى واحدة لا ذكر معها، فلها النصف، ولمن دونها من بنات الابن السدس تكملة الثلثين، سواء كن واحدة أم أكثر، فلا يزيد الفرض بزيادتهن؛ لأن إناث الفروع لا يتجاوز فرضهن الثلثين، وقد أخذت البنت النصف، فلم يبق إلا السدس يكون لبنات الابن.(3/38)
وعن ابن مسعود ، أنه قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، وقال: (أقضي فيها بما قضى به النبي ). رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي
مسألة : ما ميراث بنت الابن مع البنت الوحيدة ؟
متى ورثت البنت الوحيدة النصف فلبنت الابن السدس .
فإذا هلك هالك عن بنت وحدها وعن بنت ابن وحدها، فللبنت النصف ولبنت الابن السدس.
{ تنبيه } :( هنا بنات الابن ليس لهن إلا السدس، سواء كن واحدة أو أكثر، فلو هلك هالك عن بنت واحدة وعشر بنات ابن، فللبنت النصف، ولبنات الابن العَشْرِ السدس، لا يزيد الفرض بزيادتهن.
مسألة : إذا ورثت الأخت الشقيقة النصف فما ميراث الأخت لأب معها ؟
فمتى ورثت الأخت الشقيقة النصف ورثت الأخت لأب السدس.
فإذا هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت لأب، ولا فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، فللأخت الشقيقة النصف، وللأخت لأب السدس.
{ تنبيه } :( هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت لأب، للأخت لأب السدس، ولو كن عشراً فلهنَّ السدس، لا يزيد الفرض بزيادتهن .
مسألة : هناك أربعة لا يزيد الفرض بزيادتهن ، ما هن ؟
أربعة لا يزيد الفرض بزيادتهن الزوجات، والجدات، وبنات الابن مع البنت، والأخوات لأب مع الأخت الشقيقة.
والدليل على أن الأخوات الشقيقات للواحدة النصف وللثنتين فأكثر الثلثان، قوله تعالى: {{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}}، يعني لا يوجد فرع وارث، {{وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}}، وأيضاً لا يوجد أصل من الذكور وارث، {{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}} [النساء: 176] .(3/39)
والدليل على أن بنت الابن مع البنت لها السدس، قوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}} [النساء: 11] ، فإذا أخذت البنت النصف يبقى على الثلثين السدسُ، والله ـ عزّ وجل ـ لم يفرض لإناث الفروع أكثر من الثلثين، ولهذا يجب عند القسم أن نقول: للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والأخوات الشقيقات مع الأخوات لأب، للشقيقة النصف وللأخت لأب السدس، والدليل قوله تعالى: {{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}} [النساء: 176] ، ولم يذكر زيادة على ذلك، وهذا ـ والحمد لله ـ دليل واضح.
وقعت مسألة وهي: بنت وبنت ابن وأخت شقيقة في عهد عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فجاؤوا يستفتون أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس ـ رضي الله عنه ـ وقالوا: هلك هالك عن بنت وبنت ابن وأخت شقيقة، فقال: للبنت النصف وللأخت الشقيقة الباقي؛ لأن الأخوات الشقيقات مع البنات عصبات، ثم قال للسائل: ائتِ ابن مسعود فسيوافقني على ذلك، للتثبت، فذهب الرجل إلى ابن مسعود وقال: إنه سأل أبا موسى الأشعري، وقال: للبنت النصف وما بقي فللأخت ولم يعط ابنة الابن شيئاً، وأنه قال: اذهب لابن مسعود فسيوافقني، فقال ابن مسعود: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ـ يعني إن تابعته فقد ضللت ـ ولأقضين فيها بقضاء رسول الله للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت ، فهذا دليل على أن لبنت الابن مع البنت السدس، ولا يزيد الفرض بزيادة بنات الابن؛ لأنه لا يمكن أن نتعدى الثلثين اللَّذَيْنِ جعلهما الله ـ عزّ وجل ـ للبنتين فأكثر.
مسألة: لو هلك هالك عن بنتين وبنت ابن فما ميراث بنت الإبن في هذه الحالة ؟(3/40)
إن استكمل الثلثين البنات، بأن هلك هالك عن بنتين وبنت ابن، فبنت الابن تسقط إن لم يعصبها ذكر بإزائها ، يعني بدرجتها، أو أنزل منها، وهنا الذكر عَصَّب من ليس بدرجته للضرورة؛ لأنها مضطرة إليه إذ لولا أنه عصبها ما ورثت، فيعصبها على القول الذي عليه الجمهور.
لا يرث أحد من الإخوة أو الأخوات مع وجود ذكر وارث من الفروع أو الأصول .
أ ـ ميراث الشقيقات :
ميراث الشقيقات بالتعصيب بالغير وبالتعصيب مع الغير وبالفرض .
فيرثن بالتعصيب بالغير إذا كان للميت أخ شقيق . للذكر مثل حظ الانثيين.
ويرثن بالتعصيب مع الغير إذا كان للميت أنثى من الفروع وارثة بالفرض ، فيكن بمنزلة الاخوة الأشقاء .
ويرثن بالفرض فيما سوى ذلك للواحدة النصف وللثنتين فأكثر الثلثان .
مثال إرثهن بالتعصيب بالغير: أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وأخيه الشقيق فلهما المال كله ، له سهمان ولها سهم واحد .
ومثال إرثهن بالتعصيب مع الغير : أن يموت شخص عن بنته وبنت ابنه وأخته الشقيقة وأخيه من أبيه فللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللشقيقة الباقي ولا شي للأخ من الأب .
ومثال إرث الواحدة بالفرض : أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وزوجته وأخيه من أبيه فللشقيقة النصف وللزوجة الربع ، وللأخ من الأب الباقي .
ومثال إرث الثنتين بالفرض : أن يموت شخص عن أختيه الشقيقتين وأمه وعمه الشقيق .فللشقيقتين الثلثان ، وللام السدس ، وللعم الباقي .
ومثال إرث الأكثر من الثنتين بالفرض : أن يموت شخص عن أخواته الثلاث الشقيقات وجدته (أم أبيه ) وأخيه من أبيه . فللشقيقات الثلثان وللجدة السدس ، وللأخ من الأب الباقي .(3/41)
ب ـ ميراث الأخوات من الأب : لا ترث الأخوات من الأب مع وجود ذكر وارث من الأشقاء مطلقاً ، ولا مع وجود اثنتين فأكثر من الشقيقات إلا أن يكون للميت أخ من أب فيرثن معه بالتعصيب للذكر مثل حظ الانثيين . ويرثن مع الشقيقة الواحدة السدس تكملة الثلثين سواء كن واحدة أم اكثر لا يزيد الفرض عن السدس بزيادتهن .
وميراثهن فيما سوى ذلك كميراث الشقيقات على ما سبق تفصيله .
مثال إرثهن مع الشقيقتين بالتعصيب : أن يموت شخص عن أختيه الشقيقتين وأخته من أبيه وأخيه من أبيه فللشقيقتين الثلثان وللأخ من الأب والأخت من الأب الباقي سهمان ولها سهم واحد .
ومثال إِرثهن مع الشقيقة السدس : أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وأخته من أبيه وعمه الشقيق. فللشقيقة النصف وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين ، وللعم الباقي .
مثال آخر : ان يموت شخص عن أخته الشقيقة وأختيه من أبيه وأمه وعمه الشقيق . فللشقيقة النصف ، وللأختين من الأب السدس تكملة الثلثين، وللام السدس ، وللعم الباقي .
مسألة : متى ترث الأخت الشقيقة النصف ؟
[*](ترث الأخت الشقيقة النصف بثلاثة شروط :
(1) لا بد أن تكون وحدها
(2) وألا يوجد فرع وارث
(3) وألا يوجد أصل من الذكور وارث
فمثلاً لوهلك هالك عن أخت شقيقة وعم فلها النصف .
إما إذا هلك هالك عن أختين شقيقتين ليس لها النصف؛ لأنها ليست وحدها.
ولو هلك هالك عن أخت شقيقة وأب فليس لها النصف؛ لوجود أصل من الذكور وارث، ولو هلك عن بنت وأخت شقيقة ليس لها النصف فرضاً لوجود فرع وارث.
مسألة : هل الأخت لأب إذا كانت وحدها ترث النصف ؟
الأخت لأب إذا كانت وحدها ترث النصف، لكن نزيد ثلاثة شروط ألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، ولا أحد من الأشقاء.
مسألة : و هلك هالك عن أختين شقيقتين وأخت لأب وابن أخ لأب فكيف يُقسّم الميراث ؟
للأختين الشقيقتين الثلثان والباقي لابن الأخ لأب، والأخت لأب لا ترث(3/42)
لأن الأخوات من الأبوين إذا استغرقن الثلثين سقطت الأخوات لأب. «إن لم يعصبهن أخوهن» لأن (الأخوات لا يعصبهن إلا أخوهن)
واتفق جمهور العلماء على هذا الحكم .
مسألة: هلك هالك عن بنتين وأختين شقيقتين ، فكيف نقسم الميراث ؟
للبنتين الثلثان والباقي للأخوات الشقيقات تعصيباً.
مسألة :هلك عن بنت وأخت شقيقة، فكيف نقسم الميراث؟
للبنت النصف والباقي للأخت الشقيقة تعصيباً، والحاصل أنه متى ورثت البنات ومعهنَّ أخوات شقيقات، فإن الأخوات الشقيقات يكن عصبة مع الغير، ولهذا يقولون: الأخوات مع البنات عصبات، لكن عصبة مع الغير.
{ تنبيه } :( الأخت الشقيقة أو لأب ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد، يعني إذا اجتمع بنات وأخوات شقيقات أو أخوات لأب، فأعطِ البنات نصيبهن، والباقي للأخوات تعصيباً.
مسألة : من هو العاصب ؟
العاصب : من يرث بلا تقدير، ولهذا إذا انفرد أخذ المال كله بجهة واحدة، وإذا كان معه صاحب فرض أخذ ما بقي، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط؛ لأنه يرث بلا تقدير .
مسألة : ما هي أقسام العصبة ؟
تنقسم العصبة إلى [عاصب بالنفس، وعاصب بالغير وعاصب مع الغير]
مسألة : ما هو العاصب بالنفس ؟
العاصب بالنفس أربعة: البنات وبنات الابن والأخوات الشقيقات والأخوات لأب مع ذكَر يساويهن درجة ووصفاً، لقوله تعالى: {{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}} [النساء: 11] وقوله تعالى: {{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}} [النساء: 176] .
مسألة : من هو العاصب بالغير ؟
العصبة مع الغير صنفان فقط: الأخوات الشقيقات، والأخوات لأب مع البنات أو بنات الابن .
مسألة : لماذا فرق العلماء بين «بالغير» و«مع الغير»؟(3/43)
أما «بالغير» فواضح؛ لأن الباء للسببية، أي: كان هؤلاء النساء عصبة بسبب غيرهن، وأما «مع الغير» فليس هناك سبب، لكن هناك معية؛ لأن الأخوات الشقيقات لم يعصبهن بنات ولا رجال، لكن كن عصبة بالمصاحبة والمعية في مسألة واحدة.
مسألة : ما هو ميراث أولاد الأم ؟
أولاد الأم هم الإخوة والأخوات من الأم .
مسألة : الإخوة لأم متى يرثون؟
الإخوة من الأم يرثون بشرطين:
ألا يوجد فرع وارث، وألا يوجد أصل من الذكور وارث، فإن وجد أحدهما فلا ميراث.
مسألة : لو هلك هالك عن جد هو أبو أبٍ وعن أخ لأم، فهل يرث الأخ لأم ؟
الأخ لأم لا يرث لوجود أصل من الذكور وارث.
مسألة : لو هلك عن بنت ابن وأخ لأم فهل يرث الأخ لأم ؟
الأخ لأم لا يرث لوجود الفرع الوارث (بنت ابن)
مسألة : هل يوجد في الفرائض ما يتساوى فيه الذكر والأنثى في الميراث ؟
ليس في الفرائض ما يتساوى فيه الذكر والأنثى إلا الأخوة من الأم، فَذَكَرُهم وأنثاهم سواء.
مسألة : لو قال قائل لماذا يتساوى الذكر والأنثى في الميراث في الأخوة لأم ؟
(يوجد جواب لا اعتراض عليه، وهو أن هذا حكم الله، وقد قال الله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] ، وهذا ـ أعني حكم الله ـ، هو الذي احتجت به أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين سألتها امرأة قالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟! يعني من الخوارج، قالت: لا ولكني أسأل، فلو قالت: إنها حرورية، ما أجابتها عائشة؛ لأنه ليس أصعب ما يقوله الخوارج، فاستحلالهم دماء المسلمين وتكفيرهم المسلمين أشد، لكنها قالت: لا، ولكني أسأل، فاستدلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ بالنص، قالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.(3/44)
وهذا مُسْكِت لكل مسلم لقوله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] .
{ تنبيه } :( أما قول بعضهم في الإخوة لأم أنهم يرثون بالرحم المجردة، فيقال: من قال إنهم يرثون بالرحم المجردة؟! ولو أن أحداً قال: أتشهد على الله أنه سوَّى بين الذكر والأنثى في الإخوة من الأم؛ لأنهم يرثون بالرحم المجردة؟ ما تستطيع أن تقول أشهد، لكن مسائل الفرائض نبه الله ـ عزّ وجل ـ على أنه لا مدخل للعقول فيها، فقال تعالى: {{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}} [النساء: 11] ، وهذا يوجب أن يسكت الإنسان، وألا يتعمق في طلب التعليل حتى يَسْلَم .
مسألة : ما هو ميراث الأخوة لأم ؟
ميراثهم بالفرض للواحد منهم السدس ، ولاثنين فأكثر الثلث بالسوية لا يفضل ذكرهم على أنثاهم .
مثال إرث الواحد : أن يموت شخص عن أخته من أمه وأخته الشقيقة وأختيه من أبيه وأمه فللأخت من الأم السدس ، وللأخت الشقيقة النصف وللأختين من الأب السدس تكملة الثلثين ، وللأم السدس .
ومثال إرث الاثنين : أن يموت شخص عن أخويه من أمه وأختيه الشقيتين . فللأخوين من الأم الثلث بالسوية وللشقيقتين الثلثان .
ومثال إرث الأكثر من الاثنين : أن يموت شخص عن أخيه من أمه وأختيه منها وأخيه الشقيق.فللأخوين والأخت من الأم الثلث بالسوية ، وللشقيق الباقي .
القاعدة الأولى: جميع الفروض الثابتة بالقرآن وهي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، يمكن اجتماع واحد منهما مع الآخر في مسألة واحدة إلا الثمن، فلا يجتمع مع الثلث ولا مع الربع، وذلك لأن الثمن فرض الزوجة فأكثر مع الفرع الوارث، ولا يوجد الثلث مع الفرع الوارث؛ لأن الثلث إما للأم - ومن شرط إرثها إياه أن لا يوجد فرع وارث - وإما لأولاد الأم ولا إرث لهم أصلاً مع الفرع الوارث.(3/45)
وأما الربع؛ فلأنه للزوج مع الفرع الوارث، ولا يمكن أن يجتمع زوج وزوجة في مسألة واحدة.
القاعدة الثانية: لا يجتمع فرضان من جنس في مسألة واحدة إلا النصف والسدس.
القاعدة الثالثة: لا يرث بالفرض من الذكور إلا الزوج، والأخ من الأم، وكذلك الأب، والجد مع الفرع الوارث.
القاعدة الرابعة: أربعة أصناف من ذوي الفروض فرض الواحد منهم والمتعدد سواء وهم:
الزوجات، والجدات، وبنات الابن، إذا فرض لهن السدس. والأخوات لأب إذا فرض لهن السدس. هكذا ذكر الفرضيون فيما رأيت، ويمكن زيادة صنف خامس وهو الأب إذا تعدد؛ وذلك في وطء الشبهة، إذا وطىء شخصان امرأة بشبهة وألحقته القافة بهما. فإنهما يرثانه ميراث أب واحد، فلو مات عنهما وعن ابن لكان لهما جميعاً السدس، ولو انفرد أحدهما لكان له السدس وحده والباقي للابن.
مسألة : ما الفرق بين التأصيل والتصحيح ؟
التأصيل: تحصيل أقل عدد تخرج منه سهام المسألة بلا كسر.
والتصحيح: تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر.
وأصل المسألة: أقل عدد تخرج منه سهامها بلا كسر.
(فإن كان الورثة عصبة نسب، فأصل مسألتهم بعدد رؤوسهم، يجعل الذكر رأسين والأنثى رأساً واحداً، فلو هلك عن ابنين، وابنتين فمسألتهم من ستة لكل ابن اثنان ولكل ابنة واحد.
(وإن كان الورثة عصبة ولاء فإن تساووا في الملك فأصل مسألتهم بعدد رؤوسهم، وإن اختلفوا فأصل مسألتهم أقل عدد ينقسم على أنصبائهم من العتيق، فلو هلك عن موليين لكل واحد منهما نصفه فالمسألة من اثنين لكل واحد واحد، وإن كان لأحدهما ربعه فالمسألة من أربعة لذي الربع واحد والباقي لشريكه.
(وإن كان في الورثة ذو فرض فأصل مسألتهم أقل عدد يخرج منه فرضها أو فروضها بلا كسر.
(فإن كان الفرض واحداً أو اثنين فأكثر من جنس فأصل المسألة أقل عدد ينقسم على مخرجه، وإن كانت الفروض اثنين فأكثر والجنس مختلف، فأصل المسألة أقل عدد ينقسم على مخرجيهما.
((3/46)
وأصول مسائل ذوي الفروض سبعة على المشهور: اثنان وثلاثة وأربعة وستة وثمانية واثنا عشر وأربعة وعشرون.
(فالاثنان لكل مسألة فيها نصف كزوج وعم، أو نصفان كزوج وأخت لغير أم.
والثلاثة لكل مسألة فيها ثلث كأم وعم، أو ثلثان كبنتين وعم أو ثلثان وثلث كأختين لغير أم وأختين لأم.
(والأربعة لكل مسألة فيها ربع كزوج وابن، أو ربع ونصف كزوج وبنت وعم.
والستة لكل مسألة فيها سدس أو سدسان أو ثلاثة، كأم وابن، أو أم وأخ لأم وأخ شقيق، أو أم وأب وبنت وبنت ابن، أو سدس وثلث كأم وأخ لأم وعم، أو سدس ونصف كأم وبنت وعم، أو سدس وثلثان كأم وابنتين وعم، أو نصف وثلث كزوج وأم وعم أو نصف وثلثان كزوج وشقيقتين وعم.
(والثمانية لكل مسألة فيها ثمن كزوجة وابن، أو ثمن ونصف كزوجة وبنت وعم.
والاثنا عشر لكل مسألة فيها ربع وسدس كزوج وأم وابن، أو ربع وثلث كزوجة وأم وعم، أو ربع وثلثان كزوجة وشقيقتين وعم.
(والأربعة والعشرون لكل مسألة فيها ثمن وسدس كزوجة وأم وابن، أو ثمن وثلثان كزوجة وابنتين وعم.
[*](أقسام هذه الأصول باعتبار العول وعدمه:
لا تخلو فروض المسألة بالنسبة إلى أصلها من أحد ثلاثة أمور:
أحدها: أن تكون زائدة على أصل المسألة.
الثاني: أن تكون ناقصة عن أصل المسألة.
الثالث: أن تكون بقدر أصل المسألة من غير زيادة ولا نقص.
فالأول وهو زيادة الفروض على أصل المسألة يسمى (العول)
والثاني وهو نقص الفروض عن أصل المسألة يسمى (النقص)
والثالث وهو كون الفروض بقدر أصل المسألة من غير زيادة ولا نقص يسمى (العدل)
(وهذه الأصول السبعة السابقة باعتبار العول والنقص والعدل أربعة أقسام :
أحدها: ما يكون ناقصاً دائماً، وهما أصل: أربعة وثمانية.
الثاني: ما يكون ناقصاً أو عادلاً ولا يكون عائلاً، وهما أصل : اثنين وثلاثة.
الثالث: ما يكون ناقصاً أو عائلاً ولا يكون عادلاً، وهما أصل: اثني عشر وأربعة وعشرين.
الرابع: ما يكون ناقصاً وعادلاً وعائلاً، وهو أصل: ستة.
((3/47)
وبهذا تبين أن الذي يمكن عوله ثلاث أصول:
الأصل الأول : أصل ستة وتعول إلى سبعة وثمانية وتسعة وعشرة.
مثال ذلك: أن تهلك امرأة عن زوج وأختين شقيقتين فالمسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة وللأختين الثلثان أربعة وتعول إلى سبعة.
فإن كان معهم أم كان لها السدس واحد وتعول إلى ثمانية.
فإن كان معهم أخ لأم كان له السدس واحد وتعول إلى تسعة.
فإن كان معهم أخ لأم آخر كان له مع أخيه الثلث وتعول إلى عشرة، وتسمى الستة إذا عالت إلى عشرة أم الفروخ - بالخاء المعجمة - لكثرة عولها.
الأصل الثاني : أصل اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر وخمسة عشر وسبعة عشر ولا تعول إلى شفع أبداً.
مثال ذلك: أن يهلك هالك عن ثلاث زوجات وثمان أخوات لغير أم وجدتين، فالمسألة من اثني عشر، للزوجات الربع ثلاثة لكل واحدة واحد، وللأخوات الثلثان ثمانية لكل واحدة واحد وللجدتين السدس اثنان لكل واحدة واحد، وتعول إلى ثلاثة عشر. فإن كان معهم أخت لأم كان لها السدس اثنان وتعول إلى خمسة عشر. فإن كانت الأخوات لأم أكثر من واحدة كأربع مثلاً كان لهن الثلث أربعة لكل واحدة واحد وتعول إلى سبعة عشر وتسمى هذه المسألة (أم الفروج) بالجيم لأن الوارثات كلهن نساء، وتسمى أيضاً (الدينارية الصغرى) لأن كل أنثى أخذت ديناراً مع اختلاف جهاتهن.
الأصل الثالث : أصل أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين فقط.
مثال ذلك: أن يهلك رجل عن زوجة، وابنتين، وأبوين: فالمسألة من أربعة وعشرين. للزوجة الثمن ثلاثة، وللبنتين الثلثان ستة عشر، وللأم السدس أربعة، وللأب السدس أربعة، وتعول إلى سبعة وعشرين.
(وأما الأصول التي لا يمكن عولها فهي أربعة:
أحدها : أصل اثنين يكون ناقصاً كزوج وعم، ويكون عادلاً كزوج وأخت شقيقة.
الثاني : أصل ثلاثة يكون ناقصاً كأم وعم، أو بنتين وعم، ويكون عادلاً كأختين شقيقتين وأختين لأم.
الثالث : أصل أربعة يكون ناقصاً دائماً كزوج وابن، أو زوج وبنت وعم.(3/48)
الرابع : أصل ثمانية يكون ناقصاً دائماً كزوجة وابن، أو زوجة وبنت وعم.
مسألة : ما هي العصبة ؟
العصبة : جمع عاصب وهو من يرث بلا تقدير فيرث جميع المال إن لم يكن معه صاحب فرض ويرث باقيه مع صاحب فرض استغرق بعض المال ، ولا يرث شيئا مع صاحب فرض استغرق جميع المال .
مثال إرثه جميع المال : أن يموت شخص عن أخيه الشقيق . فله جميع المال .
ومثال إرثه باقية : أن تموت امرأة عن زوجها وأخويها من أمها وأخويها الشقيقين . فللزوج النصف وللأخوين من الأم الثلث ، وللأخوين الشقيقين الباقي .
ومثال عدم إرثه : أن تموت امرأة عن زوجها وأمها وأخويها من أمها أخويها الشقيقين . فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث ولا شي للأخوين الشقيقين لاستغراق الفروض جميع المال .
مسألة : ما هي أقسام العصبة ؟
[*](ينقسم العصبة إلى ثلاثة أقسام : عاصب بنفسه ، وعاصب بغيره ، وعاصب مع غيره .
أ ـ فالعاصب بالنفس هم :
1 ـ جميع الذكور من الأصول والفروع والحواشي الاخوة من الأم وذوى الأرحام .
2 ـ جميع من يرث بالولاء من الذكور أو الإناث كالمعتق والمعتقة .
ب ـ العاصب بالغير هن : البنات وبنات الابن والأخوات الشقيقات والأخوات من الأب .
1 ـ فالبنات بالأبناء .
2ـ وبنات الابن بأبناء الابن إذا كانوا بدرجتين أو كانوا أنزل منهن واستغرق من فوقهن الثلثين .
3 ـ والأخوات الشقيقات بالاخوة الأشقاء
4 ـ والأخوات من الأب بالاخوة من الأب .
فترث كل واحدة من هولاء بالتعصيب مع من كانت عصبة به للذكر مثل حظ الأنثيين .
مثال ذلك في البنات : أن يموت شخص عن ابنته وابنه فلهما جميع المال ، له سهمان ولها سهم واحد .
ومثاله في بنات الابن : أن يموت شخص عن بنته وبنت ابنه وابن ابنه . فللبنت النصف ولابن الابن وبنت الابن الباقي ، له سهمان ولها سهم واحد .(3/49)
مثال أخر : أن يموت شخص عن بنتيه وبنت ابنه وابن ابن ابنه فللبنتين الثلثان ، ولابن ابن الابن وبنت الابن الباقي له سهمان ولها سهم واحد .ومثاله في الأخوات الشقيقات :أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وأخيه الشقيق فلهما جميع المال له سهمان ولها سهم واحد . ومثاله في الأخوات من الأب : أن يموت شخص عن أخته من أبيه وأخيه من أبيه . فلهما جميع المال ، له سهمان ولها سهم واحد .ولا تعصَّب امرأة بأحد من الذكور سوى هؤلاء الأربعة فابن الأخ لا يُعصِّب أخته ولا عمته ولا ابنة عمه والعم لا يعصب العمة . وابن العم لا يعصب أخته ولا ابنة عمه .مثال ذلك في ابن الأخ : أن يموت شخص عن ابنته وابن أخيه الشقيق وبنت أخيه الشقيق فللبنت النصف ولابن الأخ الشقيق الباقي ولا شي لبنت الأخ الشقيق .مثال أخر : أن يموت شخص عن أختيه الشقيقتين وأخته من الأب وابن أخيه من الأب . فللشقيقتين الثلثان ، ولابن الأخ الباقي ولا شي للأخت لعدم من يعصبها ومثاله في العم : أن يموت شخص عن عمه وعمته فللعم جميع المال ولا شي للعمة ومثاله في ابن العم : أن يموت شخص عن ابن عمه وبنت عمه فلابن العم جميع المال ، ولا شي لبنت العم .جـ ـ والعاصب مع الغير: الأخوات الشقيقات والأخوات من الأب مع من يرث بالفرض من الفروع، فتكون الأخوات الشقيقات بمنزلة الاخوة الأشقاء والأخوات من الأب بمنزلة الاخوة من الأب .
يرث العصبة بالترتيب فيقدم الأسبق جهة ثم الأقرب منزلة ثم الأقوى .
أ ـ فأما الجهة فالأسبق فيها مقدم في التعصيب على من بعده والجهات أربع بنوة وأبوة وفروع أبوه وولاء:
1 ـ فالبنوة يدخل فيها الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا
2 ـ والأبوة يدخل فيها الآباء وأبناؤهم وإن علوا .
3 ـ وفروع الأبوة يدخل فيها الإخوة والأعمام الأشقاء أو من الأب وأبناؤهم وإن نزلوا .
4ـ والولاء ويدخل فيها المعتق وعصبته المتعصبون بأنفسهم وإلى هذه الجهات الأربع .(3/50)
فمن كان في جهة من هذه الجهات قُدِّم في التعصيب على من بعده .
مثاله : أن يموت شخص عن أبيه وابنه فللأب السدس فرضا وللابن الباقي تعصيبا .
مثال ثان: أن يموت شخص عن أبيه وأخيه الشقيق فللأب جميع المال تعصيبا .
مثال ثالث: أن يموت شخص عن عمه ومعتقه فللعم جميع المال تعصيبا .
مثال رابع : أن يموت شخص عن أمه ومعتقه فللأم الثلث وللمعتق الباقي تعصيبا .
ب ـ وأما قرب المنزلة فإذا كان العصبة في جهة واحدة قُدِّم الأقرب منزلة من الميت .
فالأقرب في جهة البنوة والأبوة من كان أقل واسطة إلى الميت .
والأقرب في جهة فروع الأبوة فروع الأب وهم الإخوة وأبناؤهم وإن نزلوا الأقرب فالأقرب ، ثم فروع أبى الأب وهم الأعمام وأبناؤهم وإن نزلوا الأقرب فالأقرب ثم فروع جد الأب وهم أعمام أبي الميت وأبناؤهم وإن نزلوا الأقرب فالأقرب
(وهكذا نقول : فروع كل أب وإن نزلوا أقرب من فروع من فوقه والأقرب في فروع كل أب أقلهم واسطة إليه .
(والأقرب في جهة الولاء : المعتق ثم عصبته كترتيب عصبة النسب
مثاله في جهة البنوة : أن يموت شخص عن ابنه وابن ابنه فللابن جميع المال تعصيبا .
ومثاله في جهة الأبوة : أن يموت شخص عن أبيه وجده فللأب جميع المال تعصيبا.
ومثاله في جهة فروع الأبوة : أن يموت شخص عن ابن ابن ابن عمه وعم أبيه . فلابن ابن ابن العم جميع المال تعصيبا .
ومثال ثان : أن يموت شخص عن ابن عمه وابن ابن عمه فلابن العم جميع المال تعصيبا .
ومثاله في جهة الولاء : أن يموت شخص عن ابن معتقه وعم معتقه . فلابن المعتق جميع المال تعصيباً .
مثال ثان : أن يموت شخص عن ابن ابن ابن أخي معتقه وعم معتقه فلابن ابن ابن أخي المعتق جميع المال تعصيبا.(3/51)
جـ ـ واما القوة فإذا كان العصبة في جهة واحدة ومنزلة واحدة قُدٌم الأقوى صلة بالميت وهو من يدلى بالأبوين على من يدلى بالأب وحده ولا يتصور التقديم بالقوة ألا في جهة فروع الأبوة .مثاله : أن يموت شخص عن أخيه الشقيق وأخيه من الأب فللشقيق جميع المال تعصيبا .
مثال ثان : أن يموت شخص عن ابن عمه الشقيق وابن عمه من الأب . فلابن عمه الشقيق جميع المال تعصيبا .
مسألة : ما هوالحجب لغةَ واصطلاحا؟
الحجب لغة:المنع واصطلاحاً : منع مستحق الإرث من الإرث كله أو بعضه .
وينقسم ألي قسمين : حجب بوصف وحجب بشخصفالحجب بالوصف : أن يكون في مستحق الإرث مانع من موانع الإرث ( اختلاف الدين والرق والقتل ) والمحجوب به يكون كالمعدوم فلا يحجب غيره ولا يؤثر عليه .مثاله : أن يموت شخص عن أمه وأخته من أبيه وأخيه من أبيه وهو مخالف له في الدين وعمه فللام الثلث وللأخت من الأب النصف وللعم الباقي ، ولا شي للأخ من الأب
الحجب بالشخص : أن يكون مستحق الإرث محجوبا بشخص أخر .
أ ـ ففي الأصول :
1 ـ كل ذكر يحجب من فوقه من الذكور .
مثاله : أن يموت شخص عن أبيه وجده . فللأب المال ولا شي للجد .
2 ـ وكل أنثى تحجب من فوقها من الإناث .
مثاله : أن يموت شخص عن أمه وجدته وعمه فللأم الثلث وللعم الباقى ولا شي للجدة .
ب ـ وفى الفروع : كل ذكر يحجب من تحته .
مثاله : أن يموت شخص عن ابنه وابن ابنه وبنت ابنه فللابن المال ولا شي لابن الابن وبنت الابن .
جـ ـ وفى الحواشي :
1 ـ جميع الحواشي يحجبون بالذكور من الأصول أو الفروع .
مثاله : أن يموت شخص عن أبيه وأخيه الشقيق . فللأب المال ولا شي للشقيق
مثال آخر : أن يموت شخص عن ابنه وأخته الشقيقة فللابن المال ولا شي للشقيقة .
2 ـ الإخوة من الأم يحجبون أيضا بالإناث من الفروع .
مثاله أن يموت شخص عن بنته وأخيه من أمه وأخيه الشقيق فللبنت النصف و للشقيق الباقى ولا شي للأخ من الأم .(3/52)
3 ـ الإخوة من الأب يحجبون بالذكور من الأشقاء .
مثاله : أن يموت شخص عن أخته من أمه وأخته من أبيه وأخيه الشقيق فللأخت من الأم السدس وللأخ الشقيق الباقي ولا شي للأخت من الأب .
وفى التعصيب :
1ـ الأسبق جهة يحجب من بعده
2 ـ الأقرب منزلة يحجب الأبعد
3 ـ الأقوى قرابة يحجب الأضعف . وسبق شرح ذلك وأمثلته .
مسألة : ما هي المناسخات ؟
المناسخات جمع مناسخة وهي في اصطلاح الفرضيين أن يموت وارث فأكثر قبل قسمة التركة.
مسألة : ما هي أحوال المناسخات ؟
وأحوال المناسخة ثلاثة:
الحالة الأولى: أن يكون ورثة الثاني هم بقية ورثة الأول من غير اختلاف، فنقسم التركة على من بقي كأن الميت الأول مات عنهم.
فلو هلك هالك عن ثلاثة أبناء ثم مات اثنان منهم واحداً بعد الآخر عمن بقي فالمال له.
الحال الثانية: أن يكون الميت الثاني من ورثة الأول وورثته لا يرثون غيره، ففي هذه الحال نصحح مسألة الميت الأول ونعرف سهم كل وارث منها، ثم نصحح مسألة من مات بعده ونقسم سهامه من المسألة الأولى على مسألته، فإما أن تنقسم أو تباين أو توافق. فإن انقسمت صحت مما صحت منه الأولى وكانت الأولى هي الجامعة.
وإن باينت سهامه مسألته فأثبت المسألة. وإن وافقتها فأثبت وفقها، ثم انظر بين المثبت من المسائل بالنسب الأربع وحصل أقل عدد ينقسم عليها كما سبق في النظر بين السهام والرؤوس، ثم اضرب الحاصل في مسألة الميت الأول فما بلغ فهو الجامعة ومنه تصح.
وعند القسم من له شيء من الأولى فاضربه فيما ضربتها به، فإن كان صاحبه حياً أخذه، وإن كان ميتاً فاقسمه على مسألته، فما حصل فهو جزء سهمها يضرب به نصيب كل واحد من ورثته.
ثم بعد ذلك اجمع ما حصل من أسهم الجامعة، فإن طابق ما صحت منه فالعمل صحيح، وإن زاد أو نقص فالعمل غير صحيح فأعده.(3/53)
مثال الانقسام : أن يهلك رجل عن زوجة وثلاثة بنين، ثم يموت أحدهم عن ثلاثة أبناء وبنت، والثاني عن ابنين وثلاث بنات فمسألة الأول من ثمانية وتصح من أربعة وعشرين. للزوجة الثمن ثلاثة ولكل ابن سبعة. ومسألة الميت الثاني من سبعة. ومسألة الميت الثالث من سبعة. وسهام كل ميت منقسمة على مسألته فتصح المسألتان مما صحت منه الأولى أربعة وعشرين .
ومثال المباينة : أن يهلك هالك عن زوجة وابنين ثم يموت أحدهما عن ثلاثة أبناء، والثاني عن أربعة أبناء. فمسألة الميت الأول من ثمانية وتصح من ستة عشر، للزوجة اثنان ولكل ابن سبعة. ومسألة الميت الثاني من ثلاثة. ومسألة الميت الثالث من أربعة، وسهام كل ميت تباين مسألته فنثبت كامل المسألتين ثلاثة وأربعة وبينهما تباين، فنضرب إحداهما بالأخرى يحصل اثنا عشر وهو جزء السهم، نضربه فيما صحت منه مسألة الميت الأول ستة عشر يبلغ مائة واثنين وتسعين وهي الجامعة. فللزوجة من المسألة الأولى اثنان في اثني عشر بأربعة وعشرين، ولكل ابن منها سبعة في اثني عشر بأربعة وثمانين. فاقسم نصيب الابن الأول على مسألته ثلاثة يحصل ثمانية وعشرون، وهو جزء سهم مسألته يضرب به سهم كل واحد من ورثته يكن لكل ابن ثمانية وعشرون، واقسم نصيب الابن الثاني من المسألة الأولى أربعة وثمانين على مسألته أربعة يحصل واحد وعشرون، وهو جزء سهم مسألته يضرب به نصيب كل واحد من ورثته يكن لكل ابن واحد وعشرون.(3/54)
ومثال الموافقة: أن تهلك امرأة عن زوج وأربعة بنين، ثم يموت أحد الأبناء عن ابنين وابنتين ويموت الثاني عن ثلاثة أبناء وثلاث بنات. فمسألة الميت الأول من أربعة وتصح من ستة عشر. للزوج أربعة ولكل ابن ثلاثة. ومسألة الميت الثاني من ستة والثالث من تسعة، وكل مسألة بينها وبين سهام المورث فيها موافقة بالثلث، فنرد الستة إلى ثلثها اثنين والتسعة إلى ثلثها ثلاثة، ثم ننظر بين الاثنين والثلاثة نجدهما متباينين نضرب أحدهما في الآخر يحصل ستة، نضربها في مسألة الميت الأول ستة عشر تبلغ ستة وتسعين وهي الجامعة، فللزوج من المسألة الأولى أربعة في ستة بأربعة وعشرين، ولكل واحد من الابنين الحيين ثلاثة في ستة بثمانية عشر، وللميت الثاني من الأولى ثلاثة في ستة بثمانية عشر، فاقسمها على مسألته ستة يخرج ثلاثة وهو جزء سهم مسألته، فاضرب به نصيب كل واحد من ورثته يكن لكل ابن ستة ولكل بنت ثلاثة. وللميت الثالث من المسألة الأولى ثلاثة في ستة بثمانية عشر، فاقسمها على مسألته تسعة يكن الحاصل اثنين وهو جزء سهمها، فأعط كل واحد من ورثته نصيبه من مسألته مضروباً في جزء السهم يكن لكل ابن أربعة ولكل بنت اثنان.
الحالة الثالثة: ما سوى الحالين الأوليين ولها ثلاث صور:
إحداها: أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأول مع الاختلاف.
الثانية: أن يكون ورثة الثاني من ورثة الأول وغيرهم.
الثالثة: أن يكون ورثة الميت الثاني من غير ورثة الأول.
وفي هذه الحال في جميع صورها نصحح مسألة الميت الأول ونعرف سهم كل وارث منها ثم نصحح مسألة الميت الثاني ونقسم سهامه من الأولى عليها، فإن انقسمت صحت الثانية مما صحت منه الأولى، وإن لم تنقسم فإن وافقت سهامه مسألته رددتها إلى وفقها وإن باينت سهامه مسألته فأثبت المسألة ثم اضرب الوفق عند التوافق أو الكل عند التباين في مسألة الميت الأول فما بلغ فمنه تصح ويسمى (الجامعة) .(3/55)
وعند القسم من له شيء من المسألة الأولى فأعطه إياه من الجامعة فيما إذا كانت سهام الثاني منقسمة على مسألته وإن لم تكن منقسمة فاضربه فيما ضربت به المسألة الأولى ومن له شيء من الثانية أخذه مضروباً في الخارج بقسمة سهام مورثه على مسألته إذا كانت منقسمة وإلا أخذه مضروباً في جميع سهام مورثه عند التباين أو وفقها عند التوافق ومن كان وارثاً من المسألتين جمعت نصيبه من المسألة الأولى إلى نصيبه من المسألة الثانية ثم اجمع أسهم الورثة من الجامعة فإن طابقها فالثابت في صحيح وإن زاد أو نقص فالعمل غير الثابت في صحيح فأعده.
فإن مات ميت ثالث عملت له مسألة أخرى بعد عمل جامعة لمن قبله وهكذا كلما تعدد الأموات عملت لكل واحد مسألة مستقلة وجامعة.
وبهذا تبين أن الفرق بين هذه الحال وبين الحال الثانية أن هذه لا بد فيها لكل ميت من مسألة مستقلة وجامعة. أما الحال الثانية فيجمع الأموات كلهم في جامعة واحدة، والله أعلم.
وإليك أمثلة لهذه الحال لكل صورة مثال :(3/56)
فمثال الصورة الأولى : أن يهلك هالك عن زوجة وابنتين منها وابن من غيرها ثم تموت إحدى البنتين عمن بقي ثم الثانية عمن بقي فالمسألة الأولى من ثمانية وتصح من اثنين وثلاثين. للزوجة أربعة وللابن أربعة عشر ولكل بنت سبعة ومسألة البنت الأولى وهي الميت الثاني من ستة لأن ورثتها أم وأخت شقيقة وأخ من أب للأم السدس واحد وللأخت النصف ثلاثة والباقي اثنان للأخ وسهامها من الأولى سبعة وهي مباينة لمسألتها فاضرب مسألتها ستة في ما صحت منه الأولى اثنين وثلاثين تبلغ مائة واثنين وتسعين وهي الجامعة فللزوجة من المسألة الأولى أربعة مضروبة في المسألة الثانية ستة بأربعة وعشرين ومن المسألة الثانية واحد مضروب في سهام المورث سبعة بسبعة الجميع واحد وثلاثون وللابن من المسألة الأولى أربعة عشر مضروبة في المسألة الثانية ستة بأربعة وثمانين ومن المسألة الثانية اثنان مضروبان في سهام المورث سبعة بأربعة عشر الجميع ثمانية وتسعون وللبنت الباقية من المسألة الأولى سبعة مضروبة في المسألة الثانية ستة باثنين وأربعين ولها من الثانية ثلاثة مضروبة في سهام مورثها سبعة بواحد وعشرين الجميع ثلاثة وستون.
انتهى عمل مسألة الميت الثاني وجامعته.
أما مسألة الميت الثالث وهي البنت الثانية فمن ثلاثة لأن ورثتها أم وأخ لأب للأم الثلث واحد والباقي للأخ لأب وسهامها ثلاثة وستون منقسمة على مسألتها وجزء سهمها واحد وعشرون، فللأم منها واحد في واحد وعشرين بواحد وعشرين أضفها إلى نصيبها من الجامعة واحد وثلاثين يكن المجموع اثنين وخمسين وللأخ منها اثنان في واحد وعشرين باثنين وأربعين أضفها إلى نصيبه من الجامعة ثمانية وتسعين يكن المجموع مائة وأربعين.(3/57)
ومثال الصورة الثانية: أن يهلك هالك عن ثلاثة أبناء ثم يموت أحدهم عن بنت ومن بقي ويموت الثاني عن زوجة وبنت ومن بقي فمسألة الميت الأول تصح من ثلاثة لكل ابن واحد ومسألة الثاني تصح من أربعة للبنت اثنان ولكل أخ واحد وهي مباينة لسهامه فنضربها في المسألة الأولى ثلاثة تبلغ اثنتي عشر وهي الجامعة لكل ابن من المسألة الأولى واحد مضروب في المسألة الثانية أربعة بأربعة ومن المسألة الثانية واحد مضروب في سهام مورثه واحد بواحد الجميع خمسة فنصيب الابنين من الجامعة عشرة وللبنت من المسألة الثانية اثنان مضروبان في سهام مورثها واحد باثنين.
ومسألة الميت الثالث من ثمانية للزوجة الثمن واحد وللبنت النصف أربعة والباقي ثلاثة للأخ وهذه المسألة مباينة لسهام الميت من الجامعة فنضربها في الجامعة اثني عشر تبلغ ستة وتسعين ومنه تصح. للابن الحي من الجامعة الأولى خمسة مضروبة في مسألة الميت الثالث ثمانية بأربعين وله من المسألة الثالثة ثلاثة مضروبة في سهام مورثه خمسة بخمسة عشر ومجموع ما له من الجامعة وهذه المسألة خمسة وخمسون ولبنت الميت الثاني من الجامعة الأولى اثنان مضروبان في مسألة الميت الثالث ثمانية بستة عشر ولزوجة الميت الثالث من مسألته واحد مضروب في سهامه من الجامعة خمسة بخمسة ولبنته أربعة مضروبة في سهامه من الجامعة خمسة بعشرين.
ومثال الصورة الثالثة: أن يهلك هالك عن ابنين ثم يموت أحدهما عن ثلاثة أبناء ثم يموت أحد الأبناء عن ابنين فمسألة الميت الأول من اثنين لكل ابن واحد ومسألة الميت الثاني من ثلاثة لكل ابن واحد وهي تباين سهام مورثهم من المسألة الأولى فاضربها في الأولى اثنين تبلغ ستة وهي الجامعة للابن من المسألة الأولى واحد مضروب في المسألة الثانية ثلاثة بثلاثة ولكل ابن في الثانية واحد مضروب في سهام مورثه واحد بواحد.(3/58)
ومسألة الميت الثالث من اثنين لكل ابن واحد وهي تباين سهام مورثهما فنضربها في الجامعة الأولى ستة تبلغ اثني عشر ومنه تصح لابن الميت الأول من الجامعة الأولى ثلاثة مضروبة في مسألة الميت الثالث اثنين بستة ولكل ابن من أبناء الميت الثاني من الجامعة واحد مضروب في مسألة الميت الثالث اثنين باثنين ولكل ابن من ابني الميت الثالث واحد من مسألته مضروب في سهامه من الجامعة واحد بواحد.
(عمل الشباك في المناسخات :
اعلم أن عمل المناسخات من أصعب علم الفرائض وأحوجها إلى معرفة تامة بعلم حسابها ومما يسهله طريقة الشباك التي وضعها الفرضيون لهذا الغرض ونحن نذكر هنا ما تحصل به الفائدة إن شاء الله فنقول:
سبق أن للمناسخات ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يكون ورثة الثاني بقية ورثة الأول من غير اختلاف فهذه الحال لا تحتاج إلى عمل شباك لأنها تقسم على من بقي.
وإنما نحتاج إلى عمل الشباك في الحالين الأُخريين وسنضع أمامك من كل حال مثالاً تقيس عليه، فخذ المثال الثاني من الحال الثانية وهو:
رجل مات عن زوجتيه وابنيه ثم مات أحد الابنين عن ثلاثة أبناء والثاني عن أربعة وهذه صورتها في الشباك .
...
جه ... 2 ... ... ... ... ... 24
ابن ... 7 ... ت ... ... ... ...
ابن ... 7 ... ... ... ت ... ...
... ... ابن ... 1 ... ... ... 28
... ... ابن ... 1 ... ... ... 28
... ... ابن ... 1 ... ... ... 28
... ... ... ... ابن ... 1 ... 21
... ... ... ... ابن ... 1 ... 21
... ... ... ... ابن ... 1 ... 21
... ... ... ... ابن ... 1 ... 21
... ... ... ... ... ...
تأمل هذا الشباك تجد أننا عملنا ما يلي:
1 - وضع جدول خاص لورثة الميت الأول كل واحد في مربع خاص.
2 - ثم وضع جدول لمسألته ووضع سهم كل وارث بإزائه.
3 - ثم وضع جدول لورثة الميت الثاني بحيث تنزل حقولهم عن حقول ورثة الميت الأول لأنهم غيرهم.
4 - ثم وضع جدول لمسألة الميت الثاني وسهم كل وارث بإزائه.(3/59)
5 - ثم وضع جدول لورثة الميت الثالث بحيث تنزل حقولهم عن ورثة من قبلهم لأنهم ليسوا منهم.
6 - وضع جدول لمسألته وسهم كل وارث بإزائه.
7 - وضع جدول خاص بالجامعة ووضع سهم كل وارث من كل مسألة بإزائه في الجامعة.
8 - أننا رمزنا للميت بحرف (ت) بإزائه إشارة إلى موته ولو كان الميت أنثى لوضعنا (تت).
وهكذا يكون العمل في الشباك بالرمز للاختصار فيرمز للزوج (ج) وللزوجة (جه) وللجد (د) وللجدة (ده) وللأخ الشقيق (ق) وللأخت الشقيقة (قه) وللأخ لأب (خب) وللأخت لأب (ختب) وللأخ لأم (خم) وللأخت لأم (ختم) وإذا كان في المسألة زوج أو زوجة وأولاد فإن كانوا منهما كتب بإزاء الولد (هـ) إن كان الميت الزوجة و (ها) بالألف إن كان الميت الزوج وإن لم يكن الأولاد منهما كتب بإزاء الولد (غ) .
9 - وضع قوس فوق كل مسألة وعلى كل قوس عدد وهو جزء سهم المسألة التي تحته وضع فوقها ليضرب به سهم كل وارث منها فجزء سهم المسألة الأولى هو أقل عدد ينقسم على ما صحت منها مسائل الأموات الآخرين وجزء سهم الأموات الآخرين هو الحاصل بقسمة نصيبهم من الأول مضروباً بجزء سهمها على مسائلهم.
وإليك مثالاً من الحال الثالثة للصورة الأولى وهي: أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأولى مع الاختلاف وهي:
رجل مات عن زوجة وابنتين منها وابن من غيرها ثم ماتت إحدى البنتين عمن بقي ثم ماتت الثانية عمن بقي - أيضاً - وهذه صورتها في الشباك.
جه ... 4 ... أم ... 1 ... 31 ... أم ... 1 ... 52
بنت ها ... 7 ... تت ... ... ... ... ...
بنت ها ... 7 ... قه ... 3 ... 63 ... تت ... ...
ابن غ ... 14 ... خب ... 2 ... 98 ... خب ... 2 ... 140
تأمل هذا الشباك تجد أننا عملنا لكل ميت مسألة منفردة وهذا ليس بغريب فقد مر عليك في المثال الأول، لكن الغريب عليك شيئان:(3/60)
أحدهما: أننا وضعنا اسم كل وارث في المسائل الأخيرة بإزاء اسمه في المسألة الأولى ووضعنا أسهمه من المسائل كلها بإزاء اسمه في الجامعة وذلك لأن الوارث في الأولى وارث فيما بعدها.
الثاني: أننا عملنا لكل ميت جامعة ولم نجعل الأموات كلهم في جامعة واحدة لما مر بك في القواعد.
وهكذا لو فرضنا أن ورثة الثاني خليط من ورثة الأول وغيرهم فإننا نعمل كهذا العمل إلا أننا نضع حقولاً أسفل للورثة الجدد الذين ليسوا من ورثة الأول كما في المثال الآتي:
رجل مات عن زوجة وبنتين منها وابن من غيرها ثم ماتت إحدى البنتين عن زوج ومن بقي، ثم ماتت البنت الثانية عن زوج وابن ومن بقي .
فمسألة الميت الأول تصح من اثنين وثلاثين، سهام الميت الثاني منها سبعة ومسألته من سبعة، فهي منقسمة عليها فصحت مما صحت منه الأولى، ومسألة الميت الثالث من اثني عشر وسهامه من الجامعة عشرة فهي توافقها بالنصف فنضرب نصف مسألته ستة بالجامعة اثنين وثلاثين تبلغ مائة واثنين وتسعين للزوجة في المسألة الأولى التي هي أم فيما بعد ذلك أربعون وللابن في المسألة الأولى أربعة وثمانون ولا شيء له من غير المسألة الأولى وللزوج في المسألة الثانية ثمانية عشر، وللزوج في المسألة الثالثة خمسة عشر وللابن خمسة وثلاثون.
وإليك صورتها في الشباك:
جه ... 4 ... أم ... 1 ... 5 ... أم ... 2 ... 40
بنت ها ... 7 ... تت ... ... ... ... ...
بنت ها ... 7 ... قه ... 3 ... 10 ... تت ... ...
ابن غ ... 14 ... ... ... 14 ... ... ... 84
... ... ج ... 3 ... 3 ... ... ... 18
... ... ... ... ... ج ... 3 ... 15
... ... ... ... ... ابن ... 7 ... 35
تأمل هذا الشباك تجد أننا لم نعمل فيه شيئاً جديداً عما سبق في الشباك الذي قبله سوى أننا نزلنا حقولاً بعدد الورثة الجدد في المسألتين الأخيرتين وهم زوج البنت الأولى وزوج وابن البنت الثانية.
مسألة : ما هو الرد ؟(3/61)
الرد إضافة ما يبقى بعد الفروض إلى أصحابها إذا لم يكن عاصب .
فيرد على كل ذي فرض بقدر فرضه إلا الزوجين فلا يرد عليهما .
واعلم أنه لا يخلو أهل الرد من حالين:
إحداهما: أن لا يكون معهم أحد من الزوجين.
الثانية: أن يكون معهم أحد الزوجين.
ففي الحال الأولى إن كان المردود عليه واحداً أخذ جميع المال فرضاً ورداً، وإن كان أكثر من واحد وهم من جنس واحد فأصل مسألتهم من عدد رؤوسهم.
وإن كان أكثر من واحد وهم جنسان فأكثر فأصل مسائلهم من ستة، وترجع بالرد إلى العدد الذي تنتهي به فروضها.
فلو هلك هالك عن بنت فلها المال كله فرضاً ورداً.
ولو هلك عن أربع بنات فمسألتهن من أربعة لكل واحدة واحد.
ولو هلك عن جدة وأخ لأم فالمسألة من ستة للجدة السدس واحد وللأخ السدس واحد وترجع بالرد إلى اثنين فإن كان بدل الجدة أم صار لها الثلث اثنان وللأخ السدس واحداً وترجع بالرد إلى ثلاثة، فإن كان بدل الأخ بنت فلها النصف ثلاثة وللأم السدس واحد وترجع بالرد إلى أربعة فإن كان معهم بنت ابن صار للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللأم السدس واحد وترجع بالرد إلى خمسة.
وأما في الحال الثانية: وهي أن يكون معهم أحد الزوجين فنعمل مسألة الزوجية من مخرج فرضها ونصححها إن احتاجت للتالثابت في صحيح، ثم إن كان صاحب الرد واحداً أخذ الباقي بعد فرض الزوجية فرضاً ورداً.
وإن كان صاحب الرد اثنين فأكثر من جنس قسمت الفاضل بعد فرض الزوجية عليهم كفريق فإن انقسم صحت مسألة الرد مما صحت منه مسألة الزوجية وإلا ضربت مسألة الرد في مسألة الزوجية أو في وفقها فما بلغ فمنه تصح.
وإن كان صاحب الرد اثنين فأكثر من أجناس فصحح مسألة الرد من أصل ستة ثم اقسم الفاضل بعد فرض الزوجية عليها فإن انقسم صحت المسألتان من أصل واحد وإلا ضربت مسألة الزوجية في مسألة الرد أو وفقها فما بلغ فمنه تصح.(3/62)
وإذا أردت القسم فقل من له شيء من مسألة الزوجية أخذه مضروباً في مسألة الرد عند التباين أو وفقها عند التوافق أو بواحد عند الانقسام ومن له شيء من مسألة الرد أخذه مضروباً في الفاضل بعد فرض الزوجية عند التباين أو وفقه عند التوافق أو بالخارج بقسمة الباقي بعد فرض الزوجية على مسألة الرد عند الانقسام.
[*](وإليك أمثلة لما سبق :
(المثال الأول: هلكت امرأة عن بنت وزوج، فمسألة الزوجية من أربعة للزوج الربع واحد والباقي للبنت فرضاً ورداً.
(المثال الثاني: هلك هالك عن زوج وثلاث بنات، مسألة الزوجية من أربعة للزوج الربع واحد ومسألة الرد من ثلاثة والباقي بعد فرض الزوج منقسم عليها فتصح المسألتان من أربعة فلو كانت البنات أربعاً باينت مسألة الرد للفاضل بعد فرض الزوج فنضربها في مسألة الزوجية تبلغ ستة عشر، للزوج من مسألة الزوجية واحد مضروب في مسألة الرد أربعة بأربعة ولكل بنت من مسألة الرد واحد مضروب في الفاضل بعد فرض الزوجية ثلاثة بثلاثة.
ولو كانت البنات ستاً لكانت مسألتهن من ستة وهي توافق الفاضل بعد فرض الزوجية بالثلث فنردها إلى ثلثها اثنين ونضربه في مسألة الزوجية أربعة تبلغ ثمانية ومنه تصح، للزوج من مسألة الزوجية واحد مضروب في وفق مسألة الرد اثنين باثنين ولكل واحدة من البنات واحد مضروب في وفق الفاضل بعد فرض الزوجية واحد بواحد.
(المثال الثالث: أن يهلك هالك عن زوجة وأم وأخ من أم، فمسألة الزوجية من أربعة للزوجة الربع واحد ومسألة الرد من ستة وترجع بالرد إلى ثلاثة، للأم اثنان وللأخ واحد والباقي بعد
فرض الزوجة منقسم على مسألة الرد فتصح المسألتان من أصل واحد(3/63)
فلو كان بدل الأم جدة رجعت مسألة الرد إلى اثنين بينها وبين الفاضل بعد فرض الزوجة تباين فنضربها في مسألة الزوجية أربعة تبلغ ثمانية ومنه تصح، للزوجة من مسألة الزوجية واحد مضروب في مسألة الرد اثنين باثنين وللجدة من مسألة الرد واحد مضروب في الفاضل بعد فرض الزوجة ثلاثة بثلاثة وللأخ من الأم كذلك.
ولو كان مع الأخ لأم أخوان آخران صارت مسألة الرد من ثلاثة للجدة واحد وللإخوة اثنان لا ينقسم عليهم ويباين فنضرب رؤوسهم ثلاثة في ثلاثة بتسعة والفاضل بعد فرض الزوجية ثلاثة يوافقها بالثلث فنرد مسألة الرد إلى وفقها ثلاثة ونضربه في مسألة الزوجية أربعة تصح من اثني عشر، للزوجة من مسألة الزوجية واحد مضروب في وفق مسألة الرد ثلاثة بثلاثة وللجدة من مسألة الرد ثلاثة مضروبة في وفق الفاضل بعد فرض الزوجة واحد بثلاثة وللإخوة ستة مضروبة في وفق الفاضل بعد فرض الزوجة واحد بستة لكل أخ اثنان.
وإن شئت أن تعمل مسائل الرد التي فيها أحد الزوجين على طريقة الشباك التي عرفتها في باب المناسخة فاعمل جدولاً لمسألة الزوجية ثم جدولاً لمسألة الرد واضعاً لكل مسألة جدولين أحدهما: لأسماء الورثة، والثاني: للسهام ثم تضع جدولاً خامساً للجامعة بينهما.
{ تنبيه } :( وقع في عبارة بعض الفرضيين أن الفاضل بعد فرض الزوجية لا يمكن أن يكون موافقاً لمسألة الرد إذا كان أهل الرد من أجناس بل إما منقسم أو مباين، ولكن هذا ما لم تحتج مسألة الرد لتالثابت في صحيح فإن احتاجت لتالثابت في صحيح فقد يكون بينهما موافقة كما في المثال الأخير الذي مثّلنا، والله أعلم.
مسألة : من هم ذوو الأرحام ؟
ذوو الأرحام : كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة
فذوو الأرحام من الأصول :
1 ـ كل ذكر حال بينه وبين الميت أنثى كأبى الأم وأبى الجدة .
2 ـ كل أنثى أدلت بذكر حال بينه وبين الميت أنثى كأم أب الأم .
ومن الفروع : كل من أدلى بأنثى كابن البنت وبنت البنت
ومن الحواشي :(3/64)
1 ـ كل ذكر أدلى بأنثى إلا الاخوة من الأم كالخال وابن الأخ من الأم وابن الأخت .
2ـ جميع الإناث سوى الأخوات كالعمة والخالة وبنت الأخ .
ويرثون بالتنزيل فينزل كل واحد منزلة من أدلى به من الورثة ويأخذ نصيبه
مثاله : أن يموت شخص عن ابن أخته الشقيقة وبنت أخته من أبيه وابن أخيه من أمه وخاله .
فلابن الأخت الشقيقة النصف لانه بمنزلة أمه ولبنت الأخت من الأب السدس تكملة الثلثين لأنها بمنزلة أمها ولابن الأخ من الأم السدس لانه بمنزلة أبيه وللخال السدس لانه بمنزلة الأم .
قسمة التركات
مسألة : ما المقصود بقسمة التركات ؟
المقصود بقسمة التركات إعطاء كل وارث من التركة ما يستحقه شرعاً.
مسألة : ما هي طرق قسمة التركات ؟
(قد ذكر الفرضيون رحمهم الله لقسمة التركة طرقاً كثيرة نذكر منها ما يلي:
الأول: طريق النسبة وهو أن تنسب سهم كل وارث من المسألة إليها وتعطيه من التركة بمثل تلك النسبة وهذا أعم الطرق نفعاً لأنه يعمل به فيما يقبل القسمة كالدراهم وما لا يقبلها كالعبد.
مثال ذلك: أن تهلك امرأة عن زوج وأم وأخت شقيقة والتركة ثمانون فالمسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة وللأم الثلث اثنان وللأخت النصف ثلاثة وتعول إلى ثمانية ونسبة سهم الزوج إلى المسألة ربع وثمن فأعطه من التركة ربعاً وثمناً ثلاثين ونسبة سهم الأم إلى المسألة ربع فأعطها ربع التركة عشرين ونسبة سهم الأخت إلى المسألة ربع وثمن فأعطها ربع التركة وثمنها ثلاثين .
الطريق الثاني: أن تضرب سهم كل وارث في التركة وتقسم الحاصل على ما صحت منه المسألة فما حصل فهو نصيبه ففي المثال السابق تضرب سهم الزوج ثلاثة في التركة ثمانين تبلغ مائتين وأربعين فاقسمها على ما صحت منه المسألة ثمانية يحصل ثلاثون فهي نصيبه من التركة وتفعل كذلك بسهم الأخت وتضرب سهم الأم اثنين في التركة ثمانين يبلغ مائة وستين فاقسمها على مصح المسألة ثمانية يحصل عشرون وهو سهم الأم من التركة.(3/65)
فإن حصل في نصيب أحد الورثة كسر فحول المسألة إلى أضلاعها وهي الأعداد التي إذا ضربت بعضها ببعض خرجت المسألة ويحسن أن تبدأ بالأكبر فالأكبر، فإذا ضربت سهم أحد من الورثة في التركة فاقسمه على الضلع الأصغر، فإن بقي كسر فضعه تحته واقسم الحاصل الثابت فيصحيح على الضلع الثاني، وهكذا حتى تصل إلى التركة فضع ما تبقى معك تحتها وهو نصيب الوارث منها.
واعلم أن كل ضلع بالنسبة لما قبله كواحد منه.
فلو كانت التركة في المثال السابق ستين لحصل كسر في نصيبي الزوج والأخت فنحل المسألة إلى أضلاعها اثنان وأربعة ثم تضرب سهم الزوج في التركة ستين يبلغ مائة وثمانين فاقسمها على الضلع الأصغر اثنين يكن الحاصل تسعين فضع تحته صفراً أو اتركه هملاً واقسم التسعين على الضلع الأكبر أربعة يحصل اثنان وعشرون ويبقى اثنان ضعهما تحت الضلع، وضع العدد الثابت فيصحيح وهو اثنان وعشرون تحت التركة وبهذا تعرف أن للزوج اثنين وعشرين واثنين من أربعة من الواحد وهما نصف الواحد وتعمل في نصيب الأخت عملك في نصيب الزوج.
