صفات المنافقين
2219 { « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ خَالِصٌ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ». } ( د ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ خَالِصٌ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ».
(حم) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ الأَرْبَعِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَهٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ». تحفة 8931 معتلى 5363
((1/1)
ش) 25602-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ ، فَهُوَ مُنَافِقٌ خَالِصٌ , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
د ( 4688 ) وحم2/198 ( 6864 ) وخ(34) وش(25602) وحل 7/204
((1/2)
أربع ) : أي خصال أربع أو أربع من الخصال فساغ الابتداء به ( من كن ) : أي تلك الأربع ( فيه ) : الضمير لمن ( فهو منافق خالص ) : قال العلقمي : أي في هذه الخصال فقط لا في غيرها , أو شديد الشبه بالمنافقين , ووصفه بالخلوص يؤيد قول من قال : إن المراد بالنفاق العملي دون الإيماني أن النفاق العرفي لا الشرعي , لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار ( حتى يدعها ) : أي إلى أن يتركها ( إذا حدث كذب ) : أي عمدا بغير عذر ( وإذا وعد أخلف ) : أي إذا وعد بالخير في المستقبل لم يف بذلك ( وإذا عاهد غدر ) : أي نقض العهد وترك الوفاء بما عاهد عليه . وأما الفرق بين الوعد والعهد فلم أر من ذكر الفرق بين الوعد والعهد صريحا . والظاهر من صفيع الإمام البخاري رحمه الله أنه لا فرق بينهما بل هما مترادفان فإنه قال في كتاب الشهادات من صحيحه باب من أمر بإنجاز الوعد , ثم استدل على مضمون الباب بأربعة أحاديث أولها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل أورد منه طرفا وهو أن هرقل قال له سألتك ماذا يأمركم . فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد الحديث . ولولا أن الوعد والعهد متحدان لما تم هذا الاستدلال , فثبت من صنيعه هذا أنهما متحدان . والظاهر من كلام الحافظ رحمه الله في الفتح أن بينهما فرقا فإنه قال إن معناهما قد يتحد ونصه في شرح باب علامات المنافق من كتاب الإيمان قال القرطبي والنووي : حصل في مجموع الروايتين خمس خصال لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة والفجور في الخصومة . قلت : وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول , فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد إلخ .(1/3)
فلفظه قد تدل دلالة ظاهرة على أن بينهما فرقا , ولكن لم يبين أنه أي فرق بينهما , ولعل الفرق هو أن الوعد أعم من العهد مطلقا , فإن العهد هو الوعد الموثق فأينما وجد العهد وجد الوعد , من غير عكس . لجواز أن يوجد الوعد من غير توثيق . ويمكن أن يكون بينهما عموم وخصوص من وجه , فالوعد أعم من العهد , بأن العهد لا يطلق إلا إذا كان الوعد موثقا والوعد أهم من أن يكون موثقا أو لا يكون كذلك , ويشهد على ذلك لفظ الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على إخلاف الوعد لفظ الإخلاف , وعلى إخلاف العهد لفظ الغدر , ولا شك أن الغدر أشد من الإخلاف , فعلم أن العهد أشد وأوثق من الوعد . ويؤيده قول الله عز وجل : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) : الآية . وأما العهد أهم من الوعد فبأن الوعد لا يطلق إلا على ما يكون لشخص آخر , والعهد يطلق على ما يكون لشخص آخر أو لنفسه كما لا يخفي . قال الله عز وجل : ( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) : فههنا عهدهم ليس إلا على أنفسهم بالإيمان وقال الله تعالى ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) : الآية فههنا معاهدة المؤمنين لا على أنفسهم بل من المشركين . وأما الوعد فلا يوجد في كلام العرب إلا لرجل آخر , كما قال الله عز وجل في القرآن ( وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) : الآية . وقال الله تعالى : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) : الآية . وقال تعالى ( ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ) : الآية , وغير ذلك من الآيات والأحاديث وكلام أهل العرب . فلعل مراد البخاري ثم الحافظ باتحاد الوعد والعهد اجتماعهما في مادة الوعد من غير نظر إلى الوثوق وغير الوثوق , وكذلك إلى أنه لرجل آخر أو لنفسه والله تعالى أعلم ( وإذا خاصم فجر ) : أي شتم ورمى بالأشياء القبيحة .(1/4)
قال المنذري : وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه . عون
2232 - { « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ». } (خ) 34 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ». تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ».
((1/5)
م) - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ح وَحَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ». غَيْرَ أَنَّ فِى حَدِيثِ سُفْيَانَ « وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ ».
(ت) حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا وَإِنْ كَانَتْ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ». قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
((1/6)
حم) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ. قَالَ أَبِى وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ الأَرْبَعِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ».
(هق) 19318- أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ عَفَّانَ الْعَامِرِىِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِىِّ عَنِ الأَعْمَشِ.(1/7)
20581- أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِىُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ عَفَّانَ الْعَامِرِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. وَفِى رِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ عَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ.
خ 1/15 (34) و3/172 (2327) وم إيمان 106 (58) ود(4688) ون(8734) ونص( 5020) 2/116وت (2632) وحم 2/189 (6768 ) وهق 9/230 و10/74 (19318 و20581) وترغيب 3/593 وحلية 7/204 وصحيح الجامع (889) والإحسان (254) وعوانة (40) وعبد بن حميد(322)(1/8)
قوله صلى الله عليه وسلم : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب , وإذا عاهد غدر , وإذا وعد أخلف , وإذا خاصم فجر ) . وفي رواية : ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا اؤتمن خان ) هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك . وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر , ولا هو منافق يخلد في النار ; فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال . وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله . وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال , ولكن اختلف العلماء في معناه . فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار : أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق , وصاحبها شبيه بالمنافق في هذه الخصال , ومتخلق بأخلاقهم . فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه , وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال , ويكون نفاقه في حق من حدثه , ووعده , وائتمنه , وخاصمه , وعاهده من الناس , لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر . ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( كان منافقا خالصا ) معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال . قال بعض العلماء : وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه . فأما من يندر فليس داخلا فيه . فهذا هو المختار في معنى الحديث . وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي رضي الله عنه معناه عن العلماء مطلقا فقال : إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل .(1/9)
وقال جماعة من العلماء : المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم , وكذبوا , واؤتمنوا على دينهم فخانوا , ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا , وفجروا في خصوماتهم . وهذا قول سعيد بن جبير , وعطاء بن أبي رباح . ورجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد أن كان على خلافه . وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم , وروياه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي عياض رحمه الله : وإليه مال كثير من أئمتنا . وحكي الخطابي رحمه الله قولا آخرا معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق . وحكى الخطابي : رحمه الله أيضا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول , فيقول : فلان منافق , وإنما كان يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يفعلون كذا ؟ والله أعلم . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى : ( أربع من كن فيه كان منافقا ) وفي الرواية الأخرى ( آية المنافق ثلاث ) فلا منافاة بينهما فإن الشيء الواحد قد تكون له علامات كل واحدة منهن تحصل بها صفته , ثم قد تكون تلك العلامة شيئا واحدا , وقد تكون أشياء . والله أعلم . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا عاهد غدر ) هو داخل في قوله : ( وإذا اؤتمن خان ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن خاصم فجر ) . أي مال عن الحق , وقال الباطل والكذب . قال أهل اللغة . وأصل الفجور والميل عن القصد . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ) أي علامته ودلالته وقوله صلى الله عليه وسلم : ( خلة وخصلة ) هو بفتح الخاء فيهما وإحداهما بمعنى الأخرى . ن(1/10)
قوله : ( تابعه شعبة ) وصل المؤلف هذه المتابعة في كتاب المظالم , ورواية قبيصة عن سفيان - وهو الثوري - ضعفها يحيى بن معين , وقال الشيخ محيي الدين : إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة . وتعقبه الكرماني بأنها مخالفة في اللفظ والمعنى من عدة جهات , فكيف تكون متابعة ؟ وجوابه أن المراد بالمتابعة هنا كون الحديث مخرجا في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى عن الثوري , وعند المؤلف من طرق أخرى عن الأعمش , منها رواية شعبة المشار إليها , وهذا هو السر في ذكرها هنا . وكأنه فهم أن المراد بالمتابعة حديث أبي هريرة المذكور في الباب , وليس كذلك إذ لو أراده لسماه شاهدا . وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم , لما قررناه آنفا . وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهي مقبولة لأنها من ثقة متقن . والله أعلم . ( فائد ) : رجال الإسناد الثاني كلهم كوفيون , إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضا . والله أعلم . ف(1/11)
قوله : ( عن عبد الله بن مرة ) الهمداني الخارفي بمعجمة وراء وفاء الكوفي ثقة من الثالثة . قوله : ( أربع ) أي خصال أربع ( كان منافقا ) زاد البخاري خالصا ( حتى يدعها ) أي يتركها ( وإذا خاصم فجر ) أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب قال أهل اللغة : أصل الفجور الميل عن القصد قاله النووي . وقال القاري : أي شتم ورمى بالأشياء القبيحة ( وإذا عاهد غدر ) أي نقض العهد ابتداء . قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي . قوله : ( وإنما معنى هذا عند أهل العمل نفاق العلم وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ ) قال الحافظ في الفتح النفاق لغة مخالفة الباطن للظاهر , فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل , ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه . قال وقال النووي : هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره , قال : وليس فيه إشكال بل معناه صحيح , والذي قاله المحققون أن معناه أن هذه خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم . قال الحافظ : ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز أي صاحب هذه الخصال كالمنافق وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر , وقد قيل في الجواب عنه : إن المراد بالنفاق نفاق العمل وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة : هل تعلم في شيئا من النفاق , فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر . وإنما أراد نفاق العمل , ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله : كان منافقا خالصا وقيل المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وأن الظاهر غير مراد , وهذا ارتضاه الخطابي وذكر أيضا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا . قال ويدل عليه التعبير بإذا بإنها تدل على تكرر الفعل كذا قال .(1/12)
والأولى ما قال الكرماني إن حذف المفعول من حدث يدل على العموم أي إذا حدث في كل شيء كذب فيه أو يصير قاصرا , أي إذا وجد ماهية التحديث كذب , وقيل هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها , فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا . وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس , ومنهم من ادعى أنها للعهد , فقال إنه ورد في حق شخص معين , أو في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم , وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إلبه وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي . قلت : الأمر كما قال الحافظ من أن أحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي . وقد نقل الترمذي هذا القول عن أهل العلم مطلقا . ت
((1/13)
أربع ) : أي خصال أربع أو أربع من الخصال فساغ الابتداء به ( من كن ) : أي تلك الأربع ( فيه ) : الضمير لمن ( فهو منافق خالص ) : قال العلقمي : أي في هذه الخصال فقط لا في غيرها , أو شديد الشبه بالمنافقين , ووصفه بالخلوص يؤيد قول من قال : إن المراد بالنفاق العملي دون الإيماني أن النفاق العرفي لا الشرعي , لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار ( حتى يدعها ) : أي إلى أن يتركها ( إذا حدث كذب ) : أي عمدا بغير عذر ( وإذا وعد أخلف ) : أي إذا وعد بالخير في المستقبل لم يف بذلك ( وإذا عاهد غدر ) : أي نقض العهد وترك الوفاء بما عاهد عليه . وأما الفرق بين الوعد والعهد فلم أر من ذكر الفرق بين الوعد والعهد صريحا . والظاهر من صفيع الإمام البخاري رحمه الله أنه لا فرق بينهما بل هما مترادفان فإنه قال في كتاب الشهادات من صحيحه باب من أمر بإنجاز الوعد , ثم استدل على مضمون الباب بأربعة أحاديث أولها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل أورد منه طرفا وهو أن هرقل قال له سألتك ماذا يأمركم . فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد الحديث . ولولا أن الوعد والعهد متحدان لما تم هذا الاستدلال , فثبت من صنيعه هذا أنهما متحدان . والظاهر من كلام الحافظ رحمه الله في الفتح أن بينهما فرقا فإنه قال إن معناهما قد يتحد ونصه في شرح باب علامات المنافق من كتاب الإيمان قال القرطبي والنووي : حصل في مجموع الروايتين خمس خصال لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة والفجور في الخصومة . قلت : وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول , فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد إلخ .(1/14)
فلفظه قد تدل دلالة ظاهرة على أن بينهما فرقا , ولكن لم يبين أنه أي فرق بينهما , ولعل الفرق هو أن الوعد أعم من العهد مطلقا , فإن العهد هو الوعد الموثق فأينما وجد العهد وجد الوعد , من غير عكس . لجواز أن يوجد الوعد من غير توثيق . ويمكن أن يكون بينهما عموم وخصوص من وجه , فالوعد أعم من العهد , بأن العهد لا يطلق إلا إذا كان الوعد موثقا والوعد أهم من أن يكون موثقا أو لا يكون كذلك , ويشهد على ذلك لفظ الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على إخلاف الوعد لفظ الإخلاف , وعلى إخلاف العهد لفظ الغدر , ولا شك أن الغدر أشد من الإخلاف , فعلم أن العهد أشد وأوثق من الوعد . ويؤيده قول الله عز وجل : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) : الآية . وأما العهد أهم من الوعد فبأن الوعد لا يطلق إلا على ما يكون لشخص آخر , والعهد يطلق على ما يكون لشخص آخر أو لنفسه كما لا يخفي . قال الله عز وجل : ( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) : فههنا عهدهم ليس إلا على أنفسهم بالإيمان وقال الله تعالى ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) : الآية فههنا معاهدة المؤمنين لا على أنفسهم بل من المشركين . وأما الوعد فلا يوجد في كلام العرب إلا لرجل آخر , كما قال الله عز وجل في القرآن ( وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) : الآية . وقال الله تعالى : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) : الآية . وقال تعالى ( ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ) : الآية , وغير ذلك من الآيات والأحاديث وكلام أهل العرب . فلعل مراد البخاري ثم الحافظ باتحاد الوعد والعهد اجتماعهما في مادة الوعد من غير نظر إلى الوثوق وغير الوثوق , وكذلك إلى أنه لرجل آخر أو لنفسه والله تعالى أعلم ( وإذا خاصم فجر ) : أي شتم ورمى بالأشياء القبيحة .(1/15)
قال المنذري : وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه . ع
وقال المناوي :
916 - (أربع) من الخصال قال الكرماني مبتدأ بتقدير أربع خصال وإلا فهو نكرة صرفة والشرطية خبره ويحتمل كون الشرطية صفة وإذا حدث إلخ خبره وقال التفتازاني أربع مبتدأ والجملة بعده صفة له قال: والأحسن أن يجعل أربع خبراً مقدماً أو مبتدأ لخبر وخصاله من إذا مفسر أي في الوجود أربع (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) نفاق عمل لا نفاق إيمان (ومن كانت فيه خصلة) بفتح الخاء (منهن) أي من هؤلاء الأربع (كان فيه خصلة) بفتح الخاء أي خلة (من النفاق حتى يدعها) أي يتركها قال الحافظ ابن حجر النفاق لغة مخالفة الباطن للظاهر فإن كان في اعتقاد اإيمان فهو نفاق الكفر وإلا نفاق العمل ويدخل فيه الفعل والترك وستفاوت مراتبه وقوله خالصاً أي شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال لغلبتها عليه ومصيرها خلقاً وعادة وديدناً له (إذا حدث) أي أخبر عن ماضي الأحوال (كذب) لتمهيد معذورته في التقصير (وإذا وعد) بإيفاء عهد الله (أخلف) أي لم يف (وإذا عاهد غدر) أي نقص العهد (وإذا خاصم فجر) مال في الخصومة عن الحق وقال الباطل قال البيضاوي يحتمل أن يكون هذا مختصاً بأبناء زمانه فإنه علم بنور الوحي بواطن أحوالهم وميز بين من آمن صدقاً ومن أذعن له نفاقاً وأراد تعريف أصحابه بحالهم ليحذروهم [ص 464] ولم يصرح بأسمائهم لعلمه بأن منهم من يتوب فلم يفضحهم ولأن عدم التعيين أوقع في النصيحة وأجلب للدعوة إلى الإيمان وأبعد عن النفور والمخاصمة ويحتمل كونه عاماً لينزجر الكل عن هذه الخصال على آكد وجه إيذاناً بأنها طلائع النفاق الذي هو أسمج القبائح فإنه كفرتموه باستهزاء وخداع مع رب الأرباب ومسيب الأسباب فعلم من ذلك أنها منافية لحال المسلمين فينبغي للمسلم أن لا يرتع حولها فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ويحتمل أن المراد بالمنافق العرفي وهو من يخالف سره عليه مطلقاً ويشهد له قوله(1/16)
من كان فيه خصلة منهن إلخ لأن الخصائل التي تتم بها المخالفة بين السر والعلن لا يزيد على هذا فإن نقص منها خصلة نقص الكمال إلى هنا كلامه. قال الطيبي والكذب أقبحها لتعليله تعالى عذابهم به في قوله {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} ولم يقل بما كانوا يصنعون من النفاق إيذاناً بأن الكذب قاعدة مذهبهم وأسه فينبغي للمؤمن المصدق اجتنابه لمنافاته لوصف الإيمان انتهى ويليه الخلف في الوعد قال الغزالي والخلف في الوعد قبيح فإياك أن تعد بشيء إلا وتفي به بل ينبغي أن يكون إحسانك للناس فعلاً بلا قول فإن اضطررت إلى الوعد فاحذر أن تخلف إلا لعجز أو ضرورة فإن ذلك من أمارات النفاق وخبائث الأخلاق والفجور لغة الميل والشق فهو هنا إما ميل عن القصد المستقيم أو شق ستر الديانة ولا تناقض بين قوله هنا أربع وآنفا آية المنافق ثلاث إذ قد يكون لشيء واحد علامات كل منها يحصل بها صفته فتارة يذكر بعضها وأخرى أكثرها وطوراً كلها قال النووي والقرطبي حصل من مجموع الروايتين خمس خصال لأنهما تواردا على الكذب والخيانة وزاد الأول خلف الوعد والثاني الغدر والفجور في الخصومة - (حم ق 3 عن ابن عمرو) ابن العاص وظاهر صنيع المؤلف أنه لم يخرجه من الستة إلا هؤلاء والأمر بخلافه فقد رواه أبو داود والنسائي أيضاً.
وفي الإيمان لابن مندة :
... ذكر ما يدل على أن النفاق على ضروب نفاق كفر ونفاق قلب ولسان وأفعال وهي دون ذلك قال الله عز وجل إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد ومحمد بن يعقوب قالا ثنا الحسن بن علي بن عفان ثنا ابن نمير عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر اسناده(1/17)
604 ... أنبأ عبدالرحمن بن يحيى ثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات أنبأ يزيد بن هارون ثنا شعبة عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا وإن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان اه اسناده في متابعه أنبأ خيثمة بن سليمان ثنا أبو عبيدة السري بن يحيى ثنا قبيصة بن عقبة ثنا سفيان عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا وإن كانت فيه خصلة منهن لم يزل فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر اه رواه وكيع اه اسناده في متابعه أنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل ومحمد بن يعقوب قالا ثنا أحمد بن سلمة أنبأ إسحاق بن إبراهيم أنبأ جرير بن عبدالحميد عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها اه اسناده في متابعه أنبأ أحمد بن إسحاق بن أيوب ثنا إسحاق بن الحسن وبشر بن موسى قالا ثنا معاوية بن عمرو ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإن كانت فيه خصلة منها ففيه خصلة من النفاق حتى يتوب اه في متابعه(1/18)
605 ... أنبأ محمد بن يعقوب ثنا محمد بن نعيم ثنا قتيبة ح وأنبأ حمزة ثنا حامد ثنا يحيى بن أيوب ح وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا يوسف بن يعقوب وأحمد بن عمرو بن حفص قالا ثنا أبو الربيع ح وأنبأ محمد بن صالح ثنا جعفر بن محمد بن سوار ثنا علي بن حجر هو وشعيب قالوا ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان اه اسناده صحيح أنبأ أحمد بن محمد بن عبدالسلام وعمر بن الربيع قالا ثنا يحيى بن أيوب ثنا ابن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان اه اسناده صحيح(1/19)
606 ... أنبأ علي بن يعقوب ثنا أبو زرعة ح وأنبأ الحسن بن منصور ثنا علي بن معروف ثنا يحيى بن صالح وأنبأ محمد بن أبي حامد ثنا أبو إسماعيل ثنا أيوب ابن سليمان عن أبي بكر ح وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا الحسن بن علي ثنا ابن أبي أويس ثنا أخي قالوا ثنا سليمان عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه اه ثنا حسان ثنا إبراهيم بن أبي طالب ح وثنا محمد بن يعقوب بن يوسف حدثني أبي قال ثنا أبو موسى ثنا يحيى بن محمد بن قيس عن العلاء بإسناده قال آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم نحوه اه اسناده صحيح أنبأ خيثمة بن سليمان ثنا أبو قلابة عبدالملك بن محمد الرقاشي وأنبأ محمد بن سعد وأحمد بن إسحاق قالا ثنا محمد بن أيوب ثنا أبو سلمة وعلي بن عثمان ح وأنبأ أحمد بن عبيد الحمصي ثنا أحمد بن علي بن سعيد ثنا عبدالأعلى بن حماد قالوا ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان اه اسناده صحيح أنبأ عبدالرحمن بن يحيى ومحمد بن حمزة ومحمد بن محمد قالوا ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود ثنا شعبة عن منصور عن أبي وائل عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان أخرجه حسين بن محمد عن عمرو عن أبي داود عن شعبة عن منصور والأعمش اه رواه بندار عن أبي داود فقال منصور وحده اه(1/20)
607 ... أنبأ محمد بن سعيد وخيثمة وأحمد بن محمد بن زياد وجماعة قالوا ثنا إبراهيم بن عبدالله العبسي ثنا وكيع وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن سليمان ثنا عبيدالله بن موسى قال ثنا الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش قال قال علي والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي الأمي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق اه اسناده صحيح أنبأ عبدالرحمن بن يحيى ومحمد بن حمزة ومحمد بن محمد قالوا ثنا يونس ثنا أبو داود ح وأنبأ محمد بن عمر ثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان ثنا الحجاج بن منهال الأنماطي البصري ح وأنبأ علي بن الحسن بن علي ثنا يوسف بن عبدالله الحلواني ثنا أبو الوليد ومسلم وابن كثير ح وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن غالب ثنا عفان وثنا إبراهيم بن حاتم ثنا سليمان بن حرب قالوا ثنا شعبة قال أخبرني عبدالله بن جبر قال سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله اه(1/21)
608 ... وأخبرني أبي حدثني أبي ثنا أبو موسى ثنا غندر ح وثنا حسان ثنا جعفر بن أحمد ثنا يحيى بن حبيب ثنا خالد بن الحارث نحوه اه أنبأ خيثمة بن سليمان ثنا أبو قلابة عبدالملك بن محمد ثنا وهب بن جرير وبشر بن عمر الزهراني ح وأنبأ محمد بن يعقوب ثنا إبراهيم بن عبدالله بن سليمان ثنا وهب بن جرير ح وأنبأ محمد بن حمزة ومحمد بن محمد بن يونس قالا ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود ح وأنبأ محمد بن عمر ثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان ثنا حجاج بن منهال ح وأنبأ أحمد بن إسحاق بن أيوب ثنا محمد بن غالب البغدادي ثنا أبو الوليد ومسلم بن إبراهيم ومحمد بن كثير وأبو عمر الحوضي وعلي بن الجعد قالوا ثنا شعبة عن عدي بن ثابت قال سمعت البراء يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق اه زاد أبو قلابة وحجاج من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله اه اسناده صحيح أنبأ أحمد وعلي قالا ثنا معاذ ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد ح وحدثني أبي حدثني أبي ثنا عمرو وأبو موسى قالا ثنا معاذ بن معاذ ح قال وثنا أبو حفص ثنا ابن مهدي ح قال وثنا بندار ثنا غندر قالوا ثنا شعبة نحوه اه أنبأ أحمد وعلي قالا ثنا معاذ ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد ح وحدثني أبي حدثني أبي ثنا عمرو وأبو موسى قالا ثنا معاذ بن معاذ ح قال وثنا أبو حفص ثنا ابن مهدي ح قال وثنا بندار ثنا غندر قالوا ثنا شعبة نحوه اه أنبأ علي بن محمد بن نصر ثنا العباس بن الفضل ثنا أبو الوليد قال كنا عند شعبة فقال لفتى أنت ابن سعيد بن أسعد الأنصاري قال نعم قال ادن فسل فأخرج ألواحا قال شعبة ليس بيننا وبين احد هوادة في ألواح ثم قال شعبة سمعت عدي بن ثابت يقول سمعت البراء يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغض الأنصار أبغضه الله قال شعبة وأخبرني عبدالله بن عبدالله ابن جبر سمع أنسا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول آية(1/22)
الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار اه
609 ... أنبأ محمد بن حمزة ومحمد بن محمد بن يونس وغير واحد قالوا ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود ح وأنبأ خيثمة ثنا أبو قلابة الرقاشي ثنا أبو زيد سعيد بن الربيع الهروي ح وأنبأ محمد بن يعقوب الشيباني ثنا إبراهيم بن عبدالله ابن سليمان ثنا وهب بن جرير ح وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا إبراهيم بن حاتم ثنا عمرو ح قال أحمد بن إسحاق وثنا محمد بن حفص ثنا عاصم بن علي قالوا ثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر اه اسناده صحيح أنبأ عمرو بن محمد بن منصور ومحمد بن يونس قالا ثنا الحسين بن محمد بن زياد ثنا إسحاق بن إبراهيم ح وأنبأ حسان بن محمد ثنا علي بن إسحاق البغدادي ثنا عثمان بن أبي شيبة ح وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا يوسف بن يعقوب ثنا أبو الربيع قالوا أنبأجرير بن عبدالحميد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر اه اسناده صحيح أنبأ أحمد بن عبيد بن إبراهيم ومحمد بن إبراهيم بن مروان ويحيى ابن عبدالله بن الحارث الدمشقي قالوا ثنا أحمد بن علي بن سعيد ثنا يحيى بن معين ح وأنبأ الحسين ثنا الحسن بن عامر ثنا أبو بكر قال ثنا أبو أسامة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر اه رواه أبو عوانة والثوري اه متابعه(1/23)
610 ... أنبأ محمد بن عبيدالله بن أبي رجاء ثنا موسى بن هارون ح وأنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل وأحمد قالا ثنا أحمد بن سلمة قال ثنا قتيبة بن سعيد ثنا يعقوب بن عبدالرحمن القاري عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلكت واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم والأنصار شعارى والناس دثارى اه اسناده ضعيف أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن مسلم بن واره ثنا يحيى بن حماد ثنا شعبة عن أبان بن تغلب عن الفضيل الفقيمي عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسن ونعله حسنة فقال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس اه
611 ... أنبأ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد ثنا إبراهيم بن هاشم ثنا محمد ابن أبي بكر المقدي ح وأنبأ حسان ثنا أحمد بن نصر بن إبراهيم ثنا بندار قال ثنا أبو داود ثنا شعبة عن أبان بن تغلب عن فضيل عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر اه رواه أبو بكر بن أبي الأسود عن أبي داود اه أنبأ أحمد بن إسحاق بن أيوب ثنا العباس بن محمد بن عبيدالله ثنا عفان ح قال وثنا محمد بن أيوب ثنا عبدالرحمن بن المبارك قال ثنا عبدالعزيز بن مسلم ثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال(1/24)
612 ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان اه رواه أبو بكر بن عياش وغيره عن الأعمش اه أنبأ عمرو بن محمد بن منصور ومحمد بن يعقوب قالا ثنا حسين بن محمد ابن زياد ثنا سهل بن عثمان ح وأنبأ محمد بن يعقوب ثنا محمد بن النضر بن سلمة ثنا سويد قال ثنا ابن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه اه أخبرنا أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة أنبأ أحمد بن محمد بن زياد ومحمد بن يعقوب قالا ثنا الحسن بن علي بن عفان ثنا أبو أسامة ح وأنبأ محمد بن أيوب بن حبيب ثنا عبدالملك بن عبدالحميد ثنا محمد بن عبيد عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
613 ... من حمل علينا السلاح فليس منا اه اسناده صحيح أنبأ علي ثنا معاذ بن المثنى ح وأنبأ محمد بن يعقوب ثنا يحيى بن محمد قال ثنا مسدد ثنا ثنا يحيى بن سعيد ح وأنبأ الحسين ثنا الحسن ثنا أبو بكر ثنا عبدالله بن نمير وأبو أسامة عن عبدالله نحوه اه وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن أيوب ثنا إبراهيم بن موسى ثنا عيسى بن يونس ح وأنبأمحمد بن إبراهيم ثنا أحمد بن سلمة ثنا محمد بن المثنى ثنا عبدالوهاب عن عبيدالله نحوه اه أنبأ محمد بن محمد بن يوسف ثنا محمد بن نصر ح وأنبأ محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبدالسلام قال ثنا يحيى بن يحيى قرأت على مالك ح وأنبأ عمر بن الربيع ثنا بكر بن سهل ثنا عبدالله بن يوسف ح وأنبأ محمد بن عبدالله وعلي بن الحسن قالا ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا ابن أبي أويس والقعنبي قالوا ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا اه رواه جويرية وأيوب اه اسناده صحيح(1/25)
614 ... أنبأ أحمد بن إبراهيم بن جامع ثنا عمر بن عبدالعزيز بن مقلاص ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا معن عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا اه وعن عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه اه متابعه أنبأ أحمد بن محمد بن زياد ومحمد بن يعقوب قالا ثنا الحسن بن علي بن عفان ثنا أبو أسامة عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا اه اسناده صحيح أنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل وأحمد قالا ثنا أحمد بن سلمة ح وأنبأ محمد بن عبيدالله ثنا موسى بن هارون قال ثنا قتيبة ثنا يعقوب بن عبدالرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا اه رواه سليمان بن بلال وابن أبي حازم اه(1/26)
615 ... أنبأ أحمد بن إبراهيم بن نافع ثنا أبو الزنباع روح بن الفرج ثنا أحمد بن أبي بكر ح وأنبأ أحمد بن إسحاق بن أيوب ثنا زياد بن الخليل ثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال ثنا عبدالعزيز بن أبي حازم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا اه أنبأ أحمد بن محمد بن عبدالسلام ثنا يحيى بن أيوب ثنا بن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا ولسنا منه اه فيه متابعه وليس في رواية مسلم وأنبأالحسين ثنا علي بن معروف ثنا يحيى بن صالح ثنا سليمان بن بلال عن العلاء نحوه اه متابعه أنبأ محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم ثنا بن وهب ثنا حفص بن ميسرة أن العلاء بن عبدالرحمن أخبره عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بصبر من طعام يباع في السوق فأدخل يده فيها فكان في أسفله بلل فقال ما هذا فقالوا أصابه الماء فقال ألا أظهرتموه للناس من غشنا فليس منا اه اسناده حسن(1/27)
616 ... أنبأ أحمد بن محمد بن عبدالسلام ثنا يحيى بن أيوب ثنا سعيد بن أبي مريم المصري ثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال أخبرني العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى السوق فرأى حنطة مصبرة فأدخل يده فيها فنالها بلل فقال ما هذا يا صاحب الطعام قال يا رسول الله أصابه مطر فهو هذا البلل الذي ترى قال أفلا جعلته على رأس الطعام حتى يراه الناس من غش فليس منا من غش فليس منا اه متابعه أنبأ محمد بن يعقوب ثنا محمد بن نعيم ثنا قتيبة ح وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا أحمد بن عمرو بن حفص ثنا أبو الربيع ح وأنبأ حمزة بن محمد ثنا حامد بن أبي حامد ثنا يحيى بن أيوب ح وأنبأ محمد بن صالح ثنا جعفر بن سوار ثنا علي بن حجر قالوا ثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده
617 ... فيها فنالت أصبعه بللا فقال ما هذا يا صاحب الطعام قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غش فليس مني اه رواه ابن عيينة وسليمان بن بلال اه أنبأ أبو عمرو ثنا محمد بن النعمان بن بشير ثنا عبدالعزيز الأويس ثنا الدراوردي عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم من رمانا بالليل فليس منا ومن غشنا فليس منا اه اسناده لم يترجم أنبأ محمد بن الحسين ثنا أحمد بن يوسف ثنا النضر بن محمد ح وأنبأ أحمد بن إسحاق ثنا محمد بن أيوب ثنا أبو الوليد قال ثنا عكرمة بن عمار ثنا إياس بن سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا اه ثنا الحسين ثنا الحسن ثنا أبو بكر ثنا مصعب عن عكرمة نحوه اه(1/28)
618 ... أنبأ محمد بن عبيدالله بن أبي رجاء ثنا موسى بن هارون ثنا شيبان وعلي بن الجعد قالا ثنا أبو الأشهب ثنا الحسن قال عاد عبيدالله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه فقال معقل أني محدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علمت أني أحيا ما حدثتكم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد يسترعيه الله يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة اه لفظ شيبان رواه أبو نعيم اه اسناده صحيح أنبأ محمد بن يعقوب الشيباني ثنا محمد بن عمرو الحرشي ح وأنبأ حسان ثنا إبراهيم بن علي الذهلي قال ثنا يحيى بن يحيى ثنا يزيد بن زريع عن يونس عن الحسن قال دخل ابن زياد على معقل بن يسار وهو وجع فسأله فقال أني محدثك حديثا لم أكن حدثتكه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يسترعي الله عبدا رعبة فيموت حين يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة قال ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم قال ما حدثتك أو لم أكن لأحدثك اه اسناده صحيح أنبأ محمد بن عبيدالله ثنا موسى بن هارون ثنا خلف بن هشام ثنا خالد بن عبدالله عن يونس بن عبيد عن الحسن أن معقل بن يسار مرض فأتاه عبيدالله بن زياد يعوده فقال له معقل لأحدثك بحديث لم أحدثك به إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استرعاه الله رعية فمات وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة اه متابعه(1/29)
619 ... أنبأ الحسين بن علي ومحمد قالا ثنا محمد بن إسحاق ثنا موسى بن عبدالرحمن ثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة بن قدامة عن هشام بن حسان قال قال الحسن كنا عند معقل بن يسار نعوده فجاء عبيدالله بن زياد فقال له معقل إني سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ح وأخبرنا محمد بن سعيد وأحمد بن محمد بن إبراهيم قالا ثنا أحمد بن عصام ثنا وهب بن جبير ثنا هشام عن الحسن قال دخل عبيدالله بن زياد على معقل يعوده ونحن عنده وابن زياد عامل فسأله فقال معقل لأحدثنك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استرعاه الله رعبة فمات يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة فقال ابن زياد فهلا قبل اليوم حدثتني فقال لولا أني أرى في الموت ما حدثتك اه اسناده صحيح أنبأ عبدالله بن جعبة ثنا هارون بن سليمان الخزاز ثنا معاذ بن هشام ابن أبي عبدالله ح وأنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل ثنا أحمد بن سلمة ثنا محمد ابن المثنى ح وأخبرني أبي حدثني أبي ثنا محمد بن بشار ح وأنبأ حسان بن محمد ثنا الحسن بن عامر ثنا إسحاق بن إبراهيم قالوا ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي المليح ان عبيدالله بن زياد دخل على معقل بن يسار وهو يشتكي فقال لولا أني في الموت ما حدثتك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/30)
620 ... ما من أمير يسترعي رعبة لم يحتط لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة اه اسناده صحيح أنبأ أحمد بن محمد بن إبراهيم ومحمد بن سعيد قالا ثنا أحمد بن عصام ثنا أبو عامر عبدالملك بن عمرو العقدي ثنا سوادة بن أبي الأسود حدثني أبي أن عبدالله بن زياد دخل على معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه فقال قد كنت تكرمني في الصحة وتعودني في المرض وسأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما راع غش رعيته فهو في النار اه متابعه أنبأ أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم ثنا موسى بن سعيد النعمان ثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل ثنا ابن أم الأسود يعني سوادة عن أبيه عن معقل ابن يسار سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول أيما راع بات أو مات وهو غاش لرعيته فهو في النار اه متابعه
صفة المنافق ج: 1 ص: 43(1/31)
بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله عدة للقاء الله عز وجل باب ما روي في صفة المنافق قرأت على الشيخ الصالح أبي سعد أحمد بن محمد بن علي الزوزني في داره في درب السلسلة ببغداد الجانب الشرقي في المحرم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة قلت له أخبركم الشيخ الثقة أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة في ذي القعدة سنة سبع وخمسمائة أخبرنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قراءة عليه في منزلنا في ذرب سليم في شعبان سنة ثمانين وثلاثمائة وأنا أسمع به فأقربه حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض الفريابي 1 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب 2 حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن مخلد حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب 3 حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى بن محمد بن قيس حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب 4 حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا النضر بن شميل حدثنا أبو معشر عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه فهو منافق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب فقال رجل يا رسول الله ذهبت اثنتان وبقيت واحدة قال فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن شيء 5 حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي حدثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب(1/32)
وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب 6 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا اسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر أنه سمع سعيد بن المسيب يسأل رجلا كيف بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق قال إن حدث كذب وإن وعد أخلف وإن ائتمن المطلوب ثم مر عليه رجل فسأله أيضا فقال له مثل ذلك حتى مر عليه رجلان 7 حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو داود حدثنا شعبة قال أخبرني منصور سمعت أبا وائل يحدث عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب قال أبو حفص عمرو بن علي لا أعلم أحدا تابع أبا داود على هذا وأبو داود ثقة 8 حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال ثلاث من كن فيه فهو منافق كذوب إذا حدث مخالف إذا وعد خائن إذا ائتمن فمن كانت فيه خصلة ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها 9 حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال ثلاث من كن فيه فهو منافق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب وقال عبد الله بن عمر وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر 10 حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله بن مسعود اعتبروا المنافق بثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ثم قرأ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله بما كانوا يكذبون 11 حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب 12 حدثني أبو أمية عمرو بن هشام الحراني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن عكرمة بن عمار عن(1/33)
يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وقال إني مؤمن من إذا حدث كذب وإذا ائتمن المطلوب وإذا وعد أخلف 13 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر 14 حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها 15 حدثني أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه فهو منافق وإن كانت فيه خصلة منها ففيه خصلة من نفاق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر 16 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة عن سماك بن حرب عن صبيح بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو قال ثلاث من كن فيه فهو منافق من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب قال ثم أصحهما هذه الآية ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله إلى آخر الآية 17 حدثنا أبو الوليد هشام بن عمار الدمشقي حدثنا أسد بن موسى أبو سعيد حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ثلاث إذا كن في عبد فلا تتحرج أن تشهد عليه أنه منافق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب ومن كان إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن أدى فلا تتحرج(1/34)
أن تشهد عليه أنه مؤمن 18 حدثنا جعفر بن محمد حدثنا اسحاق بن راهويه أنبأنا عيسى بن يونس حدثنا الأوزاعي عن هارون بن رئاب أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة خطب إليه رجل ابنته فقال له إني قد قلت له فيه قولا شبيها بالعدة وإني أكره أن ألقى الله عز وجل بثلث النفاق 19 حدثني أبو بكر سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن هارون بن رئاب أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال انظروا فلانا لرجل من قريش فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبيه العدة وما أحب أن ألقى الله عز وجل بثلث النفاق وأشهدكم أني قد زوجته 20 حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك الحمصي حدثنا محمد بن حرب حدثنا الزبيدي وهو محمد بن الوليد عن سليم بن عامر الخبائري عن أبي أمامة الباهلي قال المنافق الذي إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن المطلوب وإذا غنم غل وإذا أمر عصى وإذا لقي جبن فمن كن فيه ففيه النفاق كله ومن كان فيه بعضهن ففيه بعض النفاق 21 حدثنا عمرو بن علي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا يونس بن عبيد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم فهو منافق إذا ائتمن المطلوب وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف 22 حدثنا وهب بن بقية أخبرنا خالد بن بيان عن عامر الشعبي قال من كذب فهو منافق ثم قال ما أدري أيهما أبعد غورا يعني في النار الكذب أو الشح 23 حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا حسين المعلم عن ابن بريدة عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان 24 حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر المقدمي قالا حدثنا ديلم بن غزوان حدثنا ميمون الكردي عن أبي عثمان النهدي قال كنت ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسمعته يقول في خطبته سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أخوف ما أخاف على أمتي كل(1/35)
منافق عليم اللسان
**************
صفات المنافقين من طريق الهجرين:
الطبقة الخامسة عشرة: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله [ورسوله]. وهؤلاء المنافقون، وهم فى الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}* [النساء: 145]، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم فى دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا فى الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى فى حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}* [المنافقون: 4]، ومثل هذا اللفظ يقتضى الحصر، أى لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا [حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم بل هذا] من إثبات الأولوية والأحقية لهم فى هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم [لهم] ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعدواة ممن باينهم فى الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإن ضرر هؤلاءِ المخالطين لهم المعاشرين لهم- وهم فى الباطن على خلاف دينهم- أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم ينقضى ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم فى الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْوهُمْ}* [المنافقون: 4]، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدواً من الكفار المجاهرين.(1/36)
ونظير ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكين الطواف الذى ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذى لا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه))، فليس هذا نفياً لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذى لا يسمونه مسكيناً أحق بهذا الاسم من الطواف الذى يسمونه مسكيناً.
ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرعة، ولكن الذى يملك نفسه عند الغضب))، ليس نفياً للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأن من يملك نفسه عند الغضب أحق منه بهذا الاسم.
ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون المفلس فيكم))؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: ((المفلس من يأتى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأْتى قد لطم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه فأُلقى فى النار))، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون الرقوب فيكم))؟ قالوا: من لا يولد له؟ قال: ((الرقوب من لم يقدم من ولده شيئاً))، ومنه عندى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الربا فى النسيئة)).
وفى لفظ: ((إنما الربا فى النسيئة)) هو إثبات لأن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل، وليس فيه اسم الربا عن ربا الفضل. فتأمله.(1/37)
والمقصود أن هذه الطبقة أشقى الأشقياءِ، ولهذا يستهزأُ بهم فى الآخرة، وتعطى نوراً يتوسطون به على الصراط ثم يطفيء الله نورهم ويقال لهم: {ارْجَعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً}* [الحديد: 13]، ويضرب بينهم وبين المؤمنين: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قَبْلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِى حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغرَّكُمْ بِاللهِ الغرُورِ}* [الحديد: 13]، وهذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح، حتى إذا ظن أنه ناج ورأى منازل السعداءِ اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة ونعوذ بالله من غضبه وعقابه.
وإنما كانت هذه الطبقة فى الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداءِ عنهم، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين.
ولهذا قال تعالى [فى المنافقين]: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَفْقَهُونَ }* [المنافقين: 3]، وقال تعالى فيهم: {صُم بُكْمُّ عُمِى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}* [البقرة: 18]، وقال تعالى فى الكفار: {صُم بُكْم عُمْى فَهُمْ لا يرْجَعُونَ}* [البقرة: 171]، فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم عمى وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفراً وأخبث قلباً وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل.(1/38)
وفيه معنى آخر أيضاً وهو أن الحامل لهم على النفاق طلب العز والجاه بين الطائفتين فيرضوا المؤمنين ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضاً.
ومن [هاهنا] دخل عليهم البلاءُ، فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين، ولم يكن لهم غرض فى الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وضعوهم وجهتهم إلى الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل وهو أن جعل مستقرهم فى أسفل السافلين تحت الكفار، فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاءِ بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم [من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم فتغلظ كفرهم به، فاستحقوا الدرك الأسفل] من النار ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق فى أول سورة [البقرة: 2-20]فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، وكافر ظاهراً وباطناً، ومؤمن فى الظاهر كافر فى الباطن وهم المنافقون، وذكر فى حق المؤمنين ثلاث آيات 3-5، وفى حق الكفار آيتين 6- 7.
فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية 8- 20 ذمهم فيها غاية الذم وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاءُ المفسدون فى الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون فى اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، فلم يدع ذماً ولا عيباً إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم، وبغضه إياهم، وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه.فظهرت حكمته الباهرة فى تخصص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار.(1/39)
نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته. ومن تأمل ما وصف [الله به المنافقين فى القرآن من صفات الذم علم أنهم أحق بالدرك الأسلف فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده ووصف] قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد فى الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراءِ الضلالة بالهدى والصمم والبكم والعمى والحيرة والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره، والتردد- والتذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذباً وباطلاً وبالكذب وبغاية الجبن، وبعدم الفقه فى الدين وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله واليوم الآخر وبالرب، وبأنهم مضرة على المؤمنين ولا يحصل كلهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال والإسراع بينهم بالشر وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر الله، ومحو الحق، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الإنفاق فى مرضاة الله وسبيله، وبعيب [المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم فيلزمون المتصدقين ويعيبون] مزهدهم، ويرمون [مكثرهم] بالرياءِ إرادة الثناء فى الناس، وأنهم عبيد الدنيا إن أُعطوا منها رضوا وإن [منعو] سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبونه إلى ما برأه الله منه ويعيبونه بما هو من كماله وفضله وأنهم يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ رب العالمين وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكرهون الجهاد فى سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله عليهم بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله، [وأنهم] مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جُنّة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأْن المنافق(1/40)
أحلف الناس بالله كاذباً قد اتخذ يمينه جنة ووقاية يتقى بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس- والرجس من كل جنس أخبثه وأقذره- فهم أخبث بنى آدم وأقذرهم وأرذلهم وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم فى أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم فى كل زمان، وارتابوا فى الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأمانى الباطلة وغرهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجساماً تعجب الرائى أجسامهم،والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسنده، ولا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراءَ ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مغن عنها وعن الطاعات جملة- كحال كثير من الزنادقة-وإما احتقاراً وازدراءً بمن يدعوهم إلى ذلك، ووصفهم سبحانه بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله وبأنهم مجرمون وبأنهم يأْمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق فى مرضاته، ونسيان ذكره،وبأنهم يتولون الكفار ويدعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلاً، وأنهم حزب الشيطان وأنهم يوادون من حاد الله ورسوله وبأنهم يتمنون ما يعنت المؤمنين ويشق عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.(1/41)
ومن صفاتهم التى وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب فى الحديث والخيانة فى الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأْخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ .
ومن صفاتهم التى وصفهم الله بها الشح على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بأَلسنة حداد، فهم أحد الناس أَلسنة عليهم كما قيل:
جهلاً علينا وجبناً عن عدوكم لبئست الخلتان الجهل والجبن
وإنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتهم، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم وظهرت المخبآت وبدت الأسرار.
ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة، [وأمرهم] قلوباً وأعظم الناس [مخالفة] بين أعمالهم وأقوالهم ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقه فى دين أبداً ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم.
ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم فى شيء فإنهم قد أعدوا لكل أَمر مخرجاً منه، بحق أو بباطل بصدق أو بكذب، ولهذا سمى منافقاً أخذاً من نافقاءِ اليربوع- وهو بيت يحفره ويجعل له أسراباً مختلفة- فكلما طلب من سرب خرج من سرب آخر، فلا يتمكن طالبه من حصره فى سرب واحد، قال الشاعر:
ويستخرج اليربوع من نافقائه ومن جحره بالشيحة اليتقصع
فأنت منه [كقبض] على الماءِ، ليس معك منه شيء. ومن صفاتهم كثرة التلون، وسرعة التقلب، وعدم الثبات على حال واحد: بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً وتنقلاً، جيفة بالليل قطرب بالنهار.
ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، قال تعالى:
{(1/42)
أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَد أمرُوا أَن يَكْفُروا بهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافقِين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْف إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهِمْ ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُم فِى أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}* [النساء: 60-63].
ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاءَ. فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى فى آراءِ الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى.
ومن صفاتهم: كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم: فيرمونهم- إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله- بأنهم أهل فتن مفسدون فى الأرض.
وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون فى الأرض، وإذا دعا ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير [مثوبة] رموهم بالبدع والضلال، وإذا رأوهم زاهدين فى الدنيا راغبين فى الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله رموهم بالزوكرة، والتلبيس والمحال. وإذا رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول فى قالبة شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل [ألبسوه] لباس الحق وأخرجوه فى قالبه ليقبل منهم.(1/43)
وجملة أمرهم أنهم فى المسلمين كالزغل فى النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم، وليس على الأديان أضرَّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم، ولهذا جلا الله أمرهم فى القرآن، وأوضح أوصافهم وبين أحوالهم وكرر ذكرهم، لشدة المؤنة على الأُمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى: وعدوهم ومنوهم، ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور.
فكم من قتيل، ولكن فى سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسير لا يرجى له الخلاص وفارّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار من [علقت] به كلاليب كلبهم ومخاليب رأْيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان وقطعت له مقطعات من البلاءِ والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالاً، ويمشى على عقبيه القهقرى إدباراً منه وهو يحسب ذلك إقبالاً.
فهم والله قطاع الطريق، فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء، حذار منهم حذار، هم الجزارون ألسنتهم شفار البلايا. ففراراً منهم أيها الغنم فراراً.
ومن البلية أنهم الأعداءُ حقاً وليس لنا بد من مصاحبتهم، وخلطتهم أعظم الداءِ وليس بد من مخالطتهم قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعداً للمستجيبين، ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترين. نصبوا الشباك ومدوا الأشراك وأذن مؤذنهم: يا شياه الأنعام حى على الهلاك، حى على التباب. فاستبقوا يهرعون إليهم، فأوردوهم حياض العذاب، لا الموارد العذاب.(1/44)
وساموهم من الخسف والبلاءِ أعظم خطة، وقالوا: ادخلوا باب الهوان صاغرين ولا تقولوا حطة، فليس بيوم حطة. [فواعجباً] لمن نجا من شراكهم لا من علق، وأنى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خلق، فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلو بالمحل الذى أحلهم الله من دار الهوان وأن ينزلوا فى أردئ منازل أهل العناد والكفران.
وبحسب إيمان العبد ومعرفته بكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأُمة وسابقوها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة، ناشدتك الله، هل سمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أُزكى بعدك أحداً.
يعنى لا أفتح على هذا الباب فى تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يبرأْ من النفاق غيرك.
وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل
**************
وفي المحلى :(1/45)
الْوَعْدُ 1126 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ وَعَدَ آخَرَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالًا مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ , أَوْ بِأَنْ يُعَيِّنَهُ فِي عَمَلٍ مَا - حَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ - لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ , وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ , وَكَانَ الْأَفْضَلُ لَوْ وَفَّى بِهِ . وَسَوَاءٌ أَدْخَلَهُ بِذَلِكَ فِي نَفَقَةٍ أَوْ لَمْ يُدْخِلْهُ كَمَنْ قَالَ : تَزَوَّجْ فُلَانَةَ وَأَنَا أُعِينُك فِي صَدَاقِهَا بِكَذَا وَكَذَا , أَوْ نَحْوِ هَذَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُدْخِلَهُ بِوَعْدِهِ ذَلِكَ فِي كُلْفَةٍ , فَيَلْزَمُهُ وَيَقْضِي عَلَيْهِ . وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ الْوَعْدُ كُلُّهُ لَازِمٌ , وَيَقْضِي بِهِ عَلَى الْوَاعِدِ وَيُجْبَرُ . فَأَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ : فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا بُرْهَانَ يُعَضِّدُهُ , لَا مِنْ قُرْآنٍ , وَلَا سُنَّةٍ , وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلَا قِيَاسٍ . فَإِنْ قَالُوا قَدْ أَضَرَّ بِهِ إذْ كَلَّفَهُ مِنْ أَجْلِ وَعْدِهِ عَمَلًا وَنَفَقَةً ؟ قُلْنَا : فَهَبْكُمْ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَيْنَ وَجَبَ عَلَى مِنْ أَضَرَّ بِآخَرَ , وَظَلَمَهُ وَغَرَّهُ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ مَالًا ؟ مَا عَلِمْنَا هَذَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا حَيْثُ جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَقَطْ { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } . وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } .(1/46)
وَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَالْآخَرُ : الثَّابِتُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { : مِنْ عَلَامَةِ النِّفَاقِ ثَلَاثَةٌ - وَإِنْ صَلَّى , وَصَامَ , وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ : - إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } . فَهَذَانِ أَثَرَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ , وَآثَارٌ أُخُرُ لَا تَصِحُّ - : أَحَدُهَا : مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ مَوَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة الْعَدَوِيِّ حَدَّثَهُ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَتْ لِي أُمِّي هَاهْ تَعَالَ أُعْطِكَ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟ فَقَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْرًا , فَقَالَ عليه السلام : أَمَا أَنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا , كُتِبَتْ عَلَيْك كِذْبَةٌ } هَذَا لَا شَيْءَ ; لِأَنَّهُ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ . وَآخَرُ : مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : وَأَيُّ الْمُؤْمِنِ حَقٌّ وَاجِبٌ } . هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ضَعِيفٌ وَهُوَ مُرْسَلٌ .(1/47)
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { وَلَا تَعِدْ أَخَاكَ وَعْدًا فَتُخْلِفْهُ , فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً } . وَهَذَا مُرْسَلٌ , وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ : تَعَالَ هَاهْ لَكَ , ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَهِيَ كِذْبَةٌ } . ابْنُ شِهَابٍ كَانَ إذْ مَاتَ أَبُو هُرَيْرَةَ ابْنَ أَقَلَّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ كَلِمَةٌ . وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : يَرَوْنَ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ , وَيَحْتَجُّونَ بِمَا ذَكَرْنَا - فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْضُوا بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ عَلَى الْوَاعِدِ وَلَا بُدَّ , وَإِلَّا فَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ , فَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْآثَارُ لَقُلْنَا بِهَا . وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ صَدَّرْنَا بِهِمَا فَصَحِيحَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا عَلَيْنَا ; لِأَنَّهُمَا لَيْسَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا ; لِأَنَّ مَنْ وَعَدَ بِمَا لَا يَحِلُّ , أَوْ عَاهَدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ , فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , كَمَنْ وَعَدَ بِزِنًى , أَوْ بِخَمْرٍ , أَوْ بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ .(1/48)
فَصَحَّ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَعَدَ فَأَخْلَفَ , أَوْ عَاهَدَ فَغَدَرَ : مَذْمُومًا , وَلَا مَلُومًا , وَلَا عَاصِيًا , بَلْ قَدْ يَكُونُ مُطِيعًا مُؤَدِّيَ فَرْضٍ ; فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فَرْضًا مِنْ إنْجَازِ الْوَعْدِ وَالْعَهْدِ , إلَّا عَلَى مَنْ وَعَدَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ , كَإِنْصَافٍ مِنْ دَيْنٍ , أَوْ أَدَاءِ حَقٍّ فَقَطْ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَنْ وَعَدَ وَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحِنْثُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ , فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ الْحِنْثُ لَمْ يَلْزَمْهُ فِعْلُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَعْدٍ أَقْسَمَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ وَعْدٍ لَمْ يُقْسِمْ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فَصَحَّ تَحْرِيمُ الْوَعْدِ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ , فَوَجَبَ أَنَّ مَنْ وَعَدَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِي وَعْدِهِ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ , فَإِنْ اسْتَثْنَى فَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , أَوْ نَحْوُهُ مِمَّا يُعَلِّقُهُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَلَا يَكُونُ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا وَعَدَهُ أَنْ يَفْعَلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَهُ لَأَنْفَذَهُ فَإِنْ لَمْ يُنْفِذْهُ , فَلَمْ يَشَأْ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنَهُ .(1/49)
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } عَلَى هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَلْزَمُهُمْ , كَاَلَّذِي وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذْ يَقُولُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } . فَصَحَّ مَا قُلْنَا ; لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَاجِبَةٌ , وَالْكَوْنَ مِنْ الصَّالِحِينَ وَاجِبٌ , فَالْوَعْدُ وَالْعَهْدُ بِذَلِكَ فَرْضَانِ : فُرِضَ إنْجَازُهُمَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا نَذْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ , وَالنَّذْرُ فَرْضٌ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ .(1/50)
2203 - مَسْأَلَةٌ : مَنْ الْمُنَافِقِينَ , وَالْمُرْتَدِّينَ ؟ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَرَفَ الْمُنَافِقِينَ , وَعَرَفَ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ - وَوَاجَهَهُ رَجُلٌ بِالتَّجْوِيرِ , وَأَنَّهُ يُقَسِّمُ قِسْمَةً لَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ - وَهَذِهِ رِدَّةٌ صَحِيحَةٌ فَلَمْ يَقْتُلْهُ . قَالُوا : فَصَحَّ أَنْ لَا قَتْلَ عَلَى مُرْتَدٍّ , وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَتْلٌ لَأَنْفَذَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } إلَى قوله تعالى { فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ , وَنَحْنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ذَاكِرُونَ كُلَّ آيَةٍ تَعَلَّقَ بِهَا مُتَعَلَّقٌ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَّفَ الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ , وَمُبِينُونَ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَأْيِيدِهِ - أَنَّهُمْ قِسْمَانِ : قِسْمٌ - لَمْ يُعَرِّفْهُمْ قَطُّ عليه السلام . وَقِسْمٌ آخَرُ - افْتَضَحُوا , فَعَرَّفَهُمْ فَلَاذُوا بِالتَّوْبَةِ , وَلَمْ يُعَرِّفْهُمْ عليه السلام أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ أَوْ صَادِقُونَ فِي تَوْبَتِهِمْ فَقَطْ . فَإِذَا بَيَّنَّا هَذَا - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - بَطَلَ قَوْلُ مَنْ احْتَجَّ بِأَمْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَى مُرْتَدٍّ , وَبَقِيَ قَوْلُ : مَنْ رَأَى الْقَتْلَ بِالتَّوْبَةِ . وَأَمَّا إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ , وَالْبُرْهَانُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ , فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/51)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قوله تعالى { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } . فَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ , وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَهُمْ , وَلَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُمْ , فَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } إلَى قوله تعالى : { إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ دُونِكُمْ } فَإِذْ هُمْ مِنْ غَيْرِنَا فَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْيَهُودِ مَكْشُوفِينَ . وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ قوله تعالى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ { قَالُوا : آمَنَّا } أَيْ بِمَا عِنْدَهُمْ . وَقَدْ يُمْكِنُ أَيْضًا : أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ . وَمُمْكِنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ لَا نَتَّخِذَهُمْ بِطَانَةً إذَا أَطْلَعَنَا مِنْهُمْ عَلَى هَذَا , وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَقْوَى لِظَاهِرِ الْآيَةِ . وَإِذْ كِلْتَاهُمَا مُمْكِنٌ فَلَا مُتَعَلَّقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَنْ ذَهَبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ بِأَعْيَانِهِمْ , وَيَدْرِي أَنَّ بَاطِنَهُمْ النِّفَاقُ .(1/52)
وَقَالَ تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } إلَى قوله تعالى : { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا } فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَيْضًا - نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَا جَمِيعًا : نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ نا الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , إذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .(1/53)
فَقَدْ صَحَّ أَنَّ هَاهُنَا نِفَاقًا لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا , وَنِفَاقًا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا , فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّحَاكُمَ إلَى الطَّاغُوتِ لَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُظْهِرِينَ لِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُصَاةً بِطَلَبِ الرُّجُوعِ فِي الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ مُعْتَقِدِينَ لِصِحَّةِ ذَلِكَ , لَكِنْ رَغْبَةً فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى , فَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ كُفَّارًا بَلْ عُصَاةً , فَنَحْنُ نَجِدُ هَذَا عِيَانًا عِنْدَنَا , فَقَدْ نَدْعُو نَحْنُ عِنْدَ الْحَاكِمِ إلَى الْقُرْآنِ وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتِ عَنْهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ فَيَأْبَوْنَ ذَلِكَ وَيَرْضَوْنَ بِرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , هَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ , فَلَا يَكُونُونَ بِذَلِكَ كُفَّارًا , فَقَدْ يَكُونُ أُولَئِكَ هَكَذَا حَتَّى إذَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ , وَجَبَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا , وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَبَى وَعَنَدَ فَهُوَ كَافِرٌ ؟ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ : أَنَّ أُولَئِكَ عَنَدُوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ , فَإِذْ لَا بَيَانَ فِيهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَهُمْ أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ وَأَقَرَّهُمْ .(1/54)
وَقَالَ تَعَالَى { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ } إلَى قوله تعالى : { وَكِيلًا } فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ , بَلْ لَعَلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا مُعْلِنِينَ , وَكَانُوا يَلْتَزِمُونَ الطَّاعَةَ بِالْمُسَالَمَةِ , فَإِذْ لَا نَصَّ فِيهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ - عليه السلام - كَانَ يَعْرِفُهُمْ وَيَدْرِي أَنَّ عَقْدَهُمْ النِّفَاقَ . وَقَالَ تَعَالَى { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } .(1/55)
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو الْوَلِيدِ - هُوَ الطَّيَالِسِيُّ - نا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : { لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ , وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَةٌ تَقُولُ : نُقَاتِلُهُمْ , وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لَا نُقَاتِلُهُمْ , فَنَزَلَتْ { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } } فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ , وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى أُولَئِكَ : مُنَافِقِينَ . وَأَمَّا قوله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } إلَى قوله تعالى : { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ تَعَالَى عَنَى بِذَلِكَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ , وَهُوَ كَانَ الْأَظْهَرَ لَوْلَا قوله تعالى { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَهَذَا يُوَضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ فِي قَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ , لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مِنْ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ بِلَا شَكٍّ , وَلَيْسَ عَلَى سُكَّانِ الْمَدِينَةِ هِجْرَةٌ , بَلْ الْهِجْرَةُ كَانَتْ إلَى دَارِهِمْ .(1/56)
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَحُكْمُ الْآيَةِ كُلِّهَا أَنَّهَا فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدُ , وَادَّعُوا أَنَّهُمْ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا , وَكَانَ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ : أَنَّ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِإِيمَانِهِ , وَكَانَ كَافِرًا كَسَائِرِ الْكُفَّارِ وَلَا فَرْقَ , حَتَّى يُهَاجِرَ , إلَّا مَنْ أُبِيحَ لَهُ سُكْنَى بَلَدِهِ , كَمَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ , وَالْبَحْرَيْنِ , وَسَائِرِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ سُكْنَى أَرْضِهِ , إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } فَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْوِلَايَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ , فَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } إلَى قَوْلِهِ { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ } الْآيَةَ .(1/57)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَعْنَى { حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَيْ حَتَّى يُجَاهِدُوا مَعَكُمْ , بِخِلَافِ فِعْلِهِمْ حِينَ انْصَرَفُوا عَنْ أُحُدٍ وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْآيَةَ كُلَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْ أُحُدٍ ؟ قِيلَ لَهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - : هَذَا مُمْكِنٌ , وَلَكِنْ قَدْ قَالَ تَعَالَى { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَأَخْبِرُونَا هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ عليه السلام فَقَتَلَ الرَّاجِعِينَ عَنْ أُحُدٍ حَيْثُ وَجَدَهُمْ ؟ وَهَلْ أَخَذَهُمْ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ , كَذَبُوا كَذِبًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , وَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ شَكٌّ فِي أَنَّهُ - عليه السلام - لَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا نَبَذَ الْعَهْدَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ - عليه السلام - وَلَا الْمُؤْمِنُونَ ؟ قِيلَ لَهُمْ : صَدَقْتُمْ , وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ - عليه السلام - خَالَفَ أَمْرَ رَبِّهِ , فَأَمَرَهُ تَعَالَى إنْ تَوَلَّوْا بِقَتْلِهِمْ , حَيْثُ وَجَدَهُمْ , فَلَمْ يَفْعَلْ , وَهَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ ظَنَّهُ بِلَا شَكٍّ . فَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَتَوَلَّوْا بَلْ تَابُوا وَرَجَعُوا وَجَاهَدُوا ؟ قِيلَ لَهُمْ : فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النِّفَاقِ عَنْهُمْ - بِلَا شَكٍّ - وَحَصَلَ لَهُمْ حُكْمُ الْإِعْلَامِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ - بِلَا شَكٍّ - فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ جُمْلَةً فِي أَنَّهُ - عليه السلام - كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ .(1/58)
وَلَكِنْ فِي قوله تعالى { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } إلَى قوله تعالى : { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } بَيَانٌ جَلِيٌّ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ مِنْ الْأَوْسِ وَلَا مِنْ الْخَزْرَجِ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْمٌ مُحَارِبُونَ لِلنَّبِيِّ - عليه السلام - وَلَا نُسِبُوا قَطُّ إلَى قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ النَّبِيَّ - عليه السلام - بِمِيثَاقٍ مَعْقُودٍ , هَذَا مَعَ قوله تعالى { فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } إلَى قوله تعالى { سَبِيلًا } فَإِنَّ هَذَا بَيَانٌ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْصَارِ , وَمِنْ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ , لَكِنْ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ بِالْكُفْرِ . إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّ قوله تعالى { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي قَوْلِ { آخَرِينَ } وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النِّفَاقِ عَلَى أُولَئِكَ إنْ كَانَ هَكَذَا .(1/59)
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ أَنَّ فِي قوله تعالى { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } أَنَّهُ فِي قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ غَيْرِ أُولَئِكَ , فَحَسْبُنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى أُولَئِكَ الرَّاجِعِينَ " مُنَافِقِينَ " فَصَارُوا مَعْرُوفِينَ ؟ قِيلَ لَهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : وَقَدْ قُلْنَا إنَّ النِّفَاقَ قِسْمَانِ : قِسْمٌ لِمَنْ يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَيُبْطِنُ الْإِيمَانَ , وَقِسْمٌ لِمَنْ يُظْهِرُ غَيْرَ مَا يُضْمِرُ فِيمَا سِوَى الدِّينِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا , وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : إنَّا نَدْخُلُ عَلَى الْإِمَامِ فَيَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَنَرَاهُ جَوْرًا فَنَمْسِكُ ؟ فَقَالَ : إنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا , فَلَا نَدْرِي مَا تَعُدُّونَهُ أَنْتُمْ ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَقَالَ إنِّي مُسْلِمٌ } . فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَقْطَعَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِسْلَامِ إلَّا بِنَصٍّ , وَلَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَيْهِمْ بِمَا قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ اسْمِ النِّفَاقِ , وَالضَّلَالَةِ , وَالْإِرْكَاسِ , وَخِلَافِ الْهُدَى - وَلَا نَزِيدُ وَلَا نَتَعَدَّى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِآرَائِنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } إلَى قَوْلِهِ : { أَجْرًا عَظِيمًا } .(1/60)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَمُنَافِقُونَ النِّفَاقَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ , فَلَا شَكَّ لِنَصِّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ , لَا إلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا إلَى الْمُجَاهِرِينَ بِالْكُفْرِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ , وَأَنَّهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ الْكُفَّارِ , بِكَوْنِهِمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَلَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ , بِأَعْيَانِهِمْ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ , إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ , فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ . ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ قوله تعالى { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ } إلَى قوله تعالى { أَجْرًا عَظِيمًا } مُوجِبًا لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ إذَا تَابُوا - وَهُمْ قَدْ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ , وَالنَّدَمَ , وَالْإِقْرَارَ بِالْإِيمَانِ بِلَا شَكٍّ , فَبَطَلَ عَنْهُمْ بِهَذَا حُكْمُ النِّفَاقِ جُمْلَةً فِي الدُّنْيَا , وَبَقِيَ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَى كُلِّ آيَةٍ فِيهَا نَصٌّ بِأَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَ مُنَافِقًا بِعَيْنِهِ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ } إلَى قوله تعالى { فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } .(1/61)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ يُسَارِعُونَ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا حَذَرًا أَنْ تُصِيبَهُمْ دَائِرَةٌ , وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْكَافِرِينَ { أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } يَعْنُونَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا خَبَرًا عَنْ قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْمَيْلَ إلَى الْكُفَّارِ فَكَانُوا مِنْهُمْ كُفَّارًا خَائِبِي الْأَعْمَالِ وَلَا يَكُونُونَ فِي الْأَغْلَبِ إلَّا مَعْرُوفِينَ , لَكِنَّ قوله تعالى { فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } دَلِيلٌ عَلَى نَدَامَتِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ , وَأَنَّ التَّوْبَةَ لَهُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/62)
وَقَالَ تَعَالَى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } إلَى قوله تعالى { لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ بِلَا شَكٍّ , وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُونَهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَاطَبٌ بِهَذَا الْخِطَابِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا شَكٍّ فَهُوَ لَا يَعْلَمُهُمْ , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُمْ , وَقَالَ تَعَالَى { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوك } إلَى قوله تعالى { كَارِهُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : لَيْسَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إلَّا أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ كَاذِبِينَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَأَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ , وَهَذِهِ صِفَةُ كُلِّ عَاصٍ فِي مَعْصِيَتِهِ . وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا : مُعَاتَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عليه السلام - عَلَى إذْنِهِ لَهُمْ . وَأَمَّا قوله تعالى { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قوله تعالى { يَتَرَدَّدُونَ } فَإِنَّ وَجْهَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ لَا تُصْرَفَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ , وَلَا إجْمَاعٍ : أَنَّهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ ; لِأَنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الِاسْتِقْبَالِ .(1/63)
وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ تَبُوكَ , وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَبُوكَ غَزْوَةٌ أَصْلًا , وَلَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هُنَاكَ غَزْوَةٌ بَعْدَ تَبُوكَ وَبَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَاسْتَأْذَنَ قَوْمٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْقُعُودِ دُونَ عُذْرٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَكَانُوا بِلَا شَكٍّ مُرْتَابَةً قُلُوبُهُمْ كُفَّارًا بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُتَرَدِّدِينَ فِي الرَّيْبِ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ . ثُمَّ قوله تعالى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } إلَى قوله تعالى { كَارِهُونَ } فَهَذِهِ أَخْبَارٌ عَمَّا خَلَا لَهُمْ وَعَنْ سَيِّئَاتٍ اقْتَرَفُوهَا , وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُوجِبُ لَهُمْ الْكُفْرَ , حَتَّى لَوْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وقوله تعالى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي } إلَى قوله تعالى { وَهُمْ فَرِحُونَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : قَدْ قِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ - وَهَذَا لَا يَنْسَنِدُ أَلْبَتَّةَ , وَإِنَّمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ مِنْ أَخْبَارِ الْمَغَازِي , وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُقَالُ : هَذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَا شَكٍّ . وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ كَفَرَ بِذَلِكَ , وَلَكِنَّهُ عَصَى و ( . . . ) وَأَذْنَبَ , وَبَلَى { إنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ .(1/64)
وَأَمَّا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ إنْ أَصَابَتْ رَسُولَهُ - عليه السلام - سَيِّئَةٌ وَمُصِيبَةٌ تَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ , أَوْ أَنَّهُ إنْ أَصَابَتْهُ حَسَنَةٌ سَاءَتْهُمْ , فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِلَا شَكٍّ , وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ : ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي , كَانَ مِنْهُمْ , وَلَا فِيهَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام عَرَفَهُمْ وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { يَفْرَقُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَكُفَّارٌ بِلَا شَكٍّ , مُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ , وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , وَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا , وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ لِيُمَيِّزُوهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ .(1/65)
وَلَيْسَ فِي قوله تعالى { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , وَأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ , بَلْ قَدْ كَانَ لِلْفُضَلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ - رضي الله عنهم - الْأَمْوَالُ الْوَاسِعَةُ , وَالْأَوْلَادُ النُّجَبَاءُ الْكَثِيرُ : كَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ , وَأَبِي طَلْحَةَ , وَغَيْرِهِمَا - فَهَذِهِ صِفَةٌ عَامَّةٌ يَدْخُلُ فِيهَا الْفَاضِلُ الصَّادِقُ , وَالْمُنَافِقُ , فَأَمَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ أَنْ لَا تُعْجِبَهُ أَمْوَالَهُمْ , وَلَا أَوْلَادَهُمْ , عُمُومًا , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ وَيَمُوتُوا كُفَّارًا وَلَا بُدَّ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ } إلَى قوله تعالى { رَاغِبُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذَا لَا يَدُلُّ أَلْبَتَّةَ لَا بِنَصٍّ , وَلَا بِدَلِيلٍ عَلَى كُفْرِ مَنْ فَعَلَ هَذَا , وَلَكِنَّهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا شَكٍّ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ } إلَى قوله تعالى { ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } . قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ مَنْ قَالَ حِينَئِذٍ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُذُنٌ , وَإِنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا مَنْ قَالَ ذَلِكَ , وَآذَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ , وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ , وَأَنَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا .(1/66)
فَقَدْ جَاءَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا نَفْسِي , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَمَّا الْآنَ فَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَا يَصِحُّ أَنَّ أَحَدًا عَادَ إلَى أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُحَادَّتِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالنَّازِلِ فِي ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا كَانَ كَافِرًا . وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ امْرَأً لَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْخَمْرَ - حَلَالٌ , وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ صَلَاةٌ , وَهُوَ لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ يُعْتَدُّ بِهِ , حَتَّى إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَتَمَادَى حِينَئِذٍ بِإِجْمَاعِ الْأَمَةِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَيُبَيَّنُ هَذَا قوله تعالى فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } فَقَدْ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَإِرْضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَقُّ عَلَيْهِمْ مِنْ إرْضَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَصَحَّ هَذَا بِيَقِينٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ .(1/67)
وَقَالَ تَعَالَى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا لَا نَصَّ فِيهَا عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا لِأَحَدٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } إلَى قوله تعالى { كَانُوا مُجْرِمِينَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ بِلَا شَكٍّ فِي قَوْمٍ مَعْرُوفِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَلَكِنَّ التَّوْبَةَ مَبْسُوطَةٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } فَصَحَّ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ وَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ , فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ اللَّهُ تَعَالَى تَوْبَتَهُ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَهُ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِصِحَّتِهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ فِي الْبَاطِنِ فَهُمْ الْمُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ , وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَقَدْ تَابَ جَمِيعُهُمْ بِنَصِّ الْآيَةِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } إلَى قوله تعالى { عَذَابٌ مُقِيمٌ } . قَالَ : فَهَذِهِ صِفَةٌ عَامَّةٌ لَمْ يَقْصِدُ بِهَا إلَى التَّعْرِيفِ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ , وَهَذِهِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } إلَى قوله تعالى { وَلَا نَصِيرٍ } .(1/68)
قَالَ : فَهَذِهِ آيَةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ , وَالْجِهَادُ قَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ , وَالْمَوْعِظَةِ , وَالْحُجَّةِ : كَمَا نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ نا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ نا أَبُو دَاوُد نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ نا حَمَّادُ - هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ - عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ , وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا } صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَذَلَ لَهُمْ التَّوْبَةَ وَقَبِلَهَا مِمَّنْ أَحَاطَهَا مِنْهُمْ وَكُلُّهُمْ بِلَا شَكٍّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ . وَبُرْهَانُ ذَلِكَ : حَلِفُهُمْ وَإِنْكَارُهُمْ فَلَا مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } إلَى قوله تعالى { يَكْذِبُونَ } .(1/69)
قَالَ : وَهَذِهِ أَيْضًا صِفَةٌ أَوْرَدَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَعْرِفُهَا كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ , وَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا دَلِيلٌ , عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا مَعْرُوفٌ بِعَيْنِهِ , عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِّينَا أَثَرًا لَا يَصِحُّ , وَفِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ - وَهَذَا بَاطِلٌ , لِأَنَّ ثَعْلَبَةَ بَدْرِيٌّ مَعْرُوفٌ , وَهَذَا أَثَرٌ : نا حُمَامٌ نا يَحْيَى بْنُ مَالِكِ بْنِ عَائِذٍ نا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي غَسَّانَ نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْبَاجِيَّ ني سَهْلٌ السُّكَّرِيُّ نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَرَّازُ نا مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ نا مَعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ السَّلَامِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : { جَاءَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ بِصَدَقَتِهِ إلَى عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا وَقَالَ : لَمْ يَقْبَلْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبُو بَكْرٍ , وَلَا أَقْبَلُهَا ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَبْضِ زَكَوَاتِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَرَ عليه السلام عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ لَا يَبْقَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ , فَلَا يَخْلُو ثَعْلَبَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَفَرَضَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ قَبْضَ زَكَاتِهِ وَلَا بُدَّ , وَلَا فُسْحَةَ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَفَرَضَ أَنْ لَا يُقِرَّ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ - فَسَقَطَ هَذَا الْأَثَرُ بِلَا شَكٍّ , وَفِي رُوَاتِهِ : مَعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ - وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَلْهَانِيُّ - وَكُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ , وَمِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ لَيْسَ(1/70)
بِالْقَوِيِّ . وَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } إلَى قوله تعالى { فَاسِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } إلَى قوله تعالى { وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَدَّمْنَا هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ ; لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةُ الْمَعَانِي بِاَلَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا , لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ - ثُمَّ نَذْكُرُ الْقَوْلَ فِيهِمَا جَمِيعًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا : أَنَّهُمْ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ - وَهَذَا لَيْسَ كُفْرًا بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا قوله تعالى { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } إلَى قوله تعالى { الْفَاسِقِينَ } . وقوله تعالى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } إلَى قوله تعالى { فَاسِقُونَ } . فَإِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ إلَى أَنْ مَاتُوا , وَلَكِنْ يَدُلُّ يَقِينًا عَلَى أَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ سُخْرِيَّتِهِمْ بِاَلَّذِينَ آمَنُوا غَيْرُ مَغْفُورٍ لَهُمْ , لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فِيمَا خَلَا , فَكَانَ مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ مُوجِبًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ لَمْزُهُمْ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَسُخْرِيَّتُهُمْ بِاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جَهْدَهُمْ - وَإِنْ تَابُوا مِنْ كُفْرِهِمْ - وَأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الْفِسْقِ لَا عَلَى الْكُفْرِ , بَلْ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بِلَا شَكٍّ .(1/71)
بُرْهَانُ ذَلِكَ : مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نا أَبُو أُسَامَةَ نا عُبَيْدُ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ عُمَرَ - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صل ى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصًا يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ , فَقَامَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } إلَى قوله تعالى { سَبْعِينَ مَرَّةً } وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ قَالَ : إنَّهُ مُنَافِقٌ ؟ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } } قَالَ مُسْلِمٌ : نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا يَحْيَى - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ , وَزَادَ { فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ }(1/72)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : ونا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ : نا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ نا ابْنُ الْوَرْدِ نا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الرَّقِّيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَامَ إلَيْهِ فَلَمَّا وَقَفَ إلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ؟ الْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا , وَالْقَائِلِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا , أُعَدِّدُ أَيَّامَهُ حَتَّى إذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ يَا عُمَرُ أَخِّرْ عَنِّي إنِّي قَدْ خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ قَدْ قِيلَ لِي { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إنْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ قَالَ : ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَشَى مَعَهُ حَتَّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ , قَالَ : فَعَجِبْتُ لِي وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , فَوَاَللَّهِ مَا كَانَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } إلَى قوله تعالى { وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُنَافِقٍ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى } .(1/73)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ نا حُجَيْرُ بْنُ الْمُثَنَّى نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ { لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَتَ , ثُمَّ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ ؟ وَقَالَ يَوْمَ كَذَا : كَذَا وَكَذَا , أُعَدِّدُ عَلَيْهِ , فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ , فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ : إنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ فَلَوْ عَلِمْتُ أَنِّي إنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا , فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْصَرَفَ , فَمَا مَكَثَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٍ الْمَذْكُورَتَانِ , قَالَ عُمَرُ : فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/74)
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ الْعُذْرِيُّ نا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ نا إبْرَاهِيمُ بْنُ خُرَيْمٍ نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ نا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ { لَمَّا حَضَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ الْمَوْتُ , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَجَرَى بَيْنَهُمَا كَلَامٌ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ : قَدْ أَفْقَهُ مَا تَقُولُ وَلَكِنْ مُنَّ عَلَيَّ الْيَوْمَ وَكَفِّنِّي بِقَمِيصِكَ هَذَا , وَصَلِّ عَلَيَّ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَكَفَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَمِيصِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ } - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخْدَعْ إنْسَانًا قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ : كَلِمَةً حَسَنَةً , قَالَ الْحَكَمُ : فَسَأَلْت عِكْرِمَةَ مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ ؟ قَالَ : قَالَتْ قُرَيْشٌ : يَا أَبَا حَبَّابٍ إنَّا قَدْ مَنَعْنَا مُحَمَّدًا طَوَافَ هَذَا الْبَيْتِ , وَلَكِنَّا نَأْذَنُ لَك ؟ فَقَالَ : لَا , لِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " .(1/75)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَسَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ : { أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قَبْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ - وَقَدْ وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ - فَوَقَفَ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ حُفْرَتِهِ , فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ , وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ , وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ } , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا قُلْنَاهُ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا - ظَاهِرُ الْآيَةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا قَبْلُ , وَمَاتُوا عَلَى الْفِسْقِ . وَالثَّانِي - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ جُمْلَةً لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلَى قوله تعالى { أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } فَلَوْ كَانَ ابْنُ أُبَيٍّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَذْكُورِينَ مِمَّنْ تَبَيَّنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ كُفَّارٌ - بِلَا شَكٍّ - لَمَا اسْتَغْفَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَا صَلَّى عَلَيْهِ .(1/76)
وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَظُنَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ خَالَفَ رَبَّهُ فِي ذَلِكَ , فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ - عليه السلام - لَمْ يَعْلَمْ قَطُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَالْمَذْكُورِينَ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ ؟ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ نا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بْنِ حَوْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ , وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا عَمِّ قُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ , حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ , آخِرُ مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ : عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَا وَاَللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَصَحَّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ نَزَلَ بِمَكَّةَ - بِلَا شَكٍّ - فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ - عليه السلام - لَمْ يُوقِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ مُشْرِكٌ وَلَوْ أَيْقَنَ أَنَّهُ مُشْرِكٌ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ أَصْلًا , وَلَا اسْتَغْفَرَ لَهُ , وَكَذَلِكَ تَعْدِيدُ(1/77)
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَقَالَاتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ : لَا , وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ كَافِرًا لَصَرَّحَ بِذَلِكَ , وَقَصَدَ إلَيْهِ , وَلَمْ يُطَوِّلْ بِغَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ - شَكَّ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَجَابِرٌ , وَتَعَجَّبَ عُمَرُ مِنْ مُعَارَضَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي صَلَاتِهِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ , وَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَفُ مِنْهُ . وَالرَّابِعُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فَقَطْ , وَلَمْ يَنْهَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ , وَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ , فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يُتْرَكُ لَهُ وَفَاءٌ وَيَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ . فَصَحَّ يَقِينًا بِهَذَا أَنَّ مَعْنَى الْآيَاتِ إنَّمَا هُوَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ , وَعَلِمَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ عليه السلام وَالْمُسْلِمُونَ . ثُمَّ تَابُوا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ , فَمِنْهُمْ مِنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ فِي التَّوْبَةِ , وَمِنْهُمْ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ , وَلَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ عليه السلام وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ } إلَى قوله تعالى { وَهُمْ كَافِرُونَ } .(1/78)
قَالَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ } الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ , وَلَكِنَّهُمْ أَتَوْا كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ كَانُوا بِهَا عُصَاةً فَاسِقِينَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ بِأَعْيَانِهِمْ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ . وَبَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُنَالِكَ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُمْ بِهِ هَاهُنَا , فَقَالَ تَعَالَى { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ } إلَى قوله تعالى { عَذَابًا أَلِيمًا } فَنَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُخَلَّفِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا , وَأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ , وَاَلَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا تُعْجِبَهُ أَمْوَالَهُمْ وَلَا أَوْلَادَهُمْ , وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ : أَنَّهُمْ مَقْبُولَةٌ تَوْبَتُهُمْ إنْ تَابُوا فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ , وَفِي الْحُكْمِ بِأَنَّ بَاطِنَهُمْ : أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَحِيحَ التَّوْبَةِ مُطِيعًا إذَا دُعِيَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْجِهَادِ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا , وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَذَابًا أَلِيمًا .(1/79)
فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كَفَرُوا ثُمَّ تَابُوا فَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ , وَلَمْ يَعْرِفْ - عليه السلام - بَعْدَ التَّوْبَةِ مَنْ مِنْهُمْ الصَّادِقُ فِي سِرِّ أَمْرِهِ , وَلَا مَنْ مِنْهُمْ الْكُفْرُ فِي بَاطِنِ مُعْتَقَدِهِ , وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ بِشَهَادَةِ النُّصُوصِ , كَمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاَللَّهِ } إلَى قوله تعالى { فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَهَذِهِ نَصُّ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَيْضًا وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهَا , وَقَالَ تَعَالَى { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ } إلَى قوله تعالى { عَذَابٌ أَلِيمٌ } . قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ مَا قُلْنَاهُ نَصًّا , لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كُفَّارٌ , إلَّا أَنَّ كُلَّهُمْ عُصَاةٌ , فَأَمَّا الْمُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ مِنْهُمْ فَلَمْ يَعْلَمْهُمْ النَّبِيُّ - عليه السلام - وَلَا عَلِمَهُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ } إلَى قَوْلِهِ { عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا , وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ فِيهِمْ مَنْ كَفَرَ , فَأُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ , وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْجَأَ أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } . فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَاتَّفَقَتْ الْآيَاتُ كُلُّهَا - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .(1/80)
وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ { مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَجَهَنَّمُ تَكُونُ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ وَتَكُونُ جَزَاءً عَلَى الْمَعْصِيَةِ , وَكَذَلِكَ لَا يَرْضَى تَعَالَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ , وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ . وَقَالَ تَعَالَى { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } إلَى قوله تعالى { إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا تُبَيِّنُ نَصَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ فِيهِمْ كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : لَا يَعْلَمُ سِرَّهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى , وَأَمَّا رَسُولُهُ - عليه السلام - فَلَا . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } إلَى قوله تعالى { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ نَصَّ مَا قُلْنَاهُ بَيَانًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - عليه السلام - لَا يَعْلَمُ الْمُنَافِقِينَ - لَا مِنْ الْأَعْرَابِ , وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُهُمْ , وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ فَيَعْفُو اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ , وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مَأْمُورٌ بِأَخْذِ زَكَوَاتِ جَمِيعِهِمْ عَلَى ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ .(1/81)
وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا } إلَى قوله تعالى { إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا , وَفِيهَا , أَنَّ بُنْيَانَهُمْ لِلْمَسْجِدِ قَصَدُوا بِهِ الْكُفْرَ , ثُمَّ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ , فَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى صِدْقَ مَنْ صَدَقَ فِيهَا , وَكَذِبَ مَنْ كَذَبَ فِيهَا . وَنَعَمْ { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } وَقَدْ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَمُمْكِنٌ أَنْ لَا يَغْفِرَهُ لَهُ أَبَدًا حَتَّى يُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ , وَهَذَا مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ } إلَى قوله تعالى { لَا يَفْقَهُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَهَذِهِ لَا دَلِيلَ فِيهَا أَصْلًا عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مَعْرُوفُونَ بِأَعْيَانِهِمْ لَكِنَّهَا صِفَةٌ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَعْرِفُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ إذَا سَمِعُوهَا فَقَطْ . وَقَالَ تَعَالَى { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ } إلَى قوله تعالى { هُمْ الْفَائِزُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ أَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِأَعْيَانِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ مَنْ سَمِعَهَا عَرَفَهَا مِنْ نَفْسِهِ , وَهِيَ تَخْرُجُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَافِرًا وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ النِّفَارَ عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَيَدِينُ بِأَنْ لَا يَرْضَى بِهِ فَهَذَا كُفْرٌ مُجَرَّدٌ .(1/82)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي - يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ فَاعِلٌ ذَلِكَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ فِي الظُّلْمِ وَمُحَابَاةِ نَفْسِهِ عَارِفًا بِقُبْحِ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ وَمُعْتَقِدًا أَنَّ الْحَقَّ فِي خِلَافِ فِعْلِهِ - فَهَذَا فَاسِقٌ , وَلَيْسَ كَافِرًا . وَالثَّانِي - أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مُقَلِّدًا لِإِنْسَانٍ فِي أَنَّهُ قَدْ شَغَفَهُ تَعْظِيمُهُ إيَّاهُ وَحُبُّهُ مُوهِمًا نَفْسَهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ , وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي النَّاسِ فَأَهْلُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ مُخْطِئُونَ عُصَاةٌ وَلَيْسُوا كُفَّارًا وَيَكُونُ مَعْنَى قوله تعالى { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } أَيْ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُطِيعِينَ , لِأَنَّ كُلَّ طَاعَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ إيمَانٌ , وَكُلَّ إيمَانٍ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى , فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي شَيْءٍ مَا فَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ - وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى . وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } إلَى قوله تعالى { عَلِيمًا حَكِيمًا } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذِهِ الْآيَةُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا أَنَّ أَهْوَاءَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفَةٌ , وَهُوَ أَنْ يَكْفُرَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ تَعَالَى { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } فَإِذْ أَهْوَاؤُهُمْ مَعْرُوفَةٌ فَفَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يُطِيعَهُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ مُرَادُهُمْ , وَإِنْ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِرَأْيٍ .(1/83)
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مُشِيرِينَ عَلَيْهِ بِرَأْيٍ رَاجِينَ أَنْ يَتْبَعَهُمْ فِيهِ , فَإِذْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْرِي أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ , وَلَكِنَّهُمْ مَعْرُوفَةٌ صِفَاتُهُمْ جُمْلَةً , وَمِنْ صِفَاتِهِمْ بِلَا شَكٍّ إرَادَتُهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ كُفَّارًا . وَقَالَ تَعَالَى { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } الْآيَةَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مَعْرُوفُونَ بِأَعْيَانِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ قَائِلِينَ قَالُوا ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا أَيْضًا مُمْكِنٌ أَنْ يَقُولَهُ يَهُودٌ , وَمُمْكِنٌ أَنْ يَقُولَهُ أَيْضًا قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَوَرًا وَجُبْنًا , وَإِذْ كُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ .(1/84)
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ } إلَى قوله تعالى { وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } فَإِنَّ هَذَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ نَزَلَ فِي بَنِي حَارِثَةَ , وَبَنِي سَلَمَةَ - وَهُمْ الْأَفَاضِلُ الْبَدْرِيُّونَ الْأُحُدِيُّونَ - وَلَكِنَّهَا كَانَتْ وَهْلَةً فِي اسْتِئْذَانِهِمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ , وَقَوْلُهُمْ { إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } وَفِيهِمَا نَزَلَتْ { إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا } . كَمَا نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ نا الْفَرَبْرِيُّ نا الْبُخَارِيُّ نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : فِينَا نَزَلَتْ { إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا } قَالَ جَابِرٌ : نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلَمَةَ . قَالَ جَابِرٌ : وَمَا نُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لقوله تعالى { وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ أَصْلًا , فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ } إلَى قوله تعالى { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } .(1/85)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذِهِ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ وَلَكِنَّهَا صِفَةٌ يَعْرِفُهَا مِنْ نَفْسِهِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ , إلَّا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَهَا بِيَسِيرٍ { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بَيَانٌ جَلِيٌّ عَلَى بَسْطِ التَّوْبَةِ لَهُمْ , وَكُلُّ هَؤُلَاءِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ مُعْتَرِفٌ بِالْإِسْلَامِ , لَائِذٌ بِالتَّوْبَةِ فِيمَا صَحَّ عَلَيْهِمْ , مِنْ قَوْلٍ يَكُونُ كُفْرًا وَمَعْصِيَةً . فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَنْ ادَّعَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , وَيَعْرِفُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } إلَى قوله تعالى { وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَدْ مَضَى قَوْلُنَا فِي قوله تعالى { وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } .(1/86)
وَقَالَ تَعَالَى { وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا } لَا يَخْتَلِفُ مُسْلِمَانِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَرْكِ قِتَالِ الْكَافِرِينَ وَإِصْغَارِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ , وَقَالَ تَعَالَى { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } إلَى قوله تعالى { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا كِفَايَةٌ لِمَنْ عَقَلَ وَنَصَحَ نَفْسَهُ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَطَعَ بِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ , وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ , وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ : لَيُغْرِيَنَّ بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَهُ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا , فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ إنْ لَمْ يَنْتَهُوا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا - وَإِعْرَابُ - مَلْعُونِينَ - أَنَّهُ حَالٌ لِمُجَاوَرَتِهِمْ - مَعْنَاهُ لَا يُجَاوِرُونَهُ إلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ . وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ هَذَا لَقَالَ : مَلْعُونُونَ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا هُوَ سُنَّتَهُ تَعَالَى الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ .(1/87)
فَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلِمَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَعَلِمَ نِفَاقَهُمْ , هَلْ انْتَهَوْا أَوْ لَمْ يَنْتَهُوا ؟ فَإِنْ قَالَ : انْتَهَوْا , رَجَعَ إلَى الْحَقِّ , وَصَحَّ أَنَّهُمْ تَابُوا وَلَمْ يَعْلَمْ بَاطِنَهُمْ - فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ أَوْ كَذِبِهَا - إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَلَمْ يَعْلَمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَطُّ إلَّا الظَّاهِرَ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ , أَوْ كُفْرًا رَجَعُوا عَنْهُ فَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ مِنْهُ . وَإِنْ قَالَ : لَمْ يَنْتَهُوا , لَمْ يَبْعُدْ عَنْ الْكُفْرِ , لِأَنَّهُ يَكْذِبُ اللَّهَ تَعَالَى , وَيُخْبِرُ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَّلَ سُنَّتَهُ الَّتِي قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُبَدِّلُهَا أَوْ بَدَّلَهَا رَسُولُهُ عليه السلام . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَكُلُّ مَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ ثُمَّ تَمَادَى فَهُوَ كَافِرٌ , لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ تَعَالَى , أَوْ مُجَوِّرٌ لِرَسُولِهِ - عليه السلام - وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ كُفْرٌ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ : مَا انْتَهَوْا وَلَا أَغْرَاهُ بِهِمْ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : نَحْنُ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا , فَإِنَّ قَائِلَهُ آفِكٌ كَاذِبٌ , عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَحِلُّ لَهُ الْكَلَامُ فِي الدِّينِ - وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ .(1/88)
وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ } إلَى قوله تعالى { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ طَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي عَصَى فِيهِ , وَلَوْ لَمْ يَطْبَعْ عَلَى قَلْبِهِ فِيهِ لَمَا عَصَى ؟ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ مُنَافِقِينَ فَإِعْلَانُهُمْ بِالتَّوْبَةِ مَاحٍ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الظَّاهِرِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْبَاطِنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/89)
وَقَالَ تَعَالَى { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّظَرُ يُبَيِّنُ مُعْتَقَدَهُمْ وَإِظْهَارَهُمْ الْإِسْلَامَ تَوْبَةً تَصِحُّ بِهِ قَبُولُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ النَّظَرُ دَلِيلًا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ فَهُمْ كَغَيْرِهِمْ وَلَا فَرْقَ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ } إلَى قوله تعالى { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ صِفَةٌ مُجْمَلَةٌ لِمَنْ ارْتَدَّ مُعْلِنًا أَوْ مُسِرًّا , وَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ عليه السلام عَرَفَ أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ مُسِرُّونَ لِلْكُفْرِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/90)
قَالَ تَعَالَى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } إلَى قوله تعالى { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَرَاهُمْ نَبِيَّهُ - عليه السلام - وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَلِتَعْرِفْنَهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } فَهَذَا كَالنَّظَرِ الْمُتَقَدِّمِ إنْ كَانَ لَحْنُ الْقَوْلِ بُرْهَانًا يَقْطَعُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ , فَإِظْهَارُهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِعْلَانُهُمْ الْإِسْلَامَ تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ - كَمَا قَدَّمْنَا - وَإِنْ كَانَ عليه السلام لَا يَقْطَعُ بِلَحْنِ قَوْلِهِمْ عَلَى ضَمِيرِهِمْ , فَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ يَعْرِفُهُ فِي الْأَغْلَبِ لَا يَقْطَعُ بِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي " بَرَاءَةٍ , وَالْفَتْحِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ } الْآيَاتِ كُلَّهَا , وَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ إنْ تَابُوا وَأَطَاعُوا لِمَنْ دَعَاهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّ عليه السلام إلَى الْجِهَادِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/91)
وَقَالَ تَعَالَى { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا } إلَى قوله تعالى { غَفُورٌ رَحِيمٌ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَسْلَمُوا لِلَّهِ تَعَالَى غَلَبَةً وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ , وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَسَطَ لَهُمْ التَّوْبَةَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } فَإِظْهَارُهُمْ الطَّاعَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ - عليه السلام - مُدْخِلٌ لَهُمْ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَمُبْطَلٌ لَأَنْ يَكُونَ عليه السلام عَرَفَ بَاطِنَهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } إلَى قوله تعالى { وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ } .(1/92)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذِهِ حِكَايَةٌ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذِهِ الْآيَةُ يُوَافِقُهَا : مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ نا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ نا أَبِي عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ { فَيَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ ؟ فَيَتْبَعُ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ , وَيَتْبَعُ مَنْ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ , وَيَتْبَعُ مَنْ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ , وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَقَالَ تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى } إلَى قوله تعالى { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ بِلَا شَكٍّ , وَلَكِنَّ التَّوْبَةَ لَهُمْ مَبْسُوطَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ .(1/93)
وَقَالَ تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } إلَى قوله تعالى { هُمْ الْخَاسِرُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذِهِ صِفَةُ قَوْمٍ لَمْ يُسْلِمُوا إلَّا أَنَّهُمْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ , فَإِنْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالْكُفْرِ فَالتَّوْبَةُ لَهُمْ مَبْسُوطَةٌ , كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَا قَبْلُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .(1/94)
وَقَالَ تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا } إلَى قوله تعالى { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا قَدْ يَكُونُ سِرًّا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ فَالتَّوْبَةُ لَهُمْ مَبْسُوطَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ , وَقَالَ تَعَالَى { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } إلَى قوله تعالى { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا نَزَلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ , كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ نا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نا أَبُو إسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ : لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ , وَقَالَ : لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ؟ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَخْبَرْتُهُ , فَأَرْسَلَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ , فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ , فَقَالُوا : كَذَبَ زَيْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالَ شِدَّةٌ , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقِي فِي إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ فَدَعَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ؟ فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } .(1/95)
قَالَ : وَقَوْلُهُ { خُشُبٌ مُسْنَدَةٌ } كَانُوا رِجَالًا أَجْمَلَ شَيْءٍ : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : { كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ : فَقَالَ : دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ , فَسَمِعَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ : فَعَلُوهَا , أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } , فَقَالَ سُفْيَانُ : فَحَفِظْتُهُ مِنْ عُمَرَ , وَقَالَ : سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ } إلَى قوله تعالى { فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } فَهُمْ قَوْمٌ كَفَرُوا بِلَا شَكٍّ بَعْدَ إيمَانِهِمْ ارْتَدُّوا بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ , إلَّا أَنَّ التَّوْبَةَ لَهُمْ بِيَقِينٍ مَذْكُورَةٌ فِي الْآيَةِ , وَفِيمَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مِنْ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ . أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } .(1/96)
وَأَمَّا مَنْعُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ , فَإِنَّمَا هُوَ بِلَا شَكٍّ فِيمَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ , لَا فِي مُرَاجَعَةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ , فَإِنَّ هَذَا مَقْبُولٌ مِنْهُمْ بِلَا شَكٍّ . بُرْهَانُ ذَلِكَ : مَا سَلَفَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدَّمْنَا قَبْلُ , وَأَيْضًا إطْلَاقُهُمْ فِيهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وَهُمْ قَدْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِلَا شَكٍّ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّاتِهِمْ . بُرْهَانُ ذَلِكَ : مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ شَكِّ جَابِرٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَعُمَرَ - رضي الله عنهم - فِي ابْنِ أُبَيٍّ بِعَيْنِهِ صَاحِبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ . وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ عَنْ جَابِرٍ إذْ { قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - عليه السلام - دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ } فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ حِينَئِذٍ مُنَافِقٌ , لَكِنَّهُ قَدْ كَانَ نَافَقَ بِلَا شَكٍّ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - مِثْلَ هَذَا فِي مُؤْمِنٍ بَرِئَ مِنْ النِّفَاقِ جُمْلَةً - وَهُوَ حَاطِبُ بْنُ بَلْتَعَةَ - وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى تَحْرِيمِ دَمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ بِقَوْلِهِ عليه السلام " دَعْهُ " وَهُوَ - عليه السلام - لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِأَنْ يَدَعَ النَّاسُ فَرْضًا وَاجِبًا .(1/97)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام { لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } بَيَانٌ جَلِيٌّ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ , مَقْطُوعٌ عَلَى غَيْبَةٍ بِصِحَّةِ بَاطِنٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِظَاهِرِ إسْلَامِهِ , وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , وَاَلَّذِينَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى دِمَاءَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ؟ وَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّهُ لَوْ حَلَّ دَمُ ابْنِ أُبَيٍّ لَمَا حَابَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَمَا ضَيَّعَهُ عليه السلام ؟ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَقْتُلُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَدْ كَفَرَ , وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ , لِنِسْبَتِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَاطِلَ , وَمُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَاَللَّهِ : لَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ الْفُضَلَاءَ الْمَقْطُوعَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْجَنَّةِ , إذْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ , كَمَاعِزٍ , وَالْغَامِدِيَّةِ , وَالْجُهَيْنِيَّةِ - رضي الله عنهم فَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ , وَالضَّلَالِ الْبَحْتِ , وَالْفُسُوقِ الْمُجَرَّدِ : بَلْ مِنْ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ : أَنْ يَعْتَقِدَ , أَوْ يَظُنَّ - مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقْتُلُ مُسْلِمِينَ فَاضِلِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَشْنَعَ قِتْلَةً بِالْحِجَارَةِ , وَيَقْتُلُ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد الْأَنْصَارِيَّ قِصَاصًا بِالْمُجَدَّرِ بْنِ خِيَارٍ الْبَلَوِيِّ بِعِلْمِهِ - عليه السلام - دُونَ أَنْ يَعْلَمَ(1/98)
ذَلِكَ أَحَدٌ , وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَمَرَ أُنَيْسًا بِرَجْمِهَا , إنْ اعْتَرَفَتْ . وَبِقَطْعِ يَدِ الْمَخْزُومِيَّةِ - وَيَقُولُ { لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَهَا } . وَبِقَوْلِهِ عليه السلام { إنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَصَابَ الضَّعِيفُ مِنْهُمْ الْحَدَّ أَقَامُوهُ عَلَيْهِ , وَإِذَا أَصَابَهُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ } . ثُمَّ يَفْعَلُ هُوَ - عليه السلام - ذَلِكَ , وَيُعَطِّلُ إقَامَةَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ عَلَى كَافِرٍ يَدْرِي أَنَّهُ ارْتَدَّ الْآنَ , ثُمَّ لَا يَقْنَعُ بِهَذَا حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ , وَيَسْتَغْفِرَ لَهُ - وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهُ كَافِرٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ . وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ دَانَ بِهَذَا وَاعْتَقَدَهُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ , مُشْرِكٌ , مُرْتَدٌّ , حَلَالُ الدَّمِ وَالْمَالِ - نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَمِنْ وِلَايَتِهِ - مَنْ يَظُنُّ بِهِ النِّفَاقَ بِلَا خِلَافٍ , فَالْأَمْرُ فِيمَنْ دُونَهُ بِلَا شَكٍّ أَخْفَى - فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَصَحَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ أَنْ كَفَرَ هُوَ وَمَنْ سَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالْإِسْلَامَ , فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مِنْهُمْ , وَلَمْ يَعْلَمْ بَاطِنَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ ؟ أَمْ عَلَى مَا أَظْهَرُوا مِنْ التَّوْبَةِ ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِذَلِكَ , وَهُوَ بِلَا شَكٍّ الْمُجَازِي عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .(1/99)
وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا - : أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَكَفَرَ فَإِنَّهُ - عليه السلام - يُجَاهِدُهُ بِعَيْنِهِ بِلِسَانِهِ , وَالْإِغْلَاظُ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ - وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِعَيْنِهِ جَاهَدَهُ جُمْلَةً بِالصِّفَةِ , وَذَمِّ النِّفَاقِ , وَالدُّعَاءِ إلَى التَّوْبَةِ .(1/100)
وَمِنْ الْبَاطِلِ الْبَحْتِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أَنَّ فُلَانًا بِعَيْنِهِ مُنَافِقٌ مُتَّصِلُ النِّفَاقِ ثُمَّ لَا يُجَاهِدُهُ , فَيَعْصِي رَبَّهُ تَعَالَى , وَيُخَالِفُ أَمْرَهُ - وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ , لِأَنَّهُ نَسَبَ الِاسْتِهَانَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم , قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَبَقِيَتْ آثَارٌ نَذْكُرُهَا الْآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ ني اللَّيْثُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ - نا عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ رَبِيعٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ { عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا - قَالَ فِي حَدِيثٍ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ , قَالَ : وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ صَنَعْنَاهَا لَهُ , قَالَ : فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ ذَوُو عَدَدٍ , فَاجْتَمَعُوا , فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدِّخْشَنِ - أَوْ ابْنُ دَخْشَنٍ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَقُلْ ذَلِكَ , أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إلَى الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ(1/101)
تَعَالَى } حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا بْنُ إسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ نا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ نا أَبُو دَاوُد نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسَرَّةَ نا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ نا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ : سَيِّدًا , فَإِنَّهُ إنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ } . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ نا جَرِيرٌ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ - عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ , فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ , وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِثْلَ ذَلِكَ , وَأَعْطَى نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ , فَقَالَ رَجُلٌ : وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا يَعْدِلُ فِيهَا , مَا أُرِيدُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ , قَالَ فَقُلْتُ : وَاَللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ , فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : قُلْت : لَا جَرَمَ , لَا أَرْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثًا .(1/102)
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ , وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى : نا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الثَّقَفِيِّ قَالَ : سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ : أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { أَتَى رَجُلٌ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ - وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ ؟ قَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ ؟ فَقَالَ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي , إنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ } .(1/103)
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ أَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : { غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا , وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَتْ الْأَنْصَارُ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا , فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ ؟ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ؟ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ مَا شَأْنُهُمْ ؟ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الْأَنْصَارِيَّ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ : قَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ , فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : أَلَا تَقْتُلُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ ؟ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ : أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } .(1/104)
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ نا عَبْدُ الْوَاحِدِ - هُوَ ابْنُ زِيَادٍ - عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ : سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ { بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُخَلَّصْ مِنْ تُرَابِهَا , فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ , وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ , وَزَيْدِ الْخَيْلِ - وَشَكَّ فِي الرَّابِعِ - فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ هَؤُلَاءِ , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينٌ فِي السَّمَاءِ , يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً , فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ , مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ , نَاشِزُ الْجَبْهَةِ , كَثُّ اللِّحْيَةِ , مَحْلُوقُ الرَّأْسِ , مُشَمَّرُ الْإِزَارِ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ . فَقَالَ : وَيْلَكَ , أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ ؟ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ , فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي . قَالَ خَالِدٌ : وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : إنِّي لَمْ أُؤْمَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ , وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ , إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا , لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ , يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ } .(1/105)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ نا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ نا شُعْبَةُ : قَالَ : سَمِعْت قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ { عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قُلْتُ لِعَمَّارٍ : أَرَأَيْتَ قِتَالَكُمْ هَذَا ؟ أَرَأْيٌ رَأَيْتُمُوهُ , فَإِنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ؟ أَوَعَهِدَ إلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فَقَالَ : مَا عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , أَحَسَبُهُ قَالَ : حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ : أَنَّهُ قَالَ : فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ , ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ يَكْفِيهِمْ الرَّسْلَةُ , سِرَاجٌ مِنْ النَّارِ يَظْهَرُ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ } .(1/106)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا أَبُو أَحْمَدَ - هُوَ الزُّبَيْرِيُّ - نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عِيَاضٍ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ ؟ ثُمَّ قَالَ : قُمْ يَا فُلَانُ , قُمْ يَا فُلَانُ , قُمْ يَا فُلَانُ - حَتَّى عَدَّ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ - ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ وَإِنَّ فِيكُمْ , فَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ ؟ فَمَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ مُقَنَّعٍ قَدْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ , قَالَ : مَا شَأْنُكَ ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ } . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ نا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ إذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ - عليه السلام - اعْتَذَرُوا إلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا , فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ } .(1/107)
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ أَنَا أَحْمَدُ الْكُوفِيُّ نا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ نا أَبُو الطُّفَيْلِ قَالَ : { كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ , كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ ؟ فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ : أَخْبِرْهُ إذْ سَأَلَكَ ؟ قَالَ - يَعْنِي حُذَيْفَةَ - : كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ , فَإِنْ كُنْتَ فِيهِمْ فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ , وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حِزْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ , وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ , وَعَذَرَ ثَلَاثَةً , وَعَذَرَ ثَلَاثَةً ؟ قَالُوا : مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَيْسَتْ هَذِهِ الْعَقَبَةُ الْفَاضِلَةُ الْمَحْمُودَةُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ , تِلْكَ كَانَتْ لِلْأَنْصَارِ خَالِصَةً شَهِدَهَا مِنْهُمْ - رضي الله عنهم - سَبْعُونَ رَجُلًا وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ , وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَحْدَهُ , وَالْعَبَّاسُ عَمُّهُ , وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ يَوْمَئِذٍ , لَكِنَّهُ شَفَقَةٌ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ .(1/108)
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا أَبُو كُرَيْبٍ جَعْفَرُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ , فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ , فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ , وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ , فَإِذَا عَظِيمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ ؟ } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَأَحَادِيثُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى حُذَيْفَةَ فِيهَا : أَنَّهُ كَانَ يَدْرِي الْمُنَافِقِينَ , وَأَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ : أَهُوَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : لَا , وَلَا أَخْبَرَ أَحَدًا بَعْدَك بِمِثْلِ هَذَا , وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَإِذَا حَضَرَ حُذَيْفَةُ جِنَازَةً حَضَرَهَا عُمَرُ , وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهَا حُذَيْفَةُ لَمْ يَحْضُرْهَا عُمَرُ , وَفِي بَعْضِهَا مِنْهُمْ : شَيْخٌ لَوْ ذَاقَ الْمَاءَ مَا وَجَدَ لَهُ طَعْمًا : كُلُّهَا غَيْرُ مُسْنَدَةٍ . وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : مَاتَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ أَذْهَبْ إلَى الْجِنَازَةِ فَقَالَ : هُوَ مِنْهُمْ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ : لَا .(1/109)
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ ثَنْي { عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الظَّفَرِيُّ , قَالَ : قُلْت لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ : هَلْ كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ النِّفَاقَ فِيهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَاَللَّهِ إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَخِيهِ , وَمِنْ أَبِيهِ , وَمِنْ بَنِي عَمِّهِ , وَمِنْ عَشِيرَتِهِ , ثُمَّ يُلْبِسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ - قَالَ مَحْمُودٌ : لَقَدْ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفٍ نِفَاقُهُ كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَيْثُ سَارَ , فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَجَرِ مَا كَانَ , وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ دَعَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّحَابَةَ فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ , أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ : وَيْحُكَ أَبَعْدَ هَذَا شَيْءٌ ؟ قَالَ : سَحَابَةٌ مَارَّةٌ , ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم سَارَ حَتَّى كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ضَلَّتْ نَاقَتُهُ , فَخَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي طَلَبِهَا , وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ : عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ , وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ - وَكَانَ فِي رَحْلِ يَزِيدَ بْنِ نَصِيبٍ الْقَيْنُقَاعِيِّ وَكَانَ مُنَافِقًا , فَقَالَ يَزِيدُ - وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ - وَعُمَارَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ عليه السلام : أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ , وَلَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ : إنَّ رَجُلًا قَالَ :(1/110)