واضرب سهم الأم اثنين في التركة ستين يكن مائة وعشرين فاقسمها على الضلع الأصغر اثنين يحصل ستون، اقسمها على الضلع الأكبر أربعة يحصل خمسة عشر فهي نصيب الأم من التركة.
وإليك صورتها في الشباك:
(تأمل هذا الشباك تجد أننا وضعنا:
أولاً: جدول أسماء الورثة.
ثانياً: جدول المسألة.
ثالثاً: جدول التركة.
رابعاً: جدول ضلع المسألة الأكبر.
خامساً: جدول ضلع المسألة الأصغر.
وإذا أردت أن تعرف صحة العمل فاجمع ما تحت الضلع الأصغر واقسمه عليه فإن انقسم بلا كسر فاضمم الحاصل بالقسمة إلى ما تحت الضلع الذي يليه ثم اقسم حاصل جمعها على الضلع المذكور فإن انقسم بلا كسر فاضممه إلى ما تحت التركة فإن ساوى التركة فالعمل الثابت في صحيح وإلا فلا.
ومتى تعددت الأضلاع فاعمل بما تحتها من الجمع والقسمة كما سبق.(3/66)
وإذا أردت أن تختبر المسألة المذكورة بما قلنا فانظر إلى الضلع الأصغر تجد لا شيء تحته فدعه وانظر إلى الضلع الثاني تجد تحته اثنين واثنين فاقسم حاصل جمعهما أربعة عليه يخرج واحد فاضممه إلى ما تحت التركة واجمعه يبلغ ستين وهو قدر التركة فالعمل إذاً صحيح.
وبقية طرق قسمة التركات معروفة في كلام الفرضيين رحمهم الله.
(قسمة التركات إذا كان هناك وصية ويسمى عمل (الوصايا):
تنقسم الوصية بالنسبة إلى الموصى به ثلاثة أقسام: وصية بنصيب ووصية بجزء ووصية بهما.
فالوصية بالنصيب أن يوصى بنصيب أو بمثل نصيب أحد الورثة وهي نوعان:
(أحدهما: أن يوصى بنصيب وارث معين فللموصى له مثل نصيب ذلك الوارث مضموماً إلى المسألة.
فلو أوصى بمثل نصيب زوجته وله زوجة وابن فمسألة الورثة من ثمانية للزوجة الثمن واحد والباقي للابن فنعطي الموصى له مثل نصيب الزوجة واحداً مضموماً إلى المسألة فتصح المسألة من تسعة، للزوجة واحد وللموصى له واحد والباقي للابن.
ولو أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فللموصى له الثلث ولكل ابن واحد، ولو كان معهما بنت فللموصى له سبعان ولكل ابن سبعان وللبنت سبع .
ولو كانت الوصية بمثل نصيب البنت كان للموصى له سدس وللبنت سدس ولكل ابن سدسان.
(النوع الثاني : أن يوصي بنصيب أو بمثل نصيب وارث غير معين، فللموصى له مثل ما لأقلهم.
فلو أوصى له بمثل نصيب أحد الورثة والورثة أم وثلاث زوجات وابن فمسألة الورثة من أربعة وعشرين للأم السدس أربعة وللزوجات الثمن ثلاثة لكل واحدة واحد والباقي للابن، فأقل الورثة نصيباً إحدى الزوجات، فإن نصيبها واحد من أربعة وعشرين فيكون للموصى له واحد من خمسة وعشرين.
والوصية بالجزء أن يوصي له بجزء من ماله وهو نوعان أيضاً:
((3/67)
أحدهما : أن يوصي له بجزء غير معين كشيء وحظ ونصيب ونحوها فللموصى له ما شاء الورثة مما يتمول إلا إذا أوصى له بسهم فقيل: له ما شاء الورثة وقيل: له سدس بمنزلة سدس مفروض وهو المذهب وقيل: له سهم مما صحت منه المسألة إلا أن يزيد على السدس فيعطى السدس فقط ويظهر أثر هذا الخلاف بالمثال:
فإذا أوصى له بسهم من ماله وله زوجة وأم وابن فعلى القول الأول يعطيه الورثة ما شاؤوا، وعلى المذهب له أربعة من ثمانية وعشرين، لأن مسألة الورثة من أربعة وعشرين وسدسها أربعة فزده عليها تكن ثمانية وعشرين للموصى له أربعة وللأم أربعة وللزوجة ثلاثة والباقي للابن وعلى القول الثالث للموصى له سهم من خمسة وعشرين، لأن مسألة الورثة من أربعة وعشرين فسهمها واحد زده عليها تكن خمسة وعشرين للموصى له واحد وللأم أربعة وللزوجة ثلاثة والباقي للابن.
(النوع الثاني: أن يوصي بجزء معين كثلث وربع ونحوهما فلك في عملها طريقان :
أحدهما: طريق ما فوق الكسر بأن تزيد على مسألة الورثة مثل الكسر الذي فوق الجزء الموصى به، فإذا أوصى بالخمس فزد على مسألة الورثة مثل ربعها أو بالربع فزد عليها مثل ثلثها وهكذا.
وضابط ذلك أن تزيد على مسألة الورثة عدداً يبلغ نسبة الجزء الموصى به بالنسبة إلى مجموع المسألتين.
مثال ذلك: أن يوصي بالخمس ومسألة الورثة من اثني عشر فزد عليها ثلاثة وذلك مثل ربعها وهو خمس الخمسة عشر فيكون للموصى له ثلاثة من خمسة عشر ومسألة الورثة بحالها كل له سهمه منها.
ولو أوصى له بالسبع ومسألة الورثة من ستة فزد عليها واحداً وهو نصيب الموصى له وإن كانت من اثني عشر فزد عليها اثنين وإن كانت من أربعة وعشرين فزد عليها أربعة فإن حصل كسر فابسطها من جنسه ليزول فلو أوصى له بالخمس ومسألة الورثة من ستة لبلغت سبعة ونصفاً فابسطها من مخرج الكسر اثنين تكن خمسة عشر، للموصى له ثلاثة واثنا عشر للورثة.(3/68)
الطريق الثاني: أن تصحح مسألة الوصية من مخرجها ثم تصحح مسألة الورثة وتقسم الباقي بعد الوصية على مسألة الورثة فإن انقسم صحت مسألة الورثة مما صحت منه مسألة الوصية وإن حصل بينهما موافقة فاضرب وفق مسألة الورثة في مسألة الوصية فما بلغ فمنه تصح وإن حصل بينهما مباينة ضربت مسألة الورثة في مسألة الوصية فما بلغ فمنه تصح .
وعند القسم من له شيء من مسألة الوصية أخذه مضروباً في مسألة الورثة عند التباين أو وفقها عند التوافق أو أخذه بحاله عند الانقسام ومن له شيء من مسألة الورثة أخذه مضروباً في الباقي بعد الوصية عند التباين أو وفقه عند التوافق أو في الخارج بقسمته عليها عند الانقسام.
[*](وإليك الأمثلة لما سبق :
(المثال الأول للانقسام: أن توصي امرأة بثلث مالها ثم تموت عن زوج وشقيقة فمسألة الوصية من ثلاثة للموصى له واحد والباقي اثنان ومسألة الورثة من اثنين للزوج النصف وللأخت النصف والباقي بعد الوصية منقسم عليها فتصح المسألتان من ثلاثة للموصى له واحد وللزوج واحد وللأخت واحد.
(المثال الثاني للموافقة: أن يوصي بالخمس ثم يموت عن بنت وزوجة وعم فمسألة الوصية من خمسة، للموصى له واحد والباقي أربعة ومسألة الورثة من ثمانية، للبنت النصف أربعة وللزوجة الثمن واحد والباقي للعم وإذا نظرت بين الفاضل بعد الوصية وبين مسألة الورثة وجدتهما متوافقين بالربع فنرد مسألة الورثة إلى ربعها اثنين ونضربه في مسألة الوصية خمسة يبلغ عشرة ومنه تصح، للموصى له واحد مضروب في وفق مسألة الورثة اثنين باثنين وللبنت أربعة مضروبة في وفق الباقي بعد الوصية واحد بأربعة وللزوجة واحد مضروب في وفق الباقي بعد الوصية واحد بواحد وللعم ثلاثة مضروبة في وفق الباقي بعد الوصية واحد بثلاثة.
((3/69)
المثال الثالث للمباينة: أن يوصي بالربع ثم يموت عن بنت وعم فمسألة الوصية من أربعة، للموصى له واحد ويبقى ثلاثة ومسألة الورثة من اثنين للبنت النصف واحد والباقي للعم وهي تباين الباقي بعد الوصية فاضربها في مسألة الوصية أربعة تبلغ ثمانية ومنه تصح، للموصى له واحد مضروب في مسألة الورثة اثنين باثنين وللبنت واحد مضروب في الفاضل بعد الوصية ثلاثة بثلاثة وللعم كذلك.
وثم طريق ثالث، قد يكون أسهل، وذلك بأن تضرب ابتداء ما صحت منه مسألة الورثة بمخرج الجزء الموصى به فما بلغ فمنه تصح فأعط الموصى له نصيبه ثم اقسم الباقي على الورثة بقدر سهامهم.
ومتى حصل بين السهام وبين الوصية موافقة بجزء من الأجزاء فاردد المسألة إليه فإذا أوصى له بالسبع ومسألة الورثة من ستة فاضربها بمخرج السبع سبعة تبلغ اثنين وأربعين للموصى له ستة والباقي للورثة ستة وثلاثون وهي توافق نصيب الموصى له بالسدس فاردد المسألة إلى سدسها سبعة واردد نصيب كل من الموصى له والورثة إلى سدسه يكن للموصى له واحد والباقي للورثة.
القسم الثالث: الجمع بين الوصية بالنصيب والجزء ولقلة وقوعه نحيل به القارئ على كتب الفقه، والله أعلم.
مسألة : إذا مات عن ورثة فيهم حمل فهل تؤجل القسمة حتى يوضع الحمل ؟
إذا مات عن ورثة فيهم حمل فإن شاؤوا تأجيل القسمة حتى يوضع الحمل فلا بأس لأن الحق لهم وإن طلبوا أو بعضهم القسمة قبل الوضع فلهم ذلك، وحينئذ يجب العمل بالأحوط في إرث الحمل وفي إرث من معه .
مسألة : مه هي أحوال إرث الحمل ؟
إرث الحمل فلا يخلو من حالين:
(الحالة الأولى): أن يختلف بالذكورة والأنوثة كالأولاد فيوقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين.(3/70)
وضابط ذلك أنه متى استغرقت الفروض أقل من الثلث فإرث الذكرين أكثر وإن استغرقت أكثر من الثلث فإرث الأنثيين أكثر، وإن كانت الفروض بقدر الثلث استوى له ميراث الذكرين والأنثيين، وهذا الضابط فيما إذا كان الحمل يرث مع الأنوثة بالفرض، أما إذا كان يرث بالتعصيب فإن إرث الذكرين أكثر بكل حال أو يستويان.
فلو مات عن أم حامل من أبيه وعم، فللأم السدس ويوقف للحمل إرث ذكرين لأن الفروض لم تستغرق الثلث
ولو كان معهم زوجة فلها الربع وللأم السدس ويوقف للحمل إرث أنثيين لأن الفروض زادت على الثلث.
ولو مات عن أخوين لأم وزوجة أب حامل منه، فللأخوين الثلث والباقي للحمل وهنا يستوي ميراثه بالذكورة والأنوثة لأن الفروض بقدر الثلث.
ولو مات عن زوجة وأخ شقيق وأم حامل من أبيه فللزوجة الربع وللأم السدس ويوقف للحمل إرث ذكرين ولو أن الفروض أكثر من الثلث لأن الحمل يرث بالتعصيب بكل حال فلا يمكن أن يكون إرث الأنثيين أكثر.
{ تنبيه } :( لا يوقف للحمل أكثر من إرث اثنين لأن ما زاد عليهما نادر، والنادر لا حكم له، ولا ينقص عن اثنين لأن وضع الاثنين كثير فوجب العمل بالاحتياط .
ثم إذا وضع على وجه يثبت به إرثه فإن كان ما وقف له بقدر إرثه أخذه وإن كان أقل أخذ تتمته ممن هي بيده وإن كان أكثر رد الزائد على من يستحقه من الورثة.
(الحال الثانية): أن لا يختلف إرثه بالذكورة والأنوثة كأولاد الأم فَوَقِّف له إرث اثنين وقَدِّرْهُما ما شئت من ذكور أو إناث.
مسألة : ما هي أحوال إرث من مع الحمل ؟
[*]( أحوال إرث من مع الحمل لا يخلو من ثلاثة أحوال:
إحداها: أن لا يحجبه الحمل شيئاً فيعطى إرثه كاملاً.
الثانية: أن يحجبه عن بعض إرثه فيعطى اليقين وهو ما يرثه بكل حال.
الثالثة: أن يحجبه عن جميع إرثه فلا يعطى شيئاً.(3/71)
فلو هلك هالك عن زوجة حامل وجدة وعم فالجدة لا ينقصها الحمل شيئاً فتعطى إرثها السدس كاملاً والزوجة يحجبها الحمل عن بعض إرثها فتعطى اليقين وهو الثمن والعم يحجبه الحمل عن جميع إرثه فلا يعطى شيئاً.
مسألة : ما هي شروط إرث الحمل ؟
يشترط لإرث الحمل شرطان:
أحدهما: أن يتحقق وجوده حين موت مورثه وذلك بأحد أمرين:
الأول: أن تضع من فيه حياة مستقرة لدون ستة أشهر من موت مورثه مطلقاً.
الثاني: أن تضع من فيه حياة مستقرة لأربع سنين فأقل من موت مورثه بشرط أن لا توطأ بعد وفاته، فإن ولدته لأكثر من أربع سنين لم يرث مطلقاً على قول بعض أهل العلم بناء على أن أكثر مدة الحمل أربع سنين.
والصواب أنه يرث إذا لم توطأ بعد موت مورثه لأن مدة الحمل قد تزيد على أربع سنين كما وقع، قال ابن القيم رحمه الله في "تحفة المودود" بعد ذكر الخلاف في تحديد أكثر مدة الحمل: "وقالت فرقة لا يجوز في هذا الباب التحديد والتوقيت بالرأي لأنا وجدنا لأدنى الحمل أصلاً في تأويل الكتاب وهو الأشهر الستة فنحن نقول بهذا ونتبعه ولم نجد لآخره وقتاً وهذا قول أبي عبيد وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها الرجل فالولد غير لاحق به فإن جاءت به لستة أشهر من يوم نكحها فالولد له". انتهى.
الشرط الثاني: أن يوضع حياً حياة مستقرة ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :"إذا استهل المولود ورث .
{ تنبيه } :( وتُعْلَمُ حياته باستهلاله وعطاسه ورضاعه ونحوها، فأما الحركة اليسيرة والاضطراب والتنفس اليسير الذي لا يدل على الحياة المستقرة فلا عبرة به.
ومتى شك في وجود الحياة المستقرة لم يرث لأن الأصل عدمها.
(فائدة) : يجب الاستبراء بعد موت المورث لكل موطوءة يرث حملها أو يحجب غيره، فلو مات عن أم متزوجة بزوج بعد موت أبيه وعن أخوين شقيقين وجب على الزوج الاستبراء لأن حمل أمه يرث منه.(3/72)
ولو مات عن أم متزوجة بزوج بعد أبيه وأخ شقيق وجد وجب على الزوج الاستبراء لأن الحمل يحجب أمه .
مسألة : ما هي طريقة عمل مسائل الحمل ؟
طريقة عمل مسائل الحمل أن تعمل مسألة لكل حال من أحوال الحمل وتحصل أقل عدد ينقسم على المسائل فما حصل فهو الجامعة فاقسمه على كل مسألة ليخرج جزء سهمها ثم اضرب به نصيب كل وارث منها.
فلو مات عن زوجة حامل وعم فالمسألة على تقدير موت الحمل من أربعة، للزوجة الربع واحد والباقي للعم، وعلى تقدير حياته وذكوريته من ثمانية، للزوجة الثمن واحد والباقي للحمل، وعلى تقدير حياته وأنوثيته من أربعة وعشرين للزوجة الثمن ثلاثة وللحمل الثلثان
ستة عشر لأننا قدرناه ابنتين والباقي للعم، وإذا نظرت بين المسائل الثلاث وجدتها متداخلة
فاكتف بالكبرى وهي الأربعة والعشرون واقسمها على مسألة موته أربعة يكن جزء سهمها ستة وعلى مسألة ذكوريته ثمانية يكن جزء سهمها ثلاثة وعلى مسألة أنوثيته أربعة وعشرين يكن جزء سهمها واحداً ثم أعط الزوجة نصيبها من إحدى المسألتين، مسألة الذكورة أو مسألة الأنوثة مضروباً بجزء سهمها يحصل لها ثلاثة ولا تعط العم شيئاً.
مسألة : من هو المفقود ؟
المفقود من انقطع خبره فلم يعلم له حياة ولا موت وله حالان:
(إحداهما: أن ينقطع خبره على وجه ظاهره السلامة كمن فقد في سفر تجارة آمن ونحوه .
(الحال الثانية: أن ينقطع خبره على وجه ظاهره الهلاك كمن فقد في غرق مركب ونحوه فهذا ينتظر به تمام أربع سنين منذ فقد.
مسألة : ما هو تقدير مدة الانتظار في الحالين السابقين ؟
الصحيح أن الرجوع في تقديرها إلى اجتهاد الحاكم ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن والحكومات، فيقدر مدة للبحث عنه بحيث يغلب على الظن تبين حياته لو كان موجوداً ثم يحكم بموته بعد انتهائها، والله أعلم.
مسألة : كيف نتعامل مع إرث المفقود ؟(3/73)
متى مات مورثه قبل الحكم بموته ورثه المفقود فيوقف له نصيبه كاملاً ويعامل بقية الورثة باليقين، فمن كان محجوباً لم يعط شيئاً ومن كان ينقصه أعطي الأقل، ومن كان لا ينقصه أعطي إرثه كاملاً.
فلو هلك عن زوجة وجدة وعم وابن مفقود أعطينا الزوجة الثمن لأنه اليقين والجدة السدس لأن المفقود لا ينقصها ولم نعط العم شيئاً لأن المفقود يحجبه فنقف الباقي ثم لا يخلو من أربعة أحوال:
إحداها: أن نعلم أنه مات قبل مورثه فنرد الموقوف إلى من يستحقه من ورثة الأول.
الثاني: أن نعلم أنه مات بعده فيكون الموقوف تركة للمفقود ويصرف لورثته.
الثالثة: أن نعلم أنه مات ولا ندري أقبل مورثه أم بعده فجزم في "الإقناع" بأن الموقوف يكون لمن يستحقه من ورثة الأول كالحال الأولى، وجزم في "المنتهى" بأن الموقوف تركة للمفقود يصرف لورثته وهذا هو المذهب، وهو الصواب لأن الأصل بقاء حياته ولا يحكم بموته إلا بعد انقضاء مدة التربص.
الرابعة: أن لا نعلم له حياة ولا موتاً حتى تنقضي المدة وحكمها كالثالثة خلافاً ومذهباً.
مسألة : كيف نتعامل مع إرث المفقود ؟
بالنسبة لإرث المفقود : فإنه متى مات مورثه قبل الحكم بموته ورثه المفقود فيوقف له نصيبه كاملاً ويعامل بقية الورثة باليقين، فمن كان محجوباً لم يعط شيئاً ومن كان ينقصه أعطي الأقل، ومن كان لا ينقصه أعطي إرثه كاملاً.
فلو هلك عن زوجة وجدة وعم وابن مفقود أعطينا الزوجة الثمن لأنه اليقين والجدة السدس لأن المفقود لا ينقصها ولم نعط العم شيئاً لأن المفقود يحجبه فنقف الباقي ثم لا يخلو من أربعة أحوال:
إحداها: أن نعلم أنه مات قبل مورثه فنرد الموقوف إلى من يستحقه من ورثة الأول.
الثاني: أن نعلم أنه مات بعده فيكون الموقوف تركة للمفقود ويصرف لورثته.(3/74)
الثالثة: أن نعلم أنه مات ولا ندري أقبل مورثه أم بعده فجزم في "الإقناع" بأن الموقوف يكون لمن يستحقه من ورثة الأول كالحال الأولى، وجزم في "المنتهى" بأن الموقوف تركة للمفقود يصرف لورثته وهذا هو المذهب، وهو الصواب لأن الأصل بقاء حياته ولا يحكم بموته إلا بعد انقضاء مدة التربص.
الرابعة: أن لا نعلم له حياة ولا موتاً حتى تنقضي المدة وحكمها كالثالثة خلافاً ومذهباً.
مسألة : كيف نتعامل مع الإرث من المفقود ؟
بالنسبة للإرث منه: فلا يورث ما دامت مدة التربص باقية لأن الأصل بقاء حياته، فإذا انقضت مدة التربص حكمنا بموته وقسمنا تركته على من كان وارثاً منه حين انقضائها ثم إن استمر جهل حاله فالحكم باق، وإن تبين أنه مات قبل ذلك أو بعده فماله لورثته حين موته وإن تبين أنه حي فماله له.
ومتى تبين أن ورثته حين انقضاء المدة لا يستحقون إرثه رجع عليهم من يستحقه بعينه إن كان باقياً أو بدله إن كان تالفاً من مثل مثلي أو قيمة متقوم لأنه قد تبين أنهم لا يستحقونه.
مسألة : ما هي كيفية عمل مسائل المفقود ؟
إذا مات مورث المفقود في مدة التربص فاعمل له مسألة حياة ومسألة موت وحصل أقل عدد ينقسم عليهما فهو الجامعة فاقسمه على كل مسألة ليخرج جزء سهمها وتضرب به نصيب كل وارث منها.(3/75)
فلو هلكت امرأة عن زوج وأختين شقيقتين إحداهما مفقودة فمسألة الحياة تعول إلى سبعة، للزوج النصف ثلاثة وللأختين الثلثان أربعة، ومسألة الموت من اثنين، للزوج النصف واحد وللأخت النصف واحد وبين المسألتين تباين فاضرب إحداهما في الأخرى تبلغ أربعة عشر وهو الجامعة فاقسمها على مسألة الحياة سبعة يكن جزء سهمها اثنين، واقسمها على مسألة الموت اثنين يكن جزء سهمها سبعة والأضر في حق الزوج والأخت حياة المفقودة فأعطهما نصيبهما من مسألة الحياة، فللزوج ثلاثة في اثنين بستة وللأخت اثنان في اثنين بأربعة ويوقف للمفقودة أربعة فإن تبين أنها تستحقها فهي لها وإلا فللزوج منها واحد وللأخت ثلاثة.
(فائدة): قال الفرضيون رحمهم الله: قد لا يكون للمفقود حق في الموقوف مثل أن يكون ممن يحجب غيره ولا يرث وقد يكون له حق في بعضه مثل أن يكون الموقوف أكثر من نصيب المفقود وفي كلا الحالين يجوز للورثة أن يصطلحوا على ما لا حق للمفقود فيه ويقتسموه.
مثال الأول: أن تهلك امرأة عن زوج وأخت شقيقة وأخت لأب وأخ لأب مفقود، فمسألة حياته من اثنين، للزوج النصف واحد وللأخت الشقيقة النصف واحد ولا شيء للأخت لأب لأنها عصبة بأخيها وقد استغرقت الفروض التركة، ومسألة موته من ستة للزوج النصف ثلاثة وللشقيقة النصف ثلاثة وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين واحد وتعول لسبعة.(3/76)
وإذا نظرت بين المسألتين وجدتهما متباينتين فاضرب إحداهما في الأخرى تبلغ أربعة عشر وهي الجامعة فاقسمها على مسألة الحياة اثنين يكن جزء سهمها سبعة وإذا قسمتها على مسألة الموت سبعة صار جزء سهمها اثنين والأضر في حق الزوج والأخت الشقيقة مسألة الموت فيعطيان نصيبهما منها مضروباً في جزء سهمها فيكون لكل واحد ستة ويبقى من الجامعة اثنان ولا حق للمفقود فيهما بل هما إما للأخت لأب إن تبين موته قبل موت المورث وإلا ردا على الزوج والشقيقة فالحق لهؤلاء الثلاثة، الزوج والشقيقة والأخت لأب فلهم أن يصطلحوا عليهما.
ومثال الثاني: أن تهلك امرأة عن زوج وأختين شقيقتين وأخ شقيق مفقود فمسألة حياته تصح من ثمانية، للزوج أربعة والباقي للأخ وأختيه للذكر مثل حظ الأنثيين فله اثنان ولكل أخت واحد، ومسألة موته من ستة، للزوج النصف ثلاثة وللأختين الثلثان أربعة وتعول لسبعة وبين المسألتين تباين فاضرب إحداهما سبعة في الأخرى ثمانية تكن الجامعة ستة وخمسين فاقسمها عليهما يكن جزء سهم مسألة الحياة سبعة وجزء سهم مسألة الموت ثمانية والأضر في حق الزوج موت الأخ فأعطه من مسألة الموت سهمه ثلاثة مضروباً في جزء سهمها ثمانية بأربعة وعشرين والأضر في حق الأختين حياة أخيهما فأعطهما من مسألة الحياة سهمها اثنين مضروباً في جزء سهمها سبعة بأربعة عشر لكل واحدة سبعة ووقف للمفقود نصيبه من مسألة الحياة اثنين مضروباً في جزء سهمها سبعة بأربعة عشر والباقي من الجامعة أربعة لا حق للمفقود فيها وإنما هي للأختين إن تبين موت أخيهما قبل موت المورث أو للزوج إن لم يتبين ذلك، فللزوج والأختين أن يصطلحوا عليها ويقتسموها لأن الحق لهم.
مسألة : من هو الخنثى المشكل ؟
الخنثى المشكل: هو من لا يعرف أذكر هو أم أنثى، وذلك بأن يكون فيه علامتا الذكور والإناث من غير تمييز أو لا يكون فيه علامة أحدهما.
مسألة : ما هي أحكام الخنثى المشكل نوعان ؟(3/77)
أحكام الخنثى المشكل نوعان :
نوع لا يختلف فيه الذكور والإناث فلا حاجة لتخصيص الخنثى فيه بحكم كالزكاة والفطرة ونحوهما .
ونوع يختلف فيه الذكور والإناث كالميراث فيحتاج فيه إلى أحكام تخص الخنثى وهل يلحق بالذكور أو بالإناث، والغالب أن يسلك به طريق الاحتياط في باب التحريم وبراءة الذمة في باب الإيجاب.
هذا وقد أشبع الكلام عليه في باب الميراث الفقهاء والفرضيون ولقلة وقوعه - ولله الحمد - تركنا الكلام عليه.
يقصد الفرضيون رحمهم الله بهذا الباب كل جماعة متوارثين ماتوا بحادث عام كهدم وغرق ونحوهما.
[*](فمتى وقع ذلك فلا يخلو من خمسة أحوال:
الأولى: أن نعلم المتأخر منهم بعينه فيرث من المتقدم ولا عكس.
الثانية: أن نعلم أن موتهم وقع دفعة واحدة فلا توارث بينهم لأن من شروط الإرث حياة الوارث بعد موت مورثه حقيقة أو حكماً ولم يوجد.
الثالثة: أن نجهل كيف وقع الموت؛ هل كان مرتباً أو دفعة واحدة؟
الرابعة: أن نعلم أن موتهم مرتب ولكن لا نعلم عين المتأخر.
الخامسة: أن نعلم المتأخر ثم ننساه.
وفي هذه الأحوال الثلاث لا توارث بينهم عند الأئمة الثلاثة وهو اختيار الموفق والمجد والشيخ تقي الدين وشيخنا عبد الرحمن السعدي، وشيخنا عبد العزيز بن باز، وهو الثابت فيصحيح لأن من شروط الإرث حياة الوارث بعد موت المورث حقيقة أو حكماً ولا يحصل ذلك مع الجهل إلا أن الشافعية قالوا في الحال الأخيرة يوقف الأمر حتى يذكروا أو يصطلحوا لأن التذكر غير ميؤوس منه.
والمشهور من مذهب أحمد في الأحوال الثلاث الأخيرة أنه إن حصل بين ورثتهم اختلاف في السابق ولا بينة تحالفوا ثم لا توارث بينهم لعدم المرجح وإن لم يحصل اختلاف ورث كل منهم من الآخر من تلاد ماله دون ما ورثه منه دفعاً للدور.
مسألة : ما هي كيفية نعمل مسائل الغرقى ؟(3/78)
عمل مسائل الغرقى إذا لم يحكم بالتوارث بينهم لا يختلف عن عمل مسائل غيرها وأما إذا حكم بالتوارث فإنه يعمل مسألة لأحدهم لإرث تلاد ماله فنقسمها على ورثته الأحياء ومن مات معه ثم نعمل مسألة ثانية للأحياء من ورثة من مات معه ونقسم عليها نصيبه من مسألة الميت الأول ونحصل جامعة لهما كما سبق في المناسخات وبذلك تمت أول مسألة من الأموات ثم نرجع لنعمل مسألة الميت الثاني وهو الذي قدرنا أولاً أنه حي فنعمل له مسألة ونقسمها على ورثته الأحياء ومن مات معه ثم نعمل مسألة ثانية للأحياء من ورثة من مات معه ونقسم عليها سهامه ونصححها كما سبق، وإليك مثالاً يوضح ذلك:
أخوان صغير وكبير ماتا بهدم فمات الصغير عن زوجة وبنت وأخيه الذي معه وعم وتركته ثمانية دنانير ومات الكبير عن بنتين وأخيه الذي معه والعم وتركته أربعة وعشرون درهماً.
فمسألة الصغير من ثمانية، للزوجة الثمن واحد وللبنت النصف أربعة والباقي ثلاثة للأخ ولا شيء للعم، ومسألة إحياء الكبير من ثلاثة للبنتين الثلثان اثنان والباقي واحد للعم وإذا قسمت نصيب الكبير من أخيه على مسألته وجدته منقسماً عليها فتصح مسألتهما من ثمانية وبهذا انتهت مسألة الصغير وصار لزوجته دينار ولبنته أربعة ولكل واحدة من ابنتي أخيه دينار ولعمه دينار وقد وضعنا في الشباك بينها وبين مسألة الكبير فاصلاً ثلاثة خطوط.
ومسألة الكبير من ثلاثة، للبنتين الثلثان فلهما من التركة ستة عشر درهماً والباقي ثمانية دراهم لأخيه ولا شيء للعم ومسألة إحياء الصغير من ثمانية، للزوجة الثمن واحد وللبنت النصف أربعة والباقي للعم، وإذا قسمت نصيب الصغير من أخيه على مسألته وجدته منقسماً فتصح مسألتهما من أربعة وعشرين وبهذا انتهت مسألة الكبير فصار لكل واحدة من ابنتيه ثمانية دراهم ولبنت أخيه أربعة دراهم ولزوجته درهم وللعم ثلاثة.(3/79)
وإذا جمعت ما لكل واحد من الأحياء تبين أن لزوجة الصغير دينار ودرهم ولبنته أربعة دنانير وأربعة دراهم ولكل واحدة من ابنتي الأخ الكبير دينار وثمانية دراهم وللعم دينار وثلاثة دراهم فهذه ثمانية دنانير وأربعة وعشرون درهماً وإليك صورتها في الشباك:
جه ... 1 ... ... ... 1 ... ... ... ... ... جه ... 1 ... 1
بنت ... 4 ... ... ... 4 ... ... ... ... ... بنت ... 4 ... 4
ق ... 3 ... ت ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عم ... ... عم ... 1 ... 1 ... ... ... ... ... عم ... 3 ... 3
... ... بنت ... 1 ... 1 ... ... ... بنت ... 8 ... ... ... 8
... ... بنت ... 1 ... 1 ... ... ... بنت ... 8 ... ... ... 8
... ... ... ... ... ... ... ق ... 8 ... ت ... ... دراهم
تأمل هذا الشباك تجد أننا وضعنا:
أولاً: ورثة الصغير.
ثانياً: سهامهم من التركة.
ثالثاً: الأحياء من ورثة الكبير.
رابعاً: سهامهم من التركة.
خامساً: جامعة المسألتين.
سادساً: أسماء ورثة الكبير.
سابعاً: سهامهم من التركة.
ثامناً: أسماء الأحياء من ورثة الصغير.
تاسعاً: سهامهم من التركة.
عاشراً: جامعة المسألتين.
وهذه العملية حينما تحكم بالتوارث، أما إذا لم تحكم بالتوارث فإننا نقسم تركة كل واحد منهما على الأحياء من ورثته فنقسم تركة الصغير على زوجته وبنته وعمه، لزوجته دينار واحد ولبنته أربعة دنانير ولعمه ثلاثة دنانير، ونقسم تركة الكبير على بنتيه وعمه، للبنتين ستة عشر درهماً وللعم ثمانية دراهم، وعلى هذا فيكون الحظ للعم إذ جاءه على هذا الوجه ثلاثة دنانير وثمانية دراهم وعلى الوجه الأول لم يأته إلا دينار واحد وثلاثة دراهم، والله أعلم.
مسألة : ما هو العِتْق ؟
العتق في اللغة: القِدَم، ومن قوله تعالى: {{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}} [الحج: 33] .
واصطلاحاً: تخليص الرقبة من الرق .
يعني إنسان عنده عبد مملوك فأعتقه، أي: حرره من الرق.
[(3/80)
*](ويحصل العتق بأمور منها :
(أولاً : الصيغة القولية، وهي نوعان: صريح، وكناية، فالصريح ما لا يحتمل غير المراد، مثل أعتقتك، حررتك، أنت عتيق، أنت حر، وما أشبه ذلك.
الكناية كل لفظ يحتمل المعنى المراد وغيره، مثل أن يقول: لا سبيل لي عليك، أنت طليق في الهواء، وما أشبه ذلك.
والفرق بين الصريح والكناية من حيث الحكم، أن الصريح لا يحتاج إلى نية، والكناية تحتاج إلى نية؛ لأن الكناية كل لفظ يحتمل المعنى المراد وغيره، فإذا كان كذلك فإنه لا يكون للمعنى المراد إلا بالنية، فإذا قال السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، اذهب، فيحتمل أن المعنى لا سبيل لي عليك في هذا المذهب الذي قلت لك فيه: اذهب، ويحتمل لا سبيل لي عليك مطلقاً، يعني فأنت حر.
(ثانياً : القوة وهي السراية، فإذا أعتق نصف العبد سرى العتق إلى جميعه بالقوة حتى وإن لم يرده، فلو أن إنساناً عنده عبد فقال: عشرك حر، يعتق كله، أو: إصبعك حر، يسري العتق إليه كله، فلا يتبعض العتق، بل لو أن الرجل أعتق نصيبه من عبد وله شركاء سرى إلى نصيب شركائه، مع أنه لا يملكه، لكن يسري بالقوة ويعطي شركاءه قيمة أنصبائهم، (حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من أعتق شركا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه، وإلا فقد عتق منه ما عتق).
هذا إذا كان عنده ثمن الشركاء، أما إذا لم يكن عنده، فهذا فيه قولان للعلماء:
القول الأول: أنه لا يسري العتق؛ لأنه لو سرى لكان في ذلك ضرر على الشركاء؛ لأنه فوَّت العبد عليهم، فيبقى ملكهم على ما هو عليه، ويكون هذا العبد مبعضاً، جزء منه حر والباقي رقيق.
القول الثاني: يُستسعى العبد، فيقال له: اذهب، اتجر، اعمل، ثم اردد ما يحصل لك على أسيادك الآخرين حتى ينتهي، فإن قال أسياده: نحن لا نريد أن يعتق بل يبقى، قلنا: قهراً عليكم أن يستسعى ويوفي أسياده.
((3/81)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من أعتق نصيبا، أو شقيصا، في مملوك ، فخلاصه عليه في ماله، إن كان له مال، وإلا قوم عليه، فاستسعي به غير مشقوق عليه).
(شقيصا) : أي نصيبا
(ثالثاً : ملك ذي الرحم، وضابطه أن يملك مَنْ لو كان أنثى لحرم عليه بنسب أن يتزوجه، فإنه لو ملك أباه يعتق عليه، ولو لم يكن عنده مال إلا قيمة أبيه، وكذلك لو ملك أخاه فإنه يعتق عليه، وكذلك عمته تعتق؛ لأنه لا يمكن أن يتزوج بها، أما ابنة عمه فإنها لا تعتق؛ لأنه يحل أن يتزوج بها،
( حديث سمرة بن جندب الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :من ملك ذا رحم محرم فهو حر .
ولو ملك من لو كان أنثى لحرم عليه برضاع لم يعتق، وهذا مما يفرق فيه بين الرضاع والنسب.
(رابعاً : التمثيل ، يعني أنه يمثل بعبده، فإذا مثل به عتق عليه كإنسان عنده عبد فحل وخاف على أهله منه فخصاه ـ أي: قطع خصيتيه ـ فإنه يعتق عليه، ولو أنه غضب على عبده فقطع شحمة أذنه فإنه يعتق، ولكن لو قلم أظافره فإنه لا يعتق؛ لأن هذا ليس تمثيلاً.
وإنما جعل الشرع العتق يحصل بأدنى سبب حرصاً منه على تحرير الرقاب، وبه تندفع الشبهة التي يوردها الكفار على الإسلام في مسألة الرق؛ لأننا نقول: إن الإسلام ضَيَّقَ سبب الملك في الرق، إذ ليس هناك سبب للرق إلا الكفر، ووسَّع جداً أسباب الحرية، وما يندب إلى الحرية، وجعل العتق في الكفارات، وقربة من القربات من أفضل الأعمال .
مسألة : ما هو فضل العتق ؟
العتق من أفضل القُرَب لأن من أعتق عبداً أعتق الله من هذا المعتِق كل عضو من النار، حتى الفرج بالفرج .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (أيما رجل أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار).
((3/82)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه .
( لا يجزي ولد والداً ) وفي رواية والده أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه والأم مثله بطريق أولى ومثلهما الأجداد والجدات من النسب
( إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ) أي يخلصه من الرق بسبب شرائه في عتقه المخلص له من حيز ذلك كأنه أوجده كما أن الأب سبب في إيجاده فهو تسبب في إيجاد معنوي في مقابلة الإيجاد الصوري .
(حديث أبي موسى الأشعري الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وآمن بمحمد ، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها، فأدبها فأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران).
(حديث كعب بن مرة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال : من أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزئ كل عظم منه بكل عظم منه ومن أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزئ بكل عظمين منهما عظم منه .
مسألة : لماذا يُستحب عتق من له كسب ؟
يستحب عتق من له كسب، وعكسه بعكسه» ، فالذي ليس له كسب لا يستحب عتقه؛ لأننا نجعله عالة على نفسه وعالة على غيره، ومن باب أولى إذا كان هذا العبد معروفاً بالشر والفساد فإننا نقول: لا تعتقه؛ لأنك إذا أعتقته ذهب يفسد في الأرض، وكذلك لو كان إذا أعتق هرب إلى الكفار، وصار علينا فإننا لا نعتقه، فالمهم أن كون العتق من أفضل القربات مقيد بما إذا لم يترتب عليه مفسدة، فإن ترتب عليه مفسدة فإنه ليس من القربات فضلاً عن أن يكون من أفضلها.
مسألة : هل يفضل في العتق أن يكون المعتوق ذكرا ؟
دلت السنة الصحيحة على أنه يفضل في العتق أن يكون المعتوق ذكرا
((3/83)
حديث كعب بن مرة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال : من أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزئ كل عظم منه بكل عظم منه ومن أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزئ بكل عظمين منهما عظم منه .
الشاهد : أن الذكر (يجزئ كل عظم منه بكل عظم منه)
والأنثى (يجزئ بكل عظمين منهما عظم منه )
مسألة : هل يصح تعليق العِتق بموتٍ ؟
يصح تعليق العِتق بموتٍ وهو التدبير» ، التدبير: مأخوذ من دبر الحياة أي ما بعدها، وهو تعليق العتق بالموت، سمي تدبيراً؛ لأنه ينفذ في دبر الحياة، ولا شك أنه الثابت في صحيح؛ لأنه ثبتت به السنة، فإن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، وكان عليه دين، فباعه النبي وأوفى دينه
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : باع النبي ( المُدَبَّر.
مسألة : هل عتق التدبير كعتق الحياة في الأجر؟
ليس عتق التدبير كعتق الحياة؛ لأن عتق التدبير يكون بعد الموت، بعد أن خرج الإنسان من الدنيا، (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان). فالعتق بالتدبير أقل أجراً من العتق في حال الحياة .
الكتابة: اسم مصدر كتب يكتب كتباً وكتابة، وهي مأخوذة من الكتب، وهي أن يشتري العبد نفسه من سيده، وقد قال الله تعالى في كتابه: {{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}} [النور: 33] ، وسميت بذلك؛ لأن الغالب ألا تقع إلا بمكاتبة بين السيد والعبد.
والمكاتبة : تعليق عتق بصفةٍ على معاوضةٍ مخصوصةٍ تؤدى في نجوم .
مسألة : ماحكم المكاتبة ؟(3/84)
حكم المكاتبة : إذا قال العبد لسيده كاتبني وجب على سيده أن يجيبه إلى ما طلب إن علم قدرته على الكسب .
لقوله تعالى : {{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}} [النور: 33]
والمكاتب من الثلاثة الذين أوجب الله تعالى على نفسه إعانتهم .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «ثَلاَثَةٌ حَقّ على الله عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، والمُكَاتَبُ الّذِي يُرِيدُ الأدَاءَ، والنّاكِحُ الّذِي يُرِيدُ العَفَافَ» .
مسألة : ما هي أم الولد ؟
أم الولد : هي الأمة التي ولدت من سيدها في ملكه ، وهي تعتق بموته
مسألة : ما المقصود بأحكام أم الولد ؟
المقصود بأحكام أم الولد أحكام الأمة، من وطء وخدمةٍ وإجارةٍ ونحوه، لا في نقل الملك في رقبتها، ولا بما يراد له كوقف وبيع ورهن ونحوها»
فما يتعلق بالمنفعة جائز، مثل الوطء والخدمة والإجارة والإعارة وما أشبهها، وما يتعلق بنقل الملك فإنه ليس بجائز؛
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله الثابت في صحيح أبي داوود ) قال : بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا .
لأن هذا يؤدي إلى بطلان حريتها، وما يراد لنقل الملك كالرهن فإنه أيضاً لا يجوز؛ لأن الغاية منه نقل الملك.
مسألة : ما هي الجنايات لغةً واصطلاحا؟
«الجنايات» جمع جناية، وهي لغة: التعدي على البدن، أو المال، أو العرض.
واصطلاحاً: التعدي على البدن خاصة بما يوجب قصاصاً فيما إذا كان عمداً، أو مالاً فيما إذا كان خطأ.
مسألة : ما هي أقسام الجنايات ؟
الجنايات ثلاثة أضرب: [عمد، وشبه عمد، وخطأ] .
مسألة : ما الدليل على القتل العمد ؟(3/85)
الدليل على قتل العمد : قوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء / 93]
مسألة : ما الدليل على القتل الخطأ ؟
الدليل على القتل الخطأ : قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً) [سورة: النساء - الآية: 92]
مسألة : ما الدليل على القتل شبه العمد ؟
الدليل على القتل شبه العمد :
وفي القرآن الكريم قسمها الله إلى قسمين: عمد، وخطأ، لكن جاءت السنَّة بإثبات شبه العمد، في قصة المرأتين من هذيل اللتين اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي بأن دية جنينها غرة، عبد أو وليدة، وأن ديتها على العاقلة .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ، فقضى أن دية جنينها غرَّة، عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها .
فهذا القتل ليس عمداً ولا خطأً، ولكنه وسط بينهما؛ لأنك إن نظرت إلى تعمد الفعل ألحقته بالعمد، وإن نظرت إلى أن الجناية لا تقتل ألحقته بالخطأ، فجعله العلماء مرتبة بين مرتبتين، وسمَّوْه شبه العمد .
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في عميا في غير ضغينة ولا حمل سلاح .
مسألة : ما هو القَوْد ؟
القَوْد : أي القصاص، وسُمي بذلك؛ لأنه يقاد القاتل برُمَّته إلى أولياء المقتول بحبل ويقتل .
مسألة : هل يكون القصاص في الخطأ وشبه العمد ؟(3/86)
لا قصاص إلا في العمد، أما الخطأ وشبه العمد فلا قصاص فيهما، ودليل ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى}} [البقرة: 178] ، وقال تعالى: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}} [المائدة: 45] ، وهذا وإن كان مكتوباً على أهل التوراة، لكنَّه شرعٌ لنا، بدليل قوله لأنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ حينما كسرت الربيِّعُ بنت النضر ـ رضي الله عنها ـ ثنيَّةَ امرأة من الأنصار، فطالبوا بالقصاص، فقال : «كتاب الله القصاص»
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله : ( يا أنس، كتاب الله القصاص) فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله : (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
مسألة : ما هو القتل عمدا؟
القتل العمد أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم فيقتله بما يغلب على الظن موته به.
مسألة : من هو الإنسان المعصوم الدم ؟
الإنسان المعصوم الدم أربعة أصناف [ المسلم والذمي والمستأمن والمعاهد ]
مسألة : متى يكون القتل عمدا؟
[*](لا يكون القتل عمدا إلا بثلاثة شروط متلازمة :
(1) أن يقصد القاتل القتل
(2) أن يعلم القاتل أن الذي قصد قتله معصوم الدم
(3) أن تكون الآلة المستخدمة في القتل مما يغلب على الظن أنها تقتل .
مسألة : لو رأى إنساناً وهو في أرض حرب، فظن أنه حربي فرماه فقتله، فإذا هو غير حربي فهل يعتبر ذلك قتل عمد ؟(3/87)
لو رأى إنساناً وهو في أرض حرب، فظن أنه حربي فرماه فقتله، فإذا هو غير حربي، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم ينوِ قتل المعصوم.
{ تنبيه } :( ويلاحظ أنَّ هذا إذا وافق أولياء المقتول على ذلك، أما لو قالوا: إنّك قصدتَه، فقال: لم أقصده، فالقول قول أولياء المقتول؛ لأن القصد نية خفية، والشرع لا يحكم إلا بالظاهر، والظاهر أنه قصد، ودعواه أنه لم يقصد، أو أنه ظنه غير آدمي دعوى غير مقبولة منه؛ لأننا لو قبلنا ما ادعاه لكان كل من قتل نفساً بغير حق يقول: أنا لم أقصد، أوْ لم أظنه آدمياً معصوماً، أو ما أشبه ذلك.
مسألة : لو أن القاتل ضرب المقتول بالفأس أو بالساطور على رأسه، وقال: أنا ما ظننت أنه يموت ، فهل يُقبل منه ذلك؟
لا يقبل منه ذلك لأن هذا يغلب على الظن أنه يموت به.
مسألة : لو أن القاتل ضرب المقتول بالمهفَّة ففزع فمات وقال: أنا ما ظننت أنه يموت ، فهل يُقبل منه ذلك؟
يقبل منه ذلك لأن هذ الايغلب على الظن أنه يموت به.
مسألة : ما هو القتل الخطأ ؟
القتل الخطأ : هو أن يفعل المكلف ما يُباح له فعله كرمي صيد مثلاً فيصيب آدمياً معصوم الدم لم يقصد قتله .
فالقتل الخطأ : لا يقصد الجناية، أو يقصد الجناية لكن لا يقصد المجني عليه، مثل أن تنقلب الأم على ابنها وهي نائمة فتقتله، أو يرى صيداً فيرميه فيصيب آدمياً.
مسألة : ما هو القتل شبه العمد ؟
القتل شبه العمد : هو أن يقصد المكلف ضرب إنسانٍ معصوم الدم بما لا يغلب على الظن أنه يقتل بمثله .
فالعمد وشبه العمد يشتركان في القتل، لكنهما يختلفان في أن العمد تقتل الجناية فيه غالباً، وشبه العمد لا تقتل غالباً مثل ما لو ضرب إنساناً بالمهفَّة ففزع فمات ، أو ضربه في غير مقتل بسوط، أو عصا صغيرة» فإن ضربه في غير مقتل، كأن ضربه في طرف، أو على رأسه بسوط، أو عصا صغيرة، فنقول: هذا ليس بعمد بل شبه عمد فهذا ليس بعمد محض؛ لأن الجناية لا تقتل، وليس بخطأ؛ لأنه قصد الجناية.(3/88)
ودليله قصة المرأتين من هذيل اللتين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي : «أن دية المرأة على العاقلة، وقضى بدية الجنين غرة عبد أو أمة» [*] قال أهل العلم: هذا الحديث هو الأصل في إثبات شبه العمد؛ لأن الجناية متعمدة، لكن الآلة التي حصل بها القتل لا تقتل غالباً.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ، فقضى أن دية جنينها غرَّة، عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها .
الشاهد : أن الدية كانت على العاقلة مما يدل على أن القتل ليس عمدا إذا لو كان عمداً لوجب فيه القصاص .
مسألة : ماالفرق بين العمد وشبه العمد ؟
الفرق بين العمد وشبه العمد:
أولاً: يشتركان في قصد الجناية، ويختلفان في الآلة التي حصلت الجناية بها.
ثانياً: العمد فيه قصاص، وشبه العمد ليس فيه قصاص.
ثالثاً: دية العمد على القاتل، ودية شبه العمد على العاقلة.
رابعاً: العمد ليس فيه كفارة، وشبه العمد فيه كفارة.
مسألة : ما الفرق بين الخطأ وشبه العمد ؟
[*](يشترك الخطأ وشبه العمد في أمور، ويفترقان في أمور،
( فيشتركان في التالي:
أولاً: أنه لا قصاص فيهما.
ثانياً: أن فيهما الدية.
ثالثاً: أن الدية على العاقلة.
(ويختلفان في التالي:
أولاً: أن شبه العمد قصد، والخطأ ليس بقصد.
ثانياً: أن دية شبه العمد مغلظة، ودية الخطأ غير مغلظة.
ثالثاً: أن شبه العمد فيه إثم، والخطأ لا إثم فيه.
مسألة : ما الفرق بين الخطأ و العمد ؟
(يفارق الخطأ العمد في التالي:
أولاً: أن العمد فيه قصاص، والخطأ لا قصاص فيه.
ثانياً: العمد ديته مغلظة، والخطأ مخففة
ثالثاً: العمد ديته على القاتل، والخطأ على العاقلة.
رابعاً: العمد لا كفارة فيه، والخطأ فيه كفارة.
خامساً: العمد فيه إثم عظيم، والخطأ لا إثم فيه.(3/89)
مسألة : ما هو حكم قتل النفس عمدا بغير حق ؟
حكم قتل النفس عمدا بغير حق أنه حرام بل هو من الكبائر الموبقات والعياذ بالله تعالى .
قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [سورة: النساء - الآية: 93]
وقد أخبر النبي : أن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق من الموبقات :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة).
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : سألت النبي : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك). قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تزاني بحليلة جارك). قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله : {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: (أول ما يقضى بين الناس في الدماء).
((3/90)
أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ) أي أول ما يحكم اللّه تعالى بين الناس يوم القيامة في متعلقات الدماء أو أول القضايا القضاء في الدماء أو أول ما يقضى فيه الأمر الكائن في الدماء وذلك لعظم مفسدة سفكها ولا يناقضه خبر أول ما يحاسب به العبد الصلاة لأن ذلك في حق الحق وذا في حق الخلق أي أن أول بمعنى من أول ، أو أول ما يحاسب به من الفرائض البدنية الصلاة ثم أول ما يحكم فيه من المظالم الدماء
[*] قال الحافظ العراقي : وظاهر الأخبار أن الذي يقع أولاً المحاسبة على حق اللّه تعالى وفي حديث الصور الطويل أول ما يقضى بين الناس في الدماء ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه فيقول : يا رب سل هذا لم قتلني .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دماً حراماً).
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري موقوفا ) قال :إن من ورطات الأمور، التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حلِّه.
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :أن النبي قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطَّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه).
( أبغض الناس إلى الله ) أي أبغض عصاة المؤمنين إليه كما أفاده القاضي : المراد بالناس المقول عليهم جميع عصاة الأمة وأن الكافر أبغض من هؤلاء المعدودين ،(3/91)
وذكر منها( ومطَّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه) أي يقتله بنحو ذبح أو ضرب عنق بنحو سيف فيسيل دمه وخص هذه الكيفية المشتملة على إسالة الدم لكونها أغلب طرق القتل والمراد إزهاق روحه بمحدد أو مثقل أو غيرهما كنحو سم ، ولما كان المنع من إراقة الدم أعظم المقاصد أو هو أعظمها أعاده صريحاً ولم يكتف بيهريقه وإن كفى والمراد الطلب المترتب عليه المطلوب أو ذكر الطلب ليلزم في الإهراق بالأولى ففيه مبالغة .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح التلرمذي ) أن النبي ( قال :«لَوْ أنّ أَهْلَ السّماءِ وَأهْلَ الأرْضِ اشْتَرَكُوا في دَمِ مُؤْمِنٍ لأكبّهُمْ الله فِي النّارِ».
( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن ) أي في سفكه ظلماً
( لأكبّهُمْ الله فِي النّارِ) نار جهنم وفي رواية للطبراني بدل لكبهم لعذبهم اللّه بلا عدد ولا حساب .
مسألة : لو على قتل إنسان فهل يقتلون جميعاً ؟
إذا اجتمع جماعة على قتل إنسان فإنهم يقتلون جميعاً، مثاله: خمسة اجتمعوا على قتل رجل، فيُقتلون جميعاً .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال: أن غلاما قُتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم.
مسألة :فإن قيل: ما الدليل، وما التعليل؟ لأن ظاهر الحكم في هذه المسألة أنه حكم جائر، فكيف نقتل خمسة بواحد؟!
لو اتفق أهل بلد كامل على قتله فإنهم يقتلون جميعاً، لقول عمر رضي الله عنه: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم وعمر ـ رضي الله عنه ـ ممن اشتهر بالعدالة، ومع ذلك قتلهم جميعاً به، فالحُكْم ليس بجَور.
وجه الدلالة : قول عمر رضي الله تعالى عنه لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم. وقول عمر رضي الله تعالى عنه سنة متبعة لأنه من الخلفاء الراشدين
((3/92)
حديث العرباض بن سارية الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي ( قال : أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و إن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة .
أما من حيث النظر، فلأن هؤلاء الجماعة قتلوا نفساً عمداً، وتجزئة القتل عليهم مُحال؛ إذ لا يمكن أن نقتل كل واحد خمس قتلة، والقتل لا يمكن أن يتبعَّض، ورفع القتل عنهم ظلم للمقتول؛ لأنهم أعدموه وأزهقوا نفسه، فكيف لا تزهق أنفسهم؟!
فلهذا كان النظر والأثر موجبين لقتل الجماعة بالواحد
لكن لا بد من شرط، وهو أن يتمالؤوا على قتله، أو يصلح فعل كل واحد للقتل لو انفرد.
مثال التمالؤ: قالوا: هذا الرجل عنده مال كثير، سنقتله ونأخذ ماله، فقال أحدهم: اجلس أنت في هذا المكان مراقباً، وأنت في هذا المكان الآخر مراقباً، وأحدنا يشحذ السكين، وأحدنا يقتله، فهنا تمالؤوا على قتله .
مثال ما لم يتمالؤوا، لكن فِعْل كل واحد يصلح لقتله: كأُناس أرادوا أن يهجموا على شخص لقتله وأخذ ماله، دون أن يطلع أحدهم على الآخر، ولم يعلم أحدهم بالآخر، لكن قدَّر الله ـ تعالى ـ أن يأتوا جميعاً ليلاً، وكل شخص رمى هذا الرجل، فأحدهم أصابه في بطنه، والآخر في صدره، والآخر في ظهره، فمات الرجل فهنا يقتلون جميعاً؛ لأن فعل كل واحد منهم يصلح للقود لو انفرد.
ولو جرحه أربعة بدون اتفاق وخامس لكزه، فهنا يقتل الأربعة، والخامس الذي لكزه لا يُقتل؛ لأن فعله لا يصلح للقتل لو انفرد.
مسألة : إذا سقط القصاص لأي سبب من الأسباب فهل يؤدوا ديةً واحدة أم يلزم كل واحدٍ منهم دية ؟(3/93)
الصحيح أنه إذا سقط القصاص لأي سبب من الأسباب مثل أن قال أولياء المقتول: نحن لا نريد قتل هؤلاء، لكن نريد الدية فإنه يلزمهم دية واحدة ، ، فإذا كانوا عشرة والدية مائة من الإبل فعلى كل واحد منهم عشر من الإبل، والفرق بين الدية والقتل أن الدية تتجزأ، فيمكن أن نُحمِّل كل واحد جزءاً منها، لكن القتل لا يتجزأ.
مسألة : من قتل إنساناً عمداً ثم تاب إلىالله تعالى ، فهل يسقط حق المقتول في الآخرة بمجرد توبة القاتل ؟
لا يسقط حق المقتول في الآخرة بمجرد توبة القاتل ، و لا يسقط حق المقتول حتى بالقصاص لأن القصاص حقٌ لأولياء المقتول ، وأما المقتول فيأخذ من حسنات القاتل بقدر مظلمته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المقتول فحُمِلت على القاتل .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسنات أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى : التحقيق أن القتل تتعلق به ثلاثة حقوق
[ حقٌ لله تعالى وحقٌ للولي (أي أولياء المقتول) وحقٌ للمقتول]
فإذا تاب القاتل سقط حق الله بالتوبة .
وإذا حصل القصاص سقط حق أولياء المقتول أو بالعفو عنه إن أرادوا ذلك قبل القصاص ، ويبقى حق المقتول يأخذه يوم القيامة من القاتل (يأخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه). ومن هنا يتضح أن القتل عمداً ورطةٌ لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري موقوفا ) قال :إن من ورطات الأمور، التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حلِّه.
مسألة : اذكر الدليل على قتل الإنسان نفسه ؟
((3/94)
حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :قال رسول الله : (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح،فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
عن النبي قال: (من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً).
مسألة : هل قاتل نفسه يخلد في النار كما هو ظاهر الحديث السابق؟
الصحيح أن قاتل نفسه لا يخلد في النار إلا إذا استحل قتل نفسه ، أما إذا لم يستحل قتل نفسه فإنه لا يخلد في النار لأن قتل النفس كبيرة من الكبائر وعقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة أنه لا يخلد في النار ما دام قد مات على التوحيد ، وأنه مستحقٌ للعقوبة لكنه تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه بذنبه ، لكن مآله إلى الجنة ما دام قد مات على التوحيد [يدخل الجنة يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه] لقوله تعالى : (إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية48) .
(حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال وحوله عُصابة من أصحابه ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه).فبايعناه على ذلك.(3/95)
الشاهد : قوله ( [ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ] فدلَّ ذلك على أن مرتكب تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه بذنبه ، وما دام أنه تحت مشيئة الله النافذة فإنه لا يكفر لعموم قوله تعالى : (إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية48) . ومن ثم لا يُخلد في النار .
مسألة : ما هو القصاص ؟
القصاص لغة: تتبع الأثر كالقصص.
وأما في الشرع فهو أن يُفْعَلَ بالجاني كما فَعَلَ، إن قَتَل قُتِل، وإن قطع طرفاً قُطِع طرفه، وهكذا.
وقد رخص الله لهذه الأمة ثلاث مراتب: القصاص، وأخذ الدية، والعفو، فأيهما أفضل؟ ينظر للمصلحة، إذا كانت المصلحة تقتضي القصاص فالقصاص أفضل، وإذا كانت المصلحة تقتضي أخذ الدية فأخذ الدية أفضل، وإذا كانت المصلحة تقتضي العفو فالعفو أفضل.
وهذا يجب على الإنسان فيه أن يأخذ بالعقل، لا بالعاطفة؛ لأن بعض الناس تأخذهم العاطفة فيعفون، وهذا ليس بصحيح؛ لأننا لسنا أحق بالعفو من الله تعالى، والله قد أوجب القصاص فقال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}} [البقرة: 178] وكذلك أوجب حد الزاني، وقطع السارق، وما أشبه ذلك.
وكان اليهود من شريعتهم ـ حسب ما ذكره أهل العلم ـ أنه لا بد من القصاص، وأنه لا سبيل إلى العفو، ولا إلى أخذ الدية، والنصارى شريعتهم عدم القصاص، وجاءت هذه الشريعة وسطاً بين الشريعتين، فجمعت بين الحزم والفضل؛ لأن ترك القاتل دون أن يقتل يفتح علينا مفسدة عظيمة، وهي التجرؤ على القتل وعدم المبالاة به، وقد تقتضي المصلحة عدم القصاص، فجاءت هذه الشريعة بين الحزم والفضل، كاملة عادلة.(3/96)
والقصاص ليس كما يزعم أهل الإلحاد والزندقة، حينما يقولون: إن القصاص زيادة في القتل؛ لأنه إذا قتل القاتل شخصاً، ثم قتلنا القاتل يكون فات شخصان، وإذا لم نقتل القاتل لم يفت إلاّ شخص واحد، إذاً فالقصاص خطأ.
لكن نقول لهؤلاء الجماعة: هذا مما أعمى الله به بصائركم، فإن القصاص حياة، كما قال الله تعالى: {{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}} [البقرة: 179] ؛ لأن القاتل إذا علم أنه سيُقتل فإنه لن يقدم على القتل، فإذا اقتصصنا من زيد لقتله عمراً؛ فإن خالداً لا يقتل بكراً، لكن لو تركناه تعدد القتل.
مسألة : ما هي شروط ثبوت القصاص ؟
[*](شروط ثبوت القصاص حمسة شروط :
الأول: عصمة المقتول، أي أن يكون المقتول معصوماً، أي: معصوم الدمغير مهدر دمه.
والمعصومون أربعة أصناف: المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن.
الثاني : التكليف أي: تكليف القاتل فلا قصاص على صغير ولا مجنون» لأنه لا يتصور منهما عمد ، وحد الصِّغر هو ما دون البلوغ ، وإذا كان الرجل يُجَنُّ أحياناً ويعقل أحياناً، فإن قتل في حال جنونه لا يقتل، وإن قتل في حال عقله يقتل ، ولو زال عقله بغير الجنون كالكِبَر وهو الهرم الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه، وخرج يوماً من بيته، وسيفه بيده، فرأى شخصاً فضربه على رأسه، فلا يُقتل به.
( حديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
الثالث : أَلاَّ يكون القاتل مسلم والمقتول كافر.
فلا يقتل مسلم بكافر ( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : لا يقتل مسلم بكافر.
الرابع: أن لا يكون المقتول ولداً للقاتل .
والدليل (حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :«لاَ تُقَامُ الْحَدُودُ فِي الْمسَاجِدِ وَلاَ يُقْتَلُ الوَالِدُ بِالْوَلَدِ».(3/97)
الخامس : أن تكون الجناية عمداً وعدواناً.
مسألة : بم يثبت القصاص ؟
[*](يثبت القصاص بأحد أمرين :
(1) الإعتراف : (حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، قيل: من فعل هذا بك، أفلان، أفلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي فرض رأسه بين حجرين.
(2) شهادة رجلين عدلين :
( حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر فانطلق أولياؤه إلى النبي فذكروا ذلك له فقال لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم قالوا يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم يهود وقد يجترئون على أعظم من هذا قال فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا فوداه النبي من عنده .
الشاهد : قوله [لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم]
مسألة : ما هو شروط تنفيذ القِصاص ؟
[*](شروط تنفيذ القِصاص ثلاثة شروط .
(1) أن يكون مستحق القِصاص مكلفاً أي: بالغاً عاقلاً، والذي يستحق القصاص هم ورثة المقتول،
فإن كان المستحق للقصاص صبياً أو مجنوناً لم يستوف؛ وذلك لعدم التكليف، ولكن ماذا يصنع بالجاني؟
يُحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة : فلو كان المستحِق للقصاص صغيراً وله أب، كما لو قتل رجل، وورثه أبوه وابنه الصغير، فليس للأب أن يستوفي القصاص؛ لأن أحد مستحقيه صغير لم يبلغ، والعلة أن القصاص إنما وجب للتشفي من القاتل، وليذهب الإنسان ما في قلبه من الغيظ على هذا القاتل الذي قتل مورِّثه، وهذا لا يمكن أن يقوم به أحد عن أحد؛ لأن التشفي معنى يقوم بالنفس، فأبو الرجل لا يتشفّى عن ابن ابنه، ولهذا يحبس حتى البلوغ أو الإفاقة، «ولأن معاوية ـ رضي الله عنه ـ حبس هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة ولم ينكر»، فعندنا هنا دليل وتعليل.
((3/98)
2) اتفاق المستحقين للقصاص على تنفيذه ، فإن عفا بعضهم سقط القصاص، حتى لو فرض أن هذا الذي عفا لا يرث إلاّ واحداً من مليون سهم فإنه لا يمكن القصاص؛ لقوله تعالى: {{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}} [البقرة: 178] {{عُفِيَ لَهُ}} أي: القاتل، {{مِنْ أَخِيهِ}} المقتول، و{{شَيْءٍ}} نكرة في سياق الشرط، فتعم أي جزء، فإذا عفي عن القاتل ولو جزءاً يسيراً فإنه لا قصاص؛ لقوله تعالى: {{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}} فيُتبَع القاتلُ بالمعروف ولا يؤذى، وقوله: {{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ}} أي: إلى العافي {{بِإِحْسَانٍ}} فالأداء وصف من أوصاف الدية.
(ولحديث زيد ابن وهب في الإرواء وهوصحيح ) أن عمر رضي الله عنه رُفع إليه رجلٌ قتل رجلاً فأراد أولياء المقتول قتله ، فقالت أخت المقتول _ وهي امرأة القاتل _ قد عفوت عن حصتي من زوجي ، فقال عمر : عُتِق الرجل من القتل .
وأما التعليل فلأنه إذا عفي عن القاتل جزء من دمه فإن القتل لا يتبعض، فإذا كان الورثة ستة، وعفا واحد منهم، فلا يمكن أن نقتل القاتل خمسة من ستة من القتل، ونبقي واحداً من ستة! فلمَّا كان جزء من القاتل لا بد أن يبقى حياً، وكان لا يمكن حياة هذا الجزء إلاّ بحياة الباقي، كان عفو بعض الورثة مانعاً من القتل.
(3) أن لا يتعدى القِصاص الجاني إلى غيره فإذا وجب على حامل لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ» إذا وجب القصاص على حامل فلو اقتصصنا منها قتلناها وما في بطنها، والجنين بريء، فينتظر ولا تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ ، ولأنَّ لأبيه حقاً في بقائه، فلا يمكن أن يهدر حقه، فإذا وجب على حامل ولو في أول الحمل فإنها تترك حتى تضع.
((3/99)
حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن امرأة من جهينة أتت نبي الله وهي حبلى من الزنى فقالت يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فائتني بها ففعل فأمر بها نبي الله فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت فقال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى .
(1) إذا أردنا تنفيذ القصاص فلابد أن يكون يتم بإشراف الإمام(الرئيس الأعلى للدولة) أو نائبه ليمنع الجور في تنفيذه ويلزم بالوجه الشرعي في ذلك .
{ تنبيه } :( من ينوب عنه عادة في هذه الأمور، والذي ينوب عنه في عصرنا هو الأمير، فالأمير نائب عن أمير المنطقة، وأمير المنطقة نائب عن وزير الداخلية، ووزير الداخلية نائب عن الرئيس الأعلى للدولة.
وإنما منع القصاص إلاّ بحضرة السلطان، أو نائبه؛ خوفاً من العدوان؛ لأن أولياء المقتول قد امتلأت قلوبهم غيظاً على القاتل، فإذا قدّم للقتل بدون حضور السلطان أو نائبه فربما يعتدون عليه بالتمثيل، أو بسوء القتل، أو بغير ذلك، وهذا أمر لا يجوز.
(2) يشترط في الآلة أن تكون ماضية : أي: حادَّة، احترازاً من الآلة الكالَّة، فإنه لا يجوز أن يقتص بها؛ ( حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته ، فإذا اقتصصنا من هذا الجاني بالآلة الكالَّة فإننا لم نحسن إليه، وهذا شرط في جميع الحدود.
(3) إن كان أولياء المقتول، لم يحسنو القصاص، وجب عليهم أن يَدَعُوا ذلك إما للإمام، أو يوكلوا من يحسن القصاص.
مسألة : كيف يُقتص من الجاني ؟(3/100)
تمام القصاص أن يفعل بالجاني كما فعل؛ لأنه من القص وهو تتبع الأثر، ولقوله تعالى: {{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}} [البقرة: 194] ، ولقوله تعالى: {{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}} [النحل: 126] ، ولقوله تعالى: {{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}} [الشورى: 40] ، وما أشبه ذلك من الآيات، ولأن النبي رضَّ رأس الرجل اليهودي بين حجرين؛ لأنه قتل الجارية الأنصارية برض رأسها بين حجرينوهذا دليل خاص، والآيات التي سقناها أدلة عامة، فهذه أدلة من الكتاب والسنة، ومن النظر أيضاً نقول: كيف يمثل هذا الجاني بالمقتول، ويقتله بأبشع قتلة ويمزقه تمزيقاً، ثم نقول له: سنضربك بالسيف؟! فهذا ليس بعدل، والله تعالى يقول: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}} [النحل: 90] .
مسألة : هل يجوز العَفْوِ عَنِ القِصَاصِ ؟
[*](يجوز لللأولياء (الورثة) أن يخيروا بين ثلاثة أشياء :
(1) القتل
(2) الفداء
(3) العفو مجانا
ودليل ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}}، فقوله: {{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ}} علم منه أن لمن له القصاص أن يعفو ويأخذ الدية، ولهذا قال: {{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}} هذا من القرآن،
ومن السنة(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقاد وإما أن يُفدى» ، أي: إما أن يقاد للمقتول، وإما أن تؤدى ديته.(3/101)
وقوله : «بخير النظرين» صريح بأن الخيار لأولياء المقتول؛ لقوله: «من قتل له قتيل» وعلى هذا فلا خيار للقاتل، فلو قال القاتل: اقتلوني، أنا أريد أن يكون المال لورثتي، فلا خيار له، بل الخيار لأولياء المقتول؛ وذلك لأن هذا الجاني معتدٍ ظالم فلا يناسب أن يعطى خياراً، وأما أولياء المقتول فقد اعتدي عليهم، وأهينت كرامتهم بقتل مورثهم، فكان لهم الخيار .
مسألة : هل العفو أفضل ؟
الأصل أن العفو أفضل لقوله تعالى: (وَأَن تَعْفُوَاْ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ) [البقرة / 237]
( حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) قال : ما رأيت النبي رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو .
إلا أذا كانت المصلحة في القصاص فيكون القصاص أفضل من العفو مجانا ، وذلك لأن العفو الذي في القرآن مقيد بما إذا كان فيه مصلحة .
قال تعالى: {{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}} [الشورى: 40]
فإن لم يكن العفو فيه إصلاح فعدم العفو أفضل .
مسألة : ما معنى الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؟
الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ : أي في الأطراف والجروح
والطرف: هو العضو المستقل مثل اليد، والرجل، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والذكر، وما أشبه ذلك.
والجراح: هي الشقوق في البدن، مثل رجل جرح يد إنسان، أو ساقه، أو فخذه، أو صدره، أو رأسه، أو ظهره، أو ما أشبه ذلك.
مسألة : اذكر الدليل على الْقِصَاصَ في الأطراف والجروح ؟
الدليل قوله تعالى: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}} [المائدة: 45] .
((3/102)
حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله : ( يا أنس، كتاب الله القصاص) فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله : (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
مسألة : ما هي شروط تنفيذ القصاص من الأطراف ؟
[*](يشترط في تنفيذ القصاص من الأطراف ثلاثة شروط :
الشرط الأول : الأَمْنُ مِنَ الْحَيْفِ بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، أَوْ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَمَارِنِ الأَنْفِ، وَهُوَ مَا لاَنَ مِنْهُ.
فمثلاً في الأصبع يقطع من مفصل الأنملة، وفي الكف من مفصل الرسغ، وفي الذراع من مفصل المرفق، وفي العضد من مفصل الكتف.
«أو له حَدٌّ ينتهي إليه» أي: له حدٌّ ينتهي إليه وإن لم يكن مفصل.
قوله: «كمارن الأنف وهو ما لان منه» أي: من الأنف؛ لأن الأنف له قصبة من عظام، يليها المارن، وهو جامع لثلاثة أشياء: للمنخرين وللحاجز بينهما، فلو أن أحداً قطع شخصاً من الحد اللين اقتص منه، لأنه يمكن الاستيفاء بلا حيف، ولو أن رجلاً قطع يد رجل من مفصل اليد تماماً فإنه يقتص منه، ولو قطعه من نصف الذراع فلا يقتص منه؛ لأن القطع ليس من مفصل .
وإذا لم يكن من مفصل فلا نأمن أن نحيف عند القصاص، ربما يزيد أو ينقص
الشرط الثاني : الْمُمَاثَلَةُ فِي الاسْمِ وَالْمَوْضِعِ بأن تكون يداً بيد، هذا الاسم، والموضع يمين بيمين مثلاً.
وكذلك خنصر بخنصر، هذا اسم، ويمين بيمين هذا موضع.
وأنملة وسطى بأنملة وسطى، هذا اسم، لكن يجب أن تبين من أي الأصابع، خنصر، بنصر، من اليمين، أو اليسار.
فَلاَ تُؤْخَذُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ، وَلاَ يَسَارٌ بِيَمِينٍ، وَلاَ خِنْصِرٌ بِبِنْصِرٍ، وَلاَ أَصْلِيٌّ بِزَائِدٍ(3/103)
الشرط الثالث : استواء طرفي الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال فلا تؤخذ صحيحة بشلاَّء وَلاَ كَامِلَةُ الأَْصَابِعِ بِنَاقِصَةٍ، وَلاَ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ بِقَائِمَةٍ والمراد بالاستواء ألاّ يكون طرف الجاني أكمل من طرف المجني عليه .
...
مسألة : ما هو الضابط في القصاص من الجروح ؟
الضابط في القصاص من الجروح : أن يقتص من كل جرح ينتهي إلى عظم لإمكان الإستيفاء بلا حيف .
فإن كان الجرح لا ينتهي إلى عظم فلا قصاصلعدم أمن الإستيفاء بلا حيف .
مسألة : ما هي الموضحة ، وهل يمكن القصاص منها ؟
«الموضحة» وهي التي توضح العظم في الرأس والوجه خاصة .
فإذا جنى شخص على آخر عمداً، وكشط جلد رأسه ولحمه حتى وصل إلى العظم فإنه يقتص منه؛ لأنه جرح ينتهي إلى عظم، والاعتبار بالمساحة لا بالكثافة، أي بمساحة الجرح لا بكثافة عمقه؛ لأن بعض الناس يكون سميناً، وتكون طبقات اللحم فوق العظم أكثر، وبعض الناس بالعكس، فهذا لا عبرة به، بل العبرة بالمساحة، فيؤخذ من الجاني بمثل ما أخذ من المجني عليه.
مسألة : هل يقتص من َجُرْحِ العَضُدِ، وَالسَّاقِ، وَالفَخْذِ، وَالقَدَمِ ؟
يقتص من َجُرْحِ العَضُدِ، وَالسَّاقِ، وَالفَخْذِ، وَالقَدَمِ لأن هذه الجروح في هذه المواضع تنتهي إلى عظم،
«العضد» هو العظم الذي بين الكتف والمرفق.
«والساق» وهو العظم بين الركبة والقدم.
«والفخذ» وهو العظم الذي بين الورك والركبة.
«والقدم» وهو العظم الذي بين الكعبين إلى نهاية الأصابع.
فالقاعدة أن كل جرح ينتهي إلى عظم ففيه قصاص .
مسألة : مالفرق بين الشجاج والجروح ؟
الشجاج، والشجاج: جمع شجَّة، وهي جرح الرأس والوجه خاصة، ففي الجبهة والرأس تسمى شجة، وفي الرقبة يسمى جرحاً.
مسألة : ما هي الهاشمة والجائفة والمنقِّلة والمأمومة ، وهل يجوز القصاص فيها ؟
الهاشمة: هي الجرح الذي يبرز العظم ويهشمه، فهذه لا قصاص فيها.(3/104)
والمنقِّلة: هي التي توضح العظم وتهشمه وتنقله، وهذه لا قصاص فيها.
الجائفة : التي تصل إلى بطن الجوف .
والمأمومة : هي التي تصل إلى أم الدماغ، بأن ضربه فانجرح وبان العظم، وانهشم، وانتقل، وبان الدماغ، فهذه لا يقتص فيها من الجاني؛ لأن المأمومة لا يمكن الاستيفاء فيها بدون حيف .
{ تنبيه } :( ما لاينتهي إلى عظم فلا يجوز القصاص فيه من الجراحات كالبطن والعنق لعدم الأمن من الحيف .
[*](فالخلاصة: أنه لا قصاص في الجروح إلا في ثلاث حالات:
الأولى: في كل جرح ينتهي إلى عظم.
الثانية: في السن.
مسألة : لو أن جماعة قطعوا طرفاً أو جرحوا جرحاً يوجب القود فهل نقطع مثل هذا الطرف منهم جميعاً ؟
لو اشتركوا في قطع العضو وذلك بأن يأتوا بسكين ويتحاملوا عليها جميعاً حتى ينقطع العضو، فهؤلاء اشتركوا فيقتص منهم جميعاً لعموم قوله تعالى: {{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}} [المائدة: 45] ، وقياساً على ما إذا اشتركوا في قتله، فإنه إذا وجب القصاص عليهم جميعاً فيما إذا اشتركوا في القتل، فلأن يجب القصاص عليهم فيما لو اشتركوا في قطع عضوٍ من باب أولى؛ لأن النفس أعظم حرمة، والقصاص في الأطراف مبني على القصاص في النفوس، وكذلك لو جرحوا جرحاً يوجب القود .
ـ وهو كل جرح ينتهي إلى عظم ـ فإذا جرحوا جرحاً يوجب القود فعليهم القود، فإذا كانوا عشرة فإننا سنجرح عشرة رؤوس برأسٍ واحد، ونقول: كما أننا نقتل عشرة أنفس بنفس واحدة .
( لحديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال: أن غلاما قُتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم.
مسألة : ما هي الدِّية ؟
الدِّية المال المؤدى إلى المجني عليه أو ورثته بسبب الجناية .
ومعنى وديتُ القتيل : أي دفعت ديته
مسألة : ما هي الجناية ؟(3/105)
الجناية بالمعنى الاصطلاحي ، هي التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً
مسألة : على من تجب الدية؟
الدية قد تكون للنفس، وقد تكون للأعضاء، وقد تكون للمنافع؛ والقاعدة العامة في وجوب الدية هي «كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته» سواء كانت الدية للبدن، أو لجزء منه، أو للمنافع، فإن اجتمع مباشران فعليهما الدية، وإن اجتمع متسببان فعليهما الدية، وإن اجتمع متسبب ومباشر، فإن كان المباشر يمكن تضمينه فعلى المباشر وحده، وإن كان لا يمكن تضمينه فعلى المتسبب وحده.
مثال المباشرة: أن يأخذ الإنسان آلة تقتل، فيقتل بها هذا الإنسان، سواء عمداً أو خطأ، أو يلقيه من شاهق.
ومثال السبب: أن يحفر حفرة في طريق الناس، فيقع فيها الناس، فهذا لم يباشر لكنه تسبب، فيكون الضمان عليه
ومثال المباشرين: أن يشترك اثنان في قتل شخص، فعليهما الدية.
ومثال المتسببين: أن يشترك اثنان في حفر حفرة في الطريق، فعليهما الدية.
ومثال اجتماع المباشر والمتسبب: شخص حفر حفرة، ووقف شخص آخر عليها، فجاء إنسان فدفعه فيها حتى سقط ومات، فالضمان على المباشر وهو الدافع؛ لأنه أقوى صلة بالجناية من المتسبب.(3/106)
وكذلك لو أن شخصاً أعطى إنساناً سكيناً بدون مواطأة على القتل، فقتل بها إنساناً، فالضمان على المباشر، فإن كان المباشر لا يمكن تضمينه فعلى المتسبب، كما لو أن رجلاً ألقى إنساناً مكتوفاً بحضرة الأسد، فأكله الأسد، فعندنا مباشر ومتسبب، المباشر هو الأسد، والمتسبب هو الذي ألقى الرجل مكتوفاً بحضرة الأسد، فالضمان هنا على المتسبب؛ لأن المباشر لا يمكن تضمينه، كذلك إذا كان المباشر غير معتدٍ، وكان المتسبب هو المعتدي، وكانت المباشرة مبنية على ذلك السبب، فإن الضمان يكون على المتسبب، وذلك مثل لو شهد جماعة على شخص بما يوجب قتله، فقتله السلطان، ثم بعد ذلك رجعوا، وقالوا: عمدنا قتله، فهنا المباشر السلطان والمتسبب هم الشهود، لكن المباشر قد بنى مباشرته على مسوِّغ شرعي، وهو شهادة الشهود، ولا يمكنه أن يتخلص من هذه الشهادة الموجبة للقتل، وهذا السبب هو الذي أقر على نفسه بالجناية، فيكون الضمان على المتسبب
والحال الثالثة: إذا كان المباشر لا يمكن تضمينه؛ لعدم تكليفه، فالضمان يكون على المتسبب، كمن أمر غير مكلف بالقتل، فالضمان على الآمر؛ لأنه هو السبب، وهنا المباشر غير مكلف فلا يمكن تضمينه؛ لأنه لا قصد له، ولولا أمر هذا الإنسان ما قتل.
[*](والخلاصة أن القاعدة في موجب الدية، إما مباشرة أو سبب، وهذه القاعدة يتفرع عليها المسائل التالية:
الأولى: أن يجتمع مباشران، فعليهما الدية.
الثانية: أن يجتمع متسببان فعليهما الدية.
الثالثة: أن يجتمع متسبب ومباشر، فالضمان على المباشر إلا في ثلاث مسائل:
الأولى: أن لا يمكن إحالة الضمان على المباشر بأي حال من الأحوال، بأن كان المباشر غير أهل للتضمين كالمثال الأول.
الثانية: إذا كانت المباشرة مبنية على سبب يسوغ شرعاً العمل به، كالمثال الثاني.
الثالثة: إذا كانت المباشرة مبنية على السبب، وكان لهذا السبب تأثير قوي فيها، مع عدم صحة القصد منها، كالمثال الثالث.(3/107)
مسألة : لماذا تُسمى الدية بالعقل ؟
أصل ذلك أن القاتل كان يجمع الدية من الإبل فيعقلها (أي يشد عقالها) بفناء أولياء المقتول ليسلمها إليهم .
مسألة : ما الدليل على وجوب الدية ؟
الدليل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مّسَلّمَةٌ إِلَىَ أَهْلِهِ إِلاّ أَن يَصّدّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مّسَلّمَةٌ إِلَىَ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّؤْمِنَةً فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً) [سورة: النساء - الآية: 92]
ومن السنة(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقاد وإما أن يُفدى» ، أي: إما أن يقاد للمقتول، وإما أن تؤدى ديته.
وقوله : «بخير النظرين» صريح بأن الخيار لأولياء المقتول؛ لقوله: «من قتل له قتيل» وعلى هذا فلا خيار للقاتل، فلو قال القاتل: اقتلوني، أنا أريد أن يكون المال لورثتي، فلا خيار له، بل الخيار لأولياء المقتول؛ وذلك لأن هذا الجاني معتدٍ ظالم فلا يناسب أن يعطى خياراً، وأما أولياء المقتول فقد اعتدي عليهم، وأهينت كرامتهم بقتل مورثهم، فكان لهم الخيار .
مسألة : دية القاتل العمد هل هي عليه أم على عاقلته ، وهل هي حَالَّةً أم مؤجلة ؟
دية القاتل العمد عليه وليس على عاقلته فتجب في ماله ولا تتحملها العاقلة لأنها عِوضٌ عن نفسه ولأنه هو الذي جنى وهذا ما يقتضيه الأصل والله تعالى يقول: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ) [سورة: فاطر - الآية: 18](3/108)
وتكون حَالَّةً (غير مؤجلة)لأنها جناية لا تستحق الرأفة ، والدية فيها مغلظة .
فإذا كان القاتل فقيراً فإنها تبقى في ذمته حتى يوسر الله عليه، كسائر ديونه.
مسألة : هل يجوز دفع الزكاة إلى من تلزمه الدية ؟
الجواب: نعم؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {{وَالْغَارِمِينَ}} وهو غارم، ولكن يجب أن يتوب إلى الله مما صنع، فإذا علمنا توبته فإننا نقضي دينه من الزكاة.
مسألة : ما هي العاقلة ؟
العاقلة : هي عصبة الإنسان وهم [أقاربه البالغون من جهة الأب]
وعلى هذا فإن أصحاب الفروض ليسوا من العاقلة .
مسألة : دية القاتل شبه العمد والخطأ هل هي عليه أم على عاقلته ، وهل هي حَالَّةً أم مؤجلة ؟
دية القاتل شبه العمد والخطأ على عاقلته وتُؤجل بثلاث سنوات .
لأن ذلك من باب المواساة للقاتل تخفيفاً عنه لأنه معذور بخلاف العامد فإنه لا عذر له فلا يستحق التخفيف .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ، فقضى أن دية جنينها غرَّة، عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها .
فهذا القتل ليس عمداً ولا خطأً، ولكنه وسط بينهما؛ لأنك إن نظرت إلى تعمد الفعل ألحقته بالعمد، وإن نظرت إلى أن الجناية لا تقتل ألحقته بالخطأ، فجعله العلماء مرتبة بين مرتبتين، وسمَّوْه شبه العمد .
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه قال وزادنا خليل عن بن راشد وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في عميا في غير ضغينة ولا حمل سلاح .
مسألة : هل تأجيل الدية إلى ثلاث سنوات في الخطأ وشبه العمد واجب؟
هذا مروي عن عمر رضي الله عنه وقول عمر رضي الله عنه محتمل لأمرين : إما لأن يكون حكماً في قضية أو رأياً رآه(3/109)
والدليل إذا طرقه الإحتمال بطل به الإستدلال ، ثم إن ظاهر حديث أبي هريرة السابق في المرأتين من هذيل اللتين اقتتلتا أن النبي ( لم يؤجل الدية ، وعلى هذا فالتأجيل لا يلزم وإنما هو راجع إلى اجتهاد الحاكم فإن رأى التأجيل ـ كما لو كان العاقلة فقراء _ فعليه أن يؤجل وإلا فلا يؤجل .
بَابُ مَقَادِيرِ دِيَاتِ النَّفْسِ
مسألة : ما هي دية القتل العمد ؟
دية القتل العمد مغلظة وهي : [ ثلاثون حقة و ثلاثون جذعة و أربعون خلفة]
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :من قتل متعمد دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا و إن شاءوا أخذوا الدية و هي ثلاثون حقة و ثلاثون جذعة و أربعون خلفة و ما صولحوا عليه فهو لهم .
مسألة : ما هي بنت مخاض ، بنت لبون ، حقة ، جذعة ؟
بنت مخاض» بنت المخاض هي بكرة لها سنة، سميت بذلك؛ لأن أمها تكون ماخضاً في الغالب، أي: حاملاً.
بنت لبون» أي: بكرة لها سنتان؛ لأن أمها صارت ذات لبن غالباً.
حقة» وهي بكرة لها ثلاث سنوات، سميت حقة؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.
جذعة» هي بكرة تم لها أربع سنوات.
مسألة : ما الدليل على أن دية القتل شبه العمد مغلظة مثل العمد؟
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال :عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في عميا في غير ضغينة ولا حمل سلاح .
مسألة : ما هو الدليل على أن دية الخطأ مخففة ؟
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي ) أن النبي ( قال :من قُتِلَ خطأً فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض و ثلاثون بنت لبون و ثلاثون حقة و عشرة بني لبون .
مسألة : ما هي ديات الأعضاء ؟
فصل الخطاب في ديات الأعضاء كما يلي :(3/110)
يوجد في الإنسان من الأعضاء ما منه عضوٌ واحد كالأنف واللسان والذكر ، ويجد فيه ما منه عضوان كالعينين والأذنين واليدين والرجلين ، ويوجد ما هو أكثر من ذلك ،
فإذا أتلف إنسانٌ من إنسان ما منه عضوٌ واحد كالأنف واللسان ففيه الية كاملة ، وإذا أتلف إنسانٌ من إنسان ما منه عضوان كالعينين والأذنين واليدين ففيه نصف الدية وهكذا .
فتجب الدية كاملة في العينين والأنف ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، وفي أصابع اليدين والرجلين الدية كاملة ، وفي كل أصبع عشرٌ من الإبل .
( حديث أب عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :
في الأنف الدية إذا استوفى جدعه مائة من الإبل و في اليد خمسون و في الرجل خمسون و في العين خمسون و في الآمة ثلث النفس و في الجائفة ثلث النفس و في المنقلة خمس عشرة و في الموضحة خمس و في السن خمس و في كل إصبع من هنالك عشر .
( في الأنف الدية إذا استوفى جدعة مائة من الإبل )
(وفي اليد خمسون)
(وفي الآمة ثلث النفس وفي الجائفة ثلث النفس ) هي الطبقة التي تنفذ إلى الجوف يقال جفته إذا أصبت جوفه واجفته الطعنة وجفته بها والمراد بالجوف هنا كل ما له قوة محيلة كبطن ودماغ
( وفي المنقلة خمس عشرة ) أي ما ينقل العظم عن موضعه
( وفي الموضحة خمس وفي السنّ خمس وفي كل أصبع مما هنالك عشر).
مسألة : لو أتلف إنسانٌ من إنسانٍ إحدى الكليتين فما مقدار الدية فيها ؟
أتلف إنسانٌ من إنسانٍ إحدى الكليتين ففيها نصف الدية، وفي كلتيهما الدية كاملة، جرياً على القاعدة [إذا أتلف إنسانٌ من إنسان ما منه عضوان كالعينين والأذنين واليدين ففيه نصف الدية].
مسألة : لو أتلف إنسانٌ من إنسانٍ خصيتا الرجل فما مقدار الدية فيها ؟
خصيتا الرجل، فإن قطعتا جميعاً ففيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية.
مسألة : لو أتلف إنسانٌ من إنسانٍ المنخرين فما مقدار الدية فيها ؟(3/111)
في المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز بينهما ثلثها» المنخران سمِّيا بذلك؛ لأنه يخرج منهما النَّخَر، والحاجز بينهما معلوم، والجميع يُسمَّى مارناً، ومارن الأنف ما لان منه.
فالمارن يشتمل على ثلاثة أشياء:[ المنخرين، والحاجز بينهما ].
فإذا قطع منخراً فعليه ثلث الدية، ثلاثة وثلاثون بعيراً وثلث بعير، وإن قطع المنخر الثاني فعليه ستة وستون بعيراً وثلثا بعير، وإن قطع الحاجز بينهما فعليه مائة بعير، وإن قطع الحاجز وحده فعليه ثلث الدية .
وهذا بناءً على القاعدة السابقة أن ما في الإنسان منه واحد ففيه الدية كاملة .
مسألة : ما المقصود بمنافع الأَعْضَاءِ ؟
لكلِ عضوٍ من الأعضاء منفهة خاصة ووظيفةٍ خاصة ،
فمثلا ًمنفعة السمع : لكي يسمع به
ومنفعة البصر : لكي يبصر به
ومنفعة أنف : لكي يشم به
ومنفعة الكلام : لكي يتكلم به
ومنفعة الذكر : لكي ينكح به
فإذا ذهبت أي منفعة من أعضاء الإنسان الذي ينتفع بها كالسمع والبصر والشم والكلام والنكاح ففي كل منفعة الدية كاملة .
لقضاء عمر رضي الله عنه في رجلٍ ضرب رجلاً فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله فقضى بأربع ديات والرجل حي ، ولا يُرف له مخالف من الصحابة .
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على حاسة السمع فما الحكم ؟
إذا صار المجني عليه لا يسمع، وإن بقيت الأذن، فتجب الدية كاملة
فإن نقص السمع فحكومة؛ لأنه لا يمكن تقدير السمع.
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على حاسة البصر فما الحكم ؟
إذا صار المجني عليه لا يبصر ، وإن بقيت العين، فتجب الدية كاملة
فإن ضعف البصر فحكومة؛ لأنه لا يمكن تقدير البصر.
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على حاسة الشم فما الحكم ؟
إذا جنى عليه حتى أذهب شمه، فعليه دية كاملة.
«والشم» وأصله في الدماغ، وطريقه الأنف، فإذا جنى عليه حتى أذهب شمه، فعليه دية كاملة .
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على عقل إنسان فما الحكم ؟(3/112)
إذا جنى عليه حتى أذهب عقله فعليه دية كاملة، وهذا أشد شيء، فإذا نقص عقله، بأن كان من قبل مِن أذكى الناس، ثم خفَّ ذكاؤه ففيه حكومة.
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على منفعة المشي فما الحكم ؟
لو جني عليه حتى أذهب منفعة مشيه، كأن شُلَّت رجلاه فأصبح لا يمشي، وهذا يقع كثيراً كما لو ضرب صلبه مثلاً، وفصل المخ حتى صار لا يتصل بالأسفل فعليه دية كاملة؛ لأنه أذهب منفعة لا نظير لها في الجسم.
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على منفعة النكاح فما الحكم ؟
إذا جني عليه حتى صار لا يشتهي النساء، أو يشتهي ولكنه لا يستطيع الجماع، كأن يصير عنيناً، أو يجامع ولكن لا ينزل، أو ينزل ولكنه لا يلقح، فإذا أفسد واحدة من هذه الأربع ففيه الدية كاملة.
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على منفعة استمساك البول فما الحكم ؟
إذا جنى عليه حتى صار لا يستطيع إمساك البول فعليه دية كاملة؛ لأنه أتلف منه منفعة ليس في جسمه منها إلا شيء واحد.
مسألة : لو أن إنسان اعتدى على منفعة استمساك الغائط فما الحكم ؟
إذا جنى عليه حتى صار لا يستطيع إمساك الغائط كأن يضربه على صلبه ويرتخي، فلا يستطيع إمساك الغائط، فعليه دية كاملة فعليه دية كاملة؛ لأنه أتلف منه منفعة ليس في جسمه منها إلا شيء واحد.
، وكذلك إذا جنى عليه حتى صار لا يمسك الريح فعليه دية كاملة.
مسألة : ما هي الشجة وما أنواعها ؟
«الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة» هذا هو تعريف الشجة، وإنما يتلقى معناها ومدلولها من العرب، والعرب لا يسمون شجة ما كان جرحاً في ساق، أو فخذ، أو صدر وغيره.
[*](والشجة عشرة أنواع :
خمسة فيه حكومة وخمسة فيها دية معلومة .
مسألة : ما هي الخمسة التي فيها حكومة ؟
(الخمسة التي فيها حكومة هي :
(1)الحارصة التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً ولا تدميه» ، فهي سهلة جداً كحكة الظفر.
((3/113)
2) البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم» «البازلة» من البزل وهو الشق، ومنه البزول التي يفعلونها في النخيل، فيشققون في النخيل شقاً لأجل أن يتسرب عنه الماء المالح، فالبازلة سميت دامية؛ لأنه ظهر منها الدم.
وسميت دامعة؛ لأنه يسيل منها الدم تشبيهاً بدمع العين، حتى لو كان الدم قليلاً كنطفة فهي بازلة ما دام أن الدم قد سال.
(3)ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم» أي: تجاوزت الجلد إلى اللحم وبضعته، أي: شقته.
(4)«ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم» سميت بذلك لغوصها في اللحم، فكأنها صارت جزءاً منه.
(5) «ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة» السمحاق أصلها القشرة التي بين اللحم والعظم، وهي القشرة البيضاء، فسميت الشجة باسم هذه القشرة؛ لأنها وصلت إليها.
وهذه الشجاج يرجع فيها إلى أهل الخبرة، وأهل الخبرة عندهم مسبار، وهي آلة يسبرون بها مقدار الجرح ويعرفونه تماماً.
قوله: «فهذه الخمس لا مقدّر فيها بل حكومة» أي: ليس فيها شيء مقدر من الدية، بل فيها حكومة، فإذا طالب المجني عليه بدية، فليس له إلا حكومة.
مسألة : ما هي الحكومة ؟
والحكومة: أن نقدر هذا الذي جُني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم نقدره كأنه عبد بريء منها، فما بين القيمتين له مثل نسبته من الدية.
فإذ قدّرنا أن قيمته عشرة الآف ريال لو كان عبداً بدون جناية، وهو بالجناية وقد برئت يساوي تسعة الآف وخمسمائة، فديته نصف العشر ـ أي: خمس من الإبل ـ فيكون في الجناية خمس من الإبل.
مسألة : ما هي الشجاج الخمس الأخرى التي فيها دية معلومة ؟
الشجاج الخمس الأخرى التي فيها دية معلومة هي كما يلي :
(1) الموضحة : وهي تصل إلى العظم و توضحه وتبرزه ، وفيها خمسٌ من الإبل .
(2) الهاشمة : وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة من الإبل .
(3) المنقلة : وهي ما توضح العظم، وتهشمه، وتنقل عظامها، وفيها خمس عشرة من الإبل» هذه أشد من التي قبلها
((3/114)
4) المأمومة: هي التي توضح وتهشم وتكسر العظام، وتنقلها وتصل إلى أم الدماغ، وأم الدماغ هي الوعاء الذي فيه المخ، فيها ثلث الدية
(5 ) الدامغة : وهي التي تخرق جلدة الدماغ، وهي أشد من المأمومة وفيها ثلث الدية.
( حديث أب عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :
في الأنف الدية إذا استوفى جدعه مائة من الإبل و في اليد خمسون و في الرجل خمسون و في العين خمسون و في الآمة ثلث النفس و في الجائفة ثلث النفس و في المنقلة خمس عشرة و في الموضحة خمس و في السن خمس و في كل إصبع من هنالك عشر .
(الآمة) : أي المأمومة
مسألة : ما هي دية الذمي ؟
دية الذمي نصف دية المسلم
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين .
(عقل) : أي دية
( عقل أهل الذمّة نصف عقل المسلمين ) أي دية الذميين كنصف المسلمين قال القاضي : العقل الدية سميت به لأن إبلها تعقل بفناء ولي الدم أو لأنها تعقل دم القاتل عن السفك .
مسألة : ما هي دية الجنين ؟
دية الجنين : الغُرَّة [ عبدٌ أو أمة]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال :اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ، فقضى أن دية جنينها غرَّة، عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها .
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي والنسائي ) قال : قضى رسول الله ( في المكاتب يُودِى بقدر ما أدى من مكاتبته دية الحر وما بقي دية العبد .
مسألة : ما هي القسامة؟
القسامة : مأخوذة من القسم وهو اليمين
والقسامة شرعاً: (َيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ فِي دَعْوَى قَتْلِ مَعْصُومٍ) وهذه الأيمان قد تكون من المدعى وقد تكون من المدعى عليه .
((3/115)
صفة القسامة) أن يدعي قومٌ أن مورِّثَهم قتله فلان، ويحلفون على أنه هو القاتل، ويكررون الأيمان، فإذا فعلوا ذلك وتمت شروط القسامة أُعطي المدَّعَى عليه لهؤلاء يقتلونه، فليس فيها بيِّنة، وإنما فيها هذه الأيمان فقط .
ويظهر تعريفها بالمثال:
ادعى ورثة زيد على شخص بأنه هو الذي قتل مورثهم، فقال الشخص: لم أقتله، وقالوا: بل أنت القاتل، ثم تحاكموا إلى القاضي، فقال لهم: أتحلفون على هذا أنّه قتل مُورِّثكم؟ قالوا: نعم، نحلف، فإذا حلفوا خمسين يميناً على هذا الرجل أنه قاتل مورثهم، أُخذ وقتل.
وقد كانت القسامة معروفة في الجاهلية، فأقرها النبي على ما كانت عليه في الجاهلية ، وهذا دليل على أن المعاملات التي عند الكفار إذا كانت موافقة للشرع فإنه يؤخذ بها، كما أن المضاربة في الأموال كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام.
{ تنبيه } :( وأصل القسامة أن عبد الله بن سهل بن زيد الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ خرج هو ومُحَيِّصة بن مسعود بن زيد الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ في جماعة إلى خيبر بعد أن فتحت، يمتارون ـ أي: يشترون ـ التمر، فتفرقوا وكلٌّ ذهب إلى حائط ونخل، فوجد محيصةُ عبدَ الله بن سهل يتشحَّط في دمه قتيلاً، فقال لليهود: قتلتم صاحبنا، فقالوا: ما قتلناه، فرفع الأمر إلى النبي فقال: أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟
وفي رواية: تحلفون على رجل منهم أنه قتله، فقالوا: يا رسول الله كيف نحلف ونحن لم نر ولم نشهد؟! فأخبرهم أن اليهود يحلفون خمسين يميناً، فقالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فوداه النبي من عنده، وهذا دليل على أنهم لو حلفوا لملكوا قتله.
مسألة : ما الدليل على مشروعية القسامة ؟
((3/116)
حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن عبد الله بن سهل ومُحَيِّصَة بن مسعود خرجا إلى خيبر، فأتى مُحَيِّصَة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه ، فأتى يهود فقال : أنتم قتلتموه فقالوا : لا .فقال رسول الله (: (أتحلفون وتستحقون دمَ صاحبكم؟). قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: (تبرئكم يهود بخمسين يمينا). فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار ؟ فودَّاه بمائةٍ من الإبل.
مسألة : ما معنى فودَّاه بمائةٍ من الإبل ؟
ودَّاه : أي دفع ديته مائةٍ من الإبل من بيت المال لأنه لا ينبغي لدمه أن يذهب هدر .
مسألة : ما هي شروط القسامة ؟
شروط القسامة ثلاثة :
(1) اللوْث : والمقصود باللوْث وجود عداوة بين القاتل والمقتول [ سواء كانت العداوة ظاهرة أم غير ظاهرةٍ على الصحيح ]
ومثال العداوة الظاهرة : مثل أن تكون هذه القبيلة عدوة لهذه القبيلة ، ومثال العداوة الباطنة مثل أن يكون شخصٌ عدو عدو لشخص .
(2) أن يكون المُدعى عليه القتل مكلفا :
( حديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
(3) إمكان القتل من المُدعى عليه فإن لم يمكن منه القتل كأن كان بعيداً عن مكان الحادث لم تُسمع الدعوى عليه .
مسألة : ما هي الحدود لغةً وشرعا ؟
«الحدود» جمع حد، وهو في اللغة المنع
وشرعا : هي العقوبة المقدرة شرعاً في معصية؛ لتمنع من الوقوع في مثلها، وتكفر ذنب صاحبها.
مثال ذلك: رجل زنا، فيجب أن نجلده مائة جلدة، فهذا الجلد عقوبة مقدرة من الله ـ عزّ وجل ـ.
[*](والحكمة في ذلك:
أولاً: الردع لأجل ألا يفعلها هو، أو غيره مرة ثانية.
ثانياً: التطهير والكفارة، فإن الإنسان إذا فعل ذنباً وحُدَّ عليه كفر الله عنه، فلا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة.
مسألة : ما حكم إقامة الحدود ؟(3/117)
إقامة الحدود واجبة بالكتاب، وبالسنة، والإجماع.
قال تعالى: {{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}}، والأمر للوجوب {{نَكَالاً مِنَ اللَّهِ}} حتى لا يجترئ أحد على السرقة بعد ذلك {{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}} ختمها بالعزة حتى يكون له السلطان ـ عزّ وجل ـ {{حَكِيمٌ}} [المائدة: 38] حتى لا يقال: إن هذا سفه، لماذا تقطع يده من أجل ربع دينار؟! ولو قطعها جانٍ لكانت الدية خمسمائة دينار؟ قلنا: نعم، إذا سرقت قطعت في ربع دينار، وإن قُطعت في جناية سُلِّمت خمسمائة دينار، حماية للأموال في قطعها بربع دينار، وحمايةً للنفوس في وجوب خمسمائة دينار في قطعها.
وقال تعالى: {{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}} [النور: 2] فإياك أن تقول: هذا شيخ كبير، نجلده مائة جلدة!! وهذا إن لم يتزوج، وأما إذا تزوج فالحجارة، فلا تقل: أرحمُهُ، بل قل: لا أرحمُهُ؛ [ لأن من هو أرحم مني أمر بجلده، ونهاني أن أرأف به ]، فقال: {{وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}} [النور: 2] .
[ فإن هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخرفلا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى النكراء أشنع من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة ] .
فإذا قال: اجلدوه في بيته حتى لا يطلع عليه أحد، قلنا: قال تعالى: {{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}}، والذي شرع هذه الحدود الله، وهو أرحم من الخلق جميعاً، فهو أرحم من الوالدة بولدها؛ لأن في إقامة الحدود مصالح عظيمة لا تحصى، ففيها ردع وتطهير.(3/118)
وقال تعالى في قطاع الطريق: {{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ}} [المائدة: 33] «إنما» أداة حصر، يعني ما جزاؤهم إلا هذا.
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين موقوفا ) قال : لقد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البيِّنة، أو كان الحمل أو الاعتراف .
وما أنكر عليه الناس أبداً بل أقروه؛ لأنها فريضة من فرائض الله يجب أن تنفذ.
ولو أن إنساناً كريماً، وشريفاً، وطيباً، ومن عائلة طيبة، سوَّلت له نفسه أن يسرق ربع دينار، وثبت عليه ذلك، فالواجب أن يقام عليه الحد، فيقام الحد على الشريف، وعلى الوضيع، وعلى الغني، والفقير، والذكر، والأنثى، والحر، والعبد، لا فرق؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ لم يفرق، فما دام سرق فهذا جزاؤه؛ بل لو قال قائل: إن سرقة هذا الشريف لولا أن الله حدَّ حداً، لقلنا: تقطع يده ؛ لأنه شريف، فتدنُّسُهُ بالسرقة أعظم من تدنُّس الوضيع، ولهذا فَزِنا الأشيمط واستكبار الفقير أشد من زنا الشاب، واستكبار الغني، فهذا الرجل الشريف كيف يسرق، أو كيف يزني؟! فلا تجوز الشفاعة في الحدود بأي حال
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن قريشاً أهمَّتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول الله ، ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حِبُّ رسول الله ، فكلَّم رسول الله ، فقال: (أتشفع في حد من حدود الله). ثم قام فخطب، قال: (يا أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).
((3/119)
حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي ) أن النبي ( قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب .
( تعَافَوُا الحدود ) بفتح التاء وضم الواو بغير همز ( فيما بينكم ) أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إليَّ
( فما بلغني من حد ) أي ثبت عندي
( فقد وجب ) عليَّ إقامته والخطاب لغير الأئمة يعني أن الحدود الذي بينكم ينبغي أن يعفوها بعضكم لبعض قبل أن تبلغني فإن بلغتني وجب عليَّ أن أقيمها .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله و ليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله .
مسألة : ما الحكمة من تشريع الحدود ؟
[*](الحكمة من تشريع الحدود :
أولاً: الردع لأجل ألا يفعلها هو، أو غيره مرة ثانية.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : عن النبي قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).
ثانياً: التطهير والكفارة، فإن الإنسان إذا فعل ذنباً وحُدَّ عليه كفر الله عنه، فلا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة.
((3/120)
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه). فبايعناه على ذلك.
...
مسألة : ما هو فضل إقامة الحدود ؟
[*](إقامة الحدود لها فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم ، والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على فضل إقامة الحدود، وإليك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في السنة الصحيحة في فضل إقامة الحدود .
(1) بينت السنة الصحيحة أن حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي النسائي وابن ماجة ) أن النبي ( قال :حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا .
( حدُّ يعمل في الأرض ) أي يقام على من استوجبه
( خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً ) .
(2) إقامة الحدود فيها النجاة للمجتمع كله :
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : عن النبي قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).
(3) إقامة الحد فيه التطهير والكفارة، فإن الإنسان إذا فعل ذنباً وحُدَّ عليه كفر الله عنه، فلا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة.
((3/121)
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه). فبايعناه على ذلك.
مسألة : هل يستحب أن يستر مرتكب ما يوجب الحد على نفسه ؟
يستحب أن يستر مرتكب ما يوجب الحد على نفسه بنص السنة الصحيحة
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألمَّ بشيءٍ منها فليستتر بستر الله و ليتُبْ إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله .
( اجتنبوا هذه القاذورات ) جمع قاذورة وهي كل قول أو فعل يستفحش أو يستقبح لكن المراد هنا الفاحشة يعني الزنا لأنه لما رجم ماعزاً ذكره سميت قاذورة لأن حقها أن تتقذر فوصفت بما يوصف به صاحبها أفاده الزمخشري
( التي نهى الله عنها ) أي حرمها
( فمن ألمَّ بشيء منها) بالتشديد أي ارتكب شيئاً منها
( فليستتر بستر الله وليتب إلى الله ) بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود
( فإنه من يبد لنا صفحته ) أي ظهر لنا فعله الذي حقه الإخفاء والستر وصفحة كل شيء جانبه ووجهه وناحيته كنى به عن ثبوت موجب الحد عند الحاكم
( نقم ) نحن معشر الحكام
( عليه كتاب الله ) أي الحد الذي حده الله في كتابه والسنة من الكتاب فيجب على المكلف إذا ارتكب ما يوجب لله حداً الستر على نفسه والتوبة فإن أقر عند حاكم أقيم عليه الحد أو التعزير ، وعلم من الحديث أن من واقع شيئاً من المعاصي ينبغي أن يستتر وحينئذ فيمتنع التجسس عليه لأدائه إلى هتك الستر.
مسألة : ما هي شروط وجوب الحَد ؟
[*](لا يجب الحد إلا بشروط:(3/122)
أولاً: يجب أن يكون بالغاً، فلا يجب الحد على من دون البلوغ، والبلوغ يحصل بواحد من أمور ثلاثة: إما بإنزال المني، وإما بإنبات العانة، وإما بتمام خمس عشرة سنة .
فإذا بلغ الإنسان فإنه ينظر في بقية الشروط حتى يقام عليه الحد، وأما من دون البلوغ فلا حد عليه، ولو زنا أو سرق ( لحديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
والتعليل؛ لأنه ليس أهلاً للعقوبة لعدم صحة القصد التام منه؛ لأنه ناقص في التصور، وناقص في التصرف، ولهذا منع الله من إتيانهم أموالهم حتى لا يضيعوها، ولكن لا يعني ذلك أن الصغير لا يُعزَّر، بل يعزر، والتعزير غير الحد، ولهذا قال ( : «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر» فأمر بضربهم قبل البلوغ، فالتعزير شيء وإقامة الحد شيء آخر، وعلى هذا فلو أن صغيراً فعل الفاحشة فلا نقول: هذا صغير، لا يجب عليه الحد، اتركوه، بل لا بد أن يعزر بما يردعه وأمثالَه عن هذه الفِعلة، وكذلك ـ أيضاً ـ لو سرق فإنه لا يُترك، بل لو أفسد شيئاً دون ذلك فإنه لا يُترك بدون تعزير.
ثانيا : يجب أن يكون عاقلا ( لحديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
ولأنه ليس له قصد تام يعرف به ما ينفعه ويضره، فيُقْدِم أو يحجم، وهل يعزَّر؟(3/123)
الجواب: لا يعزر؛ لأنه لو عزر ما انتفع، لكن لا نتركه يفسد أموال الناس، ويحرق الدكاكين، بل لا بد أن يمنع ولو بالحبس، إما عند وليه، وإما في الحبس العام، فالمهم أنه لا يترك والفساد؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}} [المائدة: 64] ، ويقول: {{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ }} [البقرة:205] ، فالذي لا يحبه الله لا يجوز لنا أن نمكن منه أبداً.
فكل فساد للدين أو للدنيا فإنه يجب على ولاة الأمور، ومن قدر من غير ولاة الأمور أن يمنع منه؛ لأن الله لا يحبه، فإذا كان لا يحبه الله فكيف نمكن منه؟!
ثالثا : يجب أن يكون ملتزماً لأحكام الإسلام، سواء كان مسلماً أم كافراً، والملتزم هو المسلم والذمي فقط، وهو غير المعصوم، فالمعصوم تقدم أنهم أربعة أصناف: المسلم، والذمي، والمعاهَد، والمستأمِن، أما الملتزم فصنفان فقط، وهما المسلم والذمي؛ لأن الذمي ملتزم بأحكام الإسلام، لكنه لا يقام عليه الحد إلا فيما يعتقد تحريمه، أما ما يعتقد حله فلا يقام عليه الحد، ولو كان حراماً عند المسلمين، ولهذا لا نقيم عليهم الحد في شرب الخمر، ونقيم عليهم الحد في الزنا؛ لأن الزنا محرم بكل شريعة، فليس في الشرائع شيء يبيح الزنا أبداً، وعلى هذا فإذا زنا الذمي بامرأة مثله ليست من المسلمين، يهودية، أو نصرانية، فإننا نقيم عليه الحد؛ لأن الحد فيه علتان: المنع من الوقوع في مثلها، والتكفير، فإذا كان هذا ليس أهلاً للتكفير، فهناك العلة الثانية وهي المنع، ولهذا أقام النبي الحد على اليهوديين اللذين زنيا ؛ لأنهم يعتقدون تحريمه.(3/124)
رابعاً يجب أن يكون عالماً بالتحريم : ولكن كيف نعلم أنه جاهل، أو عالم بالتحريم؟ لأننا إذا قلنا: يشترط أن يكون عالماً بالتحريم، صار كل واحد من الناس يقول: إنه ليس عالماً بالتحريم، ويقول: ما علمت أن السرقة حرام، وما علمت أن الزنا حرام، فهنا يُنْظَر، إن كان قد عاش في بلاد الإسلام، فإن دعواه الجهل بالأمور الظاهرة لا تقبل، ولا تسمع منه، وأما إذا كان حديث عهد بالإسلام، أو كان ناشئاً في بادية بعيدة، لا يعرف شيئاً عن أحوال المسلمين، فإننا نقبل منه دعوى الجهل، فإذا كان مثله يجهله قبلنا دعواه بالجهل، ورفعنا عنه الحد، فإن شككنا في هذا الأمر، هل هو ممن يجهل مثل ذلك، أو لا؟ فالأصل عدم العلم، فلا نقيم عليه الحد؛ لأنه لا بد أن يتحقق الشرط، وهو أن يكون عالماً بالتحريم .
خامساً أن يكون مختارا فإن أُكره فلا حد عليه .
(حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
مسألة : هل يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة؟
لا يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة، فلو قال الرجل المحصن الذي زنا: إنه لو علم أن حده الرجم ما زنا أبداً، لكنه ظن أن المسألة جلد فقط، وهو يصبر على الجلد فإننا نرجمه؛ لأنه لا يشترط العلم بالعقوبة، فإذا كان عالماً بالتحريم فمعنى ذلك أنه رضي بأن ينتهك حرمات الله، والله ـ عزّ وجل ـ قد أوجب العقوبة على هذا الفاعل لهذه المعصية، ولا عذر له.
مسألة : من الذي يُقيم الحد ؟
الذي يُقيم الحد هو الإمام أو نائبة ( والإمام هو الرئيس الأعلى للدولة) لأنه تجوز المكالة في الحدود
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال:(واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها).
[*](ومن الآداب أن ينوي الإمام بإقامة الحد أموراً ثلاثة:(3/125)
أولاً: الامتثال لأمر الله ـ عزّ وجل ـ في إقامة الحدود؛ لأن هذا مما أوجب اللهُ على العباد، ولا ينوي بذلك التشفي أو الانتصار.
ثانياً: ينوي دفع الفساد؛ لأن هذه المعاصي لا شك أنها فساد، والله تعالى ما أمر بإقامة الحدود على فاعلها إلا لدفع فسادهم وفساد غيرهم المنتظر، إذا لم يُقَم عليهم الحد.
ثالثاً: إصلاح الخلق، ومن بين الخلق الذين يصلحهم، هذا المجرم الذي يقيم عليه الحد، فينوي إصلاحه، وأن الله ـ تعالى ـ يغفر له ما سلف.
مسألة : هل تُقام الحدود في المساجد ؟
لا تُقام الحدود في المساجد
(لحديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : لا تقام الحدود في المساجد و لا يقتل الوالد بالولد .
( لا تقام الحدود في المساجد ) صيانة لها وحفظ لحرمتها فيكره ذلك تنزيهاً لها
ويجوز في مكان العمل، كما لو كانوا في دائرة وأقام الحد عليه في الدائرة، لكن لا بد أن يشهده طائفة من المؤمنين، ولكن الأفضل والأولى أن يكون في مكان عام، بمعنى أنه يأتي إليه كل أحد، كالسوق، ومجالس الناس، وما أشبه هذا.
ولهذا فإن ماعز بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال الرسول : «اذهبوا به فارجموه» فرجمه الناس علناً ظاهراً، وكان شارب الخمر يؤتى به، والناس يضربونه باليد، والجريد، والنعل، وبالرداء
، فيكون ظاهراً؛ لأننا ما دمنا نقول: إنَّ المراد رَدْعٌ لهذا وغيره، فإنه إذا كان في دائرته، أو مدرسته، أو ما أشبه ذلك، فيقل هذا بالنسبة لغيره، ، لكن في المسجد لا يجوز؛ لأن النبي قال للأعرابي الذي بال في المسجد: «إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، والصلاة» ، فالمساجد مبنية للذكر، والطاعة، وليست لإقامة الحدود، وأيضاً لأنه إذا أقيم عليه الحد في المسجد فربما يحصل منه أذى، مثل أن يرتاع ثم يحدث، وأيضاً ربما يحصل منه صراخ وكلام لا ينبغي ولا يليق بالمسجد؛ فلهذا يمتنع إقامة الحد في المسجد بالدليل والتعليل.(3/126)
مسألة : من مات في حدٍ فهل على مباشر الحدود الدية ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
(1) إن لم يتعدَ مباشر الحدِ الصفة المشروعة في إقامة الحد فإن دمه هدر ولا ضمان عليه لأنه لأتى به على الوجه المشروع بأمر الله تعالى وأمر رسوله ( ، فمن مات في حدٍ فالحق قتله .
(2) أما إذا تعدى الوجه المشروع في إقامة الحد ثم تلف المحدود فإنه يضمنه بديته لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو ضربه في غير الحد .
مسألة : ما هي الجنايات التي تجب فيها الحدود ؟
الجنايات التي تجب فيها الحدود خمس [ الزنى والسرقة وشرب الخمر والقذف وقطع الطريق ] وما عدا ذلك يجب فيه التعذير .
...
مسألة : ما هو الزنا وما حكمه ؟
الزنا فعل الفاحشة في قُبُلِ امرأةٍ لا يملكها، والفاحشة كل جماع محرم؛ لأن الجماع المحرم فاحشة مستفحشة في جميع العقول، فما من أحد من بني آدم إلا ويستفحش عقلُه هذا الفعل المنكر الشنيع .
حكم الزنا : حرام وهو من كبائر الذنوب وفواحش العيوب بالكتاب والسنة والإجماع
قال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَىَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً) [سورة: الإسراء - الآية: 32]
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : سألت النبي : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك). قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تزاني بحليلة جارك).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن .
مسألة : ما معنى حد الزنا ؟
معنى حد الزنا : أي عقوبته المقدرة شرعا
مسألة : ما هو حد الزنا ؟
حد الزنا على التفصيل الآتي :
(1) إذا كان الزاني بكراً كان حدَّه جلد مائة وتغريب عام :(3/127)
قال تعالى: (الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة: النور - الآية: 2]
( حديث زيد بن خالد الجُهَني رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : سمعت النبي ( يأمرُ فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة، وتغريب عام.
( حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و نفي سنة و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم .
والتغريب معناه أن ينفى عن بلده لمدة سنة كاملة، والحكمة منه أنه إذا غرب عن هذا المكان الذي وقع فيه الزنا فإنه ربما ينسى ذلك، وأيضاً فإن الغربة توجب أن يشتغل الإنسان بنفسه دون أن يتطلب الشهوة واللذة؛ لأنه غريب، ولا سيما إذا عُلِمَ أنه غُرِّب من أجل الحدّ، فإنه لن يكون لديه فرصة أن يعود إلى هذه المسألة مرة ثانية، ولكن يشترط في البلد الذي يغرب إليه ألا يوجد فيه إباحة الزنا ـ والعياذ بالله ـ فلا يغرب إلى بلاد يمارس أهلها الزنا؛ لأننا إذا غربناه إلى مثل هذه البلاد فقد أغريناه بذلك، فيغرب إلى بلاد عُرف أهلها بالعِفَّة.
(2) وإن كان الزاني مُحْصَنَاَ كان حدَّه الرجم بالحجارة حتى الموت :
ويجب أن تكون الحجارة لا كبيرة تقتله فوراً، ولا صغيرة لا يتألم ولا يتأذى بها، بل تكون كالبيضة أو أقل، وقد علمنا أنه يُتقى الرأس، والوجه، والفرج، والمقاتل، فيضرب بالحجارة إلى أن يموت، فما هو الدليل على هذه القتلة التي قد يستبشعها بعض الناس؟
الدليل من كتاب الله، وسنة ورسول الله ، وعمل الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين.(3/128)
أما كتاب الله ـ عزّ وجل ـ فهو ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن الله أنزل على نبيه القرآن، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها، ووعيناها، وعقلناها، ورجم النبي ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق ثابت في كتاب الله على من زنا إذا أَحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف».
فهذه شهادة من عمر ـ رضي الله عنه ـ على منبر رسول الله بحضور الصحابة ولم ينكره أحد، على أن آية الرجم نزلت في القرآن، قُرئت، ووُعيت، وعُمِل بها في عهد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وفي عهد خلفائه الراشدين، فما لفظ هذه الآية؟
لفظ هذه الآية لا بد أن يكون مطابقاً للحكم الثابت.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : أتى رجل رسول الله وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي فقال: (أبك جنون). قال: لا، قال: (فهل أحصنت). قال: نعم، فقال النبي : (اذهبوا به فارجموه).
مسألة : هل يجمع بين بين الرجم والجلد في حدِّ الزاني المحصن ؟
ثبت في ( حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة و نفي سنة و الثيب بالثيب جلد مائة و الرجم .
إلا أن الراجح في حدِّ الزاني المحصن الرجم فقط بدون جلد فلا يجمع بين الرجم والجلد لأن هذا آخر الأمرين من رسول الله ، فإنه رجم الغامدية ولم يجلدها ، وقال لامرأة الرجل التي زنا بها أجيره: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ، ولم يذكر جلداً.(3/129)
ورجم ماعز بن مالك ولم يجلده ، ولأن الجلد لا داعي له مع وجود الرجم إلا مجرد التعذيب؛ لأن هذا الرجل الذي استحق الرجم إذا رُجم انتهى من حياته، فلا حاجة إلى أن نعذبه أولاً، ثم نرجمه .
مسألة : من مات في حد هل نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه مع المسلمين ؟
الجواب: نعم؛ لأنه مسلم كَفَّر الله عنه الذنب بالحد الذي أقيم عليه، وقد ثبت أن النبي صلَّى على من رجم، وهذا هو الأصل.
مسألة : ما هو المحصن الذي يكون حدّ الزنا في حقه الرجم حتى الموت ؟
الْمُحْصَنُ: مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ الْمُسْلِمَةَ أَوْ الكتابِيَّة ، وَهُمَا بَالِغَانِ، عَاقِلاَنِ.
والدليل على اشتراط الوطئ :
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني و النفس بالنفس و التارك لدينه المفارق للجماعة .
والدليل على اشتراط البلوغ والعقل :
( حديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
مسألة : ما هو حد الرقيق ؟
الرقيق هو المملوك، وضده الحر، فإذا زنا الرقيق فإننا نجلده خمسين جلدة، والدليل قوله تعالى: {{فَإِذَا أُحْصِنَّ}} يعني الإماء {{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}} [النساء: 25] ، والعذاب الذي يتنصَّف على المحصنات هو الجلد؛ لأن الرجم لا يمكن أن يتنصف، والجلد مائة جلدة فيكون عليها خمسون جلدة، فالمرأة واضح أن عليها خمسين جلدة؛ لأنه نصُّ القرآن، لكن الرجل إذا كان رقيقاً وزنا، فما هو الدليل على أنه يجلد خمسين جلدة ؟
الدليل على ذلك قياس الرجل على المرأة؛ لأنه لا فرق، والشريعة لا تأتي بالتفريق بين المتماثلين، وكيف يتم القياس ؟
((3/130)
لأن كلًّا منهما رقيق، والرقيق ليس في نفسه من الشرف والمروءة كما في نفس الحر، وإذا لم يكن عنده من الشرف والمروءة كما عند الحر، فإنه لا يبالي إذا زنا، وهذا تعليل صحيح .
مسألة : هل يُغرَّب الرقيق إذا زنى ؟
لا يُغرَّب الرقيق إذا زنى لأن التغريب فيه إضرار بالسيد؛ لأننا إذا غربناه منعنا سيده من الانتفاع به مدة التغريب، والسيد لا جناية منه، ولأننا إذا غربناه ربما يهرب، ويكون في ذلك إضرار أكثر .