هَذَا مُحَمَّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ - هُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ - وَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ إلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ , وَقَدْ دَلَّنِي عَلَيْهَا - وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي مِنْ شِعْبِ كَذَا وَكَذَا - وَقَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا , فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُونِي بِهَا ؟ فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا , فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى رَحْلِهِ , فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأَعْجَبُ شَيْءٍ حَدَّثْنَاهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم آنِفًا عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ كَذَا وَكَذَا - لِلَّذِي قَالَ يَزِيدُ بْنُ نَصِيبٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : يَزِيدُ , وَاَللَّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ ؟ فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى يَزِيدَ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ وَيَقُولُ : يَا آلَ عِبَادِ اللَّهِ , إنَّ فِي رَحْلِي الرَّاهِبَةَ , وَمَا أَشْعُرُ , اُخْرُجْ , أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ رَحْلِي فَلَا تَصْحَبْنِي } ؟ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ - وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ - فَقَالَ حُذَيْفَةُ : مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا ثَلَاثَةٌ , يَعْنِي قوله تعالى { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } إلَى قَوْلِهِ { يَنْتَهُونَ } قَالَ حُذَيْفَةُ : وَلَا بَقِيَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إلَّا أَرْبَعَةٌ , فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ : إنَّكُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ تُخْبِرُونَنَا بِمَا لَا نَدْرِي , فَمَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْقُرُونَ بُيُوتَنَا , وَيَسْرِقُونَ أَعْلَافَنَا ؟ قَالَ : أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ , أَجَلْ , لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ(1/111)
إلَّا أَرْبَعَةٌ : شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ وَجَدَ لَهُ بَرْدًا ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا كُلُّ مَا حَضَرَنَا ذِكْرُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ , وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ أَصْلًا . أَمَّا حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الدِّخْشَنِ فَصَحِيحٌ وَهُوَ أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّ شَهَادَةَ التَّوْحِيدِ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا وَهَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { نُهِينَا عَنْ قِتَالِ الْمُصَلُّونً } . وَأَمَّا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ { لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدًا } فَإِنَّ هَذَا عُمُومًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ , وَلَا يَخْفَى هَذَا عَلَى أَحَدٍ - وَإِذْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِذَا عَرَفْنَا الْمُنَافِقَ وَنُهِينَا أَنْ نُسَمِّيَهُ " سَيِّدًا " فَلَيْسَ مُنَافِقًا بَلْ مُجَاهِرًا , وَإِذَا عَرَفْنَا مَنْ الْمُنَافِقُ ؟ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ ؟ وَلَا مَا فِي ضَمِيرِهِ فَهُوَ مُعْلِنٌ لَا مُسِرٌّ . وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ - وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - عليه السلام - قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّ خِصَالًا مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا قَبْلُ . وَلَيْسَ هَذَا نِفَاقُ الْكُفْرِ , لَكِنَّهُ مُنَافِقٌ لِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا يُضْمِرُهُ فِي هَذِهِ الْخِلَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَذِبِهِ , وَغَدْرِهِ , وَفُجُورِهِ , وَإِخْلَافِهِ , وَخِيَانَتِهِ - وَمَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى سَيِّدًا , وَمَنْ سَمَّاهُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ تَعَالَى بِإِخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِذَلِكَ .(1/112)
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - فَإِنَّ الْقَائِلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَمْ يَعْدِلْ , وَلَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا عَمِلَ فَهُوَ كَافِرٌ مُعْلِنٌ بِلَا شَكٍّ . وَكَذَلِكَ الْقَائِلُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إذْ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فِي قَتْلِهِ إذْ قَالَ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ , وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا اسْتِئْذَانُ عُمَرَ فِي قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَنَّ هَؤُلَاءِ صَارُوا بِإِظْهَارِهِمْ الْإِسْلَامَ بَعْدَ أَنْ قَالُوا مَا قَالُوا : حُرِّمَتْ دِمَاؤُهُمْ وَصَارُوا بِذَلِكَ جُمْلَةَ أَصْحَابِهِ عليه السلام . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذَا مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقْتَلُ أَصْلًا , لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُرْتَدُّونَ بِلَا شَكٍّ , وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , وَقَدْ قَتَلَ أَصْحَابَهُ الْفُضَلَاءَ , كَمَاعِزٍ , وَالْغَامِدِيَّةِ , وَالْجُهَيْنِيَّةِ , إذْ وَجَبَ الْقَتْلُ عَلَيْهِمْ , وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُرْتَدِّينَ لَمَا ضَيَّعَ ذَلِكَ أَصْلًا ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُسَمِّيَ كَافِرًا مُعْلِنًا بِأَنَّهُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , وَلَا أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَهُوَ عليه السلام قَدْ أَثْنَى عَلَى أَصْحَابِهِ .(1/113)
فَصَحَّ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ , فَحُرِّمَتْ بِذَلِكَ دِمَاؤُهُمْ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ , وَبَاطِنُهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي صِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ , فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي تَوْبَتِهِمْ فَهُمْ أَصْحَابُهُ حَقًّا عِنْدَ النَّاسِ ظَاهِرُهُمْ , وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِنُهُمْ وَظَاهِرُهُمْ , فَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُمْ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُنَا مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ نُصَيْفَ مُدِّ أَحَدِهِمْ , وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ , فَهُمْ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمُونَ , وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كُفَّارٌ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ إذْ اسْتَأْذَنَهُ خَالِدٌ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ فَقَالَ : لَا , لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي , فَقَدْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ عليه السلام لِخَالِدٍ عَنْ قَتْلِهِ , وَلَوْ حَلَّ قَتْلُهُ لَمَا نَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ ذَلِكَ , وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالسَّبَبِ الْمَانِعِ مِنْ قَتْلِهِ - وَهُوَ أَنَّهُ لَعَلَّهُ يُصَلِّي - فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ : رُبَّ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ , فَأَخْبَرَهُ : أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ لِيَشُقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الظَّاهِرُ - وَأَخْبَرَنَا - عليه السلام - أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا فِي قُلُوبِهِمْ , وَأَنَّ ظَاهِرَهُمْ مَانِعٌ مِنْ قَتْلِهِمْ أَصْلًا .(1/114)
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طَرِيقٍ لَا تَصِحُّ , وَفِيهِ : { أَنَّهُ - عليه السلام - أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ , وَعُمَرَ , بِقَتْلِهِ , فَوَجَدَهُ يَرْكَعُ , وَوَجَدَهُ الْآخَرُ يَسْجُدُ فَتَرَكَاهُ , وَأَمَرَ عَلِيًّا بِقَتْلِهِ فَمَضَى فَلَمْ يَجِدْهُ , وَأَنَّهُ عليه السلام قَالَ : لَوْ قُتِلَ لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْ أُمَّتِي اثْنَانِ } وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَصْلًا , وَلَا وَجْهَ لِلِاشْتِغَالِ بِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ { فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا } فَلَيْسَ فِيهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَرَفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَهُوَ إخْبَارٌ بِصِفَةٍ عَنْ عَدَدٍ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِمْ بَيَانُ أَنَّهُمْ عُرِفُوا بِأَسْمَائِهِمْ فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهَذَا الْخَبَرِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فَإِنَّنَا قَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ نا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ نا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ . وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ عَنْ أَبِيهِ : أَرَاهُ عِيَاضُ بْنُ عِيَاضٍ , فَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ : أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ .(1/115)
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ , لِأَنَّهُمْ قَدْ انْكَشَفُوا وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُمْ , فَلَيْسُوا مُنَافِقِينَ , بَلْ هُمْ مُجَاهِرُونَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : إمَّا أَنْ يَكُونُوا تَابُوا فَحُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ بِذَلِكَ , وَإِمَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا فَهُوَ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ لَا يَرَى قَتْلَ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَأْمُونِينَ مِنْ الْعَذَابِ وَهَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَرَفَ كُفْرَهُمْ . وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فَسَاقِطٌ , لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ - وَهُوَ هَالِكٌ - وَلَا نَرَاهُ يَعْلَمُ مَنْ وَضَعَ الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى أَخْبَارًا فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَطَلْحَةَ , وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنهم - أَرَادُوا قَتْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَإِلْقَاءَهُ مِنْ الْعَقَبَةِ فِي تَبُوكَ - وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ الْمَوْضُوعُ الَّذِي يَطْعَنُ اللَّهُ تَعَالَى وَاضِعَهُ - فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .(1/116)
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَاوِيه أَبُو سُفْيَانَ طَلْحَةُ بْنُ نَافِعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ , ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا هُبُوبُ الرِّيحِ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ , فَإِنَّمَا فِي هَذَا انْكِشَافُ أَمْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَمْ يُوقِنْ قَطُّ , بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ نِفَاقَهُ فِي حَيَاتِهِ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ بِالظَّنِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَمَّا الْمَوْقُوفَةُ عَلَى حُذَيْفَةَ - فَلَا تَصِحُّ وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ بِلَا شَكٍّ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُمْ صَحَّ نِفَاقُهُمْ وَعَاذُوا بِالتَّوْبَةِ , وَلَمْ يَقْطَعْ حُذَيْفَةُ وَلَا غَيْرُهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِمْ , فَتَوَرَّعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ . وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ : أَنَا مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ : لَا , وَلَا أُخْبِرُ أَحَدًا غَيْرَك بَعْدَك - وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا تَرَى , لِأَنَّ مِنْ الْكَذِبِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ يَشُكُّ فِي مُعْتَقَدِ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَدْرِي أَمُنَافِقٌ هُوَ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّ جَمِيعَ الْمُهَاجِرِينَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُنَافِقٌ , إنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ فِي قَوْمٍ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَقَطْ - فَظَهَرَ بُطْلَانُ هَذَا الْخَبَرِ .(1/117)
وَأَمَّا حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ فَمُنْقَطِعٌ , وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا فِيهِ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ , وَإِذْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا نِفَاقًا بَلْ هُوَ كُفْرٌ مَشْهُورٌ , وَرِدَّةٌ ظَاهِرَةٌ - هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ . وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ " لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا ثَلَاثَةٌ " فَصَحِيحٌ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , لِأَنَّ فِي نَصِّ الْآيَةِ أَنْ يُقَاتِلُوا حَتَّى يَنْتَهُوا , فَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَنْتَهُوا لَمَا تُرِكَ قِتَالُهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى .(1/118)
وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ " أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إلَّا أَرْبَعَةٌ " فَلَا شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ , وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ غَيْبَ الْقُلُوبِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى , فَهُمْ مِمَّنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ بِيَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ , ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَيُبَيِّنُ هَذَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ نا أَبِي نا الْأَعْمَشُ ني إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ : كُنَّا فِي حَلْقَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ , ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ , قَالَ الْأَسْوَدُ : سُبْحَانَ اللَّهِ , إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ } فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ , وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ , فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ الصَّحَابَةُ , فَرَمَانِي حُذَيْفَةُ بِالْحَصَى فَأَتَيْته , فَقَالَ حُذَيْفَةُ : عَجِبْت مِنْ ضِحْكِهِ وَقَدْ عَلِمَ مَا قُلْت " لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ النِّفَاقَ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .(1/119)
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ نا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : إنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا حِينَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذَانِ أَثَرَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ , فِي أَحَدِهِمَا بَيَانٌ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُسِرُّونَ , وَفِي الثَّانِي أَنَّهُمْ تَابُوا - فَبَطَلَ تَعَلُّقُ مَنْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ آيَةٍ وَكُلِّ خَبَرٍ وَرَدَ فِي الْمُنَافِقِينَ . وَصَحَّ أَنَّهُمْ قِسْمَانِ : إمَّا قِسْمٌ لَمْ يُعْلَمْ بَاطِنُ أَمْرِهِ , فَهَذَا لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ , وَقِسْمٌ عُلِمَ بَاطِنُ أَمْرِهِ وَانْكَشَفَ فَعَاذَ بِالتَّوْبَةِ . قَالُوا : إنَّ الَّذِي جَوَّرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ , وَلَا أَرَادَ بِقِسْمَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ مُرْتَدٌّ لَا شَكَّ فِيهِ , مُنْكَشِفُ الْأَمْرِ , وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ , وَلَا أَنَّهُ قُتِلَ , بَلْ فِيهَا النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ ؟ قُلْنَا : أَمَّا هَذَا فَحَقٌّ , كَمَا قُلْتُمْ , لَكِنَّ الْجَوَابَ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَكُنْ أَمَرَ بَعْدُ بِقَتْلِ مَنْ ارْتَدَّ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ نَهَى عَنْ قَتْلِهِ , ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَنُسِخَ تَحْرِيمُ قَتْلِهِمْ .(1/120)
بُرْهَانُ ذَلِكَ - مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ نا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ { بَعَثَ عَلِيٌّ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ - بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ , وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ , وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ , وَزَيْدِ الْخَيْرِ الطَّائِيِّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ , وَفِيهِ : فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ إنْ عَصَيْتُهُ ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ , وَلَا تَأْمَنُونِي , فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ فِي قَتْلِهِ - يَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمَ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } .(1/121)
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ نا الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبُجَيْرَمِيُّ نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ نا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ نا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ نا سَلَّامٍ بْنِ سُلَيْمَانَ - هُوَ أَبُو الْأَحْوَصِ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ , بَيْنَ : عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ , وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْكِلَابِيِّ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ , وَزَيْدِ الْخَيْرِ الطَّائِيِّ , فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ , وَقَالُوا : يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّمَا أَعْطَيْتُهُمْ أَتَأَلَّفُهُمْ , فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ , مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ , نَاتِئُ الْجَبِينِ , فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إنْ عَصَيْتُهُ أَنَا ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي ؟ فَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ فِي قَتْلِهِ , فَأَبَى , ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ , يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ , يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ , وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ , وَاَللَّهِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } .(1/122)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَصَحَّ كَمَا تَرَى الْإِسْنَادُ الثَّابِتُ : أَنَّ هَذَا الْمُرْتَدَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي قَتْلِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي ذَلِكَ , وَأَخْبَرَ عليه السلام فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ : أَنَّهُ سَيَأْتِي مِنْ ضِئْضِئِهِ عِصَابَةٌ إنْ أَدْرَكَهُمْ قَتَلَهُمْ , وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ , فَقَدْ خَرَجَ عَنْهُ , وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ بَعْدَ كَوْنِهِ فَدُخُولُهُ كَدُخُولِ السَّهْمِ فِي الرَّمِيَّةِ , فَقَدْ ارْتَدَّ عَنْهُ . فَصَحَّ إنْذَارُ النَّبِيِّ - عليه السلام - بِوُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ , وَأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَأْمُرُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ - فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَتْلَ مَنْ ارْتَدَّ كَانَ حَرَامًا - وَلِذَلِكَ نَهَى عَنْهُ - عليه السلام - وَلَمْ يَأْذَنْ بِهِ لَا لِعُمَرَ , وَلَا لِخَالِدٍ . ثُمَّ إنَّهُ عليه السلام نَذَرَ بِأَنَّهُ سَيُبَاحُ قَتْلُهُ , وَأَنَّهُ سَيَجِبُ قَتْلُ مَنْ يَرْتَدُّ فَصَحَّ يَقِينًا نَسْخُ ذَلِكَ الْحَالِ , وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَعُثْمَانَ , وَمُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْمُرْتَدُّ , وَصَحَّ أَنَّهُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ تَعَلَّقَ بِمَنْسُوخٍ , فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُسْتَتَابُ , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وقال ابن العربي :(1/123)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ } : النِّفَاقُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْكُفْرُ , وَإِذَا كَانَ فِي الْأَعْمَالِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ , وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَالْأُصُولِ , وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا ائْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . رَوَتْهُ الصِّحَاحُ وَالْأَئِمَّةُ , وَتَبَايَنَ النَّاسُ فِيهِ حَزْقًا , وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا , بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ بِالْجَوَارِحِ لَا تَكُونُ كُفْرًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ , وَلَا فِي دَلِيلِ التَّحْقِيقِ . وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ صَحَّ نِفَاقُهُ وَخَلَصَ , وَإِذَا كَانَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ خَصْلَةٌ , وَخَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ نِفَاقٌ , وَعُقْدَةٌ مِنْ الْكُفْرِ كُفْرٌ , وَعَلَيْهِ يَشْهَدُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَالَ فِيهِ مِنْ نَكْثِهِ لِعَهْدِهِ , وَغَدْرِهِ الْمُوجِبِ لَهُ حُكْمَ النِّفَاقِ ; فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُ , وَيَعْهَدُ بِعَهْدٍ لَا يَعْتَقِدُ الْوَفَاءَ بِهِ , وَيَنْتَظِرُ الْأَمَانَةَ لِلْخِيَانَةِ فِيهَا .(1/124)
وَتَعَلَّقُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : { دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مِنْ خِلَالِ الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ . فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَقِيلَيْنِ , فَلَقِيَهُمَا عَلِيٌّ فَقَالَ لَهُمَا : مَالِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ ؟ قَالَا : حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم : مِنْ خِلَالِ الْمُنَافِقِينَ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ . فَقَالَ عَلِيٌّ : أَفَلَا سَأَلْتُمَاهُ ؟ فَقَالَا : هِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ : لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ . فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَهُمَا ثَقِيلَانِ , ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَا : فَقَالَ : قَدْ حَدَّثْتَهُمَا , وَلَمْ أَضَعْهُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَضَعُونَهُ , وَلَكِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَكْذِبُ , وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخْلُفُ , وَإِذَا ائْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخُونُ } . قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ضَعْفُ سَنَدِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ قَدْ قَامَ عَلَى أَنَّ مُتَعَمِّدَ هَذِهِ الْخِصَالِ لَا يَكُونُ كَافِرًا , وَإِنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا بِاعْتِقَادٍ يَعُودُ إلَى الْجَهْلِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبِ لَهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّمَا ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُنَافِقِينَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ .(1/125)
أَفَادَنِي أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى : { أَنَّ مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ قَالَ خَرَجْت زَمَانَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ , فَلَمَّا كُنْت بِالرَّيِّ أُخْبِرْت أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ بِهَا مُخْتَفٍ مِنْ الْحَجَّاجِ , فَدَخَلْت عَلَيْهِ , فَإِذَا هُوَ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ وُدِّهِ . قَالَ : فَجَلَسْت حَتَّى تَفَرَّقُوا . ثُمَّ قُلْت : إنَّ لِي وَاَللَّهِ مَسْأَلَةً قَدْ أَفْسَدَتْ عَلَيَّ عَيْشِي . فَفَزِعَ سَعِيدٌ , ثُمَّ قَالَ : هَاتِ . فَقُلْت : بَلَغَنَا أَنَّ الْحَسَنَ وَمَكْحُولًا وَهُمَا مَنْ قَدْ عَلِمْت فِي فَضْلِهِمَا وَفِقْهِهِمَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ , وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ , وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ . وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ ثُلُثُ النِّفَاقِ . وَظَنَنْت أَنِّي لَا أَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ بَعْضِهِنَّ , وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . قَالَ : فَضَحِكَ سَعِيدٌ , وَقَالَ : هَمَّنِي وَاَللَّهِ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي أَهَمَّكَ . فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَصَصْت عَلَيْهِمَا مَا قَصَصْتَ عَلَيَّ , فَضَحِكَا وَقَالَا : هَمَّنَا وَاَللَّهِ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي أَهَمَّكَ .(1/126)
فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّك قَدْ قُلْت : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ , وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ : مَنْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فَفِيهِ ثُلُثُ النِّفَاقِ , فَظَنَنَّا أَنَّا لَمْ نَسْلَمْ مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ بَعْضِهِنَّ وَلَنْ يَسْلَمَ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ ؟ إنَّمَا خَصَصْت بِهِ الْمُنَافِقِينَ , كَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ . أَمَّا قَوْلِي : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ } لَا يَرَوْنَ نُبُوَّتَكَ فِي قُلُوبِهِمْ , أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : فَقُلْنَا : لَا . قَالَ : فَلَا عَلَيْكُمْ , أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ . وَأَمَّا قَوْلِي : إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } إلَى : يَكْذِبُونَ . أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : فَقُلْنَا : لَا , وَاَللَّهِ لَوْ عَاهَدْنَا اللَّهَ عَلَى شَيْءٍ لَوَفَّيْنَا بِعَهْدِهِ . قَالَ : فَلَا عَلَيْكُمْ , أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ . وَأَمَّا قَوْلِي : إذَا ائْتُمِنَ خَانَ , فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } إلَى : { جَهُولًا } .(1/127)
فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى دِينِهِ , وَالْمُؤْمِنُ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَيَصُومُ وَيُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَالْمُنَافِقُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْعَلَانِيَةِ , أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قُلْنَا : لَا . قَالَ : فَلَا عَلَيْكُمْ , أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآءُ . قَالَ : ثُمَّ خَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ فَقَضَيْت مَنَاسِكِي , ثُمَّ مَرَرْت بِالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ , فَقُلْت لَهُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْك . قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قُلْت : مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ . قَالَ : فَحَدَّثَنِي بِالْحَدِيثِ . قَالَ : فَقُلْت : أَعْنَدَك فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا ؟ قَالَ : لَا . قُلْت : أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , فَحَدَّثْته بِهِ , فَتَعَجَّبَ مِنْهُ , وَقَالَ : إنْ لَقِينَا سَعِيدًا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ , وَإِلَّا قَبِلْنَاك . } قَالَ الْقَاضِي : هَذَا حَدِيثٌ مَجْهُولُ الْإِسْنَادِ , وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَفِيهِ نَحْوٌ مِنْ الْأَوَّلِ , وَهُوَ تَخْصِيصُهُ مِنْ عُمُومِهِ , وَتَحْقِيقُهُ بِصِفَتِهِ , أَمَّا قَوْلُهُ : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ } الْآيَةَ , فَإِنَّهُ كَذِبٌ فِي الِاعْتِقَادِ , وَهُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } فَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا الْآنَ , وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَصْحَبَهَا الِاعْتِقَادُ , بِخِلَافِ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَهْدِ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ حِينَ الْعَهْدِ , وَطَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمَالِ .(1/128)
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } . وَقَوْلُهُ فِيهِ : إنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ كَذَلِكَ , فَقَدْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالْغُسْلَ تَكَاسُلًا إذَا أَسَرَّ , وَيَفْعَلُهَا رِيَاءً إذَا جَهَرَ وَلَا يُكَذِّبُ بِهِمَا , وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ مِثْلُهُ , وَلَا يَكُونُ مُنَافِقًا بِذَلِكَ , لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمُنَافِقَ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ , وَالْعَاصِي مَنْ آثَرَ الرَّاحَةَ , وَتَثَاقَلَ فِي الْعِبَادَةِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هَذَا فِيمَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَالَ . وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي مَا كَانَ بِهَا كَافِرًا مَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الِاعْتِقَادِ . وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النِّفَاقَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ; وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْلَمُ مِنْهُ هَذَا , كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُهُ مِنْهُ النَّبِيُّ , وَإِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ دُونَ تَأْخِيرٍ , فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ فِي زَمَانِنَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ , وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ } . وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ أُخُوَّةَ يُوسُفَ عَاهَدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ , وَحَدَّثُوهُ فَكَذَّبُوهُ , وَائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهِ فَخَانُوهُ , وَمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ . وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .(1/129)
تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ قَالَ : النِّفَاقُ نِفَاقَانِ : نِفَاقُ الْكَذِبِ , وَنِفَاقُ الْعَمَلِ , فَأَمَّا نِفَاقُ الْكَذِبِ فَكَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا نِفَاقُ الْعَمَلِ فَلَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وقال ابن تيمية :(1/130)
فَإِذَا عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَقْوَالِ , فَهَلْ يُصَلِّي بِتَحْرِيكِ طَرَفِهِ وَيَسْتَحْضِرُ الْأَفْعَالَ بِقَلْبِهِ , فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ , وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ , فَقَدْ حَرُمَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ , وَالْوِلَايَةُ هِيَ الْإِيمَانُ , وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّقَرُّبِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ , فَقَدْ حَرَّمَ مَا بِهِ يَتَقَرَّبُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ إلَيْهِ , لَكِنَّهُ مَعَ جُنُونِهِ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ , فَلَا يُعَاقَبُ , كَمَا لَا يُعَاقَبُ الْأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ , إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ , ثُمَّ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ حُدُوثِ الْجُنُونِ بِهِ , وَلَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ , وَكَانَ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ , كَانَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا تَقَدَّمَ , وَكَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى , كَمَا لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ , وَلَيْسَ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ إلَّا الرِّدَّةُ , كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ , فَلَا يُكْتَبُ لِلْمَجْنُونِ حَالَ جُنُونِهِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ , كَمَا لَا يَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ لِسَيِّئَاتِهِ فِي زَوَالِ عَقْلِهِ فَالْأَعْمَالُ الْمُسْكِرَةُ(1/131)
وَالنَّوْمُ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ . وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ , حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } . فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَاصِدِينَ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ رَاغِبِينَ فِيهِ , لَكِنْ عَجَزُوا فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ بِخِلَافِ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ , فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ وَلَا عِبَادَةٌ أَصْلًا , بِخِلَافِ أُولَئِكَ فَإِنَّ لَهُمْ قَصْدًا صَحِيحًا يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ جُنُونِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُذْنِبًا , لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجُنُونِ بِهِ مُزِيلًا لِمَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ , وَلِهَذَا كَانَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ تَهَوُّدِهِ وَتَنَصُّرِهِ مَحْشُورًا مَعَهُمْ , وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ مَحْشُورًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُتَّقِينَ , وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ غَيْرِهِ , سَوَاءٌ سُمِّيَ صَاحِبُهُ مُولِهًا أَوْ مُتَوَلِّهًا لَا يُوجِبُ مَزِيدَ حَالِ صَاحِبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى .(1/132)
وَلَا يَكُونُ زَوَالُ عَقْلِهِ سَبَبًا لِمَزِيدِ خَيْرِهِ وَلَا صَلَاحِهِ وَلَا ذَنْبِهِ , وَلَكِنَّ الْجُنُونَ يُوجِبُ زَوَالَ الْعَمَلِ , فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ , لَا أَنَّهُ يَزِيدُهُ وَلَا يَنْقُصُهُ , لَكِنَّ جُنُونَهُ يُحْرِمُهُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْخَيْرِ , كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الشَّرِّ . وَأَمَّا إنْ كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ , أَوْ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ الْمُلَحَّنَ فَيَسْتَمِعَ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ , أَوْ الَّذِي يَتَعَبَّدُ بِعِبَادَاتٍ بِدْعِيَّةٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ , فَيُغَيِّرُوا عَقْلَهُ أَوْ يَأْكُلَ بَنْجًا يُزِيلُ عَقْلَهُ , فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا أَزَالُوا بِهِ الْعُقُولَ , وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَجْلِبُ الْحَالَ الشَّيْطَانِيَّ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ . فَيَرْقُصَ رَقْصًا عَظِيمًا حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ , أَوْ يَغُطَّ وَيَخُورَ حَتَّى يَجِيئَهُ الْحَالُ الشَّيْطَانِيُّ , وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقْصِدُ التَّوَلُّهَ حَتَّى يَصِيرَ مُولِهًا , فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ , وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .(1/133)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُمْ مُكَلَّفُونَ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ , وَالْأَصْلُ مَسْأَلَةُ السَّكْرَانِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ , وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ مُكَلَّفًا , وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ , وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَالَ عَقْلُهُمْ بِمِثْلِ هَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ , وَمَنْ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ ذَكَرُوهُمْ بِخَيْرٍ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ . وَمِنْ عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ إذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّحْوِ تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ , لَا بِالْكُفْرِ وَالْبُهْتَانِ , بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ إذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ إفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَيَهْذِي فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْكُفْرِ , فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا لَا مُسْلِمًا .(1/134)
وَمَنْ كَانَ يَهْذِي بِكَلَامٍ لَا يُعْقَلُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ التُّرْكِيَّةِ أَوْ الْبَرْبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ لِبَعْضِ مَنْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ , وَيَحْصُلُ لَهُ وَجْدٌ يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى يَهْذِيَ بِكَلَامٍ لَا يُعْقَلُ , أَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ , فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ الشَّيْطَانُ , كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ . وَمَنْ قَالَ إنَّ هَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا , فَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ , وَأَذْهَبَ عُقُولَهُمْ , وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ بِمَا سَلَبَ , قِيلَ : قَوْلُك وَهَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَحْوَالًا كَلَامٌ مُجْمَلٌ , فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تَنْقَسِمُ إلَى : حَالٍ رَحْمَانِيٍّ , وَحَالٍ شَيْطَانٍ , وَمَا يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ بِمُكَاشَفَةٍ وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ , فَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ , وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ الرَّحْمَنِ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ , فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ فِي حَالِ عُقُولِهِمْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاهِبُ إيمَانِيَّةٌ , وَكَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ , فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ بِمَا سُلِبَ مِنْ الْعُقُولِ , وَإِنْ كَانَ مَا أُعْطُوهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ كَمَا يُعْطَاهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابُ وَالْمُنَافِقُونَ , فَهَؤُلَاءِ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ , كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُونَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى .(1/135)
كَمَا أَنَّ نَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَمَوْتَهُ وَإِغْمَاءَهُ لَا يُزِيلُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ مِنْ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ غَايَتُهُ أَنْ يَسْقُطَ التَّكْلِيفُ , وَرَفْعُ الْقَلَمِ لَا يُوجِبُ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا وَلَا ثَوَابًا , وَلَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِسَبَبِ زَوَالِ عَقْلِهِ مَوْهِبَةٌ مِنْ مَوَاهِبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ , وَلَا كَرَامَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ , بَلْ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ كَمَا قَدْ يُرْفَعُ الْقَلَمُ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَيِّتِ , وَلَا مَدْحَ فِي ذَلِكَ وَلَا ذَمَّ , بَلْ النَّائِمُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام يَنَامُونَ , وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ وَلَا مُوَلَّهٌ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ , وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ , وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ , وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ .(1/136)
وَأَمَّا الْجُنُونُ فَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ عَنْهُ , فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نَقَائِصِ الْإِنْسَانِ , إذْ كَمَالُ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ , وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ إزَالَةَ الْعَقْلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ , وَحَرَّمَ مَا يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى إزَالَةِ الْعَقْلِ , كَشُرْبِ الْخَمْرِ , فَحَرَّمَ الْقَطْرَةَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ تُزِلْ الْعَقْلَ ; لِأَنَّهَا ذَرِيعَةٌ إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ , الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ , فَكَيْفَ يَكُونُ مَعَ هَذَا زَوَالُ الْعَقْلِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مُقَرِّبًا إلَى وِلَايَةِ اللَّهِ , كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ : هُمْ مَعْشَرٌ حَلُّوا النِّظَامَ وَخَرَّفُوا السِّيَاجَ فَلَا فَرْضَ لَدَيْهِمْ وَلَا نَفْلُ مَجَانِينُ إلَّا أَنَّ سِرَّ جُنُونِهِمْ عَزِيزٌ عَلَى أَبْوَابِهِ يَسْجُدُ الْعَقْلُ فَهَذَا كَلَامُ ضَالٍّ بَلْ كَافِرٍ وَيَظُنُّ أَنَّ لِلْمَجْنُونِ سِرًّا يَسْجُدُ الْعَقْلُ عَلَى بَابِهِ , وَذَاكَ لِمَا رَآهُ مِنْ بَعْضِ الْمَجَانِينِ مِنْ نَوْعِ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَصَرُّفٍ عَجِيبٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ , وَيَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ , كَمَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ فَيَظُنُّ هَذَا الضَّالُّ , أَنَّ كُلَّ مَنْ كَاشَفَ أَوْ خَرَقَ عَادَةً كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ , وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .(1/137)
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ , فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَكُونُ لَهُمْ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِسَبَبِ شَيَاطِينِهِمْ أَضْعَافُ مَا لِهَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَضَلَّ وَأَكْفَرَ كَانَ الشَّيْطَانُ إلَيْهِ أَقْرَبَ , لَكِنْ لَا بُدَّ فِي جَمِيعِ مُكَاشَفَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ , وَلَا بُدَّ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنْ فُجُورٍ وَطُغْيَانٍ , كَمَا يَكُونُ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } , فَكُلُّ مَنْ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ , لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ كَانَ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ وَجُنْدُهُ الْغَالِبُونَ وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ .(1/138)
فَمَنْ اعْتَقَدَ فِيمَنْ لَا يَفْعَلُ الْفَرَائِضَ وَلَا النَّوَافِلَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ , إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ أَوْ جَهْلِهِ , أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ , فَمَنْ اعْتَقَدَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ , وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ كَافِرٌ , مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَإِذَا قَالَ : أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ , اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ , ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } . فَإِذَا كَانَ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ مَنْ تَرَكَ الْجُمَعَ - وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ - فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يُصَلِّي ظُهْرًا وَلَا جُمُعَةً وَلَا فَرِيضَةً وَلَا نَافِلَةً , وَلَا يَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى وَلَا الصُّغْرَى , فَهَذَا لَوْ كَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا , وَكَانَ قَدْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا بِمَا تَرَكَهُ , وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ .(1/139)
وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ , كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا , فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ } , أَيْ اسْتَوْلَى يُقَالُ : حَاذَ الْإِبِلَ حَوْذًا إذَا اسْتَقَاهَا , فَاَلَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَسَاقَهُمْ إلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ , قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } , أَيْ تُزْعِجُهُمْ إزْعَاجًا , فَهَؤُلَاءِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ : { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا يُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ } , فَأَيُّ ثَلَاثَةٍ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُؤَذَّنُ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ كَانُوا مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ , اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إلَّا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمْ .(1/140)
فَإِنْ كَانُوا عُبَّادًا زُهَّادًا وَلَهُمْ جُوعٌ وَسَهَرٌ وَصَمْتٌ وَخَلْوَةٌ , كَرُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ وَالْمُقِيمِينَ فِي الْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ , كَأَهْلِ جَبَلِ لُبْنَانَ , وَأَهْلِ جَبَلِ الْفَتْحِ , الَّذِي بِأُسْوَانَ , وَجَبَلِ لَيْسُونٍ , وَمَغَارَةِ الدَّمِ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ وَغَيْرِ ذَلِكَ , مِنْ الْجِبَالِ وَالْبِقَاعِ الَّتِي قَصَدَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ , وَيَفْعَلُونَ فِيهَا خَلَوَاتٍ وَرِيَاضِيَّاتٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَذَّنَ وَتُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ الْخَمْسُ , بَلْ يَتَعَبَّدُونَ بِعِبَادَاتٍ لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ , بَلْ يَعْبُدُونَهُ بِأَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ , مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِأَحْوَالِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَلَا قَصْدِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ , الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } الْآيَةَ . فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ , لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ , فَمَنْ شَهِدَ بِوِلَايَةِ اللَّهِ فَهُوَ شَاهِدُ زُورٍ كَاذِبٌ , وَعَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ نَاكِبٌ , ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ عَرَفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلرَّسُولِ , وَشَهِدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ , فَهُوَ مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . إمَّا مُكَذِّبٌ لِلرَّسُولِ , وَإِمَّا شَاكٌّ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُرْتَابٌ , وَإِمَّا غَيْرُ مُنْقَادٍ لَهُ , بَلْ مُخَالِفٌ لَهُ جُحُودًا وَعِنَادًا وَإِتْبَاعًا لِهَوَاهُ , وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ .(1/141)
وَأَمَّا إنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ , وَهُوَ مُعْتَقِدٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ , وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةَ , وَالْحَقَائِقَ الشَّيْطَانِيَّةَ هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ , وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِجَهْلِهِ بِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَحَقِيقَتِهِ , لَا لِقَصْدِ مُخَالَفَتِهِ , وَلَا يَرْجُو الْهُدَى فِي غَيْرِ مُتَابَعَتِهِ , فَهَذَا يُبَيَّنُ لَهُ الصَّوَابُ , وَيُعَرَّفُ مَا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ , فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ وَإِلَّا لَحِقَ بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ , وَكَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا وَلَا تُنْجِيهِ عِبَادَتُهُ وَلَا زَهَادَتُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ , كَمَا لَمْ يَنْجُ مِنْ ذَلِكَ الرُّهْبَانُ , وَعُبَّادُ الصُّلْبَانِ , وَعُبَّادُ النِّيرَانِ , وَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ , مَعَ كَثْرَةِ مَنْ فِيهِمْ مِمَّنْ لَهُ خَوَارِقُ شَيْطَانِيَّةٌ , وَمُكَاشَفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ , قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } , قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ .(1/142)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا الْحَرُورِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ , وَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } , فَالْأَفَّاكُ هُوَ الْكَذَّابُ , وَالْأَثِيمُ الْفَاجِرُ , كَمَا قَالَ : { لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } , وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ كَانَ كَاذِبًا , وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ , { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَتْ لَهُ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ وَقَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا , سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ , فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ , فَكَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ قَلَائِلَ , فَقَالَ لَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكَ : مَا أَنْتِ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْك آخِرُ الْأَجَلَيْنِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ بَلْ حَلَلْت فَانْكِحِي } . وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ : إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ عَامِرًا قَتَلَ نَفْسَهُ , وَحَبَطَ عَمَلُهُ , فَقَالَ : " كَذَبَ مَنْ قَالَهَا , إنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ " , وَكَانَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ , فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ , لَكِنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ , كَذَّبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .(1/143)
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ , وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ , فِيمَا يُفْتُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ : " إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ , وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَهُوَ مِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ " . فَإِذَا كَانَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ الْمَغْفُورُ لَهُ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ , فَكَيْفَ بِمَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ ؟ فَهَذَا خَطَؤُهُ أَيْضًا مِنْ الشَّيْطَانِ , مَعَ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ , وَالْمُجْتَهِدُ خَطَؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ . كَمَا أَنَّ الِاحْتِلَامَ وَالنِّسْيَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ , وَهُوَ مَغْفُورٌ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا اجْتِهَادٍ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ , فَهَذَا كَذِبٌ آثِمٌ فِي ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِلُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ , وَيُوحِي بِحَسَبِ مُوَافَقَتِهِ لَهُ , وَيُطْرَدُ بِحَسَبِ إخْلَاصِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لَهُ , قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } , وَعِبَادُهُ هُمْ الَّذِينَ عَبَدُوهُ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ , مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ , وَأَمَّا مَنْ عَبَدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ مِنْ عِبَادِ الشَّيْطَانِ , لَا مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ .(1/144)
قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ , وَأَنْ اُعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } , وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ , وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ , بَلْ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الصَّالِحِينَ . كَاَلَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ , وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَوَسَّلُونَ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِعِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ , قَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَك أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } . وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُقَارِنُهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَكُونَ سُجُودُ عُبَّادِ الشَّمْسِ لَهُ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ , وَسُجُودُهُمْ لِلشَّيْطَانِ , وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ دَعَوَاتِ الْكَوَاكِبِ الَّذِينَ يَدْعُونَ كَوْكَبًا مِنْ الْكَوَاكِبِ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيُنَاجُونَهُ , وَيَدْعُونَهُ , وَيَضَعُونَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْبَخُورِ وَالتَّسْبِيحَاتِ مَا يُنَاسِبُهُ , كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ الْمَشْرِقِيُّ , وَصَاحِبُ الشُّعْلَةِ النُّورَانِيَّةِ الْبَوْنِيُّ الْمَغْرِبِيُّ وَغَيْرُهُمَا .(1/145)
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحٌ تُخَاطِبُهُمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ الْأُمُورِ , وَتَقْضِي لَهُمْ بَعْضَ الْحَوَائِجِ , وَيُسَمَّوْنَ ذَلِكَ رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا مَلَائِكَةٌ , وَإِنَّمَا هِيَ شَيَاطِينُ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } . وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ , وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } , وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسَهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } , وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .(1/146)
فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ , وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قُيِّضَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ , فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ مَا تَابَعَهُ , وَإِنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلرَّحْمَنِ تَارَةً وَلِلشَّيْطَانِ أُخْرَى , كَانَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الرَّحْمَنَ , وَكَانَ فِيهِ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ وَالنِّفَاقِ , بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الشَّيْطَانَ , كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ : " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبُ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ , وَقَلْبُ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ , وَالْأَغْلَفُ قَلْبٌ يُلَفُّ عَلَيْهِ غِلَافٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } , وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ } , وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ , وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ مَادَّةُ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ , وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ , فَأَيُّهُمَا غَلَبَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ " , وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .(1/147)
فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْقَلْبَ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَشُعْبَةُ إيمَانٍ , فَإِذَا كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ , كَانَ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ وِلَايَتِهِ , وَشُعْبَةٌ مِنْ عَدَاوَتِهِ , وَلِهَذَا يَكُونُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ خَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ , وَتَقْوَاهُ تَكُونُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ , وَخَوَارِقُ مِنْ جِهَةِ نِفَاقِهِ وَعَدَاوَتِهِ تَكُونُ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ , وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمْ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ , وَالضَّالُّونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ , فَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَذَوْقَهُ وَوَجْدَهُ , مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ فَذَلِكَ مِنْ الضَّالِّينَ . نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ , صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ , وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ .(1/148)
315 - 3 - مَسْأَلَةٌ : قَالَ رَجُلٌ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } . وَقَالَ آخَرُ : إذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ وَاتَّبَعَ الشَّرْعَ دَخَلَ ضِمْنَ هَذَا الْحَدِيثِ , وَإِذَا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ وَزَادَ فِي دُنْيَاهُ , لَمْ يَدْخُلْ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ لَهُ نَاقِلُ الْحَدِيثِ : أَمَّا لَوْ فَعَلْتُ كُلَّ مَا لَا يَلِيقُ وَقُلْتُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ وَلَمْ أَدْخُلْ النَّارَ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ , وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالٍ : فَهُوَ ضَالٌّ , مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ , وَالسُّنَّةِ , وَإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ , وَهُمْ كَثِيرُونَ , بَلْ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ , وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونِ } .(1/149)
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } . وَلِمُسْلِمٍ : { وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .(1/150)
وَلَكِنْ إنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ , وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ , فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ , إذْ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ أَهْلِ السَّرِقَةِ , وَالزِّنَا , وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَشَهَادَةِ الزُّورِ , وَأَكْلِ الرِّبَا , وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ , وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ , فَإِنَّهُمْ إذَا عَذَّبَهُمْ فِيهَا عَذَّبَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ , كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ , مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلَى كَعْبَيْهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى حِقْوَيْهِ ; وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا أُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحِمَمِ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَكْتُوبٌ عَلَى رِقَابِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنْ النَّارِ . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ طَوِيلٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/151)
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْحَالِفِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ ; لَا مَنْ يُجَوِّزُ فِي الْحَلِفِ بِهِ كَفَّارَةً . أَوْ فَعَلَيَّ الْحَجُّ : عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُلْزِمُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ . أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا أَنِّي لَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ . أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَسْتَفْتِي مَنْ يُفْتِينِي بِحِلِّ يَمِينِي أَوْ رَجْعَةٍ فِي يَمِينِي . وَنَحْوِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَغْلُظُ فِيهَا اللُّزُومُ تَغْلِيظًا يُؤَكِّدُ بِهِ لُزُومَ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ الْحِنْثِ ; لِئَلَّا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ ; فَإِنَّ الْحَالِفَ عِنْدَ الْيَمِينِ يُرِيدُ تَأْكِيدَ يَمِينِهِ بِكُلَّمَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّأْكِيدِ , وَيُرِيدُ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُ , وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُخْرِجُ هَذِهِ الْعُقُودَ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَيْمَانًا مُكَفَّرَةً , وَلَوْ غَلَّظَ الْأَيْمَانَ الَّتِي شُرِعَ أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ بِمَا غُلِّظَ , وَلَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَحْنَثَ فِيهَا بِحَالٍ : فَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَرْعَ اللَّهِ . وَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ ; بَلْ مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ , وَالْيَمِينُ مَا زَادَتْهُ إلَّا تَوْكِيدًا .(1/152)
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا بِتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ , وَلَا بِفِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ ؟ , وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ : مِنْ الصَّلَاةِ , وَالزَّكَاةِ , وَالصِّيَامِ , وَالْحَجِّ , وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ , وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ , وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ , وَمُنَاصَحَتِهِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ , وَمُحَارَبَتِهِ , وَقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ , وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَانَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَاجِبَةً , وَهِيَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَوْجَبُ . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ الْيَمِينِ فَهُوَ بَعْدَ الْيَمِينِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا ; وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ يُبَايِعُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ , وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَلَوْ لَمْ يُبَايِعُوهُ , فَالْبَيْعَةُ أَكَّدَتْهُ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ . وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ السُّلْطَانِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَهَا وَلَوْ لَمْ يَحْلِفْ , فَكَيْفَ إذَا حَلَفَ ؟ , بَلْ لَوْ عَاقَدَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ عَلَى بَيْعٍ ; أَوْ إجَارَةٍ أَوْ نِكَاحٍ : لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ , وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْعَقْدِ فَكَيْفَ بِمُعَاقَدَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : مِنْ طَاعَتِهِمْ , وَمُنَاصَحَتِهِمْ , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ .(1/153)
فَكُلُّ عَقْدٍ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْيَمِينُ مُوَكِّدَةً لَهُ , وَلَوْ لَمْ يَجُزْ فَسْخُ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ , بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا , إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْيَمِينِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ حَرَامًا ; بَلْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ , وَمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَعَلَهُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا عَلَيْهِ , بَلْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَلَا يَفْعَلَهُ , وَلَوْ غَلَّظَ فِي الْيَمِينِ بِأَيِّ شَيْءٍ غَلَّظَهَا , فَأَيْمَانُ الْحَالِفِينَ لَا تُغَيِّرُ شَرَائِعَ الدِّينِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ بِيَمِينِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ , وَلَا يُوجِبُ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ . هَذَا هُوَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .(1/154)
وَأَمَّا شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ فَكَانَ فِي شَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ شَيْئًا حَرُمَ عَلَيْهِ , وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَن شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَةٌ , فَقَالَ تَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } فَإِسْرَائِيلُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَحَرُمَ عَلَيْهِ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك تَبْتَغِي مَرْضَاتِ أَزْوَاجِك وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ , قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . وَهَذَا الْفَرْضُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ , وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ , لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(1/155)
وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا كَفَّارَةٌ بَلْ كَانَتْ الْيَمِينُ تُوجِبُ عَلَيْهِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَمَرَ اللَّهُ أَيُّوبَ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ وَلَا يَحْنَثَ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , وَلَوْ كَانَ فِي شَرْعِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبِ امْرَأَتِهِ وَلَوْ بِضِغْثٍ ; فَإِنَّ أَيُّوبَ كَانَ قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ; لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا يُوجِبُونَهُ بِالْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ , كَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمْ كَالنَّذْرِ . وَالْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ قَدْ يُرَخَّصُ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ , كَمَا يُرَخَّصُ فِي الْجِلْدِ الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ ; بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِيَمِينِهِ فِي شَرْعِنَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشَّرْعِ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ , وَلَهُ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا بِالْكَفَّارَةِ . وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَائِنَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْأَيْمَانَ مَنْ مَا لَا مَخْرَجَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ بَلْ يَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَهُ , فَظَنُّوا أَنَّ شَرْعَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَشَرْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ احْتَاجُوا إلَى الِاحْتِيَالِ فِي الْأَيْمَانِ : إمَّا فِي لَفْظِ الْيَمِينِ , وَإِمَّا بِخَلْعِ الْيَمِينِ , وَإِمَّا بِدَوْرِ الطَّلَاقِ , وَإِمَّا يُجْعَلُ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ .(1/156)
وَإِنْ غُلِبُوا عَنْ هَذَا كُلِّهِ دَخَلُوا فِي التَّحْلِيلِ ; وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ , وَمَا وَضَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ , الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .(1/157)
وَصَارَ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ هُوَ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , وَمَا أُحْدِثَ غَيْرُهُ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ مَعَ شَرْعِهِ ; وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لَهُمْ سَعْيٌ مَشْكُورٌ وَعَمَلٌ مَبْرُورٌ , وَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى ذَلِكَ مُثَابُونَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ فَأَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ : مَنْ أَصَابَ هَذَا الْقَوْلَ فَلَهُ أَجْرَانِ , وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَّا إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ ; وَالْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِسُنَّتِهِ مَعَ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ سَهْلٍ مُخَصَّبٍ يُوصِلُ إلَى الْمَقْصُودِ , وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ , وَفِيهَا وُعُورَةٌ , وَفِيهَا حُدُوثَهُ . فَصَاحِبُهَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْجَهْدِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَلِهَذَا أَذَاعُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ مِنْ لُزُومِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : مِنْ الْقَطِيعَةِ , وَالْفُرْقَةِ ; وَتَشْتِيتِ الشَّمْلِ , وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ , وَمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ وَالسَّحَرَةُ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَظْهَرُ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ لِكُلِّ عَاقِلٍ . ثُمَّ إمَّا أَنْ يَلْزَمُوا هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَيَدْخُلُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ .(1/158)
وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي مُنْكَرَاتِ أَهْلِ الِاحْتِيَالِ , وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِمَا أَغْنَاهُمْ بِهِ مِنْ الْحَلَالِ . فَالطُّرُقُ ثَلَاثَةٌ : إمَّا الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَهِيَ طَرِيقُ أَفَاضِلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ , وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ . وَإِمَّا طَرِيقَةُ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ , وَإِنْ كَانَ مَنْ سَلَكَهَا مِنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ , وَهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أُتُوا بِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . وَهَذَا كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إذَا أَدَّى اجْتِهَادُ كُلِّ فِرْقَةٍ إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ : فَكُلُّهُمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقِيمُونَ لِلصَّلَاةِ ; لَكِنَّ الَّذِي أَصَابَ الْقِبْلَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ أَجْرَانِ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ : بِمَعْنَى أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ ; وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ .(1/159)
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَكْفِيرَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ هُوَ مُكَفَّرٌ , وَلَوْ غَلَّظَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ غُلِّظَ , وَلَوْ الْتَزَمَ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ ; فَإِنَّ الْتِزَامَهُ أَنْ لَا يُكَفِّرَهُ الْتِزَامٌ لِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; بَلْ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ . فَهَذَا الْمُلْتَزِمُ لِهَذَا الِالْتِزَامِ الْغَلِيظِ هُوَ يَكْرَهُ لُزُومَهُ إيَّاهُ , وَكُلَّمَا غُلِّظَ كَانَ لُزُومُهُ لَهُ أَكْرَهُ إلَيْهِ ; وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ لِقَصْدِهِ الْحَظْرَ وَالْمَنْعَ ; لِيَكُونَ لُزُومُهُ لَهُ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ ; لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِقَصْدِ لُزُومِهِ إيَّاهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ ; فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ يُنَاقِضُ عَقْدَ الْيَمِينِ ; فَإِنَّ الْحَالِفَ لَا يَحْلِفُ إلَّا بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ ; وَلَا يَحْلِفُ قَطُّ إلَّا بِالْتِزَامِهِ مَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ , فَلَا يَقُولُ حَالِفٌ إنْ فَعَلْتُ كَذَا غَفَرَ اللَّهُ لِي , وَلَا أَمَاتَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ ; بَلْ يَقُولُ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ , أَوْ نَصْرَانِيٌّ , أَوْ نِسَائِي طَوَالِقُ , أَوْ عَبِيدِي أَحْرَارٌ . أَوْ كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ , أَوْ عَلَيَّ عَشْرُ حِجَجٍ حَافِيًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , أَوْ فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , أَوْ فَعَلَيَّ كَذَا عَلَى أَغْلَظِ قَوْلٍ .(1/160)
وَقَدْ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : عَلَيَّ أَنْ لَا أَسْتَفْتِيَ مَنْ يُفْتِينِي بِالْكَفَّارَةِ , وَيَلْتَزِمُ عِنْدَ غَضَبِهِ مِنْ اللَّوَازِمِ مَا يَرَى أَنَّهُ لَا مَخْرَجَ لَهُ مِنْهُ إذَا حَنِثَ . لِيَكُونَ لُزُومُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ , وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ قَطُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ اللَّوَازِمِ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ أَوْ لَمْ يَقَعْ , وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ الْتَزَمَهَا لِاعْتِقَادِهِ لُزُومَهَا إيَّاهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَأَنْ يَلْتَزِمَهُ ; لَا مَعَ إرَادَتِهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ , وَهَذَا هُوَ الْحَالِفُ , وَاعْتِقَادُ لُزُومِ الْجَزَاءِ غَيْرُ قَصْدِهِ لِلُزُومِ الْجَزَاءِ . فَإِنْ قَصَدَ لُزُومَ الْجَزَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ : لَزِمَهُ مُطْلَقًا ; وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ الْأَمْرَ , أَوْ إذَا فَعَلَ هُوَ ذَلِكَ الْأَمْرَ , فَقَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا تَفْعَلِينَ كَذَا . وَقَصْدُهُ أَنَّهَا تَفْعَلُهُ فَتَطْلُقُ : لَيْسَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْهَاهَا عَنْ الْفِعْلِ , وَلَا هُوَ كَارِهٌ لِطَلَاقِهَا ; بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِطَلَاقِهَا : طَلُقَتْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ , وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ حَالِفًا ; بَلْ هُوَ مُعَلِّقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ , وَمَعْنَى كَلَامِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْإِيقَاعَ , فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ هُنَا عِنْدَ الْحِنْثِ فِي اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ . وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ التَّعْلِيقِ .(1/161)
وَالطَّلَاقُ هُنَا إنَّمَا وَقَعَ عِنْدَ الشَّرْطِ الَّذِي قَصَدَ إيقَاعَهُ عِنْدَهُ ; لَا عِنْدَ مَا هُوَ حِنْثٌ فِي الْحَقِيقَةِ ; إذْ الِاعْتِبَارُ بِقَصْدِهِ وَمُرَادِهِ ; لَا بِظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ : فَهُوَ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } . وَالسَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَجَمَاهِيرُ الْخَلَفِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الطَّلَاقُ فَهُوَ طَلَاقٌ , وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا . وَلَيْسَ لِلطَّلَاقِ عِنْدَهُمْ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ ; فَلِهَذَا يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ . وَلَفْظُ الصَّرِيحِ عِنْدَهُمْ كَلَفْظِ الطَّلَاقِ لَوْ وَصَلَهُ بِمَا يُخْرِجُهُ عَنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْت طَالِقٌ مِنْ وِثَاقِ الْحَبْسِ , أَوْ مِنْ الزَّوْجِ الَّذِي كَانَ قَبْلِي وَنَحْوُ ذَلِكَ .(1/162)
760 - 114 - سُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ آخَرُ : إذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْحَمِيدَةَ وَاتَّبَعَ الشَّرْعَ دَخَلَ ضِمْنَ هَذَا الْحَدِيثِ , وَإِذَا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ وَزَادَ فِي دُنْيَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ لَهُ نَاقِلُ الْحَدِيثِ : أَنَا لَوْ فَعَلْت كُلَّ مَا لَا يَلِيقُ ; وَقُلْت لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ : دَخَلْت الْجَنَّةَ وَلَمْ أَدْخُلْ النَّارَ ؟ فَأَجَابَ رحمه الله : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ بِحَالٍ فَهُوَ ضَالٌّ , مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ : فَإِنَّهُ قَدْ تَلَفَّظَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ , وَهُمْ كَثِيرُونَ ; بَلْ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ; وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } .(1/163)
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسْقِينَ , وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إلَى قَوْلِهِ { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } , وَلِمُسْلِمٍ { وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ; وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ; وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .(1/164)
وَلَكِنْ إنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ ; إذْ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لَكِنْ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ " فُسَّاقِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ " مِنْ أَهْلِ السَّرِقَةِ , وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَكْلِ الرِّبَا وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ; وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ , فَإِنَّهُمْ إذَا عُذِّبُوا فِيهَا عَذَّبَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ , كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ { مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى رُكْبَتَيْهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إلَى حَقْوَيْهِ } وَمَكَثُوا فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا أُخْرِجُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحِمَمِ ; فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ , وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَكْتُوبٌ عَلَى رِقَابِهِمْ , هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنْ النَّارِ " وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/165)
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً وَشَرَطَ لِأَهْلِهَا أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ فَكَأَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ , وَلَكِنَّهُمْ إنْ اشْتَرَطُوا لَهُ إنْ بَاعَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ فَلَا يَقْرَبُهَا , يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , فَقَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ بَيْعَهَا لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَالْمُقَابَلَةِ . وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبْطِلِ لِهَذَا الشَّرْطِ , وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : جَائِزٌ أَيْ الْعَقْدُ جَائِزٌ وَبَقِيَّةُ نُصُوصِهِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ مُرَادَهُ الشَّرْطُ أَيْضًا , وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ الْقِصَّةَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَكَذَلِكَ اُشْتُرِطَ الْمَبِيعُ فَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَهَبُهُ أَوْ يَتَسَرَّاهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ يُعَيَّنُ لِصَرْفٍ وَاحِدٍ , كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صُهَيْبٍ دَارًا , وَشَرَطَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى صُهَيْبٍ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ , وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ يُسْتَفَادُ بِهِ تَصَرُّفَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ . فَكَمَا أَجَازَ الْإِجْمَاعُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ الْمَبِيعِ , وَجَوَّزَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنَافِعِهِ جَوَّزَ أَيْضًا اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ .(1/166)
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ هَذَا الشَّرْطُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُطْلَقًا فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَكُلُّ شَرْطٍ كَذَلِكَ , وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِيَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ , وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ أَنْ يُنَافِيَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ , أَوْ اشْتِرَاطِ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ . فَأَمَّا إذَا شَرَطَ شَرْطًا بِقَصْدٍ بِالْعَقْدِ لَمْ يُنَافِ مَقْصُودَهُ , هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ , بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ , وَالسُّنَّةِ , وَالْإِجْمَاعِ , وَالِاعْتِبَارُ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ وَالدَّلِيلِ النَّافِي . أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } , وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } . وَقَالَ : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } . فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَهَذَا عَامٌّ , وَكَذَلِكَ أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَبِالْعَهْدِ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ , بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } .(1/167)
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَمَرَ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْعُهُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَالْبَيْعِ , وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ , وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِالصِّدْقِ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } ; لِأَنَّ الْعَدْلَ فِي الْقَوْلِ خَبَرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ , فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ , فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } .(1/168)
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ تَسَاءَلُونَ بِهِ تَتَعَاهَدُونَ وَتَتَعَاقَدُونَ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَطْلُبُ مِنْ الْآخَرِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَجَمَعَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَسَائِرِ السُّورَةِ أَحْكَامَ الْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَ بَنِي آدَمَ الْمَخْلُوقَةِ , كَالرَّحِمِ وَالْمَكْسُوبَةِ كَالْعُقُودِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا الْمَهْرُ وَمَالُ الْيَتِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ , وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ } .(1/169)
إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ } وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ , وَكُلُّ عَقْدٍ فَإِنَّهُ يَمِينٌ , قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَهُ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْيَمِينِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } وَإِلًّا هُوَ الْقَرَابَةُ وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ , وَهُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ : { تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } , فَذَمَّهُمْ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَنَقْضِ الذِّمَّةِ , إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ } . وَهَذِهِ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ لَمَّا صَالَحَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ , ثُمَّ نَقَضُوا الْعَهْدَ بِإِعَانَةِ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ .(1/170)
وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } فَتِلْكَ عُهُودٌ جَائِزَةٌ لَا لَازِمَةٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ مُطْلَقَةً وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَائِهَا وَنَقْضِهَا كَالْوَكَالَةِ وَنَحْوِهَا , وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتَةً فَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَدَ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَتَرُدُّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْثَرِ الْمُعَاهَدِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ مَعَهُمْ وَقْتًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُؤَقَّتًا فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ لَهُ نَقْضُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } . وَقَالَ : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } . فَإِنَّمَا أَبَاحَ النُّبْذَةَ عِنْدَ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْخِيَانَةِ ; لِأَنَّهُ الْمَحْذُورُ مِنْ جِهَتِهِمْ , وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } . وَجَاءَ أَيْضًا فِي صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ الَّذِي تُسْتَحَبُّ تِلَاوَتُهُ فِي سُورَةٍ كَانَتْ كَبَرَاءَةٍ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } .(1/171)
سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } . فِي سُورَتَيْنِ , وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُسْتَثْنَيْنَ مِنْ الْهَلُوعِ الْمَذْمُومِ , بِقَوْلِهِ : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا , إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا , وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا , إلَّا الْمُصَلِّينَ , الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ , وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ , لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } , وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ الْمَذْمُومِ إلَّا مَنْ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ , وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِي أَوَّلِهَا : { أُولَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ } . فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَارِثِينَ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْحَصْرُ فَإِنَّ إدْخَالَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَارِثِي الْجَنَّةِ كَانَ مُعَرَّضًا لِلْعُقُوبَةِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ , فَإِذَا كَانَتْ رِعَايَةُ الْعَهْدِ وَاجِبَةً فَرِعَايَتُهُ الْوَفَاءُ بِهِ , وَلَمَّا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ , جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ضِدَّ ذَلِكَ صِفَةَ الْمُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ : { إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .(1/172)
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } . فَذَمَّهُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فَذَمَّهُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ , وَقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِصِلَتِهِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ إمَّا بِالشَّرْعِ وَإِمَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي عَقَدَهُ الْمَرْءُ . وَقَالَ أَيْضًا : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَاَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } . وَقَالَ : { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْك وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْك إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } إلَى قَوْلِهِ : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ } الْآيَةَ , وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } .(1/173)
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا : فِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } , وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ , أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرَةً مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ , قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : { اُغْزُوا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ اُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا , وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك , فَاقْبَلْ مِنْهُمْ , وَكُفَّ عَنْهُمْ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ , وَكُفَّ عَنْهُمْ } الْحَدِيثَ .(1/174)
فَنَهَاهُمْ عَنْ الْغَدْرِ كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْغُلُولِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لَمَّا سَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ يَغْدِرُ ؟ قَالَ : لَا يَغْدِرُ وَنَحْنُ مَعَهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا , قَالَ : وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةً أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ , وَقَالَ هِرَقْلُ فِي جَوَابِهِ : سَأَلْتُك هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْت أَنْ لَا يَغْدِرَ , وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ , فَجَعَلَ هَذَا صِفَةً لَازِمَةً . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بَعْدَ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } , فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّرُوطِ الْوَفَاءُ وَأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِهَا , وَرَوَى الْبُخَارِيُّ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ , وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ , وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } , فَذَمَّ الْغَادِرَ وَكُلَّ مَنْ شَرَطَ شَرْطًا ثُمَّ نَقَضَهُ فَقَدْ غَدَرَ .(1/175)
فَقَدْ جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْعُقُودِ , وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَرِعَايَةِ ذَلِكَ , وَالنَّهْيِ عَنْ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرَ وَالْفَسَادَ , إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرَ بِهَا مُطْلَقًا وَيُذَمَّ مَنْ نَقَضَهَا وَغَدَرَ مُطْلَقًا . كَمَا أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرَ إلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ أَوْ أَوْجَبَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَيُحْمَلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ , بِخِلَافِ مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ مُطْلَقًا , وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ فَيُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ , وَعَنْ الصَّدَقَةِ بِمَا يَضُرُّ النَّفْسَ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ فِي الْحَدِيثِ مَأْمُورٌ بِهِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْرُمُ الصِّدْقُ أَحْيَانًا لِعَارِضٍ , وَيَجِبُ السُّكُوتُ وَالتَّعْرِيضُ , وَإِذَا كَانَ حُسْنُ الْوَفَاءِ وَرِعَايَةُ الْعَهْدِ مَأْمُورًا بِهِ , عُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ , إذْ لَا مَعْنَى لِلتَّصْحِيحِ إلَّا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ , وَمَقْصُودُهُ هُوَ الْوَفَاءُ بِهِ , وَإِذَا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ أَمَرَ بِمَقْصُودِ الْعُهُودِ , دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّحَّةُ وَالْإِبَاحَةُ .(1/176)
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد , والدارقطني , مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ , حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ , عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } . وَكَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةٍ هُوَ ثِقَةٌ , وَضَعَّفَهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى , وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , وَعَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا } . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْهُ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ لَكِنَّ كَثِيرَ بْنَ عَمْرٍو ضَعَّفَهُ الْجَمَاعَةُ وَضَرَبَ أَحْمَدُ عَلَى حَدِيثِهِ فِي الْمُسْنَدِ فَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ , فَلَعَلَّ تَصْحِيحَ التِّرْمِذِيِّ لَهُ لِرِوَايَتِهِ مِنْ وُجُوهٍ , فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّلْمَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَتْ الْحَقَّ } .(1/177)
هَذِهِ الْأَسَانِيدُ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهَا ضَعِيفًا فَاجْتِمَاعُهَا مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا , هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمَذْهَبِ , فَإِنَّ الْمُشْتَرِطَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِيحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا يُحَرِّمُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ , فَإِنَّ شَرْطَهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ إبْطَالًا لِحُكْمِ اللَّهِ , وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ , وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِطُ لَهُ أَنْ يُوجِبَ بِالشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِدُونِهِ , فَمَقْصُودُ الشُّرُوطِ وُجُوبُ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَا حَرَامًا وَعَدَمُ الْإِيجَابِ لَيْسَ نَفْيًا لِلْإِيجَابِ حَتَّى يَكُونَ الْمُشْتَرِطُ مُنَاقِضًا لِلشَّرْعِ , وَكُلُّ شَرْطٍ صَحِيحٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ وُجُوبَ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا , وَيُبَاحُ أَيْضًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا , وَيُحَرِّمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا , وَكَذَلِكَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَآجِرَيْنِ وَالْمُتَنَاكِحِينَ , وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَ صِفَةً فِي الْمَبِيعِ أَوْ رَهْنًا أَوْ اشْتَرَطَتْ الْمَرْأَةُ زِيَادَةً عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا , فَإِنَّهُ يَجِبُ وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ , وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْهَمَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَصْلَ فَسَادُ الشُّرُوطِ , قَالَ : لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تُبِيحَ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ تُوجِبَ سَاقِطًا أَوْ تُسْقِطَ وَاجِبًا , وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّارِعِ , وَقَدْ وَرَدَتْ شُبْهَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى تُوُهِّمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَنَاقِضٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ كُلُّ مَا كَانَ(1/178)
حَرَامًا بِدُونِ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ لَا يُبِيحُهُ كَالزِّنَا وَكَالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ , وَكَثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ , فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْوَطْءَ , إلَّا بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ ,
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ : { أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ , وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْهُ الصَّلَاةُ } , وَحَدَّثَ عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ مِنْ الْقُلُوبِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } فَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ , أَوْ ثَلَاثَةً , ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْدَهُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ , وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ , وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ , وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ , وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحِيَلِ يَفْتَحُ بَابَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ , فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ لَا يَتِمُّ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الرَّجُلَانِ عَلَى عَقْدٍ يُظْهِرَانِهِ وَمَقْصُودُهُمَا أَمْرٌ آخَرُ , كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّمْلِيكِ لِلْوَقْفِ , وَكَمَا فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ , وَحِيَلِ الْمَنَاكِحِ , وَذَلِكَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ إنْ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا .(1/179)
وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فَقَدْ جُوِّزَتْ الْخِيَانَةُ وَالْكَذِبُ فِي الْمُعَامَلَاتِ , وَلِهَذَا لَا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحِيَلَ خَوْفًا مِنْ مَكْرِهِ , وَإِظْهَارِهِ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } , وَالْمُحْتَالُ غَيْرُ مَأْمُونٍ , وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ : فَكَيْفَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : تَأْخُذُ مَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ وَتُقْبِلُ عَلَى خَاصَّتِكَ وَتَدَعُهُمْ وَعَوَامَّهُمْ } .(1/180)
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ , وَالْحِيَلُ تُوجِبُ مَرْجَ الْعُهُودِ وَالْأَمَانَاتِ وَهُوَ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا , فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا سَوَّغَ لَهُ مَنْ يُعَاهِدُ عَهْدًا , ثُمَّ لَا يَفِي بِهِ , أَوْ أَنْ يُؤْمَنَ عَلَى شَيْءٍ فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ ارْتَفَعَتْ الثِّقَةُ بِهِ وَأَمْثَالِهِ , وَلَمْ يُؤْمَنْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ , وَمَنْ تَأَمَّلَ حِيَلَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَحَلُّوا بِهَا الْمَحَارِمَ , وَدَخَلُوا بِهَا فِي الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ , وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَهَا عَهْدٌ وَلَا أَمَانَةٌ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الِاحْتِيَالَ وَالتَّأْوِيلَاتِ أَوْجَبَ عِظَمَ ذَلِكَ , وَعَلِمَ خُرُوجَ أَهْلِ الْحِيَلِ مِنْ قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } , وَقَوْلِهِ : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } وَمُخَالَفَتَهُمْ لقوله تعالى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } , وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } , وقوله تعالى : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } , وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَدُخُولَهُمْ فِي قوله تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَدُخُولَهُمْ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ }(1/181)
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَهَذَا الْوَجْهُ مِمَّا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه قَالَ : عَجِبْت مِمَّا يَقُولُونَ فِي الْحِيَلِ وَالْأَيْمَانِ يُبْطِلُونَ الْأَيْمَانَ بِالْحِيَلِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ وَأَمْرُ هَذِهِ الْحِيَلِ , وَاسْتِقْصَاءُ هَذَا يَطُولُ . وَإِنَّمَا الْقَصْدُ التَّنْبِيهُ - وَتَمَامُ هَذَا فِي :
وفي إعلام الموقعين :(1/182)
فَصْلٌ [ الْأَصْلِيُّ فِي الشُّرُوطِ الصِّحَّةُ أَوْ الْفَسَادُ ؟ ] الْخَطَأُ الرَّابِعُ لَهُمْ : اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ , فَإِذَا لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ اسْتَصْحَبُوا بُطْلَانَهُ , فَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَعُقُودِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ بِلَا بُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ , وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الصِّحَّةُ إلَّا مَا أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ أَوْ نَهَى عَنْهُ , وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهَا حُكْمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَلَا تَأْثِيمَ إلَّا مَا أَثَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَاعِلَهُ , كَمَا أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ , وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ , وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ , فَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبُطْلَانُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ , وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الصِّحَّةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْبُطْلَانِ وَالتَّحْرِيمِ .(1/183)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ , فَإِنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ , وَحَقُّهُ الَّذِي أَحَقَّهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَعَهُ , وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَهِيَ عَفْوٌ حَتَّى يُحَرِّمَهَا , وَلِهَذَا نَعَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ - وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ , وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ - وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - لَوْ سَكَتَ عَنْ إبَاحَةِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ , فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ , وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ , وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ , فَكُلُّ شَرْطٍ وَعَقْدٍ وَمُعَامَلَةٍ سَكَتَ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا , فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْهَا رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ وَإِهْمَالٍ , فَكَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا مَا حَرَّمَهُ ؟ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ كُلِّهَا , فَقَالَ - تَعَالَى - : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } وَقَالَ - تَعَالَى - : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا } وَقَالَ - تَعَالَى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَقَالَ : { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ(1/184)
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا , إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ , فَيُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ } وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهَا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : { بَعَثَنِي قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَاَللَّهِ إنِّي لَا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبَدًا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ , وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ , وَلَكِنْ ارْجِعْ إلَيْهِمْ , فَإِنْ كَانَ فِي(1/185)
نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ قَالَ : فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمْتُ , } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { حُذَيْفَةَ قَالَ : مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٍ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا : إنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا : مَا نُرِيدُهُ , مَا نُرِيدُ إلَّا الْمَدِينَةَ , فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ , فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ , فَقَالَ : انْصَرَفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِي بَيْتِهَا , فَقَالَتْ : تَعَالَ أُعْطِكَ , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ ؟ فَقَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْرًا , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَمَا إنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةً } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ , وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ , وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } . {(1/186)
وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يُوفِيَ بِالنَّذْرِ الَّذِي نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اعْتِكَافِهِ لَيْلَةً عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهَذَا عَقْدٌ كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ } . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : ثنا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : وَأْيُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبٌ } قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَأَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ : وَلَا تَعِدْ أَخَاكَ عِدَةً وَتُخْلِفْهُ , فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً } قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَأَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَذَا لَكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَهِيَ كَذْبَةٌ } وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ يَرْفَعُهُ : { الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ { النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَ الْحَقَّ } وَلَيْسَتْ الْعُمْدَةُ عَلَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ , بَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .(1/187)
فَصْلٌ [ أَجْوِبَةُ الْمَانِعِينَ ] وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يُجِيبُونَ عَنْ هَذِهِ الْحُجَجِ : تَارَةً بِنَسْخِهَا , وَتَارَةً بِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ الْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ , وَتَارَةً بِالْقَدْحِ فِي سَنَدِ مَا يُمْكِنُهُمْ الْقَدْحُ فِيهِ , وَتَارَةً بِمُعَارَضَتِهَا بِنُصُوصٍ أُخَرَ , كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ , مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ , كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ , وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ } " وَكَقَوْلِهِ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْآيَةِ .(1/188)
قَالُوا : فَصَحَّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ إبْطَالُ كُلِّ عَهْدٍ وَعَقْدٍ وَوَعْدٍ وَشَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ أَوْ النَّصُّ عَلَى إبَاحَتِهِ , قَالُوا : وَكُلُّ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ لَيْسَ فِي النُّصُوصِ إيجَابُهُ وَلَا الْإِذْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ الْتَزَمَ فِيهِ إبَاحَةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , أَوْ تَحْرِيمَ مَا أَبَاحَهُ , أَوْ إسْقَاطَ مَا أَوْجَبَهُ , أَوْ إيجَابَ مَا أَسْقَطَهُ , وَلَا خَامِسَ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ أَلْبَتَّةَ , فَإِنْ مَلَّكْتُمْ الْمُشْتَرِطَ وَالْمُعَاقِدَ وَالْمُعَاهِدَ جَمِيعَ ذَلِكَ انْسَلَخْتُمْ مِنْ الدِّينِ , وَإِنْ مَلَّكْتُمُوهُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ تَنَاقَضْتُمْ , وَسَأَلْنَاكُمْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ ؟ وَلَنْ تَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا فَصْلٌ [ رَدُّ الْجُمْهُورِ عَلَى أَجْوِبَةِ الْمَانِعِينَ ] قَالَ الْجُمْهُورُ : أَمَّا دَعْوَاكُمْ النَّسْخَ فَإِنَّهَا دَعْوَى بَاطِلَةٌ تَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللَّهِ , وَلَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهَا , وَتَجِبُ مُخَالَفَتُهَا , وَلَيْسَ مَعَكُمْ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ بِذَلِكَ , فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ , وَأَيْنَ الْتِجَاؤُكُمْ إلَى الِاسْتِصْحَابِ وَالتَّسَبُّبِ بِهِ مَا أَمْكَنَكُمْ ؟ . وَأَمَّا تَخْصِيصُهَا فَلَا وَجْهَ لَهُ , وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُمُومِ , وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا بِبُرْهَانٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَأَمَّا ضَعْفُ بَعْضِهَا مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ فَلَا يَقْدَحُ فِي سَائِرِهَا , وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُمْدَةً .(1/189)
وَأَمَّا مُعَارَضَتُهَا بِمَا ذَكَرْتُمْ فَلَيْسَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَعَارُضٌ , وَهَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : " مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنَ قَطْعًا , فَإِنَّ أَكْثَرَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ , بَلْ عُلِمَتْ مَنْ السُّنَّةِ , فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ حُكْمُهُ كَقَوْلِهِ : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { : كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فِي كَسْرِ السِّنِّ } فَكِتَابُهُ - سُبْحَانَهُ - يُطْلَقُ عَلَى كَلَامِهِ وَعَلَى حُكْمِهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فَيَكُونُ بَاطِلًا , فَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ , فَشَرْطُ خِلَافِ ذَلِكَ يَكُونُ شَرْطًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ , وَلَكِنْ أَيْنَ فِي هَذَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ يَكُونُ بَاطِلًا حَرَامًا ؟ وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ هُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ أَوْ إبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ أَوْ إسْقَاطُ مَا أَوْجَبَهُ , لَا إبَاحَةُ مَا سَكَتَ عَنْهُ وَعَفَا عَنْهُ , بَلْ تَحْرِيمُهُ هُوَ نَفْيُ تَعَدِّي حُدُودِهِ .(1/190)
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ تَضَمُّنِ الشَّرْطِ لِأَحَدِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فَفَاتَكُمْ قِسْمٌ خَامِسٌ وَهُوَ الْحَقُّ , وَهُوَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لِلْمُكَلَّفِ تَنْوِيعَ أَحْكَامِهِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي مَلَّكَهُ إيَّاهَا , فَيُبَاشِرُ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُحِلُّهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ , أَوْ يُحَرِّمُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَلَالًا لَهُ , أَوْ يُوجِبُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا , أَوْ يُسْقِطُ [ وُجُوبَهُ ] بَعْدَ وُجُوبِهِ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِأَحْكَامِهِ , بَلْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ , فَهُوَ الَّذِي أَحَلَّ وَحَرَّمَ وَأَوْجَبَ وَأَسْقَطَ , وَإِنَّمَا إلَى الْعَبْدِ الْأَسْبَابُ الْمُقْتَضِيَةُ لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ لَيْسَ إلَّا , فَكَمَا أَنَّ شِرَاءَ الْأَمَةِ وَنِكَاحَ الْمَرْأَةِ يُحِلُّ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَهُ وَطَلَاقُهَا وَبَيْعُهَا بِالْعَكْسِ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ وَيُسْقِطُ عَنْهُ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِهَا , كَذَلِكَ الْتِزَامُهُ بِالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ وَالنَّذْرِ وَالشَّرْطِ , فَإِذَا مَلَكَ تَغْيِيرَ الْحُكْمِ بِالْعَقْدِ مَلَكَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ تَابِعٌ لَهُ , وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَأَبَاحَ التِّجَارَةَ الَّتِي تَرَاضَى بِهَا الْمُتَبَايِعَانِ , فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى شَرْطٍ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ جَازَ لَهُمَا ذَلِكَ , وَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ وَإِلْزَامُهُمَا بِمَا لَمْ يَلْتَزِمَاهُ وَلَا أَلْزَمَهُمَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِهِ , وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُمَا بِمَا لَمْ يُلْزِمْهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ وَلَا هُمَا الْتَزَمَاهُ , وَلَا إبْطَالُ(1/191)
مَا شَرَطَاهُ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمَا شَرْطَهُ , وَمُحَرِّمُ الْحَلَالِ كَمُحَلِّلِ الْحَرَامِ , فَهَؤُلَاءِ أَلْغَوْا مِنْ شُرُوطِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَا لَمْ يُلْغِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْقِيَاسِيِّينَ فَاعْتَبَرُوا مِنْ شُرُوطِ الْوَاقِفِينَ مَا أَلْغَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ , بَلْ الصَّوَابُ إلْغَاءُ كُلِّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ , وَاعْتِبَارُ كُلِّ شَرْطٍ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وفي الآداب الشرعية :(1/192)
فَصْلٌ ( فِي الْبُهْتِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالنِّفَاقِ ) . وَيَحْرُمُ الْبُهْتُ وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَكَلَامُ ذِي الْوَجْهَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ , فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا ابْن الْمُصَفَّى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَا ثنا صَفْوَانُ حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ عَنْ بَقِيَّةَ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد . وَرَوَى أَحْمَدُ حَدِيثَ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ صَفْوَانَ كَمَا سَبَقَ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ . وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ : لَا يَذْكُرُ فِي النَّاسِ مَا يَكْرَهُونَهُ إلَّا سِفْلَةٌ لَا دِينَ لَهُ .(1/193)
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زُهَيْرٍ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { : إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَمِنْ الْكَبَائِرِ السَّبَّتَانِ بِالسَّبَّةِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَذَكَرَ الْقُرَظِيّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْغِيبَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدِّينِ لَا فِي الْخِلْقَةِ وَالْحَسَبِ , وَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا عَكْسَ هَذَا , وَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَكِنْ قَيْدُ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَوَّلِ إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَيْبِ , وَأَنَّهُ لَا خِلَافُ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَفِي الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ قَوْلَ عَائِشَةَ عَنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا قَصِيرَةٌ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ } . وَعَنْ هَمَّامٍ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَرْفَعُ إلَى عُثْمَانَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ يَعْنِي : نَمَّامًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْمُسْنَدُ مِنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا { إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .(1/194)
وَلَهُمَا { وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ } وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ } وَهَذَا ; لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا , وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا , وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ تَعَالَى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } . أَيْ : مَقْطُوعَةٌ مُمَالَةٌ إلَى الْحَائِطِ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ ثَابِتَةٌ , إنَّمَا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ إلَى مَنْ يَنْصُرُهُمْ , وَإِلَى مَنْ يَتَظَاهَرُونَ بِهِ { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ { هُمْ الْعَدُوُّ } لِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الشَّرِّ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ " قَالَ : قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ قَالَ : كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ النِّفَاقِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا { مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ { لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا تَتْبَعُ } .(1/195)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ } زَادَ مُسْلِمٌ { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ , وَلَهُمَا أَيْضًا وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , { وَالثَّالِثَةُ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ } . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا ائْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَلَهُمَا أَيْضًا وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ { وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ بَدَلُ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ نِفَاقُ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا كَانَ نِفَاقُ التَّكْذِيبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَعَنْ " حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصِيرُ بِهَا مُنَافِقًا وَإِنِّي لَأَسْمَعُهَا مِنْ أَحَدِكُمْ فِي الْمَجْلِسِ عَشْرَ مَرَّاتٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ . وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ : حُسْنُ سَمْتٍ , وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ } . وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا { أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .(1/196)
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَرَادَ بِالنِّفَاقِ هُنَا الرِّيَاءَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا إظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي الْبَاطِنِ . وَعَنْ ابْن عُمَرَ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ قَالَ لَقَدْ خَلَقْت خَلْقًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ , فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَتَجَرَّءُونَ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ , وَلَهُ مَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي أَوَّلِهِ { يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ , يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنْ اللِّينِ , أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ , وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ } يُقَالُ : أَتَاحَ اللَّهُ لِفُلَانٍ كَذَا أَيْ : قَدَّرَهُ لَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ وَتَاحَ لَهُ الشَّيْءَ . وَقَوْلُهُ : يَخْتِلُونَ أَيْ : يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ يُقَالُ : خَتَلَهُ يَخْتِلُهُ إذَا خَدَعَهُ وَرَاوَغَهُ , وَخَتَلَ الذِّئْبُ الصَّيْدَ إذَا اخْتَفَى لَهُ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ شِعْرًا : لِي حِيلَةٌ فِيمَنْ يَنِمُّ وَلَيْسَ فِي الْكَذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كَانَ يَخْلُقُ مَا يَقُولُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ وَقَالَ مُوسَى - صلوات الله عليه - يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي مَا لَيْسَ فِي فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا مُوسَى لَمْ أَجْعَلْ ذَلِكَ لِنَفْسِي فَكَيْفَ أَجْعَلُهُ لَكَ ؟ وَقَالَ عِيسَى - صلوات الله عليه - : لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُ النَّاسِ فِيكَ , فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ حَسَنَةً لَمْ تَعْمَلْهَا , وَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ سَيِّئَةً عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهَا .(1/197)
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فِي غَيْرِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ { : قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : وَاَللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ , فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } . وَفِي الْبُخَارِيِّ { فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلَإٍ فَسَارَرْتُهُ } , وَفِي مُسْلِمٍ { قَالَ : قُلْتُ لَا جَرَمَ لَا أَرْفَعُ إلَيْهِ حَدِيثًا بَعْدَهَا } , تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ( مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ ) وَلِمُسْلِمٍ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا . وَعِنْدَهُمَا وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا فِي أَوَّلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ } . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْحَدِيثِ , وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ { : دَعْنِي عَنْكَ فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } . وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَصِفُ الرَّجُلَ بِالْعَوَرِ أَوْ الْعَرَجِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ شَيْنَهُ إلَّا إرَادَةَ أَنْ يُعْرَفَ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي هَذَا غِيبَةً .(1/198)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ " الْغِيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي الرَّجُلِ مَا فِيهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَإِنْ قَالَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهَذَا بُهْتٌ " , وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَحْمَدُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ السَّلَفِ وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ مَا نَقَلَ عَنْ الْأَثْرَمِ , وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ الْأَعْمَشُ إنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا فَسَهْلٌ فِي مِثْل هَذَا إذَا كَانَ قَدْ شَهُرَ . قَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّاوِي بِلَقَبِهِ وَصِفَتِهِ وَنَسَبِهِ الَّذِي يَكْرَهُهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَهُ لَا تَنَقُّصَهُ لِلْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ الْجَرْحُ لِلْحَاجَةِ , كَذَا قَالَ وَيَمْتَازُ الْجَرْحُ بِالْوُجُوبِ فَإِنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ , وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ تَأْتِي , وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي فُصُولِ الْعِلْمِ وَفِي الْغِيبَةِ فِي فُصُولِ الْهِجْرَةِ , وَتُحَرَّمُ الْبِدَعُ الْمُحَرَّمَةُ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى الْمُضِرُّ وَالتَّعَدِّي بِالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْفُحْشِ وَالْبَذَاءِ .(1/199)
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : غَرِيبٌ وَالْإِسْنَادُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تَلْعَنْ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتْ اللَّعْنَةُ إلَيْهِ } . , وَلِأَبِي دَاوُد أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ نِمْرَانَ , وَفِيهِ جَهَالَةٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلَا لَعَّانٍ وَلَا فَاحِشٍ وَلَا بَذِيءٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا { سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ , وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ سُوَيْد بْنِ حَاتِمٍ بَيَّاعِ الطَّعَامِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ بُرْغُوثًا فَقَالَ لَا تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَبَّهَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ . } قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : فِيهِ سُوَيْدٌ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْأَثْبَاتِ وَهُوَ صَاحِبُ حَدِيثِ الْبُرْغُوثِ ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ , وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِقَوِيٍّ انْفَرَدَ بِهِ سُوَيْدٌ وَقَالَ ابْن عَدِيٍّ فِي سُوَيْدٍ : هُوَ إلَى الضَّعْفِ أَقْرَبُ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : لَيْسَ بِقَوِيٍّ .(1/200)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا إنْ لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَيَأْتِي فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي لَعْنَةِ الْمُعِينِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ { لَا تَكُونِي فَاحِشَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ } , وَقَوْلُهُ : { يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْفُحْشَ وَالْعُنْفَ } وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بَعْدَ فُصُولِ طَاعَةِ الْأَبِ بِالْقُرْبِ مِنْ ثُلُثِ الْكِتَابِ . عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ , وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا , وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ , وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مَوْقُوفًا . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَرْفُوعًا . وَلَهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا , وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ , وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ , وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .(1/201)
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ مِنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : عَبْدُ الرَّحِيمِ مَتْرُوكٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : مَجْهُولٌ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : رَوَى مَنَاكِيرَ عَنْ قَوْمٍ ثِقَاتٍ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : فِي الثِّقَاتِ يُعْتَدُّ بِحَدِيثِهِ إذَا رَوَى مِنْ كِتَابِهِ .(1/202)
فَصْلٌ عَنْ عِمْرَانَ مَرْفُوعًا { الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ , الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ : حَتَّى إنَّك تَسْتَحْيِي كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ } رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عِمْرَانَ لَمَّا حَدَّثَ قَالَ لَهُ بَشِيرُ . بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ كَعْبٍ إنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا وَمِنْهُ سَكِينَةً , فَقَالَ عِمْرَانُ أُحَدِّثُك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِك ؟ وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ بَشِيرًا قَالَ إنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ , بِفَتْحِ الضَّادِ وَضَمِّهَا , فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ . وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ احْمَرَّتْ وَقَالَ أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُعَارِضُ فِيهِ , فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ , فَأَعَادَ بَشِيرٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ إنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .(1/203)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ } , وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ مِثْلُهُ . وَفِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا { إنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ . وَالْحَيَاءُ مَمْدُودٌ الِاسْتِحْيَاءُ قَالَ الْوَاحِدِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ الْحَيَاءِ , وَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ مِنْ قُرَّةِ الْحَيَاءِ فِيهِ لِشِدَّةِ عِلْمِهِ بِمَوَاقِعِ الْعَيْبِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ الْحَيَاءُ تَخَلُّقًا وَاكْتِسَابًا كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبَرِّ وَقَدْ يَكُونُ غَرِيزَةً , وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إلَى كَسْبٍ وَنِيَّةٍ وَعِلْمٍ وَإِنْ حَلَّ شَيْءٌ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْلَالِ بِحَقٍّ فَهُوَ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ , وَتَسْمِيَتُهُ حَيَاءً مَجَازٌ . وَحَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ وَتَرْكِ الْقَبِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/204)
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُلَيْمَانَ عليه السلام الْحَيَاءُ نِظَامُ الْإِيمَانِ فَإِذَا انْحَلَّ النِّظَامُ ذَهَبَ مَا فِيهِ , وَفِي التَّفْسِيرِ : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } . قَالُوا الْحَيَاءُ وَقَالُوا الْوَقَارُ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْوَقَارَ فَقَدْ وَسَمَهُ بِسِيمَا الْخَيْرِ وَقَالُوا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْحِكْمَةِ لَاحَظَتْهُ الْعُيُونُ بِالْوَقَارِ وَقَالَ الْحَسَنُ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ كَامِلًا , وَمَنْ تَعَلَّقَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَ مِنْ صَالِحِي قَوْمِهِ دِينٌ يُرْشِدُهُ , وَعَقْلٌ يُسَدِّدُهُ , وَحَسَبٌ يَصُونُهُ , وَحَيَاءٌ يَقُودُهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَسْأَلْنَ عَنْ أَمْرِ دِينِهِنَّ , وَأَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ , وَقَالَتْ أَيْضًا رَأْسُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَاءُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت } .(1/205)
وَقَالَ حَبِيبٌ : إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي وَلَمْ تَسْتَحِي فَافْعَلْ مَا تَشَاءُ فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ وَقَالَ أَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ : إذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا وَلَمْ تَرْعَ مَخْلُوقًا فَمَا شِئْت فَاصْنَعْ وَقَالَ صَالِحُ بْنُ جَنَاحٍ : إذَا قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَلَا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إذَا قَلَّ مَاؤُهُ وَقَالَ آخَرُ : إذَا رُزِقَ الْفَتَى وَجْهًا وَقَاحًا تَقَلَّبَ فِي الْوُجُوهِ كَمَا يَشَاءُ وَقَالَ آخَرُ كَأَنَّهُ الْفَرَزْدَقُ : يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ فَلَا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ .
وفي الزواجر:
{(1/206)
الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ : عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بِالْعُهُودِ , وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ , وَحَرَّمَ , وَمَا فَرَضَ , وَمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ , وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ , وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الضَّحَّاكُ هِيَ الَّتِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يُوَافُوا بِهَا مِمَّا أَحَلَّ وَحَرَّمَ وَمِمَّا فَرَضَ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا , وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ إنَّهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ . أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْكُمْ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } , وَمِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ : أَرَادَ بِهَا الْحِلْفَ الَّذِي تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , قَالَ الزَّجَّاجُ : وَالْعُقُودُ أَوْكَدُ الْعُهُودِ . إذْ الْعُهُودُ إلْزَامٌ , وَالْعُقُودُ إلْزَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالِاسْتِيثَاقِ , مِنْ عَقَدَ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ وَصَلَهُ بِهِ كَمَا يُعْقَدُ الْحَبْلُ بِالْحَبْلِ ; وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ هُوَ الْمَعْرِفَةَ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ , وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ إظْهَارُ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ .(1/207)
وَالْمَعْنَى : أَنَّكُمْ قَدْ الْتَزَمْتُمْ بِإِيمَانِكُمْ أَنْوَاعَ الْعُقُودِ وَإِظْهَارَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي سَائِرِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَأَوْفُوا بِتِلْكَ الْعُهُودِ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى نَجْرَانَ وَفِي صَدْرِهِ : هَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } إلَى { سَرِيعُ الْحِسَابِ } فَالْمَقْصُودُ التَّكَالِيفُ فِعْلًا وَتَرْكًا , وَسُمِّيَتْ عُقُودًا لِأَنَّهُ - تَعَالَى - عَقَدَ أَمْرَهَا وَحَتَمَهُ وَأَوْثَقَهُ فَلَا انْحِلَالَ لَهُ , وَقُلْ : هِيَ الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ , وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ أَنَّهَا عَامَّةٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنه اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ نَحْوِ نَذْرِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَعَضَّدَهَا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا } " أَوْفِ بِنَذْرِك " وَنَفْيُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ , وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ , لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ فَحَرُمَ رَفْعُهُ لقوله تعالى : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ , وَخَالَفَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِأَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ : { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ } وَالْخَبَرِ الصَّحِيحِ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا } ; وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ , إذًا لَوْ حَرُمَ الْجَمْعُ فِي(1/208)
الْأَخِيرَةِ لَمَا نَفَذَ , فَلَمَّا نَفَذَ إجْمَاعًا دَلَّ عَلَى حِلِّهِ . إذْ الْأَصْلُ فِي نُفُوذِ الْعُقُودِ أَنَّهُ يَقْتَضِي حِلَّهَا عَلَى أَنَّ فِيهِ حَدِيثًا صَحِيحًا , وَهُوَ أَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ ثَلَاثًا ظَانًّا أَنَّهَا تَنْفُذُ وَلَمْ يَنْهَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا . إذْ لَوْ كَانَ جَمْعُ الثَّلَاثِ حَرَامًا لَكَانَ أَتَى بِحَرَامٍ فَكَانَ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْهُ , فَلَمَّا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَتِهِ . وَلَا يُقَالُ إنَّمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَغْوٌ لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَغْوًا إلَّا فِي الْوَاقِعِ , وَأَمَّا فِي ظَنِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَغْوًا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يُفِيدُهُ تَأْيِيدُ حُرْمَتِهَا فَأَوْقَعَ الثَّلَاثَ , فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ لَا يَحْرُمُ وَإِلَّا لَنَهَاهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْعُهُودِ وَأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَفَاءِ بِهَا كَبِيرَةٌ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَفِي الْحَدِيثِ : { لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } .(1/209)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ : { يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ , وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ , وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ : { مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ , وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً } , وَمَرَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى . تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ , لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ بِمَا مَرَّ , وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ بِخُلْفِ الْوَعْدِ , فَالْعِبَارَتَانِ إمَّا مُتَّحِدَتَانِ أَوْ مُتَغَايِرَتَانِ وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ يُشْكِلُ عَدُّهُمْ مِنْ الْكَبَائِرِ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مَنْدُوبٌ لَا وَاجِبٌ وَفِي الْعَهْدِ أَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ , وَمُخَالَفَةُ الْمَنْدُوبِ جَائِزَةٌ , وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ تَارَةً تَكُونُ كَبِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ صَغِيرَةً , فَكَيْفَ يُطْلَقُ أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ كَبِيرَةٌ ؟ فَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِمَا يَكُونُ الْإِخْلَالُ بِهِ كَبِيرَةً كَانَ عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ سَائِغٍ . إذْ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ .(1/210)
وَيُجَابُ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى تَغَايُرِهِمَا عَلَى الْمُلْتَزِمِ بِالنَّذْرِ وَنَحْوِهِ , وَكَوْنُ مَنْعِهِ كَبِيرَةً ظَاهِرٌ إذْ النَّذْرُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ , وَسَيَأْتِي أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الصَّوْمِ كَبِيرَةٌ فَكَذَا هَذَا . وَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ التَّصْرِيحِ بِهَذَا وَهُوَ مَا لَوْ بَايَعَ إمَامًا ثُمَّ أَرَادَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَا تَأْوِيلٍ لِهَذَا فَهَذَا كَبِيرَةٌ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - إلَى أَنْ قَالَ - وَرَجُلٌ بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ } . وَمِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقِ : { رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ } . وَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ } .(1/211)
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَأْتِ إلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إلَيْهِ , وَمَنْ بَايَعَ إمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَهُ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ } , وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَأْتِي فِي الْجِهَادِ , { إنَّ مَنْ أَمَّنَ حَرْبِيًّا ثُمَّ غَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ كَانَ كَبِيرَةً } , وَهُوَ الْمُرَادُ بِنَكْثِ الصَّفْقَةِ , وَقَدْ مَرَّ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَسَيَأْتِي .(1/212)
الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةَ وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : خِيَانَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ أَوْ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ خَانَ شَرِيكًا فِيمَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ وَاسْتَرْعَاهُ لَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ } , وَوَرَدَ : { مَنْ خَانَ مَنْ ائْتَمَنَهُ فَأَنَا خَصْمُهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةً مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { يَقُولُ اللَّهُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ , فَإِذَا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا } , . وَزَادَ رَزِينٌ : { وَجَاءَ الشَّيْطَانُ } . وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا } , وَهَذَا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ كِنَايَةٌ عَنْ إنْزَالِ الْبَرَكَةِ وَالْحِفْظِ وَالنُّمُوِّ مَا دَامَا جَارِيَيْنِ عَلَى قَانُونِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ , وَعَنْ مَحْقِ الْبَرَكَةِ وَتَسْلِيطِ الْآفَاتِ عَلَى الْمَالِ إذَا وَقَعَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا خِيَانَةٌ . وَالْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ : { الْمُؤْمِنُ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ , وَإِذَا عَاهَدَ لَمْ يَغْدِرْ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ لَمْ يَخُنْ } .(1/213)
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ بِخُصُوصِهِ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يَشْمَلُهُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي مَوَاضِعَ . وَسَيَأْتِي فِي الْوَدِيعَةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ .
( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : الْخِيَانَةُ فِي الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ أَوْ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ الدَّارِيِّ , كَانَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ , فَلَمَّا دَخَلَهَا صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ أَغْلَقَ بَابَ الْكَعْبَةِ وَامْتَنَعَ مِنْ إعْطَاءِ مِفْتَاحِهَا , زَاعِمًا أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مَنَعَهُ , فَلَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ وَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَلَ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى فِيهَا . فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلَهُ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِفْتَاحَ لِيَجْتَمِعَ لَهُ السِّدَانَةُ مَعَ السِّقَايَةِ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ , فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَى عُثْمَانَ وَيَعْتَذِرَ إلَيْهِ .(1/214)
فَقَالَ لَهُ أَكْرَهْت وَآذَيْت ثُمَّ جِئْت تَرْفُقُ فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِك قُرْآنًا وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ فَأَسْلَمَ وَكَانَ الْمِفْتَاحُ مَعَهُ , فَلَمَّا مَاتَ دَفَعَهُ إلَى أَخِيهِ شَيْبَةَ , فَالسِّدَانَةُ فِي أَوْلَادِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلَّا ظَالِمٌ } وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ جَمِيعُ الْأَمَانَاتِ . قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ : وَمِمَّنْ قَالَ إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالُوا : الْأَمَانَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْوَدَائِعِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُرَخِّصْ اللَّهُ لِمُعْسِرٍ وَلَا لِمُوسِرٍ أَنْ يَمْسِكَ الْأَمَانَةَ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْجَ الْإِنْسَانِ وَقَالَ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتهَا عِنْدَك فَاحْفَظْهَا إلَّا بِحَقِّهَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مُعَامَلَةُ الْإِنْسَانِ أَمَانَةٌ مَعَ رَبِّهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ , وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ أَمَانَةٌ . فَأَمَانَةُ اللِّسَانِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَلَا نَمِيمَةٍ وَلَا بِدْعَةٍ وَلَا فُحْشٍ وَلَا نَحْوِهَا . وَالْعَيْنِ أَنْ لَا يَنْظُرَ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ . وَالْأُذُنِ أَنْ لَا يُصْغِيَ بِهَا إلَى سَمَاعِ مُحَرَّمٍ , وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ .(1/215)
وَأَمَّا مَعَ النَّاسِ بِنَحْوِ رَدِّ الْوَدَائِعِ , وَتَرْكِ التَّطْفِيفِ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ , وَبِعَدْلِ الْأُمَرَاءِ فِي الرَّعِيَّةِ , وَالْعُلَمَاءِ فِي الْعَامَّةِ بِأَنْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ , وَيَنْهَوْهُمْ عَنْ الْمَعَاصِي وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ , كَالتَّعَصُّبَاتِ الْبَاطِلَةِ , وَالْمَرْأَةِ فِي حَقِّ زَوْجِهَا بِأَنْ لَا تَخُونَهُ فِي فِرَاشِهِ أَوْ مَالِهِ وَالْقِنِّ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ بِأَنْ لَا يُقَصِّرَ فِي خِدْمَتِهِ , وَلَا يَخُونَهُ فِي مَالِهِ . وَقَدْ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } . وَأَمَّا مَعَ النَّفْسِ بِأَنْ لَا يَخْتَارَ لَهَا إلَّا الْأَنْفَعَ وَالْأَصْلَحَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا , وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي مُخَالَفَةِ شَهَوَاتِهَا وَإِرَادَاتِهَا فَإِنَّهَا السُّمُّ النَّاقِعُ الْمُهْلِكُ لِمَنْ أَطَاعَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . { قَالَ أَنَسٌ : قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا قَالَ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَصَرَهُمْ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا يَمِيلُونَ إلَى أَبِي لُبَابَةَ لِكَوْنِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِيهِمْ .(1/216)
فَقَالُوا لَهُ : هَلْ تَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ : أَيْ إنَّهُ الذَّبْحُ فَلَا تَفْعَلُوا , فَكَانَتْ تِلْكَ مِنْهُ خِيَانَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . قَالَ فَمَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى عَلِمْت أَنِّي قَدْ خُنْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ , ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ وَرَبَطَ نَفْسَهُ , وَحَلَفَ أَنْ لَا يَحِلَّهَا أَحَدٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ لَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ فَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ , وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ أَيْ وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْأَمَانَاتُ الْأَعْمَالُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْعِبَادَ . وَقَالَ غَيْرُهُ : أَمَّا خِيَانَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَعْصِيَتُهُمَا .(1/217)
وَأَمَّا خِيَانَةُ الْأَمَانَاتِ فَكُلُّ أَحَدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ , فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُوقِفُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَسَائِلُهُ عَنْ ذَلِكَ هَلْ حَفِظَ أَمَانَةَ اللَّهِ فِيهِ أَوْ ضَيَّعَهَا ؟ فَلْيَسْتَعِدَّ الْإِنْسَانُ بِمَاذَا يُجِبْ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ إذَا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا مَسَاغَ لِلْجَحْدِ وَلَا لِلْإِنْكَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ , وَلْيَتَأَمَّلْ قوله تعالى : { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } أَيْ لَا يُرْشِدُ كَيْدَ مَنْ خَانَ أَمَانَتَهُ بَلْ يَحْرِمُهُ هِدَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا , وَيَفْضَحُهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْعُقْبَى , فَالْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ , لَكِنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ , إذْ مَنْ خَانَك فِي فَلْسٍ لَيْسَ كَمَنْ خَانَك فِي أَهْلِك . وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْرَ الْأَمَانَةِ تَعْظِيمًا بَلِيغًا , وَأَكَّدَهُ تَأْكِيدًا شَدِيدًا . فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } أَيْ التَّكَالِيفَ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ مِنْ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي { عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } أَيْ آدَم صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا } أَيْ لِنَفْسِهِ بِقَبُولِهِ تِلْكَ التَّكْلِيفَاتِ الشَّاقَّةِ جِدًّا { جَهُولًا } أَيْ بِمَشَقَّتِهَا الَّتِي لَا تَتَنَاهَى .(1/218)
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الدُّنْيَا كَالْبُسْتَانِ , وَزَيَّنَهَا بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ : بِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ , وَعَدْلِ الْأُمَرَاءِ , وَعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ , وَنَصِيحَةِ الْمُسْتَشَارِ , وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ . فَقَرَنَ إبْلِيسُ مَعَ الْعِلْمِ الْكِتْمَانَ , وَمَعَ الْعَدْلِ الْجَوْرَ , وَمَعَ الْعِبَادَةِ الرِّيَاءَ , وَمَعَ النَّصِيحَةِ الْغِشَّ , وَمَعَ الْأَمَانَةِ الْخِيَانَةَ : وَفِي الْحَدِيثِ : { يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } . وَفِيهِ أَيْضًا : { أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ الْأَمَانَةُ , وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلَاةُ , وَرُبَّ مُصَلٍّ وَلَا خَيْرَ فِيهِ } وَذُكِرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ النَّارِ { رَجُلًا لَازَمَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إلَّا خَانَهُ } . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { تَقَبَّلُوا لِي سِتًّا أَتَقَبَّلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ , إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ , وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ } . وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { اضْمَنُوا لِي سِتًّا أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ , اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ , وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ , وَأَدُّوا إذَا اُؤْتُمِنْتُمْ } الْحَدِيثَ . وَالطَّبَرَانِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ : { اُكْفُلُوا لِي سِتًّا أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ : الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْأَمَانَةَ وَالْفَرْجَ وَالْبَطْنَ وَاللِّسَانَ } .(1/219)
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ { حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ , أَيْ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ أَصْلُهَا , ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ , ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ فَقَالَ : يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا فِي قَلْبِهِ مِثْلُ الْوَكْتِ : أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَوْقِيَّةٍ : الْأَثَرُ الْيَسِيرُ , ثُمَّ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ : أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ لِلْجِيمِ تَنَفُّطُ الْيَدِ مِنْ الْعَمَلِ وَغَيْرِهِ , كَجَمْرٍ دَحْرَجْته عَلَى رِجْلِك فَنَفَطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِزًا : أَيْ بِالزَّايِ مُرْتَفِعًا } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ , وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طَهُورَ لَهُ } الْحَدِيثَ . وَالْبَزَّارُ عَنْ { عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَطَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ , فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَلْيَنِهِ ؟ فَقَالَ : أَلْيَنُهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , وَأَشَدُّهُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ الْأَمَانَةُ , إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ , وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ } الْحَدِيثَ .(1/220)
وَالشَّيْخَانِ : { وَخَيْرُكُمْ قَرْنِي , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ , يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ , وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ , وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ } . وَالشَّيْخَانِ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } , زَادَ مُسْلِمٌ : { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } . وَالشَّيْخَانِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ { : كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ , وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَ الْبِطَانَةُ } . وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : { مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا قَالَ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ , وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَالتِّرْمِذِيُّ : { إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً فَقَدْ حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ .(1/221)
وَقِيلَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا , وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا , وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا , وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ , وَعَقَّ أُمَّهُ , وَبَرَّ صَدِيقَهُ , وَجَفَا أَبَاهُ , وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ , وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ , وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ , وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ وَشُهِدَ بِالزُّورِ وَلُبِسَ الْحَرِيرُ وَاُتُّخِذَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ , وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ , أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا } . وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا وَمَسْخًا وَخَسْفًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعَ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ . } . وَالْبَزَّارُ : { ثَلَاثٌ مُتَعَلِّقَاتٌ بِالْعَرْشِ : الرَّحِمُ تَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي بِك فَلَا أُقْطَعُ , وَالْأَمَانَةُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي بِك فَلَا أُخَانُ , وَالنِّعْمَةُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي بِك فَلَا أُكْفَرُ } .(1/222)
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : " الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الْأَمَانَةَ قَالَ : يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُ أَدِّ أَمَانَتَك , فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتْ الدُّنْيَا ؟ فَيُقَالُ انْطَلَقُوا بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ , وَتُمَثَّلُ لَهُ الْأَمَانَةُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ إلَيْهِ فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنْكِبِهِ , حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ مَنْكِبِهِ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ , ثُمَّ قَالَ : الصَّلَاةُ أَمَانَةٌ وَالْوُضُوءُ أَمَانَةٌ وَالْوَزْنُ أَمَانَةٌ وَالْكَيْلُ أَمَانَةٌ , وَأَشْيَاءُ عَدَّدَهَا وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ " . قَالَ زَاذَانُ : فَأَتَيْت زَيْدَ بْنَ عَامِرٍ فَقُلْت أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ؟ قَالَ : كَذَا وَكَذَا . قَالَ : صَدَقَ . أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } . تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ , وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ .(1/223)
بَابُ الْأَمَانِ ( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : قَتْلُ أَوْ غَدْرُ أَوْ ظُلْمُ مَنْ لَهُ أَمَانٌ أَوْ ذِمَّةٌ أَوْ عَهْدٌ ) . قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } . وَقَالَ عَزَّ قَائِلًا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } أَيْ الْعُهُودِ , وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ . وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ , وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ } . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { إذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يُعْرَفُ بِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ } .(1/224)
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا - أَيْ غَدَرَهُ وَنَقَضَ عَهْدَهُ - فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلًا وَلَا صَرْفًا } . وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا قَالَ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ لَكِنْ بِلَفْظِ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلَّا كَانَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ وَلَا ظَهَرَتْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْمَوْتَ , وَلَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إلَّا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَطْرَ } . وَأَبُو دَاوُد عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ آبَائِهِمْ لَكِنَّ الْأَبْنَاءَ مَجْهُولُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا مِنْ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا } .(1/225)
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : { فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا فِي عَهْدِهِ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } يُرِحْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ أَرَحْت الشَّيْءَ وَجَدْت رِيحَهُ وَبِفَتْحِهِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ رِحْت الرِّيحَ وَجَدْته وَبِفَتْحِ أَوَّلَيْهِ وَمَعْنَى الْكُلِّ شَمُّ الرَّائِحَةِ . وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ مَاجَهْ : { أَلَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يَرِيحُ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا } .(1/226)
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ , وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ فِي قَتْلِ الْمُعَاهِدِ وَفِي الْغَدْرِ لَكِنْ خَصَّهُ بِالْأَمِيرِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ , وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ عَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ نَكْثَ الصَّفْقَةِ : أَيْ الْغَدْرَ بِالْمَعَاهِدِ , بَلْ صَرَّحَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَائِيُّ بِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمَّاهُ كَبِيرَةً لَكِنْ اعْتَرَضَهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ : أَيْ الَّتِي سَاقَهَا مَنْصُوصًا فِيهَا عَلَى الْكَبَائِرِ النَّصُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ , قَالَ وَإِنَّمَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ كَمَا تَقَدَّمَ . انْتَهَى . وَالظَّاهِرُ ; أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ حَدِيثَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ الَّذِي قَدَّمْته فِيهِ : { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ فَمَنْ أَمَّنَ كَافِرًا ثُمَّ غَدَرَ بِهِ فَقَدْ نَكَثَ أَمَانَهُ الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ } وَكَأَنَّ وَجْهَ تَسْمِيَةِ الْأَمَانِ صَفْقَةً أَنَّهُ عَهْدٌ أَفَادَ الْأَمْنَ , فَهُوَ كَعَقْدِ الْبَيْعِ الْمُفِيدِ لِلْمِلْكِ وَعَقْدُ الْبَيْعِ يُسَمَّى صَفْقَةً , لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ الِاثْنَانِ مِنْهُمْ إذَا تَبَايَعَا صَفَقَ أَحَدُهُمَا عَلَى يَدِ الْآخَرِ فَسُمِّيَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ تَجَوُّزًا .
((1/227)
الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ : الْكَذِبُ الَّذِي فِيهِ حَدٌّ أَوْ ضَرَرٌ ) . قَالَ تَعَالَى : { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ , وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا , وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ , وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا } . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ وَهُمَا فِي الْجَنَّةِ ; وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ } . وَأَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : إذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ وَإِذَا بَرَّ آمَنَ وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ , وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَمَلُ النَّارِ ؟ قَالَ : الْكَذِبُ إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ } . وَالْبُخَارِيُّ : { رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَقَالَا لِي : الَّذِي رَأَيْته يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .(1/228)
وَالشَّيْخَانِ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ } . زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ : { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } . وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ مُحْتَجٍّ بِهِ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إنِّي مُسْلِمٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } . وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَالْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا } . وَأَبُو يَعْلَى : { لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمُزَاحَ وَالْكَذِبَ وَيَدَعَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا } . وَأَحْمَدُ { يُطْبَعُ الْمَرْءُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ : { وَيُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلَّةٍ غَيْرَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ } . وَمَالِكٌ مُرْسَلًا : { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا ؟ قَالَ : لَا } .(1/229)
وَأَحْمَدُ : { لَا يَجْتَمِعُ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ , وَلَا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعًا , وَلَا تَجْتَمِعُ الْأَمَانَةُ وَالْخِيَانَةُ جَمِيعًا } . وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَأَبُو دَاوُد : { كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاك حَدِيثًا هُوَ لَك مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ كَاذِبٌ } . وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد : { وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ } . وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَلَا إنَّ الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ وَالنَّمِيمَةُ عَذَابُ الْقَبْرِ } . وَالْأَصْبَهَانِيّ : { بِرُّ الْوَالِدَيْنِ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ , وَالْكَذِبُ يَنْقُصُ الرِّزْقَ , وَالدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ } . وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ : { إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ الْمَلَكُ عَنْهُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ } . وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : { مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْكَذِبِ مَا اطَّلَعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَيَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ تَوْبَةً } . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا قَالَتْ : { مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْكَذِبِ , وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عَنْهُ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا تَوْبَةً } .(1/230)
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْهَا قَالَتْ : { مَا كَانَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْكَذِبِ وَمَا جَرَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحَدٍ وَإِنْ قَلَّ فَيَخْرُجُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُجَدِّدَ لَهُ تَوْبَةً } . وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ لَا مَجْهُولَ فِيهِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قَالَتْ إحْدَانَا لِشَيْءٍ تَشْتَهِيهِ لَا أَشْتَهِيهِ أَيُعَدُّ ذَلِكَ كَذِبًا ؟ قَالَ إنَّ الْكَذِبَ يُكْتَبُ كَذِبًا حَتَّى تُكْتَبَ الْكُذَيْبَةُ كُذَيْبَةً } . وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَاكَ أُعْطِيكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذِبَةٌ } . وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : { دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا أَرَدْت أَنْ تُعْطِيهِ ؟ قَالَتْ أَرَدْت أَنْ أُعْطِيَهُ تَمْرًا , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَمَا إنَّك لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْك كِذْبَةٌ } . وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ } .(1/231)
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ - أَيْ فَقِيرٌ - مُسْتَكْبِرٌ } . وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الشَّيْخُ الزَّانِي , وَالْإِمَامُ أَوْ قَالَ وَالْمَلِكُ الْكَذَّابُ وَالْعَائِلُ الْمَزْهُوُّ } أَيْ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ الْمُسْتَكْبِرُ . تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ قِيلَ لَكِنَّهُ مَعَ الضَّرَرِ لَيْسَ كَبِيرَةً مُطْلَقًا , بَلْ قَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً كَالْكَذِبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ لَا يَكُونُ , انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ , بَلْ الَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهُ حَيْثُ اشْتَدَّ ضَرَرُهُ بِأَنْ لَا يُحْتَمَلَ عَادَةً كَانَ كَبِيرَةً , بَلْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ فَقَالَ : مَنْ كَذَبَ قَصْدًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِغَيْرِهِ , لِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ رَوَى فِيهِ حَدِيثًا , وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَوْ صَرِيحُهَا يُوَافِقُهُ , وَكَأَنَّ وَجْهَ عُدُولِهِمْ عَنْ ذَلِكَ ابْتِلَاءُ أَكْثَرِ النَّاسِ بِهِ فَكَانَ كَالْغِيبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِيهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ , وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : قَدْ تَكُونُ الْكَذْبَةُ الْوَاحِدَةُ كَبِيرَةً , وَفِي الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه كُلُّ مَنْ كَانَ مُنْكَشِفَ الْكَذِبِ مَظْهَرَهُ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ شَهَادَتُهُ , ثُمَّ الْكَذِبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَعَلِمَ ذَلِكَ وَتَعَمَّدَهُ أَمْ لَا .(1/232)
وَأَمَّا الْعِلْمُ وَالتَّعَمُّدُ فَإِنَّمَا هُمَا شَرْطَانِ لِلْإِثْمِ , وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَيَّدُوهُ بِالْعِلْمِ بِهِ , فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ فَلَيْسَ بِآثِمٍ فَيُقَيَّدُ كَوْنُهُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً بِالْعِلْمِ , وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الرِّسَالَةِ لَكِنَّ الْكَذْبَةَ الْوَاحِدَةَ أَيْ الْخَالِيَةَ عَمَّا مَرَّ مِنْ الْحَدِّ وَالضَّرَرِ لَا تُوجِبُ الْفِسْقَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الرَّهْنِ , وَلِهَذَا لَوْ تَخَاصَمَا فِي شَيْءٍ ثُمَّ شَهِدَا فِي حَادِثَةٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فِي ذَلِكَ التَّخَاصُمِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ , ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ تَعْلِيلِ وَمَحَلِّ ذَلِكَ إنْ خَلَتْ عَنْ الضَّرُورَةِ وَالْحَدِّ فَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : قَدْ تَكُونُ الْكَذْبَةُ الْوَاحِدَةُ كَبِيرَةً وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ حَدِيثًا مُرْسَلًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَبْطَلَ شَهَادَةَ رَجُلٍ فِي كَذِبَةٍ كَذَبَهَا .(1/233)
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ قَدْ يُبَاحُ وَقَدْ يَجِبُ ; وَالضَّابِطُ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ جَمِيعًا فَالْكَذِبُ فِيهِ حَرَامٌ , وَإِنْ أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ بِالْكَذِبِ وَحْدَهُ فَمُبَاحٌ إنْ أُبِيحَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَوَاجِبٌ إنْ وَجَبَ تَحَصُّلُ ذَلِكَ , كَمَا لَوْ رَأَى مَعْصُومًا اخْتَفَى مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَوْ إيذَاءَهُ فَالْكَذِبُ هُنَا وَاجِبٌ ; لِوُجُوبِ عِصْمَةِ دَمِ الْمَعْصُومِ , وَكَذَا لَوْ سَأَلَ عَنْ وَدِيعَةٍ يُرِيدُ أَخْذَهَا فَيَجِبُ إنْكَارُهُ , وَإِنْ كَذَبَ بَلْ لَوْ اُسْتُحْلِفَ لَزِمَهُ الْحَلِفُ وَيُوَرِّي وَإِلَّا حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ , وَمَهْمَا كَانَ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ حَرْبٍ أَوْ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَوْ اسْتِمَالَةُ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكَذِبِ فَالْكَذِبُ فِيهِ مُبَاحٌ , وَلَوْ سَأَلَهُ سُلْطَانٌ عَنْ فَاحِشَةٍ وَقَعَتْ مِنْهُ سِرًّا كَزِنًا أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ فَلَهُ أَنْ يَكْذِبَ وَيَقُولَ مَا فَعَلْت وَلَهُ أَيْضًا أَنْ يُنْكِرَ سِرَّ أَخِيهِ .(1/234)
قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَلِكَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ مَفْسَدَةَ الْكَذِبِ بِالْمَفْسَدَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الصِّدْقِ فَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ الصِّدْقِ أَشَدَّ فَلَهُ الْكَذِبُ , وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ أَوْ شَكَّ حَرُمَ الْكَذِبُ , وَإِنْ تَعَلَّقَ بِنَفْسِهِ اُسْتُحِبَّ أَلَّا يَكْذِبَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ لَمْ تَجُزْ الْمُسَامَحَةُ لِحَقِّ غَيْرِهِ , وَالْحَزْمُ تَرْكُهُ حَيْثُ أُبِيحَ , وَلَيْسَ مِنْ الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ مَا اُعْتِيدَ مِنْ الْمُبَالَغَةِ كَجِئْتُك أَلْفَ مَرَّةٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْهِيمُ الْمُبَالَغَةِ لَا الْمَرَّاتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَاءَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ كَاذِبٌ , انْتَهَى مُلَخَّصًا .(1/235)
وَمَا قَالَهُ فِي الْمُبَالَغَةِ يَدُلُّ لَهُ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ : { وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَضَعُهَا كَثِيرًا , وَمَا قَالَهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَلِفِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ ضَعِيفٌ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ وُجُوبِهِ , وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُبَاحِ يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَا فِيهِ صُلْحٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَوْ فِي الْحَرْبِ بِأَنْ يُوَرِّيَ بِغَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ قَاصِدُهَا أَوْ فِي الزَّوْجَةِ لِإِرَادَةِ إمْضَائِهَا بِهِ , وَمِمَّا يُسْتَثْنَى أَيْضًا الْكَذِبُ فِي الشِّعْرِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَلَا يُلْحَقُ بِالْكَذِبِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ , قَالَ الْقَفَّالُ : وَالْكَذِبُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ فِي الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ : أَنَا أَدْعُو لَك لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا أُخَلِّي مَجْلِسًا عَنْ شُكْرِك ; لِأَنَّ الْكَاذِبَ يُظْهِرُ أَنَّ الْكَذِبَ صِدْقٌ وَيُرَوِّجُهُ , وَلَيْسَ غَرَضُ الشَّاعِرِ الصِّدْقَ فِي شِعْرِهِ , وَإِنَّمَا هُوَ صِنَاعَةٌ وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . قَالَ الشَّيْخَانِ بَعْدَ نَقْلِهِمَا ذَلِكَ عَنْ الْقَفَّالِ وَالصَّيْدَلَانِيِّ : وَهَذَا حَسَنٌ بَالِغٌ . انْتَهَى . وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ تَتِمَّاتٌ فِي مَبْحَثِ الشِّعْرِ .(1/236)
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَحَيْثُ جَازَ الْكَذِبُ فَهَلْ تُشْتَرَطُ التَّوْرِيَةُ أَوْ تَجُوزُ مُطْلَقًا ؟ يُتَّجَهُ تَخْرِيجُ خِلَافٍ فِيهِ مِمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ , وَقَدَرَ عَلَى التَّوْرِيَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ , وَالْأَصَحُّ لَا , وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ ذَاكَ يَرْجِعُ إلَى النِّيَّةِ وَحْدَهَا , وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ : أَيْ أَنَّ الْمُبَاحَ هَلْ هُوَ التَّصْرِيحُ أَوْ التَّعْرِيضُ فَإِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ . انْتَهَى . وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ عَدَمُ وُجُوبِ التَّوْرِيَةِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُجَوِّزَ لِلْكَذِبِ مُجَوِّزٌ لِتَرْكِ التَّوْرِيَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَرَجِ , ثُمَّ رَأَيْت الْغَزَالِيَّ صَرَّحَ بِمَا قَدَّمْته عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْأَحْسَنُ أَنَّهُ يُوَرِّي وَهِيَ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظًا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَيُرِيدُ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ , لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ كَمَا قَالَ النَّخَعِيُّ : إذَا بَلَغَ إنْسَانًا عَنْك شَيْءٌ قُلْته فَقُلْ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا قُلْتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا تُفْهِمُ السَّامِعَ النَّفْيَ وَمَقْصُودُك بِمَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي , وَهُوَ مُبَاحٌ إنْ دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا إنْ تَوَصَّلَ بِهِ إلَى بَاطِلٍ أَوْ دَفْعِ حَقٍّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الرِّسَالَةِ , وَمِنْ الْكَذِبِ الْكَذِبُ الْخَفِيُّ , وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ الْإِنْسَانُ خَبَرًا عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ .(1/237)
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ شَارِحُهَا : لِأَنَّ النَّفْسَ تَسْكُنُ إلَى خَبَرِ الثِّقَةِ فَيُصَدَّقُ فِي حَدِيثِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَبَرُ كَذِبًا فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْكَذِبِ قَالَ وَنَظِيرُهُ : { الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ } . انْتَهَى .