مسألة : المرأة أذا زنت وكانت بكرا ، فهل تُغَرَّب سنة ؟
الصواب : أنه إذا لم يوجد محرم فلا يجوز أن تغرب، لأن المقصود من تغريبها إبعادها عن الفتنة، وإذا غربناها وحدها كان ذلك أدعى للفتنة والشر؛ لأنه ليس معها أحد يردعها، ولأنها إذا غربت بدون محرم ـ ولا سيما إن احتاجت إلى المال ـ فربما تبيع عرضها؛ لأجل أن تأكل وتشرب.
ولكن ماذا نصنع؟
تُحبس في مكان آمن، والحبس هنا يقوم مقام التغريب؛ لأنها لن تتصل بأحد، ولن يتصل بها أحد، وهذا القول وجيه.
مسألة : ما هو حدُّ اللوطي والعياذ بالله ؟(3/131)
اللوطي والعياذ بالله : هو من فعل الفاحشة في دُبُرِ ذَكَرٍ، وسمي لوطياً نسبة إلى قوم لوط؛ لأن قوم لوط ـ والعياذ بالله ـ هم أول من سن هذه الفاحشة في العالمين، قال لهم نبيهم: {{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}} [الأعراف: 80] ، واللواط أعظم من الزنا وأقبح؛ لأن الزنا فعل فاحشة في فرج يباح في بعض الأحيان، لكن اللواط فعل فاحشة في دبرٍ لا يباح أبداً، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ في الزنا: {{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}} [الإسراء: 32] ، وقال لوط لقومه: {{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}} وأقره الله على ذلك، وحكى قولَه مرتضياً له، و«ال» تدل على أن هذه الفعلة الخبيثة قد جمعت الفحش كله، تلك الفاحشة العظيمة التي ليس فوقها فاحشة، وهذا أمر متفق عليه بين الناس، أن قُبح اللواط أعظم من قُبح الزنا، فما حده؟
حد اللوطي والعياذ بالله : القتل بكل حال :
( حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول به .
أما الدليل النظري على وجوب قتله؛ فلأن هذا مفسدة اجتماعية عظيمة، تجعل الرجال محل النساء، ولا يمكن التحرز منها؛ لأن الذكور بعضهم مع بعض دائماً، فلو وجدنا رجلاً مثلاً مع فتى، فلا يمكن أن نقول له: اترك الفتى، ما الذي أتى بك إليه؟ لكن لو وجدنا رجلاً مع امرأة، وشككنا هل هو من محارمها أم لا؟ يمكن أن نسأل ونبحث، فلما كان هذا الأمر أمراً فظيعاً مفسداً للمجتمع، وأمراً لا يمكن التحرز منه، صار جزاؤه القتل بكل حال، وهذا القول هو الصحيح.
مسألة : لو قال قائل: هل نحرقهم، أو نرميهم من أعلى الشاهق، أو نرجمهم رجماً؟(3/132)
الصواب في ذلك أن يفعل ولي الأمر ما هو أنكى وأردع، فإن رأى أنهم يحرقون، بأن يجمع الحطب أمام الناس، ثم يأتي بهم، ويرموا في النار فعل، وإن رأى أنه ينظر أطول منارة في البلد، ويلقون منها، ويتبعون بالحجارة، وأن هذا أنكى وأردع فعل، وإن رأى أنهم يرجمون، فيقامون أمام الناس، ويرجمهم الصغار والكبار بالحجارة فعل، فالمهم أن يفعل ما هو أنكى وأردع؛ لأن هذه ـ والعياذ بالله ـ فاحشة قبيحة جداً، وإذا ترك الحبل على الغارب انتشرت بسرعة في الناس حتى أهلكتهم.
مسألة : ما هي شروط شروط ثبوت حدِّ الزنا ؟
شروط ثبوت حدِّ الزنا ما يلي :
(1) إيلاج الحشفة الأصلية كلها في قُبُلِ المرأة .
(2) إنتفاء الشبهة .
لأن الحد عقوبة على معصية، فلا بد من أن تتحقق هذه المعصية لنطبق هذه العقوبة، أما أن نعاقب من نشك في ارتكابه الجريمة فإن هذا لا يجوز، فمعناه أننا حققنا شيئاً لأمر محتمل، غير محقق، وهذا يكون حكماً بالظن، والله تعالى يقول: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}} [الحجرات: 12] لا سيما أن مثل هذه العقوبة بالنسبة للشخص سوف تحط من سمعته بين الناس، ومن عدالته، فالمسألة ليست بالهينة، وعلى هذا فإذا وُجدت أي شبهة تكون عذراً لهذا الزاني، فإنه لا يجوز لنا أن نقيم عليه الحد.
(وأما حديث: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم» فحديث ضعيف لا تقوم به الحجة، وما أكثر ما يعتمد عليه المتهاونون في إقامة الحدود، كلما جاءت حدود قد تكون مثل الشمس، قالوا: قال النبي : «ادرؤوا الحدود بالشبهات» حتى يجعلوا ما ليس شبهة شبهة، ونحن في اعتمادنا على الحديث نحتاج إلى أمرين:
الأول: ثبوت الحديث
الثاني: تحقيق المناط، هل هذا شبهة، أو غير شبهة؟(3/133)
ولكن العلة التي ذكرناها علة واضحة، أنه لا يجوز أن نوقع عقوبة على جريمة نشك في كونها جريمة؛ لأن هذا حكم بالظن، وإضرار بالمسلم، وحَطٌّ من قدره وسمعته، ومثل هذا لا يجوز إلا بشيء واضح نعتمد عليه .
مثاله: رجل جامع امرأة ظنها زوجته، كما لو أتى فراشه، فوجد امرأة ظنها زوجته، وكذلك لو ظنها سريته، المهم إذا ظن ذلك فالأمر ظاهر ولا يقام عليه الحد بذلك .
{ تنبيه } :( الزوجة من ملكها بعقد النكاح، والسرية من ملكها بعقد التملك .
مسألة : إذا أتى الرجلُ المرأةَ في دُبُرِها فهل هذا لواط ؟
اللواط والعياذ بالله : هو إتيان الذكر للذكر قال تعالى: (أَتَأْتُونَ الذّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) [سورة: الشعراء - الآية: 165]
وعلى هذا فإذا أتى الرجل المرأةَ في دُبُرِها فإن كانت زوجته فهو محرم وإن كانت غير زوجته فنو زنا والعياذ بالله .
مسألة : ما هي طرق ثبوت الزنا ؟
طرق ثبوت الزنا بهذا التقرير أربعة:
أولاً: الشهادة.
ثانياً: الإقرار.
ثالثاً: حمل من لا زوج لها ولا سيد.
رابعاً: اللعان بين الزوجين، فإذا تم لعان الزوج ولم تدافعه.
(1) البينة : أن يشهد أربع رجالٍ ثقات أنهم رأوْا ذَكَرَ هذا في فَرْجِ هذه . ومما يدل على اشتراط كونهم رجال قوله تعالى: (لّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ) [سورة: النور - الآية: 13]
(2) الإعتراف : وهو الإقرار أي الشهادة على النفس فدليله قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}} [النساء: 135] والشهادة على النفس هي الإقرار، فأمر الله ـ عزّ وجل ـ الإنسان أن يقر بما عليه، ولو كان على نفسه.
ودليله من السنة، أن النبي رجم بالإقرار، وجلد بالإقرار،
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(3/134)
ولم يثبت الزنا بطريق الشهادة من فجر الإسلام إلى وقتهِ، وإنما ثبت بطريق الإقرار؛ لأن الشهادة صعبة، كما سيتبين إن شاء الله.
فثبوت الزنا بالإقرار له أدلة ثلاثة: الكتاب، والسنة، والنظر الصحيح.
مسألة : الذي يعترف على نفسه بالزنا ، هل يكفي أن يشهد على نفسه مرةً واحدة أم لابد أن يشهد على نفسه أربع شهادات ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة هو على التفصيل الآتي:
(1) إذا كان الأمر اشتهر بين الناس كما اشتهرت قصة العسيف فإننا نكتفي بشهادةٍ واحدةٍ وفيها قرائن تؤيد الفعل لأنه إذا اشتهرالأمر ولم نُقِمِ الحدالناس على ذلك واستسهلوا الأمر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رجلاً جاء إلى النبي ( فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه، فقال: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي؟ قال: (قل). قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم، فأخبروني: أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم. فقال النبي : (والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم ردّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها). فغدا عليها فاعترفت فرجمها.
(2) إما إذا كان الإعتراف على النفس بالزنا لم يشتهر بعد وكان مستوراً فالأولى تكرار الشهادة لعله يرجع فيحص الستر وهو مطلوب .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : أتى رجل رسول الله وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي فقال: (أبك جنون). قال: لا، قال: (فهل أحصنت). قال: نعم، فقال النبي : (اذهبوا به فارجموه).
((3/135)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله و ليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله .
مسألة : ما هو اللعان ؟
اللعان لغة : مشتق من اللعن لأن الملاعن يقول في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
اللعان شرعا : أن يحلف الرجل إذا رمى زوجته بالزنا أربع مرات إنه لمن الصادقين ، و الخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ، وأن تحلف المرأة عند تكذيبه أربع مرات إنه لمن الكاذبين و الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .
مسألة : ما هي مشروعية اللعان ؟
إذا رمى الرجل امراته بالزنا و العياذ بالله ولم تقر هي بذلك ولم يرجع عن رميه ، فقد شرع الله اللعان .
((3/136)
حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري ) أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي بشريك ابن سحماء، فقال النبي : (البينة أو حد في ظهرك). فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي يقول: (البينة وإلا حد في ظهرك). فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه قوله تعالى: (وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ) (وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) (وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ) فانصرف النبي فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب). ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لاأفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي : (أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء). فجاءت به كذلك، فقال النبي : (لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن).
( تلكأت ) تباطأت عن الشهادة .
( نكصت ) احجمت عن استمرارها في اللعنة .
( لاأفضح قومي سائر اليوم ) أي لا أكون سبب فضيحتهم فيما بقى من الأيام حيث يعيرون بأن منهم امرأة زنت .
(أكحل العينين ) شديد سواد الجفون من غير كحل .
(سابغ الأليتين ) ضخمهما .
(خدلج ) ممتلئ .
مسألة : لو قذف رجل امرأته بالزنا فما الواجب نحوها ؟
(1) إما أن تُعدَّ هي بالزنا ، فيقام عليها الحد .
((3/137)
2) أو يأتي هو بأربع شهداء ، فيقام عليها الحد .
(3) أو اللعان ، ويفترقان فرقة مؤبدة .
مسألة : إذا كانت المرأةُ حُبلى من الزنا فهل يُقام عليها الحد وهي حُبلى ؟
القول الذي دلت عليه السنة الصحيحة أنه لا يُقام عليها الحد وهي حُبلى بل ننتظر حتى تضع ويقام عليها الحد .
( حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن امرأة من جهينة أتت نبي الله وهي حبلى من الزنى فقالت يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فائتني بها ففعل فأمر بها نبي الله فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت فقال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى .
مسألة : من أصاب حداً فأقيم عليه فهل يُعيَّرُ بذلك ؟
القول الذي دلت عليه السنة الصحيحة أن من أصاب حداً فأقيم عليه فلا يُعيَّرُ بذلك ( لا تجتمعُ العقوبة والتعيير )
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إذا زنت الأمة فتبيَّن زناها، فليجلدها ولا يُثَرِّب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يُثَرِّب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر).
معنى [لا يُثَرِّب ] : أي لا يُعَيِّر
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال:أتي النبي بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله : (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم).
الذي يزني بذات محرم منه فإنه يقتل بكل حال، مثل ما لو زنا بأخته والعياذ بالله، أو بعمته، أو خالته، أو أم زوجته، أو بنت زوجته التي دخل بها، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا الفرج لا يحل بأي حال من الأحوال، لا بعقد ولا بغيره؛ ولأن هذه فاحشة عظيمة.(3/138)
وقوله: «آدمي حي» احترازاً من الميت، يعني لو زنا بميِّتة ـ وهذا يحصل ـ فإنه لا يحد، قالوا: لأن النفس تعافها وتكرهها، فاكتفي بالرادع الطبيعي عن الحد، ولكن لا بد أن يعزر.
مسألة : إذا ارتكبت الزوجة جريمة الزنا _ والعياذ بالله _ وتبين زوجها من زناها ، فهل يجب أن يطلقها زوجها ؟
إذا ارتكبت الزوجة جريمة الزنا والعياذ بالله _ والعياذ بالله _ وتبين زوجها من زناها ، فإنه يجب أن يطلقها زوجها للأسباب الآتية :
(1) حتى لا يكون ديوثاً والعياذ بالله .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر و العاق و الديوث الذي يُقرُّ في أهلهِ الخَبث .
[*] روي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه .
((3/139)
2) ولأنها بارتكابها لجريمة الزنا الشنعاء النكراء _ والعياذ بالله _ قد قضت على العلاقة الزوجية وأتلفتها وطعنتها في مقتلٍ عظيم ، وقتلت المودةَ والرحمةَ بينهما ، وذبحت الثقةَ بينهما بسكين البأس * فتستحيل العشرة بينهما لأنها لم تخشَ ربها ، فَوَكَلَهَا إلى نفسها ، وسلبَ حفظَه عن فعلِها، فدمَّرت وأوبقت نفسَها حين دنست طهارةَ بيتها ، وانتهكت حُرمةَ زوجِها ، واستخفت بحقه ، وأسقطت هيبتة من عينها حين مَكَّنت غيرَه من نفسها ، فسقطت في الرذيلة بِوَحْلِهَا ، وَصَيَّرَتْه ذليلاً بين الناس بجُرْمها، وصارت عاراً عليه بفُحشها ، صيَّرت منزلتَه بين الناس ما بين مُشفقٍ عليه مُطْرِقِ الرأسِ صامت ، و متغامزٍ عليه للخوضِ في عِرْضِه متهافت ، وثالثٍ حقيرٍ فيه متشامِت ، ورابعٍ لئيم يَدَّعِي لها المروءةَ لأنه عن إخبار زوجها بفعلها ساكت ، ثم تراه يطلب منها المُقابِل ، لأنه لسكوته عن إخبار زوجها قابل ، فصارت تنتقلُ من دمارٍ إلى دمار ، ومن خِزيٍ إلى عار ، ومن عارٍ إلى شَنَار ، صار أشقى الناس بِجُرمها لأنه لم تُكْسَرْ شوكَتُه إلا بها ، كسر الله ظهرها ، وأعمى بصرها ، ودمَّر أعضاءَها ، وهتك سِتَرها ، وأخرجها من الدنيا كلِّها * فتعساً لها بشنيعِ فِعلها ، وسحقاً لها لشؤمِها ولؤمِها وخيانتِها لزوجها ، وتَبَّاً لها من امرأةً دنيئةٍ خسيسةٍ لم تخش ربها ولم تحفظ غَيبةَ زوجها * وتقشعرُ الفضيلةُ من فعلها ، واحتوتها الرزيلةُ لقبحها ، لم تمتثل للفضيلة طاعة ، ولها في الرزيلة باعا * * لما تَخَلَّت عن خشيةِ الرحمن وامتثال القرآن ، و لما جحدت قوله تعالى هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان ، وَكَلَها الملك الديَّان إلى العصيان والخذلان واستحواذِ الشيطان ، فصارت ممقوتةً عند ربها في كلِ زمان * قاتلها الله وصدَّع بنيانها ، وأتلفها وشَلَّ أركانها ، فلا تُؤتمنُ مثلُها ، ولا تُُصانُ من كانت على شاكِلَتِها ، لعن الله كل خائنة لعنةً(3/140)
تدخل معها قبرها وتهلكها عند عرضه على ربه .
* هذه الجِبِلة النَكِدة الشقية التَعِسة التي فيه عِوَجٌ لا يُرجَى اعتداله * لقد استبدلت بالاستقامة روغانَ الثعالب ، ورَاحَت تبحثُ عن المثالب ، ولولا أنها ألانَت الجانب ما اقترب منها أحدٌ من الأجانب ، ولا أظهروا لها المخَالب ، والحاصلُ :أنهم لم يفترسوها إلا لأنها كانتْ ممن (إذا خلوْا بمحارِم اللهِ انتهكوها) ، ولو كانت غيرَ ذلك ما اقترب منها هالك ، فلما قدَّمت اللين ، فعلوا بها الفعلَ المَشِين ، وخانت زوجَها الأمين ، فخَسِرت الدنيا والدين ، وتَعَرَضت إلى سخط الجبارِ ذِي القوةِ المتين ، صَبَّ الله عليها أشدَّ العذابِ في كلِ وقتٍ وحين ، وأذاقها ألواناً شَتى من العذاب المُهين * فلما خضعت بالقول أنشأت في نفسِ كلِ هالكٍ منها غَرَض وتناست أن الله تعالى يقول " فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ " * ولما زهدت في الأخلاقِ النبيلة ، واستوطئت الحِيلة ، وقعت في الرزيلة ، وكان عاقبتها وبيلا * ومن سَوادِ قلبها الحَاِلك ، مكَّنَت من نفسها خَبِيثاً مثلها هالك ، مكان زوجها المالك ، واستغفلت زوجها بذلك ، وقالت مستخفةً في نفسها : وكيف يعرِفُ زوجي ذلك ؟ وتناست أن ربَها مُطَّلِعٌ على كلِ ذلك ، وهو سبحانه أغيرُ على محارِمِه من زوجها المالك ، ولو شاء لهَتَكَ سِترَها ودمَّرَها ببطشِه الفَاِتك * و استهانت بمراقبةِ الملكِ الوهَّاب ، وتناست أن رؤيته لِجُرْمِها لا تُحْجَبُ بِحِجَاب ، وأصَرَّت على الخيانة دون إياب ، وخانت زوجها حال الغياب ، صَبَّ الله عليها ألوان العذابِ من كلِ باب ، وحَشَرَها يوم القيامة مع كلِ مُسْرِفٍ كذاب ، وأصْلاها نارَ جهنم يوم يقوم الحساب * جعلت الله أهون الناظرين إليها ، وهو سبحانه قادرٌ عليها ، ولو شاء لأهلكها ومن حَوَالَيْها ، وتناست مِنَتَه عليها بزوجٍ صالحٍ يأوي إليها ، وتحتمي به دون من حَوَالَيْها ،(3/141)
فبدَّلت الشكر الجزيل ، والعرفان بالجميل ، بالفعلِ الوبيل * * وبعد أن كانت في حَرَمِ زوجها جوهرةً مصونة ، ولؤلؤةً مكنونة ، صارت بفُحْشها خائنةً مفتونة ، وسِلْعَةً مَعْفُونة ، وسِيرتها بين الناسِ سِيِرَةً ملعونة * وبعد أن كانت في حُرمةِ زوجها في حِصنٍ ومَناعة ، صيََّرت نفسها كلأً مباحا ، وسلعةً متاحة * وبعد أن كانت مع زوجها في عزةٍ ووقار ، وسكينةٍ واستقرار ، ونقاءٍ يُشْبِهُ الأبرار ، صيَّرت نفسها في ذِلةٍ وَصَغَار ، وتَشَتُتٍ ودَمَار ، وخِزيٍ وعار ، كأنها مَطْلِيَةٌ بالقار * والحاصلُ أنها لمَّا جَحَدَت ما أنعم الله عليها من النِعَم وتناست ما غمَرها من المِنَنْ ، وألْقَت بنفسها في براثنِ الفتن ، صارت أهونَ على الله تعالى من الجِعْلان (الخُنفساء) التي تدفَعُ بأنفها النَتَن ، ولا عجَب فقد زهدت في الطهارة وغَرِقت في القذارة ، كحالِ الخُنفساء تماماً فإنها لاتجد بُغْيَتها إلا في مواضع القَذرِ والنَتَن ، وما ذلك إلا لِخِسَةِ نفْسِها ودناءةِ طَبْعِها وسواد قلبها ، ولو أحبها ربها لعَصًمَها وحَفَظَها عن سُوء فِعْلِها ، وكان سَمْعَها التي تسمعُ به وبصرَها التي تُبْصِرُ به ، ويدها التي تبطشُ بها ورِجلها التي تمشي بها ، ولئن سألته لَيُعْطِيَنَّها ، ولئن اسْتَعاذَته لَيُعِذَنَّها ، لكنه سبحانه أبْغَضَها لسوادِ قلبها فصارت أهونَ على الله تعالى من الجِعْلان (الخُنفساء) التي تدفعُ بأنفِها النَتَن * وبعد أن كان زوجُها يفتخرُ بها ، ويتقرَبُ إلى الله بِودِّها ، ويبذلُ نفسَه من أجلها ، عسى الله أن ينفَعَه بها ، صار أشقى الناس بِجُرْمها ، وأبغضَ الناسِ لها ، وصار يختفي من ذِكْرِها ، ويتبرأ إلى الله من فِعلها ، وتقرَّب إلى الله بطلاقها ، وطهَّر اسمه من دنسِ الاقتران بها ، وكَرِه الدنيا كلِّها من أجلها ، فَلَيْتَهَا ماتت قبل ذلك ، قبل أن تُوْرِد نفسَها المهالك ، وتصيرَ مَطْمَعَاً لكلِ هالك * لم(3/142)
تعرف للطهارة طريقا ، ولم تسلك للنقاء سبيلا ، وليس بينها وبين الصدقِ قِيلا * كم أوصاها زوجها بفعل المأمور وتركِ المحظور والبعدِ عن دواهي الأمور ، وكم أوصاها أن تحفظ غَيْبَتَه في كلِ الأمور ، وأن لا تُشِينَ عِرْضه بأي محظور ، لكنْ لأن قلبَها خَرِبٌ وبور ، وما فيه من نور ، أَبَتْ كلَ ذلك وأصَرَتْ على الفجور ، مع خَبيثٍ مثلها مَحْقور ، وتناست أن الله تعالى يعلمُ خائنةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصدور ، فكيف بها إذا دخلت قبرها المحفور ، وما فيه من الدواهي والأمور ، تحت الجنادلِ والصخور ، ثم سُئِلت عن هذه الأمور، أم كيف بها حين تقفُ بين يدي ربها ويسألها عن هذه الأمور ، وما ارتكبته في حقِ زوجها المقهور ، والذي جعلته بفعلها مَنْحُور ، ثم لم تجد جواباً على هذه الأمور ، هنالك تعرفُ أنها ما كانت إلا في غرور ، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور ، ولا يُكْتَبُ بالسطور ، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور ، لا تجدُ للسؤالِ جوابا ، ولا للجواب صوابا ، ولا تملكُ توبةً أو مآبا ، فأُسقط في يَدَيْها ، ولا ينفَعُها من حَوَالَيْها ، فحينذاك تندمُ ندماً فوقَ ما يخطرُ ببالٍ أو يدورُ في الخيال ، لأنها بين يدي ربها الكبير المُتَعال ، بذنبها العِضَال ، لكنه ندمٌ لا يَنفعُ بأي حال ، فلا تُجْدِي هنالك الحسرات ولا تنفعُ الآهات ، ولا تنفعُ الحِيَلُ مع ربِ الأرضِ والسماوات ، لأن علمَه محيطٌ بكلِ شيءٍ ماضٍ وحاضرٍ وآت ، هنالك تعلم علم اليقين أن خيانتها لزوجها هي بئس الزاد ليوم الميعاد ، فورب السماواتِ والأرضِ إنما توعدون لآت ، أما زوجها المقهور فإذا رأيته وجدَتَه من جُرْحِه مَنْحُور ، وكَرْبَه يُبْكِي الصُخور ، وَزَهدَ فيها زهدَ من في القبور ، عاش يطْمَح في زوجةٍ تقيةٍ نقية ، عفيفةٍ حَيِيَّة ، حرةٍ أبية ، تحفظ غيبته وتصون كرامته وترافقه حتى تأتيه المَنِيَّة ، زوجةٌ تحْفَظُه في نفسها ، ويبذلُ نَفْسَه من(3/143)
أجلها ، زوجةٌ تُعِينُه على الطاعة ، وتُعِدُّ معه لقيامِ الساعة ، لكن خاب أملُه بها ، وكَرِه الدنيا من أجلِها ، وقَتَلَه سَوَادَ قلبِها ، قلبٌ لم يؤثر القرآن فيه ولم يعي معانيه ، قلبٌ لم تدخل الخشيةُ فيه ولا التقوى تحتويه ، قلبٌ لم يُلَيِنْه القرآن ولم يخش الرحمن ، قلبٌ جحد معنى قوله تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ، قلبٌ صار أسيرَ العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان ، صار حالُه يُنَغَصُ من ذِكْرِها ، فلا يهنأُ بنومٍ كلما ذكر فعلَها ، ولا ينطفئُ لهيبُ صدرِه من فُحْشِها ، ولا يغيبُ فكرُه عن جُرْمها ، ، يتقلبُ في همٍ وغم ، كأنما يبكي الدم .
، ثم إن هذا أمرٌ شنيعٌ لا يطيقه رجلٌ مسلمٌ حرٌ حيِّي يخشى الله تعالى ، فما من مسلم إلا يغارُ على عِرضه وشرفه ، بل وعِرضه وشرفه أغلى عنده من حياته كما هو معلوم شرعأً وعقلاً وبداهةً ويتضح هذا وضوحاً جلياً في (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما ، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
الشاهد : قوله ( : [ مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء ] فقدَّم العرض على كل شيء لأنه أعز ما يملكه الإنسان وأعز من كل شيء بل ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتضح ذلك من ( حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من قتل دون أهله فهو شهيد .
، ولذا قال سعدُ بن عُبادة رضي الله تعالى عنه قولةَ الرجلِ الحرِّ الحيِّي الأبيِّ التقي النقي
[ لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ ] أي لَضَرَبْتُهُ بِحَدِّ السيف لا بعرضِه ، ولا عجب فإنه الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم،
((3/144)
حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين ) أنه قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال: ( أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني ).
(سعد بن عبادة ) هو الأنصاري سيد الخزرج وأحد نقبائهم
(غَيْرَ مُصْفَّحٍ) : صفح السيف أي عرضه ، ومعنى غَيْرَ مُصْفَّحٍ أي لا أضربه بعرض السيف بل بحدِّه .
[**] وإذا كان هذا هو حال من تصوَّر حالَه من تمَّعْرِ وجهِهِ وفورانِ دمِّهِ ولهيبِ صدرهِ إذا رأى رجلاً مع امرأته فكيف بمن تحقق من زناها والعياذ بالله تعالى من ذلك ، إنه أمرٌ مشينٌ وفعلٌ مُهِين لا يتحمله رجلٌ مسلم
، ثم هل يصير الرجل رجلاً حراً أبِّياً إلا بهذه المشاعر النبيلة (من تمَّعْرِ وجهِهِ وفورانِ دمِّهِ ولهيبِ صدرهِ غَيْرةً على زوجته) ، وهل هو إذا فقد هذه المشاعر إلا خِنزيراً مَسخاً ميتَ الحِس .
[**] وهل تُصانُ المرأةُ إلا بعِفتها ! فإذا انسلخت المرأةُ من عِفتها كان ذلك في حقِ زوجها (كسراً لا ينجبر وجُرحاً لا يَنْدَمِل ولهيباً في صدرِه لا يَنْطَفئ ) وعلى هذا فلا يُتصَّورُ الرأفةُ بها ولا الإبقاء عليها ووجب طلاقها .
* روي عن الحسن، وجابر بن عبد الله : أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما، واستحب الإمام أحمد مفارقتها وقال: ( لا أرى أن يُمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه .
(3) ولا تنسى أن الله تعالى قال في شأن هذه الجريمة الشنعاء النكراء
(وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ) [سورة: النور - الأية: 2]
(وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ) : أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة .
((3/145)
إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) : هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر فلا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى النكراء أشنع من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة .
{ تنبيه } :( للمرأة في هذه المسألة بعد ارتكابها لجريمة الزنا الشنعاء حُكمين:
حكمها مع زوجها و حكمها مع ربها على التفصيل الآتي :
(أما حكمها مع زوجها) : لا يُتصَّورُ الرأفةُ بها ولا الإبقاء عليها ووجب طلاقها للأسباب السالف ذكرها .
(وأما حكمها مع ربها) : حكمها حكم مرتكب الكبيرة ، و حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار ما دام قد مات على التوحيد ، وأنه مستحقٌ للعقوبة لكنه تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه بذنبه ، لكن مآله إلى الجنة ما دام قد مات على التوحيد [ يدخل الجنة يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه ]
لقوله تعالى : (إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الاية48) .
مسألة : هل المرأة إذا ارتكبت جريمة الزنا _ والعياذ بالله _ ثم تابت إلى الله تعالى ، هل يسقط حق زوجها في الآخرة؟
فصلُ الخطابِ في هذه المسألة : أن حق زوجها لا يسقط في الآخرة بتوبتها إلى ربها تعالى لأن توبتها إلى ربها تعالى تتعلق بحق ربها تعالى حيث أنها ارتكبت كبيرة من الكبائر وهي تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنها وإن شاء آخذها بذنبها ، لكن مآلها إلى الجنة ما دامت قد ماتت على التوحيد
[ تدخل الجنة يوماً من الأيام أصابها قبل ذلك اليوم ما أصابها ](3/146)
أما حق زوجها المكلوم المطعونُ في شرفه فلا يسقط أبدا لأنها انتهكت حُرمته ، واستخفت بحقه ، وأسقطت هيبتة من عينها حين مَكَّنت غيرَه من نفسها ، وطعنته في أعز ما يملكه الإنسان وهو شرفه وعرضه * وصيْرَتْه ذليلاً بين الناس بجُرْمها ، وصارت عاراً عليه بفُحْشها ، وألصقت به ذُلاً لا يزال محفوراً في ذاكرته حتى يموت ، وألهبت في صدره لهيباً لا ينطفئُ مادام حيا * صيَّرت منزلتَه بين الناس ما بين مُشفقٍ عليه مُطْرِقِ الرأسِ صامت ، و متغامزٍ عليه للخوضِ في عِرْضِه متهافت ، وثالثٍ حقيرٍ فيه متشامِت ، ورابعٍ لئيم يَدَّعِي لها المروءةَ لأنه عن إخبار زوجها بفعلها ساكت ، ثم تراه يطلب منها المُقابِل ، لأنه لسكوته عن إخبار زوجها قابل ، فصارت تنتقلُ من دمارٍ إلى دمار ، ومن عارٍ إلى شنار * وصار زوجها أشقى الناس بِجُرمها لأنه لم تُكْسَرْ شوكَتُه إلا بها ، كسر الله ظهرها ، وأعمى بصرها ، ودمّر أعضاءها ، وهتك سِتْرَها ، وأخرجها من الدنيا كلِّها ،
(*) قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة ، فإن التوبة وإن أسقطت حق الله ، فحق العبد باق ، فإن ظلم الزوج بإفساد حليلته ، والجناية على فراشه أعظم من ظلم أخذ ماله ، بل لا يعدل عنده إلا سفك دمه!].
فالحاصلُ أن هذه الشقِيَّة التَعِسَة لقد أورطت نفسها في ورطةٍ لا مخرج لها منها أبدا في الدنيا والآخرة
[*] فأما في الدنيا : فإن زوجها متى تبين من جنايتها وخيانتها تقرَّب إلى الله تعالى بطلاقها ، وطهَّر اسمَه من دَنَسِ الاقتران بها ، وتبرأ إلى ربه من فِعلها، وصبَّ عليها الدعاء صبَّا حتى ينفَرِطَ عِقدُها ، جزاءاً لارتكابها لأشنعِ جنايةٍ في حقه .
وهي كذلك لابد أن ترى عقوبة خيانتها لزوجها في الدنيا قبل الآخرة إيماناً وتصديقاً بقول النبي ( في الحديث الآتي :
((3/147)
حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي ( قال :بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا : البغي و العقوق .
الشاهد :
قوله ( ( بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ) أي قبل موت فاعليها
( البغي ) أي مجاوزة الحد والظلم وليس هناك ظلمٌ أفحش من خياتة الزوجة لزوجها .
[*] وفي الآخرة : يأخذ من حسناتها بقدر مظلمتها له ، فعند الله تجتمعُ الخُصوم ويُقْتَصُ من الظالمِ للمظلوم ، وليس هناك أبشع من مظلمةِ خيانةِ الزوجةِ لزوجها وهنا نذكر الحديث الآتي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسنات أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
{ تنبيه } :( هذه الفاحشة لا يصبر عليها ولا يقرها في أهله إلا الديوث الذي يقر الخنا في أهله، فهذان اثنان من الصحابة هلال وعويمر ، كل منها صبر على فراق زوجته وادعى أنها زانية ولاعنها ولم يقرها أن تبقى معه وهو يعلم أنها قد فجرت، ولو مرة واحدة، وذلك دليل على حماستهم وغيرتهم على نسائهم، لا يرضى أحدهم أن يشاركه في امرأته شخص أجنبي يفسد عليه فراشه ، ولا يرضى أن امرأته تخونه فتدخل في بيته من لا يرضاه، وتجلس على فراشه غيره، وتمكن من نفسها غير زوجها، فإن ذلك حرام، وفعلها يعتبر خيانة لزوجها، وإقرار الزوج على ذلك يعتبر دياثة وإقراراً للإثم والحرام، ولم يكن الصحابة يقرون شيئاً من ذلك. وهكذا أيضاً كل غيور، وكل من عنده حماسة وغيرة على محارمه لا يقر الخنا في أهله .
وعلى هذا إذا تحقق الزوج أن الزوجة قد خانته في فراشه إن عليه أن يفارقها وألا يكشف سترها ، ولكن يخبرها فيما بينه وبينها حتى يكون ذلك عذراً له عندها، فيخبرها بأنه قد اطلع على كذا وكذا .
مسألة : هل يجوز للمرأة أن تكلم رجلاً أجنبياً بغيرِ إذن زوجها ؟(3/148)
لا يجوز للمرأة أن تكلم رجلاً أجنبياً بغيرِ إذن زوجها بنص السنة الصحيحة
( حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن .
( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ) لأنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان ، والكلام في رجال غير محارم .
( نهى أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن ) لأنه مظنة الوقوع في الفاحشة بتسويل الشيطان ، ألا فلتحذر العاقلة ولْتَنْتَبه الغافلة فلا تتساهل مع رجلٍ أجنبيٍ عنها بغير إذن زوجها فلربما أفضى ذلك بها إلى الهوةِ السحيقة ، وربما كان ذلك سبباً في هلاكها في الدنيا والآخرة ، وربما زَلَّت قدمُها بعد ثبوتها وانزلقت في ورطةٍ لا مخرج لها منها أبدا ، ولا تنسى أن الله تعالى يقول : (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة: النور : 21]
مسألة : هل يجوز لعن بعض عصاة المسلمين ؟
لعن بعض عصاة المسلمين على سبيل العموم
جاءت النصوص الشرعية بلعن أصحاب بعض المعاصي على سبيل العموم والإطلاق، بذكر وصف المعصية.
ومما ورد في ذلك ما يلي:
قول الله تعالى:{ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
و قول الله تعالى:{ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61].
ومن السنة الصحيحة ما يلي :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده).
(حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) .
((3/149)
حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض)([5]).
(8) ( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء .
(9) ( حديث ابن عمر –رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه) .
فهذه النصوص ونحوها تدل على جواز لعن فاعل تلك المعاصي لا على جهة التعيين للأشخاص، بل يلعن العاصي بوصفه لا بشخصه، فيقال مثلاً: لعن الله آكل الربا، ولعن الله السارق، أو أكلة الربا ملعونون، والسارقون ملعونون، ولعنة الله على الظلمة، وعلى الكاذبين ونحو ذلك.
{ تنبيه } :( وهذا اللعن على سبيل العموم لأصحاب المعاصي التي جاءت النصوص بلعن فاعليها لا خلاف في جواز
[*] قال الإمام النووي في شرحه لحديث: "لعن الله السارق" " هذا دليل لجواز لعن غير المعين من العصاة؛ لأنه لعن للجنس لا لمعين، ولعن الجنس جائز كما قال الله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(واللعنة تجوز مطلقاً لمن لعنه الله ورسوله}
اللعن العام يدل على أن من فعل تلك المعصية فهو مستحق للعنه، ومعرض للعقوبة، فيحصل من هذا الإطلاق الزجر والردع عن ارتكاب تلك المعصية، وهذه اللعنة العامة المذكورة في النص قد تلحق بعض الأشخاص فتكون سبباً في عذابه ويكون معه إيمان يمنعه من الخلود في النار، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
[*] وقال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد" (1/226)(3/150)
" الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم ؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع ، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز ، فإذا رأيت محدثا ، فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعنة الله على من آوى محدثا ، على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : (اللهم ! العن فلانا وفلانا وفلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) رواه البخاري" اهـ .
مسألة : هل يزوج للزوج أن يدعو على زوجته إذا زنت والعياذ بالله ؟
قبَّح الله الظلم، وحذر منه ، لأن ظلم العباد بئس الزاد ليوم الميعاد ، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة ، ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب ، ودعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه .
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [سورة: غافر - الآية: 18]
(ما للظالمين من حميم) محب
(ولا شفيع يطاع) تقبل شفاعته لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلا فما لنا من شافعين أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا .
و قال تعالى: (وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ) [سورة: الحج - الآية: 71]
(وما للظالمين) بالإشراك
(من نصير) يمنع عنهم عذاب الله
و قال الله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) { إبراهيم / } 42
ومن السنة الصحيحة التي بينت شناعة الظلم ما يلي :
((3/151)
حديث ا بن عباس في الصحيحين ) قال : قال رسول الله ( لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم ، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب .
الشاهد : قوله ([ واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله : و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .
( اتقوا دعوة المظلوم ) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله
( فإنها تُحمل على الغمام ) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس
( يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
( ولو بعد حين ) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي ( قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة .
((3/152)
اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار .
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه .
( دعوة المظلوم مستجابة ) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب
( وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه } .
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا : البغي و العقوق .
(بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا ) أي قبل موت فاعليها
( البغي ) أي مجاوزة الحد والظلم
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي ( قال : الظلم ظلماتٌ يوم القيامة .
( اتقوا الظلم ) بأخذ مال الغير بغير حق أو التناول من عرضه ونحو ذلك قال بعضهم : ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم
( الظلم ظلمات يوم القيامة ) فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب التقوى احتوشت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني عنه ظلمه شيئاً .
((3/153)
حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي ( قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار .
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي ( قال : إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .
( إن اللّه تعالى لَيملي ) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر
( للظالم ) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } فإمهاله عين عقابه
( حتى إذا أخذه ) أي أنزل به نقمته
( لم يُفلته ) أي لم يفلت منه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن النبي ( قال : (من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما، إن كان له حسنات أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).
[**] ومن هنا يتضح قبح الظلم ويتضح كذلك جواز أن يدعو المظلوم على من ظلمه ، وأن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، وعلى ذلك فيجوز للزوج أن يدعو على زوجته إذا هي ارتكبت جريمة الزنا وذلك من وجهين :
(1) أن خيانة الزوجة لزوجها وارتكابها لجريمة الزنا هي أبشع ظلم ارتكبته في حق زوجها لأنها بخيانتها له تكون قد طعنته في عِرْضه وشرفه و دينه ومروءته ، وتكون قد أسقطت هيبته بين الناس ، وتكون قد ألصقت به ذلاً لا يزال محفوراً في ذاكرته حتى يموت ، وتكون قد ألهبت في صدره لهيباً لا ينطفئُ ما دام حيا .
((3/154)
2) أن هذا هو الموافق لقوله تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة) أي لا تأخذكم بهما رِقةٌ ورحمة لأن جريمة الزنا النكراء أشنع من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة ، فمن تصور غير ذلك قلنا له أأنت أرحم من الله تعالى حين قال (ولا تأخذكم بهما رأفة)
وإليك هذه القصة التي تبين عاقبة الظالم حين سمح لنفسه أن يستخف بالمظلوم ويشينه بما يعيب به دينه :
أخرج البخاري من قصة سعد بن أبي وقاص ودعائه على ذلك الرجل الذي قال فيه:( فإن سعداً لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية) ، قال سعد: أما واللّه لأدْعونّ بثلاْثٍ : اللّهمّ إنْ كان عبْدك هذا كاذبًا قام رياءً وسمعةً ، فأطلْ عمره ، وأَطِلْ فقْرَه ، وعرّضه للْفتن . فكان الرجل يقول بعد ذلك : شيخٌ مفْتونٌ أصابتْني دعْوة سعْدٍ. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
الشاهد : إذا كان هو التصرف الصادر من سعد ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وهو التقي النقي الحييّ الأبي وهو أحد العشرة المبشرين في الجنة تجده يدعو على من شَانَه وعابه بكلام يقدح في دينه وعدله فما ظنك بمن طعنت زوجها في عِرْضهِ وشرفه الذي هو أعز ما يملك ، فلا شك أن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن عِرض الإنسان هو أعز عنده من كل شيء ، ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتشهد لذلك بالآتي :
(من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرْضه أو شيء فليتحَلَلْه منه اليوم قبل أن لايكون ديناراً ولا درهما ، إن كان له حسناتٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئاته فَحُمِلت عليه ).(3/155)
الشاهد : قوله ( : [ مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء ] فقدَّم العرض على كل شيء لأنه أعز ما يملكه الإنسان وأعز من كل شيء بل ويضحي الإنسان من أجله بالنفس والنفيس ويتضح ذلك من ( حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من قتل دون أهله فهو شهيد .
ومن هنا يتضح أن الدعاء على من طعن الإنسان في عِرْضه [ من باب أولى ] مما دونه من المظالم .
مسألة : ما حكم من زنى بذات محرم ؟
حكم من زنى بذات محرم القتل سواء كان محصناً أم غير محصن ومن تزوج بذات محرم قُتِلَ واُخِذَ ماله .
( حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) قال : لقيت عمي ومعه راية فقلت له أين تريد قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله .
مسألة : ما هو القَذْفِ ؟
القَذْفِ في الأصل : هو الرمي، والمراد به هنا رمي شخص بالزنا، أو اللواط، فيقول: يا زانٍ، يا لوطي، أو أنت زانٍ، أو أنت لوطي، وما أشبه ذلك .
وحكم القذف محرم، بل من كبائر الذنوب إذا كان المقذوف محصناً، والحكمة من تحريمه صيانة أعراض الناس عن الانتهاك، وحماية سمعتهم عن التدنيس، وهذا من أحكم الحكم؛ لأن الناس لو سُلط بعضهم على بعض في التدنيس، والسب، والشتم حصلت عداوات، وبغضاء، وربما حروب طواحن من أجل هذه الأمور، لكن حفظاً لأعراض الناس، وحماية لها، ولسمعة المسلمين جاء الشرع محرماً للقذف، وموجباً للعقوبة الدنيوية فيه، يقول الله ـ عزّ وجل ـ: {{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}} [النور:23] ، فرتب على ذلك أمرين عظيمين:
(الأول: اللعنة في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.
(الثاني: العذاب العظيم.(3/156)
ثم قال: {{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}} [النور: 24، 25] ، وثبت عن النبي أن من الكبائر الموبقة قذفَ المحصنات المؤمنات الغافلات .
إذاً فهو من كبائر الذنوب بدلالة الكتاب والسنة، والحكمة فيه ما أشرنا إليه من قبل.
والقذف من كبائر الذنوب ومن السبع الموبقات بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
مسألة : ما معنى حدِّ القّذْف ؟
معنى حدِّ القّذْف : أي عقوبتة المقدرة شرعا
مسألة : ما معنى حدِّ القّذْف ؟
حدِّ القّذْف : ثمانين جلدة كما بينه القرآن الكريم في سورة النور قال تعالى: (وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة: النور - الآية: 4]
{تنبيه} : لا فرق بين كون المقذوف ذكراً أم أنثى وإنما خصّ النساء بالذكر لخصوص الواقعة ولأن قذف النساء أغلب وأشنع ، وإنما استحق القاذف هذه العقوبة صيانةً لأعراض المسلمين عن التدنيس ولأجل كفّ الألسن عن هذه الألفاظ القذرة التي تُلَطخ أعراض الأبرياء وصيانةً للمجتمع الإسلامي عن شيوع الفاحشة فيه .
مسألة : من هو المحصن الذي يجب الحدّ بقذفه ؟
المحصن الذي يجب الحدّ بقذفه : هو «الحر المسلم العاقل العفيف الملتزم الذي يُجَامِعُ مثله»
مسألة : ما الدليل على اشتراط أن يكون مسلماً؟(3/157)
الجواب: قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }} [النور:23] ، ولأن النبي يقول: «قذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
مسألة : ما الدليل على اشتراط أن يجامع مثلُه؟
واشتراط أن يجامع مثلُه؛ لأن من لا يجامع مثله لا يلحقه العار أبداً، ولا يتصور الناس منه غالباً الزنا، ولأن من كان بهذه السن فإنه لا يدنسه القذف، حتى لو ثبت أنه زنا.
مسألة : إن عفا المقذوف عن القاذف فهل يسقط حدُّ القذف ؟
القذف حقٌ للمقذوف يسقط بعفوه حدُّ القذف ولكن يجب أن يُعَزَّر القاذف بما يردعه عن التمادي في القذف المُحَرَّمِ المتوعدِ عليه باللعن والعذاب الأليم .
مسألة : القاذفُ إن كان عبداً فما حدُّ القذف ؟
الصحيح في هذه المسألة : أن حدُّ القذف للعبد مثل الحر أي ثمانين جلدة لعموم قوله تعالى: (وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة: النور - الآية: 4]
وأما قياسه على حد الزنا بأن يكون نصف حدِّ الحر كما لو أن العبد زنى فإنه لا يصح لأنه قياسٌ مع الفارق [ لأن حدّ الزنى لتطهير الزاني بينما حد القذف صيانةً لعرض المقذوف ]
وعرض المقذوف يتدنس سواء كان القاذف حراً أم عبدا .
مسألة : إذا قذف الإنسانُ شخصاً غيرُ معين كأن يقول : واحد من هذا البيت زاني فهل يُعَدُ هذا قذفا ؟
طالما لم يُعين فليس عليه حد القذف ، لكن يجب أن يُعَذَّرَ بما يدعه عن التمادي والخوض في أعراض المسلمين .
مسألة : ما معنى حد المسكر ؟
معنى حد المسكر : أي: عقوبتة المقدرة شرعا
مسألة : ما هو السُكْر ؟(3/158)
السُكْر : هو تغطية العقل على وجه اللذةِ والطَرَب ، ولذلك فإن البنج لا يُعَدُّ سُكْراً لأنه لا يغطي العقل على وجه اللذةِ والطَرَب .
مسألة : ما هو الخمر ؟
الخمر ما خامر العقل أي غطاه على وجه اللذةِ والطَرَب من أي نوعٍ كان .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر النبي يقول: أما بعد، أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل .
مسألة : اذكر الدليل على تحريم الخمر ؟
الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع
قال تعالى: (يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ) [سورة: المائدة – الآيتان 90: 91]
ووجه الدلالة من الآية قوله: {{فَاجْتَنِبُوهُ}}، والأصل في الأمر الوجوب، ولأنه أضافه إلى الشيطان، فقال: {{مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}}، وما كان من عمل الشيطان فإنه حرام لقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}} [النور: 21] ، ولأن فيه إثماً زائداً على منفعته، والإثم محرم؛ لقوله تعالى: {{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}} [الأعراف: 33] .
((3/159)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر و العاق و الديوث الذي يُقرُّ في أهلهِ الخبث .
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال * أوصاني خليلي لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر .
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال: الخمر أم الفواحش و أكبر الكبائر من شربها وقع على أمه و خالته و عمته .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : كل مسكر حرام إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال قال عرق أهل النار أو عصارة أهل النار .
((3/160)
حديث بنُ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يقبل الله لَهُ صَلاَة أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، فإنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلْ الله لَهُ صَلاَةً أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ تابَ الله عَلَيهِ فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صبحاً فإن تاب تاب الله عليه. فإنْ عَادَ الرابعة لَمْ يَقْبَل الله لَهُ صَلاَةُ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ لَمْ يَتُبْ الله عَلَيْهِ وسقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ. قِيلَ يا أبَا عَبْدِ الرحمَنِ ومَا نَهْرُ الْخَبَالِ؟ قالَ: نَهْرٌ مِنْ صَدِيدِ أهْلِ النّارِ» .
مسألة : ما الحِكَمة من تحريم الخمر؟
الجواب: الحكم من تحريمه كثيرة، منها قوله تعالى: {{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}} وكل ذي فطرة سليمة فإنه لا يقبل الرجس من عمل الشيطان .
ومنها أنه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، لقوله: {{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ}} [المائدة: 91] .
ومنها أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ لأن السكران ـ والعياذ بالله ـ إذا سكر غفل، وبقي مدة لا يذكر الله، ولا يصلي إذا جاء وقت الصلاة؛ لأنه منهي عنها: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}} [النساء: 43] .
ومنها أنه جماع الإثم، أي: جامع للإثم كله، ومفتاح لكل شر.
وهذا ـ أيضاً ـ ظاهر؛ لأن الإنسان ـ والعياذ بالله ـ إذا سكر فقد وعيه، فقد يقتل نفسه، وقد يقتل ابنه، وقد يقتل أمه، وقد يزني ببنته ـ والعياذ بالله ـ، وكم من قضايا نسمع عنها، أن الرجل إذا سكر قرع بابه، وطلب من زوجته أن تمكنه من ابنته، وهذا شيء واقع.(3/161)
وقد نشر في إحدى الصحف في البلاد التي ظهر فيها غضب الله، ونقمته، أن شاباً دخل على أمه في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وقال لها: إنه يريد أن يفعل بها، فنهته، ووبخته، فذهب وأتى بالسكين، وقال: إن لم تمكنيني فسأقتل نفسي، فأدركها حنان الأم ورحمتها، فمكنته من نفسها، فزنا بأمه، فلما أتى الصباح كأنه أحس أنه فعل هذه الجريمة العظيمة مع أمه، فدخل الحمام ومعه بنزين فصبه على نفسه، ثم أحرق نفسه والعياذ بالله، ومن تأمل ما حصل من الشرور والمفاسد في شرب الخمر عرف بذلك حكمة الله عزّ وجل، ورحمته بعباده، حيث حرم ذلك عليهم، فالحكمة تقتضي تحريمه، والإنسان العاقل يبعد عنه بعقله، دون أن يعرف شرع الله فيه.
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام .
وإذا أسكر كثيره فقليله حرام بدليل الحديث؛ ولأنه ذريعة إلى شُرب الكثير المسكر، فلهذا منع الشرع منه، لأن ما أسكر كثيره بمعنى هذا الشراب بعينه، إن أكثرت منه سكرت، وإن أقللت لم تسكر، فيكون القليل حراماً؛ لأنه ذريعة.
الخمر ما خامر العقل أيًا كان اسمها ، ومن سمَّاها بغير اسمها كان فيه شبهٌ من اليهود لأنهم أساتذة الدنيا في التحايل المذوم فهم أروغ من الثعالب وهم وراء كل حيلةٍ ومكيدة لإفساد المسلمين .
( حديث حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها .
( يسمونها بغير اسمها ) يتسترون في شربها بأسماء الأنبذة المباحة أي يشربون النبيذ المطبوخ بالسكر ويسمونه طلاً تحرجاً أن يسموه خمراً وذلك لا يغني عنهم من الحق لأن هذا من التحايل المذموم على الشرع .
مسألة : ما هو حدُّ شارب الخمر ؟
حدُّ شارب الخمر أربعين جلدةً فإن رأى الحاكم الزيادة فله ذلك إلى ثمانين لفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
((3/162)
حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله وإمرة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين.
{ تنبيه } :( إن تكرر شرب الرجل وحُدَّ في كل مرة ٍ ثم شرب فرأى الإمام (الرئيس الأعلى للدولة) ذلك فله ذلك .
( حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه .
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : إذا لم يحصل الردع إلا بالقتل يقتل .
{ تنبيه } :( هذه الأمور تكون من خصائص الإمام فقط وهو (الرئيس الأعلى للدولة) حتى لا تكون الدنيا فوضى .
مسألة : هل يباح الخمر للتداوي ؟
لا يباح الخمر للتداوي؛ لأننا نعلم علم اليقين أنه لا دواء فيه، وإنما هو كما قال النبي : «إنه ليس بدواء ولكنه داء»
( حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أنه سأل النبي عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال إنما أصنعها للدواء فقال إنه ليس بدواء ولكنه داء .
ولو كانت دواءً ما حرمها الله ـ عزّ وجل ـ على عباده، فإن الله لا يحرم على عباده ما كان نافعاً لهم.
مسألة: ما حكم الحشيش ؟
الجواب: الحشيش يراه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أخبث من الخمر، وهو كذلك، فإن الحشيشة تسكر، وهي شر منه؛ لأنها تؤثر على المخ أكثر مما يؤثر الخمر، ومثل ذلك ـ أيضاً ـ فيما يظهر الحبوب المخدرة؛ لأن مضرتها عظيمة، وهي أشد من مضرة الخمر، وفي بعض الدول غير الإسلامية يوجبون القتل على مروِّجها، ولكنها لا تسمى خمراً، وفيها التعزير، ويرجع فيه إلى اجتهاد الإمام.
مسألة : ما هي السَّرِقَةِ ؟
والسرقة: أخذ مال الغير خِفْيَةً على وإخراجه من حرز.
مسألة : ما هو الحرز ؟(3/163)
الحرز : هو ما جرت العادةُ بحفظ المال فيه مثل الدار والدكان ودرج المكتب .
مسألة : ما هو حكم السَّرِقَةِ ؟
السرقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن كل معصية أوجب الشارع فيها حدّاً فهي كبيرة من كبائر الذنوب، وهي محرمة بالكتاب، والسنة والإجماع.
أما الكتاب فظاهر، ومن أدلته قوله تعالى: {{وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}} [البقرة: 188] ، والذي يسرق آكل للمال بالباطل.
ومن أدلة الكتاب ـ أيضاً ـ إيجاب الحد على السارق .
قال تعالى: (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة: المائدة - الآية: 38]
أما السنة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده).
{ تنبيه } :( البيضة هنا بيضة الحديد التي تلبس للحرب وهي كالمجن ، هكذا فسرها الأعمش راوي الحديث .
وأما الإجماع فمعلوم.
مسألة : ما هو حدُّ السرقة ؟
حدُّ السرقة : قطع اليد اليمنى من مفصل الكف
قال تعالى: (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة: المائدة - الآية: 38]
الشاهد : قوله تعالى [ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا ] واليد إذا أُطلقت فالمقصود بها الكف بدليل أنها في الوضوء قُيِدَّت إلى المرافق في قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [سورة: المائدة - الآية: 6](3/164)
مسألة : ما الدليل على أن البداية تكون بقطع اليد اليمنى ؟
الدليل على أن البداية تكون بقطع اليد اليمنى أنه جاء في قراءة (فاقطعوا أيمانهما) فتكون مُفسرةَ لليد الأولى ، ولأن ذلك هو الموافق للجناية إذ أن الغالب أن الأخذ والعطاء يكون باليمين فتكون هي موضع العقوبة .
مسألة : هل يجوز عند القطع أن يُعطى السارق بنج عند القطع حتى لا يشعرُ بالألم ؟
يجوز ذلك في الحدود لأن المقصود هو قطع اليد ، وهذا يحصل بالبنج وعدمه ، أما إذا كان قطعها قِصاصاً فلا يجوز استعمال البنج وذلك لأن الجاني أذاق المجني عليه الألم وفقدان العضو فينبغي أن يكون القصاص كذلك بأن نذيقه الألم وفقدان العضو .
مسألة : هل يجب أن تُحْسَم اليد بعد قطعها ؟
حسم الدم ـ أي: قطعه ـ وذلك بأن يغلى زيت، أو دهن، أو نحوهما، ثم تغمس فيه وهو يغلي، فإذا غمست فيه وهو يغلي تسددت أفواه العروق،
ويجب حسم الدم بعد قطع الكف؛ لأنها لو تركت لنزف الدم ومات، والحد لا يراد به موته وإتلافه، إنما يراد به تأديبه.
مسألة: هل يجوز رد اليد بعد قطعها ؟
لا يجوز؛ لأن هذا خلاف مقصود الشارع، فليس مقصود الشارع الإيلام فقط حتى نقول: إنه حصل بقطعها، وإنما مقصود الشارع أن يبقى، وليس له يد.
مسألة : إن عاد السارق إلى السرقة مرة أخرى فماذا نصنع به ؟
قال بعض أهل العلم : إن عاد السارق إلى السرقة مرة أخرى تُقطع رجله اليسرى من مفصل العقب واستدلوا بحديثٍ للدارقطني ( أن النبي ( قال في السارق : إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله )
لكن هذا الحديث ضعيف ولهذا فإن الصحيح أنه لا يجب على السارق إلا قطع اليد اليمنى فإن عاد فإنه يُعَزَّر بما يردعه ويكف شره .
مسألة : ما هي شروط السرقة ؟
شروط السرقة :
(1) أن يكون السارق بالغاً عاقلا
((3/165)
لحديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
(2) أن يكون مختارا :
( لحديث أبي ذر الثابت في صحيحابن ماجه ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
(3) أن يأخذ المال خِفْيةً فلو أخذه جهاراً كان نهبى ولا قطع فيه .
( لحديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : «ليس على خائنٍ ولا مُنْتَهِبٍ ولا مُخْتَلِسٍ قطع»
(الخَائِن) :هو الذي يغدر بك في موضع الائتمان، وهي صفة نقص بكل حال.
(المختلس) وهو الذي يأخذ المال خطفاً وهو يركض، فهذا أخذه علناً، لكن معتمداً على هربه وسرعته، نقول: هذا ـ أيضاً ـ ليس عليه قطع؛ لأن هذه ليست سرقة، فالسرقة اسمها يدل على أن الإنسان يأخذ المال خفية.
كذلك لو أنه وقف عند دكان، وقال لصاحب الدكان: هل عندك كذا وكذا؟ ثم قال له: أعطني كذا الذي بالداخل، فإذا دخل الرجل أخذ مما أمامه ما يريد ثم هرب، فهذا نسميه مختلساً.
(والغَاصِب ) هو الذي يأخذ المال قهراً بغير حق، فهذا ليس عليه القطع؛ لأنه ليس بسارق، والغصب أعم من الانتهاب؛ لأنه يشمل المنقول والعقار.
مثال ذلك: رجل غصب أرضاً، وغرس فيها وبنى، فنحن لا نقطعه؛ لأنه ليس على وجه الاختفاء.
(4) أن يكون قد أخرجه من حرز، والحرز كل مال جرت العادة بحفظ المال فيه.
مثال ذلك: رجل سرق دراهم، أو دنانير من دكان مفتوح، فهنا سرق من غير حرز فليس عليه قطع؛ لأن من شروط القطع أن تكون السرقة من حرز
و لو أن رجلاً جاء ووجد صندوقاً من الخشب فيه جنيهاتٍ على عتبة دكان في الساعة الواحدة من الليل، وليس مغلقاً بإحكام، وأخذ الجنيهات وكل ما فيه، فهذا غير محرز، فليست هذه سرقة، ولا يقطع في ذلك.
(5) أن يكون المسروق نصاباً ، وهو ربع دينار أي ثلاثة دراهم
((3/166)
حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا .
(حديث بن عمر رضي الله عنهما عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قطع في مجنٍّ ثمنه ثلاثة دراهم.
{ تنبيه } :( المِجن هو الترس الذي يستر حامله .
(6) أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً مُحْتَرَماً ، مثال المال المحترم: الثياب، والطعام، والدراهم، والدنانير، والكتب ، والأموال التي في البنوك محترمة، وفرق بين المحرم لذاته، والمحرم لكسبه، فالمحرم لعينه حرام، ولا حرمة له، والمحرم لكسبه حرام من جهة الكاسب فقط، وأما مال البنك فهو محترم، ومحرز، وعليه حماية.
وأما ما ليس بمال فإنه لا يقطع، كسرقة الخمر مثلاً؛ لأنه ليس بمال أصلاً،
مسألة : كيف تثبت السرقة ؟
[*](تثبت السرقة بواحدٍ من أمرين :
(1) البينة : والبينة هنا شهادة رجلان ، وهنا لا دخل للنساء في باب الحدود فلا تقبل شهادة المرأة فيه بخلاف الشهادة في المال ،
فيشهد رجلان بالسرقة ويتفقان بوضعها وزمانها ومكانها .
(2) أن يقرُ السارق بالسرقة .
{ تنبيه } :( قال بعض أهل العلم أنه تثبت السرقة أيضاً بوجود مال المسوق بيد السارق إذا لم يدعي شبهة ، فإن ادعى شبهةً كما لو قال اشتريته فلا يقام عليه الحد لأننا ندرأُ الحدود بالشبهات لحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم»
وإن كان هذا الحديث فيه مقال، ولكن معناه صحيح؛ لأن الأصل في الأعراض والأبدان العصمة والحماية، فلا يمكن أن تنتهك إلا بيقين، فلا يمكن قطع يد السارق إلا بيقين
مسألة : هل يشترط لإقامة الحد أن يطالب المسروق بماله ؟
لا يشترط لإقامة الحد أن يطالب المسروق بماله لأن هذا هو ظاهر الكتاب والسنة ولأن هذا حدٌٌّ لله تعالى ، والحدود ليست مبنية على مطالبة الناس لأن الغرض من إقامة الحد ليس مجرد العدوان على الشخص الذي أسقط حقه ولكن للعدوان على الأمن العام ويؤيد هذه الحديث الآتي :
((3/167)
حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : عن النبي قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).
مسألة : من هم قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ؟
قطاع الطريق الذين يقطعونه ـ أي: يمنعون الناس من السير فيه ـ وذلك لعدوانهم على من مَرَّ بهم ، بأخذ المال وهتك العرض وقتل النفس .
وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلاَحِ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوِ الْبُنْيَانِ، فَيَغْصِبُونَهُمُ الْمَالَ مُجَاهَرَةً لاَ سَرِقَةً سواء كان ذلك في الصحراء أم البنيان .
أي: أن أخذهم المال غصباً، فيعرض للمسافر، ويقول له: أَنْزِلِ المتاع الذي معك غصباً، حتى ينزعه ثيابه، وهذه وقعت، فهذا الأمر لا شك أنه فساد في الأرض؛ لأنه يمنع الناس من سلوك الطرقات التي هي محل أمنهم؛ ولأنه إيذاء وإخافة وترويع، فهو من أكبر الفساد.
مسألة : ما هو حدُّ قاطع الطريق ؟
عقوبة قطاع الطريق من باب الحد الواجب إقامته ، وعقوبة القاطع إن قتل وأخذ المال قُتل ثم صُلب، وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يُصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن أخاف ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نفي من الأرض، فالعقوبة إذاً أربعة أنواع: قتل وصلب، وقتل فقط، وقطع، ونفي، وهذه العقوبة تختلف بحسب الجريمة.
لقول الله تعالى: {{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ}} [المائدة: 33].
((3/168)
حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: قدم أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا، قتلوا راعي النبي ، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة، يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
مسألة : (أو) التي في سورة المائدة والخاصة بحدِّ قاطع الطريق ، هل هي للتخيير أم للتنويع ؟
(أو) التي في سورة المائدة والخاصة بحدِّ قاطع الطريق للتنويع بمعنى أن لكلِ جريمةٍ عقوبة
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما :
إذا قتلوا وأخذوا المال : قتلوا وصلبوا
و إذا قتلوا ولم يأخذوا المال : قتلوا و لم يصلبوا
وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا : قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف
وإذا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا ولم يأخذوا المال يُنْفَوْا من الأرض وذلك بأن يُشَرَّدوا ويُطاردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد ، بل يشردون في البراري، ولا يسمح لهم بأن يرجعوا إلى البلاد، لا بلادهم، ولا بلاد غيرهم، فقوله تعالى: {{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ}} أي: ينفون من الأرض التي يقطعون بها الطريق، فننفيهم عن البلدان، وعن الأماكن التي يطرُقها الناس؛ لأن المقصود من النفي هو إزالة شرهم وإخافتهم للناس.
مسألة ك هل يجوز أن «يبنّج» قاطع الطريق عند قطع أعضائه أو لا يجوز؟
الجواب: يجوز أن «يبنّج» قاطع الطريق والسارق لقطع عضوه؛ لأن المقصود إتلاف العضو وليس الألم، بخلاف من وجب عليه القصاص، فإنه لا يجوز أن نبنجه؛ لأنه قصاص فيجب أن ينال من الألم مثل ما نال المجني عليه.
مسألة : هل يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين ؟(3/169)
نعم يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، وندفنه في مقابر المسلمين لأنه فعل كبيرةً من الكبائر ، و حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار ما دام قد مات على التوحيد ، وأنه مستحقٌ للعقوبة لكنه تحت مشيئة الله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه بذنبه ، لكن مآله إلى الجنة ما دام قد مات على التوحيد [ يدخل الجنة يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه ]
لقوله تعالى : (إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية48) .
مسألة : لماذ لا يجوز العفو عن قاطع الطريق بعكس حدِ القتل ؟
لا يجوز العفو عن قاطع الطريق بعكس حدِ القتل لأنه في حد القتل الأمر يتعلق بأولياء المقتول إن شاءوا عفوا وإن شاءوا قتلوا ، أما قاطع الطريق فإن ضرره يتعلق بالأمن العام وحقوق الناس جميعا .
مسألة : إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه هل تُقبل توبته ؟
إن تاب قطاع الطرق قبل القدرة عليه فإنه تقبل توبته وإن كان بعد القدرة عليه فلا تقبل توبته، ودليل ذلك قوله تعالى: {{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }} [المائدة:34] ، فوجه الدلالة من الآية أن ختمها باسمين كريمين، يدلان على العفو والمغفرة، وأن مقتضى رحمته ومغفرته ـ جل وعلا ـ أن يغفر لهؤلاء ويرحمهم.
وفهم من قوله تعالى: {{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}} أنهم لو تابوا بعد القدرة فإنه لا تسقط عنهم العقوبة؛ والحكمة من ذلك أنهم إذا تابوا من قبل أن يقدر عليهم فإنه دليل على أن توبتهم صادقة، فيتوب الله عليهم، أما إذا تابوا بعد القدرة عليهم فإن القرينة تدل على أن توبتهم خوفاً من النكال والعقوبة، فلذلك لا تقبل.(3/170)
مسألة : لو أن قوم من قطاع الطريق قتلوا شخصاً، وبعد أن قتلوه وأخذوا ماله، جاؤوا تائبين إلى الله ـ عزّ وجل ـ، فهنا يسقط عنهم الصلب ؟
لو أن قوم من قطاع الطريق قتلوا شخصاً، وبعد أن قتلوه وأخذوا ماله، جاؤوا تائبين إلى الله ـ عزّ وجل ـ، فهنا يسقط عنهم الصلب، ويسقط عنهم تحتم القتل، فإن طالب أولياء المقتول بالقتل، وتمت شروط القصاص قتلوا قصاصاً لا حدّاً، وأما المال الذي أخذوه فإنهم يطالبون به؛ لأنه حق آدمي.
مسألة : ما هو الصائل ؟
الصائل : هو المهاجم الذي يهاجم الإنسان يريد القتل، أو يريد الفاحشة وانتهاك العرض والعياذ بالله، أو يريد الأذية التي دون القتل، ودون انتهاك العرض، أو يريد أخذ المال .
مسألة : لو صال صائلٌ على إنسان يريد قتله أو أخذ ماله أو يريد الفاحشة في أهله ، فهل يجب الدفاع عن نفسه ؟
لو صال صائلٌ على إنسان يريد قتله أو أخذ ماله أو يريد الفاحشة في أهله ، فيجب الدفاع عن نفسه لقوله تعالى: {{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}} [البقرة: 195] ، ومن استسلم للصائل الذي يريد قتله فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، ووقع فيما نهى الله عنه،
ويجب دفعه بالأسهل فالأسهل ، فإن كان يكفي جذبه وضربه كفى ، وإن لم يندفع إلا بالقتل فله قتله ولا ضمان عليه لأنه قتله لدفع شرِّه ، وإن قُتل المصول عليه كان شهيدا بنص السنة الصحيحة .
( لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :جاء رجلٌ إلى رسول الله ( فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «لا تعطه» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» ، قال: وإن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» .
( لحديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من قتل دون ماله فهو شهيد .
((3/171)
حديث سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنه الثابت في في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي ( قال : «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَينهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دمهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، ومن قتل دون أهله فهو شَهِيدٌ .
مسألة : هل يجب الدفاع عن النفس في الفتنة ؟
إذا كان الناس في حالة الفتنة ـ نعوذ بالله من الفتنة ـ إذا اضطرب الناس، وافتتنوا، وصار بعضهم يقتل بعضاً، لا يدري القاتل فيما قَتَل، ولا المقتول فيما قُتِل، فتنة مائجة، فإنه في هذه الحال لا يلزمه الدفاع عن نفسه ولا بأس أن يستسلم وليكن المقتول خيراً له من أن يكون القاتل .
( حديث خالد بن عرفطة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : ستكون أحداث و فتنة و فرقة و اختلاف فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل فافعل .
( ستكون أحداث وفتن وفرقة واختلاف ) أي أهل فتن وأهل فرقة وأهل اختلاف أو المراد نفس الفتن والفرقة والاختلاف
( فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل فافعل ) يعني كف يدك عن القتال واستسلم والظاهر أن هذا في( فتن تكون بين المسلمين) أما الكفار فلا يجوز الاستسلام لهم .
( حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته .
ويستدل أيضاً بفعل عثمان ـ رضي الله عنه ـ فإن الصحابة طلبوا منه أن يدفعوا عنه الذين خرجوا عليه، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ أبى، وقال: لا تقاتلوا ، فإذا كانت فتنة فلا تقاتل.
(والصواب أن الفتنة إذا كان يترتب على المدافع فيها شَرٌّ أكبر، أو كانت المدافعة لا تجدي لكثرة الغوغاء، ففي هذه الحال لا يجب الدفع
مسألة : ما هو التَّعْزِير ؟
«التعزير» لغة: المنع، ومنه قوله تعالى: {{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ}} [الفتح: 9] ، أي: تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، وأولادكم.(3/172)
أما في الاصطلاح : فهو عقوبة على معصية ليس فيها حَد ولا قِصاص وليس فيها كفارة .
مسألة : ما الحكمة من مشروعية التَّعْزِير ؟
الحكمة من مشروعية التَّعْزِير : حماية الناس من الوقوع في المعاصي .
مسألة : ما الدليل على مشروعية التعذير ؟
[*](والأدلة على وجوب التعزير عامة، وخاصة:
(أما الأدلة العامة: فهي أن الشريعة جاءت مبنية على تحصيل المصالح، وتقليل المفاسد، وهذه القاعدة متفق عليها، ومن المعلوم أن في التعزير تحصيلاً للمصالح، وتقليلاً للمفاسد، يقول الله ـ عزّ وجل ـ مقرراً هذه القاعدة: {{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}} [المائدة: 50] ، ويقول: {{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ }} [التين:8] .
(وأما الأدلة الخاصة فإنها أدلة متناثرة ، ( حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع .
الشاهد : قوله ( : [واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ] هذا تعزيرٌ على ترك مأمور .
( حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : إذا لم يحصل الردع إلا بالقتل يقتل .
{ تنبيه } :( هذه الأمور تكون من خصائص الإمام فقط وهو (الرئيس الأعلى للدولة) حتى لا تكون الدنيا فوضى .
،(3/173)
ومثل تحريق رَحْل الغالّ من الغنيمة ـ أي: الذي يكتم شيئاً مما غنم ـ فإن هذا تعزير، ومثل كاتم الضالة ـ أي: البعير إذا ضاعت وكتمها ـ فإنه يضمَّن قيمتها مرتين ، ومثل من عطس، ولم يحمد الله فإنه يُعَزَّر، فلا نقول له: يرحمك الله، فنحرمه من شيء يُحبُّه؛ ولهذا كان اليهود عند الرسول يتعاطسون، ويحمدون الله؛ حتى يقول الرسول : يرحمكم الله، لكن لا يقول ذلك، ويقول: «يهديكم الله» .
وهكذا الكافر إذا عطس وحمد الله، لا تقل: يرحمك الله، بل قل له: يهديك الله، فإذا هداه الله رحمه.
مسألة : هل يصل التعزير إلى القتل ؟
قد يصل التعزير إلى القتل إن لم يحصل الردع إلا به
( حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : إذا لم يحصل الردع إلا بالقتل يقتل .
{ تنبيه } :( هذه الأمور تكون من خصائص الإمام فقط وهو (الرئيس الأعلى للدولة) حتى لا تكون الدنيا فوضى .
مسألة : هل التعذير واجب ؟(3/174)
فصل الخطاب في هذه المسألة : أن التعذير ليس بواجب على الإطلاق، ولا يُتْرك على الإطلاق، وأن ذلك يرجع إلى اجتهاد الحاكم، بشرط أن يكون أميناً؛ فقد وقعت أمور كثيرة في عهد الرسول وترك التأديب عليها، فكثير من الناس إذا مننت عليه وأطلقته يكون هذا الإطلاق عنده أكبر من التأديب، ويرى لهذا الإطلاق محلاً، ويمتنع عن المعصية أشد مما لو تضربه، ولهذا ففي الأسرى في الجهاد أنه يجوز للإمام أن يمن عليهم {{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}} [محمد: 4] حسبما تقتضيه المصلحة، فهذا الرجل إذا أتينا به وقلنا: يا أخي، هذا ما ينبغي من مثلك، وأنت ممن يشق علينا أن نؤدبه أمام الناس، ولكن نظراً لمقامك فإننا نريد أن ننصحك أن لا تعود لمثل هذا، فهذا قد يكون في نفسه أنفع مما لو ضربناه أسواطاً في السوق، وهذا هو الصحيح أنه ليس بواجب على الإطلاق، وأن للإمام أو لمن له التأديب أن يسقطه إذا رأى غيره أنفع منه وأحسن.
مسألة:لو وجدنا رجلاً يقبل الإنسان امرأة أجنبية، أو يضمها، أو يمسها بشهوة فهل يُعَزَّر ؟
الجواب : يُعَزَّر قولاً واحدا لسببين :
(1) أن هذا استمتاع محرم ولا حدَّ فيه، فالواجب فيه التعزير.
(2) يُعَزَّر لعدم التمادي والتطاول على أعراض الناس
...
مسألة : من هو المرتد ؟
المرتد : َهُوَ الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ
مسألة : ما هي عقوبة المرتد ؟
[*](للمرتد والعياذ بالله عقوبتان عقوبة دنيوية و عقوبة أخروية
(1) العقوبة الدنيوية : وهي القتل
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من بدَّل دينه فاقتلوه).
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة).
((3/175)
2) العقوبة الأخروية : وقد بينها الله تعالى في قوله سبحانه : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [سورة: البقرة - الآية: 217]
مسألة : هل يُستتاب المرتد قبل قتله ؟
الجواب : يُستتاب المرتد قبل قتله فإن تاب قُبِل منه ورجع إلى الإسلام .
قال تعالى: (قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ) [سورة: الزمر - الآية: 53]
قال تعالى: (إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للّهِ فَأُوْلََئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [سورة: النساء – الآيتان 145،146]
(حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «تَُقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ» .
مسألة : ما هو حكم من سَبَّ اللهَ تعالى ؟
«(3/176)
من سَبَّ اللهَ» أي: وصفه بالعيب، وأعظم السب أن يلعن الله ـ والعياذ بالله ـ أو يعترض على أحكامه الكونية، أو الشرعية بالعيب، ولو على سبيل اللمز والتعريض، حتى لو كان تعريضاً فإنه يكفر؛ لأن هذا امتهان لمقام الربوبية، وهو أمر عظيم، فمن سب الله، سواء بالقول أم بالإشارة، وسواء كان جادّاً أم هازلاً، بل سَبُّ الله هازلاً أعظم وأكبر، فإنه يكون كافراً لقول الله تعالى: {{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *}{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}} [التوبة: 65، 66] ، ولأن سب الله ـ عزّ وجل ـ تنقُّص له فيكون خسراناً، فكل من تنقَّص الله بقوله، أو فعله، أو قلبه فهو كافر؛ لأن الإيمان إيمان بالله عزّ وجل، وبما له من الصفات الكاملة، والربوبية التامة، فإذا سب الله فإنه يكون كافراً، حتى وإن قال: إنما قلت ذلك هازلاً لا جادّاً، نقول: هذا أقبح أن تجعل الله تعالى محل الهزء، والهزل، والسخرية.
مسألة : ما هو حكم من سَبَّ رسول الله ( ؟
[*](حكم من سب رسول الله :
إذا سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه كافر.(3/177)
وقوله: «رسوله» ينبغي أن نجعلها من باب المفرد المضاف؛ حتى يشمل جميع الرسل، فمن سب أي رسول من الرسل فإنه كافر؛ لأن هذا ليس تنقُّصاً للرسول بشخصه، بل هو تنقُّص لرسالته، وهي الوحي، ويتضمن تنقصاً للذي أرسله؛ فسب الرسول سب لمن أرسله؛ لأنه لا شك أنه من النقص أن يُرسَل بشر إلى الخلق يستبيح دماءهم، وأموالهم، وذراريهم، وهو محل النقص ، فهذا يعتبر سفهاً، ولهذا قال الله ـ عزّ وجل ـ: {{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}} [الأنعام: 124] ، فهو سبحانه وتعالى ما جعل الرسالة إلا فيمن هو أهل لها، وجدير بها؛ لما علم ـ سبحانه وتعالى ـ في سابق علمه أنه أهل لتحمل ما كلف به، وليس كل أحد يكون أهلاً للرسالة، ولهذا قال السفّاريني رحمه الله ـ أقوله مستشهداً لا مستدلاً ـلأن قول العالم لا يُستدل به لكن يُستأنسُ به .
ولا تُنالُ رتبة النبوة ... بالكسبِ والتهذيب والفتوة
لكنها فضلٌ من المولى الأجلّ ... لمن يشاءُ من خلقه إلى الأجل(3/178)
فالحاصل أن سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ سب لمن أرسله، ومنافٍ لحقه الذي هو أوجب الحقوق البشرية، وحقه التعظيم، والإجلال، والتوقير، حتى إن الله ـ عزّ وجل ـ جعل من أسباب الرسالة، ومن حكمة الرسالة أن نؤمن بالله ورسوله، ونعزره ونوقره: {{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}} [الفتح: 8، 9] ، فهذا ركن وأساس وحكمة من حكم إرسال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولا شك أن سبَّ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع كونه تنقصاً له ولمن أرسله، فهو أيضاً تنقص لشريعته؛ ولهذا إذا سب أحد من الناس رجلاً فإن سبه ينعكس على منهاجه الذي انتهجه، ويكون نفس المنهاج الذي انتهجه عند الناس منقوصاً؛ لأنه سب من قام بهذا المنهج، فسب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذاً تضمن ثلاثة أمور، كل واحد منها كفر: سب الله، وسب الرسول، وسب شريعته.
مسألة : ما هو الطعام ؟
الطعام : هو كل ما يؤكل أو يُشرب، أما كون ما يؤكل طعاماً فأمره ظاهرٌ؛ وأما كون ما يشرب طعاماً فلقوله تعالى: {{فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}} [البقرة: 249] ، فجعل الشرب طعْماً، ولأن الشارب يطعم الشيء المشروبَ، فهو في الواقع طعامٌ.
مسألة : اذكر الدليل على أن الأصل في الأطعمة الحِل ؟(3/179)
اعلم أن الأصل في الأطعمة الحِل وهذا أمر مجمع عليه، دل عليه القرآن قي قوله تعالى: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}} [البقرة: 29] ، و«ما» اسم موصول، والاسم الموصول يفيد العموم، كما أنه أكَّد ذلك العموم بقوله: {{جَمِيعًا}}، فكل ما في الأرض فهو حلالٌ لنا، أكلاً، وشرباً، ولُبساً، وانتفاعاً، ومَنِ ادَّعى خلاف ذلك فهو محجوج بهذا الدليل، إلا أن يقيم دليلاً على ما ادَّعاه، ولهذا أنكر الله ـ عزّ وجل ـ على الذين يُحرِّمون ما أحل الله من هذه الأمور فقال: {{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}} [الأعراف: 32] .
{ تنبيه } :( هذا الأصل [الأصل في الأطعمة الحِل ] ليس ثابتاً لكل إنسان، بل هو للمؤمن خاصة، أما الكافر فالأطعمة عليه حرام؛ لأن الله يقول: {{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}}، فقوله: {{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}}، يُخرج غير الذين آمنوا، وكذلك قال ـ تعالى ـ في سورة المائدة: {{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}، فمفهومها أن غيرهم عليهم جناح فيما طعموا، ومع ذلك ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا بشرط ألا يستعينوا بذلك على المعصية، ولهذا قال الله تعالى: {{إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [المائدة: 93] .(3/180)
إذاً الأصل في الأطعمة الحل للمؤمنين، أما غيرهم فلا؛ فإن الكافر لن يرفع لقمة إلى فمه إلا عُوقب عليها يوم القيامة، ولن يبتلع جُرعة من ماء إلا عوقب عليها يوم القيامة، ولن يستتر، أو يدفئ نفسه بسلكٍ من قطن، إلا حوسب عليه يوم القيامة.
مسألة : ما هي أنواع الأطعمة المباحة ؟
الأطعمة المباحة على نوعين :
(1) حيوانات
(2) نباتات كالحبوب والثمار
مسألة : ما هي أنواع الحيوانات وهل كلها مباحة ؟
الحيوانات نوعين : حيوانات بحرية وحيوانات برية
[*] أما الحيوانات البحرية كلُّها حلال، وليس فيها شيء حرام، فكل حيوانات البحر مباحة بدون استثناء، حيِّها وميِّتها، لقول الله تعالى: {{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}} [المائدة: 96] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: صيد البحر، ما أُخذ حيّاً، وطعامه ما أُخذ ميتاً، يعني ما ألقاه البحر مثلاً، أو طفا على ظهره ميتاً.
[*] وأما الحيوانات البرية الأصل في حيوانات البر الحل؛ لعموم قوله تعالى: {{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}} [البقرة: 29] فكل الحيوانات من طيور وغيرها الأصل فيها الحل .
[*](فهي مباحة إلا أنواع حرمها الشرع منها ما يلي :
(1) الحُمر الأهلية : و «الحُمُر» : جمع حمار، ولا يصح أن تنطق بها بسكون الميم، لأنك إذا قلت: «الحُمْرُ» فهي جمع أحمر أو حَمْراء، لكن يجب أن نقول: «الحُمُر».
والحمر الأهلية هي الحمر التي يركبها الناس وهي معروفة، وهي حرام، وخرج بذلك الحمر الوحشية فهي حلال.
(لحديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الثابت في الصحيحين) قال: أمر النبي يوم خيبر أبا طلحة فنادى: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس»
فثبت الحكمُ مقروناً بعلَّته وهو قوله : «فإنها رجس» .
مسألة: لو تأهَّل الحمار الوحشي فهل يحرم أكله؟ لا؛ لأن العبرة بالأصل
(2) َمَا لَهُ نَابٌ من السِّباع يَفْتَرِسُ بِهِ :(3/181)
ومعنى «يفترس به» أي: يصطاد به، فينهش به الصيد ويأكله ...
والدليل ( حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير .
والأصل في النهي التحريم، فلا يحل أكل كل ذي ناب من السباع؛ لأن النبي نهى عنه؛ ولأن الحكمة تقتضيه؛ لأن للغذاء تأثيراً على المُتَغَذِّي به، فالإنسان ربما إذا اعتاد التغذِّي على هذا النوع من اللحوم صار فيه محبة العدوان على الغير؛ لأن ذوات الناب من السباع تعتدي؛ فإن الذئب مثلاً إذا رأى الغنم عدى عليها، ومع ذلك فإن بعض الذئاب إذا دخل في القطيع ما يكتفي بقتل واحدة ويأكلها، بل يمر على القطيع كله فيقتله كله، ويأكل ما شاء ثم يخرج.
فإذا اعتاد الإنسان التغذي بهذه الأمور فربما يكون فيه محبة العدوان، وهذه من حكمة الشرع
{ تنبيه } :( يشترط في تحريم أكل كل ذي ناب أن يكون من السباع أي يفترس بالناب ، ولهذا كان الضبع حلالاً لأنه ليس من السباع .
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة ) قال : سألت رسول الله عن الضبع فقال هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم .
الدليل على أن الضبع صيد :
والدليل على إخراجها أن النبي جعل فيها شاةً إذا قتلها المُحْرِم[(13)]، وهذا يدل على أنها من الصيد؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}} [المائدة: 95] ، وبهذا استدل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أن النبي جَعَل فيها كبشاً، وذلك يدل على أنها حلال.
(من أمثلة ما له ناب يفترس به :
كَالأَْسَدِ، وَالنِّمْرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْفِيلِ، وَالْفَهْدِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَابْنِ آوَى، وَابْنِ عِرْسٍ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالنِّمْسِ، وَالْقِرْدِ، وَالدُّبِّ ...
«كالأسد» الأسد حيوان معروف يضرب به المثل في الشجاعة.(3/182)
قوله: «والنمر» حيوان بين الكلب والأسد، وله جلد مخطط.
قوله: «والذئب، والفيل، والفهد، والكلب، والخنزير» وهذه كلها حيوانات معروفة.
(3) كل ذي مخلب من الطير يصيد به :
المخلب ما تُخلب به الأشياء، أي: تُجرح وتُشق، والمراد بها الأظفار التي يفترس بها، فإن هذه الطيور ، فيكون لها أظفار قوية تشق بها الجلود، حتى إنها تمر خاطفة الأرنب وهي طائرة، فتضربه بهذه الأظفار حتى تشق جلده، وليس المراد بالمخلب ذلك الشيء الذي يَخْرج في ساق الديك، فإن هذا مخلب لكنه لا يصيد به.
كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة» هذه أمثلة لطيور تصيد بمخلبها وهي طيور معروفة.
والدليل ( حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير .
والحكمة في تحريم ذوات المخالب التي تصيد بها ما أشرنا إليه في تحريم ما له ناب يفترس به، وهي أن الإنسان إذا تغذّى بهذا النوع من الطيور التي من طبيعتها العدوان والأذى، فإنه ربما يكتسب من طبائعها وصفاتها، ولهذا قال العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يُرضِعَ ابنه امرأة حمقاء؛ لأنه ربما يتأثر بلبنها.
(4) ما أمر الشارع بقتله :
وهذا ظاهر التحريم لأن الذي يأمر الشارع بقتله هو لفسقه وعدوانه فهو يشبه ما له مخلب من الطير وما له نابٍ من السباع ، وذلك مثل الفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والكلب العقور .
(حديث عائشة رضي الله عنها رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (خمس فواسق، يقتلن في الحرم، الفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والكلب العقور).
(5) ما نهى الشارع عن قتله :
وهذا أيضاً ظاهر التحريم لأنه لا يمكن التوصلُ إلى أكله إلا عن طريق قتله
( حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصّرد .
(6) ما يأكل الجِيّف :(3/183)
لأنه ما يتغذى بالنجاسة يكون نجساً ، والنجس لا يجوز أكله مثل الجلالة التي أكثر علفها نجس سواء كانت إبل أو بقر أو عنم أو دجاج .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( نهي عن ركوب الجلالة .
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) قال * نهى رسول الله عن أكل الجلالة وألبانها .
{ تنبيه } :( إذا حُبِست الجلالة ثلاثاً وعُلِفت الطاهر جاز ذبحها وأكلها فقد كان ابن عمر يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا .
(7) كل حيوان تَوَلَّد من مأكول وغيره كالبغل :
لأنه اختلط مباح بحرام على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر فكان حراماً؛ إذ لا يمكن اجتناب الحرام حينئذٍ إلاَّ باجتناب الحلال، واجتناب الحرام واجب، فكان اجتناب الحلال واجباً.
فالبغل متولد من نزو الحمار على الفرس، فالبغل حرام؛ والفرس حلال ، ولكن لا يمكن تمييز الحلال من الحرام فحرم الجميع؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(8) لا يحل نجس كالميتة والدم والخنزير :
قال الله تعالى: {{قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}} [الأنعام: 145] والضمير عائد على الثلاثة المذكورة، فإذا قال قائل: لو كان كذلك لقال: فإنها رجس.
{ تنبيه } :( المراد بالدم هنا الدم المسفوح وهو الذي يكون قبل موت البهيمة أما ما كان بعد الموت فإنه طاهر وحلال قال النبي : «أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتان فالجراد والحوت وأما الدمان فالكبد والطحال»
والجواب: أن قوله: {{قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}}، معناه إلا أن يكون ذلك الشيء المحرم على الطاعم الذي يطعمه {{مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ}} أي: ذلك الشيء {{رِجْسٌ}} أي: نجس.(3/184)
فإن قال قائل: النجس واضح تحريمه؛ لأنه نجس العين، وكل نجس حرام، وليس كل حرام نجساً،
مسألة : فما الدليل على أن المتنجِّس حرام؟
الجواب: لأن المتنجِّس متأثر بالنجاسة، مختلط بها، فالنجاسة لم تزل فيه، فإذا أكَلْتَهُ، أو شَرِبْتَه فقد باشرت النجاسة، أكلت النجاسة وشربتها، ولهذا نقول: المتنجس محرَّم؛ لأنه ليس بطاهر، وإذا كان الشرع يأمرنا بإزالة النجاسة من ظاهر أجسامنا، فكيف نُدخل النجاسة باطن أجسامنا؟!
{ تنبيه } :( يُستثنى من الميتة( السمك والجراد) و يُستثنى من الدم الكبد والطحال .
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : أحلت لكم ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال .
(9) الذي لم يُذكر اسم الله عليه :
قال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْقٌ) [سورة: الأنعام - الآية: 121]
(10)ما يلحق بالميتة : وهو ما قطع من البهيمة وهي حية :
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة .
(11) يحرم الطعام إذا كان ضاراً :
وسواء كانت المضرة في عينه، أو في غيره. في عينه كالسُّم، فالسم ضرره في عينه، وكذلك الدخان فإنه ضارٌّ في عينه، وضرره مُجمعٌ عليه بين الأطباء اليوم، لا يختلف في ذلك اثنان منهم؛ لما يشتمل عليه من المواد السامة المفسدة للدم.
والضار في غيره مثل أن يكون هذا الطعام لا يلتئم مع هذا الطعام، بمعنى أنك إذا جمعت بين الطعامين حصل الضرر، وإذا أكلتهما على انفرادٍ لم يحصل الضرر، ومن ذلك الحُمْية للمرضى، فإن المريض إذا حُمي عن نوع معينٍ من الطعام، وقيل له: إن تناوله يضرك، صار عليه حراماً قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وإذا خاف الإنسان من الأكل أذًى أو تخمة حَرُمَ عليه».(3/185)
فإذا قال الإنسان: أنا إذا ملأتُ بطني من هذا الطعام فإنه سيحتاج إلى ماء، فإذا أضفتُ إليه الماء فلا أكاد أمشي، وأتأذى، فإن جلست تأذيت، وإن ركعتُ تأذيت، وإن استلقيت على ظهري تأذيت، وإن انبطحت على بطني تأذيت،
(وفي هذا يقول شيخ الإسلام: إذا خاف الأذية فإنه يحرم عليه الأكل، وما قاله ـ رحمه الله ـ صحيح؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يأكل ما يؤذيه، أو يلبس ما يؤذيه، أو يجلس على ما يؤذيه، حتى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في السجود، كانوا إذا أذاهم الحر يبسطون ثيابهم، ويسجدون عليها لئلا يتأذوا، ولأجل أن يطمئنوا في صلاتهم وقد قيل: إن من الأمور المهلكة إدخال الطعام على الطعام، فإذا صح ذلك كان ـ أيضاً ـ حراماً
(الدليل على تحريم ما فيه مضرة من القرآن والسنة.
فمن القرآن : قال الله تعالى: {{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}} [البقرة: 195] ، وقال عزّ وجل: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] ، والنهي عن قتل النفس نهيٌ عن أسبابه أيضاً، فكل ما يؤدي إلى الضرر فهو حرام،
ومن السنة الصحيحة
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : «لا ضرر ولا ضرار» ، وربما يستدل له أيضاً بقوله تعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}} [المائدة: 6] ، ووجه ذلك أن الله تعالى أوجب التيمم على المريض حمايةً له عن الضرر. فعدل به عن الماء الذي قد يتضرر باستعماله في البرد والمرض ونحوهما إلى التيمم.
مسألة : اذكر الدليل على جواز أكل لحم الخيل ؟
الدليل على جواز أكل لحم الخيل ما يلي :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما ـ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( نهى عن لحوم الحُمُر، وأذِنَ في لحوم الخيل»، فهذا واضح.
((3/186)
حديث أسماء ـ رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت: «نحرنا فرساً في عهد النبي ونحن في المدينة فأكلناه»
، وقولها: «ونحن في المدينة» تعني أنه متأخر، وإنما نصَّت على أنه في المدينة؛ لأن سورة النحل التي فيها دليل من استدل على تحريمها مكية.
إذاً الخيل مباحة،
مسألة : اذكر الدليل على جواز أكل بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ ؟
«بهيمة الأنعام» وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وسُمِّيت بهيمة؛ لأنها لا تتكلم، فأَمْرُها مُبْهَم عندنا، أرأيت الشاة في البيت هل إذا جاعت تقول: أعطني علفاً؟! لا، لكن ربما تثغو، فإذا ثغت هل يتعين أن يكون ثُغَاؤهَا لطلب العلف؟ لا، ربما لطلب الماء، وربما لطلب الفَحْل، وربما لمرض فيها، المهم لها أسباب لا نعرفها فحاجتها بالنسبة لنا مبهمة ولهذا سميت بهيمة.
الدليل على حل بهيمة الأنعام؟
بدايةً لا نحتاج إلى دليل؛ لأن هذا هو الأصل، ومع ذلك ـ والحمد لله ـ توجد أدلة كثيرة، قال الله تعالى: {{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}} [المائدة: 1] .
وقال عزّ وجل: {{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }} [الأنعام:143] .
مسألة : اذكر الدليل على جواز أكل َالدَّجَاجِ؟
«(3/187)
الدجاج» حلال بناءً على الأصل، وقد وردت فيه أحاديث أنها أكلت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام منها الحديث الآتي
( حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال: رأيت النبي يأكل دجاجاً.
فيكون حل الدجاج ثابت بالنص وبالأصل.
مسألة : اذكر الدليل على جواز أكل الضبِ ؟
«الضب» هو حيوان معروف، وهو حلال، والدليل الأصل، وفيه ـ أيضاً ـ أحاديث صحيحة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ منها ما يلي :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (الضب لست آكله ولا أحرِّمه).
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : أهدت أم حفيد، خالة ابن عباس، إلى النبي أقطا وسمنا وأضبا، فأكل النبي من الأقط والسمن، وترك الضب تقذرا، قال ابن عباس: فأكل على مائدة رسول الله ، ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله .
(الأقِط) : لبنٌ مجفف يعرفه أهل البادية
(تقذراً) : كراهةً
، لكن النبي لم يأكله؛ لأنه لم يكن في أرض قومه، فكرهه كراهة نفسية لا شرعية.
...
مسألة : اذكر الدليل على جواز أكل الْحُمُرِ الوحْشِيَّة ؟
الحمار الوحشي حلال، والدليل الأصل، ثم نقول: عندنا دليل إيجابي، وهو حديث الصعب بن جثَّامة الاتي :
(حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أنه أهدى إلى رسول الله ( حماراً وحشياً وهو بلأبواء ، فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : ( إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حُرم )
مسألة : اذكر الدليل على جواز أكل الأرنب؟
«الأرنب» معروف، وهو حلال بناءً على الأصل.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: أنفجنا أرنبا بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، فأخذتها، فجئتُ بها أبا طلحة فذبحها، فبعث بوركيها إلى رسول الله : فَقَبِلَها .
مسألة : اذكر الدليل على جواز أكل الجراد؟
الدليل على جواز أكل الجراد ما يلي :
((3/188)
حديث عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: غزونا مع النبي سبع غزوات أو ستاً، كنا نأكل معه الجراد.
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أحلت لكم ميتتان و دمان أما الميتتان : فالحوت و الجراد و أما الدمان : فالكبد و الطحال .
«الظباء» جمع «ظبي»، وهو معروف، وهو حلال، والدليل الأصل، ولأن في صيده في حال الإحرام فدية، وكل شيء فيه فدية فإنه حلال.
قوله: «والنعامة» معروفة، وهي حلال للأصل، ولأن الصحابة رضي الله عنهم قَضَوا فيها إذا صادها المحرم بِبَدَنة ، وهذا دليل على الحل.
مسألة : مَنِ اضْطُرَّ إلى أكل طعامٍ محرم فهل يحلّ له منه ما يسدُّ رمقه فقط أم يشبع منه ؟
مَنِ اضْطُرَّ إلى أكل طعامٍ محرم حلّ له منه ما يسدُّ رمقه فقط ، ومعنى «يسد رمقه » أي: يكفي رمقه أي: بقية حياته
ولهذا الحيوان إذا وصل إلى حال الموت يقال: هذا ما فيه رمق، أي: ما فيه بقية حياة، فيحل للمضطر أن يأكل ما يسد رمقه، يعني ما تبقى معه الحياة فقط، و ليس له أن يشبع، وأن هذا الأكل ضرورة، فيتقيد بقدرها، وإذا خاف أن يجوع قبل أن يصل إلى بلده مثلاً، فله أن يتزود من هذا اللحم بحمله معه، وإذا تزوَّد وحمل معه فليس عليه خطر، لكن إذا شبع من هذا اللحم الخبيث، فربَّما يكون عليه تخمة، ونتن في بطنه فيتضرر، أنه لا يحل له إلا ما يسد رمقه، ويرد عليه قوَّته.
والدليل قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}} إلى أن قال: {{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [المائدة: 3](3/189)
وقال تعالى: {{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }} [البقرة:173]
إذاً، إذا اضطُر الإنسان إلى هذه المحرمات جاز له أكلها،
(لكن الله ـ عزّ وجل ـ اشترط شرطين:
الأول: {{فِي مَخْمَصَةٍ}} أي: مجاعة.
الثاني: {{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ}} يعني غير مائل إلى الإثم، أي: ما ألجأه إلا الضرورة وما قصد الإثم.
في الآية الثانية: {{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}} قيل: إن الباغي هو الخارج على الإمام، والعادي الطالب للمحرَّم المعتدي.
مسألة: لو اضطر إلى شرب ماء محرمٍ هل يشرب ؟
الجواب: نعم يشرب، ولو اضطر إلى شرب الخمر فلا يشرب، يقول العلماء: إن الخمر لا يغني من العطش، بل يزيد العطش، ومع ذلك إذا اضطر إليه بحيث تندفع ضرورته بتناوله حل له الخمر، ومثَّلوا لذلك برجل غصَّ بلقمةٍ ولم يكن عنده إلا كأس خمر، فله أن يتناول ما يدفع اللقمة فقط ثم يمسك؛ لأنه هنا تندفع به الضرورة، أما غيرها فلا تندفع به الضرورة .
مسألة : مَنِ َمَنْ مَرَّ بِثَمَرِ بُسْتَانٍ فِي شَجَرَةٍ فله أن يأكل منه ؟
َمَنْ مَرَّ بِثَمَرِ بُسْتَانٍ فِي شَجَرَةٍ، فالذي تبين من السنة أن الشرط هو أن يأكل مجانا بدون حمل، وألا يرمي الشجر، بل يأخذ بيده منه، أو ما تساقط في الأرض، وأيضاً يشترط أن ينادي صاحبه ثلاثاً، إن أجابه استأذن، وإن لم يجبه أكل.
( حديث ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : «مَنْ دَخَلَ حَائِطاً فَلْيَأكُلْ ولاَ يَتّخِذْ خُبْنَةً» .
(والدليل على هذا أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أذن لمن مر بالحائط أن يأكل منه غير متخذٍ خُبنة ، والخبنة هي التي يجعلها الإنسان في طرف ثوبه، أي لا يحمل منه شيئاً .
...(3/190)
مسألة : ماهي الضيافة وما حكمها ؟
تعريف الضيافة :
الضيافة أن يتلقَّى الإنسان مَن قدم إليه، فيكرمه وينزله بيته، ويقدم له الأكل، وهي من محاسن الدين الإسلامي، وقد سبقنا إليها إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، كما قال الله تعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَىَ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ) [الذاريات : 24 :27]
الْمُكْرَمِينَ : أي الذين أكرمهم إبراهيم، ولا يمتنع أن يقال: والذين أكرمهم الله ـ عزّ وجل ـ بكونهم ملائكة.
[*](حكم الضيافة :
حكم الضيافة واجب، وإكرام الضيف ـ أيضاً ـ واجب، وهو أمر زائد على مطلق الضيافة،
الشاهد : قوله تعالى [فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره :
قوله تعالى: [ فما لبث أن جاء ] التقدير: فما لبث عن أن جاء، أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل
[بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] أي مشوي. ، وقال رحمه الله تعالى : في هذه الآية من أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف الضيف .
والسنة الصحيحة طافحة بالحث على إكرام الضيف ، منها ما يلي :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي ( قال : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه ، و ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت .
[ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه] أي: من كان يؤمن إيماناً كاملاً فليكرم ضيفه.
((3/191)
وإكرام الضيف بما جرت به العادة يختلف باختلاف الضيف والمضيف، فأما المضيف فلقوله تعالى: {{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}} [الطلاق: 7] ، فإذا نزل شخص ضيفاً على رجلٍ غني، فإنه يكرمه بما وسَّع الله عليه، وإذا نزل بإنسان فقير فيكرمه بما قدر عليه، فقد ينزل هذا الرجل على شخص غني، ويكون إكرامه بأن يذبح له ذبيحة، ويدعو مَنْ حوله، وقد ينزل على آخر ويكون إكرامه له أن يقدم له صحناً من التمر؛ لأن الأول عنده مال، وهذا فقير.
كذلك باعتبار الضيف، فالضيوف ليسوا على حد سواء، ينزل بك ضيف، صاحب لك، ليس بينك وبينه شيء من التكلف فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك ضيف كبير عند الناس في ماله، وفي علمه، أو في سلطانه، فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك شخص من سِطَة الناس تكرمه ـ أيضاً ـ بما يليق به.
(ومن الإكرام ـ أيضاً ـ أن لا تقدِّر عليه قِراه كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإبراهيم عليه السلام لما نزل به الملائكة راغ إلى أهله، قال العلماء: انطلق مسرعاً بخفية، حتى لا يقولوا شيئاً؛ لأنه جرت العادة أن الضيف إذا أراد المضيف أن يكرمه قام يحلف: والله لا تفعل كذا، ولا تفعل كذا، فإبراهيم ذهب مسرعاً بخفية، وجاء بعجل حنيذ سمين، وبعض الناس يكرم، ثم إذا قدم الغداء يقول: تفضل، والله ما وجدنا هذا اللحم اليوم إلا الكيلو بعشرة، أو اللحم غالٍ اليوم، لكن أنتم أهل لذلك! وهذا فيه مِنّةٌ.
أو يقول: والله ما وجدت هذه الشاة إلا بمائتي ريال، وأخذ الذباح لها خمسين ريالاً، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا يجوز، ولهذا قال العلماء: يكره تقويم الطعام أمام الضيف؛ لأنه مهما كان الأمر فسوف ينكسر خاطره، ولا يمكن أن يخرج وهو مسرور بهذا العمل .
{ تنبيه } :( وليس من السنة التكلف للضيف فإن هذا مما نهى النبي ( عنه .
((3/192)
حديث سلمان في صحيح الجامع) قال : نهى النبي ( عن التكلف للضيف .
قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير شرح الجامع الصغير
(نهى عن التكلف للضيف ) أي أن يتكلف المضيف له ضيافة فوق ما يليق بالحال لما فيه من الإضرار بل لا يمسك موجوداً ولا يتكلف مفقوداً ولا يزيد على عادته .
مسألة : ما هي مدة الضيافة الواجبة ؟
الضيافة الواجبة يومُ وليلة :
للحديث الآتي (حديث أبي شريح في الصحيحين) أن النبي ( قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يومٌ وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل له أن يثوِي عنده حتى يُحْرِجه .
معنى يثوي : أي يقيم ، والمقصود أنه لا يحلُ للضيف أن يقيم عند المضيف حتى يحرجه أي حتى يضيق عليه .
الشاهد : قوله ( «جائزته يوم وليلة» ، ، وبعد اليوم والليلة إلى ثلاث صدقة، وما عدا ذلك فقال النبي : «ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه» «لا يحل له» أي: للضيف، «أن يثوي» أي: يبقى، إذاً الضيف إذا بقي ثلاثة أيام يغادر ولا يبقى، وقد علَّل الرسول ذلك فقال: « حتى يحرجه » فعُلم من هذا التعليل أنه إذا كان لا يحرجه فلا بأس؛ لأنه يوجد بعض الناس لو يبقى عندك أشهراً فأنت مسرور منه، ولا سيما إذا كان ضيفاً على العزاب، فالعزاب يحبون أن ينزل عليهم الضيف؛ لأنه يؤنسهم، وليس هناك نساء يخجلون، ويتعبون من الضيف .
فالمهم أن قول الرسول : «فيَُحْرِجه» يفيد أنه إذا لم يكن فيه إحراج فلا بأس أن يبقى الضيف، ولو فوق ثلاثة أيام.
مسألة : هل إكرام الضيف يعم المسلم وغير المسلم أم هو خاصٌ بالمسلم فقط ؟
الصحيح أنه يعم المسلم وغير المسلم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» ، وهذا عامٌّ، ولم يقل: أخاه، فإذا نزل بك الذمي، وجب عليك أن تكرمه بضيافته.
مسألة : ما هي آداب الطعام ؟(3/193)
دلت السنة الصحيحية على جملة من آداب الطعام ، فينبغي لمن أراد أن يتأسى بالنبي ( في الطعام أن يتحلى بها ، منها ما يلي :
(1) ذكر الله تعالى عند الطعام :
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : مَنْ أَطْعَمه الله طعاماً فليقل اللهمّ بَارِك فيه وأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ. وَمَنْ سَقَاهُ الله لَبَناً فَلْيَقُلْ: اللّهُمّ بارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ. وَقالَ رَسُولُ الله (: لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِىءُ مَكانَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ غَيْرَ اللّبَنِ» .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء .
(2) أن يقول بسم الله قبل البدء في الطعام وأن يحمد الله تعالى بعد الطعام :
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : كنت غلاماً في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : (يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). فما زالت تلك طعمتي بعد.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال إذا أكل أحدكم طعاما فليقل باسم الله فإن نسي في أوله فليقل : بسم الله على أوله و آخره .
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال من أطعمه الله طعاما فليقل:اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا منه و من سقاه الله لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيما رزقتنا و زدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام و الشراب إلا اللبن.
((3/194)
حديث أبي أمامة في صحيح البخاري ) قال كان النبي ( إذا فرغ من طعامه قال : الحمد لله الذي كفانا وأرْوَانا غير مَكْفيٍّ ولا مكفور .
معنى كفانا : من الكفاية الشاملة لجميع النعم وهذا عام ، وذكر الري بعده من باب ذكر الخاص بعد العام .
معنى غير مكفيٍّ : أي ما أكلناه ليس كافياً عما بعده
معنى ولا مكفور : أي لا نكفر بنعم الله تعالى الذي أسبغها علينا سبحانه .
( حديث معاذ بن أنس الجُهَنِي في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : من أكل طعاما ثم قال : الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام و رزقَنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و من لبس ثوبا فقال : الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر .
(3) إذا أُتِيَ بطعامٍ ولم يدري أذُكِر اسم الله عليه أم لا فليُسَمِّ هو ويأكل :
(حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الثابت في الصحيحين) أن قوماً قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا أنتم وكلُوا»
(4) أن يأكل باليمين :
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : كنت غلاماً في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : (يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). فما زالت تلك طعمتي بعد.
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله .
(5) أن يأكل بثلاث أصابع :
( حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : كان رسول الله يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها.
(6) لعق الأصابع والصحفة :
((3/195)
حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال إنكم لا تدرون في أيِّه البركة .
(7) إذا سقطت اللقمة منه فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان :
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة .
(8) غسل اليدين بعد الطعام :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من نام وفي يده غّمْرٌ ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه .
(غّمْرٌ) : الدسم والزهومة من اللحم .
(9) النهي عن الشبع :
(حديث مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : « مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِوَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ »
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي ( قال : إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين .
((3/196)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً، فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذُكر ذلك للنبي فقال: (إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
(10) النهي عن القران بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : نهى النبي أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا حتى يستأذن أصحابه.
{ تنبيه } :( السبب في ذلك لأن ذلك يكون سبباً في الطمع وسوء الخلق .
(11) التواضع في الأكل :
( حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (إني لا آكل متكئاً).
{ تنبيه } :( والسبب في ذلك أن الإتكاء حال الأكل من صفات المتكبرين والعياذ بالله .
(حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) قال: أهديت للنبي شاة فجثى رسول الله على ركبتيه يأكل فقال أعرابي ما هذه الجلسة فقال إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا .
(12) كَرَاهِيَةِ الأَكْلِ مِنْ وَسَطِ الطّعَام :
( حديث ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي )
أنّ النبي ( قالَ: «إنّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ وَسَطَ الطّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» .
( إن البركة تنزل في وسط الطعام ) بسكون السين قال الحافظ العراقي يحتمل إرادة الإمداد من اللّه تعالى
( فكلوا من حافاته ) أي جوانبه وأطرافه كل يأكل مما يليه
( ولا تأكلوا من وسطه ) لكونه محل تنزلات البركة .
(13) جواز الأكلُ قائما :
(حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) قال : «كُنّا نَأَكُلُ على عَهْدِ رَسُولِ الله ( وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ».
{ تنبيه } :( وعلى هذا فيُحمل الحديث الآتي على كراهية التنزيه
((3/197)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :
لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسي فليستقئ .
(14) لا يعيب الطعام إن اشتهاه أكله وإلا تركه .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: ما عاب النبي طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه.
(15) استحباب الإجتماع على الطعام :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : طعام الإثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : طعام الواحد يكفي الإثنين وطعام الإثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي .
( أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي ) أي أيدي الآكلين لأن اجتماع الأنفاس وعظم الجمع أسباب نصبها الله سبحانه وتعالى مقتضية لفيض الرحمة وتنزلات غيث النعمة وهذا كالمحسوس عند أهل الطريق ولكن العبد يجهله يغلب عليه الشاهد على الغائب والحس على العقل .
مسألة : ما هي آداب الدعوة إلى الطعام ؟
[*](بينت السنة الصحيحة أن للدعوة إلى الطعام آداب نبيلة ينبغي على المسلم أن يتحلى بها لمن أراد أن يتأسى بالنبي ( منها ما يلي :
(1) أن ينوي إكرام الضيف تأسياً بالنبي ( وأن يستحضر في ذهنه النصوص الواردة في ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلا :
فيكرم الضيف ، ويقدم له الأكل، ، وقد سبقنا إليها إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، كما قال الله تعالى: {{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ }} [الذاريات:24] ، أي: الذين أكرمهم إبراهيم، ولا يمتنع أن يقال: والذين أكرمهم الله ـ عزّ وجل ـ بكونهم ملائكة.(3/198)
الشاهد : قوله تعالى [فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره :
قوله تعالى: [ فما لبث أن جاء ] التقدير: فما لبث عن أن جاء، أي ما أبطأ عن مجيئه بعجل
[بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] أي مشوي. ، وقال رحمه الله تعالى : في هذه الآية من أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جدة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف الضيف .
والسنة الصحيحة طافحة بالحث على إكرام الضيف ، منها ما يلي :
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي ( قال : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه ، و ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت .
[ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه] أي: من كان يؤمن إيماناً كاملاً فليكرم ضيفه.
وإكرام الضيف بما جرت به العادة يختلف باختلاف الضيف والمضيف، فأما المُضِيف فلقوله تعالى: {{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}} [الطلاق: 7] ، فإذا نزل شخص ضيفاً على رجلٍ غني، فإنه يكرمه بما وسَّع الله عليه، وإذا نزل بإنسان فقير فيكرمه بما قدر عليه، فقد ينزل هذا الرجل على شخص غني، ويكون إكرامه بأن يذبح له ذبيحة، ويدعو مَنْ حوله، وقد ينزل على آخر ويكون إكرامه له أن يقدم له صحناً من التمر؛ لأن الأول عنده مال، وهذا فقير.
كذلك باعتبار الضيف، فالضيوف ليسوا على حد سواء، ينزل بك ضيف، صاحب لك، ليس بينك وبينه شيء من التكلف فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك ضيف كبير عند الناس في ماله، وفي علمه، أو في سلطانه، فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك شخص من سِطَة الناس تكرمه ـ أيضاً ـ بما يليق به.(3/199)
ومن الإكرام ـ أيضاً ـ أن لا تقدِّر عليه قِراه كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإبراهيم عليه السلام لما نزل به الملائكة راغ إلى أهله، قال العلماء: انطلق مسرعاً بخفية، حتى لا يقولوا شيئاً؛ لأنه جرت العادة أن الضيف إذا أراد المضيف أن يكرمه قام يحلف: والله لا تفعل كذا، ولا تفعل كذا، فإبراهيم ذهب مسرعاً بخفية، وجاء بعجل حنيذ سمين، وبعض الناس يكرم، ثم إذا قدم الغداء يقول: تفضل، والله ما وجدنا هذا اللحم اليوم إلا الكيلو بعشرة، أو اللحم غالٍ اليوم، لكن أنتم أهل لذلك! وهذا فيه مِنّةٌ.
أو يقول: والله ما وجدت هذه الشاة إلا بمائتي ريال، وأخذ الذباح لها خمسين ريالاً، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا يجوز، ولهذا قال العلماء: يكره تقويم الطعام أمام الضيف؛ لأنه مهما كان الأمر فسوف ينكسر خاطره، ولا يمكن أن يخرج وهو مسرور بهذا العمل .
{ تنبيه } :( وليس من السنة التكلف للضيف فإن هذا مما نهى النبي ( عنه
(حديث سلمان في صحيح الجامع) قال : نهى النبي ( عن التكلف للضيف .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير شرح الجامع الصغير
(نهى عن التكلف للضيف ) أي أن يتكلف المضيف له ضيافة فوق ما يليق بالحال لما فيه من الإضرار بل لا يمسك موجوداً ولا يتكلف مفقوداً ولا يزيد على عادته .
(2) يجب على المدعو أن يلبي الدعوة لأنها من حق المسلم على أخيه :
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس).
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل و إن كان صائما فليدع بالبركة .
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها .
(3) الدعاء لصاحب الطعام :
((3/200)
حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة .
( حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال * نزل رسول الله على أبي قال فقربنا إليه طعاما ووطبة فأكل منها ثم أتي بتمر فكان يأكله ويلقي النوى بين إصبعيه ويجمع السبابة والوسطى قال شعبة هو ظني وهو فيه إن شاء الله إلقاء النوى بين الإصبعين ثم أتي بشراب فشربه ثم ناوله الذي عن يمينه قال فقال أبي وأخذ بلجام دابته ادع الله لنا فقال اللهم بارك لهم في ما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم .
(4) ألا تدعو إلى طعامك إلا تقي :
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي .
الشاهد : قوله ( [ ولا يأكل طعامك إلا تقي ] لأن المطاعمة توجب الألفة وتؤدي إلى الخلطة بل هي أوثق عرى المداخلة ومخالطة غير التقي يخل بالدين ويوقع في الشبه والمحظورات فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل أو مسامحة في إغضاء عن منكر فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين بل يطعمه ولا يخالطه ، والحاصل أن مقصود الحديث كما أشار إليه الطيبي النهي عن كسب الحرام وتعاطي ما ينفر منه المتقي ، فالمعنى لا تصاحب إلا مطيعاً ولا تخالل إلا تقياً .
(5) على الضيف إذا قُدِّم إليه طعام أن لا يسأل عنه :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه من طعامه فليأكل و لا يسأل عنه و إن سقاه من شرابه فليشرب و لا يسأل عنه .
((3/201)
إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه من طعامه فليأكل ولا يسأل عنه ) أي عن الطعام من أي وجه اكتسبه ليقف على حقيقة حله فإن ذلك غير مكلف به ما لم تقو الشبهة في طعامه والمراد لا يسأل منه ولا من غيره
( و إن سقاه من شرابه فليشرب و لا يسأل عنه) أيضاً لأن السؤال عن ذلك يورث الضغائن ويوجب التباغض والظاهر أن المسلم لا يطعمه ولا يسقيه إلا حلالاً فينبغي إحسان الظن به .
(6) على الضيف أنه إذا رأى منكراً رجع :
(حديث علي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) قال * صنعت طعاما فدعوت رسول الله فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع .
فضائل بعض الأطعمة
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن خياطا دعا رسول الله لطعام صنعه، قال أنس ابن مالك: فذهبت مع رسول الله إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله خبزا ومرقا، فيه دباء وقديد، فرأيت النبي يتتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ.
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :
يا عائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله يا عائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله أو جاع أهله قالها مرتين أو ثلاثا .
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (من اصطبح بسبع تمراتٍ عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر).
( من اصطبح) أي أكل في الصباح تفعل من صبحت القوم أي سقيتهم الصبوح والأصل في الصبوح شرب الغداة ، وقد يستعمل في الأكل أيضاً لأن شرب اللبن عند العرب بمنزلة الأكل
( بسبع تمرات ) بفتح الميم جمع تمرة
( عجوة ) بنصبه صفة أو عطف بيان لتمرات وهي ضرب من أجود التمر ( لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر ) وليس ذلك عاماً في العجوة بل خاصاً بعجوة المدينة بدليل رواية مسلم من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها أي المدينة لم يضره ذلك اليوم سم ،
[(3/202)
*] قال القرطبي : فمطلق هاتين الروايتين مقيد بالأخرى فحيث أطلق العجوة هنا أراد عجوة المدينة واختصاص بعض الثمار في بعض الأماكن ببعض الخواص في بعض الأشياء غير بعيد .
(حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين).
( الكمأة ) بفتح الكاف وسكون الميم وبعدها همزة شيء أبيض كالشحم ينبت بنفسه
( من المن ) الذي نزل على بني إسرائيل أي مما خلقه اللّه لهم في التيه كان ينزل عليهم في شجرهم مثل السكر أو هو الترنجبين أو من شيء يشبهه طبعاً أو طعماً أو نفعاً أو من حيث حصولها بلا تعب لكونه ينبت بنفسه بغير استنبات أو أراد بالمن النعمة
( وماءها شفاء للعين ) إذا خلط بالدواء كالتوتيا لا مفرداً فإنه يؤذيها وقال النووي : بل مطلقاً وقيل إن كان الرمد حاراً فماؤها البحت شفاء وإلا فمخلوطاً قال الديلمي : أنا جربت ذلك أمرت أن تقطر عين جارية بمائها وقد أعيي الأطباء علاجها فبرأت
[*] وقال ابن القيم رحمه الله : اعترف فضلاء الأطباء كالمسيحي وابن سينا بأن الكمأة تجلو العين .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال : أخذ رسول الله بيدي ذات يوم إلى منزله فأخرج إليه فلقا من خبز فقال ما من آدم فقالوا لا إلا شيء من خل قال فإن الخل نعم الأُدم قال جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله .
( فإن الخل نعم الأُدم) كلمة مدح
(الأُدم ) أي الإدام أي يؤتدم به لأنه سهل الحصول ، قامع للصفراء ، نافع لأكثر الأبدان .
(حديث عُمَرَ بن الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «كُلُوا من الزّيْتَ وَادّهِنُوا بِهِ فَإِنّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» .
( كلوا من الزيت وادهنوا به ) قال بعضهم : مثال هذا الأمر للإباحة والندب لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه
[(3/203)
*] قال ابن القيم : الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لهم وأما في البلاد الباردة فضارّ وكثرة دهن الرأس به فيها خطر بالبصر .
( حديث عبدالله بن جعفر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : عليكم بلحم الظهر فإنه من أطيبه .
( عليكم بلحم الظهر ) أي بأكله
( فإنه من أطيبه ) أي من أطيب اللحم وأطيب منه الذراع وكان يحب الذراع وسم في الذراع وادعى بعضهم تقديم كل مقدم .
( حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( نهي عن أكل الثوم إلا مطبوخا .
دلت السنة الصحيحة على أنه ينبغي مراعاة صفات الأطعمة عند الجمع بينها ، فإن كان أحدها حاراً كان الثاني بارداً لأن في ذلك راحةً للمعدة مثل أكل الرطب بالبطيخ أو الرطب بالقثاء .
(حديث عبد الله بن جعفر الثابت في الصحيحين) قال : رأيت رسول الله ( يأكل الرطب بالقثاء .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) قالت : أرادت أمي أن تسمنني لدخولي على رسول الله فلم أقبل عليها بشيء مما تريد حتى أطعمتني القثاء بالرطب فسمنت عليه كأحسن السمن .
( حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال :
«أنّ النبيّ ( كانَ يَأْكُلُ البِطّيخَ بالرّطَبِ» .
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) قالت: كان النبي يحب الحلوى والعسل.
مسألة : ما هي آداب الشرب ؟
[*](بينت السنة الصحيحة أن للشرب آداباً جَمّة منها ما يلي :
(1) أن لا يتنفس في الإناء :
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه).
( إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء) أي فلا يتنفس داخل الإناء فيكره لأنه يقذره ويغير ريحه .
(2) التنفس خارج الإناء :
((3/204)
حديث أبى سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال :
أبِن القدحَ عن فِيك ثم تنفس .
( أبِن القدحَ عن فِيك) من الإبانة أي أبعد القدح عن فيك عند الشرب ندباً ولا تشرب كشرب البعير فإنه يتنفس عند الشرب فيه
( ثم تنفس ) فإنه أحفظ للحرمة وأبعد عن تغير الماء وأصون عن سقوط الريق فيه وأنفى عن التشبه بالبهائم في كرعها فالتشبه بها مكروه شرعاً وطباً .
(3) السنة في الشرب اليمن فالأيمن :
(حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : أنها حلبت لرسول الله شاة داجن، وهي في دار أنس بن مالك، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطى رسول الله القدح فشرب منه، حتى إذا نزع القدح من فيه، وعلى يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فقال عمر، وخاف أن يعطيه الأعرابي: أعط أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه، ثم قال: (الأيمن فالأيمن).
( الأيمن فالأيمن ) أي ابتدؤا بالأيمن أو قدموا الأيمن يعني من عند اليمين في نحو الشرب * كان إذا سقي قال : ابدأوا بالكبير لحمله على الحالة التي يجلسون فيها متساويين بين يديه أو عن يساره أو خلفه فتخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن أو يخص من عموم الأمر بالبداءة بالكبير ما لو قعد بعض عن يمين الرئيس وبعض عن يساره ففي هذه الصورة يقدم الصغير على الكبير والمفضول على الفاضل فالأيمن لم يمتز بمجرد القعود في الجهة اليمنى بل لخصوص كونها يمين الرئيس فالفضل إنما فاض عليه من الأفضل وأخذ من الحديث أن كل ما كان من أنواع التكريم يقدم فيه من على اليمين .
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: أتي رسول الله بقدح فشرب، وعن يمينه غلام هو أحدث القوم، والأشياخ عن يساره، قال: (يا غلام، أتأذن لي أن أعطي الأشياخ). فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحدا يا رسول الله، فأعطاه إياه.
(4) النهي عن الشرب من فم القربة أو السقاء :
((3/205)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( نهى رسول الله عن الشرب من فم القِربةْ أو السقاء .
(5) النهي عن اختناث الأسقية :
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : نهى عن اختناث الأسقية .
( نهى عن اختناث الأسقية ) أي أن تكسر أفواه القرب ويشرب منها لأنه ينتنها بما يصيبه من نفسه وبخار معدته ، وقد لا تطيب نفس أحد للشرب منه بعده أو لأنه ينصب بقوة فيشرق به فتقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب أو لغير ذلك فكره تنزيهاً لا تحريماً اتفاقاً ولأحاديث الرخصة في ذلك وإباحته ذكره النووي .
(6) يَحرُم الشرب في آنية الذهب و الفضة :
(حديث حُذيفة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( نهى عن الحرير و الديباج و الشرب في آنية الذهب و الفضة وقال: هي لهم في الدنيا وهي لهم في الآخرة.
( حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : من شرب في إناء ذهب أو فضة فإنما يُجرجَرُ في بطنه ناراً من جهنم .
(يُجرجَرُ ) : أي يُلقى في بطنه بجزعٍ متتابعة يُسمعُ لها جرجرة وهو الصوت في الحلق )
(7) تغطية الأسقية :
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(أطفئوا المصابيح بالليل إذا رقدتم، وأغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخَمِّروا الطعام والشراب .
( وخَمِّروا الطعام والشراب ) أي استروه وغطوه .
(8) من السنة أن يكون ساقي القوم آخرهم شربا :
( حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :
ساقي القوم آخرهم شربا .
( ساقي القوم آخرهم شرباً ) لان ذلك أبلغ للقيام بحق الخدمة وأحفظ للهمة وأحرز للسيادة فيبدأ بسقي كبير القوم ثم من عن يمينه واحداً بعد واحد ثم يسقي ما بقي منهم ثم يشرب ، وفي الحديث أن من ولي شيئاً من أمور الناس يجب عليه تقديم مصلحتهم على حظ نفسه .