وفي بريقة محمودية :
( وَمِنْهُ ) مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ ( خُلْفُ الْوَعْدِ ) إذَا قَدَرَ عَلَى إنْجَازِهِ , وَأَمَّا خُلْفُ الْوَعِيدِ فَقِيلَ كَرَمٌ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْوَعْدِ الْأَوَّلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالثَّانِي مِنْ جَانِبٍ وَنَقْضُ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ مُطْلَقًا بِلَا إيذَانٍ وَالثَّانِي خُلْفُ وَعْدٍ حَرَامٌ بِنِيَّةِ الْخُلْفِ , لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَمْدٌ وَالْإِنْجَازُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ ; لِأَنَّهُ نَهْيُ مُنْكَرٍ فَبِتَرْكِهِ يُضَاعَفُ الْإِثْمُ وَبِفِعْلِهِ يَرْتَفِعُ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَمَنْ يَفْعَلْ الذَّنْبَ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَوَّلِ الْفَسْخُ وَفِي الثَّانِي التَّوْبَةُ فَإِذَا فَسَخَا الْعَقْدَ وَتَابَا ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَإِلَّا فَيَصِيرُ مُضَاعِفًا إثْمَ نَفْسِ الْعَهْدِ وَالذَّنْبِ وَإِثْمَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمُنْكَرِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْفَسْخُ وَالتَّوْبَةُ وَجَائِزٌ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ ثُمَّ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ ; لِأَنَّ الْكَذِبَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ لَيْسَ بِعَمْدٍ حَرَامٌ فَلَا يَلْزَمُ رَفْعُهُ وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ الصِّدْقُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ ( وَهُوَ ) خُلْفُ الْوَعْدِ . ((1/238)
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ ( وَضِدُّهُ إنْجَازُ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } ) - رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ } فَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ فَنَزَلَتْ " لِمَ " مُرَكَّبَةً مِنْ لَامَ الْجَرِّ وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّة , وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ أَلِفِهَا مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمَا مَعًا وَإِغْنَائِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ ( كَبُرَ مَقْتًا ) أَشَدَّ الْبُغْضِ نَصَبَهُ لِلتَّمْيِيزِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مَقْتٌ خَالِصٌ كَبِيرٌ عِنْدَ مَنْ يَحْقِرُ دُونَهُ كُلُّ عَظِيمٍ مُبَالَغَةً فِي الْمَنْعِ عَنْهُ ( عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ) فَاعِلُ كَبُرَ ( مَا تَفْعَلُونَ ) ( م ) مُسْلِمٌ ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { آيَةُ } ) عَلَامَةُ ( { الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ } ) قِيلَ لَا يُنَافِي زِيَادَتُهَا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ لَا يَخْفَى أَنَّ مَدَارَ الْإِشْكَالِ مِنْ إضَافَةِ الْآيَةِ إلَى الْمُحَلَّى بِاللَّامِ وَلَا عَهْدَ وَلَا دَلِيلَ لِلْجِنْسِ فَالْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَلَا دَخْلَ فِي الْجَوَابِ لِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ وَعَدَمِهِ فَتَأَمَّلْ . ( {(1/239)
وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى } ) وَهُمَا مِنْ عِظَامِ مَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ , وَالظَّاهِرُ مِنْهُمَا الْفَرْضُ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ الْعُمُومَ بِالنَّقْلِ ( { وَزَعَمَ } ) اعْتَقَدَ ( { أَنَّهُ مُسْلِمٌ } ) يَعْنِي لَا يُفِيدُ عَامَّةُ أَعْمَالِهِ وَاعْتِقَادُ إسْلَامِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ صَاحِبُ هَذِهِ الْخِصَالِ وَلَوْ مَجْمُوعُهَا فَالْمُرَادُ الِاسْتِحْلَالُ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أَوْ يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ عَلَى عَدَمِ نَفْعِ الْإِيمَانِ فِي الِانْزِجَارِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ كَمَا قِيلَ أَوْ عَلَى سَلْبِ الْمَدْحِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالْفَاسِقُونَ , كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْمُنَافِقِ مُطْلَقُ الْفَاسِقِ عَلَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوْ شَبِيهُ الْمُنَافِقِ , وَمِثْلُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَوْ يَتَجَوَّزُ فِي لَفْظِ الْآيَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ وَالْأَمَارَةُ مِمَّا يَتَخَلَّفُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ { مَنْ زَنَى نَزَعَ اللَّهُ نُورَ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ } . وَقِيلَ لَمَّا اسْتَحَالَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ قِيلَ الْمُرَادُ نِفَاقُ الْعَمَلِ كَمَا فِي قَوْلِ حُذَيْفَةَ لِعُمَرَ رضي الله تعالى عنهما هَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ النِّفَاقِ أَيْ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الْفِعْلِيَّةِ . وَقِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ تَهَاوُنًا بِأَمْرِهَا فَيَكُونُ مُنَافِقًا خَالِصًا .(1/240)
وَقِيلَ إنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهَا آيَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي زَمَانِهِ لِاجْتِنَابِ أَصْحَابِهِ عَنْ تِلْكَ الْخِصَالِ وَلَا تُوجَدُ إلَّا فِي الْمُنَافِقِينَ , كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهم ( { إذَا حَدَّثَ } ) مِمَّا فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا ( { كَذَبَ } ) عَمْدًا وَأَمَّا الصُّوَرُ الَّتِي جُوِّزَ فِيهَا الْكَذِبُ فَبِآثَارٍ أُخَرَ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ ( { وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ } ) إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إتْيَانِهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ وَسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ ; لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ مُمْتَنِعٌ ( { وَإِذَا اُؤْتُمِنَ } ) بِالْمَفْعُولِ وُضِعَ عِنْده أَمَانَةٌ أَمْوَالًا وَأَقْوَالًا لَا سِيَّمَا أَسْرَارًا ( { خَانَ } . خ م . عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله تعالى عنهما أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا } ) أَيْ شَدِيدَ الشَّبَهِ بِالْمُنَافِقِينَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخِصَالِ لِغَلَبَتِهَا عَلَيْهِ وَمَصِيرِهَا خُلُقًا وَعَادَةً وَدَيْدَنًا لَهُ قِيلَ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ أَرْبَعٌ مُبْتَدَأٌ بِتَقْدِيرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ وَإِلَّا فَهُوَ نَكِرَةٌ صِرْفَةٌ وَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرُهُ وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ الشَّرْطِيَّةِ صِفَةً وَإِذَا حَدَّثَ خَبَرُهُ . وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ أَرْبَعٌ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ قَالَ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ أَرْبَعٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا وَمَنْ مُبْتَدَأُ الْخَبَرِ ( { وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا } ) يَتْرُكَهَا .(1/241)
عَنْ ابْنِ حَجَرٍ النِّفَاقُ لُغَةً مُخَالَفَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ فَإِنْ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ , فَنِفَاقُ الْكُفْرِ وَإِلَّا فَنِفَاقُ الْعَمَلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ ( { إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ } ) أَخْبَرَ عَنْ مَاضِي الْأَحْوَالِ ( { كَذَبَ } ) لِتَمْهِيدِ مَعْذِرَتِهِ فِي التَّقْصِيرِ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَلَمْ يَفِ ( { وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ } ) نَقَضَ الْعَهْدَ وَتَرَكَ الْوَفَاءَ بِهِ ( { وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } ) مَالَ فِي الْخُصُومَةِ عَنْ الْحَقِّ وَقَالَ الْبَاطِلَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُ هَذَا بِأَبْنَاءِ زَمَانِهِ لِعِلْمِهِ بِنُورِ الْوَحْيِ بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ وَمَيْزَ الْمُخْلِصِ وَالْمُنَافِقِ بِمَا يَخُصُّ الْمُنَافِقَ فِي زَمَانِهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَسْمَائِهِمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ أَوْقَعُ فِي النَّصِيحَةِ وَأَجْلَبُ لِلدَّعْوَةِ وَأَبْعَدُ عَنْ النُّفُورِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ لِلتَّأْكِيدِ فِي الزَّجْرِ إيذَانًا بِأَنَّهَا طَلَائِعُ النِّفَاقِ الَّتِي هِيَ أَسْمَجُ الْقَبَائِحِ فَإِنَّهُ كُفْرٌ مُمَوَّهٌ بِاسْتِهْزَاءٍ وَخِدَاعٍ مَعَ رَبِّ الْأَرْبَابِ فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَلِذَلِكَ بَالَغَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ وَنَعَى عَلَيْهِمْ بِالْخِصَالِ الشَّنِيعَةِ وَمَثَّلَهُمْ بِالْأَمْثَالِ الْقَبِيحَةِ وَجَعَلَهُمْ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارِ وَأَعَدَّ لَهُمْ الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ مِنْ النَّارِ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَوْلَى الْأُمُورِ وَأَحَقُّهَا بِأَنْ يُهَاجَرَ عَنْهَا وَلَا يُؤْتَى(1/242)
مَرَاتِعُهَا فَإِنَّ مَنْ رَتَعَ حَوْلَ حِمَى النِّفَاقِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ النِّفَاقِ الْعُرْفِيِّ مِنْ مُخَالَفَةِ السِّرِّ الْعَلَنَ مُطْلَقًا فَيُرَاعِي أُمُورَ الدِّينِ عَلَنًا وَيَتْرُكُ مُحَافَظَتَهَا وَالنِّفَاقُ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ الَّذِي لَهُ طَرِيقَانِ وَعَنْ الطِّيبِيِّ أَقْبَحُهَا الْكَذِبُ لقوله تعالى - { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } - وَعَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ قَبِيحٌ فَإِيَّاكَ وَأَنْ تَعِدَ بِشَيْءٍ إلَّا وَتَفِيَ بِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إحْسَانُك لِلنَّاسِ فِعْلًا بِلَا قَوْلٍ فَإِنْ اُضْطُرِرْت إلَى الْوَعْدِ فَاحْذَرْ أَنْ تُخْلِفَ إلَّا بِعَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ وَخَبَائِثِ الْأَخْلَاقِ ( فَالْوَعْدُ بِنِيَّةِ الْخُلْفِ كَذِبٌ عَمْدٌ حَرَامٌ ) فَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ كَالْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالتَّوْبَةِ لِلْمُذْنِبِ وَإِذَا وَفَّى ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَإِلَّا يُضَاعَفُ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَسَيَأْتِي جَوَازُ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ مَثَلًا . ((1/243)
وَأَمَّا بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ فَجَائِزٌ ) بَلْ مَطْلُوبٌ إذَا كَانَ فِيهِ إدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى الْمُؤْمِنِ ( ثُمَّ إنَّهُ ) أَيْ الْوَفَاءَ عَلَى تَقْدِيرِ نِيَّتِهِ ( لَا يَجِبُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ) وَعِنْدَ غَيْرِ الْأَكْثَرِ وَاجِبٌ كَمَا يَأْتِي , وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ لِعَدَمِ تَعَمُّدِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ آنِفًا كَذِبٌ عَمْدٌ فَمَا لَا عَمْدَ فِيهِ لَا وُجُوبَ فِيهِ ( بَلْ يُسْتَحَبُّ فَيَكُونُ خُلْفُهُ ) بِعَدَمِ الْوَفَاءِ ( مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا ) وَنُقِلَ عَنْ الْعَيْنِيِّ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا وَيُكْرَهُ إخْلَافُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْقِبَ الْوَعْدَ بِالْمَشِيئَةِ لِيَخْرُجَ عَنْ صُورَةِ الْكَذِبِ وَيُسْتَحَبُّ إخْلَافُ الْوَعِيدِ إذَا كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ انْتَهَى وَفِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ لِابْنِ نَجِيمٍ عِنْدَ عَدِّ الصَّغَائِرِ وَخُلْفِ الْوَعْدِ قَاصِدًا لَهُ ( بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ } ) أَخَاهُ بِمَا يُسَوَّغُ شَرْعًا ( { وَنَوَى أَنْ يَفِيَ } ) لَهُ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا ( فَلَمْ يَفِ بِهِ ) قِيلَ لِعُذْرِ مَنْعِهِ ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ) لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا لَا تَقْرِيبَ ; لِأَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ إنْ لِعُذْرٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَحَبًّا وَلَا الْخُلْفُ مَكْرُوهًا بَلْ قَوْلُهُ فَلَا جُنَاحَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ(1/244)
يَنْفِي الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا نَعَمْ قَدْ يَجْتَمِعُ الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا تَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَا جُنَاحَ فِي مَعْنَى لَا بَأْسَ , وَمِنْ مَعَانِي لَا بَأْسَ مَا هُوَ تَرْكُهُ أَوْلَى لَكِنَّ هَذَا التَّرْكَ غَيْرُ كَرَاهَةٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ شُمُولَ الْكَرَاهَةِ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ خَمْسَةٌ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَانْعَدَمَ الْحَصْرُ . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مُلَامٌ بَلْ الْتَزَمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ تَأْثِيمَهُ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَيُؤَوَّلُ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ حَيْثُ كَانَ الْوَعْدُ لَازِمًا لَهُ بِذَاتِهِ لَا لِلْوَعْدِ وَمَنَعَهُ عُذْرٌ . قَالَ فِي شَرْحِ الرِّعَايَةِ وَالْوَعْدُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ كُلُّ مَا يَدْخُلُ الشَّخْصُ فِيهِ بِسَبَبِ مُوَاعَدَتِك فِي مَضَرَّةٍ أَوْ كُلْفَةٍ وَمِنْهُ مَا لَوْ تَكَلَّفَ طَعَامًا وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ مَوْعِدَك انْتَهَى فَتَأَمَّلْ . ( رَوَاهُ ت د عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ) رضي الله تعالى عنه وَالْحَدِيثُ بِهَذَيْنِ الْمَخْرَجَيْنِ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَقَعَ فِي الْجَامِعِ هَكَذَا { إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ وَلَمْ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } ثُمَّ قَالَ فِي الْفَيْضِ الْحَدِيث غَرِيبٌ وَسَنَدُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ قَالَ الذَّهَبِيُّ وَفِيهِ أَبُو نُعْمَانَ مَجْهُولٌ كَشَيْخِهِ أَبِي الْوَقَّاصِ .(1/245)
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ اشْتَمَلَ سَنَدُهُ عَلَى مَجْهُولَيْنِ انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ كَمَا فَهِمْت مِنْ السَّابِق ( وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْوَفَاءُ وَاجِبٌ ) فَتَارِكُهُ آثِمٌ ( وَالْخُلْفُ ) بِلَا عُذْرٍ ( حَرَامٌ مُطْلَقًا ) عَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ لَا ( فَفِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ وَآيَةُ النِّفَاقِ ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِلَافَ مِنْ غَيْرِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ هُنَا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الْفَتْوَى إلَّا أَنْ يُرَادَ طَرِيقُ التَّقْوَى كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ ( وَشَأْنُ السَّالِكِ ) إلَى اللَّهِ ( الِاجْتِنَابُ مِنْ الْخِلَافِ ) فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ خِلَافَ كُلِّ الْأَئِمَّةِ , إذْ خِلَافُ غَيْرِ مَنْ قَلَّدَهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ خَطِئَ فِي اعْتِقَادِهِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ كَقَوْلِنَا إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَمَذْهَبَ غَيْرِهِ خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ , وَالْمُتَوَرِّعُ التَّقِيُّ يَحْتَرِزُ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ مَهْمَا قَدَرَ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَآيَةُ النِّفَاقِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ وَلَوْ ظَنًّا فَافْهَمْ ( وَالْأَخْذُ بِالْوِفَاقِ ) .(1/246)
قَالَ الْبِسْطَامِيُّ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ وَيَجِبُ عَلَى الصُّوفِيِّ أَنْ يُحَصِّلَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصِحُّ بِهِ عَمَلُهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ عَلَى الِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَالصُّوفِيُّ إذَا كَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ مَثَلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطُ فِي أَمْرِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ وَسَائِرِ عِبَادَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَإِنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ الْجَمْعُ يَأْخُذُوا بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْلَى , فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْك إنْ لَمْ تَتَوَضَّأْ فِي الْقُلَّتَيْنِ وَأَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْك إذَا تَوَضَّأْت لِمَسِّ الذَّكَرِ وَالْمَرْأَةِ , وَالْوَاجِبُ أَنْ يُحِبَّ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَيَدْعُوَا بِالْخَيْرِ لِجَمِيعِهِمْ وَلَا يَتَعَصَّبَ أَصْلًا . وَأَمَّا الرُّخَصُ فَيَجِبُ تَرْكُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ اتِّفَاقًا انْتَهَى هَذَا فِي التَّقْوَى فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخَصِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَتْوَى جَائِزٌ , أَمَّا فِعْلُهُ صلى الله تعالى عليه وسلم وَقَوْلُهُ وَمَحَبَّتُهُ الرُّخَصَ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّرِيعَةِ أَوْ قَبْلَ إعْلَامِ لُزُومِ الْعَزِيمَةِ . قِيلَ قَالَ الْفُقَهَاءُ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ مَا لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُ مُدْرِكِهِ أَوْ يُصَادِمُ سُنَّةً صَحِيحَةً أَوْ يُوقِعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ فِي خِلَافٍ آخَرَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ .(1/247)
وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ } وَفِيهِ أَيْضًا { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } وَفِيهِ أَيْضًا { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ } .
وفي شرح النيل :(1/248)
وَيُقَالُ : الشُّكْرُ عَلَى وَجْهَيْنِ : شُكْرُ الْعَامِّ , وَشُكْرُ الْخَاصِّ , فَالْعَامُّ الْحَمْدُ بِاللِّسَانِ , وَأَنْ تَعْرِفَ أَنَّ النِّعْمَةَ مِنْ اللَّهِ , وَالْخَاصُّ الْحَمْدُ بِاللِّسَانِ وَالْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالْخِدْمَةُ بِالْأَرْكَانِ وَحِفْظُ الْجَوَارِحِ عَمَّا لَا يَحِلُّ , وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ : الشُّكْرُ هُوَ الْعَمَلُ , لقوله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا } أَيْ لِتُحَصِّلُوا بِأَعْمَالِكُمْ الشُّكْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْكُمْ , وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَتَانِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا , أَنْ يَنْظُرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ فَوْقَهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ , وَيَنْظُرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَيَحْمَدَ اللَّهَ } , وَتَمَامُ الشُّكْرِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إذَا أَعْطَاك اللَّهُ شَيْئًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ وَارْضَ بِهِ وَلَا تَعْصِهِ مَا دَامَتْ ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صَفْوَةً مِنْ خَلْقِهِ , إذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا , وَإِذَا جَاءَتْهُمْ نِعْمَةٌ شَكَرُوا , وَإِذَا اُبْتُلُوا صَبَرُوا , وَرَكِبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد مَرْكَبًا , فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أُعْطِيت شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنْ قَبْلِك , فَقَالَ : " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا أَنَا فِيهِ : خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ , وَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى , وَحَمْدُ اللَّهِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ " , وَالنِّعْمَةُ مَا يُتَلَذَّذُ(1/249)
بِهِ مِنْ حَلَالٍ , سَوَاءٌ حُمِدَتْ عَاقِبَتُهُ أَوْ لَا , وَقَدْ أَطَلْت الْكَلَامَ فِي تَعْرِيفِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ , كَشَرْحِ الْقَلَصَادِيِّ , لَا كَمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ حَمْدَ الْعَاقِبَةَ , وَأَمَّا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ فَالنِّعْمَةُ مَا يُتَلَذَّذُ بِهِ وَلَوْ حَرَامًا .
وفي الموسوعة الفقهية :
((1/250)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 5 - أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ , وَالْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فِي جَمِيعِ عُهُودِهِ , تَحْقِيقًا لقوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } وَنَفَى الدِّينَ عَمَّنْ لَا عَهْدَ لَهُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } وَمِنْ صُوَرِ الْتِزَامِهِ الْعَهْدَ : وَفَاؤُهُ بِالْوَثِيقَةِ الَّتِي عَقَدَهَا لِلْيَهُودِ عِنْدَمَا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ , وَصُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ . وَغَيْرُهُمَا , وَمِنْ صُوَرِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ . مَا يَعْهَدُ بِهِ الْحَاكِمُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ , كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عُمَرَ - رضي الله عنهما - وَعَهِدَ عُمَرُ إلَى أَهْلِ الشُّورَى رضي الله عنهم وَنَقْضُ الْعَهْدِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا . وَلَا يَصِحُّ مِنْ مُؤْمِنٍ أَبَدًا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلِحَدِيثِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لِأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ , وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْغَادِرُ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ يَتَعَدَّى إلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ .(1/251)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , إذَا حَدَّثَ كَذَبَ . وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَالْغَدْرُ مُحَرَّمٌ بِشَتَّى صُوَرِهِ , سَوَاءٌ كَانَ مَعَ فَرْدِ الْجَمَاعَةِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ مُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ أَمْ مُعَاهِدٍ . 6 - وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِشُرُوطِ الْعَهْدِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ , مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } وَلِأَنَّ أَبَا بَصِيرٍ رضي الله عنه لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ - حَسَبَ الْعَهْدِ - قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { يَا أَبَا بَصِيرٍ إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ صَالَحُونَا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ , فَالْحَقْ بِقَوْمِك . . . فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا } , وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ , وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلَادِهِمْ , حَتَّى إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ , فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ , اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ , فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رضي الله عنه .(1/252)
فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ , فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ , أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } قَالَ : فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ . وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ , وَلَمْ يَنْبِذُوا بِالْعَهْدِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَأْمَنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدٍ وَلَا صُلْحٍ , وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنْ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ , وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . 7 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ لَهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ , حَتَّى تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْأَمَانِ وَيَبْلُغَ مَأْمَنَهُ , لقوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } , وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ , فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ , لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } .(1/253)
8 - كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَغْدِرَهُمْ وَلَا يَخُونَهُمْ , لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى , فَإِنْ خَانَهُمْ أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ أَوْ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إلَى أَرْبَابِهِ ; لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَامٍ , فَلَزِمَهُ رَدُّهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَقَالُوا : لَوْ أَطْلَقَ الْكُفَّارُ الْأَسِيرَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ , أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ , حَرَامٌ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ , وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ ثَمَنَهُ , أَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَالًا فِدَاءً - وَهُوَ مُخْتَارٌ - فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ , وَلِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ أَسْرَانَا بَعْدَ ذَلِكَ .(1/254)
إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ : أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ أَوْ لَا يَهْرُبَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ مُخْتَارًا , فَالْجُمْهُورُ يَرَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ وَإِقَامَةُ شَعَائِرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ وَالْهَرَبُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ , لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ إقَامَةِ الدِّينِ وَالْتِزَامَ مَا لَا يَجُوزُ . أَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ إقَامَةُ شَعَائِرِ دِينِهِ وَإِظْهَارُهُ فِي دِيَارِ الْكُفْرِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ , لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ . لِئَلَّا يُكْثِرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْهَرَبُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ وَهُوَ حَرَامٌ . ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ : أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا أَطْلَقَهُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِفِدَائِهِ - مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ - فَلَهُ بَعْثُ الْمَالِ دُونَ رُجُوعِهِ , وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِدَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ , أَمَّا لَوْ عُوهِدَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَالِ فَعَجَزَ عَنْهُ فَلْيَجْتَهِدْ فِيهِ أَبَدًا وَلَا يَرْجِعْ .(1/255)
وَأَمَّا إذَا وَافَقَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ , سَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ , حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( أَسْرَى ف 82 )
*************
النفاق والمنافقون
أيها المسلمون : المرء جوهر و مظهر ، فجوهره ما يجتمع فيه من حقائق الإيمان و الأخلاق ، و مدركات العقل و العلم ، و خبرات العمل و الإنتاج .
أما مظهره فصفاته الجسمية و ممتلكاته المادية و وجاهته الظاهرية مما لا يتصل ببنائه . ديناً و عقلاً ، و تربيته خلقاً و فكراً .
و من غير المنكور أن للمظهر تأثيراً في المخبر ، فبينهما ترابط و تجاذب ، و تلازم و تناسق . و ذلك شيء يقره الدين و لا تغفله التربية ، و لأجل هذا أمر المسلمون بالانضباط و حسن المظهر في صلواتهم و تسوية صفوفهم و قيامهم لربهم قانتين . و لمثل هذا جاء الأمر بالتطهر و التنظف و التطيب و حسن الملبس . و في الجهاد تكون صفوف المجاهدين كالبنيان المرصوص طاعةً و انقياداً .و لكن المشكلة تظهر و تتبين حينما تختل في ذلك المقاييس و تضطرب الموازين . ذلك أن للشكل الظاهر و صور المظاهر سلطاناً قوياً في التأثير ، و انتزاع الإعجاب ، و انبهار الألباب .
و لقد نبه نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أصحابه إلى ضرورة الدقة في النظر و عدم الاغترار بالظاهر المجرد .جاء في الحديث الصحيح :
" أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه و سلم و هو جالس مع أصحابه ، فقال عليه الصلاة و السلام : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : حري به إن خطب أن ينكح ، و إن شفع أن يشفع ، و إن قال أن يستمع إليه .(1/256)
ثم جاء رجل آخر فقال : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : حري إن خطب ألا ينكح ، و إن شفع ألا يشفع و إن قال ألا يستمع إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا . "
و لكم أن تساءلوا : هل قيمة المرء ما يحسنه و يتقنه و يثمره ؟ أو أن قيمته ما يملكه و يجمعه و يستهلكه ؟؟ .
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها المسلمون ـ فهل لنا أن نقف وقفات مع كتاب الله في تقرير هذا الميزان ، و تجسيد صور من الانحراف في من يخسرون الميزان ؟؟
أيها الأخوة الأحبة : تأملوا هذه الآيات الكريمات : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد " .
و قوله سبحانه : " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ".
و قوله عز شأنه : " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة " .
الإعجاب بالظواهر لمجردها موقع في الهلكة . إعجاب بكثرة الأولاد ، و صحة الأجساد ، و وفرة الأموال ، و طلاقة الألسنة ، و أحاديث الدنيا ، و شؤون المادة . إعجاب يزيد النفوس الضعيفة اضطرباً و اكتئاباً ، و يحسبون أنها تغني عن الإيمان ، أو تهدي إلى الحق ، أو تقود إلى الصلاح و الإصلاح .
أيها الأخوة : و أعظم مظهر يتجلى فيه خلل الميزان ، و أكبر صورة يتبين فيها انتكاس العقل و ارتكاس الفطرة و ضلال البصيرة النفاق و المنافقون .
إن النفاق و أهله و صفات المنتمين إليه يطرح قضية خطيرة في حياة الإنسانية بعامة ، و حياة المسلمين بخاصة ، إنها علاقة المخبر بالمظهر ، و الباطن بالظاهر ، و العقيدة بالسلوك ، و القول بالعمل . إنهم الطابور الخامس كما يقول المعاصرون .(1/257)
و لقد انتدب القرآن الكريم بآياته و سوره لفضح هذه الفئة ، و هتك أستارها ، فجلى دخائل نفوسها ، و خلجات ضمائرها ، و سوء فعالها و أقوالها ، في اضطراب المعتقد ، و الإعراض عن الهدى و الحق ، و نقض العهود ، و إخلاف الوعود ، و الخداع و الكذب ، و التلون و التقلب ، و الصد عن سبيل الله و إيذاء المؤمنين و المؤمنات .
و أما أهل العلم رحمهم الله فقسموا النفاق إلى نوعين : نفاق كفر ، مخرج من الملة ، و هو نفاق العقائد ، يظهر صاحبه الإيمان بالله و رسله و كتبه و اليوم الآخر و هو يبطن الكفر بذلك كله أو بعضه لا مخلص في إيمانه و لا معلن في كفره .
و نفاق دون ذلك في الفروع و الأعمال .
و صفات المنافقين كبائر موبقة ، و جرائم مردية لا تصدر عن مؤمن ملأ الإيمان قلبه ، من جمعها كان منافقاً خالصاً ، و من اتصف ببعضها لازمته حتى يدعها .
النفاق أيها الأخوة : عمدته ثلاث خصال كبرى ، خوف في داخل النفس ، و كذب في الأقوال ، و خداع في الأعمال .
المبتلى بالنفاق خائف مضطرب " يحسبون كل صيحة عليهم " يخاف من انكشاف الحال و افتضاح الأمر ، و من ثم فإن خوفه ينبت الجبن و الهلع . " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون " . الحق و القوة و الشجاعة و البسالة إنما تكون في اليقين و الثبات من نور الفطرة ، و صفاء القلب ، و ضياء الإيمان . و أهل النفاق منغمسون في ظلمات صفات النفوس ، محتجبون بلذائذ الماديات و الشهوات ، يزعزعهم الشك ، و يقلقهم الريب ، فيغلبهم الجبن و الخور ، و يلجؤون إلى التخذيل و الفتنة . " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة " .(1/258)
المبتلى بالنفاق رأس ماله الكذب : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " و رائج بضاعتهم المخادعة : " يخادعون الله والذين آمنوا " إذا وعدوا أخلفوا ، و إذا عاهدوا غدروا ، و إذا خاصموا فجروا ، و إذا دعوا إلى الله و رسوله ترددوا ثم أعرضوا و توقفوا و تحرجوا .
و في الحديث الصحيح " عنه صلى الله عليه و سلم : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، و إذا وعد أخلف ، و إذا ائتمن خان " . زاد مسلم في روايته " و إن صلى و صام و زعم أنه مسلم " .
يبلغ به التهتك في النفاق و الفساد في الأخلاق أن يظهر بوجهين ، و يتكلم بلسانين ، و يمشي بين الفريقين كالشاة عائرة بين القطيعين ، تميل إلى هذا تارة و تميل إلى ذاك أخرى " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " و إذا لقوكم قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم من صناع الفساد و أنصار الباطل و دعاة الفتنة قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزؤون . " الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " .
الله أكبر قد يبلغ النفاق ببعض أهله إلى أن يتصلوا بأعداء الله و أعداء المؤمنين ، و يودون لو تولى العدو أمر المسلمين ، و تصرف في شؤونهم : " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " . " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون " .
الأيمان الكاذبة مركبهم ، و الحلف الفاجر وقايتهم : " ويحلفون على الكذب وهم يعلمون " . " اتخذوا أيمانهم جنة " .(1/259)
و لكن ما الباعث على هذه الأيمان الفاجرة ؟ و ما الداعي لهذه التصرفات المتقلبة ؟ إن النفاق حينما يستشري في بعض النفوس فتحسب اللؤم قوة ؟ و المكر السيء براعة ، و ما هذا و ربك إلا ضعف و خسة ، و خور و سفة ، فالقوي بحق لا يكون لئيماً و لا خداعاً و لا متلوناً ، و لكن الذين لا يخلصون لله سرائرهم يتعذر عليهم أن يشعروا بفساد أعمالهم : " ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " بل و لا يعلمون افتضاح أمرهم : " ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " لماذا ؟ لأن ميزان الخير و الشر و الصلاح و الفساد يتأرجح عندهم مع الأهواء الذاتية و المصالح الشخصية ، يزعمون أنهم مصلحون و هم يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و يقبضون أيديهم .
منافقون مذبذبون يأتون بظواهر العبادات و قد قام بهم الرياء و هو أقبح مقام ، و قعد بهم الكسل و هو بئس القعيد : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " . " ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " . تكاسلاً و ثقلاً ، و شحاً و بخلاً ، لا يرجون ثواباً و لا يخشون عقابا .
و من مراتب النفاق الكبرى أن يجلس جالسهم مجلساً يسمع فيه آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فيسكت و يتغاضى ملتمساً لنفسه أعذاراً أو مسوغات من التسامح و اللباقة و الدهاء و الكياسة و سعة الأفق و حرية الرأي ، و ما درى أن هذه هي الهزيمة تدب في أوصاله و تنخر في فؤداه و ما فرق بين حرية الفكر و جريمة الكفر : " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " .
أهل النفاق لا يعتبرون من الفتن ، و لا يرجعون ند الكوارث و لا يستفيدون من الحوادث : " أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون " .(1/260)
و لقد قال الله في ساعات البلاء و التمحيص : " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا " .
عباد الله : إن بلية الإسلام بهم ـ كما يقول الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله ـ شديدة ، لأنهم منسوبون إليه و هم أعداؤه على الحقيقة ، يخرجون عداوته في كل قالب ، حتى ليظن الجاهل أنهم على علم و إصلاح ، فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ، و كم من حصن قد قلعوا أساسه و خربوه ، و كم من علم قد طمسوه ، و كم من لواء مرفوع قد وضعوه ، و كم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها . استعان بهم الشيطان على الفتن و التحريش في تاريخ الإسلام العريض . و ما كثر القتل و تعددت الأهواء ، و انتشرت المذاهب الباطلة ، و السبل الضالة إلا بما وضعوه من التفسيرات المنحرفة و التأويلات المتعسفة ، و ما عبثوا به من المصطلحات و زيفوا من المبادىء . و في أخبار الزنادقة و من لف لفهم من يظهر الإسلام و يبطن الكفر ما يدل على عظيم البلاء و خطر الابتلاء . فلا يزال الإسلام و أهله منهم في محنة و بلية ، ما أكثرهم و هم الأقلون ، و ما أجبرهم و هم الأذلون ، و ما أجهلهم و هم المتعالمون : " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون " .
فالله وحده المستعان على ما يصفون ، و عليه التكلان فيما يجترؤون .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم " .
*************
درس 13 / 100 : لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي
رقم الشريط : 13 / 602
تاريخ الدرس : 29 / 04 / 1991
موضوع الدرس : مدارج السالكين : النِفاق .(1/261)
أيها الأخوة المؤمنون .... مع الدرس الثالث عشر من دروس مدارج السالكين . موضوع اليوم عنوانه النِفاق ، ولماذا كانَ هذا الموضوع ، هناكَ أسباب وجيهةٌ وخطيرةٌ تدعو إلى معرفة هذا المرض الخطير الذي يصيب المؤمنين ولا أدلَّ على خطورة هذا الموضوع من أنَّ سيدنا عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه قال لحذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه : يا حذيفة ناشدتك بالله هل سماني لكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .. أي من المنافقين .. قالَ لا ولا أُزكّي بعدكَ أحداً . ولا أدلَّ على خطورةِ هذا الموضوع من أنَّ الحسنَ البصري رضي الله عنه قال ما أمِنَ النِفاقَ إلا مُنافق .. وما خافَ النفاقَ إلا مؤمن . فيجب أن نعرفَ هذا المرض الخطير الذي يصيب المؤمنين .
أيها الأخوة الأكارم ... النِفاقُ داءٌ عُضالٌ باطن .. ومعنى باطن أنه قد يكون مستشريّاً في نفس المؤمن وهو لا يدري ، فمن كانَ مطمئناً من هذا المرض ربما كانَ منافقاً ، قد يمتلئُ منه الرجل وهو لا يشعر فإنه أمرٌ خَفي على الناس وكثيراً ما يخَفى على من تلبسَّ به فيزعم أنه مصلح وهو في الحقيقة مُفسد . .. أحدنا إذا كان يخاف على سلامة إيمانه ، إذا كانَ يخاف على مكانته عِندَ ربه ، إذا كانَ يخشى الله واليومَ الآخر ، إذا كانَ يخشى أن يُحبطَ الله عمله ، إذا كانَ يخشى أن يكونَ له صورة وله حقيقةٌ أخرى لا يرضاها الله عزّ وجل ، فليُدقق في هذا الدرس
العلماء قالوا : " النِفاق نوعان .. نوعٌ أكبر ونوعٌ أصغر . النوع الأكبر يوجِبُ الخلودَ في النار في دركها الأسفل " قال تعالى :
( سورة النساء )(1/262)
المشكلة : المنافق يصلي مع الناس ، ويصوم مع الناس ، وله زيٌّ إسلامي ، ويحضر جماعاتهم ، فالنوع الأكبر يُوجب الخلودَ في النار في دركها الأسفل لأنَّ المنافقَ هذا يُظهر للمسلمين إيمانه بالله وإيمانه بالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر ، وهو في الباطن مُنسلخٌ من ذلك كله ، لا يؤمن بأنَّ الله تكلّمَ بكلامٍ أنزله على بشر ، يهديهم بإذنه ، ويُنذرهم بأسه ، ويُخوّفهم عِقابه ، هذا الإنسان المُنافق هَتكَ الله سِترهُ وكشفَ سِرّه ، وجلّى لعباده أمره ، ليكون الناسُ منه على حذر . وذكر الله سبحانه وتعالى كما تعلمون في القرآن الكريم وفي مطلع سورة البقرة أربعَ آياتٍ تتعلق بالمؤمنين ، أصناف العالمين أصنافٌ ثلاثة : مؤمنٌ وكافرٌ ومنافق . فالمؤمنون خصّهم بأربع آيات :
( سورة البقرة )
والكفار خصّهم بآيتين :
( سورة البقرة )
وأما المنافقون فتحدثَ عنهم في ثلاث عشرة آية لخطورتهم ولاستشراء النِفاق في صفوف المؤمنين ، لذلك المؤمن القضية سهلة .. مؤمن .. مستقيم ، عقيدته صحيحة ، مخلص ، مُقبل ، مُنيب ، مُحب ، ورع . والكافر لا يستحي بكفره من كلامه ، من تعبيراته ، من حركاته ، من سكناته ، فأنتَ تعرفُ المؤمن وتعرفُ الكافر ، ولكن هذا الشخص الثالث الذي يُظهر لكَ من الإيمان ما فيه الكفاية وهو مُنافق ، قال هذا النوع الثالث هو النوع الخطر . الله سبحانه وتعالى خصّه بثلاثة عشرة آية ، لكثرتهم ، لكثرة المنافقين ، ولِعموم الابتلاء بهم ، وشِدة فتنتهم على الإسلام وأهله ، فإنَّ بليّة الإسلام بهم ، والذي يقوله الناس دائماً أخشى ما نخشاه على الإسلام لا من أعدائه بل من أدعيائه المنافقين ، لأنَّ هؤلاء المنافقين يفجرونه من داخله ، إذا هاجمه أعداء الدين ، أخذَ المؤمنون الحيطة ولكنَّ المنافقين في صفوف المؤمنين ، بينهم ، في مساجدهم، معهم، في أعمالهم .
قال : فكم من معقلٍ للإسلام قد هدموه
وكم من حِصنٍ له قد قلعوا أساسه وخرّبوه(1/263)
وكم من عَلمٍ قد طمسوه
وكم من لواءٍ له مرفوعٍ قد وضعوه
وكم ضربوا أساسه بالمعاول فهدّموه
لذلك ربنا عزّ وجل قال :
( سورة البقرة )
( سورة الصف )
أربع آياتٍ للمؤمنين ، آيتان للكفار ، ثلاث عشرة آية للمنافقين لكثرتهم ولخطورتهم ، ولإفسادهم ، ولانحرافهم ، ولأنَّ الناسَ قد يَلبَسُ عليهم أمرهم ، أول صِفة من صفات المنافقين : قال اتفقَ المنافقونَ على مفارقة الوحي ، .. كلام الله عزّ وجل عِندَ المؤمنين له شأنٌ عظيم بينما كلام الله عزّ وجل عِندَ المنافق .... يتحرك في الحياة لا وفقَ كلام الله بل وفقَ هواه ، ما أمرَ الله به ما نهى عنه ما وضحهُ ما بينّهُ ما سَنّهُ ، .. تراه ينطلق من مصالحهِ ، من ثقافته أحياناً ، من طموحاته غير المشروعة ، ولا يعبأ بكلام اللهِ ، ولا بحدوده ، ولا بأوامره ولا بنواهيه ، ربنا عزّ وجل وصفهم فقال :
( سورة المؤمنون )
عِندهم آراء وعقائد ومواقف وتنظيمات لا تمت للدين بصِلة ، " كلُّ حِزبٍ بما لديهم فرحون " هؤلاءِ هم المنافقون ، وأيضاً يوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرفَ القولِ غروراً ، والذي يجمعهم جميعاً أنهم اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، .. يتلو قوله تعالى :
( سورة البقرة )
فإذا طرقَ بابه خُطّابٌ كثيرون يختار الغني ولا يعبأ بالمؤمن .
إذاً قال الله عزّ وجل :
( سورة البقرة )
لا يُبالي بهذه الآية يأكل الرِبا ويوكِله ، هذا هو النِفاق لعلكَ تراه يصلي ، لعلكَ تراه يصوم ، لا قيمة لهذه الصلاة ولا لهذا الصيام .
اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ما هجرَ تِلاوته ولكن هجرَ تطبيق أحكامه ، ما جعله في حياته جعله وراء ظهره جعله خارج اهتمامه فالإنسان الذي لا يعبأ بكلام الله ، ولا يتخذه دستوراً، ولا ينطلق في حياته من أحكامه ، فهذا منافقٌ منافقٌ منافقٌ .
صِفةٌ أخرى من صفات المنافقين : قالَ الله عزّ وجل :
( سورة البقرة )(1/264)
عيناه لا تريه آيات الله عزّ وجل تريه مباهج الدنيا ، عينه تلتقط المباهج ، الزخارف ، المٌتع ، المال ، ما فيها من زينة ، أما أن تلتقط عينه آيات الله الدالة على عظمته ، ليسَ هذا من صفات المنافق " صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون " إن ألقيتَ عليه الموعظة كانَ كالأصم ، إن تكلّمَ تكلّمَ بالدنيا ، لسانه يتلعثمَ في ذِكر الله ، لا يذكر الله إلا قليلاً ، يذكر الدنيا إذا ألقيت عليه حديثاً عن الله عزّ وجل تململ وتثاءب وقال دعكَ من هذا الحديث ، أما إذا ألقيت عليه حديث الدنيا أصغت أذناه وبرقت عيناه وتألّقَ ربنا عز وجل قال : صمٌ بكمٌ عميٌ أصمّ عن سماع الحق ، أبكم عن أن يذكروا الله عزّ وجل ، عمي عن آيات الله الكونية فهم لا يرجعون إلى الله عزّ وجل.
أتلفت قلوبهم الشبهات والشهوات ، .. يا أخي ما قولك في إيداع المال في مصارف أجنبية .. هناك من أفتى بهذا ، هذا شُغله الشاغل ، ما قولك بهذا الكتاب قراءات معاصرة هذا شغله الشاغل ، ما قولك بهذه الفتوى للعالم الفلاني بجواز أكل الرِبا بنسبٍ قليلةٍ .... أتلفَ قلبه ... الشبهات والشهوات .
وغَلَبت نواياهم السيئة على مقاصدهم الحسنة فكأنه كما قال الله عزّ وجل :
( سورة البقرة )
الأمراض التي في قلوبهم انقلبت إلى أعمال ، فكيف يزداد المرضُ مرضاً إذا استحكمَ في النفسِ وانقلبَ إلى سلوك .
لهم علامات يُعرفون بها ، باديةٌ لمن تدبرها ، من أوضحها الرياء وهو أقبحُ مقامٍ يقفه الإنسان .. الرياء .. الازدواجية .. لهم ظاهر ولهم باطن ، لهم موقف مٌعلن ولهم موقف حقيقي لهم عبادةٌ يعبدون الله بها في بيوتهم ، ولهم عبادة يعبدون الله بها أمام الناس ، أساس مواقفهم الرياء ، وقعدَ بهم الكسلُ عمّا أُمروا من أوامر فأصبح الإخلاص عليهم ثقيلاً ، كيفَ وصفهم الله عزّ وجل قال :
( سورة النساء )(1/265)
درسنا الآن بعض الآيات التي تصف المنافقين ، هذا كلام الله عزّ وجل ، فإذا الإنسان بريء من هذه الأوصاف فأنعم به وأكرم ، وليحمد الله عزّ وجل ، ونرجو الله جميعاً أن نكونَ ممن نجاهم الله من النِفاق ، وإن كانَ متلبّساً ببعض الصفات والقلب ينبض إذاً المجال مفتوح باب التوبة مفتوح ، باب الإخلاص مفتوح ، باب الإصلاح مفتوح ، الصِفة الأولى أنهم يراءون الناس، ولا يذكرون الله إلا قليلاً ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى .
من صفات المنافقين التذبذب والحيرة ، مع هؤلاء أم مع هؤلاء ، مع رفاق السوء أم مع المؤمنين ، مع دورِ العِبادة أم مع دورِ اللهو ، لا يسخو لا بهذا ولا بذاك ، " في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً " قالَ أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعرُ إلى هذه مرةً وإلى هذه مرةً ولا تستقر مع إحدى الفئتين ، إذا كان أحد الناس جلس مع المؤمنين طابَ له المجلس ، فإذا جلسَ مع الكفار أو مع أهل الدنيا ، أو مع أهل البُعدِ ، فسُرَّ معهم واستمرأَ حديثهم ، وطابت له جلستهم ، فهذه علامة النِفاق ، لو كانَ مؤمناً حقاً لا يرتاح للكفار ، ولا لحديثهم ، ولا لمزاحهم ، ولا لأنماط سلوكهم ، ولا لأوضاعهم ، لذلك النبي الكريم وصف المنافقَ فقال :
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً لا تَدْرِي أَهَذِهِ تَتْبَعُ أَمْ هَذِهِ *
قال تعالى :
( سورة النساء )(1/266)
هو وزوجته ، زوجته نوعاً ما مُحجبّة يجلس في مكان عام حيث الغناء والطرب والاختلاط والمشروبات ... هذا المكان ليسَ مكانك .. أنت مسلم ، أنت مؤمن ، أنت مع المؤمنين، لا تسخو نفسه بترك هذه الحفلات ، والله سمعت بعض النِسوة المحجبّات يذهبنَّ إلى حفلاتٍ في الفنادق . .. حفلة مختلطة فيها شرب الخمر كيف تسوغُ لنفسكَ أن تأتي مع امرأتك إلى هذا المكان ، هكذا وصف المنافقين .. كالشاة العائرة بين الغنمين تيعرُ إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تستقرُ مع إحدى الفئتين مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجدَ له سبيلاً .
صِفةٌ أخرى من صفات المنافقين : يتربصون الدوائر بأهلِ الكتاب والسُنّة .. بالمؤمنين .. دائماً على حسد ، دائماً على تربص ، فإن كانَ لهؤلاء المؤمنين فتحٌ من الله قالوا ألم نكن معكم، نحن معكم يا أخي ، نحن مؤمنون ، نحن أعنّاكم ، نحن دعمناكم ، قال فإن كانَ لهم فتحٌ من الله قالوا ألم نكن معكم وأقسموا على ذلك بالله جهدَ أيمانهم ، وإن كانَ لأعداء الكتاب والسُنّة من النُصرة نصيب قالوا ألم تعلموا أنَّ عقدَ الإخاءِ بيننا وبينكم مُحكم ، نحن معكم ضد المؤمنين ، وأنَّ النسب بيننا قريب ، ربنا عزّ وجل قال :
( سورة النساء )
هذا الموقف المتذبذب مع الأقوى دائماً مع الأعز .. هذا موقف المنافق ..
الحقيقة المنافق قد يُعجبُ السامعُ بقوله لحلاوته ولينه ويُشهد الله على ما في قلبه ، يقول لك شَهِدَ الله أني أُحبك ، يُشهِد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام . قال تعالى :
( سورة البقرة )(1/267)
خصم عنيد ، خصم شديد ، عدو لدود ، ومع ذلك له كلام أحلى من العسل ، وله قلبٌ أمرُّ من الصبر ، هذه من صفات المنافق ، تكاد تكون الازدواجية مِحور أساسي في هذه الصفات . .. المؤمن الحق ما في قلبه على لسانه ، وما قاله بلسانه في قلبه ، وعلانيته كسريرته ، وسريرته كعلانيته ، وباطنه كظاهره ، وظاهره كباطنه ، المؤمن متوّحد في اتجاه ، المنافق مزدوج ، فهذه نصيحة لكل أخ مؤمن : اجعل الصلاة في البيت كما هي في المسجد ، غضُ بصركَ في الطريق وأنتَ وحدك كما لو كنت بين المؤمنين ،... راقب الله عزّ وجل ، لا تأخذكَ في الله لومة لائم ، لا تعبأ بكلام الناس ، لا تأخذ مواقف أمام الناس ، لا تكن لكَ مواقف أخرى في البيت ، من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله . ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مُخلّط .
( سورة البقرة )
يُفسد العلاقة بين الزوجين ، أخته متزوجة وزارها .. ماذا قدّمَ لكِ زوجك في العيد ؟ .. ما قدّمَ لكِ شيئاً ؟... هذا السؤال أفسدَ العلاقة بينَ الزوجين ، إن جلس مع شريك .. ماذا يُعطيك شريكك فقط 30 % والله قليل كيف ترضى معه بهذا الشكل أفسدَ العلاقة بين الشريكين ، بين الزوجين ، بين الأخوين ، بين الجارين ، " وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسدَ فيها ويهلكَ الحرثَ والنسل والله لا يُحب الفساد "
المنافق كلام الله عليه ثقيل ، لا تركن نفسه إلى كلام الله ، لا ينصاعُ له ،.. إذا حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين وإن دعوتهم إلى حُكم كتاب الله وسُنّة رسوله رأيتهم عنه مُعرضين . ربنا عزّ وجل قال :
( سورة النساء )(1/268)
كتاب الله بيننا ، ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام بيننا ، المنافق لا يرضى لا بكتاب الله ولا بكلام رسول الله ، يرضى برأيه الشخصي ، أو بحكم القاضي ، أو برأي المحامي ، المنافق من علاماته كثيرُ حلفِ الأيمان بلا سبب ، كثرةُ حلفه للأيمان دليل خلل داخلي ، فأحدهم تسبقُ يمينه كلامه ، لم يكذبكَ أحد ما أحد كلّفكَ أن تحلف اليمين ، ما أحد دعاك إلى حلف اليمين يحلف الأيمان الكاذبة دون أن يُستحلف ، لاعتقاده الداخلي أنَّ الناسَ لا يصدقونه ، هناك خلل داخلي في شخصيته ، فربنا عزّ وجل قال :
( سورة المجادلة )
اتخذوا أيمانهم وقايةً ، دريئةً يدرؤون بها تشكيكَ الناس في أقوالهم ، .. هذه كلها آيات قرآنية .. كثرة حلف الأيمان ، الصدُّ عن حُكم الله وحُكمِ رسوله ، الفساد في الأرض ، إفساد العلائقَ بينَ الناس ، له كلامٌ أحلى من العسل وقلبٌ أمرُّ من الصبر ، يتربصون بالمؤمنين الدوائر مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، يراءون الناسَ ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى ، لا يذكرون الله إلا قليلاً ، هذه صفاتهم المُستنبطة من آيات الله البيّنات .
المنافق كأنه إنسان سارَ في رحلة في الصحراء ، بعد حينٍ من الوقت أو بعدَ مسافةٍ من المكان شعرَ بالتعب والإعياء فنكثَ راجعاً ، لم يتابع المسير . فربنا عزّ وجل قال :
( سورة المنافقون )(1/269)
بعد ما آمن رأى في الإيمان قيوداً ، حدوداً ، وتكاليف ومجالس علم ، وغض بصر ، وهذه حرام وهذه حلال ، بعدَ أن عاهدَ الله عزّ وجل وسارَ في أولِ طريق الإيمان رأى الإيمان عِبئاً عليه ، رآه ثقيلاً ، رأى التكاليف تكاليف باهظة ، لذلك انتكثت روحهُ وعاد القهقرى وتركَ المؤمنين يتابعون الطريق ، قال تعالى " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطُبعَ على قلوبهم فهم لا يفقهون " بعد أن آمن كفر ، وهذا واضح ، بعد ما حضر مجالس العلم سنة ، انتكث وعادَ إلى شهواته وأهوائه ، وعادَ إلى رفاق السوء ، وعادَ إلى انطلاقه إلى المعاصي كيفما يشاء ، فهذه النكثة هيَ نكثات المنافقين .
قد يكون هذا المنافق حَسَنَ القامة ، له جسم رائع ، له قامة مديدة ، له وجه وسيم ، له عضلات مفتولة ، له ذكاء ، له لسان طليق ، له بيان ساحر . قال الله عزّ وجل :
( سورة المنافقون )(1/270)
شخصية ، شكل وأناقة وعطر ، رفاه وجلسات متقنة وكلام متقن ، " وإن يقولوا تسمع لِقولهم كأنهم خُشبٌ مُسندة يحسبونَ كلَّ صيحةٍ عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون " .... عن الغذاء وليس لها ثمر ومُسندّة ، يعني أيّ دفع يجعلها في الأرض ، من أروع التشابيه ، " المؤمن ليسَ ساذجاً ، يؤخذ بشخص طويل القامة ، أنيق المظهر ، طليق اللسان ، ذكي العقل ، لكن خبيث النفس ، ضعيف الإيمان ، شهواني ، له خلفيّة سيئة ، المؤمن ذو بصيرة ، اتقوا فِراسةَ المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، وقال سيدنا علي : نحن نعرف الرجالَ بالحق ولا نعرف الحقَ بالرجال ، المؤمن مقياسه دقيق جداً ، يعني أن يفعل المؤمن فعلاً منافياً للشرع هذا الشخص ساقطٌ بنظر المؤمن ، أن يعتقدَ اعتقاداً مخالفاً لكتاب الله هذا الشخص ساقطٌ في نظر المؤمن ، أما الذي يُعجب بالناس ، بأجسامهم ، بأطوالهم ، بحركاتهم ، بسكناتهم ، بفصاحتهم ، بطلاقتهم ، ولا ينظر إلى انحرافاتهم وإلى أخطائهم ، وإلى بُعدهم عن أمر الله عزّ وجل وعن سُنّة النبي فهو إنسان ساذج ، قال "(1/271)
قال : يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول ، فالصبح عِندهم طلوع الشمس والعصر عِندهم الغروب ، وينقرونها نقرَ الغراب إذ هيَ صلاة الأبدان لا صلاة القلوب ، يلتفتون فيها التفات الثعلب ولا يشهدون الجماعة ، بل إن صلى أحدهم صلى في البيت أو في دكانه ، يهجر المسجد .. هذه صفة المنافقين ، من علامة المنافقين إذا أصابَ المؤمنين عافيةٌ ونصرٌ وظهورٌ ساءه ذلكَ وغمهُ ، على المستوى الفردي لك أخ مؤمن الله عزّ وجل رفع شأنه تتألم ، أطلق لسانه تتألم تتضايق ، جعل له شأن في المجتمع تتضايق ، تبحث عن عيوبه ، تبحث عن سقطاته ، تُبرزها للناس .. هذه علامة النِفاق .. من علامة الإيمان أنَّ المؤمن إذا رأى أخاه المؤمن قد أطلق الله لسانه ورفع شأنه يفرحُ له ويكون في خدمته وعونه .. الحق واحد لأنه .. إذا عزَّ أخوكَ فهُن أنت ، المؤمنون شركاء في أعمالهم الصالحة ، الإنسان إذا عمل عملاً صالحاً دعم بعمله أخاه المؤمن ، مؤمنون كانوا في زيارة شخص أحدهم انطلقَ في الحديث عن الله عزّ وجل إذا سكتَ الباقون لهم مِثلُ أجره ، لأنَّ العِبرة أن يصل هذا الحق إلى هذا الإنسان ، أما التنافس والتنطع وعرض العضلات ليسَ هذا من صفات المؤمن ، أخوك انطلقَ في الدعوة إلى الله كُن معه أنت ، كُن معيناً له ، كُن دعماً له ، لا تحاول أن تُبرز سقطاته الموهومة عِندك ، ربنا عزّ وجل قال :
( سورة آل عمران )(1/272)
يتضايق . .. يُعلن عن حسده ، يُعلن عن غيرته ، يُعلن عن ضيقه ، لا يتمنى لهذه الدعوة أن تنتشر ، لا يتمنى لهذا المؤمن أن يظهر ، لا يتمنى له أن يعلو عِندَ الناس ، " إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيئةٌ يفرحُوا بها " يعني .. فإذا أصابَ هذا المؤمن مصيبة يفرح المنافق وقد يُعلن عن فرحه ، إذا فرح عاقبه الله عزّ وجل ، فإذا أعلن عن فرحه ازدادَ العِقاب ، الله عزّ وجل كرهَ طاعتهم ، لِخُبثِّ قلوبهم وفسادِ طواياهم ثبطهم عنها ، أقعدهم ، أبغضَ قربهم منه ، لميلهم لأعدائه طردهم عنه وأبعدهم ، أعرضوا عن وحيه فأعرضَ عنهم ، أشقاهم وما أسعدهم ، حكمَ عليهم بُحكمٍ عدلٍ لا مطمعَ لهم في الفلاحِ بعده .. القرآن الكريم ..
( سورة التوبة )
لأتفه سبب يترك مجالس العلم .. لماذا ربنا ثبّطَ عزائمهم ، قال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ، يوهنون القِوى ، يوهنون العزائم ، يضعِفون المعنويات ، يُيئسوا ، لهم كلمات فيها استهزاء ، لهم كلمات فيها تجريح ، هم ميالون للدنيا ، قال :
( سورة التوبة )
المنافق من دلائل نِفاقه أنَّ النص القرآني ثقيلٌ عليه ، قال ثَقُلت عليهم النصوص فكرهوها ، أعياهم حملها ، ألقوها عن أكتافهم ووضعوها تفلتت منهم السُنن فلم يحفظوها ، قال تعالى :
( سورة محمد )
إذا الله عزّ وجل أمرَ بأمر وأنت شعرت بكراهية لهذا الأمر فهذه علامة النِفاق ، المؤمنون .. يفرحون بما أُنزل إليهم . .. أما المُنافق يرى أمرَ الله ثقيلاً عليه .(1/273)
هم أسرّوا النِفاق لكن الله عزّ وجل أظهرَ بعضَ علاماته على صفحات وجوههم وظهرَ نِفاقهم من فلتاتِ لسانهم ، أحياناً فلتات اللسان تُعبّر عن الجنان ، .. قاعدة .. شخص لا تحبه أنت وجاء ذِكره وشخص حي يُرزق تقول الله يرحمه .. لم يمت .. ما مات .. معنى هذا أنكَ تتمنى موته .. هذه فلتات اللسان ، أحياناً تحضر قائم حُزن تتكلّم بكلمة .. وكأنك تتمنى لهذا الحُزن أن يستمر .. لا تنتبه .. هذه فلتات اللسان لها عِندَ علماء النفس معانٍ كثيرة جداً ، فالمنافقون من صفحات وجوههم ومن فلتات لسانهم يعبّرونَ عن ما في قلوبهم ، ربنا عزّ وجل قال :
( سورة محمد )
تجد المؤمن وجهه مُشرق ، فيه براءة بوجهه ، فيه نور ، فيه صفاء ، فيه إقبال ، وجه المنافق تجده في نوع من الغَبَرَة ، وجهه أسود ، سواد معنوي ، وجهه فيه قتامة ، وجهه فيه انحباس ، النِفاق ، قال " أم حَسِبَ الذين في قلوبهم مرضٌ أن لن يُخرجَ الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول " لحن القول هو فلتات اللسان .. " والله يعلم أعمالهم " .
من صفات المنافقين أيضاً : لمّا ربنا عزّ وجل قال في سورة الحديد :
( سورة الحديد )(1/274)
المنافقون في الدنيا كانوا مع المؤمنين ، معهم في مساجدهم ، في أفراحهم ، في أتراحهم، في الحج ، في رمضان ، في الصيام ، هم معهم ... مختلطونَ معهم ، يوم القيامة يتوقف بهم المسير على الصراط المستقيم فيقولون للمؤمنين " انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً " لم تكن أعمالكم في الدنيا صالحة ، لم تكن هِممكم في الدنيا عالية لم تكن نواياكم مُخلصة ، الدنيا مكان العمل ، وفيها يُقتبسُ النور ، ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، قالوا ألم نكن معكم ....؟.. قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم بالدنيا وتربصتم ، وارتبتم ، وغرّتكم الأماني حتى جاء أمرُ الله وغَركم بالله الغَرور ، انظر كم صِفة ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم يعني .. أحببتم الدنيا وجعلتموها كلَّ همكم وجعلتموها مَحطَ رِحالكم وتربصتم بالمؤمنين تمنيتم أن يصيبهم السوء ، تربصتم بالمؤمنين تمنيتم الدمارَ لهم ، إذا جاءهم الخير ضاقت نفوسكم به ، وارتبتم في كلام الله عزّ وجل ، ما كنتم على يقينٍ من كلام الله عزّ وجل ، إرتبتم في وعده وفي وعيده ، ارتبتم في حلاله وفي حرامه ، وغرّتكم الأماني ، تمنيتم الدنيا وحدها واغتررتم بها حتى جاءَ أمرُ الله وغرّكم بالله الغَرور .
الغَرور هو الشيطان وعدكم وأوهمكم أنه من كانَ من أُمةِ مُحمدٍ عليه الصلاة والسلام يشفع له النبي يكفي أن تكون من أمةِ مُحمدٍ فالنبي مُحمد صلى الله عليه وسلم يشفعُ لكَ يومَ القيامة دونِ قيدٍ أو شرط .. هكذا .. فانطلقتم إلى المعاصي ، وإلى الشُبهات ، وإلى المخالفات وإلى الدنيا ، وإلى المغانم والمكاسب .
يُروى أنَّ سيدنا حُذيفة بنَ اليمان سَمِعَ رجلاً يقول اللهم أهلك المُنافقين فقال يا ابن أخي لو هَلَكَ المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قِلة السالكين . يعني بِشارة من سيدنا حذيفة بن اليمان إلى أنَّ الكثرة الكثيرة من الناس يعني من هذا القبيل .(1/275)
سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أسرَّ إليه النبي عليه الصلاة والسلام أسماء المنافقين فسيدنا عمر يعلم ذلك فقال له يا حذيفة ناشدتك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ..؟.. ورد اسمي بالقائمة .. قال لا .. ولا أُزكي بعدكَ أحداً .. لا تحرجني أنت لا اسمك غير وارد .. ولا أُزكي بعدكَ أحداً .
ابن مُليكة يقول : أدركتُ ثلاثينَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النِفاقَ على نفسه . ما منهم أحدٌ يقول إنَّ إيمانه كإيمانِ جبريلَ وميكائيل .
إذا شككت بنفسك دائماً .. لعل في نِفاق ، لعل في تقصير ، فهذه علامةٌ طيبة ، وإذا في طمأنينة ساذجة ، أنا مؤمن الحمد لله ، أنا بزمن صعب ، أنا عملي كسبعين من أصحاب رسول الله ، أنا في زمن القابض على دينه كالقابض على الجمر إذا كان بهذه النفسية أنت مطمئن ، مرتاح تماماً ، وما في مشكلة عِندك إطلاقاً ، هذه علامة خَطِرة هذه علامة النِفاق ، علامة الإيمان أن تخشى النِفاق ، وعلامة النِفاق ألا تخشى منه .
الحسن البصري كما قلتُ لكم قال : ما أمِنَ النِفاق إلا مُنافق ، وما خافه إلا مؤمن ، وكانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونَ اللهَ فيقولون : اللهّمَ إني أعوذُ بِكَ من خشوعِ النِفاق ، قيلَ وما خشوع النِفاق ..؟.. قال : أن يُرى البدنُ خاشعاً والقلبُ ليسَ بخاشع بالصلاة يظهر الخشوع شيء .. وقلبه ليس بخاشع ..
قال بعضهم : النِفاق يُزرعُ ينبتُ له ساقان ساقُ الكذب وساقُ الرياء ، ويُسقى بعينين عينِ ضعفِ البصيرة وعينِ ضعفِ العزيمة ، يعني .. رؤيته غلط وإرادته ضعيفة وفي عنده كذب وفي عنده رياء ، يعني أربع دعائم للنِفاق : الكذب والرياء وضعف البصيرة وضعف العزيمة . رؤيته مضطربة ، عزيمته ضعيفة ، يعتمدُ الكذب ، ويعتمدُ الرياء . وقد قال عليه الصلاة والسلام:(1/276)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ
فالكذب ليسَ من صفات المؤمن .
قال : إذا تمت هذه الأركان الأربعةُ استحكمَ نبات النِفاق ولكنه بمدارج السيول على شفا جُرفٍ هار فإذا شاهدوا سيلَ الحقائق يوم تُبلى السرائر ويبعثرُ ما في القبور ويُحصّلُ ما في الصدور تبيّنَ لهم يومئذٍ من كانت بِضاعته النِفاق فهي كالسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجدَ الله عِنده فوفّاه حِسابه والله سريع الحساب .
ملخص الدرس : من علامات النِفاق أنَّ المُنافق إذا عاهدَ خان وإذا وعدَ أخلف ، وإذا قالَ كذب لم يُنصف ، وإذا دُعي إلى الطاعةِ تلكأ، وإذا قيلَ لهم تعالوا إلى ما أنزلَ الله وإلى الرسولِ صدفوا ، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أعراضهم أسرعوا وانصرفوا ، فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزيِ والخُسران .
( سورة التوبة )(1/277)
هذا الذي يسميه كُتّاب السيرة حمامة المسجد ثعلبة كانَ يصلي خلف النبي ، ما فاتته تكبيرة الإحرام خلفَ سيدِ الأنام ، كان فقيراً قال له يا رسول الله ادع الله أن يرزقني ، يبدو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام له بصيرة في هذا الإنسان ، قال يا ثعلبة قليلٌ تؤدي شُكره خيرٌ من كثير لا تؤدي شكره ، قالَ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني ، قال يا ثعلبة قليلٌ يكفيك خيرٌ من كثير يٌطغيك ، قالَ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني ، يريد مالاً ، فقال ربي ارزق ثعلبة كيفَ شئت ومتى شئت ، اشترى غنماً والغنم توالدت ملأت طرقات المدينة بشكلٍ عجيب ، بمدةٍ قصيرة صارَ من أغنى الأغنياء ، ما عادَ يُصلي خلفَ سيد الأنام ، ما عادَ يُحصّل تكبيرة الإحرام خلف سيد الأنام ، غاب عن مجلس النبي عليه الصلاة والسلام ، غاب غيبة طويلة جداً ، النبي سأل عنه ، تجد الواحد بعد الزواج لم نعد نشاهده ، بعد ما صار تاجراً لم نعد نشاهده .. الله عزّ وجل ورسوله أولى باهتمامك .. فالنبي بعثَ برسول لثعلبة يطالبه بالزكاة ، فيقول لرسول رسول الله : قل لصاحِبكَ ليسَ في الإسلام زكاة ، قال له أهوَ صاحبي وليسَ صاحِبكَ ، أجمعتَ إلى ترك الزكاة الكُفرَ برسول الله ، عِندئذٍ نَزَلَ فيه وفي أمثاله هذه الآية
"ومنهم من عاهدَ الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكوننَ من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم مُعرضون فأعقبهم نِفاقاً في قلوبهم إلى يومِ يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ".
والحمد لله رب العالمين
((قلت: قصة ثعلبة باطلة ومنكرة ومنافية للشريعة ))
****************
وفي جامع العلوم والحكم :
الحديث الثامن والأربعون عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر خرجه البخاري ومسلم--------(1/278)
هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو بن العاص وخرجاه في الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وفي رواية له أيضا من علامات المنافق ثلاث وقد روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم حدثوا النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء وأنه قال حدثني به جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه وهذا كذب والمحرم شيخ كذاب معروف بالكذب وقد روى عن عطاء هذا لما بلغه من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق وقال حدث إخوة يوسف فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين وهذا لا يصح عن عطاء والحسن أم هذا من عنده وإنما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم لا شك في ثبوته وصحته والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين أحدهما النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار والثاني النفاق الأصغر وهو نفاق العمل وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالف ذلك وأصول هذا النفاق يرجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث وهي(1/279)
خمس أحدها أن يحدث بحديث لم يصدق به وهو كاذب له وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت به كاذب قال الحسن كان يقال النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل والمدخل والمخرج وكان يقال أس النفاق الذي بني عليه الكذب والثاني إذا وعد أخلف وهو على نوعين أحدهما أن يعد ومن نيته أن لا يوفي بوعده وهذا أشر الخلق ولو قال أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل كان كذبا وخلفا قاله الأوزاعي الثاني أن يعد ومن نيته أن يفي ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف وخرج أبو داود والترمذى من حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وعد الرجل ونوي أن يفي به فلم يف فلا جناح عليه وقال الترمذي ليس إسناده بالقوي وخرج الإسماعيلي وغيره من حديث سلمان أن عليا لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال مالي أراكما ثقلين قالا حديث سمعناه من النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خلال المنافق إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان فأينا ينجو من هذه الخصال فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي تضعونه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أن يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أن يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أن يخون وقال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث من رواية سلمان وزيد بن أرقم الحديثان مضطربان والإسنادان مجهولان وقال الدراقطني الحديث مضطرب غير ثابت والله أعلم وخرجه الطبراني والإسماعيلي من حديث على مرفوعا العدة دين ويل لمن وعد ثم أخلف قالها ثلاثا وفي إسناده جهالة ويروى من حديث ابن مسعود قال لايعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العدة عطية وفي إسناده نظر وأوله صحيح عن ابن مسعود من قوله وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العدة هبة وفي سنن أبي داود عن مولي لعبد الله بن عامر بن(1/280)
ربيعة عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي فخرجت لألعب فقالت أمي ياعبد الله تعالى أعطك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماأردت أن تعطيه قلت أردت أن أعطيه تمرا فقال إن لم تفعلي كتبت عليك كذبة وفي إسناده من لا يعرف وذكر الزهري عن أبي هريرة قال من قال لصبي تعالى هاك تمرا ثم لايعطيه شيئا فهي كذبة وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد فمنهم من أوجبه مطلقا وذكر البخاري في صحيحه أن ابن أشوع قضي بالوعد وهو قول طائفة من أهل الظاهر وغيرهم ومنهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضي نفعا للموعود وهو المحكي عن مالك وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقا والثالث إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا وهذا مما يدعو إليه الكذب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وقال صلى الله عليه وسلم إنكم لتختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي على نحو مما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقال صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ويخيل للسامع أنه حق ويوهن الحق ويخرجه في صورة الباطل كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع وفي رواية له أيضا ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله الرابع إذا عاهد غدر ولم يف بالعهد وقد أمر الله بالوفاء بالعهد فقال وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا الإسراء وقال وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا(1/281)
تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا النحل وقال إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم آل عمران وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به وفي رواية إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال ألا هذه غدرة فلان وخرجاه أيضا من حديث أنس بمعناه وخرج مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء عند يوم القيامة يعرف به والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره ولو كان المعاهد كافرا ولهذا في حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماخرجه البخاري وقد أمر الله تعالى في كتابه الوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها شيئا وأما عهود المسلمين فيما بينهم بالوفاء بها أشد ونقضها أعظم إثما ومن أعظمها نقض عهد الإمام على من تابعه ورضي به وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فذكر منهم ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلا لم يف له ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها و كذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يعاهد العبد ربه عليه من نذر التبرر ونحوه الخامس الخيانة في الأمانة فإذا اؤتمن الرجل أمانة فالواجب عليه أن يردها كما قال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها النساء وقال النبي صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك وقال في خطبته في حجة الوداع من كانت عنده(1/282)
أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها قال الله عز وجل ياآيها الذين أمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون الأنفال فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق وفي حديث ابن مسعود من قوله وروى مرفوعا القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الأمانة يؤتي بصاحب الأمانة فيقال له أد أمانتك فيقول من أين يارب وقد ذهبت الدنيا فيقول اذهبوا به إلى الهاوية فيهوي حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هناك كهيئتها فيحملها فيضعها على عنقه فيصعد بها في نار جهنم حتى إذا رأي أنه قد خرج منها زلت فهوي فيهوي هو في أثرها أبد الآبدين قال والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد من ذلك الودائع وقد روى عن محمد بن كعب القرظي أنه استنبط ما في هذا الحديث أعني حديث آية المنافق ثلاث من القرآن وقال مصداق ذلك في كتاب الله تعالى إذا جاءك المنافقون المنافقون إلى قوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون المنافقون وقال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله فأعقبهم نقاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون التوبة وقال إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال الأحزاب إلى قوله ليعذب الله المنافقين الأحزاب وروى عن ابن مسعود نحو هذا الكلام ثم تلا قوله فأعقبهم نفاقا في قلوبهم التوبة الآية وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن وقال الحسن أيضا من النفاق اختلاف القلب واللسان واختلاف السر والعلانية واختلاف الدخول والخروج وقال طائفة من السلف خشوع النفاق أن تري الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع وقد روى معنى ذلك عن عمر وروى عنه أنه قال على المنبر إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم قالوا كيف يكون المنافق عليما قال يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال المنكر وسئل حذيفة عن المنافق فقال الذي يصف الإيمان ولا يعمل به وفي صحيح(1/283)
البخا ري عن ابن عمر أنه قيل له إنا ندخل على سلطاننا فنقول له بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عنده قال كنا نعد هذا نفاقا وفي المسند عن حذيفة قال إنكم لتكلمون كلاما إن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق وفي رواية قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقا وأني لأسمعها من أحدكم في اليوم أو في المجلس عشر مرات قال بلال بن سعد المنافق يقول ما يعرف ويعمل ماينكر ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه وسئل أبو رجاء العطاردي هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق فقال نعم إني أدركت منهم بحمد الله صدرا حسنا نعم شديدا نعم شديدا وقال البخاري في صحيحه وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ويذكر عن الحسن قال ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق انتهى وروى الحسن أنه حلف ما مضي مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق غير آمن وما مضي منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن وكان يقول من لم يخف النفاق فهو منافق وسمع رجل أبا الدرداء يتعوذ من النفاق في صلاته فلما سلم قال له ما شأنك وشأن النفاق فقال اللهم اغفر لي ثلاثا لا تأمن البلاء والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه والآثار عن السلف في هذا كثيرة جدا قال سفيان الثوري خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث فذكر منها قال نحن نقول نفاق وهم يقولون لا نفاق وقال الأوزاعي قد خاف عمر النفاق على نفسه قيل لهم إنهم يقولون إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حتى سأل حذيفة ولكن خاف أن يبتلي بذلك قبل أن يموت قال هذا قول أهل البدع يشير إلى أن عمر كان يخاف على النفاق على نفسه في الحال الظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف نفسه في الحال من النفاق الأصغر والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر كما أن(1/284)
المعاصي بريد الكفر وكما يخشي على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت كذلك يخشي على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقا خالصا وسئل الإمام أحمد ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق قال ومن يأمن على نفسه النفاق وكان الحسن يسمي من ظهرت منه أوصاف النفاق العملي منافقا وروى نحوه عن حذيفة وقال الشعبي من كذب فهو منافق وحكي محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقة من أهل الحديث وقد سبق في أوائل الكتاب ذكر الاختلاف عن الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر هل يسمي كافرا كفرا لا ينقل عن الملة أم لا واسم الكفر أعظم من اسم النفاق ولعل هذا هو الذي أنكره عطاء على الحسن إن صح ذلك عنه و من أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملا ويظهر أنه قصد به الخير وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سييء فيتم له ذلك ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره ويتوصل به إلى غرضه السييء الذي أبطنه وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود فحكي عن المنافقين أنهم اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسني والله يشهد إنهم لكاذبون التوبة وأنزل في اليهود لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم آل عمران وهذه الآية نزلت في اليهود سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم وما سئلوا عنه قال ذلك ابن عباس وحديثه مخرج في الصحيحين وفيهما أيضا عن أبي سعيد أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلافه فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا(1/285)
وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غشنا فليس منا والمكر والخديعة في النار وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله ليس الدنيا إلا بدين وليس الدين إلا مكارم الأخلاق إنما المكر والخديعة في النا ر وهما من خصال أهل النفاق ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقا كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي أنه مر به أبو بكر رضي الله عنه وهو يبكي فقال مالك قال نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيرا قال أبو بكر فو الله إنا لكذلك فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا رسول الله وذكر له مثل ما قال لأبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافتحكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وفي مسند البزار عن أنس قال قالوا يا رسول الله إنا نكون عندك على حال فإذا فارقناك كنا على غيره قال كيف أنتم قالوا الله ربنا في السر والعلانية قال ليس ذاكم من النفاق وروى من وجه آخر عن أنس قال غدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هلكنا قال وما ذاك قالوا النفاق قال ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قالوا بلى قال فليس ذاك بالنفاق ثم ذكر يعني حديث حنظلة كما تقدم
**************
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى :(1/286)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=55 - TOP#TOPقال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وآله وسلم تسليما أما بعد :(1/287)
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والأيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى { الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ . أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 1 : 4 ] . فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] .(1/288)
وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] ، وقال تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } ، وقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد 31 ]
وأخبر ـ سبحانه ـ أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 45 ] .(1/289)
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 144-148 ] .
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لايقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له . إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فَصَبر كان خيرًا له ) . والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه .
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان .(1/290)
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين .
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور . وشأن هذه [ القضية ] وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت : هذه [ القضية ] ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين . ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان .
نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له : الضرر في هذه [ القضية ] ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم .
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال : يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا ؟ فقلت : وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح .
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف ـ إن شاء الله ـ ينكشف الأمر .(1/291)
قلت له : وإلا فأنا على أي شيء أخاف ! إن قتلت كنت من أفضل الشهداء ! وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة ! وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة ! ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه ! لا أقطاعي ! ولا مدرستي ! ولا مالي ! ولا رياستي وجاهي .
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة .
وقلت : هؤلاء الذين بمصر من الأمراء ، والقضاة، والمشائخ ، إخواني وأصحابي ، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسنًا إليهم، فأي شيء بيني وبينهم ؟ ! ولكن لَبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام . وأنا أقول لكم - لكن لم يتفق أني قلت هذا له : إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين ويطيعهم، وإن لم يكن منافقًا، كما قال تعالى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [ التوبة : 74 ] ، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ إذاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ]
والنفاق له شعب ودعائم، كما أن للإيمان شعبًا ودعائم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ) . وفيهما أيضا أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، وإذا اؤتمن خان ) .(1/292)
وقلت له : هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتر . فقال : إلى بلاد التتر ؟ فقلت : نعم . هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم إلى أمور أخرى لا يصلح أن إذكرها لك .
وكان قد قال لي : فأنت تخالف المذاهب الأربعة، وذكر حكم القضاة الأربعة، فقلت له : بل الذي قلته عليه الأئمة الأربعة المذاهب، وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتابًا، من كتب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأهل الحديث . والمتكلمين، والصوفية، كلها توافق ما قلته بألفاظه، وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها .
ولم يستطع المنازعون ـ مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه ـ أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه، وكان لما أعطاني الدرج . فتأملته فقلت له : هذا كله كذب؛ إلا كلمة واحدة، وهي أنه استوى على العرش حقيقة، لكن بلا تكييف، ولا تشبيه . قلت : وهذا هو في [ العقيدة ] بهذا اللفظ : بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل . فقال : فاكتب خطك بهذا . قلت : هذا مكتوب قبل ذلك في [ العقيدة ] ولم أقل بما يناقضه فأي فائدة في تجديد الخط ؟ ! .
وقلت : هذا اللفظ قد حكى إجماع أهل السنة والجماعة عليه غير واحد من العلماء، المالكية، والشافعية، وأهل الحديث، وغيرهم، وما في علماء الإسلام من ينكر ذلك، إلا هؤلاء الخصوم .
قلت : فإن هؤلاء يقولون : ما فوق العرش رب يُدْعى، ولا فوق السماء إله يُعْبَد، وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، ولكن صعد إلى السماء، ونزل . وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله . ومنهم من يقول : إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة ! ويقول : إن الله حالٌّ في ذلك .(1/293)
فاستعظم ذلك، وهاله أن أحدًا يقول هذا . فقال : هؤلاء يعني ؟ ابن مخلوف وذويه . ففلت : هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم .
وجعل الرجل في أثناء الكلام يصغى لما أقوله، ويعيه، لما رأى غضبي؛ ولهذا بلغني من غير وجه أنه خرج فرحًا مسرورًا بما سمعه مني . وقال : هذا على الحق، وهؤلاء قد ضيعوا الله، وإلا فأين هو الله ؟ ! وهكذا يقول كل ذي فطرة سليمة . كما قاله جمال الدين الأخرم للملك الكامل لما خاطبه الملك الكامل في أمر هؤلاء ، فقال له الأخرم : هؤلاء قد ضيعوا إلهك، فاطلب لك إلهًا تعبده .
ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصيرحقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وإنما ينكر ذلك الفلاسفة الباطنية . فيقولون : نطلق عليه هذه الأسماء، ولا نقول : إنها حقيقة . وغرضهم بذلك جواز نفيها، فإنهم يقولون : لا حي حقيقة، ولا ميت حقيقة، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا سميع ولا أصم .
فإذا قالوا : إن هذه الأسماء مجاز، أمكنهم نفي ذلك؛ لأن علامة المجاز صحة نفيه . فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه، فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة، فإنه يقول : ليس الرحمن على العرش استوى، كما أن من قال : إن لفظ الأسد للرجل الشجاع، والحمار للبليد ليس بحقيقة، فإنه يلزمه صحة نفيه . فيقول : هذا ليس بأسد، ولا بحمار، ولكنه آدمي .(1/294)
وهؤلاء يقولون لهم : لا يستوى الله على العرش . كقول إخوانهم : ليس هو بسميع ولا بصير، ولا متكلم؛ لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز . فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله ـ سبحانه ـ يقابلونه بالنفي والرد، كما يقابله المشركون بالتكذيب، لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقًا .
وقال الطلمنكي [ هو أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى المعافري الأندلسي، صنف كتبًا كثيرة في السنة، وكان سيفًا مجردًا على أهل الأهواء والبدع ، توفي سنة 924هـ ] ـ أحد أئمة المالكية ـ قبل ابن عبد البر، والباجي، وطبقتهما ـ في [ كتاب الوصول إلى معرفة الأصول ] : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] ، ونحو ذلك من القرآن : أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستو على العرش كيف شاء .
وقال ـ أيضًا : قال أهل السنة في قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] : إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة، لا على المجاز . وقال ابن عبد البر في [ التمهيد ] ـ شرح الموطأ، وهو أشرف كتاب صنف في فنه ـ لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث ثابت لا يختلف أهل الحديث في صحته . وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم : إنه في كل مكان، وليس على العرش .
قال : والدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] .
وقال : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، وقال : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [ المعارج : 4 ] ، وقال : { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] وذكر آيات .(1/295)
إلى أن قال : وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم .
وهذا مثل ما ذكر محمد بن طاهر عن أبي جعفر الهمداني : أنه حضر مجلس بعض المتكلمين فقال : [ كان الله ولا عرش ] فقال : يا أستاذ ، دعنا من ذكر العرش . أخبرنا عن هذه الضرورات التي نجدها في قلوبنا : ما قال عارف قط يا الله ، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يُمْنة ولا يسْرَةً . فضرب بيده على رأسه وقال : حيرني الهمداني، حيرني الهمداني . أراد الشيخ أن إقرار الفطر بأن معبودها ، ومدعوها فوق، هو أمر ضروري ، عقلي ، فطري، لم تستفده من مجرد السمع، بخلاف الاستواء على العرش ـ بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام ـ فإن هذا علم من جهة السمع .
ولهذا لا تعرف أيام الأسبوع إلا من جهة المقرين بالنبوات، فأما من لا يعرف ذلك كالترك المشركين ، فليس في لغتهم أسماء أيام الأسبوع . وهذا من حكمة اجتماع أهل كل ملة في يوم واحد في الأسبوع ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى ) . وبسط ابن عبد البر الكلام في ذلك .
إلى أن قال : وأما احتجاجهم بقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، فلا حجة فيه لهم؛ لأن علماء الصحابة، والتابعين قالوا في تأويل هذه الأية : هو على العرش ، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله .(1/296)
قال أبو عمر : أهل السنة مجمعون على الأقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا، ولا يحدون فيه صفة محصورة . وأما أهل البدع ـ الجهمية والمعتزلة والخوارج ـ فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم ـ عند من أقرَّ بها ـ نافون للمعبود، والحق ما نطق به كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة .
وقال ـ أيضًا : الذي عليه أهل السنة، وأئمة الفقه، والأثر، في هذه المسألة وما أشبهها : الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتصديق بذلك، وترك التحديد، والكيفية في شيء منه .
وقال السجزي في [ الإبانة ] : وأئمتنا كالثوري، ومالك ، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد ، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله ـ سبحانه ـ بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء .
وقال الشيخ عبد القادر في [ الغنية ] : أما معرفة الصانع بالآيات، والدلالات ـ على وجه الأختصار ـ فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد صمد، إلى أن قال : وهو بجهة العلو، مستو على العرش ، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء . قال : ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال : إنه في السماء على العرش، إلى أن قال : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش . قال : وكونه على العرش في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا تكييف .(1/297)
وذكر الشيخ نصر المقدسي في [ كتاب الحجة ] عن ابن أبي حاتم قال : سألت أبي وأبا زُرْعَةَ عن مذاهب أهل السنة ؟ فقالأ : أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازًا، وعراقًا، ومصر، وشامًا ويمنًا؛ فكان من مذاهبهم : أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص والقرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، بجميع جهاته، إلى أن قال : وإن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا .
وقال الشيخ نصر في أثناء الكتاب : إن قال قائل : قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء فإذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه .
فالجواب : أن الذي أدركنا عليه أهل العلم، ومن بلغني قوله من غيرهم . . . فذكر جمل [ اعتقاد أهل السنة ] وفيه : وأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه . كما قال في كتابه .
وقال أبو الحسن الكجي الشافعي في [ قصيدته المشهورة في السنة ] :
عقيدتهم أن الإله بذاته ** على عرشه مع علمه بالغوائب
وقال القرطبي - صاحب التفسير الكبير ـ في قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] . قال : هذه [ مسألة الاستواء ] وللعلماء فيها كلام . فذكر قول المتكلمين . ثم قال : كان السلف الأول لا يقولون : بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك . بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله؛ كما نطق به كتابه، وأخبرت به رسله . قال : ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة؛ وإنما جهلوا كيفية الاستواء . فإنه لا تعلم حقيقته .
ثم قال ـ بعد أن حكى أربعة عشر قولاً : وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي، والأخبار، والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه ، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه . هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله الثقات عنهم .(1/298)
ولما اجتمعنا بدمشق، وأحضر فيمن أحضر كتب أبي الحسن الأشعري : مثل [ المقالات ] ، و [ الإبانة ] وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر، وابن فُورَك، والبيهقي، وغيرهم . وأحضر كتاب [ الإبانة ] ، وما ذكر ابن عساكر في كتاب [ تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري ] وقد نقله بخطه أبو زكريا النووي .
وقال فيه : فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة : فعرفونا قولكم الذي به تقولون .
قيل له : قولنا : التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث . ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين .
فَصْل
الوجه الثاني : من غلط المرجئة : ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط، دون أعمال القلوب؛ كما تقدم عن جهمية المرجئة .
الثالث : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال؛ ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له . والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر؛ ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا : رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر، وهو لا يسجد للّه سجدة، ولا يصوم رمضان، ويزني بأمه وأخته، ويشرب الخمر نهار رمضان، يقولون : هذا مؤمن تام الإيمان، فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار .(1/299)
قال أحمد بن حنبل : حدثنا خَلَف بن حَيَّان، حدثنا مَعْقِل بن عبيد اللّه العبسي قال : قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فنفر منه أصحابنا نفوراً شديداً،منهم ميمون بن مِهْران، وعبد الكريم بن مالك، فإنه عاهد اللّه/ ألاّ يؤويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل : فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رَبَاح في نفر من أصحابي وهو يقرأ { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } [ يوسف : 110 ] قلت : إن لنا حاجة فأخلنا، ففعل، فأخبرته أن قومًا قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا : إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال : أو ليس اللّه تعالى يقول : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] ، فالصلاة والزكاة من الدين، قال : فقلت : إنهم يقولون : ليس في الإيمان زيادة، فقال : أوليس قد قال اللّه فيما أنزل : { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] هذا الإيمان . فقلت : إنهم انتحلوك، وبلغني أن ابن ذَرٍّ دخل عليك في أصحاب له، فعرضوا عليك قولهم فقبلته، فقلت هذا الأمر، فقال : لا واللّه الذي لا إله إلا هو، مرتين أو ثلاثًا ثم قال : قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت : يا أبا عبد اللّه، إن لي إليك حاجة، فقال : سر أم علانية ؟ فقلت : لا، بل سر . قال : رب سر لا خير فيه، فقلت : ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بثوبي، ثم خرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال : حاجتك ؟ قال : فقلت : أخلني هذا . فقال : تنح، قال : فذكرت له قولهم .(1/300)
فقال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا : لا إله إلا اللّه، فإذا قالوا : لا إله إلا اللّه عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحَقِّها وحسابهم على اللّّه ) قال : قلت : إنهم يقولون : نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح . فنثر يده من يدي وقال : من فعل هذا فهو كافر .(1/301)
/قال مَعْقِل : فلقيت الزهري فأخبرته بقولهم . فقال : سبحان اللّه ! وقد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) قال معقل : فلقيت الحكم بن عتبة فقلت له : إن عبد الكريم وميموناً بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة،فعرضوا بقولهم عليك فقبلت قولهم،قال : فقبل ذلك على ميمون، وعبد الكريم ؟ ! لقد دخل علي اثنا عشر رجلاً وأنا مريض، فقالوا : يا أبا محمد،بلغك أن رسول اللّه صلىالله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء، أو حبشية، فقال : يا رسول اللّه، على رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة ؟ فقال لها رسول اللّه صلىالله عليه وسلم : ( أتشهدين أن لا إله إلا اللّه ؟ ) . فقالت : نعم . قال : ( وتشهدين أن محمداً رسول اللّه ؟ ) . قالت : نعم، قال : ( وتشهدين أن الجنة حق والنار حق ) . قالت : نعم، قال : ( وتشهدين أن اللّه يبعثك من بعد الموت ؟ ) . قالت : نعم، قال : ( فأعتقها فإنها مؤمنة ) ، فخرجوا وهم ينتحلون ذلك .(1/302)
قال معقل : ثم جلست إلى ميمون بن مِهْران، فقلت : يا أبا أيوب، لو قرأت لنا سورة ففسرتها، قال : فقرأ { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } حتى إذا بلغ : { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 1 : 21 ] قال : ذاكم جبريل، والخيبة لمن يقول : إن إيمانه كإيمان جبريل، ورواه حنبل عن أحمد، ورواه ـ أيضاً ـ عن ابن أبي مُلَيْكَة قال : لقد أتى علي بُرْهَة من الدهر وما أراني أدرك قومًا يقول أحدهم : إني مؤمن مستكمل الإيمان، ثم ما رضي حتى قال : إيماني على إيمان جبريل وميكائيل، وما زال بهم الشيطان/ حتى قال أحدهم : إني مؤمن وإن نكح أخته وأمه وبنته، واللّه لقد أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم، ما مات أحد منهم إلا وهو يخشى النفاق على نفسه، وقد ذكر هذا المعنى عنه البخاري في صحيحه، قال : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلىالله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول : إيمانه كإيمان جبريل .
وروى البغوي عن عبد اللّه بن محمد عن ابن مجاهد قال : كنت عند عطاء بن أبي رَبَاح، فجاء ابنه يعقوب فقال : يا أبتاه، إن أصحاباً لي يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، فقال : يا بني،ليس إيمان من أطاع اللّه كإيمان من عصى الله .(1/303)
قلت : قوله عن المرجئة : إنهم يقولون : إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قد يكون قول بعضهم، فإنهم كلهم يقولون : ليستا من الإيمان، وأما من الدين فقد حكى عن بعضهم أنه يقول : ليستا من الدين، ولا نفرق بين الإيمان والدين، ومنهم من يقول : بل هما من الدين ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين، وهذا هو المعروف من أقوالهم التي يقولونها عن أنفسهم . ولم أر أنا في كتاب أحد منهم أنه قال : الأعمال ليست من الدين، بل يقولون : ليست من الإيمان، وكذلك حكى أبو عبيد عمن ناظره منهم، فإن أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين، فذكر قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] أنها نزلت في حجة الوداع . قال أبو عبيد : فأخبر أنه إنما كمل الدين الآن في آخر الإسلام في حجة النبي صلىالله عليه وسلم، وزعم هؤلاء أنه كان كاملاً قبل ذلك/ بعشرين سنة من أول ما نزل عليه الوحي بمكة حين دعا الناس إلى الإقرار، حتى قال : لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه هذه الحجة . . . إلى أن قال : إن الإيمان ليس بجميع الدين، ولكن الدين ثلاثة أجزاء : الإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء .(1/304)
قلت : هذا الذي قاله هذا هو مذهب القوم، قال أبو عبيد : وهذا غير ما نطق به الكتاب، ألا تسمع إلى قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 19 ] ، وقال : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] ، وقال : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 ] فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته، وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين . قلت : إنما قالوا : إن الإيمان ثلث، ولم يقولوا : إن الإيمان ثلث الدين،لكنهم فرقوا بين مسمى الإيمان ومسمى الدين، وسنذكر ـ إن شاء اللّه تعالى ـ الكلام في مسمى هذا ومسمى هذا . فقد يحكى عن بعضهم أنه يقول : ليستا من الدين ولا يفرق بين اسم الإيمان والدين،ومنهم من يقول : بل كلاهما من الدين، ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين، والشافعي ـ رضي اللّه عنه ـ كان معظمًا لعطاء بن أبي رباح، ويقول : ليس في التابعين أتبع للحديث منه، وكذلك أبو حنيفة قال : ما رأيت مثل عطاء، وقد أخذ الشافعي هذه الحجة عن عطاء . فروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي : حدثنا أبي، حدثنا ميمون، حدثنا أبو عثمان بن الشافعي، سمعت أبي يقول ليلة للحميدي : ما يحتج عليهم ـ يعني /أهل الإرجاء ـ بآية أَحَجُّ من قوله : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] .
وقال الشافعي ـ رضي اللّه عنه ـ في كتاب [ الأم ] في [ باب النية في الصلاة ] : يحتج بألا تجزئ صلاة إلا بنية بحديث عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلىالله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) ثم قال : وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر .(1/305)
وقال حنبل : حدثنا الحميدي قال : وأخبرت أن ناساً يقولون : من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئًا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت : هذا الكفر الصُّرَاح، وخلاف كتاب اللّه وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال اللّه تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الآية . وقال حنبل : سمعت أبا عبد اللّه أحمد بن حنبل يقول : من قال هذا فقد كفر باللّه، ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن اللّه .
قلت : وأما احتجاجهم بقوله للأمة : ( اعتقها فإنها مؤمنة ) فهو من حججهم المشهورة، وبه احتج ابن كُلاَّب، وكان يقول : الإيمان هو التصديق والقول جميعاً، فكان قوله أقرب من قول جهم وأتباعه، وهذا لا حجة فيه؛ لأن/ الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة، فإن المنافقين الذين قالوا : { آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس، ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم كما كان المنافقون في عهد رسول اللّه صلىالله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلىالله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد اللّه بن أبيّ بن سَلُول ـ وهو من أشهر الناس بالنفاق ـ ورثه ابنه عبد اللّه وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين .(1/306)
وقد تنازع الفقهاء في المنافق الزنديق الذي يكتم زندقته، هل يَرِث ويُورَث ؟ على قولين، والصحيح : أنه يرث ويُورَث وإن علم في الباطن أنه منافق، كما كان الصحابة على عهد النبي صلىالله عليه وسلم؛لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو علق بذلك لم تمكن معرفته،والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهره من موالاة المسلمين فقول النبي صلىالله عليه وسلم : ( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ) لم يدخل فيه المنافقون وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، بل كانوا يُورَثون ويَرِثون، وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين، وقد أخبر اللّه عنهم أنهم يصلون ويزكون ومع هذا /لم يقبل ذلك منهم فقال : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] ، وقال : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] . وفي صحيح مسلم عن النبي صلىالله عليه وسلم قال : ( تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُب الشمسَ حتى إذا كانت بين قَرْنَي شيطان قام فَنَقَرَ أربعاً لا يذكر اللّه فيها إلا قليلاً ) ، وكانوا يخرجون مع النبي صلىالله عليه وسلم في المغازي، كما خرج ابن أُبَي في غزوة بني المُصْطَلقَ،وقال فيها : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] .(1/307)
وفي الصحيحين عن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع النبي صلىالله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيها شدة، فقال عبد اللّه بن أُبَيّ لأصحابه : لا تنفقوا على مَنْ عند رسول اللّه حتى ينفضُّوا من حوله، وقال : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } ، فأتيت النبي صلىالله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى عبد اللّه بن أبي، فسأله فاجتهد يمينه ما فعل، وقالوا : كذب زيد يا رسول اللّه، فوقع في نفسي مما قالوا شدة، حتى أنزل اللّه تصديقي في { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } ، فدعاهم النبي صلىالله عليه وسلم ليستغفر لهم، فَلَوَّوْا رؤوسهم . وفي غزوة تبوك استنفرهم النبي صلىالله عليه وسلم كما استنفر غيرهم، فخرج بعضهم معه وبعضهم تخلفوا، وكان في الذين خرجوا معه من هَمَّ بقتله في الطريق، هموا بحل حزام/ناقته ليقع في واد هناك، فجاءه الوحي، فأسَرَّ إلى حذيفة أسماءهم، ولذلك يقال : هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، كما ثبت ذلك في الصحيح . ومع هذا ففي الظاهر تجري عليهم أحكام أهل الإيمان .
وبهذا يظهر الجواب عن شبهات كثيرة تورد في هذا المقام، فإن كثيراً من المتأخرين ما بقى في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق، وأعرضوا عن حكم المنافقين، والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة، والنفاق شعب كثيرة، وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم .
ففي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وَعَدَ أخْلَف،وإذا ائْتُمِنَ خان ) ، وفي لفظ مسلم : ( وإن صام وصلَّى وزَعَم أنه مسلم )
وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : ( أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه شُعْبَة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يَدَعَها : إذا حَدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غَدَرَ، وإذا خاصم فَجَرَ ) .(1/308)
وكان النبي صلىالله عليه وسلم أولاً يصلي عليهم ويستغفر لهم، حتى نهاه اللّه عن ذلك فقال : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } [ التوبة : 84 ] ، وقال : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ، فلم يكن يصلى عليهم ولا يستغفر لهم، ولكن دماؤهمْ وأموالهم معصومة/ لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون، بل يظهرون الكفر دون الإيمان، فإنه صلىالله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه، فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللّّه ) ، ولما قال لأسامة ابن زيد : ( أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا اللّه ؟ ) قال : إنما قالها تَعَوُّذاً . قال : ( هَلاَّ شَقَقْتَ عن قلبه ؟ ) وقال : ( إني لم أومر أن أنقِّبَ عن قلوب الناس، ولا أشُقَّ بطونهم ) وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول : ( أليس يصلي، أليس يتشهد ؟ ) فإذا قيل له : إنه منافق . قال : ( ذاك ) .(1/309)
فكان حكمه صلىالله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم،لا يستحل منها شيئًا إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم، وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه، قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [ التوبة : 101 ] ، وكان من مات منهم صلي عليه المسلمون الذين لا يعلمون أنه منافق، ومن علم أنه منافق لم يُصَلِّ عليه، وكان عمر إذا مات ميت لم يصل عليه حتى يصلى عليه حذيفة؛ لأن حذيفة كان قد علم أعيانهم، وقد قال اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } [ الممتحنة : 10 ] فأمر بامتحانهن هنا وقال : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } .(1/310)
/واللّه ـ تعالى ـ لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة،لم يكن على الناس ألا يعتقوا إلا من يعلموا أن الإيمان في قلبه، فإن هذا كما لو قيل لهم : اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه . وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلاً يظهر الإيمان جاز لهم عتقه، وصاحب الجارية لما سأل النبي صلىالله عليه وسلم : هل هي مؤمنة ؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر، وكذلك من عليه نذر، لم يلزمه أن يعتق إلا من علم أن الإيمان في قلبه، فإنه لا يعلم ذلك مطلقاً، بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقاً . وهذا رسول اللّه صلىالله عليه وسلم أعلم الخلق،واللّه يقول له : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } . فأولئك إنما كان النبي صلىالله عليه وسلم يحكم فيهم كحكمه في سائر المؤمنين، ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها، ولم يكن منهياً عن الصلاة إلا على من علم نفاقه، وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم، وهذا لا يقدر عليه بشر .(1/311)
ولهذا لما كشفهم اللّه بسورة براءة بقوله : { منهم } ، { منهم } صار يعرف نفاق ناس منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك، فإن اللّه وصفهم بصفات علمها الناس منهم، وما كان الناس يجزمون بأنها مستلزمة لنفاقهم، وإن كان بعضهم يظن ذلك وبعضهم يعلمه، فلم يكن نفاقهم معلوماً عند الجماعة، بخلاف حالهم لما نزل القرآن؛ ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النفاق وما بقى يمكنهم من إظهاره أحياناً ما كان يمكنهم قبل ذلك، وأنزل اللّه تعالى : { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [ الأحزاب : 60 : 62 ] ، فلما توعدوا بالقتل إذا أظهروا النفاق، كتموه . ولهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق . فقيل : يستتاب . واستدل من قال ذلك بالمنافقين الذين كان النبي صلىالله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل أمرهم إلى اللّه . فيقال له : هذا كان في أول الأمر، وبعد هذا أنزل اللّه : { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } فعلموا أنهم إن أظهروه كما كانوا يظهرونه قتلوا، فكتموه .
والزنديق : هو المنافق، وإنما يقتله من يقتله إذا ظهر منه أنه يكتم النفاق، قالوا : ولا تعلم توبته؛ لأن غاية ما عنده أنه يظهر ما كان يظهر، وقد كان يظهر الإيمان وهو منافق، ولو قبلت توبة الزنادقة لم يكن سبيل إلى تقتيلهم، والقرآن قد توعدهم بالتقتيل .(1/312)
والمقصود أن النبي صلىالله عليه وسلم إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر الذي علقت به الأحكام الظاهرة،وإلا فقد ثبت عنه أن سعداً لما شهد لرجل أنه مؤمن قال : ( أو مسلم ) وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأَمَة وزيادة، فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب؛ فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن/ يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكَرَّامية الذين يسمون المنافق مؤمناً ويقولون : الإيمان هو الكلمة، يقولون : إنه لا ينفع في الآخرة إلا الإيمان الباطن . وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم بسبب شبهة المرجئة؛ في أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل؛ ولهذا أكثر ما اشترط الفقهاء في الرَّقَبَةِ التي تجزئ في الكفارة العمل الظاهر، فتنازعوا : هل يجزئ الصغير ؟ على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن أحمد، فقيل : لا يجزئ عتقه؛ لأن الإيمان قول وعمل، والصغير لم يؤمن بنفسه إنما إيمانه تَبَعٌ لأبويه في أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم أنه مؤمن في الباطن، وقيل : بل يجزئ عتقه؛ لأن العتق من الأحكام الظاهرة وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما ويصلي عليه، ولا يصلي إلا على مؤمن، فإنه يعتق .(1/313)
وكذلك المنافقون الذين لم يظهروا نفاقهم، يصلى عليهم إذا ماتوا، ويدفنون في مقابر المسلمين من عهد النبي صلىالله عليه وسلم، والمقبرة التي كانت للمسلمين في حياته وحياة خلفائه وأصحابه يدفن فيها كل من أظهر الإيمان وإن كان منافقاً في الباطن، ولم يكن للمنافقين مقبرة يتميزون بها عن المسلمين في شيء من ديار الإسلام، كما تكون لليهود والنصارى مقبرة يتميزون بها، ومن دفن في مقابر المسلمين صلى عليه المسلمون، والصلاة لا تجوز على من علم نفاقه بنص القرآن، فعلم أن ذلك بناء على الإيمان الظاهر، واللّّه يتولى السرائر، وقد كان النبي/ صلىالله عليه وسلم يصلي عليهم ويستغفر لهم حتى نهى عن ذلك، وعلل ذلك بالكفر، فكان ذلك دليلا ًعلى أن كل من لم يعلم أنه كافر بالباطن جازت الصلاة عليه والاستغفار له، وإن كانت فيه بدعة، وإن كان له ذنوب .
وإذا ترك الإمام، أو أهل العلم والدين الصلاة على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجراً عنها، لم يكن ذلك محرماً للصلاة عليه والاستغفار له، بل قال النبي صلىالله عليه وسلم فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه ـ وهو الغَالُّ وقاتل نفسه والمَدِين الذي لا وفاء له ـ : ( صلوا على صاحبكم ) . وروى أنه كان يستغفر للرجل في الباطن وإن كان في الظاهر يدع ذلك زجرًا عن مثل مذهبه، كما روى في حديث مُحَلِّم بن جَثَّامة .(1/314)
وليس في الكتاب والسنة المظهرون للإسلام إلا قسمان : مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الاسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان، وهذا يأتي الكلام عليه ـ إن شاء اللّه ـ في مسألة الإسلام والإيمان، وأسماء الفساق من أهل الملة، لكن المقصود هنا أنه لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا ببدعة ابتدعها ـ ولو دعا الناس إليها ـ كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً . فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا/فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع .
وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً، بل كان مؤمنا باللّه ورسوله في الباطن، لم يكن كافراً في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار . ومن قال : إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة،فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ـ رضوان اللّه عليهم أجمعين ـ بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع .(1/315)
وإنما قال الأئمة بكفر هذا؛ لأن هذا فرض ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئًا مما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة، ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه؛ ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة يكفرون أنواعاً ممن يقول كذا وكذا؛ لما فيه من الاستخفاف، ويجعلونه مرتداً ببعض هذه الأنواع مع النزاع اللفظي الذي بين أصحابه وبين الجمهور في العمل : هل هو داخل في اسم الإيمان/ أم لا ؟ ولهذا فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها وهي : أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة فدعى إليها وامتنع، واستتيب ثلاثا مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قتل، هل يموت كافراً أو فاسقًا ؟ على قولين .
وهذا الفرض باطل، فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن اللّه فرضها عليه، وأنه يعاقبه على تركها ويصبر على القتل، ولا يسجد للّه سجدة من غير عذر له في ذلك، هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يضرب أحد ممن يقر بوجوب الصلاة إلا صلى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك : أن القتل ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك فيصبر عليه حتى يقتل، وسواء كان الدين حقاً أو باطلاً، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطناً وظاهراً، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط .(1/316)
ونظير هذا لو قيل : إن رجلاً من أهل السنة قيل له : تَرَضَّ عن أبي بكر وعمر فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاده فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما، فهذا لا يقع قط . وكذلك لو قيل : إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول اللّه باطنا وظاهراً وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول اللّه؛ ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية ـ جَهْماً ومن وافقه ـ فإنه إذا قدر أنه معذور لكونه أخرس، أو لكونه خائفاً من قوم إن/أظهر الإسلام آذوه ونحو ذلك، فهذا يمكن ألا يتكلم مع إيمان في قلبه، كالمكره على كلمة الكفر، قال اللّه تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] وَهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم ومن اتبعه، فإنه جعل كل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .(1/317)
فإن قيل : فقد قال تعالى : { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } قيل : وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله تعالى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ التوبة : 64 : 66 ] . فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم : إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات اللّه كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام .(1/318)
/والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } إلي قوله : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ النور : 47 : 51 ] فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=147 - TOP#TOPفصل
ثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعًا كثيرًا، منه لفظي،/ وكثير منه معنوي، فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام وإن كان بعضهم أعلم بالدين وأقوم به من بعض، ولكن تنازعوا في الأسماء كتنازعهم في الإيمان : هل يزيد وينقص ؟ وهل يستثنى فيه أم لا ؟ وهل الأعمال من الإيمان أم لا ؟ وهل الفاسق المِلِّي مؤمن كامل الإيمان أم لا ؟
والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة : أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه، كما قال عُمَيْر بن حبيب الخَطْمِي وغيره من الصحابة : الإيمان يزيد وينقص، فقيل له : وما زيادته ونقصانه ؟ فقال : إذا ذكرنا الله، وحمدناه، وسبحناه، فتلك زيادته . وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا، فذلك نقصانه، فهذه الألفاظ المأثورة عن جمهورهم .(1/319)
وربما قال بعضهم وكثير من المتأخرين : قول وعمل ونية، وربما قال آخر : قول وعمل ونية واتباع السنة، وربما قال : قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، أي بالجوارح . وروى بعضهم هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النسخة المنسوبة إلى أبي الصلت الهروي عن علي بن أبي موسى الرضا . وذلك من الموضوعات على النبي صلى الله عليه وسلم، باتفاق أهل العلم بحديثه . وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان،وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان/بدون اعتقاد القلب هوقول المنافقين،وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد،كقوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] ، وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله . فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر، لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك، قال بعضهم : ونية، ثم بين آخرون : أن مطلق القول والعمل والنية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة . وهذا حق أيضًا، فإن أولئك قالوا : قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال، وكذلك قول من قال : اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسمًا لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولابد أن يدخل في قوله : اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله، وخشية الله، والتوكل على الله، ونحو ذلك . فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها .(1/320)
وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه؛ لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الروايتين عن مالك، والرواية الأخرى عنه،وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم : إنه يزيد وينقص،وبعضهم عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل، فقال : أقول : الإيمان يتفاضل ويتفاوت،ويروى هذا عن ابن المبارك/ وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع، إلى معنى لا ريب في ثبوته . وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء، وأما إبراهيم النَّخعِيّ ـ إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبي سليمان ـ وأمثاله،ومن قبله من أصحاب ابن مسعود؛ كعلقمة، والأسود فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد ابن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة، ومن بعدهم .
ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدًا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك، وقد نص أحمد وغيره من الأئمة : على عدم تكفير هؤلاء المرجئة . ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرًا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم، فقد غلط غلطًا عظيمًا . والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال هؤلاء، ولم يكفر أحمد الخوارج ولا القدرية إذا أقروا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة، لكن حكى عنه في تكفيرهم روايتان .(1/321)
وأما المرجئة، فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية،ولا كل من قال : إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في/ بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة . وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين، وظلمة فاسقين .
وهؤلاء المعروفون ـ مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة ـ كانوا يجعلون قول اللسان، واعتقاد القلب من الإيمان، وهو قول أبي محمد بن كلاب وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا : الإيمان مجرد تصديق القلب .(1/322)
لكن هذا القول حكوه عن الجهم بن صفوان، ذكروا أنه قال : الإيمان مجرد معرفة القلب، وإن لم يقر بلسانه، واشتد نكيرهم لذلك حتى أطلق وكيع بن الجراح، وأحمد ابن حنبل وغيرهما كفر من قال ذلك، فإنه من أقوال الجهمية، وقالوا : إن فرعون وإبليس وأبا طالب واليهود وأمثالهم، عرفوا بقلوبهم وجحدوا بألسنتهم، فقد كانوا مؤمنين . وذكروا قول الله : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14 ] ، وقوله : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } [ البقرة : 146 ] ، وقوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] ، وقالوا : إبليس لم يكذب خبرًا، ولم يجحد، فإن الله أمره بلا رسول، ولكن عصى واستكبر، وكان كافرًا من غير تكذيب في الباطن، وتحقيق هذا مبسوط في غير هذا الموضع .
وحدث بعد هؤلاء قول الكرامية : إن الإيمان قول اللسان، دون تصديق القلب، مع قولهم : إن مثل هذا يعذب في الآخرة ويخلد في النار . وقال أبو عبد الله الصالحي : إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم، فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب، وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر، كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة،وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة،وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما؛ ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة . والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث : إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه، ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان .(1/323)
والإيمان المطلق عنده ما يحصل به الموافاة، والاستثناء عنده يعود إلى ذلك،/ لا إلى الكمال والنقصان والحال . وقد منع أن يطلق القول بأن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، وصنف في ذلك مصنفًا معروفًا عند أهل السنة، في [ كتاب المقالات ] . وقال : إنه يقول بقولهم .
وقد ذهب طائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة ـ كأبي منصور الماتريدي وأمثاله ـ إلى نظير هذا القول في الأصل، وقالوا : إن الإيمان هو ما في القلب، وأن القول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا، لكن هؤلاء يقولون بالاستثناء ونحو ذلك كما عرف من أصلهم وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان ) .
ثم قالت الخوارج والمعتزلة : الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان . وقالت المرجئة، والجهمية : ليس الإيمان إلا شيئًا واحدًا لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة قالوا : لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءًا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج، لكن قد يكون له لوازم ودلائل/ فيستدل بعدمه على عدمه .(1/324)
وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين، حيث قالوا : الإيمان قول وعمل، وقالوا مع ذلك : لا يزول بزوال بعض الأعمال، حتى إن ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضًا في ذلك، فإن الشافعي كان من أئمة السنة، وله في الرد على المرجئة كلام مشهور، وقد ذكر في كتاب الطهارة من [ الأم ] إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على قول أهل السنة، فلما صنف ابن الخطيب تصنيفًا فيه، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي، استشكل قول الشافعي ورآه متناقضًا .