(9) يُفضَل الشراب الحلو البارد :
((3/206)
حديث عائَشةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي ) قالت: «كانَ أحَبّ الشّرَابِ إلى رَسُولِ الله ( الحُلْوَ الْبَارِدَ».
مسألة : ما حكم الشرب قائما ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة هو جواز الشرب قائما وعليه يُحمل الآتي :
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: سقيت رسول الله من زمزم، فشرب وهو قائم.
( حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) قال: «كُنّا نَأَكُلُ على عَهْدِ رَسُولِ الله ( وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ».
{ تنبيه } :( وعلى هذا فيُحمل الحديث الآتي على الكراهة
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسي فليستقئ .
مسألة : هل يجوز انتباذ التمر والزبيب معا ؟
لا يجوز انتباذ التمر والزبيب معا لأن كلاً منهما من جنس ما يُسْكِر .
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( نهى أن يُجمع بين التمر والزَّهْوِ، والتمر والزبيب، ولْيُنْبَذْ كل واحد منهما على حدة.
(الزَّهْوِ) : البُسر الملون ، والبُسر نوع من الرطب قبل أن يصير تمرا .
مسألة : ما حكم الأكل أو الشرب في أواني أهل الكتاب ؟
المسألة على التفصيل الآتي :
1) الذي لا يستحل الميتة منهم كاليهود ، فأوانيهم طاهرة لأن الله تعالى أباح طعامهم ـ وطعامهم يُطبخُ في أوانيهم .
2) من يستحل الميتة كعُبَّاد الأصنام والمجوس وبعض النصارى، فما لم يستعملوه فهو طاهر , وما استعملوه فهو نجس والأولى التنزه عنه .
( حديث أبي ثعلبة الثابت في الصحيحين ) قال : قلتُ يا رسول الله إنا بأرضِ قومٍ أهل كتاب , أفنأكلُ في آنيتهم ، قال : لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها .
مسألة : ماهو تعريف الذَّكَاةِ ؟
«(3/207)
الذكاة» يعني الذبح، وأصلها من الذكاء، وهو الحدة والنفوذ، ووجه الارتباط أن الذبح يكون بآلة حادة ونافذة، ومنه الذكاء؛ لأن الذكي يكون حاد الذهن، ونافذ البصيرة .
أما في الشرع: فهو إنهار الدم من بهيمة تحل، إما في العنق إن كان مقدوراً عليها، أو في أي محل من بدنه إن كان غير مقدور عليها.
مسألة : هل الذكاة شرط لحل الحيوان المباح ؟
الجواب أن الذكاة شرط لحل الحيوان المباح ، فكل حيوان مباح فإنه لا يحل إلا بذكاة.
وهل يشمل ذلك ما أبيح للضرورة، فلو أن إنساناً اضطُر إلى حمار فهل لا بد لحله من الذكاة؟
الجواب: نعم، فلا نقول: إن هذا في الأصل حرام فيحل سواء ذكيته، أم خنقته، أم أصبته في أي موضع من بدنه، بل نقول: إنه لما أبيح للضرورة صار حكمه حكم ما أحل لغير ضرورة.
فإن قال قائل : ما الدليل على أنه لا يحل؟ فالدليل قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}} [المائدة: 3] ، فاشترط الله الذكاة، فإذا اشترط الله الذكاة لحل هذه التي أصابها سبب الموت، فكذلك غيرها من باب أولى؛ لأنا نقول: إذا كانت هذه التي أصيبت بسبب الموت لا تحل إلا بذكاة، فالتي لم تصب من باب أولى؛ لأنه إذا لم يُعفَ عن الذكاة في هذه التي أصيبت بسبب الموت، فألاَّ يعفى عنها فيما سواها من باب أولى، وحينئذٍ لا يحل إلا بذكاة.
أما التعليل فهو ما أجمع عليه الأطباء من أن احتقان الدم في الحيوان مضرٌّ جدّاً بالصحة، ويسبب أمراضاً عسيرة البرء، وحينئذٍ نعرف حكمة الشارع في إيجاب الذكاة، ولهذا فالمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، هذه الخمس أصيبت بما يُميتها، يعني ما ماتت حتف أنفها، ومع ذلك لم تحل؛ لاحتقان الدم فيها.(3/208)
مسألة : هل السمك والجراد يشترط لحلِّه الذكاة ؟
[ كل حيوان مباح يشترط لحلِّه الذكاة، إلا حيوان البحر، والجراد]
«إلا الجراد» فيحل بدون ذكاة، مع أن الجراد لا يعيش إلا في البر، لكنه يحل بغير ذكاة، لماذا؟
الجواب: أولاً: من حيث الدليل
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أحلت لكم ميتتان و دمان أما الميتتان : فالحوت و الجراد و أما الدمان : فالكبد و الطحال .
ثانياً: من حيث التعليل والحكمة فالجراد ليس فيه دم حتى يحتاج إلى إنهاره؛ ولهذا قال النبي : «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكُلْ»
(والسمك حلال بدون ذكاة :
«والسمك» السمك يعيش في الماء، وعلى هذا فقوله:
«وكل ما لا يعيش إلا في الماء» من باب عطف العامّ على الخاص، فكل شيء لا يعيش إلا في الماء فإنه يحل بدون ذكاة، والدليل من القرآن قوله تعالى: {{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}} [المائدة: 96] .
( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أحلت لكم ميتتان و دمان أما الميتتان : فالحوت و الجراد و أما الدمان : فالكبد و الطحال .
فصار في حل السمك والحوت بغير ذكاة دليل من الكتاب، ومن السنة.
وهو حلال ولو كان فيه دم، ومعلوم أن السمك الكبير فيه دم .
فإن قلت: كيف يحل وفيه دم محتقن، وقد علَّلتَ تحريم الميتة، وشبهها بأن فيها دماً محتقناً ضاراً؟
قلنا: إن الضرر، وانتفاء الضرر، بيد من بيده النفع والضر، وهو الله عزّ وجل، وإذا أباح الله لعباده ميتة فإننا نجزم بأن دمها المحتقن لا يضر، وهذا من حكمة الله عزّ وجل؛ وذلك لأن الحصول على السمك حتى تذكيه أمر متعسِّر، أو متعذِّر، فلذلك كان من حكمة الله ـ عزّ وجل ـ ورحمته أنه أباح لعباده هذا السمك بدون ذكاة.
مسألة : ما هي شروط الذكاة ؟
شروط الذكاة ثمانية هي :
((3/209)
1) أهلية المُذَكِّي
(2) قصد التذكية
(3) الآلة
(4) قطع الحلقوم والمريء والودجين
(5) التسمية
(6) ألا يذبح لغير الله
(7) ألا يذكر اسم غير الله عليها
(8) أن يكون الذبح مأذوناً فيه شرعاً
مسألة : ما المقصود بأهلية المُذَكِّي ؟
[*]( المقصود بأهلية المُذَكِّي: أن يجتمع فيه وصفان: العقل، والدين
( أولاً العقل ) : العقل معروف، وهو ما يعقل به الإنسان الأشياء، وضد العاقل مَن لا عقل له، سواء كان مجنوناً، أو مُبَرْسَماً، أو سَكراناً، أو دون التمييز، المهم أنه لا عقل له، ولا تمييز، فهذا لا تصح ذكاته.
فلو أن طفلاً دون التمييز أمسك عصفوراً وذبحه فإن هذا العصفور لا يحل؛ لأنه غير عاقل، ولو أن مجنوناً سطا على شاةٍ، وذبحها في رقبتها فإنها لا تحل؛ لأنه ليس له عقل.
ولماذا يشترط العقل؟
الجواب: لأنه لا بد من قصد التذكية؛ لأن الله يقول: {{إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}} [المائدة: 3] ، والفعل لا بد فيه من قصد، وغير العاقل ليس له قصد.
(ثانيا الدين ) وهو أن يكون مسلماً أو كتابيّاً» أي: يهوديّاً، أو نصرانيّاً
فإن اليهودي والنصراني تحل ذبيحتهما؛ لقوله تعالى: {{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}} [المائدة: 5] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير الآية: طعامهم ذبائحهم، وهذا أمر معلوم؛ لأننا لو فسَّرنا الطعام هنا بالخبز، والتمر، وما أشبهه لم يكن فرق بين الكتابيين وغير الكتابيين، فإن غير الكتابيين ـ أيضاً ـ يحل لنا أن نأكل خبزهم، وتمرهم، وما أشبه ذلك، فالمراد بطعامهم ذبائحهم، وإنما أضافه إليهم؛ لأنهم ذبحوه ليَطْعَموه.
(ومن السنة أن النبي كان يأكل ذبائح اليهود، فقد أهدت إليه امرأة شاةً في خيبر فقبلها
((3/210)
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن يهودية أتت النبي بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: (لا). فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله .
، ودعاه يهودي إلى خبز شعير، وإهالةٍ سنخة وهي الشحم المتغير المنتن، فقبل ، وأكل عليه الصلاة والسلام، وثبت ـ أيضاً ـ في الصحيح أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أخذ جراباً من شحم رُمي به في خيبر، فالتفت فإذا النبي وراءه يضحك، وهذه سنة إقرارية
مسألة: هل نقول: طعام الذين أوتوا الكتاب كل ما اعتقدوه طعاماً، وإن لم يكن على الطريقة الإسلامية؟
الجواب: لا، بل الصواب الذي عليه جمهور العلماء ، وأنه لا بد أن يذكى وينهَر الدم فيه، ولا بد أن يسمى الله عليه
{ تنبيه } :( وقد شكك بعض الناس في عصرنا في حل ذبيحة اليهودي والنصراني، وقال: إنهم الآن لا يدينون بدين اليهود، ولا النصارى، وهذا ليس بصواب، نعم إن قالوا: نحن لا ندين بهذه الأديان، ولا نعتبرها ديناً، فإن ردتهم واضحة، أما إذا قالوا: إنهم يدينون بها، ولكن عندهم شركاً، فإن ذلك لا يمنع، بدليل أن الله ـ تعالى ـ أنزل سورة المائدة، وحكى فيها عن النصارى ما حكى من القول بالتثليث، وكفَّرهم بذلك، فقال سبحانه: {{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}} [المائدة: 73] ، وفي نفس هذه السورة قال سبحانه: {{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}} [المائدة: 5] ، فالقرآن نزل بعد أن غيَّروا وبدَّلوا، بل بعد أن كفروا، ومع ذلك أحل ذبائحهم ونساءهم، وعلى هذا، فما دام هؤلاء يقولون: إنهم يدينون بدين النصارى، أو بدين اليهود فإن لهم حكم اليهود والنصارى، ولو كان عندهم تبديل وتغيير، ما لم يقولوا: إنهم مرتدون.
مسألة : هل تصح ذكاة من يعبد وثناً، أو ملكاً، أو نبياً ؟(3/211)
من يعبد الأوثان، فلا تصح ذكاته؛ لأنه ليس بمسلم ولا كتابي، فالذي يعبد وثناً، أو ملكاً، أو نبياً لا تصح ذكاته،
مسألة : ما المقصود بقصد التذكية للمُذَكِّي ؟
المقصود بقصد التذكية للمُذَكِّي : يقصد التذكية للحيوان ، فإن لم يقصدها، مثل لو أن إنساناً أمسك بسكينٍ ليقطع حبلاً، وكان الحبل مرتفعاً على رقبة شاةٍ، وهو بقوة اتكائه على الحبل انقطع الحبل بسرعة، ونزلت السكين على رقبة الشاة وقطعتها، فلا تحل؛ لأنه لم يقصد التذكية.
( حديث عمر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )
مسألة : ما هو تعريف النية ؟
النية شرعا : العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى .
{ تنبيه } :( النية محلها القلب لا دخل للسان فيها ، فمن تلفظ بلسانه في النية فقد ابتدع في دين الله ، واستحدث في الدين بعد إكماله .
مسألة: لو أن رجلاً صال عليه جمل، وكان معه سيف، فأراد أن يدافع عن نفسه فقال: بسم الله، وضربه دفاعاً عن النفس؛ حتى أصاب منحره، أو مذبحه، فهل يحل أو لا؟
الجواب: هذا لا يحل؛ لأنه ما قصد التذكية، بل قصد الدفاع عن نفسه، ولهذا لا يهمهم أن يضربه في رقبته، أو في رأسه، أو في ظهره، أما لو قصد التذكية، وقال: ما دام صال عليّ فسأذبحه ذبحاً، وقصد التذكية مع قصد دفع الصول فإنه يحل .
مسألة : ما المقصود بالآلة ؟
المقصود بالآلة التي هي من شروط حل الذكاة ، أن يكون الذبح بآلة، فلا يصح الخنق، ولا التردية ـ أي: أن يرديها من الجبل حتى تموت ـ ولا الحذف بأن يحذفها بشيء حتى تموت، ولا الضرب، فكل هذا لا تحل به الذبيحة، بل لا بد من آلة، ولا بد في هذه الآلة من أن تكون محدَّدة
«(3/212)
فتباح الذكاة بكل محدد من حديد وحجر » أي: له حد يقطع، أما إذا لم يكن له حد فلا تحل الذكاة به، فلو صعقها بالكهرباء فلا تحل؛ لأنها غير محددة، ولا تنهر الدم، ولا بد من آلة محدَّدة تنهر الدم، أي: تجعله يسيل.
«محدد من حديد وحجر » : أي: سواء كان المحدد من حديد، أم حجر. فإذا كان الحجر محدداً ومررت به على الرقبة حتى ينهر الدم أصبحت الذكاة به.
(حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكر اسم الله فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة). وأصبنا نَهْبَ إبل وغنم، فندَّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله : (إنَّ لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا).
مسألة: هل تحل الذكاة بالذهب؟
الصحيح أنها تصح مع الإثم؛ لأنه حرام.
مسألة : اذكر الدليل على جواز الذبح بحجر ؟
( حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسئل النبي عن ذلك، فأمر بأكلها.
مسألة : ما هي العلة في عدم الذبح بالسن أو الظفر ؟
« ليس السن والظفر » المراد كل سِنٍّ وظفر، ولو كان محدداً، وعلى هذا فما يفعله الصبيان من قطع رقبة العصفور بأظفارهم، ثم يأكلونه حرام، حتى لو كان الظفر حادّاً، لقوله : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلْ، إلاَّ السن والظفر، أما السن فعظم، وأمَّا الظفر فمُدى الحبشة» ومُدى: جمع مدية، وهي السكين، والحبشة معروفون.
لأن التعليل واضح، والقاعدة الشرعية أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
مسألة : ما معنى وأما الظفر فمدى الحبشة ؟(3/213)
وقوله : «وأما الظفر فمدى الحبشة» فيه إشكال؛ لأننا لو فرضنا أن للحبشة مدى وسكاكين خاصة بهم، لا يستعملها إلاَّ هم، فهل تصح التذكية بها؟ لأن غير الظفر وإن كان حديداً يصنعونه على صفة معيّنة لا يصنعها إلاّ هم، لا يقتضي أن يكون خاصاً بهم؛ لأن الناس يذبحون بالمحدد في كل مكان، لكن الذين جعلوا أظفارهم مدى هم الحبشة؛ ولهذا لا يقصون أظفارهم بل يتركونها تكبر حتى تطول، ويذبحون بها كل ما يمكن ذبحه بها، وبناءً على ذلك نقول: إن النبي نهى عن الظفر؛ لأنها مدى الحبشة، لأن فيه مفسدتين :
الأولى: أننا لو جعلنا الأظفار آلة للذبح لفاتنا مشروعية القص للأظفار، وفي ذلك مخالفةٌ للفطرة.
الثانية: أنه بذلك يشبه سباع الطير، ونحن نهينا أن نتشبَّه بالحيوانات.
ويمكن أن نقول أيضاً: إنه يتضمن مشابهة الكفار؛ لأن الحبشة في ذلك الوقت كانوا كفاراً، والتشبه بالكفار محرم وأهل الحبشة لا يظهر أنهم كلهم أهل كتاب وعلى فرض أنهم كلهم أهل كتاب فإن التشبه بأهل الكتاب فيما يختص بهم محرم منهي عنه.
مسألة: ما حكم الذبح بالأسنان التركيبية؟
إن كانت من عظم فعلى الخلاف، وإن كانت من غير العظام فيجوز الذبح بها، هذا إذا كانت غير مركبة على الفم، فإن كانت مركبة على الفم فلا يجوز؛ لأنه يتلطخ بالدم النجس، ويكون متشبهاً بالسباع.
مسألة : ما هو الحلقوم والمريء والودجين ؟
في الرقبة أربعة أشياء: ودجان، وحلقوم، ومريء.
«الودجان»: عرقان غليظان يحاذيان الحلقوم والمريء، ويسميان الشرايين.
«الحلقوم»: مجرى النفس.
«المريء» مجرى الطعام والشراب.
والحلقوم قصب مضلَّع، وهذا من حكمة الله ـ تعالى ـ أن جعله قصبة؛ لأن الحلقوم لو كان كالمريء لم يخرج النفس، ولو خرج لكان بمشقة شديدة، لهذا جعله الله قصبة، وجعله سبحانه ذا أضلاع، لأجل سهولة المضغ، وسهولة تنزيل الرأس ورفعه، والله ـ سبحانه وتعالى ـ حكيم ورحيم.(3/214)
والحلقوم أعلى من المريء من جهة الجلد، أما من جهة الرقبة فالمريء أعلى.
مسألة : لماذا يشترط قطع الحلقوم والمريء في الذبح ؟
يشترط قطع الحلقوم والمريء في الذبح لأن بقطعهما فقد الحياة،
والدليل على اشتراط قطع الحلقوم والمريء أن هذا هو الذبح، وهو معروف عند العرب، أن الذابح يأتي على الرقبة فيقطع الحلقوم والمريء، وتعليل آخر أن بذهابهما ذهاب الحياة، فإذا انفتح الحلقوم مات الحيوان،
وكذلك المريء مجرى الطعام والشراب، فإن الطعام مادة الحياة كما أن النفس مادة الحياة، فبقطعهما تزول الحياة، فكان قطعهما واجباً.
مسألة : لماذا يشترط قطع الودجين في الذبح ؟
والدليل على اشتراط الودجين : يشترط قطع الودجين لقوله : «ما أنهر الدم» ولا ريب عند كل عارف أنه لا يكون إنهار الدم إلا بقطع الودجين .
{ تنبيه } :( [ ذكاة ما عُجِز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئر، ونحوها بجرحه في أي موضع كان من بدنه]
«ما عجز عنه من الصيد» أي: فذكاته «بجرحه في أي موضع كان من بدنه» مثل أن يلحق الإنسانُ ظبياً، ويعجز عنه، فيرسل عليه السكين، فتضربه في بطنه حتى يموت، فإنه يحل، مع أن الذبح ليس في الرقبة، لكن الله يقول: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] وأنا لم أستطع أكثر من ذلك.
وكذا النعم :
: «(3/215)
المتوحشة» أحياناً تشرد الإبل حتى لا يستطيع الإنسان أن يمسكها، فماذا يصنع بهذه؟ نقول: حكمها حكم الصيد، تحل بجرحها في أي موضع من بدنها، ودليل ذلك قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}}، ولأنه ندَّ بعيرٌ من إبل القوم، والنبي معهم، فرماه رجل بسهمٍ فحبسه، فقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن لهذه النعم أوابد كأوابد الوحش، فما ندَّ عليكم فاصنعوا به هكذا»، فقوله: «ما ندَّ عليكم» يعني شرد حتى لم تتمكنوا منه «فاصنعوا به هكذا» أي: ارموه بالسهام، ولأن الصيد بإجماع المسلمين يحل في أي موضع أصيب، وهذا مثله، كما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام.
(حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكر اسم الله فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة). وأصبنا نَهْبَ إبل وغنم، فندَّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله : (إنَّ لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا).
مسألة : الواقعة في بئر كيف نذكيها ؟
الواقعة في بئر نرميها بالسهم في أي موضع من بدنها، وتحل؛ وعلة ذلك العجز عن ذبحها على الوجه المعتاد.
فتكون أدلة هذه المسألة هي الأدلة السابقة، إلاَّ أن الأدلة السابقة فيما عُجِزَ عنه عَدْواً، وهذه فيما عجز عنه بالنسبة إلينا
«إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يحل » لأننا لا ندري أمات بالماء أم بالسهم .
(حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله ، فإن وجدته قُتل فكل إلا أن تجده قد وقع في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك .
[لا يحل؛ لأنه اجتمع عندنا مبيح وحاظر، فيُغلَّب جانب الحظر ـ أي: المنع ـ؛ لأننا لا ندري أيهما الذي حصل به الموت.]
((3/216)
وهذه العلة تدل على أننا لو تيقنا أن الذي قتله السهم لحلَّ، وكيف أدري؟
الجواب: بأن يكون الماء قليلاً لا يغرقه، أو أراه قد رفع أنفه يتنفس، ويكون السهم قد أصابه في قلبه مثلاً، فهنا نعلم أن الذي قتله السهم دون الماء. وهل يلزم أن ينزل إليه في البئر ويذبحه كالمعتاد؟
والجواب: أنه قد لا يمكنه ذلك فلربما أنه بنزوله يموت الحيوان وحينئذٍ يفوت عليه.
مسألة : اذكر الدليل على اشتراط التسمية ؟
ودليل ذلك قوله تعالى: {{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }} [الأنعام:118] ، وقوله تعالى: {{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}} [الأنعام: 119] ، وقوله عزّ وجل: {{وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}} [الأنعام: 121] .
ومن السنة (حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكر اسم الله فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة). وأصبنا نَهْبَ إبل وغنم، فندَّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله : (إنَّ لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا).
الشاهد : قوله ( «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكُلْ» فقال: «ما أنهر الدم..» و«ما» شرطية. فَشَرط لحل الأكل التسمية، كسائر الشروط لأن الشرط لا يصحُّ المشروطُ بدونه، وكما لو ذبحها ولم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً فإنها لا تحل، فكذلك إذا ترك التسمية؛ لأن الحديث واحد: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.(3/217)
ويمكن أن يستدل ـ أيضاً ـ (بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الثابت في الصحيحين) أن قوماً قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا أنتم وكلُوا» فإن هذا يدل على أنه كان من المستقر عندهم أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يؤكل، ولهذا قالوا: لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ يعني فهل نأكله أو لا؟ فقال : «سموا أنتم وكُلوا» .
مسألة: هل يُشرع أن يذكر اسم الرسول هنا؟
الجواب: لا يشرع؛ وعليه فلا تقل: «باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله»؛ لأن هذا مقام إخلاص لله عزّ وجل، فلا ينبغي أن يُذكر مع اسمه اسمُ غيرِه.
مسألة : لو نسي التسمية فما الحكم ؟
يقول الله تعالى : {{وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}} [الأنعام: 121] .
ومن السنة قول النبي : «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكُلْ» فقال: «ما أنهر الدم..» و«ما» شرطية. فَشَرط لحل الأكل التسمية، كسائر الشروط لأن الشرط لا يصحُّ المشروطُ بدونه، وكما لو ذبحها ولم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً فإنها لا تحل، فكذلك إذا ترك التسمية؛ لأن الحديث واحد: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
مسألة : لو جاءنا لحم من القصَّابين ـ الجزارين ـ المسلمين فهل يشترط أن نعلم أنهم سموا ؟
لا، واحتمال أنهم لم يسموا واردٌ، ومع ذلك لا يشترط، بل نشتري ونأكل ولا نقول شيئاً، فهذه قاعدة مطَّردة: أن الأصل في الفعل الصادر من أهله الصحة، ما لم يقم دليل الفساد، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال: «سموا أنتم وكلوا» كأنه يشير إلى نقدٍ لاذع لهم، كأنه يقول: لستم مكلفين بفعل غيركم، والذبح ليس فعلكم بل فعل الغير، وأنتم غير مسؤولين عنه، ولكنكم مسؤولون عما تفعلون أنتم، فأنتم سموا وكلوا، وهذا واضح لمن تأمله.(3/218)
مسألة : اذكر الدليل على أنه يشترط للذبح أن يكون الذبح مأذوناً فيه شرعاً ؟
يشترط للذبح أن يكون الذبح مأذوناً فيه شرعاً فإن كان غير مأذون فيه شرعا فلا يحل ، كالصيد في حال الإحرام، أو الصيد في الحرم، فإذا ذبح المُحْرِم صيداً فهو حرام، وإن تمت الشروط؛ لأنه لم يؤذن فيه شرعاً، لقوله تعالى: {{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}} [المائدة: 96] ، ومن السنة (حديث الصعب بن جثامة الثابت في الصحيحين ) أنه أهدى إلى رسول الله ( حماراً وحشياً وهو بلأبواء ، فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : ( إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حُرم )
الشاهد قوله( : «إنا لم نرده عليك إلا أننا حرم»
أي: مُحْرِمون، وقد صاده الصعب بن جثامة للنبي .
مسألة : اذكر الدليل على أنه من شروط الذكاة الشرعية ألا يذبح لغير الله ؟
من شروط الذكاة الشرعية ألا يذبح لغير الله فإن ذبح لغير الله فهي حرام، لا تحل، حتى وإن سمى الله، بأن ذبح لصنم، أو لسلطان، أو لرئيس، أو لولي، أو لأي أحد، ذبحاً يتقرب إليه به، ويعظمه به، فإن الذبيحة حرام؛ لقوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}} [المائدة: 3] يعني على الأصنام، فما ذبح عليها فهو حرام.
ومن السنة الصحيحة ما يلي :
( حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من غير المنار .
مسألة : اذكر الدليل على أنه لا يجوز أن يذكر اسم غير الله على الذبيحة ؟(3/219)
لا يجوز أن يذكر اسم غير الله عليها، فإن ذكر غير اسم الله عليها فهي حرام، سواء ذكره مفرداً، أو مع اسم الله؛ لقوله تعالى: {{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}} [المائدة: 3] ، وأصل الإهلال رفع الصوت، فإذا أهل لغير الله بشيء من الذبائح فهي حرام، مثل أن يقول: باسم المسيح، أو باسم الولي فلان، أو باسم النبي محمد ، أو باسم الشعب، ، أو ما أشبه ذلك، فإن الذبيحة حرام لا تحل؛ لأنه أهل لغير الله بها، فإذا انفرد بذكر غير الله فالأمر واضح، وإن شارك؛ فلأن الشرك إذا قارن العمل أحبطه قال تعالى: {{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}} [الزمر: 65] ، وعلى هذا فإذا ذُبحت الذبيحة على اسم غير الله منفرداً أو مشاركاً فإنها حرام لا تحل.
مسألة : ما أصيب من الحيوانات كالمنخنقة وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ ، إذا أدركت وفيها حياة مستقرة فذُكِّيت فهل تحل ؟
ما أصيب من الحيوانات كالمنخنقة وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ ، إذا أدركت وفيها حياة مستقرة فذُكِّيت فإنها تحل لقوله تعالى: (حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ) [سورة: المائدة : 3]
الشاهد: قوله تعالى [إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ ] أي إلا ما أدركتموه وفيه حياة فذكيتموه فليس محرم .
(الْمُنْخَنِقَةُ ) : التي التف على عنقها حبلٌ ونحوه فخنقها
(وَالْمَوْقُوذَةُ) :هي التي ضُرِبت بشيءٍ ثقيل
(وَالْمُتَرَدّيَةُ) : هي التي تسقط من شيئٍ مرتفع
(وَالنّطِيحَةُ) هي التي نطحها حيوانٌ آخر برأسه
(وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ) : هي التي السّبُعُ كالذئب ونحوه .
مسألة : ما حكم الذبح بآلة كالَّة ؟(3/220)
يحرُم الذبح بآلة كالَّة لما فيه من تعذيب الحيوان:
أصل الكلل بمعنى التعب، والكالة معناها التي أنهكها الاستعمال، فلم تكن حادة.
( حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته .
[*](وهذا الحديث يقتضي تحريم الذبح بآلة كالة من وجهين:
(الوجه الأول: أن الرسول قال: «إن الله كتب الإحسان» والكَتْب بمعنى الفرض؛ لأنه يطلق على الأمر الواقع اللازم، إما شرعاً، وإما قدراً، فلا يأتي الكَتْب في الشيء المستحب. بل يأتي على الشيء اللاّزم.
فقوله تعالى: {{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }} [الأنبياء:105] ، وقوله تعالى: {{كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ}} [المجادلة: 21] .
فهذه كتابة قدرية، أما الكتابة الشرعية فمثل قوله تعالى: {{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}} [البقرة: 183] ، و{{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}} [النساء: 103] ، و{{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}} [المائدة: 45] ، و{{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}} [البقرة: 178] وأمثال ذلك.
وقوله : «كتب الله الإحسان على كل شيء» فإذا ارجعنا إلى الاصطلاح الشرعي وجدنا الكتابة لا تكون إلا في الشيء اللازم، وقوله: «كتب الإحسان على كل شيء...» عام، ونص على شيء من أفراده يتعلق بما نحن فيه، فقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» .
((3/221)
الوجه الثاني: قوله: «وليحد أحدكم شفرته» اللام هنا للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، وإذا وجب إحداد الشفرة صار الذبح بالكالة حراماً، ومن النظر: فلأن الذبح بالآلة الكالة فيه إيلام للحيوان بلا حاجة، وعلى هذا فالقول الراجح في هذه المسألة أن الذبح بالآلة الكالة حرام. ولكن لو ذبح بها فالذبيحة حلال؛ لعموم قوله : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» .
مسالة : هل السنة في الإبل الذبح أم النحر ؟
السنة في نحر الإبل أن تنحر قائمة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها .
( حديث عبد الرحمن بن سابط رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي (:وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها .
مسألة : ما هي ذكاة الجنين ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة أن ذكاة الجنين ذكاة أمه
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : ذكاة الجنين ذكاة أمه .
[الجنين ] : الولد في البطن
معنى [ذكاة الجنين ذكاة أمه ] أن ذبح أمه يُغني عن ذبحه .
مسألة : هل يستحب أن توجه الذبيحة نحو القبلة ؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة أنه يستحب أن توجه الذبيحة نحو القبلة .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال : ذبح النبي يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجئين فلما وجههما قال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح .
((3/222)
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) : أن رسول الله مر بغلام يسلخ شاة فقال له رسول الله تنح حتى أريك فأدخل رسول الله يده بين الجلد واللحم فدَحَسَ بها حتى توارت إلى الإبط وقال يا غلام هكذا فاسلخ ثم مضى وصلى للناس ولم يتوضأ .
(فدَحَسَ) : الدحس إدخال اليدين بين جلد الشاة ولحمها .
مسألة : ماهي الأُضْحِيَة ؟
الأُضْحِيَة : هي ما يُذبح من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم) يوم النحر وأيام التشريق تقرباً إلى الله تعالى .
مسألة : ماهي الأُضْحِيَة ؟
الأُضْحِيَة سنة على الصحيح
( حديث أم سلمة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي .
الشاهد : قوله ( [وأراد أن يضحي] فعلَّق الأضحية على الإرادة وهذا يدل على عدم الوجوب لأن الواجب ملزم لا يتعلق بكونك تريد أم لا .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : من كان له سعة و لم يضح فلا يقربن مصلانا .
مسألة : هل الأضحية مشروعة للأحياء أم الأموات ؟
الأضحية مشروعة للأحياء دون الأموات إذ لم يُروَ عن النبي ( ولا أصحابه أنهم ضحوا عن الأموات ، فإن النبي ( مات له أولاد من بنين وبنات ومات له زوجات وأقارب يحبهم كخديجة رضي الله عنها وعمه حمزة رضي الله عنه وبناته الثلاث ولم يُضَح عنهم ، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لبينه النبي ( قولاً أو فعلاً لأنه أحرص الناس على الخير وأعلم الناس بما يُجيزه الشرع ، وإنما يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته وتجزئ الشاة في ذلك .
( حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : كان الرّجلُ في عهد النبي ( يُضَحّي بالشّاةِ عنهُ وعن أهلِ بَيْتِهِ فيأكلُون ويُطْعِمونَ .
((3/223)
حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتى به ليضحى به فقال لها يا عائشة هلمي المدية ثم قال اشحذيها بحجر ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به .
مسألة : ما هي شروط الأضحية ؟
[*](شروط الأضحية ما يلي :
(1) أن تكون من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم)
قال تعالى: (لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِيَ أَيّامٍ مّعْلُومَاتٍ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) [سورة: الحج : 28]
ولأن النبي ( لمن يضح إلا من بهيمة الأنعام ، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود .
(لحديث عائشة الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .
(2) أن تبلغ السن المحدد شرعا :
وهي (جذعة من الضأن) : وهو ما له ستة أشهر
(وثني مما سواه ) : وهو سنة للماعز ، وسنتان للبقر ، وخمس سنوات للإبل .
( حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن .
{ تنبيه } :( معنى مسنة : أي مُثْنِية أي ثنية .
(3) أن تكون سليمةً من العيوب :
( حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : أربعٌ لا تجوز في الأضاحي العَوْرَاءُ بَيِِّنُ عَوَرُهَا والمريضةُ بَيِِّنُ مرضُها والعرجَاءُ بَيِِّنُ ظلعُها والكسيرُ التي لا تُنقي .
) بَيِِّنُ ) : ظاهر
(عَوَرُهَا) : أي عماها في عين
(والمريضةُ) : التي لا تعتلف
(بَيِِّنُ ظلعُها) : أي عرجُها وهوأن يمنعها من المشي .
(والكسيرُ) : أي بيِّنة الكسر التي لا تقدرُ على المشي
(التي لا تُنقي) : التي لا نِقي لها وهو مخ الساق .
(4) أن تكون في وقت الذبح :(3/224)
أي بعد صلاة عيد الأضحى كما بينت ذلك السنة الصحيحة
(حديث البراء رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: خطبنا النبي ( في يوم النحر فقال: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنَّتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدَّمه لأهله، ليس من النُّسُك في شيء). فقام أبو بُردة بن نِيَار، وقد ذبح، فقال: إن عندي جَذعة. فقال: (اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك).
(ليس من النُّسُك في شيء) : أي ليس من الذبح في شيء
(ولن تجزي عن أحد بعدك) : وذلك لأن النبي ( أمره بالإعادة تصحيحاً لخطأه .
مسألة : عن كم تُجزئ البدنة أو البقرة ؟
دلت السنة الصحيحة أن البدنة أو البقرة تُجزئ عن سبعة ، وعلى هذا فإن سُبع بدنة أو سُبع بقرة تُجزئ عن الرجل وأهل بيته مكان الشاة .
( حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم ) قال : نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة .
مسألة : هل تُجزئ العضباء في الضحية ؟
العضباء : هي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها ، وهي تجزئ في الأضحية إلا أنها مكروهة على الصحيح
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) قال: «أمَرَنَا رسولُ الله ( أنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأذُنَ .
مسألة : كيف تُوَزَع الأُضحية ؟
يُسَنُ في الأُضحية أن تُقسم أثلاثا (يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدي الثلث)
والدليل على أنه يأكل منها ويتصدق قوله تعالى: (فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ) [سورة: الحج : 28]
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال : كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فرخص لنا النبي قال: (كلوا وتزودوا).
والدليل على إهداء الثلث :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : تهادوا تحابوا .(3/225)
مسألة : من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فهل يجوز له أن يأخذ من شعره ولا من أظفاره قبل أن يضحي ؟
من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي .
( حديث أم سلمة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي .
مسألة : اذكر الدليل على استحباب ذبح الأضحية بنفسه ؟
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: ضحَّى النبي بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر، ووضع رجله على صفاحهما.
...
مسألة : ما هي العقيقة ؟
العقيقة : هي الذبيحةُ التي تُذبح عن المولود ذكراً كان أم أتثى .
مسألة : ما حكم العقيقة ؟
العقيقة : واجبة على القادر
( حديث سلمان بن عامر الضَّبيُّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى).
(حديث سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع وَيُحْلَقُ رأسُه ويُسمى .
مسألة : ما مقدار ما يُذبح عن المولود ؟
يذبح عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : عن الغلام شاتان متكافئتان و عن الجارية شاة .
( عن الغلام شاتان متكافئتان) أي متساويتان في السن والحسن أو معادلتان لما يجب في الزكاة في الأضحية من الأسنان مذبوحتان من قولهم كافأ الرجل بين بعيرين إذا وجأ في لبة هذا ثم لبة ذاك فنحرهما معاً ذكره الزمخشري وزاد أو مكافئتان دفعاً لتوهم أن يتجن في أحديهما ويهون أمرهما فبين به أن تكون فاضلة كاملة وفيه تنبيه على تهذيب العقيقة من عيوب الأضحية .
((3/226)
وعن الجارية شاة ) على قاعدة الشريعة فإنه سبحانه فاضل بين الذكر والأنثى في الإرث والدية والشهادة والعتق فكذا العق ولا يعارضه أن فاطمة ذبحت عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً لأن النبي ذبح عن كل واحد كبشاً وذبحت أمهما .
مسألة : إذا وُلد له غلام ولم يستطع إلا ذبح شاة واحدة فهل يجزئ ذلك ؟
الصحيح أن الشاة الواحدة تُجزئ ويحصل بها المقصود وعليه يُحمل الحديث الآتي :
(عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( عقّ رسولُ الله ( عن الْحَسَنِ بشاةٍ وقال يا فاطمةُ احْلِقِي رأْسَهُ وتَصَدّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضّةً،قال فَوَزَنَتْهُ، فكانَ وَزْنَهُ دِرْهَماً أو بعضَ دِرْهَمٍ» .
، لكن إذا كان يستطيع فالشاتان أفضل
مسألة : متى تُذبح العقيقة ؟
تُذبح العقيقة يوم السابع فإن فات ففي الرابع عشر فإن فات ففي الحادي والعشرين
(حديث سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع وَيُحْلَقُ رأسُه ويُسمى .
( حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال:العقيقة تذبح لسبع أو لأربع عشرة أو لإحدى و عشرين .
( العقيقة تذبح لسبع ) من الأيام
( أو لأربع عشرة ) يوماً
( أو لإحدى وعشرين ) يوماً قال أحمد : يعني أنها تذبح يوم السابع فإن لم يفعل ففي أربع عشرة فإن لم يفعل ففي إحدى وعشرين وحكمه كونها في السبع أن الطفل لا يغلب ظن سلامة بنيته وصحته خلقته وقبوله للحياة إلا بمضي الأسبوع والأسبوع دور يومي كما أن السنة دور شهري .
مسألة : ما يُستحبُ في حق المولود ؟
[*](دلت السنة الصحيحة على أنه يُستحبُ في حق المولود أمورٌ منها ما يلي :
(1) تحنيكه بتمرة :
((3/227)
حديث أبي موسى الاشعري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: ولد لي غلام، فأتيت به النبي فسماه إبراهيم، فحنكه بتمرة، ودعا له بالبركة، ودفعه إلي، وكان أكبر ولد أبي موسى.
(2) أن يُعَقَّ عنه يوم السابع وَيُحْلَقُ رأسُه ويُسمى :
(حديث سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح السنن الأربعة ) أن النبي ( قال : كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع وَيُحْلَقُ رأسُه ويُسمى .
(3) التصدق بزنة شعره فضة :
(عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( عقّ رسولُ الله ( عن الْحَسَنِ بشاةٍ وقال يا فاطمةُ احْلِقِي رأْسَهُ وتَصَدّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضّةً،قال فَوَزَنَتْهُ، فكانَ وَزْنَهُ دِرْهَماً أو بعضَ دِرْهَمٍ» .
(4) اختيار اسمٌ حسنٌ له ، وأفضلها عبد الله وعبد الرحمن ، واستحباب التسمية بأسماء الأنبياء :
( حديث بن عمر رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :
إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن .
( حديث أبي وهب الجُشَمِّي رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهَمّام وأقبحها حرب ومُرَّة .
مسألة : ماهو تعريف الصَّيْدِ ؟
تعريف الصيد : هو اقتناص حيوان حلال متوحش الطبع غير مقدور عليه.
مسألة : هل الصيد حلال أو حرام؟
[*](الصيد يقع على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يُصطاد للحاجة إليه والأكل ، فهذا لا شك في جوازه، وهو مما أحله الله ـ عزّ وجل ـ في كتابه، وثبتت به السنة عن النبي ، وأجمع عليه المسلمون. قال تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ) [سورة: المائدة : 2](3/228)
و قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَمَا عَلّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [سورة: المائدة - الأية: 4]
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : سألت النبي عن المِعْرِاض، فقال: (إذا أصاب بِحَدِّه فَكُل، وإذا أصاب بِعَرَضِه فقُتِل عدي بن حاتم رضي الله عنه فلا تأكل). فقلت: أرسل كلبي ؟ قال : إذا أرسلت كلبك وسمَيْت فَكُل ، قلت فإن أكل ؟ قال : فلا تأكل فإنه لم يُمسك عليك إنما أمسك على نفسه ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: (فلا تأكل، فإنك سمَّيت على كلبك ولم تسم على الآخر).
الثاني: أن يصطاد على سبيل اللهو والعبث، وليس بحاجة إلى الأكل، وإذا صاد الصيد تركه، فهذا مكروه، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه؛ لأنه عبث، وإضاعة مال، وإضاعة وقت.
( حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن .
( ومن اتبع الصيد غفل ) لحرصه الملهي عن الترحم والرقة أو لأنه إذا اهتم به غفل عن مصالحه أو لشبهه بالسباع وانجذابه عن الرقة ،
[*] قال الحافظ ابن حجر : يكره ملازمة الصيد والإكثار منه لأنه قد يشغل عن بعض الواجبات وكثير من المندوبات ودليله هذا الحديث
الثالث: أن يصطاد على سبيل يؤذي الناس، مثل أن يستلزم صيدُهُ الدخولَ في مزارع الناس، وإيذاءَهم، وربما يكون فيه انتهاك لحرماتهم، كالتطلع إلى نسائهم في أماكنهم، فهذا يكون حراماً؛ لما يستلزمه من الأذية للمسلمين.
هذا بالنسبة للصيد من حيث هو صيد،
مسألة : ما هي آثار الصيد ؟(3/229)
أما آثار الصيد فإن الصيد يبهج النفس ويسرها، ويعطي الإنسان نشاطاً وحيوية لا يعرفها إلا أهل الصيد، فتجدهم يجدون لذةً، وسروراً، ومتعة، وإن كانوا يتعبون، ويطاردون الطيور، والحيوانات، ويخرجون إليها في الليالي القارسة، والأيام الحارة.
كذلك ـ أيضاً ـ في الصيد مصلحة تعلم الرمي، وتعلم الرمي من الأمور المشروعة، قال الله تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] ، ( حديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح مسلم ) قال :سمعت رسول الله ( وهو على المنبر يقول !< وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة >! ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي .
الشاهد : قوله : «ألا إن القوة الرمي» ، يؤيد أن المراد بذلك السلاح،
مسألة : ما هي شروط الصيد ؟
شروط الصيد ثمانية :
(1) أن يكون الصائد من أهل الذكاة.
(2) أن يقصد الصيد
(3) الآلة وهي نوعان محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح.
وأن يجرح فإن قتله بثقله لم يبح وما ليس بمحدد كالبندق والعصا والشبكة والفخ ولا يحل ما قتل به والنوع الثاني الجارحة فيباح ما قتلته إذا كانت معلمة .
(4) إرسال الآلة قاصداً فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح إلا أن يزجره فيزيد في عدوه في طلبه فيحل.
(5) التسمية
(6) ألا يذبح لغير الله
(7) ألا يذكر اسم غير الله عليها
(8) أن يكون الذبح مأذوناً فيه شرعاً
مسألة : ما معنى أن يكون الصائد من أهل الذكاة ؟
معنى أن يكون الصائد من أهل الذكاة» : أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وهو المميز العاقل المسلم، أو الكتابي، فصيد غير الكتابي من الكفار لا يحل، كما لا يحل ذبحه.(3/230)
وصيد غير العاقل لا يحل ،ويتفرع على هذا أن يكون قاصداً، فلو أن رجلاً يرمي على هدف، من خرق، أو عمود، أو ما أشبه ذلك، فإذا بصيد يمر فقتله، فلا يحل؛ لأنه ما قصده، لكن لو سمى على صيد فأصاب غيره حل؛ لأنه قصد الصيد، مثل أن يرى طيراً على غصن شجرة، فيرميه قاصداً هذا الطير، فإذا هو يصيد آخر على غصن آخر، فإنه يحل؛ ولهذا لو أنه رمى على فِرْق من الطير، وأصاب عشرة جميعاً تحل؛ لأنه قصد الصيد.
مسألة : ما المقصود بأهلية الصائد ؟
[*](المقصود بأهلية الصائد: أن يجتمع فيه وصفان: العقل، والدين
( أولاً العقل ) : العقل معروف، وهو ما يعقل به الإنسان الأشياء، وضد العاقل مَن لا عقل له، سواء كان مجنوناً، أو مُبَرْسَماً، أو سَكراناً، أو دون التمييز، المهم أنه لا عقل له، ولا تمييز، فهذا لا تصح ذكاته.
فلو أن طفلاً دون التمييز أمسك عصفوراً وذبحه فإن هذا العصفور لا يحل؛ لأنه غير عاقل، ولو أن مجنوناً سطا على شاةٍ، وذبحها في رقبتها فإنها لا تحل؛ لأنه ليس له عقل.
مسألة : ولماذا يشترط العقل؟
الجواب: لأنه لا بد من قصد الصائد ؛ لأن الله يقول: {{إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}} [المائدة: 3] ، والفعل لا بد فيه من قصد، وغير العاقل ليس له قصد.
(ثانيا : الدين ) وهو أن يكون مسلماً أو كتابيّاً» أي: يهوديّاً، أو نصرانيّاً
فإن اليهودي والنصراني تحل ذبيحتهما؛ لقوله تعالى: {{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}} [المائدة: 5] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير الآية: طعامهم ذبائحهم، وهذا أمر معلوم؛ لأننا لو فسَّرنا الطعام هنا بالخبز، والتمر، وما أشبهه لم يكن فرق بين الكتابيين وغير الكتابيين، فإن غير الكتابيين ـ أيضاً ـ يحل لنا أن نأكل خبزهم، وتمرهم، وما أشبه ذلك، فالمراد بطعامهم ذبائحهم، وإنما أضافه إليهم؛ لأنهم ذبحوه ليَطْعَموه.(3/231)
ومن السنة أن النبي كان يأكل ذبائح اليهود، فقد أهدت إليه امرأة شاةً في خيبر فقبلها
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن يهودية أتت النبي بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: (لا). فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله .
، ودعاه يهودي إلى خبز شعير، وإهالةٍ سنخة وهي الشحم المتغير المنتن، فقبل ، وأكل عليه الصلاة والسلام، وثبت ـ أيضاً ـ في الصحيح أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أخذ جراباً من شحم رُمي به في خيبر، فالتفت فإذا النبي وراءه يضحك، وهذه سنة إقرارية
مسألة : ما المقصود بقصد التذكية للصائد ؟
المقصود بقصد التذكية للصائد : يقصد الصيد للحيوان
( حديث عمر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )
مسألة : ما هو تعريف النية ؟
النية شرعا : العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى .
{ تنبيه } :( النية محلها القلب لا دخل للسان فيها ، فمن تلفظ بلسانه في النية فقد ابتدع في دين الله ، واستحدث في الدين بعد إكماله .
مسألة : ماذا يشترط في آلة الصيد ؟
[*](الآلة نوعين، سواء كانت بالمحدَّد كالسهم، أم بالمعلَّم كالكلب والصقر.
(النوع الأول من آلة الصيد ) : المحدد كالسهم يشترط في شرطان:
الأول: ما يشترط في آلة الذبح وهو أن تكون محددة غير سن ولا ظفر.
الثاني: أن تجرح فإن أصابت الصيد بعرضها فلا يحل الصيد لأنه وقيذ كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
((3/232)
حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : سألت النبي عن المِعْرِاض، فقال: (إذا أصاب بِحَدِّه فَكُل، وإذا أصاب بِعَرَضِه فقُتِل عدي بن حاتم رضي الله عنه فلا تأكل). فقلت: أرسل كلبي ؟ قال : إذا أرسلت كلبك وسمَيْت فَكُل ، قلت فإن أكل ؟ قال : فلا تأكل فإنه لم يُمسك عليك إنما أمسك على نفسه ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: (فلا تأكل، فإنك سمَّيت على كلبك ولم تسم على الآخر).
فالنوع الأول آلة محددة، كالسهم، والرصاصة، فيشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح، وسبق أن آلة الذبح يشترط فيها أن تكون غير سن، ولا ظفر، فلو أخذ سناً ورمى به وقتل بجرحه فإنه لا يحل؛ لعموم قول النبي : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة» ، فعلى هذا يشترط ألا تكون الآلة سناً ولا ظفراً.
(حديث رافع بن خديج رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
ما أنْهَرَ الدَّمَ وذُكر اسم الله فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة). وأصبنا نَهْبَ إبل وغنم، فندَّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله : (إنَّ لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا).
(النوع الثاني من آلة الصيد ) : الجارحة قال تعالى: {{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}} [المائدة: 4] {{الْجَوَارِحِ}} يعني الكواسب، فالجارحة هي الكاسبة، وهي نوعان:
الأول: جارحة تعدو، يعني تكسب عن طريق العدو والجري بسرعة، وهذا النوع يصيد بنابه كالكلب .
الثاني: جارحة تطير، يعني تكسب عن طريق الطيران، وهذا النوع يصيد بمخلبه كالصقر والبازي، وما أشبه ذلك .
«فيباح ما قتلته إذا كانت معلَّمة»(3/233)
أي بشرط إن كانت معلمة، يعني إن كان صاحبها قد علمها، كما قال تعالى: {{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}} [المائدة: 4] .
مسألة : بالنسبة لما يصيد بنابه كيف نعرف أنها معلمة ؟
(بالنسبة لما يصيد بنابه نعرف أنه معلم بثلاثة أمور:
الأول: أن يسترسل إذا أرسل.
الثاني: أن ينزجر إذا زُجر.
الثالث: إذا أمسك لم يأكل.
فقولنا: «يسترسل إذا أرسل» بمعنى أنه إذا رأى الصيد ما يذهب بنفسه، بل لا يذهب إلا إذا أرسلته، يعني أغريته بالصيد، وطريق الإغراء يختلف من جماعة إلى جماعة، فقد يكون طريق الإغراء أن تذكره باسمه الذي لقبته به وتغريه، وقد يكون بالصفير، وقد يكون بأي سبب، حسب اصطلاح المعلمين لهذه الجوارح.
ومعنى: «ينزجر إذا زجر» يعني إذا قلت: قف، باللغة التي علمته يقف.
ومعنى: «إذا أمسك لم يأكل» لأن الله تعالى قال: {{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}}؛ لأنه إذا أكل فإنما أمسك على نفسه، حتى ولو أكل شيئاً قليلاً. فلا يعد معلماً لحديث عدي ابن حاتم السابق (قلت فإن أكل ؟ قال : فلا تأكل فإنه لم يُمسك عليك إنما أمسك على نفسه )
[ ولأنه إنما أراد أن يأخذ لنفسه، وإذا اجتمع سببان: مبيح وحاظر، غُلب جانب الحظر].
وهذا باعتبار تنزيل هذه المسألة على القواعد، أما باعتبار النص فالمسألة واضحة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا أرسلت كلبك» فما دام الكلب هو الذي ذهب، وراح بدون علم مني، ولا أمر مني، فأنا ما صدت في الحقيقة، وإنما الذي صاد الكلب.
مسألة : بالنسبة للذي يصيد بمخلبه كيف نعرف أنه معلم ؟
[*](يعرف أنه مُعلَّم بشيئين فقط :
الأول: أن يسترسل إذا أرسل.
الثاني: أن ينزجر إذا دعي.(3/234)
ولا يشترط ألا يأكل؛ لأن هذا شيء لا يمكن بالنسبة لما يصيد بمخلبه إذ لا بد أن يأكل، وعلى هذا فإننا نقول: إن قوله تعالى: {{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}} مطلق، فيكون التعليم في كل شيء بحسبه، وهذا يرجع إلى أهل العرف.
مسألة : ما معنى قوله تعالى: {{مُكَلِّبِينَ}}؟
معنى قوله تعالى: {{مُكَلِّبِينَ}} قيل: معناه معلِّمينهن الكَلَب، يعني الأخذ والقتل، وقيل: معناه مُغْرين لهن.
فعلى الأول يكون قوله: {{مُكَلِّبِينَ}} حالاً مؤكدة لعاملها، وهو قوله: {{وَمَا عَلَّمْتُمْ}} فكأنه قال: وما علمتم معلمين، والفائدة منها الإشارة إلى أن هذا المعلِّم لا بد أن يكون عنده علم وحذق في تعليم هذه الجوارح، فيكون مكلِّباً، يعني ذا علم بالتكليب.
مسألة : ما الدليل على أنه يشترط لصحة الصيد التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة ؟
يشترط لصحة الصيد التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة : التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة : أي عند إرساله لا عند تعبئته، فلو أن رجلاً عند تعبئة السهم سمَّى، وعند إرساله عند الرمي ما سمى، فإن ذلك لا يحل
لحديث عدي ابن حاتم الآتي :
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : سألت النبي عن المِعْرِاض، فقال: (إذا أصاب بِحَدِّه فَكُل، وإذا أصاب بِعَرَضِه فقُتِل عدي بن حاتم رضي الله عنه فلا تأكل). فقلت: أرسل كلبي ؟ قال : إذا أرسلت كلبك وسمَيْت فَكُل ، قلت فإن أكل ؟ قال : فلا تأكل فإنه لم يُمسك عليك إنما أمسك على نفسه ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: (فلا تأكل، فإنك سمَّيت على كلبك ولم تسم على الآخر).
الشاهد قوله : [إذا أرسلت كلبك وسمَيْت فَكُل] أي: عند الإرسال، فالواو هنا تقتضي الاشتراك والاجتماع في الزمن ، أما الذكر عند التعبئة فإنه لا يفيد، والدليل القياس، فلو أن الإنسان حد شفرته، وسمى الله عند حدها، وذبح بها، وكان بين الفعلين زمن طويل، فلا ينفع.(3/235)
مسألة : اذكر الدليل على أنه يشترط للصيد أن يكون الصيد مأذوناً فيه شرعاً ؟
يشترط للصيد أن يكون الصيد مأذوناً فيه شرعاً فإن كان غير مأذون فيه شرعا فلا يحل ، كالصيد في حال الإحرام، أو الصيد في الحرم، فإذا ذبح المُحْرِم صيداً فهو حرام، وإن تمت الشروط؛ لأنه لم يؤذن فيه شرعاً، لقوله تعالى: {{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}} [المائدة: 96] ، ومن السنة (حديث الصعب بن جثامة الثابت في الصحيحين ) أنه أهدى إلى رسول الله ( حماراً وحشياً وهو بلأبواء ، فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : ( إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حُرم )
الشاهد قوله( : «إنا لم نرده عليك إلا أننا حرم»
أي: مُحْرِمون، وقد صاده الصعب بن جثامة للنبي .
مسألة : ما حكم الاصطياد في الوقت الذي تمنع فيه الدولة الاصطياد؟
فالجواب: يجب علينا طاعة ولي الأمر، إلا في المعصية، فلا طاعة، وبناءً على هذا فلا يجوز الاصطياد في الزمان أو المكان الذي تمنع الدولة الاصطياد فيه، ولا يحل الصيد إذا صيد. والله أعلم.
مسألة : لو قتل الصيد بثقل الآلة وليس بحدها فما الحكم ؟
: «فإن قتله بثقله لم يُبح» يعني الذي ضُرب الصيد به لا يجرح ، لكنه ثقيل ، فمن أجل ثقله مات الصيد، فإن الصيد لا يحل؛ لأنه لا بد من الجرح، لحديث عدي ابن حاتم الآتي :
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : سألت النبي عن المِعْرِاض، فقال: (إذا أصاب بِحَدِّه فَكُل، وإذا أصاب بِعَرَضِه فقُتِل عدي بن حاتم رضي الله عنه فلا تأكل). فقلت: أرسل كلبي ؟ قال : إذا أرسلت كلبك وسمَيْت فَكُل ، قلت فإن أكل ؟ قال : فلا تأكل فإنه لم يُمسك عليك إنما أمسك على نفسه ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: (فلا تأكل، فإنك سمَّيت على كلبك ولم تسم على الآخر).(3/236)
وعلى هذا فإذا كان مع الإنسان عصا لها رأس محدد فرماها على الصيد، فأصاب الصيد بهذا المحدد حل، وإن أصابه بالعرض لم يحل ولو مات، لكن لو أنه حبسه ثم أدركه وفيه حياة، يعني لما ضربه بعرضه انكسر مثلاً، أو انهارت قواه، حتى أدركه حياً فذبحه فإنه يكون حلالاً، والدليل قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}} [المائدة: 3] فاستثنى المذكى، فإذا أدركته وفيه حياة وذبحته فإنه يحل.
لكن ما علامة الحياة ؟ قيل: علامة الحياة أنني إذا ذبحته تحرك، وقيل: علامة الحياة أن يجري منه الدم الأحمر الحار، فإذا سال منه الدم الأحمر الحار وإن لم يتحرك فهو حي فيحل، وإن لم يسل منه، أو سال منه دم أسود بارد فإنه قد مات، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح؛ لأنه إذا خرج الدم الأحمر الحار فقد أنهر الدم فيكون حلالاً.
مسألة: إذا جرح لكنه لم يمت ، ثم أدركته حياً ومات بعدما أدركته فما حكمه ؟
فهنا ينظر: فإن كان الجرح مُوحياً ـ أي: قاتلاً له ـ كأن يكون الجرح في قلبه فهو حلال؛ لأن الحركة التي أدركته عليها حركة مذبوح، كما أن المذبوح إذا ذبحته فإنه يبقى مدة يتحرك .
أما إن كان الجرح غير موحٍ، بمعنى أنه أصابه في فخذه، أو أصابه في أي عضو من أعضائه، فهذا لا يحل إلاّ بذكاة لحديث عدي ابن حاتم الآتي :
(حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله ، فإن وجدته قُتل فكل إلا أن تجده قد وقع في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك .
، وإذا كان الجرح موحياً، والحركة حركة مذبوح فقد علمت أن الذي قتله سهمي فيحل.(3/237)
مسألة : ما ليس بمحدد كالبندق، والعصا، والشبكة، والفخ فهل يحل ما قُتل به ؟
ما ليس بمحدد كالبندق، والعصا، والشبكة، والفخ لا يحل ما قُتل به»
والبندق عبارة عن طين يُدور، وييبس، والغالب أنه يكون من الفخار، وهو يقتل بثقله؛ لأنه لا ينفُذ، فلو صدت طائراً بالبندق سواء حذفت باليد، أو حذفت بالمقلاع فقتلته لم يحل؛ لأن النبي نهى عنها، وقال: «إنها لا تنكأ عدواً ولا تصيد صيداً، وإنما تفقأ العين، وتكسر السن» ، أي: أنه لا فائدة منها، فالعدو لا تدفعه، والصيد لا تصيده؛ لأنه لا يحل الصيد بها، إلاّ إذا أدركتَهُ حياً فذكَّيتَهُ
(حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أنه رأى رجلاً يخذف، فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف، وقال: (إنه لا يُصاد به صيد ولا يُنكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن، وتفقأ العين) .
(يخذف) : أي يرمي بحصاة أو نواةٍ بين سبابتيه .
(والمخذفة ) : خشبة يخذف بها .
مسألة : هل الرصاص مثل البندق ؟
الرصاص ليس مثل البندق لأن الرصاص نوعان: رصاص مدبب، فهذا كالسهم تماماً، ورصاص غير مدبب لكنه لا يقتل بثقله، وإنما يقتل بنفوذه فيكون جارحاً.
مسألة : هل يجوز الصيد بالفخ ؟
«الفخ لا يحل ما قُتل به» والفخ عبارة عن قنو نخلة يكون مقوساً، ويوضع في طرفيه حبل، وهذا الحبل يُبرم، ويجعل في وسطه عود ثم يوضع قنو النخلة فوق هذا العود، بحيث إن أي شيء يحرك العود يجعل القنو يطبق عليه.
فالفخ إذا أصاب الصيد فإنه سيموت بغير جرح، فلا يحل ما قُتِل به؛ لأنه يكون خنقاً .
مسألة :ما هي الأَيْمَانِ لغةً وشرعا:
الأَيْمَانِ لغةً : جمع يمين، وهو القسم والحلف.
والأَيْمَانِ شرعا : توكيد الشيء بذكر اسم الله تعالى أو صفةٍ من صفاته .
مسألة : ما حكم اليمين ؟
حكم اليمين :(3/238)
اليمين ينقسم إلى خمسة أقسام، فقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً، وقد يكون مباحاً.
والأصل فيه أن تركه أولى وأنه لا ينبغي إكثار اليمين؛ لقول الله تعالى: {{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}} [المائدة: 89] . قال بعض العلماء في تفسيرها: أي: لا تكثروا الأيمان، ولا شك أن هذا أولى، وأسلم للإنسان، وأبرأ لذمته .
مسألة : متى تكون اليمين واجبة ؟
تكون اليمين واجبة إذا كان المقصود بها إثبات الحق ، فإنه يجب عليك أن تقسم إذا كان يتوقف إثبات الحق على اليمين؛ لذلك أمر الله تعالى نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقسم في ثلاثة أمور:
أن يقسم على أن البعث حق، وعلى أن القرآن حق، وعلى أن الساعة ستأتي.
قال الله تبارك وتعالى: {{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}} [يونس: 53] .
وقال تعالى: {{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}} [سبأ: 3] .
وقال تعالى: {{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}} [التغابن: 7] ، فإذا كان يتوقف إثبات الحق وطمأنينة المخاطَب على اليمين، فاليمين واجبة.
وكذلك تجب اليمين في دعوى عند الحاكم ليُدفع بها الظلم، مثل لو ادعى رجل على مال يتيم دعوى باطلة، وتوجه اليمين على الولي، فهنا تجب اليمين دفعاً للظلم الذي يحصل على مال هذا اليتيم.
مسألة : ومتى تكون اليمين محرمة ؟
تكون اليمين محرمة إذا كانت على فعل محرم، أو ترك واجب، مثل لو قال رجل: والله لا أصلي مع الجماعة، ومثل لو قال: والله ليشربن الخمر.
مسألة : متى تكون مستحبة ؟
وتكون مستحبة إذا توقف عليها فعل مستحب.
مسألة : متى تكون مكروهة ؟
وكذلك تكون مكروهة إذا توقف عليها فعل مكروه
مسألة : ما هي حروف القسم ؟
حروف القسم خمسة، والمشهور منها ثلاثة: الواو، والباء، والتاء، والأم هي الباء(3/239)
أقسم بالله على كذا وكذا
والرحمن لأفعلن
قال الله تعالى: {{وَتاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}} [الأنبياء: 57]
مسألة : ما هي أقسام اليمين ؟
أقسام اليمين ثلاثة :
(1) اليمين اللغو
(2) اليمين الغموس
(3) اليمين المنعقدة
مسألة : ما هو اليمين اللغو؟
اليمين اللغو : «الذي يجري على لسانه بغير قصد» «كقوله: لا والله، وبلى والله»
قوله تعالى: {{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ}} [المائدة: 89] ، وقوله تعالى: {{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}} [البقرة: 225] ، ولا تكسب القلوب إلا ما قصد القلب ؛ لأن ما لا يقصد ليس من كسب .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :: أنزلت هذه الآية: {لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم}. في قول الرجل: لا والله، وبلى والله.
مسألة : ما هو اليمين الغموس ؟
اليمين الغموس هي التي يحلف صاحبها على فعل ماضٍ كاذباً عالماً، ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، وسُمِّيت بذلك لأنها تغمس صاحبها في النار .
مسألة : ما هو حكم اليمين الغموس؟
حكم اليمين الغموس : اليمين الغموس أنه من الكبائر الموبقات
(عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس).
( حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :
من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن قضيبا من أراك .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : خمس ليس لهن كفارة : الشرك بالله و قتل النفس بغير حق و بهت المؤمن و الفرار من الزحف و يمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق .(3/240)
مسألة : هل اليمين الغموس له كفارة ؟اليمين الغموس ليس له كفارة لأن الله تعالى يقول: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلََكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الأيْمَانَ) [سورة: المائدة - الأية: 89]
وهذه يمينٌ غيرُ منعقدة لأن المنعقد ما يمكن حله
مسألة : ما معنى اليمين المنعقد ، و متى تنعقد اليمين ؟
معنى اليمين المنعقد: اليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث
وهِيَ لا تنعقد إلا بالقسم بِاللهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ.
مسألة : ما معنى اليَمِينُ بِاللهِ ؟
اليَمِينُ بِاللهِ مثال ذلك: والله لأفعلن، والرحمن لأفعلن، وربِ العالمين لأفعلن، والخلاقِ العليمِ لأفعلن، والمنانِ لأفعلن، فكلها أيمان؛ لأنني حلفت باسم من أسماء الله عزّ وجل.
مسألة : ما معنى اليَمِينُ بصفة من صفاته ؟
اليَمِينُ بصفة من صفاته » سواء أكانت هذه الصفة خبرية، أم ذاتيةً معنوية، أم فعلية، مثل أقسم بوجه الله لأفعلن، فيصح؛ لأن الوجه صفة من صفات الله عزّ وجل.
ولو قال: أقسم بعظمة الله لأفعلن يصح.
ولو قال: أقسم بمجيء الله للفصل بين عباده لأعدلن في القضاء بينكما، فيصح؛ لأنه قسم بصفة فعلية لله ـ عزّ وجل ـ.
مسألة : هل الحلف بالقرآن تنعقد به اليمين ؟
الحلف بالقرآن تنعقد به اليمين؛ وذلك لأن القرآن كلام الله، وكلام الله ـ تعالى ـ صفة من صفاته.
مسألة: هل يجوز القسم بآيات الله ؟
الجواب: فيه تفصيل، فإن أراد بالآيات الآيات الكونية، مثل الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والإنسان، حرم القسم بها؛ لأنها مخلوقة، وإن أراد بآيات الله الآيات الشرعية التي هي وحيه المنزَّل على رسوله، فهي كلام الله تعالى، والحلف بها جائز؛ لأنها من صفاته، فماذا يريد العامة بقولهم: «قسماً بآيات الله»؟ الظاهر لي ـ والله أعلم ـ أنهم يريدون الآيات الشرعية ـ أي: القرآن ـ وعلى هذا تكون اليمين منعقدة.
مسألة : ما حكم الحلف بغير الله تعالى ؟(3/241)
الحلف بغير الله محرم حتى وإن كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، ولهذا نقول: الحلف برسول الله حرام بلا شك، وكذلك الحلف بجبريل، وميكائيل، وإسرافيل؛ لأنه حلف بغير الله، والدليل (حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال : (ألا، إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت).
والشاهد : أن اللام في قوله: «ليصمت» لام الأمر، والأمر للوجوب، أي: ليصمت عن الحلف، وفي حديث آخر: «لا تحلفوا بآبائكم»
{ تنبيه } :( الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكبيرة، ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لئن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً»
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله: لأن سيئة الشرك وإن صغرت أعظم من سيئة المعصية وإن كبرت.
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك .
{ تنبيه } :( ومن الأمور التي نهى الشارع عنها وهي مشهورة على ألسنة معظم الناس : الحلف بالأمانة ، وهي من جملة الحلف بغير الله التي نهى عنه رسول الله ( .
( حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي ( قال : من حلف بالأمانة فليس منا .
مسألة : ما معنى الحِنْث؟
معنى الحِنْث : فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، كأن يقول رجل: والله لا أزور فلاناً، ثم زاره فإن هذا يسمى حنثاً؛ لأنه فعل ما حلف على تركه، أو قال: والله لأزورن فلاناً اليوم، فغابت الشمس ولم يزره، فإنه يحنث؛ لأنه ترك ما حلف على فعله.
مسألة : من حنث مكرهاً فهل عليه كفارة ؟
من حنث مكرهاً فلا كفارة عليه، كأن يقول الولد: والله لا ألبس هذا الثوب، فقال الوالد: لتلبسنَّه، وإلاّ فعلتُ، وفعلتُ، وهدَّدَه، فلبسه الولد، فهنا لا شيء عليه؛ لأنه مكره والدليل(3/242)
أما من القرآن فقال الله تعالى: {{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }} [النحل:106] . فإذا كانت كلمة الكفر قد صدرت من مُكرَهٍ فلا أثر لها، فما سواها مثلها.
أما من السنة، ( لحديث أبي ذر الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
وعلى هذا فإن حنث في يمينه في هذه الحال، فلا إثم عليه ولا كفارة.
مسألة : من حنث ناسيا فهل عليه كفارة ؟
من حنث ناسيا فلا كفارة عليه، مثل قوله: والله لا أطالع في هذا الكتاب اليوم، ثم نسي وطالع فيه، فليس عليه شيء؛ لأنه ناسٍ
قال تعالى: (رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا) [سورة: البقرة - الآية: 286]
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا إليه .
مسألة : من حنث جاهلا فهل عليه كفارة ؟
من حنث جاهلا فلا كفارة عليه، لعموم قوله تعالى: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلََكِن مّا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: الأحزاب : 5]
( ولأن الجهل أخو النسيان في الكتاب والسنة :
قال تعالى: (رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا) [سورة: البقرة - الآية: 286]
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح ابن ماجة ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا إليه .
مسألة : ما معنى الكفارة ؟(3/243)
الكفارة : مأخوذة من الكَفْر، وهو الستر، وهي تدل على أن هناك ذنباً يحتاج إلى تكفير، وهذا الذنب هو انتهاك حرمة المقسم به بالحنث؛ لأنك إذا قلت: والله لا أفعل كذا، فمعناه بحق حرمة هذا المحلوف به وتعظيمه لا أفعل هذا الشيء، فإذا فعلته ففيه انتهاك، ولهذا سماها الله تعالى كفارة،
لكن من رحمة الله تعالى بعباده أن رخص لهم في الحنث من باب التخفيف، وإلا فإن الأصل وجوب البرِّ باليمين.
مسألة : ما هو دليل وجوب الكفارة ؟
دليل وجوب الكفارة : قوله تعالى: {{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}} [المائدة: 89] .
فإن الأمر بحفظها يتناول الأمر بالكفارة؛ لأن ذلك من حفظها.
(حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها، فكفِّر عن يمينك وأت الذي هو خير).
[*]الشاهد : فأمر بالتكفير، والأصل في الأمر الوجوب.
مسألة : هل الحلف بغير الله تجب به كفارة ؟
الحلف بغير الله لا تجب به كفارة : لأنه يمين غير شرعي، وما ليس بشرعي لا يترتب عليه أثره،
والدليل ( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، وكل ما خالف الشرع فإنه لا أثر له.
مسألة : ما هي شروط وجوب الكفارة ؟
[*](يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الكَفَّارَةِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ :
الأوَّلُ: أَنْ تَكُونَ اليَمِينُ مُنْعَقِدَةً، وَهِيَ الَّتِي قُصِدَ عَقْدُهَا عَلَى مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ
«(3/244)
قصد عقدها» يفيد أنه لا بد أن يكون الحالف ممن له قصد، فإن لم يكن له قصد فلا عبرة بيمينه، كالمجنون لو حلف ألف مرة لا تنعقد يمينه، لأنه ليس له قصد، وكذلك المخرِّف لا تنعقد يمينه؛ لأنه لا قصد له، وكذلك السكران، ومن اشتد غضبه لا تنعقد يمينهما؛ لأنه لا قصد لهما، وكذلك الصبي دون التمييز لا تنعقد يمينه،
الثاني : (أن تكون على مستقبل) فإن كانت على ماضٍ فإنها لا تنعقد، مثل لو قال: والله ما فعلت أمسِ كذا، وهو قد فعله، فهذا لا كفارة عليه؛ لأنها يمين على ماضٍ.
الثالث : (أن تكون على أمر ممكن) فإن كان غير ممكن لم تنعقد، والممكن ضده المستحيل، والمستحيل تارة يكون مستحيلاً لذاته، وتارة يكون مستحيلاً عادة، وكلاهما على حد سواء، فإذا أقسم على شيء مستحيل، فإن يمينه غير منعقدة، فلا كفارة عليه، سواء حلف على فعله أم على تركه؛ لأنه مستحيل، والمستحيل لا تتعلق به كفارة، لأن الحالف على المستحيل، إما أن يكون على عدمه وهذا لغو، وإما أن يكون على فعله، وهذا ـ أيضاً ـ لا تكون اليمين فيه منعقدة؛ لأنه من المعلوم أنه إذا حلف عليه فلن يكون، فيكون حلفه عليه تأكيداً له لا وجه له؛ لأن الحلف إنما يقصد به تأكيد فعل المحلوف عليه، وهذا أمر مستحيل
مسألة : من حلف مكرهاً هل تنعقد يمينه ؟
«من حلف مكرهاً لم تنعقد يمينه .
فلو أن رجلاً مجرماً عثر عليه إنسان فأمسك به، وقال: سأرفع أمرك لولي الأمر، فقال له المجرم: إذا رفعت بي سأقتلك، ثم قال المجرم: أَقْسِمْ بالله أنك لا تخبر بي، وإلا قتلتك، فأقسمَ بالله أن لا يخبر به، فهذه اليمين لا كفارة فيها؛ لأنه حلف مكرهاً، وعلى هذا فلو أخبر ولاةَ الأمور بصنيع هذا المجرم فليس عليه إثم، وليس عليه كفارة؛ لأنه حلف مكرهاً، والدليل من القرآن ومن السنة:(3/245)
أما من القرآن فقال الله تعالى: {{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }} [النحل:106] . فإذا كانت كلمة الكفر قد صدرت من مُكرَهٍ فلا أثر لها، فما سواها مثلها.
أما من السنة، ( لحديث أبي ذر الثابت في صحيحابن ماجه ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
وعلى هذا فإن حنث في يمينه في هذه الحال، فلا إثم عليه ولا كفارة.
مسألة : هل كفارة اليمين المنعقدة على التخيير أم الترتيب ؟
كفارة اليمين المنعقدة على التخيير :
يُخَيَّرُ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بَيْنَ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينِ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، أَوْ عَتْقِ رَقَبَةٍ.
لقوله تعالى {{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}[المائدة: 89]
خيَّر الله ـ عزّ وجل ـ الحانث في يمينه بين أمور، للتيسير والتسهيل بدليل قوله تعالى: {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ}} الآية، فإذا كان للتيسير والتسهيل فأنا أفعل ما هو أسهل وأيسر لي.
وقوله: «بين إطعام عشرة مساكين» المسكين هنا يتناول الفقير، وهو من لا يجد كفايته وكفاية عائلته لمدة سنة.
مسألة : ما هي كيفية الإطعام ؟
والإطعام له كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً يكفي عشرة مساكين ـ غداء أو عشاءً ـ ثم يدعوهم؛ وذلك لأن الله ـ تعالى ـ أطلق فقال: {{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}} فإذا صنع طعاماً وتغدّوا، أو تعشوا فقد أطعمهم.(3/246)
الثانية: التقدير، وقد قدَّرناه بنحو كيلو من الأرز لكل واحد، فيكون عشرة كيلوات للجميع، ويحسن في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدِّمه من لحم أو نحوه، ليتم الإطعام؛ لأن الله تعالى يقول: {{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}}.
{ تنبيه } :( أما الإطعام فقد قال الله تعالى: {{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}}، و«أوسط» بمعن وسط، وليس بمعنى الأعلى، استدلالاً بقول النبي لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه إلى اليمن: «وإياك وكرائم أموالهم» فلو أوجبنا الأعلى لكنا أخذنا من كرائم الأموال.
أما الكسوة فإن الله ـ تعالى ـ لم يقيدها بشيء، وعلى هذا فأي شيء يطلق عليه كسوة يحصل به المقصود، فمثلاً عندنا لو أن شخصاً كسا آخر إزاراً من السرة إلى الركبة فهذا لا يسمى كسوة، فهي في كل بلد بحسبه، ففي بعض البلاد الكسوة تكون درعاً، وهو الثوب، وغترة، وطاقية، أما السراويل فليست لازمة بل هي من كمال الكسوة.
«أو عتق رقبة» العتق هو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق
{{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}} [المائدة: 89] .
إذاً فمن لم يجد ما يُطعم به، أو يكسو، أو يعتق فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
فمثلاً رجل عنده مال وغني، طلب رقبةً فما وَجد، وطلب مساكين فما وجد، فقيل له: إن هناك مساكين في أقصى ماليزيا، وهو في المغرب الأقصى، فهذا غير واجد.
مسألة : ها يُشترط التتابع في الصيام في قوله تعالى {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ؟
الصحيح أنه لا يُشترط التتابع في الصيام في قوله تعالى {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}} لأن الله تعالى قال {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}}، ولم يقل: متتابعة، فقد عين العدد، ولم يذكر التتابع
والأصل عدم التتابع والله تعالى لما أراد التتابع قال: {{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}} [المجادلة: 4](3/247)
مسألة : لو لَزِمَتْهُ أَيْمَانٌ متعددة فهل تكون كفارة واحدة أو كفارةٌ لكل يمين ؟
[*](هذه المسألة لها ثلاث حالات:
الأولى: (أن تتعدد اليمين والمحلوف عليه واحد)، مثل لو قالت له أمه: البس ثوب الصوف، اليوم برد، فقال: والله ما ألبسه، ثم لقيه أخوه فقال له: البس ثوب الصوف للبرد، فقال: والله ما ألبسه، ثم لقيه أبوه فقال: يا ولدي البس هذا الثوب للبرد، قال: والله لا ألبسه، فالأيمان متعددة، والمحلوف عليه شيء واحد، فهذا يجزئه كفارة واحدة قولاً واحداً، ولا إشكال فيه.
الثانية: أن تكون اليمين واحدة، والمحلوف عليه متعدداً، مثاله: قيل له: اذهب إلى صاحبك، قد دعاك إلى وليمة عرس، وكل من طعامه، وهنئه بالزواج، فقال: والله لا أذهب إليه، ولا أهنئه بالزواج، ولا آكل من طعامه.
فالمحلوف عليه ثلاثة أشياء، ولكن اليمين واحدة، فهذا ـ أيضاً ـ تجزئه كفارة واحدة، قولاً واحداً؛ لأن اليمين واحدة.
الثالثة: (أن تتعدد الأيمان والمحلوفُ عليه) مثال ذلك: أن يقول: والله لا أكلم فلاناً، والله لا أدخل البيت، والله لا أذهب إلى السوق
فالصحيح أنه لا بد لكل يمين من كفارة،
مسألة : ما معنى الاستثناء في الحلف ؟
الاستثناء في الحلف : أن يقول في يمينه إن شاء الله .
مسألة : ما هي الآثار المترتبة على الحلف إذا استثنى الحالف ؟
الآثار المترتبة على الحلف إذا استثنى الحالف : أنه إذا استثنى الحالف في يمين مكفَّرة أي قال (إن شاء الله) لم يحنث .
مسألة : ما المقصود باليمين المكفَّرة ؟
«يمين مكفَّرة» أي: تدخلها الكفارة، مثل اليمين بالله، والنذر، والظهار، فهذه ثلاثة أشياء كلها فيها كفارة،
قال في اليمين المكفرة: إن شاء الله لم يحنث، أي: ليس عليه كفارة، وإن خالف ما حلف عليه.(3/248)
في اليمين بالله : قال: والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله، ثم لبسه فليس عليه شيء؛ لأنه قال: إن شاء الله، ولو قال: والله لألبسنَّ هذا الثوب اليوم إن شاء الله، فغابت الشمس ولم يلبسه، فليس عليه شيء.
والدليل (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه»
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (قال سليمان بن داود عليهما السلام، لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله، فقال لك الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل ونسي، فأطاف بهن، ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان.) قال النبي : (لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته).
الشاهد : قوله ( [ لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته ]
وحاصل قصة سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين قال: والله لأطوفن الليلة على مائة امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، اعتماداً على قوة عزيمته، فأراه الله ـ عزّ وجل ـ أن الأمر بيده، فطاف على مائة امرأة، أي: جامعهن في ليلة واحدة، فأتت واحدة منهن بنصف إنسان، وليس إنساناً كاملاً ولو لم تأتِ واحدة منهن بشيء لكان هذا مما لا غرابة فيه، ولو جاءت كل واحدة منهن بولد لكان برَّ بيمينه، لكن أراد الله أن يُريه قدرته تعالى، وأن الأمر بيده جل وعلا، فقال النبي : «لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته»
أي: لو قال: إن شاء الله لأبرَّه الله في يمينه.
مثال النذر: لو قال: إن شفى الله مريضي فللَّه علي نذر إن شاء الله، فلا شيء عليه لو ترك، وكذلك لو قال: لله عليَّ نذرٌ أن لا أكلم فلاناً إن شاء الله، ثم كلَّمه فلا شيء عليه
مسألة : ما حكم الحنث في اليمين ؟(3/249)
الأصل حفظ اليمين امتثالاً لقوله تعالى: {{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}} [المائدة: 89] ، أي: اجعلوها محكمة محفوظة، ولا تحنثوا فيها.
أما إذا كان الحنث خيراً فقد فالأفضل أن يحنث ويُكَفِّر عن يمينه ويأت الذي هو خير ، ولا يُصِر على اليمين .
(لحديث لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير»
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(والله، لأن يلجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثمٌ له عند الله من أن يعطي كفَّارته التي افترض الله عليه).
[آثمٌ له] : أي أشد إثما
مسألة : متى يكون الحنث واجبا ومتى يكون تطوعا ؟
الخيرية في الحنث تارة تكون خيرية واجب، وتارة تكون خيرية تطوع، فإن كانت خيرية واجب صار الحنث واجباً، وإن كانت خيرية تطوع صار الحنث تطوعاً، فمثال خيرية الواجب لو قال: والله لا أصلي اليوم مع الجماعة.
فهذا حلف على ترك واجب فالحنث هنا واجب، وعليه أن يصلي مع الجماعة ويكفر عن يمينه.
ومثال خيرية التطوع، لو قال شخص: والله لا أصلي الوتر، فهنا حلف على شيء تطوع فالحنث أفضل له من عدمه، فنقول له: أوتر وكفِّر عن يمينك.
ولو تعاند رجل مع عمِّه في شيء، فقال: والله لا أكلم عمي، فهنا حلف على أمر فيه هجر مؤمن، وقطيعة رحم، فالحنث هنا واجب، لأنه يتوقف عليه فعل الواجب، فإذا توقف على الحنث فعل الواجب صار واجباً.
ولو أن رجلاً غضب على شخص فقال: والله لأضربنَّه بالحجر حتى أجرحه، فهذا يجب عليه الحنث؛ لأن ترك المحرم يتوقف على حنثه، وإذا توقف ترك المحرم على الحنث صار الحنث واجباً.
مسألة : متى يكون الحنث حراما ؟
يكون الحنث حراما إذا حلف على ترك محرم، أو على فعل واجب، فالحنث هنا حرام(3/250)
مثال ذلك إذا قال الأب لابنه: لا تصلى مع الجماعة فقال الابن: والله لأصلينَّ مع الجماعة فالحنث حرام، ويجب عليه الصلاة مع الجماعة.
ولو قال: والله لا أسرق اليوم، فالحنث حرام،
مسألة : متى يكون الحنث مكروها ؟
ومثال الحنث المكروه أن يحلف على ترك المكروه، مثل لو قال: والله لا ألتفت برأسي في الصلاة، والالتفات بالرأس في الصلاة مكروه، فنقول: الحنث هنا مكروه وهو الالتفات برأسه في صلاته.
ولو قال: والله لا آكل البصل، وسوف يصلي في جماعة، وقد بقي على الأذان ثلث ساعة فالحنث هنا مكروه؛ لأن بإمكانه أن يصبر حتى يصلي، فإن أكل لئلا يصلي صار حراماً.
مسألة : متى يكون الحنث مباحا ؟
ومثال الحنث المباح: قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ولألبسن هذا الثوب، فهو مخير ولكن حفظها أولى.
مسألة : ما هو إبرار القسم ؟
إبرار القسم غير الحنث؛ لأن الحنث واقع من المقسِم أي: الحالف، لكن إبرار القسم بمعنى أن يحلف عليَّ شخص .
مسألة : حكم إبرار القسم ؟
إبرار المقسِم الأصل فيه أنه مشروع ، وأنه من حقوق المسلم على المسلم ،
( حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام ونهانا عن خواتيم أو عن تختم بالذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج .
فإذا حلف عليك أخوك فإن من حقه عليك أن تبرَّ بيمنيه ، لأنه من حقه عليك ،(3/251)
وهذا ما لم يكن في ذلك ضرر عليك ، أما إذا كان في ذلك ضرر عليك فإن ذلك لا يلزمك، فلو قال: والله لتخبرني كم مالك ؟ وكم عيالك؟ وكيف معاشرتك لأهلك ؟ ومتى تنام؟ ومتى تستيقظ؟ أقسم عليك بالله العلي العظيم أن تخبرني، فلا يلزمه أن يخبره، بل ربما يحرم عليه؛ لأنه توجد أشياء سرية لا يمكن أن يخبر بها أحداً، لكن الشيء الذي ليس عليك فيه ضرر فأنت مأمور أن تبر بيمينه، وأما ما فيه نفع لأخيك فإنه يكون أشدَّ توكيداً، وإن كان فيه دفع ضرر عنه فإنه يجب.
مسألة : هل الكفارة تجب على الحانث أو على الحالف ؟
الجواب: على الحالف ، يعني لو أنك قطعت يمين الحالف، ولم تبرَّ يمينه فالكفارة عليه؛ لأنه هو الحالف، والكفارة تتعلق بالحالف.
مسألة : فإذا حَرَّم الإنسان شيئاً حلالاً بقصد الامتناع فلا يحرم ؟
فإذا حرم الإنسان شيئاً حلالاً بقصد الامتناع فلا يحرم، مثل لو قال: حرام عليَّ أن آكل طعامك، فنقول: الطعام حلال لك، لم يحرم، وعليه كفارة يمين، إن فعله لأن قصده هنا أن يمتنع من أكله .
والدليل قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}} [التحريم: 1، 2] وهذه الآية نزلت لما حرم النبي على نفسه العسل في قصة مشهورة ، تنظر في تفسير ابن كثير وغيره.
وسمي تحلة؛ لأن الإنسان تحلل منه حين كفَّر، فأنا مثلاً قبل أن أُكفِّر لا يحل لي أن أفعله، إلا إذا أديت الكفارة بعد أن أحنث، فإذا أديت الكفارة انحلت اليمين، ولم يعد هناك يمين إطلاقاً، ولهذا نقول: أداء الكفارة قبل الحنث تحلة، وبعد الحنث كفارة.
((3/252)
حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) قالت: كان رسول الله يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة على: أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، قال: (لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا).
(فواطأت) : اتفقت
(مغافير) : جمع مغفور وهو صمغٌ حلوٌ ولكن رائحته كريهة .
(وقد حلفت) : أي حلفت على أن لا أعود لشرب العسل عندها .
مسألة : من حلف على شيء وورى بغيره ، فهل العبرة بنيته أم بلفظه ؟
العبرة بنيته لا بلفظه «فيُرجع في الأيمان إلى نية الحالف» والدليل على ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ}} [المائدة: 89] ووجه الدلالة من الآية أنه إذا رُجِع إلى النية في أصل اليمين، هل هي يمين منعقدة أو غير منعقدة؟ فلأن يرجع إليها في المراد باليمين من باب أولى.
وأما من السنة ( حديث عمر الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) وما أعظم هذا الحديث.
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال :
اليمين على نية المستحلف .
مسألة : ماذا يجب على الإنسان إذا حُلِف له بالله ؟
يجب على الإنسان إذا حُلِف له بالله فعليه أن يرضى بذلك وأن يصدِّق الحالف لأن ذلك من تعظيم الله تعالى
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
(رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني).
((3/253)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه ) أن النبي ( قال : لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق و من حلف له بالله فليرض و من لم يرض بالله فليس من الله .
مسألة : ما حكم الإقسام على الله ؟
حكم الإقسام على الله على التفصيل الآتي :
(1) إن كان الإقسام على الله صادرٍ عن حُسنِ ظنٍ بالله تعالى رجاء رحمته فهو محمود وعليه يُحمل الحديث الآتي :
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين )أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله : ( يا أنس، كتاب الله القصاص) فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله : (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
(2) إن كان الإقسام على الله صادرٍ عن عُجْبٍ بالنفس وتكبرٍ على عباد الله فإن ذلك محبطٌ للعمل :
( حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألى علىَّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك)
مسألة : ماذا نصنع لو عرضنا اليمين على مجموعةٍ وكل منهم يريد أن يحلف ؟
دلت السنة الصحيحة على أنه في هذه الحالة يُشرع الاقتراعُ بينهم .
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( عرض على قوم اليمين، فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين: أيهم يحلف.
مسألة : ما هو النَّذْرِ لغةً وشرعا ؟
النَّذْرِ لغةً: الإيجاب، يقال: نذرت هذا على نفسي، أي: أوجبت،
النَّذْرِ شرعا : هو إلزام المكلف نفسه شيئاً لله نعالى .
مسألة : بِمَ ينعقد النذر ؟(3/254)
ينعقد النذر بالقول، وليس له صيغة معينة، بل كل ما دل على الالتزام فهو نذر، سواء قال: لله عليّ عهد، أو لله عليّ نذر، أو ما أشبه ذلك مما يدل على الالتزام، مثل: لله عليّ أن أفعل كذا، وإن لم يقل: نذر، أو عهد.
مسألة : ما هو حكم النذر ؟
حكم النذر على التفصيل الآتي :
(1) النذر المعلق مكروه :
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال: نهى النبي عن النذر وقال: إنه لا يرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل .
فقد نهى عن النذر وبيَّن أنه ليس فيه فائدة لا شرعية ولا قدرية، لا شرعية فهو لا يأتي بخير، ولا قدرية فهو لا يرد قدراً .
لكن إذا نذر فعل طاعة وجب عليه الوفاء بنذره قال تعالى: (ثُمّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطّوّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة: الحج - الأية: 29]
وقد مدح الله تعالى الموفين بالنذر فقال تعالى: (يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيراً) [سورة: الإنسان - الأية: 7]
ثم إن الله تعالى عاقب الذين لم يوفوا بالنذر بالنفاق قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ* فَلَمّآ آتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ) [سورة: التوبة - 75: 76]
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه).
(2) إن كان النذر في معصية فلا يجوز الوفاء به وكفارته كفارة اليمين
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه).
( حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : لا نذر في معصية و كفارته كفارة يمين .
(3)النذر المباح لا ينعقد ولا يجب به شيء :
[(3/255)
*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : لا شيء في النذر المباح
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : أن النبي رأى شيخا يهادي بين ابنيه، قال: (ما بال هذا). قالوا. نذر أن يمشي. قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني). وأمره أن يركب.
(حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، وأمرتني أن أستفتي لها النبي فاستفتيته، فقال عليه السلام: (لتمش ولتركب)
( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) قال:بينا النبي يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي : (مره فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه).
مسألة : لو نذر أن لا يكلم عمه فهل يوفي بنذره ؟
لو نذر أن لا يكلم عمه فهذا نذر معصية يحرم الوفاء به.
قوله: «فلا يجوز الوفاء به» لقول النبي : «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ولأنه لو جاز أن يوفي بهذا النذر لكان كل من أراد أن يفعل معصية نذرها، وهذا يؤدي إلى انتهاك حرمات الله.
قوله: «ويكفِّر» أي: يكفر كفارة يمين؛ لقول النبي : «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين»
ولو نذر رجل أن يتعامل بالربا، قلنا: حرام عليه، وعليه كفارة يمين، حرام عليه؛ لقول النبي : «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، وعليه كفارة يمين؛ لقوله : «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين»
والمعنى يقتضي ذلك؛ لأن هذا الرجل نذر ولم يفعل، ونحن نقول: نذره انعقد؛ لأنه ألزم نفسه به، ولا يمكن أن يوفي به؛ لأنه معصية، وحينئذ يكون نذر نذراً لم يوفِه فعليه الكفارة، كما لو حلف أن يفعل معصيةً، فإننا نقول له: لا تفعلها، وعليك كفارة يمين،
مسألة : من نذر ثم عجز عن الوفاء فما حكم النذر ؟
من نذر ثم عجز عن الوفاء لم يجب عليه الوفاء :
قال تعالى: (فَاتّقُواْ اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة: التغابن: 16]
((3/256)
حديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي ( قال : كفارة النذر كفارة يمين .
مسألة : من مات وعليه نذر قبل أن يوفي به فهل يجوز لوليه أن يقضيه عنه ؟
دلت السنة الصحيحة أن من مات وعليه نذر قضاه عنه وليه :
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) قال:استفتى سعد بن عبادة الأنصاري رسول الله في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله : (اقضه عنها).
مسألة : هل يجوز النذر فيما لايملك ؟
(حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال (من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال، وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك ، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة، ومن لعن مؤمناً فهو كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله).
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : لا نذر فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك ولا طلاق فيما لا يملك .
مسألة : ما معنى القَضَاءِ لغةً وشرعا ؟
القضاء لغةً : إحكام الشيء والفراغ منه .
ويطلق بمعنى التقدير، فإذا كان أمراً شرعياً فالقضاء بمعنى الإحكام، وإذا كان أمراً مُقدراً فإما أن يراد به التقدير الأزلي، أو الفراغ من الشيء، فقوله تعالى: {{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}} [فصلت: 12] ، أي: فرغ منهن، وقوله: {{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}} [الإسراء: 4] أي: قدرناه في الأزل، وقوله: {{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}} [الإسراء: 23] ، أي: شرع شرعاً محكماً، فرضاً على العباد.
والقضاء شرعا : يتضمن ثلاثة أمور: تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الحكومات أو الخصومات.
مسألة : ما حكم تولي القضاء ؟
حكم تولي القضاء : فرض كفاية
[(3/257)
أما كونه فرضاً ] : فلأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر به، فقال: {{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ}} [ص: 26] ، وقال تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}} [النساء: 58] ، فأمرنا إذا حكمنا أن نحكم بالعدل، وأمر نبيه داود عليه الصلاة والسلام أن يحكم بين الناس، وهذا يدل على أنه فرض
[وأما كونه فرض كفاية ] : فلأن المقصود به الفعل دون الفاعل وأنه إذا كان المقصود الفعل فهو فرض كفاية، وإن كان المقصود الفاعل فهو فرض عين
فالقضاء فرض كفاية؛ لأن المقصود إيجاد قاضٍ يحكم بين الناس، وليس المقصود أن كل واحد من الناس يكون قاضياً، فالمقصود به الفعل، أي: أن يوجد الحكم بين الناس، بقطع النظر عن عين الفاعل مسألة : إذا قال الإمام لشخص: كن قاضياً في هذا البلد، فهل يصير القضاء في حق هذا الشخص فرض عين ؟
إذا قال الإمام لشخص: كن قاضياً في هذا البلد، صار القضاء في حق هذا الشخص فرض عين
مسألة : من هو الإمام ؟
الإمام ولي الأمر، يعني السلطان الأعلى في الدولة، والآن الدول تختلف، بعضها السلطان الأعلى في الدولة يُسمى ملكاً، وبعضها يسمى رئيساً، وبعضها أميراً، وبعضها سلطاناً، وبعضها شيخاً، فالمهم المعاني، فإذا كان هذا هو السلطة العليا في الدولة فهو الإمام.
مسألة : ما هي ركني أي عمل ؟(3/258)
ركني أي عمل : القوة والأمانة، القوة، على ذلك العمل، والأمانة فيه فالعمل الذي يتطلب العلم لا بد أن يكون المتولي له عالماً، والذي يعتمد قوة البدن لا بد أن يكون متوليه قوي البدن، ولا بد أن يكون أميناً؛ لأن من ليس بأمين لا يمكن أن ينفذ العمل على الوجه المرضي، ويدل على هذين الركنين قول العفريت من الجن لسليمان عليه السلام لما قال: {{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *}} [النمل] ، أيضاً قوله تعالى عن ابنة صاحب مدين: {{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] ، فكل عمل وكل ولاية لا بد فيها من هذين الركنين: القوة والأمانة .
للقضاء خطرٌ جسيم ، وهذا هو الذي جعل الكثير من علماء السلف رحمهم الله تعالى ينأون بأنفسهم عن تولي القضاء ويفرون منه فرارهم من الأسد ، وقد ثبت في السنة الصحيحة ما يدل على عِظم مسئولية القضاء منها ما يلي :
( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال : من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين .
( من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين ) أي فقد عرض نفسه لعذاب يجد فيه ألماً كألم الذبح بغير سكين في صعوبته وشدته وامتداد مدته .
(حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة ) أن النبي ( قال : القضاة ثلاثة اثنان في النار و واحد في الجنة : رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة و رجل قضى للناس على جهل فهو في النار و رجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار .
{ تنبيه } :( هذا التقسيم بحسب الوجود لا بحسب الحكم ومعروف أن مرتبة القضاء شريفة ومنزلته رفيعة لمن اتبع الحق وحكم على علم بغير هوى { وقليل ما هم }
((3/259)
حديث عبدالله بن أبي أوفىرضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي ( قال : الله مع القاضي ما لم يجر فإن جار تخلى عنه و لزمه الشيطان .
( اللّه مع القاضي ) بعونه وإرشاده وإسعافه وإسعاده
( ما لم يجر ) في حكمه : أي يتعمد الظلم فيه
( فإن جار تخلى عنه) : أي قطع عنه تسديده وتوفيقه
(و لزمه الشيطان ) يغويه ويضله ليخزيه غداً ويذله لما أحدثه من الجور وارتكبه من الباطل وتحلى به من خبيث الشمائل وقبيح الرذائل .
مسألة : ما هي الوصايا التي يُوصَى بها القاضي ؟
[*](الوصايا التي يُوصَى بها القاضي :
(1) يُوصَى بتقوى الله لأن تقوى الله وصية الله ـ سبحانه وتعالى ـ للأولين والآخرين: {{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}} [النساء: 131] ؛ ولأن في تقوى القاضي لله عزّ وجل تيسيراً لأمره، وتسهيلاً لمهمته، لقوله تعالى: {{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}} [الطلاق] ؛ ولأن في تقوى القاضي لله ـ عزّ وجل ـ سبباً لمعرفة الحق، ومعرفة المحق لقول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *}} [الأنفال] والقاضي محتاج إلى ذلك، ولأن في تقوى القاضي لله ـ عزّ وجل ـ سبباً لأن يجعل الله له من كل همٍّ فرجاً، قال تعالى: {{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}} [الطلاق: 2، 3] فمن ثَمَّ قلنا: إنه ينبغي للإمام أن يكتب في تسطير التولية، أو أن يصدر وثيقة التولية بالأمر بتقوى الله ـ عزّ وجل ـ.
((3/260)
2) وأن يتحرى العدل» تحري العدل من تقوى الله ـ عزّ وجل ـ، لكن عطفه على التقوى من باب عطف الخاص على العام؛ لأهمية العدل في باب الحكومة؛ لقوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}} [النساء: 58] .
[ويجتهدَ في إقامته] لأنه ليس كل من تحرى العدل وعرف العدل يقيم العدل، إذاً يأمره بأمرين: الأول: تحري العدل، الثاني: الاجتهاد في إقامته.
[*](والعدل يشمل أمرين: العدل في الحكم، والعدل في المحكوم عليه.
أولاً: العدل في الحكم بأن يحكم بما تقتضيه شريعة الله؛ لأن كل ما تقتضيه شريعة الله فهو عدل بلا شك، وبناء على ذلك يرفض جميع الأحكام القانونية التي تخالف شريعة الله، مهما كانت قوتها، فإنه يجب على القاضي رفضها وطرحها؛ لأنه خلاف العدل، فكل ما خالف شرع الله فإنه خلاف العدل .(3/261)
ثانياً: العدل في المحكوم عليه، بأن لا يفرق بين صغير وكبير، وشريف ووضيع، وغني وفقير، وقريب وبعيد، وسيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أنه يجب أن يعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه، ودخولهما عليه، فلا يكون القاضي ممن إذا رفعت إليه قضية تتعلق بأحد من أقاربه حاول أن يتخلص من الحكم عليه، وإذا رفعت إليه قضية تتعلق بأحد ممن بينه وبينهم عداوة شخصية حاول أن يحكم بها عليه، فإن نبينا محمداً حين رفع إليه أمر المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، أمر بقطع يدها، والمخزومية من بني مخزوم من أشراف قريش، فأَهَمَّ قريشاً شأنها، وقالوا: كيف تقطع يد امرأة من بني مخزوم، وتصبح أمام الناس عاراً؟! فطلبوا من يشفع إلى النبي ، فاستقر رأيهم على ندب أسامة بن زيد، فانتدب لذلك وطلب من النبي أن يرفع الحكم عنها، فقال له النبي : «أتشفع في حد من حدود الله» ؟! والاستفهام هنا للإنكار، فأنكر، وأشار إلى العلة، أنكر في قوله: «أتشفع؟» ، وأشار إلى العلة في قوله: «في حد من حدود الله» ، كأنه يقول: أنا لا أملك أن أغير حدّاً من حدود الله، فلا شفاعة في حد من حدود الله؛ لأن الحكم كله لله ـ عزّ وجل ـ، ثم قام النبي فخطب وقال: «أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»
[**] اللهم صل وسلم عليه، أقسم وهو الصادق البار بدون قسم لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها، مع أنها سيدة نساء أهل الجنة، وأفضل النساء نسباً، وذكر فاطمة ـ رضي الله عنها ـ دون غيرها؛ لأن القضية في امرأة.
مسألة : ما هي الشروط الواجب توافرها في القاضي ؟
[*](الشروط الواجب توافرها في القاضي هي ما يلي :
(1) أن يكون مكلفاً : أي بالغاً عاقلا(3/262)
فالصغير الذي دون البلوغ لا يكون قاضياً ولو بلغ من العلم ما بلغ، ولو بلغ من الذكاء ما بلغ، فلا يمكن أن يكون قاضياً أبداً، والناقص فيه القوة، فلا يقوى على الحكم بين الناس.
«عاقلاً» ضده المجنون، فالمجنون لا يصلح أن يكون قاضياً
على القوة إذاً لا بد أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأن بفواتهما فوات القوة التي هي أحد ركني الكفاءة، لأنهما يحتاجان إلى ولي هما بأنفسهما، فلا يمكن أن يكونا وليين على غيرهما.
( حديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
(2) أن يكون «ذكراً» : والدليل على اشتراط الذكورة ( حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال :لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة .
فكلمة «قوم» نكرة تشمل كل قوم، فكل قوم ولوا أمرهم امرأة فإنهم لن يفلحوا، وهذا الحديث له سبب وهو أنه لما مات كسرى ولت الفرس عليهم ابنته، فبلغ ذلك النبي فقال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»
وأما التعليل فقالوا: لأن المرأة ضعيفة العقل والتدبير والتصرف، وضعيفة الإدراك، فلا تدرك الأمور على ما ينبغي، فالرجل أرجح عقلاً وأكمل ديناً من المرأة كما هو معلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً .
أيضاً فيها وصف ثالث وهو أن المرأة قريبة العاطفة، كل شيء يبعدها، وكل شيء يدنيها، يقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك سوءاً لقالت: ما رأيت خيراً قط»
فهي سريعة العاطفة، تنعطف بكل سهولة، ولهذا تخدع كثيراً، يأتي رجل من المتحاكمين إليها، يكون قوياً ومؤثراً، فيؤثر على هذه المرأة ويقلبها رأساً على عقب، وعقباً على رأس، فيتوجه الحكم إلى زيد، فإذا تكلم الثاني تحول الحكم إلى عمرو؛ فهي ضعيفة، والذي فات فيها القوة، فلا تتحمل أن تتولى أمور المسلمين.
((3/263)
3) أن يكون «حراً» وضده المملوك، ولا بد أن يكون حراً كامل الحرية، والتعليل:
أولاً: أن الرقيق غالباً يكون قاصراً؛ لأنه يشعر بأنه دون غيره فلا تجده يستوعب الأشياء، ولا ينظر إليه نظر الجد.
ثانياً: أن الرقيق مشغول بخدمة سيده، والقضاء يحتاج إلى تفرغ للنظر في الحكم بين الناس.
(4) أن يكون«مسلماً» وضده الكافر فلا يصح أن يولى غير المسلم القضاء؛ لقوله تعالى: ( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [سورة: النساء:141]
(5) أن يكون« عَدْلاً » وضده الفاسق، وهو من أصر على صغيرة، أو فعل كبيرة، ولم يتب منها .
والعدالة : من استقامت مروءته واستقام دينه
فإذا وجدنا شخصاً يغتاب الناس، ويأكل لحومهم فلا نوليه القضاء، وإن كان عالماً وقوياً؛ وذلك لفسقه، والدليل قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}} [الحجرات: 6] ، فأمر الله ـ عزّ وجل ـ أن نتبين خبر الفاسق، وهذا يدل على أن خبره لا يقبل على سبيل الإطلاق، وإنما يُتَبين فيه، ومعلوم أن القضاء يتضمن الخبر؛ لأن القاضي يقول للمدعي والمدعى عليه: هذا حكم الله، فحكمه متضمن الخبر، فلا يقبل.
{(3/264)
تنبيه } :( وأما التعليل؛ فلأن الفاسق لا يؤمن أن يحيف لفسقه، وأضرار المعاصي على القلب والاتجاه والسلوك ظاهرة جداً، فلا يصح أن يكون قاضياً، ولكن يجب أن نعلم أن هذا الشرط يُعْمَلُ به بحسب الإمكان، فإذا لم نجد إلا حاكماً فاسقاً فإننا نوليه، ولكن نختار أخف الفاسقين فسقاً، لقول الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وإلا فلو نظرنا لمجتمعنا اليوم لم نجد أحداً يسلم من خصلة يفسق بها، إلا مَنْ شاء الله، فالغِيبة فسق وموجودة بكثرة، والتغيب عن العمل، والإصرار على ذلك، وكونه لا يأتي إلا بعد بداية العمل بساعة، ويخرج قبيل نهاية العمل بساعة مثلاً، فالإصرار على ذلك فسق؛ لأنه ضد الأمانة، وخيانةٌ، وأكلٌ للمال بالباطل؛ لأن كل راتب تأخذه في غير عمل، فهو من أكل المال بالباطل .
(6) أن يكون «سميعاً» : وضده الأصم الذي لا يسمع، فلو وقع عند أذنه أقوى صوت في الدنيا ما سمعه، فهذا لا يصح أن يكون قاضياً، قالوا: لأنه لا يسمع كلام الخصمين .
(7) أن يكون «بصيراً» : يعني غير أعمى، فالأعمى لا يصلح أن يكون قاضياً؛ قالوا: لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه، فربما يتكلم أحدهما مقلداً للآخر، فيحسب أنه هو ذلك المُقلَّد؛ لأنه لا يميز الأشياء إلا بالصوت، والصوت يمكن تقليده، فيمكن أن يقول المدعي: أنا أدعي على فلان بعشرة آلاف ريال، فيقول القاضي: ماذا تقول؟ فيقلد ذاك صوت المدعى عليه يقول: نعم، عندي له عشرة آلاف ريال، فبناء عليه يحكم القاضي
(8) أن يكون «متكلماً» : لأن الأخرس إذا كان قاضياً فكيف يكلم الخصمين؟! فلا بد أن ينطق؛ لأن المسألة تحتاج إلى تصريح مفهوم، والإشارة قد تكون مفهومة، وقد تكون غير مفهومة
(9) أن يكون «مجتهداً ولو في مذهبه» : فلا بد أن يكون القاضي مجتهداً، والاجتهاد نوعان:(3/265)
الأول: اجتهاد مطلق، وهو الاجتهاد في أقوال العلماء كلهم، بحيث يطبق هذه الأقوال على النصوص، ويختار ما هو الصواب.
الثاني: اجتهاد في المذهب، فهو لا يخرج عن المذهب ولا يطالع أقوالاً سوى المذهب، لكنه في المذهب مجتهد يقارن بين الأقوال، ويعرضها على الكتاب والسنة، ويعرف الراجح من المرجوح، ، ولو باعتبار كلام فقهاء المذهب فإنه يسمى مجتهداً في مذهبه، فالمجتهد في مذهبه، إما أن يكون ممن يعرض أقوال أصحاب المذهب على الكتاب والسنة ويعرف الراجح، أو يكون ممن يعرض أقوال أصحاب المذهب على أئمة المذهب، وينظر ما عليه الأئمة فيختاره.
و ضد المجتهد : المقلد الذي لا يجتهد أبداً، يأخذ مثلاً: «الروض المربع» أو «منتهى الإرادات» أو «الإقناع» ويمشي عليه، ولا ينظر في الأقوال ولا يقارن بينها، فهذا لا يصح أن يكون قاضياً؛ لأنه مقلد غير مجتهد، فلا يقارن بين الأقوال ويختار الأرجح، والمقلد، قال ابن عبد البر: إنه ليس من العلماء بإجماع العلماء، وصدق؛ لأن الله يقول: {{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [الأنبياء: 7] فمن احتاج إلى الرجوع إلى غيره فليس من أهل الذكر، وليس من أهل العلم، وعلى هذا فإنه يشترط في القاضي أن يكون مجتهداً.
وأما المقلد فلا حظَّ له في القضاء، ولا يجوز أن يولى القضاء؛ كما أنه لا يجوز له أن يفتي، وإنما إذا أراد أن يفتي، ودعت الضرورة لسؤاله، يقول: قال الإمام أحمد، أو صاحب الكافي، أو صاحب الإقناع، فينسب القول إلى قائله، كما أن العامي إذا سمع عالماً من العلماء يتكلم بشيء فإنه لا يفتي به، وإنما يقول: قال العالم الفلاني: كذا وكذا؛ لأنه لم يصل إلى درجة الفتوى حتى يصدر القول من عند نفسه، ولكن ينسب القول إلى قائله، كالصحابي يقول: سمعت رسول الله يقول: كذا وكذا، فينسب الحديث إلى النبي .
{(3/266)
تنبيه } :( وهذا الشرط الأخير الاجتهاد ولو في المذهب، نقول: هو شرط لكن بحسب الإمكان، فإذا لم نجد إلا قاضياً مقلداً فإنه خير من العامي المحض؛ لأن العامي المحض ما يستفيد شيئاً ولا يفيد، والمقلد معتمد على بعض كتب المذهب الذي يقلده، فعنده شيء من العلم، ولكن يقدم المجتهد في النصوص على المجتهد في أقوال الأئمة.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب ولاية الأمثل فالأمثل .
وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعَدَمٍ أنفعُ الفاسقين، وأقلُّهم شراً، وأعدلُ المقلدين، وأعرفهما بالتقليد
فهذه الشروط شروط بحسب الإمكان ، فإذا لم يمكن، يُولى الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام الله عزّ وجل، قال الله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، وقال الله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، فإذا لم نجد أحداً يتصف بهذه الصفات وإنما يتصف ببعضها أخذنا بقدر الإمكان.
مسألة : ما هي الآداب التي يجب أن يتحلى بها القاضي :
[*](الآداب التي يجب أن يتحلى بها القاضي هي ما يلي :
(1) أن يكون ذا علمٍ بالأحكام الشرعية وذو ورعٍ وتقوى لأن ركني أي عمل : القوة والأمانة، القوة، على ذلك العمل، والأمانة فيه .(3/267)
فالعمل الذي يتطلب العلم لا بد أن يكون المتولي له عالماً، والذي يعتمد قوة البدن لا بد أن يكون متوليه قوي البدن، ولا بد أن يكون أميناً؛ لأن من ليس بأمين لا يمكن أن ينفذ العمل على الوجه المرضي، ويدل على هذين الركنين قول العفريت من الجن لسليمان عليه السلام لما قال: {{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *}} [النمل] ، أيضاً قوله تعالى عن ابنة صاحب مدين: {{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] ، فكل عمل وكل ولاية لا بد فيها من هذين الركنين: القوة والأمانة . (2) أَنْ يَكُونَ قَوِيّاً مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ:
هذان وصفان أحدهما: ثبوتي، والثاني: سلبي، الثبوتي أن يكون قوياً، يعني له شخصية وله سلطان، فلا يكون ضعيفاً أمام الخصوم.
والسلبي «من غير عنف» يعني لا يكون بقوته عنيفاً؛ لأنه إذا كان ضعيفاً ضاعت الحقوق، وإن كان عنيفاً هابه صاحب الحق، ولم يستطع أن يدلي بحجته، ولهذا قال بعدها:
«ليناً من غير ضعف» فينبغي أن يكون ليناً؛ لأنه لو كان غليظ القلب فظاً لهابه صاحب الحق، وتلعثم وعجز عن إظهار حجته، ولو كان ضعيفاً لضاعت الحقوق، ولعب عليه أهل الباطل، وصار الخصوم عنده يتناقرون كما تتناقر الديكة، فإذا حضرت مجلسه، وإذا الصخب، واللغط، والشتم، والسب، وهو ساكت يتفرج، فهذا ضعيف، ولا ينبغي أن يكون القاضي على هذا الوجه، وإذا كان عنيفاً فالأمر مشكل؛ لأن العنيف يهابه صاحب الحق، ولا يستطيع أن يتكلم، فيكون الإنسان بين بين، قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف.(3/268)
مسألة : لو قال قائل: هذه صفات يجبل الله العبد عليها، وليست أمراً مكتسباً، بل هي أمر غريزي، فكيف تطالبونه بأمر غريزي لا يستطيع أن يتخلق به؟!
فالجواب: أن جميع الأخلاق والصفات الغريزية يمكن أن تتغير بالاكتساب، فكثير من الناس يكون شديداً عنيفاً، ثم يصاحب رجلاً ليناً فيأخذ من أخلاقه ويلين، وكثير من الناس يكون ضعيف الشخصية، ولكنه يتمرن على تقوية شخصيته حتى تكون قوية، فالفقهاء لم يطلبوا شيئاً مستحيلاً، وإنما طلبوا أمراً، إن كان الإنسان قد جُبل عليه فذلك المطلوب، وإن لم يكن قد جبل عليه فإنه يحاول اكتسابه، وعلى هذا يحمل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمن قال له: أوصني، قال: «لا تغضب»
فهل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهاه عن أمر جِبِلِّي مطبوع عليه الإنسان؟
الجواب: لا؛ لأن النهي عما لا يمكن تنفيذه طلب محال، وتكليف بما لا يستطاع، ولكن معنى قوله: «لا تغضب» أي: لا تعوِّد نفسك الغضب، فأيضاً هذا القاضي الذي طلبنا منه أن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، إذا قال: هذه جبلَّتي، أنا غضوب وعنيف، نقول له: عَوِّدْ نفسك، والضعيف نقول له: عوِّد نفسك القوة، واجعل لك هيبة عند الخصم، حتى يكون مجلسك محترماً غير ملعوب فيه.
مسألة : ما معنى حليما ؟
معنى «حليماً» أي: بعيد الغضب وبطيء الغضب، لقول النبي : «لا تغضب» وأحق الناس بهذه الوصية القضاة؛ لأنه إذا كان سريع الغضب، فإن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم، فتنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ويقف شعره، فلا يستطيع أن يتصور المسألة، ولا تطبيق الأحكام الشرعية عليها، ولذلك قال النبي : «لا يقضي القاضي وهو غضبان»
{ تنبيه } :( ينبغي أن يكون حليماً، ولكن يكون حليماً في موضع الحلم، ومعاقباً في موضع العقوبة؛ لأنه إذا قلنا: كن حليماً في كل شيء، فمعناه أنا قيدناه فلا يتحرك، فينبغي أن يكون حليماً في الموضع الذي يكون فيه الحلم من الحكمة.(3/269)
فإذا كان الإنسان حليماً في موضع الحلم، وأخاذاً بالعقوبة في موضع الأخذ، فهذا هو الكمال، ولهذا قال ربنا ـ عزّ وجل ـ: {{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }} [المائدة:98] .
(2) أن يكون ذا أناةٍ وفطنة :
مسألة : ما معنى «ذا أناة» ؟
الأناة هي التؤدة وعدم التسرع، فيكون القاضي متأنياً فلا يتعجل في الحكم، بل يدرس القضية من جميع الجوانب وخصوصاً في القضايا المعقدة كالمواريث من زمن طويل ومسائل الدماء، وضد ذلك المتسرع في الحكم؛ لأن المقام يحتاج إلى تأنٍ وعدم تسرع ليتصور المسألة من كل الجوانب، ثم يطبقها على الأدلة الشرعية.
وهذه الصفة نقول فيها ما قلنا في الحلم: فإذا كان التأني يفوِّت الفرصة فلا ينبغي أن يتأنى في بعض الأحوال، لأنه سيضيع الحزم،
[*] قال الشاعر:
وربما فات قوماً جُلُّ أمرهم
مع التأني وكان الرأي لو عجلوا
فقد يكون الحزم والرأي أن يبادر الإنسان.
مسألة : ما معنى «ذا فِطْنَة» ؟
فلا بد أن يكون ذا فطنة ونباهة، وذكاء وفراسة أن يكون فيه قدرٌ كبير من الذكاء والفراسة ، لأن الذكاء والفراسة مهمان في مسألة القضاء؛ لأن الناس فيهم المحق وفيهم المبطل، وفيهم من يعجز عن التعبير، وفيهم من هو فصيح بليغ، فيضيع الحق إذا لم يكن عند القاضي علمٌ بأحوال الناس، وفراسةٌ وذكاء(3/270)
ولا يخفى ما في قصة سليمان وداود عليهما السلام في المرأتين اللتين خرجتا إلى البر ومعهما ابنان لهما، فأكل الذئب ابن الكبيرة، فجاءتا إلى داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحتكمان إليه، فحكم بالابن للكبيرة، لعله ظن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنها أقرب إلى الصدق، أو قال: هذه صغيرة يمكن أن تلد فيما بعد، وهذه كبيرة قد تتوقف عن الولادة وهي أحق بالشفقة، ثم خرجتا من عنده وصادفهما سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ وسألهما فقالتا: كذا وكذا، فقال: لا، الحكم أن آتي بالسكين فأشقه نصفين فتأخذ الكبيرة نصفه، والصغيرة نصفه، فقالت الكبيرة: لا مانع، وأما الصغيرة فقالت له: يا رسول الله لا تشقه هو لها، فالفراسة تقضي أنه للصغيرة، والدليل الحنان والشفقة فحكم به للصغيرة
وقصص الذكاء في القضاة كثيرة، ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الطرق الحكمية جملةً صالحة منها في أقضية القضاة.
(3) يجب أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية ، وبأحوال الناس، أن يكون من الذكاء والفراسة ، لأن الذكاء والفراسة مهمان في مسألة القضاء؛ لأن الناس فيهم المحق وفيهم المبطل، وفيهم من يعجز عن التعبير، وفيهم من هو فصيح بليغ، فيضيع الحق إذا لم يكن عند القاضي علمٌ بأحوال الناس، وفراسةٌ وذكاء
ولا يخفى ما في قصة سليمان وداود عليهما السلام في المرأتين اللتين خرجتا إلى البر ومعهما ابنان لهما، فأكل الذئب ابن الكبيرة، فجاءتا إلى داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحتكمان إليه، فحكم بالابن للكبيرة، لعله ظن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنها أقرب إلى الصدق، أو قال: هذه صغيرة يمكن أن تلد فيما بعد،
(4) أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ، وَلَفْظِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَدُخُولِهِمَا عَلَيْهِ :
«(3/271)
َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ » ، لقوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}} [النحل: 90] ، وقوله تعالى: (إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [سورة: النساء: 58]، ولقول النبي : «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»
فأمر بالعدل بين الأولاد، ومثلهم غيرهم ممن يتساوون في الحقوق.
«بين الخصمين» يشمل ما إذا كانا كافرين أو مسلمين، أو أحدهما كافراً والآخر مسلماً، فيجب أن يعدل بينهما؛ لأن المقام مقام حكم يستوي فيه جميع الأفراد المحكوم عليهم، أو لهم، فيجب أن يعدل بين الخصمين أياً كانت ديانتهما.
مسألة : ما معنى أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ؟
معنى أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ :أي يجب أن يعدل بينهما في النظر إليهما، فلا ينظر إلى أحدهما نظرة رضا وإلى الآخر نظرة غضب، بل يجب عليه أن ينظر إليهما نظرة واحدة، سواء اقتضت الحال أن ينظر إليهما نظر غضب، أو نظر رضا، المهم أن لا يختلف نظره للخصمين.
مسألة : ما معنى أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لفظه؟(3/272)
معنى أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لفظه : أي يجب عليه العدل في لفظه، فلا يلينه لأحدهما، ويغلظه للآخر، فلا يقول لأحدهما إذا سلم: أهلاً، وعليكم السلام، مرحباً، كيف الأولاد والأهل؟ وما أشبه ذلك، والآخر إذا سلم رد بقوله: وعليكم السلام بصوت لا يكاد يسمع، أو يتأفف وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وأيضاً لا يجوز أن يحتفي بأحدهما، فيسأله عن أصله وولده وماله، والثاني لا يسأله، حتى لو كان قريباً له ولم يره من زمن بعيد، فلا يجوز؛ لأنه يمكن أن يسأله في مكان آخر، أما هنا فالناس سواء لا يجوز أن يفضل أحدهما على الآخر في اللفظ، كذلك ـ أيضاً ـ يجب عليه أن يعدل بينهما حتى في نبرات الصوت، فلا يكلم أحدهما برفق ولين، والآخر بغلظة وشدة، بل يجب عليه العدل في اللفظ من حيث عدد الكلمات، ومن حيث كيفية اللفظ، ونبرات الصوت.
لكن إذا أساء أحد الخصمين الأدب في مجلس الحكم فللقاضي أن يوبخه، وأن يطلب ـ مثلاً ـ من الشرطي أن يعاقبه، أو ما أشبه ذلك.
مسألة : ما معنى أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي مجلسه؟
يعني يكون مجلس الخصمين واحداً في الدنو منه، وفي نوع ما يجلسان عليه، فلا يفضل أحدهما على الآخر، فلا يجوز أن يدني أحدهما دون الآخر، أو يجلس أحدهما على فراش وثير والآخر على بساط عادي.
مسألة : ما معنى أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي دخولهما عليه؟
معنى أن َيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي دخولهما عليه فلا يقدم أحدهما على الآخر، بل يدخلان جميعاً، فلا يقل لأحدهما إذا وقف عند الباب: تفضل يا فلان، إلا إذا قدم أحدهما الآخر، أما أن يدخل القاضي أحدهما قبل الآخر فهذا لا يجوز؛ لأن هذا خلاف العدل، ولا شك أن المقام مقام عدل، وأنه إذا خولف العدل في هذا المكان لأفضى إلى بطلان حجة من له حجة، وانتصار من ليس له حجة، فالواجب العدل.(3/273)
فإن كان الباب لا يسع إلا واحداً فيقرع بينهما، إلا إذا اختار أحدهما أن يقدم صاحبه فالحق لهما.
فإن قيل: ألا نقدم الأكبر؟ قلنا: لا، المقام مقام عدل، فلا نقدم الأكبر، ولا الأقرب، ولا الأشرف، ولا الأوضع، بل نقول: الحق لكما أن تدخلا جميعاً، أو تختصما فيما بينكما.
(5) وَيَحْرُمُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كثيرا :
هذا من الآداب الواجبة، وهو تجنب القضاء في حال الغضب الشديد، فالقضاء في حال الغضب الشديد محرم.
والغضب انفعال يحدث للنفس بسبب ما يثير من مخالفة الهوى، فتجد الرجل تنتفخ أوداجه، وتحمر عيناه ووجهه، ويقف شعره، ويفقد وعيه أحياناً، إذ تصل الحال بالغضبان أحياناً حتى لا يدري أفي السماء هو أم في الأرض؟ ولا يدري ما يتكلم به.
[*](والغضب ثلاثة أقسام: غاية، وابتداء، ووسط، فالابتداء لا يضر؛ لأنه ما من إنسان يخلو منه إلا نادراً، والغاية لا حكم لمن اتصف به في أي قول يقوله، والوسط محل خلاف بين العلماء.
ولنضرب لذلك مثلاً برجل طلق وهو غضبان، فإن كان من أول الغضب فطلاقه واقع نافذ، وإن كان في غايته، فطلاقه غير واقع، ولا نافذ، وهذان موضعان متفق عليهما، وإن كان في وسط الغضب فللعلماء في ذلك قولان مشهوران، أصحهما أن الطلاق لا يقع؛ لأن هذا الرجل الغضبان يجد في نفسه شيئاً يرغمه، ويضطره إلى أن يطلق، مع أنه يدري ما يقول، وقد جاء الحديث عن النبي : «لا طلاق في إغلاق
(وعلى هذا : فالغضب الذي يحرم على القاضي أن يقضي فيه هو الغاية والوسط، والدليل قول النبي :
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : «لا يَقْضِيَّن أحد بين اثنين وهو غضبان»(3/274)
والتعليل أن الغضبان لا يتصور القضية تصوراً تاماً، ولا يتصور تطبيقها على النصوص الشرعية تطبيقاً تاماً، والحكم لا بد فيه من تصور القضية، ثم تصور انطباق الأدلة عليها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والحكم على الشيء لا بد فيه من معرفة الموجِب للحكم، والغضبان لا يتصور ذلك، لا القضية ولا انطباق الأحكام عليها، ولذلك نهى النبي أن يقضي بين اثنين وهو غضبان
وأيضاً فإنه إذا كان أحد الخصمين هو الذي أثار غضب القاضي فهنا محذور ثالث، وهو أنه قد يحمله غضبه على هذا الخصم أن يحكم عليه مع أن الحق له.