وجماع شبهتهم في ذلك : أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة . وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا . قالوا : فإذا كان الإيمان مركبًا من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها . وهذا قول الخوارج والمعتزلة، قالوا : ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنًا بما فيه من الإيمان، كافرًا بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع، ولهذه الشبهة ـ والله أعلم ـ امتنع من امتنع من أئمة الفقهاء أن يقول بنقصه، كأنه ظن : إذا قال ذلك يلزم ذهابه كله، بخلاف ما إذا زاد .(1/325)
/ثم إن هذه الشبهة هي شبهة من منع أن يكون في الرجل الواحد طاعة ومعصية؛ لأن الطاعة جزء من الإيمان، والمعصية جزء من الكفر . فلا يجتمع فيه كفر وإيمان، وقالوا : ما ثم إلا مؤمن محض أو كافر محض، ثم نقلوا حكم الواحد من الأشخاص إلى الواحد من الأعمال، فقالوا : لا يكون العمل الواحد محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه، وغلا فيه أبو هاشم فنقله إلى الواحد بالنوع فقال : لا يجوز أن يكون جنس السجود أو الركوع أو غير ذلك من الأعمال بعض أنواعه طاعة، وبعضها معصية؛ لأن الحقيقة الواحدة لا توصف بوصفين مختلفين، بل الطاعة والمعصية تتعلق بأعمال القلوب، وهو قصد الساجد دون عمله الظاهر، واشتد نكير الناس عليه في هذا القول وذكروا من مخالفته للإجماع وجحده للضروريات شرعًا وعقلاً، ما يتبين به فساده .
وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم،فيقولون : الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو،لا يجوز أن يتفاضل، ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها،وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف، فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج، ومعلوم أن السواد مختلف، فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان . وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق /الذي يتصوره الذهن فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، لكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان .(1/326)
ومثل هذا الغلط وقع فيه كثير من الخائضين في أصول الفقه، حيث أنكروا تفاضل العقل أو الإيجاب أو التحريم، وإنكار التفاضل في ذلك قول القاضي أبي بكر وابن عقيل وأمثالهما، لكن الجمهور على خلاف ذلك، وهو قول أبي الحسن التميمي، وأبي محمد البربهاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب وغيرهم . وكذلك وقع نظير هذا لأهل المنطق والفلسفة ولمن تابعهم من أهل الكلام والاتحاد،في توحيد واجب الوجود ووحدته، حتى أخرجهم الأمر إلى ما يستلزم التعطيل المحض، كما بيناه في غير هذا الموضع .
وأهل المنطق اليونان مضطربون في هذا المقام، يقول أحدهم القول، ويقول نقيضه، كما هو مذكور في موضعه، ونحن نذكر ما يتعلق بهذا الموضع فنقول ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله : الكلام في طرفين :
أحدهما : أن شعب الإيمان هل هي متلازمة في الانتفاء ؟
والثاني : هل هي متلازمة في الثبوت ؟
/أما الأول :
فإن الحقيقة الجامعة لأمور ـ سواء كانت في الأعيان أو الأعراض ـ إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها . وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين .(1/327)
فيقال : أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقى على تركيبه فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقى ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد : إن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض/ أعضائه بقى مجموعًا .
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِه، أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ) ،فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء .
وأما زوال الاسم فيقال لهم : هذا ـ أولا ـ بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ( الإيمان بضع وسبعون شُعْبَة، أعلاها قول : لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، و نحن نسلم لهم أنه ما بقى إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت .
يبقى النزاع : هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء، فيقال لهم : المركبات في ذلك على وجهين، منها : ما يكون التركيب شرطًا في إطلاق الاسم، ومنها : ما لا يكون كذلك، فالأول كاسم العشرة، وكذلك السكنجبين، ومنها/ ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك .(1/328)
وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، والصدقة، والعلم، ونحو ذلك، مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ [ القرآن ] فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآنا، وقد تسمى الكتب القديمة قرآنًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خفف على داود القرآن ) ،وكذلك لفظ القول والكلام والمنطق ونحو ذلك، يقع على القليل من ذلك وعلى الكثير .
وكذلك لفظ الذكر والدعاء، يقال للقليل والكثير، وكذلك لفظ الجبل؛ يقال على الجبل وإن ذهب منه أجزاء كثيرة .
ولفظ البحر والنهر؛يقل عليه وإن نقصت أجزاؤه،وكذلك المدينة والدار والقرية والمسجد ونحو ذلك،يقال على الجملة المجتمعة،ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم باق،وكذلك أسماء الحيوان والنبات كلفظ الشجرة،يقال على جملتها،فيدخل فيها الأغصان وغيرها،ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق،وكذلك لفظ الإنسان والفرس والحمار،يقال على الحيوان المجتمع الخلق،ثم/يذهب كثير من أعضائه والاسم باق،وكذلك أسماء بعض الأعلام؛ كزيد وعمرو، يتناول الجملة المجتمعة، ثم يزول بعض أجزائها والاسم باق . وإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع، لم يصح قولهم : إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي .
ومعلوم أن اسم [ الإيمان ] من هذا الباب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الإيمان بضع وسبعون شعبه، أعلاها قول : لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) . ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان .(1/329)
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ) ، فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك، أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل كرمي الجمار، والمبيت بمنى، ونحو ذلك، وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب، كرفع الصوت بالإهلال،والرَّمل والاضطباع في الطواف الأول .
وكذلك الصلاة، فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها/ أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة، في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك . فقد رأيت أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعًا وطبعًا، فإذا قال المعترض : هذا الجزء داخل في الحقيقة، وهذا خارج من الحقيقة، قيل له : ماذا تريد بالحقيقة ؟ فإن قال : أريد بذلك ما إذا زال صار صاحبه كافرًا، قيل له : ليس للإيمان حقيقة واحدة، مثل حقيقة مسمى [ مسلم ] في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار، مثل حقيقة السواد والبياض، بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك .(1/330)
وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق،لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت،فإن الله لما بعث محمدا رسولاً إلى الخلق،كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر،وطاعته فيما أمر،ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافرًا .
قال الإمام أحمد : كان بدء الإيمان ناقصًا، فجعل يزيد حتى كمل؛ ولهذا /قال تعالى عام حجة الوداع : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] .
وأيضًا، فبعد نزول القرآن وإكمال الدين، إذا بلغ الرجل بعض الدين دون بعض، كان عليه أن يصدق ما جاء به الرسول جملة، وما بلغه عنه مفصلاً، وأما ما لم يبلغه ولم يمكنه معرفته، فذاك إنما عليه أن يعرفه مفصلا إذا بلغه، وأيضًا . فالرجل إذا آمن بالرسول إيمانًا جازمًا، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه، فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك . وكذلك القادر على الحج والجهاد يجب عليه ما لم يجب على غيره من التصديق المفصل، والعمل بذلك .(1/331)
فصار ما يجب من الإيمان يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضًا . ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر . فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل ـ وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع؛ كالإقرار بالخالق، وإخلاص الدين له والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال ـ فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات .
/يبقى أن يقال : فالبعض الآخر قد يكون شرطًا في ذلك البعض، وقد لا يكون شرطًا فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [ النساء : 150، 151 ] . وقد يكون البعض المتروك ليس شرطًا في وجود الآخر ولا قبوله .(1/332)
وحينئذ، فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق . وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر ) ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من مات ولم يغْزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق ) ،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) ،وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لن يدعوهن : الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم ) .
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سباب المسلم فسوق،/ وقتاله كفر ) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب، والنياحة على الميت ) ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ترْغَبُوا عن آبائكم، فإن كُفْرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) ، وهذا من القرآن الذي نسخت تلاوته : ( لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن أبائكم ) ، وفي الصحيحين عن أبي ذر، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس من رجل ادَّعَى إلى غير أبيه ـ وهو يعلمه ـ إلا كَفَر، ومن ادَّعَى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلاً بالكفر، أو قال : ياعدو الله وليس كذلك، إلا رجع عليه ) .(1/333)
وفي لفظ البخاري : ( ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر بالله ومن ادعى قومًا ليس منهم، فليتبوأ مقعده من النار ) ، وفي الصحيحين من حديث جرير وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع : ( لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض ) ورواه البخاري من حديث ابن عباس،وفي البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر، فقد باء بها أحدهما ) ،وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثْرِ سَمَاء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال : ( أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : ( قال : أصبح من/ عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب ) .
وفي صحيح مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألم تروا إلى ما قال ربكم ؟ ! قال : ما أنعمت على عبادي من نعمة، إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون : بالكواكب، وبالكواكب ) و نظائر هذا موجودة في الأحاديث . وقال ابن عباس وغير واحد من السلف في قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] و { الظَّالِمُونَ } [ المائدة : 45 ] : كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم . وقد ذكر ذلك أحمد والبخاري وغيرهما .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=149 - TOP#TOPفصل :(1/334)
أول ما في الحديث سؤاله عن [ الإسلام ] : فأجابه بأن ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) . وهذه الخمس هي المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ) . وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرض الله الحج، فلهذا ذكر الخمس : وأكثر الأحاديث لا يوجد فيها ذكر الحج في حديث وفد عبد القيس ( آمركم بالإيمان بالله وحده . أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس ) . وحديث وفد عبد القيس من أشهر الأحاديث وأصحها . وفي بعض طرق البخاري لم يذكر الصيام، لكن هو مذكور في كثير من طرقه وفي مسلم، وهو أيضا مذكور في حديث أبي سعيد الذي ذكر فيه قصة وفد عبد القيس رواه مسلم، في صحيحه عنه، واتفقا على حديث ابن عباس وفيه أنه أمرهم بإيتاء الخمس من المغنم ; والخمس إنما فرض في غزوة بدر , وشهر رمضان فرض قبل ذلك .(1/335)
ووفد عبد القيس من خيار الوفد الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وقدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل فرض الحج، وقد قيل قدموا سنة الوفود : سنة تسع والصواب أنهم قدموا قبل ذلك، فإنهم قالوا : إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر - يعنون أهل نجد - وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، وسنة تسع كانت العرب قد ذلت وتركت الحرب، وكانوا بين مسلم أو معاهد خائف لما فتح الله مكة ثم هزموا هوازن يوم حنين، وإنما كانوا ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأردفه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لتنفيذ العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب، إلا أنه أجلهم أربعة أشهر من حين حجة أبي بكر، وكانت في ذي القعدة . وقد قال تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } الآية [ التوبة : 5 ] ، وهذه الأربعة التي أجلوها الأربعة الحرم .(1/336)
ولهذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم النصارى بأرض الروم عام تبوك سنة تسع قبل إرسال أبي بكر أميرا على الموسم، وإنما أمكنه غزو النصارى لما اطمأن من جهة مشركي العرب، وعلم أنه لا خوف على الإسلام منهم ; ولهذا لم يأذن لأحد ممن يصلح للقتال في التخلف فلم يتخلف إلا منافق، أو الثلاثة الذين تيب عليهم أو معذور؛ ولهذا لما استخلف عليا على المدينة عام تبوك طعن المنافقون فيه لضعف هذا الاستخلاف وقالوا : إنما خلفه لأنه يبغضه . فاتبعه علي وهو يبكي فقال : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) . وكان قبل ذلك يستخلف على المدينة من يستخلفه وفيها رجال من أهل القتال، وذلك لأنه لم يكن حينئذ بأرض العرب لا بمكة ولا بنجد ونحوهما من يقاتل أهل دار الإسلام - مكة والمدينة وغيرهما - ولا يخيفهم، ثم لما رجع من تبوك أقر أبا بكر على الموسم يقيم الحج والصلاة، ويأمر ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأتبعه بعلي لأجل نقض العهود ; إذ كانت عادة العرب أن لا يقبلوا إلا من المطاع الكبير أو من رجل من أهل بيته .
والمقصود : أن هذا يبين أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل ذلك؛ وأما
[(1/337)
حديث ضمام ] فرواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك : ( نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل يسأله، ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد أتانا رسولك، فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك قال : صدق قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله قال : فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك ؟ قال : نعم قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال : صدق قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا ؟ قال : صدق قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا ؟ قال : صدق ثم ولى الرجل وقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن صدق ليدخلن الجنة ) . وعن أنس قال : بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ; ثم قال لهم : أيكم محمد ؟ - والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا : هذا الرجل الأبيض المتكئ ؟ فقال له الرجل : ابن عبد المطلب ؟ فقال له : النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك ; فقال : سل عما بدا لك ؟ فقال : أسألك بربك ورب من قبلك ؟ آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ فقال : اللهم نعم وذكر أنه سأله عن الصلاة والزكاة ; ولم يذكر الصيام والحج فقال : الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي ; وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر ) .(1/338)
هذان الطريقان في الصحيحين، لكن البخاري لم يذكر في الأول الحج، بل ذكر الصيام ; والسياق الأول أتم، والناس يجعلون الحديثين حديثا واحدا . ويشبه - والله أعلم - أن يكون البخاري رأى أن ذكر الحج فيه وهما لأن سعد بن أبي بكر ; هم من هوازن وهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوازن كانت معهم وقعة حنين بعد فتح مكة، فأسلموا كلهم بعد الوقعة، ودفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان بعد أن قسمها على المعسكر، واستطاب أنفسهم في ذلك فلا تكون هذه الزيارة إلا قبل فتح مكة، والحج لم يكن فرض إذ ذاك .
وحديث طلحة بن عبيد الله ليس فيه إلا الصلاة والزكاة والصيام وقد قيل : إنه حديث ضمام وهو في الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خمس صلوات في اليوم والليلة قال : هل علي غير ذلك ؟ قال : لا إلا أن تطوع . قال : وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال : هل علي غيرها قال : لا إلا أن تطوع قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق ) وليس في شيء من طرقه ذكر الحج بل فيه ذكر الصلاة والزكاة والصيام كما في حديث وفد عبد القيس .(1/339)
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة فقال ( تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة , وتصوم رمضان قال : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) ، وهذا يحتمل أن يكون ضماما، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الصلاة والزكاة فقط، كما في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال : يا رسول الله أو يا محمد . أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال : فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه ثم قال : ( لقد وفق أو لقد هدي ثم قال : كيف قلت ؟ قال : فأعاد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصل الرحم فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن تمسك بما أمر به دخل الجنة ) هذه الألفاظ في مسلم .
وقد جاء ذكر الصلاة والصيام في حديث النعمان بن قوقل رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أدخل الجنة ؟ قال : نعم قال : والله لا أزيد على ذلك شيئا ) .
وفي لفظ أتى النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن قوقل . وحديث النعمان هذا قديم ; فإن النعمان بن قوقل قتل قبل فتح مكة قتله بعض بني سعد بن العاص، كما ثبت ذلك في الصحيح؛ فهذه الأحاديث خرجت جوابا لسؤال سائلين .(1/340)
أما حديث ابن عمر فإنه مبتدأ، وأحاديث الدعوة، والقتال فيها الصلاة والزكاة، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ) .
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رواه مسلم عن جابر ( قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) .
فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال . فكان من فقه أبي بكر أنه فهم من ذلك الحديث المختصر أن القتال على الزكاة قتال على حق المال وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراده بذلك في اللفظ المبسوط الذي رواه ابن عمر .(1/341)
والقرآن صريح في موافقة حديث ابن عمر كما قال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وحديث معاذ لما بعثه إلى اليمن لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة والزكاة . فلما كان في بعض الأحاديث ذكر بعض الأركان دون بعض أشكل ذلك على بعض الناس . فأجاب بعض الناس بأن سبب هذا أن الرواة اختصر بعضهم الحديث الذي رواه، وليس الأمر كذلك ; فإن هذا طعن في الرواة ونسبة لهم إلى الكذب إذ هذا الذي ذكره إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث وفد عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره , وحديث ضمام حيث ذكر بعضهم الخمس وبعضهم لم يذكره، وحديث النعمان بن قوقل حيث ذكر بعضهم فيه الصيام , وبعضهم لم يذكره، فبهذا يعلم أن أحد الراويين اختصر البعض أو غلط في الزيادة . فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيهما كذلك لا سيما والأحاديث قد تواترت بكون الأجوبة كانت مختلفة وفيهما ما بين قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا تارة وبهذا تارة والقرآن يصدق ذلك؛ فإن الله علق الأخوة الإيمانية في بعض الآيات بالصلاة والزكاة فقط كما في قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] كما أنه علق ترك القتال على ذلك في قوله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] وقد تقدم حديث ابن عمر الذي في الصحيحين موافقا لهذه الآية و [ أيضا ] فإن في حديث وفد عبد القيس ذكر خمس المغنم، لأنهم كانوا طائفة ممتنعة يقاتلون، ومثل هذا لا يذكر جواب سؤال سائل بما يجب عليه في حق نفسه، ولكن عن هذا [ جوابان ] :(1/342)
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي ; بل قد ثبت في الصحيح أن أول ما أنزل عليه : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } - إلى قوله - { عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1 : 5 ] ثم أنزل عليه بعد ذلك { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنذِرْ } [ المدثر : 1، 2 ] فهذا الخطاب إرسال له إلى الناس والإرسال بعد الإنباء ; فإن الخطاب الأول ليس فيه إرسال وآخر سورة اقرأ { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [ العلق : 19 ] . فأول السورة أمر بالقراءة وآخرها أمر بالسجود؛ والصلاة مؤلفة من أقوال وأعمال فأفضل أقوالها القراءة وأفضل أعمالها السجود؛ والقراءة أول أقوالها المقصودة، وما بعده تبع له . وقد روي أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرضت الخمس ليلة المعراج وكانت ركعتين ركعتين ; فلما هاجر أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، وكانت الصلاة تكمل شيئا بعد شيء، فكانوا أولا يتكلمون في الصلاة، ولم يكن فيها تشهد ثم أمروا بالتشهد ; وحرم عليهم الكلام ; وكذلك لم يكن بمكة لهم أذان .(1/343)
وإنما شرع الأذان بالمدينة بعد الهجرة ; وكذلك صلاة الجمعة والعيد ; والكسوف، والاستسقاء، وقيام رمضان وغير ذلك . إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة . وأمروا بالزكاة، والإحسان في مكة أيضا، ولكن فرائض الزكاة ونصبها إنما شرعت بالمدينة . وأما [ صوم شهر رمضان ] فهو إنما فرض في السنة الثانية من الهجرة؛ وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات . وأما [ الحج ] فقد تنازع الناس في وجوبه ; فقالت طائفة فرض سنة ست من الهجرة عام الحديبية باتفاق الناس . قالوا : وهذه الآية تدل على وجوب الحج ووجوب العمرة أيضا، لأن الأمر بالإتمام يتضمن الأمر بابتداء الفعل وإتمامه . وقال الأكثرون : إنما وجب الحج متأخرا قيل سنة تسع ; وقيل سنة عشر وهذا هو الصحيح ; فإن آية الإيجاب إنما هي قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] وهذه الآية في آل عمران في سياق مخاطبته لأهل الكتاب , وصدر آل عمران وما فيها من مخاطبة أهل الكتاب نزل لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران النصارى وناظروه في أمر المسيح ; وهم أول من أدى الجزية من أهل الكتاب، وكان ذلك بعد إنزال سورة براءة التي شرع فيها الجزية، وأمر فيها بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وغزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك التي غزا فيها النصارى لما أمر الله بذلك في قوله : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث وإنما جاء في الأحاديث المتأخرة .(1/344)
وقد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس، وكان قدومهم قبل فتح مكة على الصحيح، كما قد بيناه وقالوا : يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر يعنون بذلك أهل نجد : من تميم وأسد وغطفان، لأنهم بين البحرين وبين المدينة، وعبد القيس هم من ربيعة ليسوا من مضر؛ ولما فتحت مكة زال هذا الخوف، ولما قدم عليه وفد عبد القيس أمرهم بالصلاة والزكاة ; وصيام رمضان ; وخمس المغنم ; ولم يأمرهم بالحج وحديث ضمام قد تقدم أن البخاري لم يذكر فيه الحج، كما لم يذكره في حديث طلحة وأبي هريرة وغيرهما مع قولهم : إن هذه الأحاديث هي من قصة ضمام وهذا ممكن ; مع أن تاريخ قدوم ضمام هذا ليس متيقنا .
وأما قوله : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [ البقرة : 196 ] فليس في هذه الآية إلا الأمر بإتمام ذلك وذلك يوجب إتمام ذلك على من دخل فيه، فنزل الأمر بذلك لما أحرموا بالعمرة عام الحديبية، ثم أحصروا فأمروا بالإتمام وبين لهم حكم الإحصار، ولم يكن حينئذ قد وجب عليهم لا عمرة ولا حج .
الجواب الثاني : أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض الظاهرة التي تقاتل على تركها الطائفة الممتنعة كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة ما يجب على السائل، فمن أجابه بالصلاة والصيام، لم يكن عليه زكاة يؤديها ومن أجابه بالصلاة والزكاة والصيام : فإما أن يكون قبل فرض الحج؛ وهذا هو الواجب في مثل حديث عبد القيس ونحوه، وإما أن يكون السائل ممن لا حج عليه .(1/345)
وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ; ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما ; لأنهما عبادتان ; بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد ; فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم، وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وأما الصلاة والزكاة، فأمر ظاهر لا يمكن الإنسان بين المؤمنين أن يمتنع من ذلك . وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإسلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل عليها الناس، ويصيرون مسلمين بفعلها ; فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان الصوم واجبا، كما في آيتي براءة، فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس .
وكذلك ( لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له : إنك تأتي قوما أهل كتاب ; فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك ; فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ; فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) أخرجاه في الصحيحين .
ومعاذ أرسله إلى اليمن في آخر الأمر بعد فرض الصيام ; بل بعد فتح مكة بل بعد تبوك وبعد فرض الحج والجزية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات ومعاذ باليمن وإنما قدم المدينة بعد موته ; ولم يذكر في هذا الحديث الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج ; لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة .(1/346)
ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه الفرائض الأربع بعد الاقرار بوجوبها؛ فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهوكافر بإتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وائمتها، وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة : كجهم والصالحى وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن؛ وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة . وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الايمان الباطن تصديقا وحبا وإنقيادا بدون الإقرار الظاهر ممتنع .
وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الاسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل . وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد :
أحدها : أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد إختارها أبو بكر
والثاني : أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الاقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره .(1/347)
والثالث : لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من
السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعى، وطائفة من أصحاب أحمد .
والرابع : يكفر بتركها وترك الزكاة فقط .
والخامس : بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج وهذه المسألة لها طرفان :
أحدهما : في إثبات الكفر الظاهر .
والثاني : في إثبات الكفر الباطن .
فأما الطرف الثاني : فهو مبنى على مسألة كون الايمان قولا وعملا؛ كما تقدم ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } [ القلم : 42، 43 ] . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما،(1/348)
في الحديث الطويل، حديث التجلي ( أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود ) فإذا كان هذا حال من سجد رياء، فكيف حال من لم يسجد قط؛ وثبت أيضا في الصحيح ( أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء الا موضع السجود فان الله حرم على النار أن تأكله ) فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله؛ وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فدل على أن من لم يكن غرا محجلا لم يعرفه النبى صلى الله عليه وسلم، فلا يكون من أمته وقوله تعالى : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 46 : 49 ](1/349)
وقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } [ الإنشقاق : 21 : 23 ] وكذلك قوله تعالى : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ القيامة : 31، 32 ] وكذلك قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 42 : 47 ] فوصفه بترك الصلاة،كما وصفه بترك التصديق، ووصفه بالتكذيب والتولي و [ المتولي ] هو العاصي الممتنع من الطاعة . كما قال تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 16 ] وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين، وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 9 : 16 ]
وأيضا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فاذا انتفي ذلك انتفت الأخوة وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) وفي المسند ( من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة ) .(1/350)
وأيضا فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها فيقال : اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين .
وفي الصحيح ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا ) وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة .
وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك؛ مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله : ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه . . . أدخله الله الجنة ) ونحو ذلك من النصوص .
وأجود ما إعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ) .
قالوا : فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا؛ فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } [ البقرة : 238 ] وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها، وعلى غيرها من الصلوات، وقد قال تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] فقيل لابن مسعود وغيره : ما إضاعتها ؟ فقال : تأخيرها عن وقتها . فقالوا : ما كنا نظن(1/351)
ذلك إلا تركها . فقال : لو تركوها لكانوا كفارا . وكذلك قوله : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4، 5 ] ذمهم مع أنهم يصلون، لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة،من فعلها في الوقت، وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) فجعل هذه صلاة المنافقين لكونه أخرها عن الوقت، ونقرها؛ وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر؛ وقالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال : ( لا ما صلوا ) وثبت عنه أنه قال : ( سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ) فنهى عن قتالهم إذا صلوا، وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبى صلى الله عليه وسلم، إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها ولا يتناول من لم يحافظ، فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارا مرتدين بلا ريب، ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزما لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن قط لا يكون إلا كافرا، ولو قال : أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول : أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول : أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال : أنا مؤمن(1/352)
بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول؛ فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في [ مسألة الإيمان ] وأن الأعمال ليست من الإيمان وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم ايمان القلب،وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه .
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات، ويترك بعضها، كان معه من الايمان بحسب ما فعله، والإيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) . وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرا من الناس؛ بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا، ويدعون أحيانا، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الأسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإن هذه الاحكام إذا جرت على المنافق المحض ـ كابن أبي وأمثاله من المنافقين ـ فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى .(1/353)
وبيان [ هذا الموضع ] مما يزيل الشبهة، فإن كثيرا من الققهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف : مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر . وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه ـ كابن أبي وأمثاله ـ ومع هذا، فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته .
ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم : إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء، فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم، قاتلهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛/حيث قال : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،،وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) .(1/354)
فكانت الْحَرُورِيَّة قد ثبت قتالهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتفاق أصحابه، ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أنه قال للحسن ابنه : ( إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) ، وقال في الحديث الصحيح : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ) ،فدل بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال إما واجبًا أو مستحبًا، لم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم على ترك واجب أو مستحب، ودل الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج وهم علي وأصحابه، كان أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن قتال الخوارج أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين، الذي ليس فيه أمر من النبي .
والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه، لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدؤوهم بالقتال . والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار،وما من الأئمة إلا من حكى عنه في ذلك قولان،/كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد .(1/355)
والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا : إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف : من قال : القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال : إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول . فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته ـ كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ـ ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال : إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين . وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع .
/فإن قيل : فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن، فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر،فكيف يمكن مجاهدته ؟(1/356)
قيل : ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق، لابد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وقد قال تعالى في حق المنافقين : { وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] . فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات، وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة، عوقب على الظاهر، ولا يعاقب على ما يعلم من باطنه، بلا حجة ظاهرة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من المنافقين، من عرفه الله بهم، وكانوا يحلفون له وهم كاذبون، وكان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله . وأساس النفاق الذي بني عليه وأن المنافق لابد أن تختلف سريرته وعلانيته وظاهره وباطنه؛ ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] ، وقال : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] وأمثال هذا كثير، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } إلى قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] .
وبالجملة فأصل هذه المسائل : أن تعلم أن الكفر نوعان : كفر ظاهر،/وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة، كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا، فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين .(1/357)
وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد .
ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازمًا له، أو جزءًا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئًا خطأ بينًا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها .
فَصْل
وكذلك مرض القلب، هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره، وإرادته، فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته بحيث يبغض الحق النافع، ويحب الباطل الضار، فلهذا يفسر المرض تارة بالشك والريب . كما فسر مجاهد وقتادة قوله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ البقرة : 10 ] أي : شك، وتارة يفسر بشهوة الزنا كما فسر به قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
ولهذا صنف الخرائطي كتاب [ اعتلال القلوب ] أي مرضها، وأراد به مرضها بالشهوة، والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك، من الأمور التي لا يقوى عليها لضعفه بالمرض .(1/358)
والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه / القوي، والصحة تحفظ بالمثل، وتزال بالضد، والمرض يقوى بمثل سببه، ويزول بضده، فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه، وزاد ضعف قوته، حتى ربما يهلك، وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض، كان بالعكس .
ومرض القلب ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب . قال اللّه تعالى : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التوبة : 14، 15 ] ، فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم، ويقال : فلان شفى غيظه، وفي القود استشفاء أولياء المقتول، ونحو ذلك . فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن، وكل هذه آلام تحصل في النفس .
وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال ) . والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه، حتى يحصل له العلم واليقين، ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق : قد شفاني بالجواب .
والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فله موت ومرض، وحياة وشفاء، وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من / أسباب صلاحه وشفائه . قال تعالى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ الحج : 53 ] ؛ لأن ذلك أورث شبهة عندهم، والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم ضعيفة بالمرض، فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم، وهؤلاء كانت قلوبهم قاسية عن الإيمان، فصار فتنة لهم .(1/359)
وقال : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } [ الأحزاب : 60 ] ، كما قال : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ المدثر : 31 ] ، لم تمت قلوبهم كموت الكفار والمنافقين، و ليست صحيحة صالحة كصالح قلوب المؤمنين، بل فيها مرض شبهة وشهوات، وكذلك { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] ، وهو مرض الشهوة، فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض .
والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات، والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم، والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره، فيبقى القلب محبًا للرشاد مبغضًا للغي، بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد .
/فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويغتذى القلب من الإيمان، والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذى البدن بما ينميه ويقومه، فإن زكاة القلب مثل نماء البدن .
والزكاة في اللغة : النماء والزيادة في الصلاح، يقال : زكا الشيء : إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولابد مع ذلك من منع ما يضره، فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا .(1/360)
والصدقة لما كانت تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، صار القلب يزكو بها، وزكاته معنى زائد على طهارته من الذنب . قال اللّه تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] .
وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب .
وكذلك ترك المعاصي، فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، ومثل الدغلّ ] الدَّغلُ : دَخَلٌ فى الأمر مُفْسِدٌ، والشجر الكثير الملتف [ في الزرع، فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن، وكذلك القلب إذا / تاب من الذنوب كان استفراغًا من تخليطاته، حيث خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه .
فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل .(1/361)
قال تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [ النور : 21 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [ النور : 28 ] ، وقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور : 30 ] ، وقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14، 15 ] ، وقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 9، 10 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } [ عبس : 3 ] ، وقال تعالى : { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى . وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 18، 19 ] ، فالتزكية وإن كان أصلها النماء، والبركة وزيادة الخير، فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا .
وقال : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] ، وهي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وإثبات إلهية الحق في القلب، وهو حقيقة لا إله إلا اللّه . وهذا أصل ما تزكو به القلوب .
والتزكية : جعل الشيء زكيًا، إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر، / كما يقال : عدلته إذا جعلته عدلا في نفسه، أو في اعتقاد الناس، قال تعالى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] ، أي : تخبروا بزكاتها، وهذا غير قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ؛ ولهذا قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } [ النجم : 32 ] ، وكان اسم زينب برة، فقيل تزكى نفسها، فسماها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زينب .(1/362)
وأما قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 49 ] ، أي : يجعله زاكيًا، ويخبر بزكاته كما يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم .
والعدل هو : الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده؛ ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالمًا لنفسه، والظلم خلاف العدل، فلم يعدل على نفسه، بل ظلمها، فصلاح القلب في العدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر . قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] .
والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلاح قبل أثره في الخارج، فصلاحها عدل لها وفسادها ظلم لها . قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] ، وقال تعالى : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، قال بعض السلف : إن للحسنة لنورًا في القلب، وقوة في البدن، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمة في / القلب، وسوادًا في الوجه ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق .(1/363)
وقال تعالى : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] ، وقال : { وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا } [ الأنعام : 70 ] ، وتبسل أي : ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه، والمرض إنما هو بإخراج المزاج، مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه، لكن الأمثل، فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والانحراف، والعدل المحض في كل شيء متعذر علمًا وعملًا، ولكن الأمثل فالأمثل؛ ولهذا يقال : هذا أمثل، ويقال للطريقة السلفية : الطريقة المثلى، وقال تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ] ، وقال تعالى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [ الأنعام : 152 ] .
واللّه ـ تعالى ـ بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة اللّه وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس .
/والظلم ثلاثة أنواع، والظلم كله من أمراض القلوب، والعدل صحتها وصلاحها . قال أحمد بن حنبل لبعض الناس : لو صححت لم تخف أحدًا، أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك، كمرض الشرك والذنوب .
وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته، قال تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [ الأنعام : 122 ] .(1/364)
لذلك ذكر اللّه حياة القلوب، ونورها، وموتها، وظلمتها في غير موضع كقوله : { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ يس : 70 ] ، وقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، ثم قال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ] ، وقال تعالى : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ } [ الروم : 19 ] ، ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن . وفي الحديث الصحيح : ( مثل البيت الذي يذكر اللّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللّه فيه، مثل الحي والميت ) ، وفي الصحيح أيضًا : ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا ) .(1/365)
وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } [ الأنعام : 39 ] ، وذكر ـ سبحانه ـ آية النور وآية الظلمة، فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ } [ النور : 35 ] ، فهذا مثل نور الإيمان في قلوب المؤمنين، ثم قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ . أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ النور : 39، 40 ] .
فالأول : مثل الاعتقادات الفاسدة، والأعمال التابعة لها، يحسبها صاحبها شيئًا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيئًا ينفعه، فوفاه اللّه حسابه على تلك الأعمال .
والثاني : مثل للجهل البسيط، وعدم الإيمان والعلم، فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض لا يبصر شيئًا، فإن البصر إنما هو بنور الإيمان والعلم .(1/366)
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] ، وهو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه، فصرف اللّه به ما كان هم به، وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب / عليه خطيئة إذا فعل خيرًا، ولم يفعل سيئة . وقال تعالى : { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ إبراهيم : 1 ] ، وقال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] .
ولهذا ضرب اللّه للإيمان مثلين، مثلًا بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد، ومثلًا بالنار التي بها النور وما يقترن بما يوقد عليه من الزبد .(1/367)
وكذلك ضرب اللّه للنفاق مثلين قال تعالى : { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } [ الرعد : 17 ] ، وقال تعالى في المنافقين : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ . أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ . يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 17ـ20 ] .
/فضرب لهم مثلًا كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأها اللّه، والمثل المائي كالمثل النازل من السماء، وفيه ظلمات ورعد وبرق يرى . ولبسط الكلام في هذه الأمثال موضع آخر .(1/368)
وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها، وفي الدعاء المأثور : ( اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا ) ، والربيع : هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن مما ينبت الربيع ما يَقْتل حَبَطًا أو يُلِمُّ ) . والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع، لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه، وغيرهم يسمى الربيع الفصل الذي يلي الشتاء، فإن فيه تخرج الأزهار التي تخلق منها الثمار، وتنبت الأوراق على الأشجار .
والقلب الحي المنور؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل، والقلب الميت فإنه لا يسمع ولا يبصر . قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } [ يونس : 42، 43 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } الآيات [ الأنعام : 25 ] .(1/369)
فأخبر أنهم لا يفقهون بقلوبهم ولا يسمعون بآذانهم ولا يؤمنون بما رأوه من النار، كما أخبر عنهم حيث قالوا : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . فذكروا الموانع على القلوب والسمع والأبصار، وأبدانهم حية تسمع الأصوات وترى الأشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم، لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح، ولهذا قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } .
فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي لا تسمع إلا نداء، كما قال في الآية الأخرى : { أّمً تّحًسّبٍ أّنَّ أّكًثّرّهٍمً يّسًمّعٍونّ أّوً يّعًقٌلٍونّ إنً هٍمً إلاَّ كّالأّنًعّامٌ بّلً هٍمً أّضّلٍَ سّبٌيلاْ } [ الفرقان : 44 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] .(1/370)
/فطائفة من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها كقوله : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، وأمثالها مما ذكر اللّه في عيوب الإنسان وذمها، فيقول هؤلاء : هذه الآية في الكفار، والمراد بالإنسان هنا الكافر، فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيب، بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرًا للشرك من العرب، أو إلى من يعرفهم من مظهري الكفر، كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند، ونحو ذلك، فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها اللّه ليهتدي بها عباده .
فيقال : أولًا : المظهرون للإسلام فيهم مؤمن ومنافق، والمنافقون كثيرون في كل زمان، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار .
ويقال : ثانيًا : الإنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر، وإن كان معه إيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) . فأخبر أنه من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق .(1/371)
/وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لأبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) . وأبو ذر ـ رضي اللّه عنه ـ من أصدق الناس إيمانًا، وقال في الحديث الصحيح : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية : الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم ) ، وقال في الحديث الصحيح : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) . قالوا : اليهود والنصارى ؟ ! قال : ( فمن ؟ ! ) . وقال أيضًا في الحديث الصحيح : " لتأخذن أمتي ما أخذت الأمم قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع " قالوا : فارس والروم ؟ ! قال : ( ومن الناس إلا هؤلاء ) .
وقال ابن أبي مُلَيْكَة : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وعن علي ـ أو حذيفة ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : القلوب أربعة : قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذاك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذاك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان : مادة تمده الإيمان، ومادة تمده النفاق، فأولئك قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا .
وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر اللّه في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر، وهذا كما يقول بعضهم في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] . فيقولون : المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم، فأي / فائدة في طلب الهدى ؟ ! ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم : نم حتى آتيك، أو يقول بعضهم : ألزم قلوبنا الهدى، فحذف الملزوم، ويقول بعضهم : زدني هدى، وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه، فإن المراد به العمل بما أمر اللّه به، وترك ما نهى اللّه عنه في جميع الأمور .(1/372)
والإنسان وإن كان أقر بأن محمدًا رسول اللّه، وأن القرآن حق على سبيل الإجمال، فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره، وما أمر به، وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفه، وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه، ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة، فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكلية، لا يمكن غير ذلك لا تذكر ما يخص به كل عبد؛ ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم .
والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله، يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلًا، ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات، ويتناول إلهام العمل بعلمه، فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه، ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [ الفتح : 1، 2 ] ، وقال في حق موسى وهارون : { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ . وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الصافات : 117، 118 ] .
والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء اللّه من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدًا حق، والقرآن حق، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا، ثم الذين علموا ما أمر اللّه به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه، فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال؛ لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهو عنه، والذين هداهم اللّه من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء اللّه المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم اللّه بهذا الدعاء في كل صلاة، مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى اللّه دائمًا في أن يهديهم الصراط المستقيم .(1/373)
فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء اللّه المتقين . قال سهل بن عبد اللّه التستري : ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار، وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول : ثبتنا واهدنا لزوم الصراط .
وقول من قال : زدنا هدى، يتناول ما تقدم، لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم، فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد، ولا يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم، وقد لا يحصل العلم في / المستقبل بل يزول عن القلب، وإن حصل فقد لا يحصل العمل، فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه اللّه عليهم في كل صلاة، فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه، وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة، واللّه أعلم .
واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الإرادية، أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة من النظار في علم اللّه وقدرته، كأبي الحسين البصري، قالوا : إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر، بل الحياة صفة قائمة بالموصوف، وهي شرط في العلم والإرادة والقدرة على الأفعال الاختيارية، وهي أيضًا مستلزمة لذلك، فكل حي له شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة، وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي .
والحياء مشتق من الحياة، فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح، فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحياء من الإيمان ) ، وقال : ( الحياء والعي شعبتان من الإيمان . والبذاء والبيان شعبتان من النفاق ) .(1/374)
فإن الحي يدفع ما يؤذيه، بخلاف الميت الذي لا حياة فيه فإنه يسمى وقحًا، والوقاحة الصلابة وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة، فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه، وامتناعه من القبح كالأرض / اليابسة لا يؤثر فيها وطء الأقدام، بخلاف الأرض الخضرة .
ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح، وله إرادة تمنعه عن فعل القبح، بخلاف الوقح الذي ليس بحي فلا حياء معه ولا إيمان يزجره عن ذلك . فالقلب إذا كان حيًا فمات الإنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن، ليست هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها .
ولهذا قال تعالى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } [ البقرة : 154 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آل عمران : 169 ] مع أنهم موتى دخلون في قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] ، وفي قوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وقوله : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ الحج : 66 ] ، فالموت المثبت غير الموت المنفي . المثبت : هو فراق الروح البدن، والمنفي : زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن .(1/375)
وهذا كما أن النوم أخو الموت، فيسمى وفاة ويسمى موتًا، وإن كانت الحياة موجودة فيهما . قال اللّه تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ الزمر : 42 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول : ( الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) ، وفي حديث آخر : / ( الحمد للّه الذي رد على روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا ) ، وإذا أوى إلى فراشه يقول : ( اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها، إن أمسكتها فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) ، ويقول : ( باسمك اللّهم أموت وأحيا ) .
فَصْل
ومن أحب الأعمال إلى اللّه، وأعظم الفرائض عنده : الصلوات الخمس في مواقيتها، وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة، وهي التي فرضها اللّه ـ تعالى ـ بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة، وهي عمود الإسلام الذي لا يقوم إلا به، وهي أهم أمر الدين، كما كان ـ أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله : إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ) وقال : ( العهد الذي بيننا وبينهم / الصلاة، فمن تركها فقد كفر ) . فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء، فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن اللّه يحبها ويثيب عليها، وصلى مع ذلك وقام الليل، وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ، فهو أيضًا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل .(1/376)
ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين، أو أن للّه خواصًا لا تجب عليهم الصلاة، بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس، أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى، أو أن المقصود حضور القلب مع الرب، أو أن الصلاة فيها تفرقة، فإذا كان العبد في جمعيته مع اللّه فلا يحتاج إلى الصلاة، بل المقصود من الصلاة هي المعرفة، فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة، فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، أو ملء الأوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز، وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية . فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك .
أو أن للّه رجالًا خواصًا لا يحتاجون إلى متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى، أو أن كل / من كاشف وطار في الهواء، أو مشى على الماء، فهو ولي سواء صلى أو لم يصل .(1/377)
أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة، أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والحانات والقمامين، وغير ذلك من البقاع، وهم لا يتوضؤون ولا يصلون الصلوات المفروضات، فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء اللّه فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام، ولو كان في نفسه زاهدًا عابدًا، فالرهبان أزهد وأعبد، وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول، وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ماجاء به، بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 150-152 ] .(1/378)
ومن كان مسلوب العقل أو مجنونًا، فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه، فليس عليه عقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل . فمن لا عقل / له لا يصح شيء من عبادته لا فرائضه ولا نوافله، ومن لا فريضة له ولا نافلة، ليس من أولياء اللّه؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى } [ طه : 54 ] أي العقول، وقال تعالى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } [ الفجْر : 5 ] أي لذي عقل . وقال تعالى : { وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ البقرة : 197 ] وقال : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 22 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 2 ] .
فإنما مدح اللّه وأثنى على من كان له عقل . فأما من لا يعقل فإن اللّه لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط، بل قال ـ تعالى ـ عن أهل النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] وقال : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [ الفرقان : 44 ] .(1/379)
فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله، ومن كان يهوديًا أو نصرانيًا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه لا باطنًا ولا ظاهرًا . ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار . ومن كان مؤمنًا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في / حال عقله، ومن ولد مجنونًا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر . وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلمًا تبعًا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد .
وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعًا لآبائهم، وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرًا تبعًا لأبويه أو لأهل الدار، كما يحكم بذلك للأطفال . لا لأجل إيمان قام به، فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم، وهذا الإسلام لا يوجب له مزية على غيره، ولا أن يصير به من أولياء اللّه المتقين الذين يتقربون إليه بالفرائض والنوافل . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [ النساء : 43 ] فنهى اللّه عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون .(1/380)
وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالآية التي أنزلها اللّه في " سورة المائدة " . وقد روى أنه كان سبب نزولها : أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة، فأنزل اللّه هذه الآية؛ فإذا كان قد حرم اللّه الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون، علم أن ذلك يوجب ألا يصلي /أحد حتى يعلم ما يقول . فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة، وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال، فكيف بالمجنون ؟ ! .
وقد قال بعض المفسرين ـ وهو يروي عن الضحاك ـ : لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم . وهذا إذا قيل : إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب نزول الآية كان السكر من الخمر . واللفظ صريح في ذلك؛ والمعنى الآخر صحيح أيضًا . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد، فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ـ وفي لفظ ـ إذا قام يصلي فنعس فليرقد ) .
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس . وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة، أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما علل ذلك بقوله : ( فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ) فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس . وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( لا يصلي / أحدكم، وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام ) لما في ذلك من شغل القلب . وقال أبو الدرداء : من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ .(1/381)
فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون، وإن سمي مولها أو متولها، أولى ألا تجوز صلاته .
ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات، كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى اللّه ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( بر الوالدين ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد ) . قال : حدثني بهن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني . وثبت أيضًا في الصحيحين عنه : أنه جعل أفضل الأعمال إيمان باللّه، وجهاد في سبيله، ثم الحج المبرور . ولا منافاة بينهما؛ فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان باللّه، كما دخلت في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] . قال البراء بن عازب وغيره من السلف : أي صلاتكم إلى بيت المقدس .
ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال، فلا يصلي أحد عن أحد الفرض، لا لعذر ولا لغير عذر . كما لا يؤمن أحد عنه، ولا / تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان، بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرًا، وهو متمكن من فعل بعض أفعالها . فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال، فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه ؟ فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع .(1/382)
فإذا كان كذلك، تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى اللّه من فرض ونفل، و [ الولاية ] هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل، فقد حرم ما به يتقرب أولياء اللّه إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب، كما لا يعاقب الأطفال والبهائم؛ إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال . ثم إن كان مؤمنًا قبل حدوث الجنون به، وله أعمال صالحة، وكان يتقرب إلى اللّه بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم، وكان له من ولاية اللّه تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى، كما لا يسقط ذلك بالموت، بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام؛ فإن الردة تحبط الأعمال، وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته، كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالأعمال المسكرة والنوم؛ لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح، ولكن في الحديث / الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك : ( إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم ) قالوا : وهم بالمدينة ؟ ! قال : ( وهم بالمدينة حبسهم العذر ) ، فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلًا، بخلاف أولئك فإن لهم قصدًا صحيحًا يكتب لهم به الثواب .(1/383)
وأما إن كان قبل جنونه كافرًا أو فاسقًا أو مذنبًا، لم يكن حدوث الجنون به مزيلًا؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورًا معهم، وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين . وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولهًا أو متولهًا، لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، ولا يكون زوال عقله سببًا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب زوال العقل، فيبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده ولا ينقصه، لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر .
/وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم، كشرب الخمر، وأكل الحشيشة، أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله، أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله، أو يأكل بنجا يزيل عقله، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول . وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصًا عظيمًا حتى يغيب عقله، أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني، وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولهًا . فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم .
واختلف العلماء : هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم ؟ والأصل " مسألة السكران " والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله . وقال كثير من العلماء ليس مكلفًا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أحمد : أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين . ولم يقل أحد من العلماء : إن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء اللّه الموحدين المقربين وحزبه المفلحين . ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير، فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم .(1/384)
ومن علامة هؤلاء : أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو / تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، لا بالكفر والبهتان، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك، ويهذي في زوال عقله بالكفر، فهذا إنما يكون كافرًا لا مسلمًا، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية، وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع، ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل ـ أو بغير العربية ـ فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع .
ومن قال : إن هؤلاء أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب .
قيل : قولك وهب اللّه لهم أحوالًا، كلام مجمل، فإن الأحوال تنقسم إلى : حال رحماني، وحال شيطاني، وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب، [ فتارة ] يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان، وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان؛ فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية، وكانوا من المؤمنين المتقين، فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول، وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية ـ كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون ـ فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق، كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان / والتقوى، كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل، غايته أن يسقط التكليف .(1/385)
ورفع القلم لا يوجب حمدًا ولامدحًا ولا ثوابًا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء اللّه، ولا كرامة من كرامات الصالحين، بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم، بل النائم أحسن حالًا من هؤلاء، ولهذا كان الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله، والنبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه النوم والإغماء، ولا يجوز عليه الجنون، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد أغمى عليه في مرضه .
وأما الجنون فقد نزه اللّه أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص الإنسان؛ إذ كمال الإنسان بالعقل؛ ولهذا حرم اللّه إزالة العقل بكل طريق، وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل، كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل، فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببًا أو شرطًا أو مقربًا إلى ولاية اللّه كما يظنه كثير من أهل الضلال ؟ ! حتى قال قائلهم في هؤلاء :
/هم معشر حلوا النظام وخرقوا ** السياج فلا فرض لديهم ولا نفل
مجانين إلا أن سر جنونهم ** عزيز على أبوابه يسجد العقل(1/386)
فهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للمجنون سرًا يسجد العقل على بابه، وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا للّه ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى؛ فإن كثيرًا من الكفار والمشركين فضلًا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء؛ لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لابد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان . ولابد في أعمالهم من فجور وطغيان، كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان، قال اللّه تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] .(1/387)
فكل من تنزلت عليه الشياطين لابد أن يكون فيه كذب / وفجور، من أي قسم كان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أولياء اللّه هم الذين يتقربون إليه بالفرائض، وحزبه المفلحون، وجنده الغالبون، وعباده الصالحون . فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء اللّه المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك، فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء اللّه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين، وإذا قال : أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا رسول اللّه كان من الكاذبين الذين قيل فيهم : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 1-3 ] .(1/388)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع اللّه على قلبه ) ، فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر، فكيف بمن لا يصلي ظهرًا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة، ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى ؟ ! فهذا لو كان قبل مؤمنًا، وكان قد طبع على قلبه كان كافرًا مرتدًا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض، وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرًا مرتدًا، فكيف يعتقد أنه من أولياء / اللّه المتقين، وقد قال تعالى في صفة المنافقين : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [ المجادلة : 19 ] أي : استولى، يقال : حاذ الإبل حوذًا : إذا استاقها، فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر اللّه به ورسوله قال تعالى : { أَلَمْ تَرَى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم : 83 ] أي تزعجهم إزعاجًا، فهؤلاء { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ } [ المجادلة : 19 ] .(1/389)
وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من ثلاثة في قرية، لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان ) ، فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان الذين استحوذ عليهم، لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا عبادًا زهادًا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات، كأهل جبل لبنان، وأهل جبل الفتح الذي بآسون، وجبل ليسون، ومغارة الدم بجبل قاسيون، وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلال، ويفعلون فيها خلوات ورياضات من غير أن يؤذن، وتقام فيهم الصلاة الخمس، بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها اللّه ورسوله، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة، / ولا قصد المتابعة لرسول اللّه الذي قال اللّه فيه : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } الآية [ آل عمران : 31 ] فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن، فمن شهد لهم بولاية اللّه فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب .
ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول، وشهد مع ذلك أنهم من أولياء اللّه، فهو مرتد عن دين الإسلام وإما مكذب للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتاب، وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه، وكل من هؤلاء كافر .(1/390)
وأما إن كان جاهلًا بما جاء به الرسول، وهو معتقد مع ذلك أنه رسول اللّه إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة، وأنه لا طريق إلى اللّه إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم، لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان، لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته، لا لقصد مخالفته، ولا يرجو الهدى في غير متابعته ـ فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب، فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي قبله وكان كافرًا مرتدًا، ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب اللّه، كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان، مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية، ومكاشفات شيطانية قال / تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 103، 104 ] .
قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات . وقد روى عن علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات . وقال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال : { لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ . نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 15، 16 ] .(1/391)
ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا وإن كان لا يتعمد الكذب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قالت له سبيعة الأسلمية، وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع، فكانت حاملًا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك : ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذب أبو السنابل، بل حللت فانكحى ) ، وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع أنهم يقولون : إن عامرًا قتل نفسه وحبط عمله فقال : ( كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد ) ، وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب، فإنه كان رجلًا صالحًا، وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير، لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي صلى الله عليه وسلم .
/وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ـ : إن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه . فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين ؟ فهذا خطؤه أيضًا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كاذب آثم في ذلك، وإن كانت له حسنات في غير ذلك، فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له، ويطرد بحسب إخلاصه للّه وطاعته له قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] .(1/392)
وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات، وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن . قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ . وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60-62 ] .
والذين يعبدون الشيطان أكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم / ويسجدون لهم فهم في الحقيقة، إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد اللّه الصالحين . قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40، 41 ] .
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غربها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له، وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان، وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبًا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور والتبركات ما يناسبه، كما ذكره صاحب [ السر المكتوم ] المشرقي، وصاحب [ الشعلة النورانية ] البوني المغربي وغيرهما؛ فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك روحانية الكواكب .(1/393)
ومنه من يظن أنها ملائكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم، قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال اللّه فيهما : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة : 231 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ الجمعة : 2 ] ، وهو الذكر الذي قال اللّه فيه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه .(1/394)
وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من الإيمان وولاية اللّه بحسب ما والى فيه الرحمن، وكان فيه من عداوة اللّه والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان، كما قال حذيفة بن اليمان : القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن . وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ـ والأغلف : الذي يلف عليه غلاف . كما قال تعالى عن اليهود : { ٍوَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك ثلاث جمع طبع اللّه على قلبه ) ـ وقلب منكوس فذلك قلب المنافق . وقلب فيه مادتان : مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، فأيهما غلب كان الحكم له . وقد روى هذا في [ مسند الإمام أحمد ] مرفوعًا .
وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم / أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن القلب يكون فيه شعبة نفاق، وشعبة إيمان، فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة من ولايته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه باللّه وتقواه تكون من كرامات الأولياء، وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا اللّه تعالى : أن نقول كل صلاة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .
و ( المغضوب عليهم ) هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، و ( الضالون ) الذين يعبدون اللّه بغير علم . فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو من ( المغضوب عليهم ) وإن كان لا يعلم ذلك فهو من ( الضالين ) .(1/395)
نسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا .
والحمد للّه رب العالمين . والعاقبة للمتقين . وصلى اللّه على محمد .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOPتلخيص مناظرة في [ الحمد والشكر ]
بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وبين ابن المرحل .
كان الكلام في الحمد والشكر، وإن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان .
فقال ابن المرحل : قد نقل بعض المصنفين ـ وسماه ـ : إن مذهب أهل السنة والجماعة : إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد . ومذهب الخوارج : أنه يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وبنوا على هذا : إن من ترك الأعمال يكون كافرًا؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكرًا كان كافرًا .
قال الشيخ تقي الدين : هذا المذهب المحكى عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ . فإن مذهب أهل السنة : أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل . قال الله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } [ سبأ : 13 ] . وقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له : أتفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : ( أفلا أكون عبدًا شكورًا ) .
قال ابن المرحل : أنا لا أتكلم في الدليل، وأسلم ضعف هذا القول، لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة .
قال الشيخ تقي الدين : نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ، فإن القول إذا ثبت ضعفه، كيف ينسب إلى أهل الحق ؟
ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة .(1/396)
قلت : وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة [ ص ] ( سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا ) . ثم من الذي قال من أئمة السنة : إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد ؟
قال ابن المرحل : هذا قد نقل، والنقل لا يمنع، لكن يستشكل . ويقال : هذا مذهب مشكل .
/قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية : النقل نوعان . أحدهما : أن ينقل ما سمع أو رأى . والثاني : ما ينقل باجتهاد واستنباط . وقول القائل : مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك .
ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا . ألا ترى أن كثيرًا من المصنفين يقولون : مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه ؟ وعذرهم في ذلك : أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص ؟ . وكذلك هذا . لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي، ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر، أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرًا لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفي الشكر خلفه الكفر، ولهذا قال : إنهم بنوا على ذلك : التكفير بالذنوب . فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر .
قلت : كما أن كثيرًا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة .
قال : وهذا خطأ، لأن التكفير نوعان : أحدهما : كفر النعمة . والثاني : الكفر بالله . والكفر الذي هو ضد الشكر : إنما هو كفر/ النعمة لا الكفر بالله . فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله .(1/397)
قلت : على أنه لو كان ضد الكفر بالله، فمن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله . والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية . كما قال أهل السنة : إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا، حتى يترك أصل الإيمان . وهو الاعتقاد . ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة ـ التي هي ذات شعب وأجزاء ـ زوال اسمها، كالإنسان، إذا قطعت يده، أو الشجرة، إذا قطع بعض فروعها .
قال الصدر بن المرحل : فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة، كما خالفوا الخوارج في جعله كافرًا بالله .
قال الشيخ تقي الدين : أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمن تنقل من أصحابي هذا ؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة، حيث أطلقته الشريعة .
قال ابن المرحل : إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا، لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا .
قال الشيخ تقي الدين : ولا أصحابك خالفوه . فإن أصحابك /قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق ـ مثل ترك الصلاة، وقتال المسلمين ـ على أن المراد به كفر النعمة . فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة . فعلم أنهم موافقو الحسن، لا مخالفوه .
ثم عاد ابن المرحل، فقال : أنا أنقل هذا عن المصنف . والنقل ما يمنع، لكن يستشكل .
قال الشيخ تقي الدين : إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق، مع أنهم صرحوا في غير موضع : أن الشكر يكون بالقول، والعمل، والاعتقاد . وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه .
ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق إخراج الأعمال أن تكون شكرًا لله . بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال . وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل .(1/398)
وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ [ الحمد ] و [ الشكر ] مثل كتب التفسير واللغة، / وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك .
فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا، فقال : الحسن البصري يسمى الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا .
قال الشيخ تقي الدين له : بل يسمى منافقًا النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر . والنفاق يطلق على النفاق الأكبر، الذي هو إضمار الكفر . وعلى النفاق الأصغر، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات .
قال له ابن المرحل : ومن أين قلت : إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا ؟
قال الشيخ تقي الدين : هذا مشهور عند العلماء . وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره . وحكوه عن العلماء .
وقال غير واحد من السلف ( كفر دون كفر، و نفاق دون نفاق، وشرك دون شرك ) .
/وإذا كان النفاق جنسًا تحته نوعان، فالفاسق داخل في أحد نوعيه .
قال ابن المرحل : كيف تجعل النفاق اسم جنس، وقد جعلته لفظًا مشتركًا، وإذا كان اسم جنس كان متواطئًا، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركًا متواطئًا .
قال الشيخ تقي الدين : أنا لم أذكر أنه مشترك . وإنما قلت : يطلق على هذا وعلى هذا، والإطلاق أعم .