{ تنبيه } :( يقاس على الغضب كل ما يُشوش الفكر كأن يكون حَاقِنٌ، أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ، أَوْ عَطَشٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ كَسَلٍ، أَوْ نُعَاسٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ .
فلا يقضي وهو حاقن، وهو المحصور بالبول، وأما الحاقب فهو المحصور بالغائط، فلا يقضين بين اثنين في هذه الحال؛ لأن هذه الحال تشبه حال الغضب في عدم تصور القضية وانطباق الحكم الشرعي عليها.
يحرم عليه القضاء في شدة جوع، حتى وإن كان سببه الصيام، فلو جاءا يتحاكمان إليه في آخر النهار وهو جائع جوعاً شديداً، نقول: لا تقضِ بينهما، فإذا صرفهما، فهل يستفيد من ذلك بأن يأكل؟ لا يستفيد ذلك؛ لأنه لن يأكل حتى تغرب الشمس، ولكنه يستفيد أن لا يخطئ في الحكم، بخلاف المصلي إذا أراد أن يصلي وهو جائع فلا نقول له: لا تصل حتى تفطر وتأكل؛ لأن الصلاة يفوت وقتها، أما الحكم بين اثنين فلا يفوت وقته.
كذلك لا يقضي في شدة العطش؛ لأن ذهنه مُشوش، حتى يشرب ثم يقضي بينهما.(3/275)
كذلك شدة الهَمٍّ، وهذا أمر خفي، لأن الإنسان بشر تعتريه هموم في بعض الأحيان، لأسباب خارجية، أو أهلية، أو داخلية في نفسه، فإذا كان في شدة همٍّ وجاءه اثنان يريدان أن يقضي بينهما، فيقول: أنا فكري مشغول، وعندي هموم كثيرة، فلا يقضي بينهما، ومثل ذلك لو كان شخص من أهله مريضاً مرضاً مدنفاً، أو سمع بانتصار بعض الكفار، فانشغل ذهنه بذلك، فحينئذ ينتظر حتى يزول ذلك الهم. فمن كان مهموماً هما خارجياً أو داخلياً فلا يحل له القضاء في هذه الحال.
كذلك لا يقضي في شدة ملل، كأن يكون من الساعة السابعة صباحاً وهو يقضي بين الناس، وصابر على أذاهم وأصواتهم وصخبهم، فلما وصلت الساعة الثانية إلا ربعاً مساء جاءه خصمان ليقضي بينهما، فقال: أنا مللت، ولا أستطيع أن أقضي بينكما، فله ذلك، بل يجب عليه أن يعتذر؛ لأن الإنسان بشر، ويحرم عليه القضاء، والعلة هي علة تحريم القضاء في حال الغضب.
كذلك شدة كسل، كأن يكون به نوم أو نعاس، فلا يجوز له أن يقضي بين الخصوم في هذه الحال، ولو رضي الخصوم؛ لأن هذا حق لله تبارك وتعالى.
كذلك شدة نعاس، فلا يجوز أن يقضي في شدة نعاس حتى يزول.
كذلك يحرم عليه القضاء في برد مؤلم، كأن يأتيه الخصوم زمن شتاء بارد ليقضي بينهم، فيقول: لا أقضي بينكم، بل أذهب وأتدفأ، أو ألبس ثياباً أكثر، ثم أقضي بينكم.
كذلك يحرم عليه القضاء في حر مزعج، فإذا كان في حر شديد جداً ليس عنده مكيف ولا مروحة، يقول للخصوم: انتظروا إلى آخر النهار، أو حتى أغتسل وأتبرد؛ لأن الحر مزعج لا يجوز معه القضاء.
كل هذه الأحوال مقيسة على قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا يقضي أحد بين اثنين وهو غضبان»
إذاً كل حال تعتري القاضي تكون حائلاً بينه وبين تصور القضية، أو انطباق الأحكام الشرعية عليها، فإنه يحرم عليه القضاء فيها حتى يزول هذا السبب، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
((3/276)
6) ويحرم عليه أخذ الرشوة : والرشوة هي اقتطاع حق الغير ، وهي أن يبذل الخصم للقاضي شيئاً يتوصل به إلى أن يحكم له القاضي بما ادعاه، أو يرفع عنه الحكم فيما كان عليه؛ لأن الراشي ـ الذي يعطي الرشوة ـ تارة يريد أن يُحكم له بما ادعاه، وتارة يريد أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وبينهما فرق، إذا كان الخصم يدعي أنه يطلب فلاناً مائة ألف، ودفع إلى القاضي رشوة، فهذا يريد من القاضي أن يحكم له بما ادعاه، وإذا كان الخصم قد ادعي عليه بمائة ألف وأعطى القاضي دراهم، فهذا يريد من القاضي أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وفي كلتا الصورتين الرشوة محرمة للتالي:
( حديث عبد اله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي ) أن النبي ( قال :لعن الله الراشي و المرتشي.
واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.
ثانياً: أن فيها فساد الخلق؛ فإن الناس إذا كانوا يُحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس، وصاروا يتباهون فيها أيهم أكثر رشوة، فإذا كان الخصم إذا أعطى ألفاً حكم له، وإذا أعطى ثمانمائة لم يحكم له، فسيعطي ألفاً، وإذا ظن أن خصمه سيعطي ألفاً أعطى ألفين، وهكذا فيفسد الناس.
ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عزّ وجل؛ لأنه بطبيعة الحال النفس حيّافة ميّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أعطي القاضي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان في هذا تغيير لحكم الله ـ عزّ وجل ـ.
رابعاً: أن فيها ظلماً وجَوراً؛ لأنه إذا حكم للراشي على خصمه بغير حق فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيره.(3/277)
خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل المال بالباطل، لأنه ليس من حق القاضي أن يأخذ شيئاً على حكمه؛ لأننا نقول: هذا الذي أخذه القاضي إما أن يحمله على الحكم بالحق، والحكم بالحق لا يجوز أن يأخذ عليه عوضاً دنيوياً، وإما أن يحمله على الحكم بخلاف الحق، وهذا أشد وأشد، فكان أخذ الرشوة أكلاً للمال بالباطل، وبذلها أعانةً لأكل المال بالباطل.
سادساً: أن فيها ضياع الأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيحكم له بما معه من الحق، أو يحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم، ولذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله ـ والعياذ بالله ـ.
{ تنبيه } :( لكن لو تعذر إعطاء المستحق حقه إلا ببذل الدراهم، فهل يدخل هذا في الرشوة أو لا؟ نقول: نعم، هي رشوة، لكن إثمها على الآخذ دون المعطي؛ لأن المعطي إنما بذلها ليستخرج حقه؛ لأن حقه يضيع إذا لم يبذل ذلك، ويكون اللعن على المرتشي ـ الآخذ ـ وقد نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله، وبينوا أن من بذل شيئاً للوصول إلى حقه فليس عليه شيء، ويوجد الآن من يقول للإنسان المطالب بحقه: إما أن تعطيني كذا وكذا ـ صراحةً ـ وإلا فاصبر، وهكذا حتى يمل ويعطيه غصباً عليه، وهذا في الحقيقة أمرٌ مُرٌّ ومفسد للخلق، لأديانهم وأبدانهم؛ لأنهم يأكلون السحت ـ والعياذ بالله ـ.
(7) ويحرم عليه قبول الهدية :
يحرم على القاضي أن يقبل هدية، فإذا أهدى له إنسان فلا يجوز أن يقبلها، سواء كان لهذا المُهدي حكومة أم لم يكن، وعلى هذا فإذا انتصب رجل للقضاء اليوم الثلاثاء، ففي يوم الاثنين ـ أمس ـ يجوز أن يقبلها، أما اليوم فلا يجوز أن يقبلها إلا بشرطين:
الأول: أن يكون لهذا المُهدي عادة أن يُهدي إلى هذا القاضي قبل أن يتولى القضاء.
الثاني: أن لا يكون له حكومة، فإن كان له حكومة فلا يجوز أن يقبل هديته، ولو كان ممن يهاديه قبل ولايته.
((3/278)
حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : هدايا العمال غُلول .
مسألة : ما المقصود بطَرِيقِ الحُكْمِ ؟
المقصود بطَرِيقِ الحُكْمِ : ما يُتوصل به إلى الحكم
مسألة : ما هي صفة الحُكْمِ ؟
[*](صفة الحُكْمِ على التفصيل الآتي :
(1) (إِذَا حَضَرَ القاضي خَصْمَانِ أجلسهما بين يديه وقَالَ: أَيُّكُمَا الْمُدَّعِي
(2) فإذا ادَّعى المُدَّعِي شيئاً وأقر المُدَّعَى عليه للمدعي حكم القاضي للمدعي على المدعى عليه.
فقال زيد: أدعي على عمرو بمائة ألف ريال، فقال القاضي: ما تقول يا عمرو؟ قال: نعم، صحيح ، له علي مائة ألف ريال، فإنه يحكم له عليه، وهذا ما يقع إلا نادراً؛ لأنه لو كان يريد أن يقر ما احتاج إلى أن يأتي إلى القاضي .
(3) إن أنكر المُدَّعَى عليه يقول القاضي للمُدَّعِي:إن كان لك بينة فأحضرها ، لأن على المُدَّعِي حينئذٍ تصحيح دعواه ليحكم القاضي له بها ، فإن أحضر بينة سمع القاضي شهادته وحكم له بها .
فإن لم يكن للقاضي بينة يقضي القاضي باليمين على المُدَّعَى عليه .
للحديث الآتي :
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :
لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال و أموالهم و لكن اليمين على المدعى عليه .
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه .
مسألة : إذا قضى القاضي باليمين على المُدَّعَى عليه لكن رفض أن يحلف فما الحكم ؟
إذا رفض المُدَّعَى عليه أن يحلف يُحُكم عليه بالنكول أي الرجوع ويكون نكوله (رجوعه) حكما للمُدَّعِى ، ويكون نكوله قرينة ظاهرة على صدق المُدَّعِي ، فلولا صدق المُدَّعِي لدفع المُدَّعَى عليه دعواه باليمين .
للحديث الآتي :
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :(3/279)
لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال و أموالهم و لكن اليمين على المدعى عليه .
( حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي ( قال : البينة على المدعي و اليمين على المدعى عليه .
فمثلاً ادعى زيد على عمرو بمائة ريال، فقيل لزيد: هات البينة، فقال: ليس عندي بينة، وطلب أن يحلف المُنكر ـ الذي هو عمرو ـ فقال عمرو: لا أحلف، فظاهر كلام المؤلف أنه يحكم عليه ولا نقول لزيد ـ المدعي ـ: احلف أنك تطلبه كذا وكذا؛ لقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
بينت السنة الصحيحة أن القاضي يحكم بما ظهر لديه من أدلة ، ولعل بعض الناس يكون ألحن بحجته من بعض فيقضي له القاضي على نحو ما يسمع ، فالقاضي مثابٌ على اجتهاده سواء أصاب أم أخطأ طالما أنه اتقى الله ونظر في الأدلة وبذل ما في وسعه ، أما المختصم فإن حكم القاضي لا يحل حلالاً ولا يحرم حراما .
(حديث أم سلمة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار).
( إنما أنا بشر ) أي بالنسبة إلى عدم الاطلاع على بواطن الخصوم وبدأ به تنبيهاً على جواز أن لا يطابق حكمة الواقع لأنه لبشر لا يعلم الغيوب ولا يطلع على ما في النفوس ولو شاء اللّه لأطلعه على ما فيها ليحكم باليقين لكن لما أمرت أمته بالإقتداء به أجرى أحكامه على الظاهر ، والبشر الخلق يتناول الواحد والجمع
( وإنكم تختصمون إلي ) فيما بينكم ثم تردّونه إلي ولا أعلم باطن الأمر ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن ) كأفعل من اللحن بفتح الحاء الفطانة أي أبلغ وأفصح وأعلم في تقرير مقصوده وأفطن ببيان دليله وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه بحيث يظن أن الحق معه فهو كاذب
((3/280)
بحجته من بعض ) آخر فيغلب خصمه
( فأقضي على نحو ما أسمع ) لبناء أحكام الشريعة على الظاهر وغلبة الظن ومن فيهما بمعنى لأجل أو بمعنى على أن أقضي على الظاهر من كلامه
( فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه،)
( فإنما أقطع له قطعة من النار) أي مآلها إلى النار أو هو تمثيل يفهم منه شدّة التعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه شبه ما يقضى به ظاهراً بقطعة من نار نحو { إنما يأكلون في بطونهم ناراً .
{ تنبيه } :( وهذا من قواعد الشريعة العامة هي الحكم على الناس بالظاهر ونكِلُ إلى الله السرائر ، وعليه يحمل الأحاديث الاتية :
( حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) قال : إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قال : إني لم أؤمر أن أنقب على قلوب الناس و لا أشق بطونهم .
مسألة : ماهي طرق إثبات الدعوة ؟
طرق إثبات الدعوة ثلاثة :
(1) الإقرار
(2) البينة(الشهادة)
(3) اليمين
مسألة : ما هو الإقرار ؟
«الإقرار» مصدر أقر يقر، وهو اعتراف الإنسان بما عليه لغيره من حقوق مالية، أو بدنية، أو غير ذلك
مسألة : ما هي شروط صحة الإقرار ؟
[*](شروط صحة الإقرار ما يلي :
(1) أن يكون المُقِرَّ مُكَلَف : وهو البالغ العاقل فالمجنون لا يصح إقراره؛ سواء أقر بمال، أو بعقد، أو بطلاق، أو بغير ذلك؛ لأنه لا حكم لقوله، إذ هو صادر بغير قصد، وكذلك الصغير لا يصح إقراره؛ لأنه غير مكلف
( حديث علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبي ( قال : رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ و عن الصبي حتى يحتلم و عن المجنون حتى يُفيق )
((3/281)
2) أن يكون المُقِرَّ مُخْتاراً :
فلا بد أن يكون المقر مختاراً لإقراره ولما أقر به، فإن كان أقر باختياره بمائة وأكره على أن يقر بمائتين، فالإقرار لا يصح بالمائتين لكن يصح بالمائة، وإن كان لا يقر بشيء فأكره على أن يقر بمائة لم يصح إقراره مطلقاً؛ لأنه لا بد أن يكون مختاراً، والدليل قوله تعالى: {{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] ، فكل العقود لا بد فيها من التراضي، فالمكره لا يقع منه أي عقد أو إقرار.
ولأن الله رفع حكم الكفر عن المكره في قوله: {{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}} [النحل: 106] فكذلك نفوذ تصرفه مرفوع عنه؛ لأنه مكره.
( لحديث أبي ذر الثابت في صحيحابن ماجه ) أن النبي ( قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
(3) أن يكون المُقِرَّ غير محجور عليه : والمحجور عليه هو الممنوع من التصرف، ثم هو قسمان: محجور عليه لحظ نفسه، وهم ثلاثة: الصغير، والمجنون، والسفيه، وقد سبق الكلام عليهم، الثاني: المحجور عليه لحظ غيره، وهو المفلس، الذي دَيْنُهُ أكثر من موجوداته، كرجل عليه مائة ألف درهم ديناً، وماله ثمانون ألف درهم يعني عنده أثاث وموجودات تساوي قيمتها ثمانون ألف درهم، وطلب الغرماء الحجر عليه من أجل توزيع موجوداته عليهم، فهذا يحجر عليه.
هذا المحجور عليه لا يصح إقراره في أعيان ماله؛ لأنه ممنوع من التصرف فيها، ويصح إقراره في ذمته؛ لأنه لا ضرر على الغرماء في هذا الإقرار. فلو قال مثلاً بعد أن حجر عليه: هذه السيارة لفلان، لا نقبل منه؛ لأنها تعلق بها حق الغير، فالآن هي محبوسة لحق الغرماء، أما لو قال: في ذمتي لفلان، نقول: هي في ذمتك، وبعد الحجر يطالبك من أقررت بها له.
مسألة : ما حكم الإِقْرَارِ ؟
حكم الإِقْرَارِ : واجب إذا تم بشروطه .
مسألة : ما هي الشهادة لغةً واصطلاحا ؟(3/282)
الشهادة لغةً : مشتقة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر بما شاهده وعلمه . قال الله تعالى: {{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}} [الزخرف: 86] ، فلا بد من علم.
والشهادة اصطلاحا: الإخبار بما علمه
مسألة : ما هو فضل الشهادة ؟
الشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم؛ ولهذا لما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» فذكر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» ، وكررها حتى قالوا: ليته سكت .
وهي خطيرة في التحمل وفي الأداء، أما التحمل فيجب ألا يتحمل الإنسان شهادة إلا وقد علمها علم اليقين، حتى لو وَجَدْتَ قرائن تدل على الأمر، لا تشهد به، لكن اشهد بالقرائن التي رأيت، أما أن تشهد بما تقتضيه هذه القرائن فهذا لا يجوز؛ لأن الشهادة لا بد أن تكون عن علم، أي لا يشهد إلا بما يعلمه، فلا يجوز أن يشهد بالقرينة، ولا يجوز أن يشهد بغلبة الظن، بل لا بد من العلم، فلو رأى شخصاً خرج من بيتٍ هارباً وآخر يلحقه يقول: هذا الرجل سرق مني، ردوا السارق، ردوا السارق، فهل يشهد بأن هذا الرجل سارق؟ لا يجوز أن تشهد بالسرقة؛ لأنك ما تعلم، ربما أن صاحب البيت دعاه، ولما دعاه أراد منه شيئاً فأبى، فهدده بالقتل، فهرب، إذن لا تشهد بأنه سارق، لكن هل تشهد بما رأيت، بأنك رأيته هارباً، وصاحب البيت وراءه، يقول: السارق السارق؟ نعم، هذا يجوز، ويبقى النظر للحاكم، فله أن يحكم بما تدل القرائن عليه.(3/283)
ومع الأسف أن شهادة الزور كثرت في هذا الزمن، حتى أصبحت رخيصة، يجد الإنسان في السوق من يشهد له بعشرة ريالات، بل بأقل، وأحياناً ربما يقول: كم مقدار الدعوى التي تدعي؟ فإن قال: أدعي مليون ريال، قال: مليون ريال كثيرة، أشهد بألف ريال، وإذا قال: مائة ألف، قال: يكفيني مائة ريال، على حسب الدعوى، كِبَرها من صغرها، وكل هذا ـ والعياذ بالله ـ تلاعب، وظلم، وعدوان.
{ تنبيه } :( والشهادة نوعان: تحمُّل، وأداء، التحمُّل معناه التزام الإنسان بالشهادة، والأداء أن يشهد بها عند الحاكم، وكل منهما صعب؛ لأن التحمل لا بد أن يكون عن علم، وتأتي ـ إن شاء الله ـ أنواع طرق العلم، والأداء لا بد أن يكون عن ذكر مع العلم، والذي يرد على التحمل الجهل، والذي يرد على الأداء النسيان، وكلاهما يجب على الإنسان أن يحترز منه .
مسألة : ما هو حكم الشهادة ؟
حكم الشهادة : فرض كفاية، إن قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين ، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه
فمثلاً دعاك شخص لتشهد على إقرار زيد بحق له، وليس في المكان غيرك فيجب أن تجيب؛ لأنه لا يوجد من يقوم بالكفاية، أو دعوته إلى أن يشهد معك وليس معك إلا شاهد واحد، فيجب عليه
مسألة : ما هو حكم أداء الشهادة ؟
حكم أداء الشهادة : فرضُ عينٍ
والأداء إثبات الشهادة عند القاضي، فإذا تحمل الشهادة وجب عليه أن يشهد لقوله تعالى: {{وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}} [البقرة: 283] ، فحكم الله ـ عزّ وجل ـ بإثم قلب الإنسان الذي كتم، وأضاف الإثم إلى القلب؛ لأن شهادته لا يعلمها إلا الله عزّ وجل؛ إذ من الجائز أن ينكر، فلما كان إنكار الشهادة ـ وهو يعلم أنه شاهد ـ محله القلب قال: {{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}}. فلما كانت الشهادة محفوظة في القلب، والكتمان إنما يكون في القلب أضاف الله تعالى الإثم إلى القلب الذي هو محل حفظ الشهادة.(3/284)
مسألة : متى تكون أداء الشهادة فرض عين ؟
تكون أداء الشهادة فرض عين بالشروط الآتية :
الشرط الأول : أن يدعى إلى أدائها فإن لم يدعَ إليها لم يلزمه الأداء
الشرط الثاني: أن يكون قادراً على الأداء، فإن كان عاجزاً فإنه لا يلزمه لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وقوله: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، ومن القواعد المقررة المأخوذة من هذه الآية أنه لا واجب مع عجز، وعلى هذا فإذا كان عاجزاً عن أدائها فإنه لا يلزمه للعجز.
الشرط الثالث: انتفاء الضرر :
«فإن خاف ضرراً في بدنه» كمن خاف أن يضرب حتى يتضرر.
«أو خاف ضرراً في ماله» بأن خاف أن يحرق دكانه، أو يكسر زجاج سيارته، أو ما أشبه ذلك.
«أو خاف ضرراً في أهله» بأن خاف أن يؤذى ولده أو زوجته
فإنه لا يلزمه لا التحمل ولا الأداء
فالحاصل أنه إذا خاف الضرر في هذه الأشياء الثلاثة [بدنه أو ماله أو أهله ]
فإنه يسقط عنه واجب الشهادة تحملاً أو أداء؛ لما أشرنا إليه من الآية وهي: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، وقوله: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .
مسألة : هل يُشترط انتفاء الضرر في التحملِ أيضا ؟
نعم يشترط انتفاء الضرر في التحمل كذلك .
مسألة : هل يشترط القدرة في التحمل؟
نعم يشترط فلو دعاك شخص لتشهد له وأنت لا تستطيع، أو أنت مريض، أو تخشى إن ذهبت أن يضيع مالك، أو ما أشبه ذلك، فلا يلزمك .
مسألة : هل يشترط أن يدعى إليها في التحمل ؟
الصحيح أن لا يشترط أن يدعى إليها في التحمل لكن على الإنسان متى رأى أو سمع وجب عليه أن يحفظ ما سمعه أو شهده؛ من أجل أن يؤديه إذا دعي إلى ذلك.(3/285)
الشرط الرابع : أن تكون الشهادة مقبولة لدى الحاكم، فإن لم تكن مقبولة لم يلزمه أن يشهد لا تحملاً ولا أداء، فلو طلب الأب من ابنه أن يشهد له بحق فإنه لا يلزمه أن يشهد له؛ لأن شهادته غير مقبولة عند الحاكم، فإن شهادة الولد لوالده لا تقبل، وكذلك العكس لو قال الولد لأبيه: تعال اشهد، فإنه لا يلزم الوالد أن يشهد؛ وذلك لأن شهادته غير مقبولة، فلا فائدة من الشهادة.
وكذلك لو كان معروفاً بالفسق، وأن القاضي سيرد شهادته وجاء إنسان وقال: تعال اشهد، فهل يلزمه أو لا؟ لا يلزمه، فإذا قال له صاحب الحق: تعال اشهد، قال: ما يلزمني؛ لأنني لو شهدت عند القاضي ما قبلني .
يَحْرُم كَتْمُ الشهادة لقوله تعالى: {{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}} [البقرة: 283] .
فإن لم يمكن أداء الحق بدونها فإنه لا يحل كتمانها، مثل لو شهد شاهدان على زيد بحق، ثم أدى شاهد الشهادة، وطُلب من الثاني أن يشهد، فقال لصاحب الحق: يكفي يمينك مع الشاهد؛ لأنه يُقضى في المال بالشاهد واليمين، فهل يحل للشاهد الثاني أن يقول لصاحب الحق: عندك شاهد، واحلف معه، وسيقضى لك بيمينك؟ نقول: لا يحل له أن يمتنع عن الشهادة؛ لعموم قوله تعالى: {{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}} [البقرة: 283] .
مسألة : ما هي شُرُوطُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؟
[*](شُرُوطُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ الآتي :
الشرط الأول : البُلُوغُ : فلا تقبل شهادة الصبيان [لأن الصبي لم يتم عقله بعد، وأيضاً هو عاطفي]
فلو شهد صبي له ثلاث عشرة سنة على صبي آخر أنه فعل كذا وكذا، فالشهادة لا تقبل حتى في المكان الذي لا يطلع عليه إلا الصبيان غالباً، مثل الأسواق، وملاعب الصبيان، فلو جاء صبيّ، بل لو جاء عشرة صبيان، وقالوا: نشهد أن هذا الصبي هو الذي جرح هذا الصبي، رماه بحصاة حتى انجرح، فلا نقبل(3/286)
الشرط الثَّانِي: الْعَقْلُ ، وإنما اشترط العقل في الشهادة؛ لأنه لا يمكن إدراك الأشياء حفظاً، ولا إنهاء إلا بالعقل؛ لأنه هو الذي يحصل به الميز، وضده الجنون والعَتَه
«فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه» المجنون مسلوب العقل، الذي ليس له عقل بالكلية، والمعتوه الذي له عقل، لكنه مغلوب عليه، ما يميز ذاك التمييز البين، فهو كالطفل الذي لا يميز، أو ربما نقول: كالطفل الذي يميز، لكن ليس عنده ذاك الإدراك الجيد، فلا تقبل شهادة المجنون الذي ليس له عقل بالكلية، ولا تقبل شهادة المعتوه الذي له شيء من العقل لكنه مختل، ما يستطيع أن يتصرف التصرف الكامل؛ وذلك لأنهم ليس عندهم ما يعقلون به الإدراك ولا الإنهاء، وهو الأداء؛ فلهذا لا تقبل شهادة المجانين ولا المعتوهين.
الشرط الثالث: الكلام ، وهو النطق وضده الخرس، واشترط الكلام؛ لأن الشهادة تحتاج إليه في حال الأداء، وإذا لم يكن متكلماً كيف يؤدي؟! فإن قلت: يؤدي بالإشارة، قلنا: الإشارة لا تعطي الأمر اليقيني، والشهادة يشترط فيها اليقين
«فلا تقبل شهادة الأخرس» وهو الذي لا ينطق، والغالب أن الأخرس لا يسمع، وعلى هذا فلا يمكن أن يشهد بالمسموع، لكن يمكن أن يشهد بالمرئي، ومع ذلك قال المؤلف: «فلا تقبل شهادة الأخرس».
{ تنبيه } :( يُستثنى من عدم قبول شهادة الأخرس
[ إذا كان يمكن أن يؤدي الشهادة بخطه] فإنها تقبل؛ لأن الخط يفيد اليقين ويعمل به شرعاً، قال الله تعالى: {{وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}} [البقرة: 282] ،
و(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين ) أن النبي ( قال :ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).(3/287)
وكان النبي يقيم بالكتابة الحجة على ملوك الكفار، فكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم إلى الله تعالى ، إذاً فالكتابة حجة شرعية بالقرآن والسنة، فهذا الأخرس إذا أدى شهادته بخطه نقبلها؛ لأن الخط يفيد اليقين
الشرط الرابع: الإسلام ، فالإسلام شرط لقبول الشهادة؛ لأنه إذا كانت العدالة شرطاً فالإسلام أساس العدالة، ولهذا فإن الله تعالى دائماً يضيف الشهود إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون فيقول: {{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}} [البقرة: 282] ، {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} [الطلاق: 2] ، وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}} [الحجرات: 6]
وإذا كان الفاسق يجب علينا أن نتبين في خبره ولا نقبله، فما بالك بالكافر؟! فلا بد من أن يكون الشاهد مسلماً بدلالة القرآن والنظر الصحيح؛ لأن الكافر محل الخيانة، وهو غير مأمون قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}} [آل عمران: 118] ، {{لاَ يَأْلُونَكُمْ}}، يعني لا يألونكم جهداً، {{خَبَالاً}}، يعني أن تقعوا في الخبال، وهو التصرف بغير عقل، {{وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}} ما شق عليكم، فالكفار يسعون بكل جهد أن يكون عملنا خبالاً ضائعاً لا خير فيه.
الشرط الخامس: الحفظ
الشرط السّادس: العدالة: ويعتبر لها شيئان:
(الأول) الصّلاح في الدّين: وهو أداء الفرائض بسننها الرّاتبة، واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرةً، ولا يُصِرُّ على صغيرةٍ» .(3/288)
فلا تقبل شهادة فاسق وسواء كان فسقه بالأفعال، أو بالأقوال، أو بالاعتقاد؛ لأن الفسق قد يكون بالأقوال كالقذف ـ مثلاً ـ فإن القذف من كبائر الذنوب كما قال الله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}} [النور] ، والفسق بالفعل كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة فهذه من الأفعال المفسقة،
(والثاني) : مما يعتبر في العدالة استعمال المروءة، والمروءة التخلق بالأخلاق الفاضلة، والمروءة هي
[وهو فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه]
«ما يجمله ويزينه» :أي فعل ما يجمله عند الناس ويزينه، كحسن الخُلُق مثل: الكرم، والجود بالنفس وهو الشجاعة، وطلاقة الوجه، والانبساط إلى الناس، وما أشبه ذلك، فكل ما يجمل فهو من المروءة بلا شك
«واجتناب ما يدنسه ويشينه» عادة من الأمور الدنيئة، فلا شهادة لمصافع، من الصفع، ومن ذلك الملاكمة فهي مثلها أو أشد منها، فهي خلاف المروءة.
ومن ذلك أيضا الذي يتمسخر بالناس ، ويحاكيهم بالقول أو بالفعل، فإن كان متمسخراً بالنساء يحاكيهن فهو مع مخالفة المروءة واقع في المحرم، في كبائر الذنوب.
{(3/289)
تنبيه } :( والمروءة ترجع للعادة، وقد يكون بعضها ديناً، لكن أصلها العادة، فالمروءة هي ما تعارف الناس على حسنه، وما تعارفوا على قبحه فهو خلاف المروءة، وإذا كان هذا فإن مرجع المروءة إلى العادة في الواقع، فقد يكون هذا العمل ـ مثلاً ـ مخلاً بالمروءة عند قوم، غير مخلٍّ بالمروءة عند آخرين، وقد يكون مخلاً بالمروءة في زمن غير مخلٍّ بها في زمن آخر، فما دمنا أرجعنا المروءة إلى العادة، وهي ما تعارف الناس على حسنه، فحينئذٍ تكون المسألة بحسب عادات الناس، مثلاً قال العلماء: من الإخلال بالمروءة أن ينام الإنسان بين الجالسين، فإذا نام بين الجالسين سقطت مروءته؛ لأن هذا خلاف المعتاد، وإذا خرج عن مستوى الجالسين سقطت مروءته، مثلاً: تقدم أو تأخر عن الصف تسقط مروءته، وإذا مضغ العلك أمام الناس سقطت مروءته، وإذا أكل في السوق سقطت مروءته، وما دمنا عرفنا أن الضابط في المروءة هو ما تعارف الناس على حسنه فهو مروءة، وما تعارف الناس على قبحه فهو خلاف المروءة.
ولننظر في هذه الأمثلة هل هي مخالفة لما يعتاده الناس؟ فالواحد بين أصحابه في نزهة يمكن أن ينام، ولا يقال: هذا خلاف المروءة، لكن لو يأتي في مجلس علم وينام فإن هذا خلاف المروءة، فالمسألة تختلف، ويقولون: عند الأحباب تسقط الكلفة في الآداب، فقد تكون بين إخوانك وأصحابك وتمد رجلك، وقد تكون في مجلس موقر ما تمد رجلك، ولو مددت رجلك لكان كل الناس يعيبونك، فالمسألة تختلف،
ويذكر أن أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ كان يدرِّس، فجاء ذلك الرجل المهيب بهيئته، وكان الإمام قد مد رجله بين أصحابه فلما رآه كف رجله؛ ظناً منه أن ذلك الرجل من أكابر العلماء، وجعل يقرر في صيام رمضان، فقال هذا الذي يظن أنه شيخ: أرأيت لو طلعت الشمس قبل الفجر؟! يقولون: إنه مد رجله، وقال: إذاً يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي،
{(3/290)
تنبيه } :( بالنسبة لمسألة العدالة لو طبقنا ما ذكره الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما يعتبر للعدالة لو طبقناه على مجتمع المسلمين اليوم لم نجد أحداً إلا نادراً، وحينئذٍ تضيع الحقوق، وإذا رجعنا إلى مستند الفقهاء في اشتراط العدالة وجدنا ذلك في آيتين أو أكثر، لكن معناهما واحد {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} [الطلاق: 2] ، {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}} [الحجرات: 6]
وعند التأمل قد لا يكون في الآيتين دليل على ما اشترطه الفقهاء؛ لأن الله قال: {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}}، أي: صاحبي عدل، ولا يلزم من كونهما صاحبي عدل أن يتصفا بالعدالة المطلقة، بل يمكن أن نقول: إن معنى الآية {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ}} في شهادته، فمتى كان ذا عدل في الشهادة فإنه يقبل، ودينه لله عزّ وجل؛ ولهذا لو كان الإنسان مخالفاً للعدالة في الكذب فإننا لا نقبله بلا شك؛ لأن الشهادة تعتمد اعتماداً كلياً على الصدق في النقل، وإذا كان هذا الإنسان معروفاً بالكذب فهذا لا نقبل شهادته؛ لأن هذا الوصف ـ وهو الكذب ـ مخلٌّ بأصل الشهادة، فإن الشهادة مبنية على الصدق في الخبر، وهي خبر في الواقع، فإذا كان كاذباً فلا شك أن هذا يخل بشهادته ولا نقبلها،
أما لو كان الرجل يغتاب الناس، والغيبة من كبائر الذنوب تخدش العدالة ولو مرة واحدة، لكن مع كونه يغتاب الناس صدوق الخبر لا يمكن أن يكذب، فعلى المذهب ترد شهادته، ولكن على القول الراجح: تقبل، وحينئذٍ نقول: {{ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} أي: في الشهادة.
مسألة : ما معنى المانع ؟
والموانع في اللغة جمع مانع، وهو الشيء الحائل دون الشيء.
وأما في الاصطلاح فإن المانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه العدم، عكس الشرط؛ فالشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود،
مسألة : ما معنى مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ ؟(3/291)
موانع الشهادة: هي الموانع التي تمنع من قبول شهادة الشاهد مع استكمال الشروط
مسألة : من هم الذين لم تقبل شهادتهم ؟
[*]( الذين لم تقبل شهادتهم هم ما يلي :
(1) لا تقبل شهادة الأصول والفروع بعضهم لبعض : الأصول من الأمهات، والآباء، والأجداد، والجدات، وسموا أصولاً؛ لأن الإنسان يتفرع منهم، والفروع، يعني الأبناء، والبنات، وأولاد الأبناء، وأولاد البنات وإن نزلوا، هؤلاء لا تقبل شهادة بعضهم لبعض وإن كانوا عدولاً، وإن تمت فيهم الشروط الستة السابقة، فلو شهد أب لابنه لم تقبل شهادته، أو ابن لأبيه لم تقبل شهادته، أو شهد ولد لأمه لم تقبل شهادته، أو أم لولدها لم تقبل شهادتها، المهم أن هذا مانع، فما الدليل على كونه مانعاً ؟
الدليل قوة التهمة؛ لأن الإنسان متهم إذا شهد لأصله، أو شهد لفرعه، فإذا كان متهماً فإن ذلك يمنع من قبول شهادته لاحتمال أن يكون قد حابى أصوله أو فروعه، فالدليل على أن هذا مانع تعليل، وليس دليلاً من الكتاب والسنة، بل هو قوة التهمة،
مسألة : إذا علمنا أن التهمة معدومة لكون الأب أو الأم مبرزاً في العدالة لا يمكن أن تلحقه تهمة، فهل نقبل الشهادة أو لا ؟(3/292)
الصحيح في هذه المسألة أنه تقبل شهادة الأصول لفروعهم، والفروع لأصولهم إذا انتفت التهمة، وأن العبرة في كل قضية بعينها؛ وجه ذلك أن العمومات الدالة على قبول شهادة العدل لا يستثنى منها شيء، إلا بدليل واضح بيِّن يمكننا أن نقابل به عند السؤال، وإلا فإن الله ـ جلَّ وعلا ـ يقول: {{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}} [البقرة: 282] ، وهؤلاء من رجالنا، {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} [الطلاق: 2] ، وهؤلاء من ذوي العدل، سواء قلنا: إن العدل استقامة الدين والمروءة مطلقاً، أو قلنا: إن العدل هو العدل في تلك الشهادة المعينة كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فنقول: إذا كان هذا الأب مبرزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد لابنه إلا بشيء هو الواقع، ونعلم هذا من حاله، فنقول: هذا الرجل ذو عدل في هذه الشهادة؛ لأنه غير متهم، ثم إن الله تعالى يقول {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}} [النساء: 135] ، وليس في هذا إشكال ولأن التهمة منتفية غالباً
فننظر إلى كل قضية بعينها، لا سيما إذا وجدت قرائن تؤيد ما شهدوا به فإن هذا يكون نوراً على نور
(2) لا تُقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه :
الزوجة لا تشهد لزوجها، والزوج لا يشهد لزوجته، فالزوج رجل ذو عدل، والمرأة امرأة ذات عدل، نقول: لا تقبل؛ للتهمة لأن شهادة الزوج لزوجته متهم بها، وشهادة الزوجة لزوجها متهمة بها، وهذا هو الغالب، وغلبته أقل من غلبة الأصول والفروع؛ لأن العداوة بين الأزواج كثيرة أكثر من العداوة بين القرابات، فهي كثيرة جداً، فإذا شهد أحد الزوجين لصاحبه لم يقبل .
مسألة : إذا كان الزوج أو الزوجة مبرزاً في العدالة فهل تقبل شهادة أحدهما للآخر ؟(3/293)
إذا كان الزوج أو الزوجة مبرزاً في العدالة فإن الشهادة تقبل، فلو علمنا أن هذا الرجل لا يمكن أن يشهد لزوجته إلا بما هو الحق فإننا نقبل شهادته لها، أو علمنا أن هذه الزوجة لا يمكن أن تشهد لزوجها إلا بما هو الحق فإننا نقبل شهادتها له لقوله تعالى {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}} [النساء: 135] ، وليس في هذا إشكال ولأن التهمة منتفية غالباً فننظر إلى كل قضية بعينها .
(3) لا تقبل شهادة عدوٍّ على عدوه : فلا تقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأنه متهم، لكن المراد بالعداوة هنا عداوة الدنيا لا عداوة الدين؛ لأنها لو كانت عداوة الدين لم نقبل شهادة السني على البدعي؛ لأن السني عدو للبدعي ومع ذلك تقبل شهادته عليه، فالمراد العداوة لغير الدين فلا تقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأنه متهم، فكل إنسان عدو لشخص يحب أن يلحقه الضرر؛ فلهذا لا نقبل شهادته،
مسألة : إذا كان هذا العدو مبرِّزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد على أي إنسان إلا بحق حتى ولو كان عدوه فهل نقبل شهادته ؟
إذا كان هذا العدو مبرِّزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد على أي إنسان إلا بحق حتى ولو كان عدوه فإننا نقبل شهادته؛ لعمومات الكتاب والسنة .
مسألة : ما هو ضابط العداوة التي تُردُ بها الشهادة ؟
ضابط العداوة التي تُردُ بها الشهادة : [من سره مساءةُ شخص أو غَمَّه فرحُه فهو عدوه](3/294)
بشرط أن يكون هذا الشيء لشخص معين إذا أتاه ما يسره أساء الآخر، وإذا فرح فإنه يغتم، وليس المراد إذا كان هذا عادة الإنسان مع جميع الناس؛ لأنه لو كان كذلك لكان الحاسد لا تقبل شهادته؛ لأن الحاسد ـ نعوذ بالله من الحسد ـ يسره مساءة الناس، ويغمه فرحهم، كما قال الله تعالى: {{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}} [النساء: 54] ، وقال تعالى: {{وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}} [النساء: 32] ، فكثير من الناس ـ والعياذ بالله ـ قلبه مملوءٌ من الحسد، إذا أتى الناس ما يسوؤهم ـ وإن كان لا علاقة له بهم ـ فإنه يُسَرُّ، وإذا حصل لهم فرح فإنه يساء ويغتم .
مسألة : ما هو عدد الشهود ؟
[*](عدد الشهود يختلف باختلاف نوع الحق الذي يُشهد له على التفصيل الآتي :
الحقوق نوعان : حقٌ لله تعالى وحقٌ للآدمي
(أولاً حق الله تعالى : لا يقبل فيه شهادة النساء لقولِ الزُهري (لا يُجلدُ في شيءٍ من الحدود إلا بشهادةِ رجلين ) وهو ثلاثة أنواع :
(1) نوعٌ لا يقبل فيه إلا شهادة أربعة رجال وهو الزنا والعياذ بالله :
دليل ذلك قوله تعالى: {{لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ}}، أي: الأربعة، {{فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}} [النور: 13] ، فلو شهد ثلاثة وتوقف الرابع فإن الشهادة لا تتم، ونجلد أولئك الشهود الثلاثة حد القذف، أما المتوقف فإننا لا نجلده ولكن لنا أن نعزره،
فلو جاء أربعة يريدون أن يشهدوا على رجل بزنا، وسبق أنه لا بد من التصريح بالزنا، فصرح ثلاثة، قالوا: رأينا ذكر الرجل في فرج هذه المرأة، أما الرابع فتوقف، فإن الثلاثة الأولين قذفة يجلدون كل واحد ثمانين جلدة، والرابع يعزر؛ لأنه لم يصرح بالزنا.(3/295)
ولو شهدت ثماني نساء لا تقبل شهادتهن؛ لأنه لا مدخل للنساء في الحدود، فالحدود لا يقبل فيها إلا شهادة الرجال فقط، ولو شهد أربعة غير بالغين فلا تقبل شهادتهم لفوات الشرط وهو البلوغ.
وكذلك الإقرار بالزنا لا بد فيه من أربعة رجال يشهدون بأن فلاناً أقر بالزنا عندهم، فلا يقبل رجلان ولا ثلاثة؛ لأن الإقرار بالزنا موجب للحد، والشهادة تثبت الإقرار، وإذا كانت الشهادة هي التي تثبت الإقرار ـ وهو موجب للزنا ـ فلا بد من أربعة رجال يشهدون به.
(2) نوعٌ يٌُقبل فيه شاهدين (فالنساء لا مدخل لهن فيه) : وهو ما سوى الزنا من الحدود، والقصاص .
(3) ونوعٌ يُقبل فيه شاهدٌ واحد وهو هلال رمضان :
( حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) قال * تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه .
(ثانياً حق الآدميين : وهو ثلاثة أنواع
(1) نوعٌ لا يقبل فيه إلا شاهدان رجلان :
وهو ما لا يقصد من المال ويطلع عليه الرجال كنكاح، وطلاق، ورجعة، وخلع ونسب، وولاء، إيصاء في غير المال .
فمثلاً النكاح لا بد فيه من رجلين، فلو شهد به أربعة نساء، وقالوا: نشهد أن فلاناً عقد له على فلانة، فإن ذلك لا يقبل، وكذلك رجل وامرأتان لا يقبل.
( لحديث عائشة الثابت في صحيح الجامع ) أن النبي ( قال : لا نكاح إلا بولي و شاهدي عدل .
وكذا الطلاق فلا بد فيه من رجلين فلو شهد به امرأتان لم يحكم به، حتى وإن كانت المرأتان في البيت، فلو شهدت امرأتان بأن فلاناً طلق زوجته وليس عنده إلا المرأتان، فإن الطلاق لا يقع إذا أنكره الزوج؛ لأنه لا بد فيه من رجلين، قالوا: الدليل قوله تعالى: {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}} [الطلاق: 2]
وأما النساء فيقال ذواتي كما قال الله تعالى: {{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ}} [سبأ: 16] ، فهذا يدل على أن لا بد فيه من الرجال.(3/296)
كذلك ـ أيضاً ـ الرجعة، وهي إعادة المطلقة إلى النكاح تكون في الطلاق الأول وفي الثاني، لا في الثالث، ولا في الطلاق على عوض، ولا في الفسخ لعيب، فلا تكون إلا في الطلاق الذي لم يتم به العدد.
وكذلك وهو مفارقة الزوجة بعوض منها أو من غيرها فيكفي فيه رجلان.
وكذلك النسب ، و النسب يعني القرابة وهي الصلة بين إنسانين بولادة، فالأخوة نسب، والأبوة نسب، والأمومة نسب، والعمومة نسب، فإذا قال رجل: إن هذا ولدي، أي: ادعى أنه ولده وليس للولد نسب معروف، فلا تقبل دعوى هذا الرجل إلا برجلين شاهدين .
وكذلك (إيصاء في غير المال)، مثل أن يوصي إليه بالنظر في حق أولاده الصغار، قال: أوصيت إلى فلان يلاحظ أولادي الصغار ويقوم بتربيتهم .
(2) نوعٌ يقبل فيه شاهدان رجلان أو رجلٌ وامرأتان أو شاهد ويمين المُدَّعِي :
وهو ما كان القصد من المال كالبيع والإجارة ونحو ذلك .
قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَآءِ أَن تَضِلّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاُخْرَىَ) [سورة: البقرة: 282]
( حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي ( قضى بيمين وشاهد .
(3) نوعٌ يقبل فيه شاهدان رجلان أو رجلٌ وامرأتان أو أربع نسوة : وهو ما لا يطلع عليه الرجال غالباً كعيوب النساء تحت الثياب مثل برص أو نحوه، فعيوب النساء تحت الثياب لا يطلع عليها إلا النساء غالباً، فإذا شهدت امرأة أن هذه الزوجة التي تزوجها الرجل فيها برص تحت ثيابها حكم بثبوته، وحينئذٍ يكون للزوج الفسخ، ويرجع بالمهر على من غرَّه كما سبق.(3/297)
وكذا البكارة، والثيوبة: قد يحصل نزاع بين الزوج والزوجة في كونها بكراً أو ثيباً، فشهدت امرأة بوجود البكارة فتقبل شهادتها في ذلك؛ لأن هذا لا يطلع عليه إلا النساء غالباً، أو شهدت بأنها ثيب فإنها تقبل شهادتها؛ لأن هذا لا يطلع عليه إلا النساء غالباً، فلو ادعت المرأة أن زوجها لا يقدر على الجماع، فقال الزوج: إنه يقدر وأنه جامع فعلاً، نأتي بامرأة تطلع على المرأة، فإذا وجدتها ثيباً نحكم بأنها موطوءة، كذلك العكس لو ادعى الرجل أن المرأة ليست بكراً وقد اشترط أنها بكر، فقالت هي: بل هي بكر، فأتت بامرأة تشهد فإننا نقبل شهادتها.
وكذا الحيض ، فالحيض نحتاج إلى الشهادة فيه عندما تدعي المرأة أن عدتها انقضت في وقت قصير يبعد أن تنقضي العدة بمثله، فهنا نحتاج إلى بينة تشهد بأن عدتها انقضت بالحيض.
وكذا الولادة: لا يطلع على الولادة إلا النساء غالباً، مثل أن تدعي المرأة أنها ولدت وأسقطت، والزوج يقول: لا، وتأتي بامرأة تشهد بأنها أسقطت ولداً، فتقبل شهادة امرأة واحدة.
وكذا الرضاع : بأن تشهد امرأة على أن هذا الطفل رضع من فلانة خمس رضعات، فتقبل شهادة المرأة الواحدة، حتى وإن كان على فعلها، فلو شهدت امرأة بأنها أرضعت فلاناً فإنها تقبل شهادتها.
{ تم بحمد الله تعالى ومنته }
الفهرس
(
الموضوع ... رقم الصفحة
2
كتاب الفقه ... 7
كتاب الطهارة ... 7
باب المياه ... 11
سنن الفطرة ... 15
السواك من سنن الفطرة ... 15
الختان من سنن الفطرة ... 16
الاستحداد من سنن الفطرة ... 17
نتف الإبط و تقليم الأظافر وقص الشارب من سنن الفطرة ... 17
من سنن الفطرة ألا ينتف الشيب ... 18
من سنن الفطرة تغيير الشيب بالحناء و اجتناب السواد ... 18
من سنن الفطرة إكرام الشعر ... 19
من سنن الفطرة إعفاء اللحية وحَفِّ الشارب ... 20
من سنن الفطرة غسل البراجم ... 21
من سنن الفطرة انتقاص الماء ... 21(3/298)
من سنن الفطرة التَطيب ولا سيما المسك فإنه أطيب الطيب ... 21
باب قضاء الحاجة ... 22
آداب قضاء الحاجة ... 23
فصل : الإستجمار و الاستنجاء ... 25
باب الآنية ... 27
باب الوضوء ... 28
فرائض الوضوء ... 28
سنن الوضوء ... 30
الموضوع ... رقم الصفحة
نوا قض الوضوء ... 32
ما يجب له الوضوء ... 34
ما يُستحبُ له الوضوء ... 35
مسائل هامة عن الوضوء ... 36
المسح على الخُفين ... 38
المسح على الجوربين ... 40
المسح على العمامة ... 40
المسح على الجبيرة ... 41
باب الغسل ... 42
أركان الغسل ... 45
الأغسال المستحبة ... 45
صفة الغسل ... 47
ثانياً : صفة الغسل المجزئ ... 49
باب التيمم ... 53
الأسباب المبيحة للتيمم ... 54
صفة التيمم ... 55
نوا قض التيمم ... 55
مسائل التيمم ... 56
باب الحيض ... 57
هل يجب على الحائض قضاء الصلاة والصوم ... 58
حكم من أتى حائضاً ... 59
ما الذي يحلُ للرجل من زوجته وهي حائض ... 60
صفة الغسل من الحيض ... 61
الموضوع ... رقم الصفحة
كيف يتعامل الرجل مع زوجته وهي حائض ... 62
الإستحاضة ... 63
النفاس ... 67
كتاب الصلاة ... 68
حكم تارك الصلاة ... 70
على من تجب الصلاة ... 71
مواقيت الصلاة ... 73
باب : قضاء الفوائت ... 77
الأوقات التي نُهيَ عن الصلاة فيها ... 78
المواضع التي لا تصح فيها الصلاة ... 82
باب : الأذان والإقامة ... 83
حكم أخذ الأجرة على الأذان والإقامة ... 85
ما ينبغي أن يكون عليه المؤذن ... 87
سبب مشروعية الأذان ... 88
ما يقال عند سماع الأذان ... 92
ما يقال بعد الأذان ... 93
الدعاء بين الأذان والإقامة ... 93
الفصل بين الأذان والإقامة ... 94
النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان ... 94
إذا تعددت الفوائت يؤذن أذاناً واحداً ... 94
الأوْلَى أن يتولى المؤذن الإقامة ... 95
اللحن في الأذان ... 95
باب : شروط الصلاة ... 96
الموضوع ... رقم الصفحة
مسائل هامة في شروط الصلاة ... 99(3/299)
ما يجبُ من الثياب في الصلاة وما يُستحب ... 101
صفة صلاة النبي ( ... 105
أركان الصلاة ... 121
واجبات الصلاة ... 126
سنن الصلاة ... 129
مكروهات الصلاة ... 134
ما يباح فعله في الصلاة ... 137
ما يبطل الصلاة ... 139
صلاة التطوع ... 140
مسائل في السنن الرواتب ... 144
قيام الليل ... 146
آداب قيام الليل ... 149
كيفية صلاة الليل ... 154
عدد ركعات قيام الليل ... 155
قضاء قيام الليل ... 155
مشروعية قيام رمضان ... 156
القراءة في صلاة الليل هل هي سرية أم جهرية ... 156
هل تخص ليلةً معينة بالقيام ... 157
صلاة الوتر ... 158
وقت الوتر ... 159
عدد ركعات الليل ... 160
قضاء الوتر ... 161
الموضوع ... رقم الصفحة
لا وتران في ليلة ... 162
القنوت في الوتر ... 162
محل القنوت ... 163
الذكر بعد الوتر ... 164
صلاة الضحى ... 164
وقت الضحى ... 165
أقل ركعات الضحى وأكثرها ... 166
سنة الوضوء ... 167
صلاة الاستخارة ... 167
صلاة الكسوف ... 168
صلاة الاستسقاء ... 169
سجود التلاوة ... 173
مواضع سجود التلاوة في القرآن ... 175
ماذا يقول الإنسان في سجود التلاوة ... 177
سجود الشكر ... 177
سجود السهو ... 178
حكم سجود السهو ... 180
صلاة الجماعة ... 181
حكم صلاة الجماعة ... 183
شهود النساء للجماعة ... 184
القراءة للمأموم ... 186
تخفيف الإمام الصلاة ... 187
أحكام الإمامة ... 187
الموضوع ... رقم الصفحة
من تصح إمامته ... 189
الذين لا تصح إمامتهم ... 191
إمامة القوم وهم له كارهون ... 194
أين يقف الإمام وأين يقف المأمومين ... 194
جواز انتقال الإمام إلى مأموم ... 197
التبليغ خلف الإمام ... 198
مكث الإمام في مصلاه بعد الصلاة ... 198
المؤذن ينتظر الإمام ... 199
وجوب تسوية الصفوف ... 200
كيف تسوى الصفوف ... 200
فضل الصف الأول ... 201
كراهية الصف بين السواري ... 201
كراهية التأخر في صفوف الرجال ... 201(3/300)
أعذار التخلف عن الجماعة ... 202
صلاة أهل الأعذار ... 204
أولاً صلاة المريض ... 204
ثانياً صلاة المسافر ... 207
مسافة القصر ... 207
هل الأفضل في السفر القصر أم الإتمام ... 207
متى يبدأ المسافر قصر الصلاة ومتى يبدأ الإتمام ... 209
إذاائتم المسافر بالمقيم فماذا يصنع ... 210
عدد أيام القصر للمسافر ... 210
الجمع بين الصلاتين ... 212
الموضوع ... رقم الصفحة
أسباب الجمع بين الصلاتين ... 213
ثالثاً صلاة الخوف ... 215
صلاة الجمعة ... 217
حكم صلاة الجمعة ... 219
التحذير من التهاون بصلاة الجمعة ... 219
على من تجب الجمعة ... 220
وقت صلاة الجمعة ... 220
العدد الذي تنعقد به الجمعة ... 221
خُطبة الجمعة ... 221
هدي النبي( في خُطبة الجمعة ... 222
وجوب الإنصات للجمعة وتحريم الكلام أثنائها ... 224
بما تُدرك الجمعة ... 224
عدد ركعات الجمعة ... 225
السنة التابعة للجمعة ... 225
اجتماع الجمعة والعيد في يومٍ واحد ... 226
صلاة الجمعة في البيوت عند حدوث المطر ... 226
ما يُسَنُّ للجمعة ... 227
?مسائل في صلاة الجمعة?
230
من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد ... 230
إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج ... 230
لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ... 230
الغذاء والقيلولة بعد الجمعة ... 231
ساعة الإجابة يوم الجمعة ... 231
الموضوع ... رقم الصفحة
هل للجمعة أذانٌ واحد أم أذانان ... 232
ذم من تعمد التأخر عن الصفوف الأولى ... 233
صلاة العيدين ... 233
حكم صلاة العيد ... 234
وقت صلاة العيد ... 234
إذا لم يعلم الإنسان إلا بعده فماذا يصنع ... 234
ما يُسن في صلاة العيد ... 235
كيفية صلاة العيد ... 236
مسائل في خطبة العيد ... 237
التكبير في العيدين ... 238
جواز الفرح والسرور واللهو البريء في العيدين ... 239
خروج النساء والحُيَّض لصلاة العيد ... 239
أفضل المساجد ... 239
فضل مسجد قُباء ... 240(3/301)
أول مسجد وضع في الأرض ... 240
فضل المساجد ... 241
آداب المساجد ... 241
كتاب الجنائز ... 244
أدب السنة في المرض والطب ... 244
حكم التداوي بمحرم ... 245
عيادة المريض ... 247
الدعاء للمريض ... 248
المرض يكفر الذنوب ... 248
الموضوع ... رقم الصفحة
تذكير المريض بالصبر على المرض وعدم الجزع ... 249
تذكير المريض بالتوبة ... 249
الرقية للمريض ... 251
استحباب ذكر الموت والاستعداد له ... 252
حكم تمني الموت ... 252
فضل طول العمر مع حسن العمل ... 253
معنى استعمال الله للعبد ... 253
ما يسن عند الاحتضار ... 253
وجوب الصبر والاسترجاع لأهل الميت ... 258
استحباب إعلام قرابة الميت وأصحابه بموته ... 259
حكم البكاء على الميت ... 260
غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ... 261
أولاً غسل الميت ... 261
ثانياً الكفن ... 264
الواجب في الكفن ... 266
كيفية تكفين الميت ... 267
ثالثاً :الصلاة على الميت ... 267
فضل الصلاة على الميت ... 268
مقصود الصلاة على الميت ... 268
صنفان من الناس لا يجب الصلاة عليهما ... 269
مقام الإمام من الميت ... 269
صفة صلاة الجنازة ... 270
هل يصلي الإمام على قاتل نفسه ... 271
الموضوع ... رقم الصفحة
الصلاة على السقط ... 272
حمل الجنازة والسير بها ... 273
الدفن ... 275
الأوقات التي لا يجوز الدفن فيها إلا لضرورة ... 275
استحباب الدفن في الأماكن المقدسة ... 275
الأمور التي تستحب في الدفن ... 276
الأمور التي تستحب بعد الفراغ من الدفن ... 278
مسائل تتعلق بحقيقة الموت ... 279
شدةُ الموت ... 281
الأشياء التي تنفع الميت بعد موته ... 281
مسائل التعزية ... 282
الحداد على الميت ... 283
زيارة القبور ... 284
آداب زيارة القبور ... 285
ما يحرم عند القبور ... 286
ضمة القبر ... 288
سؤال القبر ... 288
النهي عن سب الأموات ... 290
استحباب طلب الموت في أحد الحرمين ... 291
موت الفجأة ... 291(3/302)
أجر من مات له ولد ... 292
أعمار أمة محمد ( ... 292
حكم الغسل من تغسيل الميت ... 293
الموضوع ... رقم الصفحة
فضل من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة ... 293
المؤمن يموت بعرق الجبين ... 293
استعمال العبد الصالح واستدراج العاصي ... 293
أولاد المسلمين في الجنة ... 293
كتاب الزكاة ... 294
منزلة الزكاة في الإسلام ... 295
الترغيب في أداء الزكاة ... 296
الترهيب من منع الزكاة ... 298
حكم مانع الزكاة ... 300
على من تجب الزكاة ... 301
الزكاة في مال الصبي والمجنون ... 304
من مات وعليه زكاة ... 304
شرط النية في الزكاة ... 304
وقت أداء الزكاة ... 305
تعجيل أداء الزكاة ... 305
الدعاء للمُزَكِي ... 306
الأموال التي تجب فيها الزكاة ... 306
زكاة بهيمة الأنعام ... 306
مقدار زكاة الإبل ... 308
مقدار زكاة الإبل بالأرقام الحسابية ... 309
زكاة البقر ... 312
زكاة الغنم ... 313
ما لا يؤخذ في الزكاة ... 314
الموضوع ... رقم الصفحة
حُكم الخُلطة ... 315
حكم الجمع والتفريق خشية الصدقة ... 315
ثانياً : زكاة النقدين { الذهب والفضة } ... 316
زكاة حلي المرأة ... 317
ثالثاً : زكاة عروض التجارة ... 318
زكاة الخارج من الأرض ... 320
أولاً : زكاة الزروع والثمار ... 321
الأصناف التي تؤخذ منها الزكاة ... 321
نصاب الزروع والثمار ... 321
وقت وجوب زكاة الزروع والثمار ... 323
متى يستقر وجوب زكاة الزروع ... 324
تقدير النصاب في النخيل والأعناب بالخرص دون الكيل ... 324
زكاة الركاز ... 325
مصارف الزكاة ... 326
هل يجب على دافع الزكاة أن يعمَّ الأصناف ... 330
موانع الزكاة ... 331
ما أدى زكاته فليس بكنز ... 333
الصدقة من كسبٍ طيب ... 333
جواز إنفاق المال كله في وجوه البر ... 334
الصدقة حال الصحة أعظم أجراً ... 335
المسارعة بالصدقة وكراهية التسويف ... 335
الصدقة ولو بالشيء القليل ... 336(3/303)
من آداب الصدقة أن يتصدق بيمينه وأن يخفيها ... 336
الموضوع ... رقم الصفحة
الاستعفاف عن المسألة ... 337
كراهية المسألة ... 338
جواز أخذ المال لمن أُعطيه بشرط أن يكون غير مشرفٍ ... 338
ذم من سأل الناس تكثراً ... 339
إعطاء الصدقة للمتعفف ... 339
كراهية الرجوع في الصدقة ... 339
كراهية الحرص على الدنيا لأنه يفسد الدين ... 339
القناعة كنز لا يفنى ... 340
التحريض على الصدقة و الشفاعة فيها ... 340
الصدقة على الأقارب أعظم أجراً ... 340
صدقة المرأة على زوجها وولدها ... 342
تحذير لمن يتخوض في مال الله بغيرحق ... 343
لا تحل الصدقة للقوي المكتسب ... 343
فضل الصدقة الجارية ... 343
زكاة الفطر ... 343
حكمة زكاة الفطر ... 344
شروط وجوب زكاة الفطر ... 344
مصرف زكاة الفطر ... 345
وقت وجوب صدقة الفطر ... 346
مقدار إخراج صدقة الفطر ... 346
مقدار إخراج صدقة الفطر ... 346
إخراج زكاة الفطر طعاماً ... 347
صدقة التطوع ... 348
الموضوع ... رقم الصفحة
أنواع الصدقات ... 348
كتاب الصيام ... 351
فضلُ الصيام ... 352
أقسام الصيام ... 354
صوم رمضان ... 354
فضل شهر رمضان ... 354
متى يجب صيامُ رمضان ... 356
النهي عن صيام يوم الشك ... 356
على من يجب الصيام ... 358
أركان الصيام ... 360
من يُرخص لهم في الفطر وتجب عليهم الفدية ... 361
الحامل و المرضع إذا أفطرتا فماذا يجب عليهما ؟ ... 361
من يُرخص لهم في الفطر ويجب عليهم القضاء ... 362
هل الصوم في السفر أفضل أم الفطر ؟ ... 362
آداب الصيام ... 363
مباحات الصيام ... 366
ما يُفسد الصيام ( المفطرات ) ... 367
متى فِطرُ الصائم ... 370
قضاء رمضان ... 371
من مات وعليه صوم ... 372
صيام التطوع ... 373
جواز فطر الصائم المتطوع ... 376
من كان صائماً تطوعاً فدعي إلى طعام ... 377
الموضوع ... رقم الصفحة
الأيام المنهي عن صيامها ... 377(3/304)