ثم لو قلت : إنه مشترك لكان الكلام صحيحًا . فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئىن بطريق التواطؤ، وبطريق الاشتراك . فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر، وإبطان المعصية، تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ، كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قوم باعتبار التواطؤ . ولهذا سمى مشككا .
قال ابن المرحل : كيف يكون هذا ؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره .(1/399)
قال له الشيخ تقي الدين : المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر . وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار ما به/ تمتاز كل ماهية عن الأخرى . فيكون مشتركًا كالاشتراك اللفظي . وقد يكون مطلقًا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين، فيكون لفظًا متواطئًا .
قلت : ثم إنه في اللغة يكون موضوعًا للقدر المشترك، ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله : في هذا تارة، وفي هذا تارة . فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز . وقد يكون قرينة، مثل لام التعريف، أو الإضافة، تكون هي الدالة على ما به الامتياز .
مثال ذلك : [ اسم الجنس ] إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة، إذا غلب على الفرس، قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينهما وبين سائر الدواب . فيكون متواطئًا . وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس، فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس : تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك .
وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علمًا بالغلبة : مثل ابن عمرو، والنجم، فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو . فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ . وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم، ومن بني عمرو، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي . وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده، يصح /استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام، فيكون بطريق التواطؤ، بالوضع الثاني، فيصير بطريق الاشتراك .
ولفظ [ النفاق ] من هذا الباب . فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه . وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة، فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين .(1/400)
ثم إبطان ما يخالف الدين، إما أن يكون كفرًا أو فسقًا . فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار . وإن أظهر أنه صادق أو موف، أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك . فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقًا .
فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ .
وعلى هذا، فالنفاق اسم جنس تحته نوعان . ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] و { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] والمنافق هنا : الكافر .
وقد يراد به النفاق في فروعه . مثل قوله صلى الله عليه وسلم : / ( آية المنافق ثلاث ) وقوله : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ) وقول ابن عمر : فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث . ثم يخرج فيقول بخلافه : كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقًا .
فإذا أردت به أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد، والإضافة . فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئًا، كما إذا قال الرجل : جاء القاضي . وعني به قاضي بلده، لكون اللام للعهد .
كما قال سبحانه : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 16 ] أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى، لا نفس لفظ ( رسول ) . وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه، فيصير مشتركًا بين اللفظ العام والمعنى الخاص . فكذلك قوله : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد، والمنافق المعهود : هو الكافر .(1/401)
أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه كان منافقًا ) يعني به منافقًا بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن .
فإطلاق لفظ [ النفاق ] على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق، كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك . وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة . ويكون متواطئًا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ [ منافق ] بل لام التعريف .
/وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه، إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة، أو تعريف اللام . فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال : إن اللفظ مشترك . وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيًا على مواطأته .
فلهذا صح أن يقال : [ النفاق ] اسم جنس تحته نوعان . لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئًا .
وصح أن يقال : هو مشترك بين النفاق في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين . لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=223 - TOP#TOPفصل(1/402)
ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، /وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر ) وفي الصحيحين أيضًا عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها، وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبى ذر ـ وهو من خيار المؤمنين ـ : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) فقال : يا رسول الله، أعلى كبر سني ؟ ! قال : ( نعم ) ! .(1/403)
وثبت في الصحيح عنه أنه قال : ( أربع في أمتى من أمر الجاهلية : الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ) وفي الصحيحين عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) وفي صحيح مسلم : ( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) وذكر البخارى عن ابن أبى مُليْكةَ قال : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقد قال الله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } [ آل عمران : 166، 167 ] فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى؛ وغيرهم يكون مخلطًا وإيمانه أقوى .(1/404)
وإذا كان [ أولياء الله ] هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى، كان أكمل ولاية لله . فالناس متفاضلون في ولاية الله ــ عز وجل ــ بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124، 125 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [ التوبة : 37 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال تعالى في المنافقين : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] . فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى : { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ المدثر : 31 ] ، وقال تعالى : { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] .
فَصْل(1/405)
ومما ينبغي أن يعلم : أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة؛ فإنه قد عرف تفسيره وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء : ( الأسماء ثلاثة أنواع ) نوع يعرف حَدّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ النساء : 19 ] .
وكان من أعظم ما أنعم اللّه به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان : أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجْده؛ فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدي ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قَبْلَهم، وخبر ما بعدهم، وحُكْم ما بينهم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمَهُ اللَّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل اللّه المتين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، فلا يستطيع أن يزيغه إلى هواه، ولا يحرف به لسانه، ولا يَخْلَق [ أي : يبلى . انظر : القاموس، مادة : خلق ] عن كثرة الترداد، فإذا ردد مرة بعد مرة لم يخلق ولم يمل كغيره من الكلام، ولا تنقضى عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صَدَق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم .(1/406)
فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به؛ ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة،ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول : فيجب تقديم العقل . والنقل ـ يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين ـ إما أن يُفوَّض وإما أن يُؤوَّل . ولا فيهم من يقول : إن له ذوقًا أو وَجْدًا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث، فضلا عن أن يَدَّعِي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول، وأنه يأخذ من ذلك المعدن علم التوحيد، والأنبياء كلهم يأخذون عن مشكاته . أو يقول : الولي أفضل من النبي، ونحو ذلك من مقالات أهل الإلحاد؛ فإن هذه الأقوال لم تكن حدثت بَعْدُ في المسلمين، وإنما يعرف مثل هذه إما عن ملاحدة اليهود والنصارى؛ فإن فيهم من يجوز أن غير النبي أفضل من النبي، كما قد يقوله في الحواريين؛ فإنهم عندهم رسل، وهم يقولون : أفضل من داود وسليمان، بل ومن إبراهيم وموسى، وإن سموهم أنبياء، إلى أمثال هذه الأمور .
ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه، وكانوا يسمون ما عارض الآية ناسخًا لها، فالنسخ عندهم اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل . وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها، وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية، بل قد لا يفهم منها وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخًا، وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم .(1/407)
وأصل ذلك من إلقاء الشيطان، ثم يحكم اللّه آياته، فما ألقاه الشيطان في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه، سمى هؤلاء ما يرفع ذلك الظن نسخًا، كما سموا قوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ناسخًا لقوله : { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] وقوله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ناسخًا لقوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } [ البقرة : 284 ] . وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه .
إذ المقصود أنهم كانوا متفقين على أن القرآن لا يعارضه إلا قرآن، لا رأي ومعقول وقياس، ولا ذوق ووَجْد وإلهام ومكاشفة .
وكانت البدع الأولى مثل [ بدعة الخوارج ] إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب؛ إذ كان المؤمن هو البر التقي . قالوا : فمن لم يكن برًا تقيًا فهو كافر، وهو مخلد في النار . ثم قالوا : وعثمانوعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل اللّه، فكانت بدعتهم لها مقدمتان :
الواحدة : أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر .(1/408)
والثانية : أن عثمان وعليا ومن والاهما كانوا كذلك؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفَّر أهلها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة في ذمهم والأمر بقتالهم . قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنه ـ : صح فيهم الحديث من عشرة أوجه؛ ولهذا قد أخرجها مسلم في صحيحه،وأفرد البخاري قطعة منها، وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن، فكيف بمن تكون بدعته معارضة القرآن والإعراض عنه،وهو مع ذلك يكفر المسلمين، كالجهمية ؟ ! ثم الشيعة لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين، بل كان غرضه فاسدًا، وقد قيل : إنه كان منافقًا زنديقًا، فأصل بدعتهم مبنية على الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،وتكذيب الأحاديث الصحيحة؛ولهذا لا يوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما يوجد فيهم، بخلاف الخوارج فإنه لا يعرف فيهم من يكذب .
والشيعة لا يكاد يوثق برواية أحد منهم من شيوخهم لكثرة الكذب فيهم؛ولهذا أعرض عنهم أهل الصحيح، فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث علىّ إلا عن أهل بيته كأولاده، مثل الحسن،والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع،أو أصحاب ابن مسعود وغيرهم، مثل عبيدة السلماني، والحارث التيمي، وقيس بن عباد وأمثالهم؛إذ هؤلاء صادقون فيما يروونه عن علي، فلهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم .(1/409)
وهاتان الطائفتان ـ الخوارج والشيعة ـ حَدثوا بعد مقتل عثمان، وكان المسلمون في خلافة أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان ـ في السنة الأولي من ولايته ـ متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعًا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان، فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه، وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له حروراء، فكف عنهم أمير المؤمنين، وقال : لكم علينا ألا نمنعكم حقكم من الفىء، ولا نمنعكم المساجد، إلى أن استحلوا دماء المسلمين وأموالهم، فقتلوا عبد اللّه بن خباب، وأغاروا على سرح المسلمين؛ فعلم عليّ أنهم الطائفة التي ذكرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، آيتهم فيهم رجل مخدج [ أي : ناقص . انظر : القاموس، مادة : خدج ] اليد عليها بضعة شعرات ) وفي رواية : ( يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان ) ، فخطب الناس وأخبرهم بما سمع من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال : هم هؤلاء القوم، قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس فقاتلهم، ووجد العلامة بعد أن كاد لا يوجد، فسجد للّه شكرًا .
وحدث في أيامه الشيعة لكن كانوا مختفين بقولهم، لا يظهرونه لعلي وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف :
طائفة تقول : إنه إله، وهؤلاء لما ظهر عليهم أحرقهم بالنار، وخَدَّ لهم أخاديد عند باب مسجد بني كندة، وقيل : إنه أنشد :
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا ** أجَّجْت ناري ودعوت قنْبَرًا(1/410)
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : أتى عَلِيٌّ بزنادقة فحرقهم بالنار، ولو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب اللّه، ولضربت أعناقهم لقوله : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
وهذا الذي قاله ابن عباس هو مذهب أكثر الفقهاء، وقد روى أنه أجَّلَهم ثلاثًا .
والثانية : السابة : وكان قد بلغه عن ابن السوداء [ في المطبوعة : ( أبي السوداء ) وهو خطأ . والمراد عبد اللّه بن سبأ اليهودي، أظهر الإسلام وأبطن الكفر، رئيس فرقة السبئية من غلاة الشيعة، وإنما سمي بابن السوداء لسواد أمه ] أنه كان يسب أبا بكر وعمر فطلبه، قيل : إنه طلبه ليقتله فهرب منه .
والثالثة : المفضلة : الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فتواتر عنه أنه قال : ( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر ) ، وروى ذلك البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية أنه سأل أباه : مَنْ خير الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر . قال : ثم من ؟ قال : عمر .
وكانت الشيعة الأولى لا يتنازعون في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان النزاع في علي وعثمان؛ ولهذا قال شريك بن عبد اللّه [ هو شريك بن عبد اللّه بن أبي نمر القرشي، وثقه ابن سعد، وقال يحيى بن معين والنسائي : ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي سنة 140هـ . وقيل : 144هـ ] : إن أفضل الناس بعد رسول الّله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر . فقيل له : تقول هذا وأنت من الشيعة ؟ فقال : كل الشيعة كانوا على هذا، وهو الذي قال هذا على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال ؟ ولهذا قال سفيان الثوري : من فضل عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى [ أي : حطَّ من شأنهم . انظر : القاموس، مادة : زري ] بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى اللّه ـ عز وجل ـ عمل وهو كذلك . رواه أبو داود في سننه، وكأنه يعرض بالحسن بن صالح بن حيى، فإن الزيدية الصالحة وهم أصلح طوائف الزيدية ينسبون إليه .(1/411)
ولكن الشيعة لم يكن لهم في ذلك الزمان جماعة ولا إمام، ولا دار ولا سيف يقاتلون به المسلمين، وإنما كان هذا للخوارج، تميزوا بالإمام والجماعة والدار، وسموا دارهم دار الهجرة، وجعلوا دار المسلمين دار كفر وحرب .
وكلا الطائفتين تطعن بل تكفر ولاة المسلمين، وجمهور الخوارج يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما، والرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم، ولكن الفساد الظاهر كان في الخوارج، من سفك الدماء، وأخذ الأموال، والخروج بالسيف؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بقتالهم، والأحاديث في ذمهم والأمر بقتالهم كثيرة جدًا، وهي متواترة عند أهل الحديث مثل أحاديث الرؤية، وعذاب القبر وفتنته، وأحاديث الشفاعة والحوض .
وقد رويت أحاديث في ذم القدرية والمرجئة، روى بعضها أهل السنن، كأبي داود وابن ماجه، وبعض الناس يثبتها ويقويها، ومن العلماء من طعن فيها وضعفها، ولكن الذي ثبت في ذم القدرية ونحوهم هو عن الصحابة كابن عمر وابن عباس .
وأما لفظ [ الرافضة ] ، فهذا اللفظ أول ما ظهر في الإسلام، لما خرج زيد بن علي ابن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك، واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما وترحم عليهما، فرفضه قوم،فقال : رفضتموني رفضتموني، فسموا الرافضة؛ فالرافضة تتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيدًا وينسبون إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى : زيدية، ورافضة إمامية .(1/412)
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت [ القدرية ] ، وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر اللّه، والإيمان بأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين اللّه، وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر من يطيع ومن يعصى؛ لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر وهو يعلم أن المأمور يعصيه ولا يطيعه، وظنوا أيضًا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد، فلما بلغ قولهم ـ بإنكار القدر السابق ـ الصحابة أنكروا إنكارًا عظيمًا وتبرؤوا منهم، حتى قال عبد اللّه بن عمر : أخبر أولئك أني برىء منهم، وأنهم منى برآء، والذي يحلف به عبد اللّه بن عمر : لو أن لأحدهم مثل أحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر، وذكر عن أبيه حديث جبريل وهذا أول حديث في صحيح مسلم، وقد أخرجه البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أيضًا مختصرًا .
ثم كثر الخوض في القدر، وكان أكثر الخوض فيه بالبصرة والشام وبعضه في المدينة، فصار مقتصدوهم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار نزاع الناس في [ الإرادة ] و [ خلق أفعال العباد ] فصاروا في ذلك حزبين :
النفاة يقولون : لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئًا من أفعال العباد .
وقابلهم الخائضون في القدر من [ المجبرة ] مثل الجهم بن صفوان وأمثاله، فقالوا : ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا : العبد لا فعل له البتة ولا قدرة، بل اللّه هو الفاعل القادر فقط، وكان جهم مع ذلك ينفي الأسماء والصفات، يذكر عنه أنه قال : لا يسمى اللّه شيئًا، ولا غير ذلك من الأسماء التي تسمى بها العباد إلا القادر فقط؛ لأن العبد ليس بقادر .(1/413)
وكانت [ الخوارج ] قد تكلموا في تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا : إنهم كفار مخلدون في النار، فخاض الناس في ذلك، وخاض في ذلك القدرية بعد موت الحسن البصري، فقال عمرو بن عبيد وأصحابه : لا هم مسلمون ولا كفار، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون في النار، فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإسلام والإيمان شىء،ولكن لم يسموهم كفارًا،واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصري، مثل قتادة وأيوب السختياني وأمثالهما .
فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن . وقيل : إن قتادة كان يقول : أولئك المعتزلة .
وتنازع الناس في [ الأسماء والأحكام ] أي في أسماء الدين، مثل مسلم ومؤمن، وكافر وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة . فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا، فلم يستحلوا من دمائهم وأموالهم ما استحلته الخوارج، وفي الأسماء أحدثوا المنزلة بين المنزلتين،وهذه خاصة المعتزلة التي انفردوا بها، وسائر أقوالهم قد شاركهم فيها غيرهم .(1/414)
وحدثت [ المرجئة ] ، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، ولم يكن أصحاب عبد اللّه من المرجئة ولا إبراهيم النخعي وأمثاله، فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا : إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيرًا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم؛ إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول، مثل حماد ابن أبي سليمان، وأبي حنيفة وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على أن اللّه يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه . وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب، فكان في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي؛ فإن الإيمان إذا أطلق دخلت فيه الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وستون شعبة ـ أو بضع وسبعون شعبة ـ أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) ، وإذا عطف عليه العمل كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الكهف : 107 ] ، فقد ذكر مقيدًا بالعطف، فهنا قد يقال : الأعمال دخلت فيه وعطفت عطف الخاص على العام، وقد يقال : لم تدخل فيه ولكن مع العطف كما في اسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان كما في آية الصدقات، كقوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] ، وكما في آية الكفارة، كقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] ، وفي قوله : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } [ البقرة : 271 ] ، فالفقير والمسكين شيء واحد .(1/415)
وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر والتقوى والمعروف وفي الإثم والعدوان والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن، وقد بسط هذا بسطًا كبيرًا في الكلام على الإيمان، وشرح حديث جبريل الذي فيه بيان أن الإيمان أصله في القلب؛ وهو الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإسلام علانية والإيمان في القلب ) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد،وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،ألا وهي القلب ) ، فإذا كان الإيمان في القلب فقد صلح القلب، فيجب أن يصلح سائر الجسد؛ فلذلك هو ثمرة ما في القلب؛ فلهذا قال بعضهم : الأعمال ثمرة الإيمان . وصحته لما كانت لازمة لصلاح القلب دخلت في الاسم،كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع .
وفي الجملة، الذين رموا بالإرجاء من الأكابر، مثل طلق بن حبيب [ هو طلق بن حبيب العنزي البصري، من الزهاد والعلماء العاملين، قال أبو حاتم : صدوق، يرى الإرجاء، ووثقه أبو زرعة وابن حبان، ذكره البخاري فيمن مات بين التسعين إلى المائة ] ، وإبراهيم التيمي ونحوهما : كان إرجاؤهم من هذا النوع، وكانوا أيضًا لا يستثنون في الإيمان، وكانوا يقولون : الإيمان هو الإيمان الموجود فينا، ونحن نقطع بأنا مصدقون، ويَرَوْن الاستثناء شَكا، وكان عبد اللّه بن مسعود وأصحابه يستثنون، وقد روى في حديث أنه رجع عن ذلك لما قال له بعض أصحاب معاذ ما قال، لكن أحمد أنكر هذا وضعف هذا الحديث، وصار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال :
قول : إنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعًا .
وقول : إن الاستثناء محظور؛ فإنه يقتضى الشك في الإيمان .(1/416)
والقول الثالث ـ أوسطها وأعدلها ـ : أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار؛ فإذا كان مقصوده أنى لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب اللّه علي، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن وقصده ألا يزكي نفسه، وألا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة، والنفاق مخوف على عامة الناس .
قال ابن أبي مُلَيْكة : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، لا يقول واحد منهم : إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل . والبخاري في أول صحيحه بوب أبوابًا في الإيمان والرد على المرجئة، وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة، قال : وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كرهوا أن يقول الرجل : إيماني كإيمان جبريل وميكائيل ـ قال محمد : لأنهم أفضل يقينًا ـ أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيمان أبي بكر، أو كإيمان هذا، ولكن يقول : آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر .
وأبو حنيفة وأصحابه لا يجوزون الاستثناء في الإيمان بكون الأعمال منه، ويذمون المرجئة، والمرجئة عندهم الذين لا يوجبون الفرائض، ولا اجتناب المحارم، بل يكتفون بالإيمان، وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله : أنت طالق إن شاء اللّه . فإذا علق الإيمان بالشرط كسائر المعلقات بالشرط لا يحصل إلا عند حصول الشرط . قالوا : وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار فقد ظهرت المشيئة وصح العقد، فلا معنى للاستثناء؛ ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمنا، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله .(1/417)
قلت : فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له : آمن . فيقول : أنا أومن إن شاء اللّه، أو آمنت إن شاء، أو أسلمت إن شاء اللّه، أو أشهد إن شاء اللّه أن لا إله إلا اللّّه، وأشهد إن شاء اللّه أن محمدًا رسول اللّه، والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان، فاستثنوا إما أن الإيمان المطلق يقتضى دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة، كأنه إذا قيل للرجل : أنت مؤمن . قيل له : أنت عند اللّه مؤمن من أهل الجنة، فيقول : أنا كذلك إن شاء اللّه . أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب .
ولهذا كان من جواب بعضهم ـ إذا قيل له : أنت مؤمن ـ : آمنت باللّه وملائكته وكتبه، فيجزم بهذا ولا يعلقه، أو يقول : إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي ومالي فأنا مؤمن، وإن كنت تريد قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حقًا } [ الأنفال : 2ـ 4 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، فأنا مؤمن إن شاء اللّه، وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم آمن وأسلم جزمًا بلا تعليق .(1/418)
فتبين أن النزاع في المسألة قد يكون لفظيًا، فإن الذي حرمه هؤلاء غير الذي استحسنه وأمر به أولئك، ومن جزم جزم بما في قلبه من الحال، وهذا حق لا ينافى تعليق الكمال والعاقبة، ولكن هؤلاء عندهم الأعمال ليست من الإيمان، فصار الإيمان هو الإسلام عند أولئك .
والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام . وهو المشهور عن أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ وقد روى عنه فيه الاستثناء، كما قد بسط هذا في شرح حديث جبريل وغيره من نصوص الإيمان التي في الكتاب والسنة .
ولو قال لامرأته : أنت طالق إن شاء اللّه، ففيه نزاع مشهور، وقد رجحنا التفصيل، وهو أن الكلام يراد به شيئان : يراد به إيقاع الطلاق تارة،ويراد به منع إيقاعه تارة، فإن كان مراده أنت طالق بهذا اللفظ، فقوله : إن شاء اللّه مثل قوله : بمشيئة اللّه، وقد شاء اللّه الطلاق حين أتى بالتطليق فيقع، وإن كان قد علق لئلا يقع، أو علقه على مشيئة توجد بعد هذا لم يقع به الطلاق حتى يطلق بعد هذا، فإنه حينئذ شاء اللّه أن تطلق .
وقول من قال : المشيئة تنجزه، ليس كما قال، بل نحن نعلم قطعًا أن الطلاق لا يقع إلا إذا طلقت المرأة، بأن يطلقها الزوج أو من يقوم مقامه، من ولي أو وكيل، فإذا لم يوجد تطليق لم يقع طلاق قط، فإذا قال : أنت طالق إن شاء اللّه، وقصد حقيقة التعليق لم يقع إلا بتطليق بعد ذلك، وكذلك إذا قصد تعليقه لئلا يقع الآن . وأما إن قصد إيقاعه الآن وعلقه بالمشيئة توكيدًا وتحقيقًا، فهذا يقع به الطلاق .(1/419)
وما أعرف أحدًا أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده : أنا مؤمن إن شاء اللّه، أنا أومن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنًا، مثل الذي يقال له : هل تصير من أهل دين الإسلام ؟ فقال : أصير إن شاء اللّه، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر . وإن كان قصده : إني قد آمنت وإيماني بمشيئة اللّه صار مؤمنًا، لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضًا فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا،فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا : { آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } [ البقرة : 136 ] ، وقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعًا بلا استثناء .
وعلى كل أحد أن يقول : آمنا باللّه وما أنزل إلينا ـ كما أمر اللّه ـ بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي . فقول القائل له : أنت مؤمن هو عندهم كقوله : هل أنت بَرٌّ تقي ؟ فإذا قال : أنا بر تقي، فقد زكى نفسه . فيقول : إن شاء اللّه، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك أن الإيمان التام يتعقبه قبول اللّه له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر، فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال : هذا حاصل بمشيئة اللّه وفضله وإحسانه، وقوله فيه : إن شاء اللّه بمعني إذا شاء اللّه، وذلك تحقيق لا تعليق .(1/420)
والرجل قد يقول : واللّه ليكونن كذا إن شاء اللّه، وهو جازم بأنه يكون . فالمعلق هو الفعل، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ } [ الفتح : 27 ] واللّه عالم بأنهم سيدخلونه، وقد يقول الآدمي : لأفعلن كذا إن شاء اللّه وهو لا يجزم بأنه يقع، لكن يرجوه فيقول : يكون إن شاء اللّه، ثم عزمه عليه قد يكون جازمًا، ولكن لا يجزم بوقوع المعزوم عليه، وقد يكون العزم مترددًا معلقًا بالمشيئة أيضًا، ولكن متى كان المعزوم عليه معلقًا لزم تعليق بقاء العزم، فإنه بتقدير أن تعليق العزم ابتداء أو دوامًا في مثل ذلك؛ ولهذا لم يَحْنَثْ المطلق المعلق وحرف ( إن ) لا يبقى العزم، فلابد إذا دخل على الماضي صار مستقبلا، تقول : إن جاء زيد كان كذلك { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } [ البقرة : 137 ] وإذا أريد الماضي دخل حرف ( إن ) كقوله : { ن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي } [ آل عمران : 31 ] فيفرق بين قوله : أنا مؤمن إن شاء اللّه، وبين قوله : إن كان اللّه شاء إيماني .
وكذلك إذا كان مقصوده : إني لا أعلم بماذا يختم لي، كما قيل لابن مسعود : إن فلانًا يشهد أنه مؤمن . قال : فليشهد أنه من أهل الجنة، فهذا مراده إذا شهد أنه مؤمن عند اللّه يموت على الإيمان، وكذلك إن كان مقصوده : إن إيماني حاصل بمشيئة اللّه .
ومن لم يستثن قال : أنا لا أشك في إيمان قلبي، فلا جناح عليه إذا لم يُزَكِّ نفسه ويقطع بأنه عامل كما أمر، وقد تقبل اللّه عمله، وإن لم يقل : إن إيمانه كإيمان جبريل وأبي بكر وعمر ونحو ذلك من أقوال المرجئة، كما كان مِسْعَر بن كِدَام يقول : أنا لا أشك في إيماني، قال أحمد : ولم يكن من المرجئة، فإن المرجئة الذين يقولون : الأعمال ليست من الإيمان، وهو كان يقول : هي من الإيمان، لكن أنا لا أشك في إيماني .(1/421)
وكان الثوري يقول لسفيان بن عيينة : ألا تنهاه عن هذا، فإنهم من قبيلة واحدة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن النزاع في هذا كان بين أهل العلم والدين من جنس المنازعة في كثير من الأحكام، وكلهم من أهل الإيمان والقرآن .
وأما جَهْم، فكان يقول : إن الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووَكِيع وغيرهما كفَّروا من قال بهذا القول، ولكن هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك : إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة، وقد بسط الكلام على أقوالهم وأقوال غيرهم في ( الإيمان ) .
والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنًا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء، كما كان أصل القدر عجزهم عن الإيمان بالشرع والقدر جميعًا، فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين . قالت الخوارج والمعتزلة : قد علمنا يقينًا أن الأعمال من الإيمان، فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار؛ إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء .
وقالت المرجئة ـ مقتصدتهم وغلاتهم كالجهمية ـ : قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما تواترت بذلك الأحاديث . وعلمنا بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة أنهم ليسوا كفارًا مرتدين؛ فإن الكتاب قد أمر بقطع السارق لا بقتله، وجاءت السنة بجلد الشارب لا بقتله، فلو كان هؤلاء كفارًا مرتدين لوجب قتلهم؛ وبهذا ظهر للمعتزلة ضعف قول الخوارج فخالفوهم في أحكامهم في الدنيا .(1/422)
والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها، دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم، فلا يرجمون الزاني، ولا يرون للسرقة نصابًا، وحينئذ فقد يقولون : ليس في القرآن قتل المرتد، فقد يكون المرتد عندهم نوعين .
وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف، كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة، والزيدية والكرّامية والأشعرية، والسالمية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء .
وقد بسط الكلام على تفصيل القول في أقوال هؤلاء في غير هذا الموضع .
وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام :
منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج .
ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة، ويختم بالجهمية، كما فعله كثير من أصحاب أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ كعبد الله ابنه ونحوه، وكالخلال، وأبي عبد اللّه بن بطة، وأمثالهما، وكأبي الفرج المقدسي، وكلا الطائفتين تختم بالجهمية؛ لأنهم أغلظ البدع، وكالبخاري في صحيحه فإنه بدأ بـ ( كتاب الإيمان والرد على المرجئة ) ، وختمه ( بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية ) .
ولما صنف الكتاب في الكلام صاروا يقدمون التوحيد والصفات، فيكون الكلام أولاً مع الجهمية، وكذلك رتب أبو القاسم الطبري كتابه في أصول السنة، والبيهقي أفرد لكل صنف مصنفًا، فله مصنف في الصفات، ومصنف في القدر، ومصنف في شعب الإيمان، ومصنف في دلائل النبوة، ومصنف في البعث والنشور، وبسط هذه الأمور له موضع آخر .(1/423)
والمقصود هنا أن منشأ النزاع في ( الأسماء والأحكام ) في الإيمان والإسلام أنهم لما ظنوا أنه لا يتبعض، قال أولئك : فإذا فعل ذنبًا زال بعضه فيزول كله فيخلد في النار، فقالت الجهمية والمرجئة : قد علمنا أنه ليس يخلد في النار، وأنه ليس كافرًا مرتدًا، بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم لا يتبعض، فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئًا واحدًا يشترك فيه جميع أهل القبلة، فقال فقهاء المرجئة : هو التصديق بالقلب والقول باللسان، فقالت الجهمية بعد تصديق اللسان قد لا يجب إذا كان الرجل أخرس أو كان مكرهًا فالذي لابد منه تصديق القلب، وقالت المرجئة : الرجل إذا أسلم كان مؤمنًا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال .
وأنكر كل هذه الطوائف أنه ينقص، والصحابة قد ثبت عنهم أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة السنة، وكان ابن المبارك يقول : هو يتفاضل ويتزايد ويمسك عن لفظ ( ينقص ) ، وعن مالك ـ في كونه لا ينقص ـ روايتان، والقرآن قد نطق بالزيادة في غير موضع، ودلت النصوص على نقصه كقوله : ( لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ونحو ذلك، لكن لم يعرف هذا اللفظ إلا في قوله في النساء : ( ناقصات عقل ودين ) ، وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص .
وذلك أن أصل أهل السنة : أن الإيمان يتفاضل من وجهين : من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد .
أما الأول : فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان من الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة .(1/424)
وأيضًا، فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن اللّه أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان، وهذا من أصول غلط المرجئة؛ فإنهم ظنوا أنه شيء واحد وأنه يستوى فيه جميع المكلفين، فقالوا : إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء؛ كما أنه إذا تلفظ الفاسق بالشهادتين أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس .
فيقال لهم : قد تبين أن الإيمان الذي أوجبه اللّه على عباده يتنوع ويتفاضل ويتباينون فيه تباينًا عظيمًا، فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر، ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم،ويجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم، وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق والإقرار .
فإن الناس ـ وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول ـ فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به، وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلاً، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به، فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر اللّه به من الزكاة، ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فيجب عليه من العلم والإيمان والعمل مالا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان،وإن جعل جميع ذلك داخلا في مسمى الإيمان كان أبلغ، فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره .(1/425)
ولهذا كان من الناس من قد يؤمن بالرسول مجملاً، فإذا جاءت أمور أخرى لم يؤمن بها فيصير منافقًا مثل طائفة نافقت لما حولت القبلة إلى الكعبة، وطائفة نافقت لما انهزم المسلمون يوم أحد، ونحو ذلك .
ولهذا وصف اللّه المنافقين في القرآن بأنهم آمنوا ثم كفروا، كما ذكر ذلك في سورة المنافقين، وذكر مثل ذلك في سورة البقرة، فقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 17، 18 ] ، وقال طائفة من السلف عرفوا ثم أنكروا وأبصروا ثم عموا .
فمن هؤلاء من كان يؤمن أولاً إيمانًا مجملاً، ثم يأتي أمورًا لا يؤمن بها فينافق في الباطن، وما يمكنه إظهار الردة بل يتكلم بالنفاق مع خاصته، وهذا كما ذكر اللّه عنهم في الجهاد فقال : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } [ محمد : 20، 21 ] .(1/426)
وبالجملة، فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء : ( ناقصات عقل ودين ) وقال في نقصان دينهن : ( إنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي ) ، وهذا مما أمر الله به، فليس هذا النقص دينا لها تعاقب عليه، لكن هو نقص، حيث لم تؤمر بالعبادة في هذا الحال، والرجل كامل حيث أمر بالعبادة في كل حال، فدل ذلك على أن من أمر بطاعة يفعلها كان أفضل ممن لم يؤمر بها وإن لم يكن عاصيًا، فهذا أفضل دينًا وإيمانًا، وهذا المفضول ليس بمعاقب ومذموم، فهذه زيادة كزيادة الإيمان بالتطوعات، لكن هذه زيادة بواجب في حق شخص، وليس بواجب في حق شخص غيره، فهذه الزيادة لو تركها بهذا لا يستحق العقاب بتركها، وذاك لا يستحق العقاب بتركها، ولكن إيمان ذلك أكمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) .
فهذا يبين تفاضل الإيمان في نفس الأمر به، وفي نفس الأخبار التي يجب التصديق بها .
والنوع الثاني : هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استوائهم في الواجب، وهذا هو الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع . وهذا أيضًا يتفاضلون فيه، فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل دينًا وبرًا وتقوى، فهو كذلك أفضل إيمانًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا ) ، وقد يجتمع في العبد إيمان ونفاق، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلَة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها : إذا حَدَّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر ) .(1/427)
وأصل هؤلاء : أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع العباد فيما أوجبه الرب من الإيمان، وفيما يفعله العبد من الأعمال، فغلطوا في هذا وهذا ثم تفرقوا، كما تقدم .
وصارت المرجئة على ثلاثة أقوال : فعلماؤهم وأئمتهم أحسنهم قولا؛ وهو أن قالوا : الإيمان تصديق القلب وقول اللسان .
وقالت الجهمية : هو تصديق القلب فقط .
وقالت الكرامية : هو القول فقط، فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقرًا بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذبًا بقلبه كان منافقًا مؤمنا من أهل النار . وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان . وبعض الناس يحكي عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون : إنه مؤمن كامل الإيمان، وأنه من أهل النار، فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذبًا في النار، بل يكون مخلدًا فيها . وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : ( يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) .
وإن قالوا : لا يخلد وهو منافق، لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، والمنافقون قد قال اللّه فيهم : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [ النساء : 145 ] ،وقد نهى اللّه نبيه عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم،وقال له : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ } [ التوبة : 80 ] ،وقال : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 84 ] ، وقد أخبر أنهم كفروا باللّه ورسوله .(1/428)
فإن قالوا : هؤلاء قد كانوا يتكلمون بألسنتهم سرًا فكفروا بذلك، وإنما يكون مؤمنا إذا تكلم بلسانه ولم يتكلم بما ينقضه، فإن ذلك ردة عن الإيمان، قيل لهم : ولو أضمروا النفاق ولم يتكلموا به كانوا منافقين، قال تعالى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [ التوبة : 64 ] .
وأيضًا، قد أخبر اللّه عنهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم كاذبون، فقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] ، وقال تعالى : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب ) ، وقد قال اللّه تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] ، وفي الصحيحين عن سعد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً . فقلت : يا رسول اللّه، أعطيت فلانًا وفلانًا، وتركت فلانًا وهو مؤمن ؟ فقال : ( أو مسلم ) مرتين أو ثلاثًا . وبسط الكلام في هذا له مواضع أخر، وقد صنفت في ذلك مجلدًا غير ما صنفت فيه غير ذلك .(1/429)
وكلام الناس في هذا الاسم ومسماه كثير؛ لأنه قطب الدين الذي يدور عليه، وليس في القول اسم علق به السعادة والشقاء، والمدح والذم، والثواب والعقاب، أعظم من اسم الإيمان والكفر؛ ولهذا سمى هذا الأصل : ( مسائل الأسماء والأحكام ) ، وقد رأيت لابن الهيصم فيه مصنفًا في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لابن الباقلاني فيه مصنفًا أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما في عصر واحد، وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة .
والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان . فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعًا . صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه؛ فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى؛ إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذلك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن؛ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها .(1/430)
ولهذا قال كثير منهم ـ كأبي الحسين البصري ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب ـ : إن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين . فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن يكون اللّه أنزل الآية وأراد بها معنىً لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا : إن اللّه أراد معنى آخر، وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا هذا؛ فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يقولون قولين كلاهما خطأ والصواب قول ثالث لم يقولوه، لكن قد اعتادوا أن يتأولوا ما خالفهم، والتأويل عندهم مقصوده بيان احتمال في لفظ الآية بجواز أن يراد ذلك المعنى بذلك اللفظ، ولم يستشعروا أن المتأول هو مبين لمراد الآية، مخبر عن اللّه تعالى أنه أراد هذا المعنى إذا حملها على معنى .
وكذلك إذا قالوا : يجوز أن يراد بها هذا المعنى، والأمة قبلهم لم يقولوا : أريد بها إلا هذا أو هذا، فقد جوزوا أن يكون ما أراده اللّه لم يخبر به الأمة، وأخبرت أن مراده غير ما أراده، لكن الذي قاله هؤلاء يتمشى إذا كان التأويل أنه يجوز أن يراد هذا المعنى من غير حكم بأنه مراد، وتكون الأمة قبلهم كلها كانت جاهلة بمراد اللّه، ضالة عن معرفته، وانقرض عصر الصحابة والتابعين وهم لم يعلموا معنى الآية، ولكن طائفة قالت : يجوز أن يريد هذا المعنى، وطائفة قالت : يجوز أن يريد هذا المعنى، وليس فيهم من علم المراد . فجاء الثالث وقال : هاهنا معنى يجوز أن يكون هو المراد . فإذا كانت الأمة من الجهل بمعاني القرآن والضلال عن مراد الرب بهذه الحال توجه ما قالوه، وبسط هذا له موضع آخر .
والمقصود أن كثيرًا من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف؛ فلهذا كان السلف أكمل علمًا وإيمانًا، وخطؤهم أخف، وصوابهم أكثر كما قدمناه .(1/431)
وكان الأصل الذي أسسوه هو ما أمرهم اللّه به في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الحجرات : 1 ] ، فإن هذا أمر للمؤمنين بما وصف به الملائكة، كما قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 26 ـ 29 ] ، فوصفهم ـ سبحانه ـ بأنهم لا يسبقونه بالقول، وأنهم بأمره يعملون،فلا يخبرون عن شىء من صفاته ولا غير صفاته إلا بعد أن يخبر ـ سبحانه ـ بما يخبر به؛ فيكون خبرهم وقولهم تبعًا لخبره وقوله،كما قال : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } وأعمالهم تابعة لأمره، فلا يعملون إلا ما أمرهم هو أن يعملوا به، فهم مطيعون لأمره ـ سبحانه ـ .(1/432)
وقد وصف - سبحانه- بذلك ملائكة النار، فقال : { قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] ، وقد ظن بعضهم أن هذا توكيل، وقال بعضهم : بل لا يعصونه في الماضي، ويفعلون ما أمروا به في المستقبل . وأحسن من هذا وهذا أن العاصي هو الممتنع من طاعة الأمر مع قدرته على الامتثال، فلو لم يفعل ما أمر به لعجزه لم يكن عاصيًا، فإذا قال : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } لم يكن في هذا بيان أنهم يفعلون ما يؤمرون، فإن العاجز ليس بِعاصٍ ولا فاعل لما أمر به، وقال : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ليبين أنهم قادرون على فعل ما أمروا به، فهم لا يتركونه لا عجزًا ولا معصية . والمأمور إنما يترك ما أمر به لأحد هذين، إما ألا يكون قادرًا، وإما أن يكون عاصيًا لا يريد الطاعة، فإذا كان مطيعًا يريد طاعة الآمر وهو قادر، وجب وجود فعل ما أمر به، فكذلك الملائكة المذكورون لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وقد وصف الملائكة بأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } .(1/433)
فالملائكة مصدقون بخبر ربهم، مطيعون لأمره، ولا يخبرون حتي يخبر، ولا يعملون حتى يأمر، كما قال تعالى : { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } ، وقد أمر اللّه المؤمنين أن يكونوا مع اللّه ورسوله كذلك، فإن البشر لم يسمعوا كلام الله منه، بل بينهم وبينه رسول من البشر، فعليهم ألا يقولوا حتى يقول الرسول ما بلغهم عن اللّّه، ولا يعملون إلا بما أمرهم به، كما قال تعالى : { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الحجرات : 1 ] .
قال مجاهد : لا تفتاتوا عليه بشيء حتى يقضيه اللّه على لسانه، { تُقَدِّمُوا } معناه : تتقدموا، وهو فعل لازم، وقد قرئ { تُقَدِّمُوا } ، يقال : قدم وتقدم، كما يقال : بين وتبين، وقد يستعمل قدم متعديًا، أي قدم غيره، لكن هنا هو فعل لازم، فلا تقدموا معناه : لا تتقدموا بين يدي اللّه ورسوله .
فعلى كل مؤمن ألا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لقوله، وعلمه تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شىء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله اللّه والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة . وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلا .(1/434)
فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة، وأهل النفاق والبدعة، وإن كان هؤلاء لهم من الإيمان نصيب وافر من اتباع السنة، لكن فيهم من النفاق والبدعة بحسب ما تقدموا فيه بين يدي اللّه ورسوله، وخالفوا اللّه ورسوله، ثم إن لم يعلموا أن ذلك يخالف الرسول، ولو علموا لما قالوه لم يكونوا منافقين، بل ناقصى الإيمان مبتدعين، وخطؤهم مغفور لهم لا يعاقبون عليه وإن نقصوا به .
وقال ـ قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فإنا نحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شىء قدير، ونسأله أن يصلى على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا .
أما بعد : فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [ الأحزاب : 25 ] والله ـ تعالى ـ يحقق لنا التمام بقوله : { وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } [ الأحزاب : 26، 27 ] .(1/435)
/فإن هذه الفتنة التى ابتلى بها المسلمون مع هذا العدو المفسد، الخارج عن شريعة الإسلام، قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المغازى التى أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين، مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرًا إلى يوم القيامة، فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظى والمعنوى، أو بالعموم المعنوى . وعهود الله فى كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة، كما نالت أولها . وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم، لتكون عبرة لنا . فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها . فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين . ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، كما قال ـ تعالى ـ لما قص قصة يوسف مفصلة، وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } [ يوسف : 111 ] أى : هذه القصص المذكورة فى الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر فى الحروب من السير المكذوبة .(1/436)
وقال ـ تعالى ـ لما ذكر قصة فرعون : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } [ النازعات : 25، 26 ] . وقال فى سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ببدر وغيرها : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ } [ آل عمران : 13 ] . وقال ـ تعالى ـ فى محاصرته لبنى النضير : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] . فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم .(1/437)
وذكر فى غير موضع : أن سنته فى ذلك سنة مطردة، وعادته مستمرة . فقال تعالى : { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [ الأحزاب : 60 : 62 ] . وقال تعالى : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [ الفتح : 22، 23 ] . وأخبر ـ سبحانه ـ أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين .(1/438)
/فينبغى للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه فى عباده . ودأب الأمم وعاداتهم،لا سيما فى مثل هذه الحادثة العظيمة التى طبق الخافقين خبرها، واستطار فى جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم . وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم . وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار . وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار . وظن المنافقون والذين فى قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورًا . وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدًا، وزين ذلك فى قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قومًا بورًا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحى منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقى للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين فى قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى .(1/439)
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقى وسعيد، كما يتفرقون كذلك /فى اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه . وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرسه . كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال . وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال . وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع . وهم درجات عند الله فى المنفعة والدفاع . ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى . وبليت فيها السرائر . وظهرت الخبايا التى كانت تكنها الضمائر . وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه فى المآل . وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا . كما حمد ربه من صدق فى إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلاً . وبان صدق ما جاء به الآثار النبوية، من الأخبار بما يكون . وواطأتها قلوب الذين هم فى هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التى أريها المؤمنون . وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة . حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب : حزب مجتهد فى نصر الدين . وآخر خاذل له . وآخر خارج عن شريعة الإسلام .
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور . وآخر قد غره بالله الغرور . وكان هذا الامتحان تمييزًا من الله وتقسيمًا؛ { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 24 ] .(1/440)
ووجه الاعتبار فى هذه الحادثة العظيمة : أن الله ـ تعالى ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرع له الجهاد إباحة له أولاً، ثم إيجابًا له ثانيًا لما هاجر إلى المدينة، وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله، فغزا بنفسه صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بدار الهجرة، وهو نحو عشر سنين؛ بضعًا وعشرين غزوة . أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك . أنزل الله فى أول مغازيه [ سورة الأنفال ] وفى آخرها [ سورة براءة ] . وجمع بينهما فى المصحف؛ لتشابه أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة .
وكان القتال منها فى تسع غزوات .
فأول غزوات القتال بدر، وآخرها حنين، والطائف . وأنزل الله فيها ملائكته، كما أخبر به القرآن؛ ولهذا صار الناس يجمعون بينهما فى القول، وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانًا وزمانًا؛ فإن بدرًا كانت فى رمضان، فى السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة، شامى مكة، وغزوة حنين فى آخر شوال من السنة الثامنة . وحنين واد قريب من الطائف، شرقى مكة . ثم قسم النبى صلى الله عليه وسلم / غنائمها بالجِعْرَانة واعتمر من الجعرانة . ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهل الطائف زحفًا وصفوفًا وإنما قاتلوه من وراء جدار . فآخر غزوة كان فيها القتال زحفًا واصطفافًا هى غزوة حنين . وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقتل الله أشرافهم وأسر رؤوسهم، مع قلة المسلمين وضعفهم؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضع عشر، ليس معهم إلا فرسان، وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد . وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات، فى قوة وعدة وهيئة وخيلاء .(1/441)
فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة، وفيها النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه . فخرج إليهم النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى نحو من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة، لم ينقلوهم إلى موضع آخر . وكانت أولاً الكَرَّة للمسلمين عليهم، ثم صارت للكفار . فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرًا قليلاً حول النبى صلى الله عليه وسلم منهم من قتل، ومنهم من جرح . وحرصوا على قتل النبى صلى الله عليه وسلم حتى كسروا رباعيته، وشجوا جبينه، وهشموا البيضة على رأسه . وأنزل الله فيها شطرًا من سورة آل عمران، من قوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] ، وقال فيها : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ آل عمران : 155 ] ، وقال فيها : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 152 ] ، وقال فيها : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 165 ] .(1/442)
وكان الشيطان قد نعق فى الناس : أن محمدًا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب . ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [ آل عمران : 144 ] .
وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا فى العام الماضى . وكانت هزيمة المسلمين فى العام الماضى بذنوب ظاهرة، وخطايا واضحة، من فساد النيات، والفخر والخيلاء، والظلم، والفواحش، والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغى على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم، وكان عدوهم فى أول الأمر راضيًا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعًا فى الدخول فى الإسلام . /وكان مبتدئًا فى الإيمان والأمان، وكانوا قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان .
فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا، وينيبوا إلى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغى والمكر، والنكث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام .
فقد كان فى نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم ـ الذى هو على الحال المذكورة ـ لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف . كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة . وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له ) .(1/443)
فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة ـ وقيل : بسنتين ـ قد ابتلى المسلمون عام الخندق، كذلك فى هذا العام ابتلى المؤمنون بعدوهم، كنحو ما ابتلى المسلمون مع /النبى صلى الله عليه وسلم عام الخندق،وهى غزوة الأحزاب التى أنزل الله فيها [ سورة الأحزاب ] وهى سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة، التى نصر الله فيها عبده صلى الله عليه وسلم، وأعز فيها جنده المؤمنين، وهزم الأحزاب ـ الذين تحزبوا عليه ـ وحده بغير قتال، بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم . ذكر فيها خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقوقه، وحرمته، وحرمة أهل بيته، لما كان هو القلب الذى نصره الله فيها بغير قتال . كما كان ذلك فى غزوتنا هذه سواء . وظهر فيها سر تأييد الدين،كما ظهر فى غزوة الخندق . وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق .
وذلك أن الله ـ تعالى ـ منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام :
قسمًا مؤمنين : وهم الذين آمنوا به ظاهرًا وباطنًا .
وقسمًا كفارا : وهم الذين أظهروا الكفر به .
وقسمًا منافقين : وهم الذين آمنوا ظاهرًا، لا باطنًا .
ولهذا افتتح [ سورة البقرة ] بأربع آيات فى صفة المؤمنين، وآيتين فى صفة الكافرين . وثلاث عشرة آية فى صفة المنافقين .
وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما /دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسره أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ فى الحديث المأثور عنه فى الإيمان ودعائه وشعبه .(1/444)
فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه فى الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبىّ وغيره؛ بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك، مما لا يكون صاحبه إلا عدوًا لله ورسوله . وهذا القدر كان موجودًا فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى . فإذا كانت مع قوتها وكان النفاق معها موجودًا فوجوده فيما دون ذلك أولى .
وكما أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم بعض المنافقين، ولا يعلم بعضهم، كما بينه قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] ، كذلك خلفاؤه بعده وورثته، قد يعلمون بعض المنافقين، ولا يعلمون بعضهم . وفى المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون، فى الخاصة والعامة . ويسمون [ الزنادقة ] .
وقد اختلف العلماء فى قبول توبتهم فى الظاهر، لكون ذلك لا / يعلم؛ إذ هم دائمًا يظهرون الإسلام . وهؤلاء يكثرون فى المتفلسفة من المنجمين، ونحوهم، ثم فى الأطباء، ثم فى الكتاب أقل من ذلك . ويوجدون فى المتصوفة والمتفقهة، وفى المقاتلة والأمراء، وفى العامة أيضًا . ولكن يوجدون كثيرًا فى نحل أهل البدع، لاسيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس فى أحد من أهل النحل؛ ولهذا كانت الخُرَّمِيَّة، والباطنية، والقرامطة، والإسماعيلية، والنُّصَيْريَّة، ونحوهم من المنافقية الزنادقة، منتسبة إلى الرافضة .(1/445)
وهؤلاء المنافقون فى هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام، بل يتركونهم وما هم عليه . وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم فى الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء، والسبى، لا لأجل الدين .
فهذا ضرب النفاق الأكبر .
وأما النفاق الأصغر، فهو النفاق فى الأعمال ونحوها؛ مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا ائتمن، أو يفجر إذا خاصم . ففى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) ، وفى رواية صحيحة : ( وإن صلى، وصام،وزعم أنه مسلم ) ، وفى الصحيحين /عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها : إذا حدث كذب . وإذا وعد أخلف . وإذا عاهد غدر . وإذا خاصم فجر ) .
ومن هذا الباب : الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين . قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من نفاق ) . رواه مسلم . وقد أنزل الله [ سورة براءة ] التى تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين . أخرجاه فى الصحيحين عن ابن عباس، قال : هى الفاضحة، ما زالت تنزل : ( ومنهم ) ، ( ومنهم ) حتى ظنوا ألا يبقى أحد إلا ذكر فيها . وعن المقداد بن الأسود قال : هى [ سورة البحوث ] ؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين . وعن قتادة قال : هى المثيرة؛ لأنها أثارت مخازى المنافقين .
وعن ابن عباس قال : هى المبعثرة . والبعثرة والإثارة متقاربان .
وعن ابن عمر : أنها المقشقشة؛ لأنها تبرئ من مرض النفاق . يقال : تقشقش المريض إذا برأ . وقال الأصمعى : وكان يقال لسورتى الإخلاص : المقشقشتان؛ لأنهما يبرئان من النفاق .(1/446)
/وهذه السورة نزلت فى آخر مغازى النبى صلى الله عليه وسلم ـ غروة تبوك ـ عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام، وظهر . فكشف اللّه فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن، وترك الجهاد . ووصفهم بالبخل عن النفقة فى سبيل اللّه، والشح على المال . وهذان داءان عظيمان : الجبن والبخل . قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( شر ما فى المرء شح هالع، وجبن خالع ) . حديث صحيح؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 180 ] . وقال تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الأنفال : 16 ] .(1/447)
وأما وصفهم بالجبن والفزع، فقال تعالى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ التوبة : 56، 57 ] . فأخبر ـ سبحانه ـ أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو . فـ { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } يلجؤون إليه من المعاقل والحصون التى يفر إليها من يترك الجهاد، أو { مَغَارَاتٍ } وهى جمع مغارة . ومغارات سميت بذلك؛ لأن الداخل يغور فيها، أى : يستتر كما يغور الماء . { أّوً مٍدَّخّلاْ } /وهو الذى يتكلف الدخول إليه، إما لضيق بابه، أو لغير ذلك، أى : مكانا يدخلون إليه . ولو كان الدخول بكلفة ومشقة . { لَّوَلَّوْاْ } عن الجهاد { إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أى : يسرعون إسراعا لا يردهم شىء، كالفرس الجموح الذى إذا حمل لا يرده اللجام . وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين فى حادثتنا، وفيما قبلها من الحوادث، وبعدها .
وكذلك قال فى [ سورة محمد ] صلى الله عليه وسلم : { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } أى : فبعدا لهم { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } [ محمد : 20، 21 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ،فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد .(1/448)
وقال تعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [ التوبة : 44، 45 ] . فهذا إخبار من اللّه بأن المؤمن لا يستأذن الرسول فى ترك الجهاد، وإنما يستأذنه الذى لا يؤمن، فكيف بالتارك من غير استئذان ؟ !
ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متظافرة على هذا المعنى .
/وقال فى وصفهم بالشح : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] . فهذه حال من أنفق كارها، فكيف بمن ترك النفقة رأساً ؟ ! وقال : { وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ التوبة : 58 ] . وقال : { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ التوبة : 75، 76 ] .(1/449)
وقال فى السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [ التوبة : 34، 35 ] ، فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه، أو منعه من مستحقه من جميع الناس؛ فإن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد . وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون ـ أى : يعرضون ويمنعون . يقال : صد عن الحق صدودا، وصد غيره صدا .
وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل : من وقف، أو عَطِيَّة على/ الدين، كالصلاة، والنذور التى تنذر لأهل الدين، ومن الأموال المشتركة، كأموال بيت المال، ونحو ذلك . فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين .
ثم قال : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ } ، فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة فى سبيل اللّه . والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل اللّه، سواء كان ملكاً أو مقدماً، أو غنياً، أو غير ذلك . وإذا دخل فى هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب، فما كنز من الأموال المشتركة التى يستحقها عموم الأمة ـ ومستحقها : مصالحهم ـ أولى وأحرى .
فصل(1/450)
فإذًا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق . فإذا قرأ الإنسان [ سورة الأحزاب ] وعرف من المنقولات فى الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازى، كيف كانت صفة الواقعة التى نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك، وجد مصداق ما ذكرنا . وأن الناس انقسموا فى هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة . كما انقسموا فى تلك . وتبين له كثير من المتشابهات .
/افتتح الله السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 1 ] ، وذكر فى أثنائها قوله : وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب : 47، 48 ] ، ثم قال : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [ الأحزاب : 2، 3 ] . فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة ـ التى هى سنته ـ وبأن يتوكل على الله . فبالأولى يحقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، وبالثانية يحقق قوله : { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . ومثل ذلك قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] .(1/451)
وهذا وإن كان مأمورا به فى جميع الدين، فإن ذلك فى الجهاد أوكد؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين، وذلك لا يتم إلا بتأييد قوى من الله؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة . ففيه سنام المحبة، كما فى قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 ] . وفيه سنام التوكل، وسنام الصبر، فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ولهذا قال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 41، 42 ] ، { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] .
ولهذا كان الصبر واليقين ـ اللذان هما أصل التوكل ـ يوجبان الإمامة فى الدين، كما دل عليه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التى هى محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما : إذا اختلف الناس فى شىء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }(1/452)
وفى الجهاد أيضا : حقيقة الزهد فى الحياة الدنيا، وفى الدار الدنيا .
وفيه أيضا : حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن جاهد فى سبيل الله، لا فى سبيل الرياسة، ولا فى سبيل المال، ولا فى سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هى العليا .
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال /تعالى : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] . و { الجَنَّةَ } اسم للدار التى حوت كل نعيم . أعلاه النظر إلى الله، إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، مما قد نعرفه وقد لا نعرفه، كما قال الله ـ تعالى ـ فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) .
فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا .
ثم إنه ـ تعالى ـ قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } [ الأحزاب : 9 ] .(1/453)
وكان مختصر القصة : أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاؤوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بنى أسد، وأشجع، وفزارة، وغيرهم من قبائل نجد . واجتمعت ـ أيضا ـ اليهود، من قريظة، والنضير . فإن بنى النضير كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله ـ تعالى ـ فى [ سورة الحشر ] . فجاؤوا فى الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبى صلى الله عليه وسلم، ومجاورون له، قريبًا من /المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا فى الأحزاب . فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة . فرفع النبى صلى الله عليه وسلم الذرية من النساء والصبيان فى آطام المدينة، وهى مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر . وجعل ظهرهم إلى سلع ـ وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام ـ وجعل بينه وبين العدو خندقا . والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة . وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات .
وفى هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغل وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم . ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين . ومقصودهم الاستيلاء على الدار، واصطلام أهلها . كما نزل أولئك بنواحى المدينة بإزاء المسلمين .
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق ـ على ما قيل : بضعا وعشرين ليلة . وقيل : عشرين ليلة .(1/454)
وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول /انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه؛ يوم الاثنين حادى أو ثانى عشر جمادى الأولى، يوم دخل العسكر ـ عسكر المسلمين ـ إلى مصر المحروسة . واجتمع بهم الداعى، وخاطبهم فى هذه القضية . وكان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لما ألقى فى قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم : ألقى الله فى قلوب عدوهم الروع والانصراف .
وكان عام الخندق برد شديد، وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] .
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد ـ على خلاف أكثر العادات ـ حتى كره أكثر الناس ذلك . وكنا نقول لهم : لا تكرهوا ذلك؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة . وكان ذلك من أعظم الأسباب التى صرف الله به العدو؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله . وهلك ـ أيضًا ـ منهم من شاء الله . وظهر فيهم وفى بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغنى عن بعض كبار المقدمين فى أرض الشام أنه قال : لا بيض الله وجوهنا، أعدونا فى الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم ؟ وحتى علموا أنهم كانوا صيدًا للمسلمين، لو يصطادونهم، لكن فى تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة .
/وقال الله فى شأن الأحزاب : { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 10، 11 ] .(1/455)
وهكذا هذا العام . جاء العدو من ناحيتى علو الشام ـ وهو شمال الفرات ـ وهو قبلى الفرات ـ فزاغت الأبصار زيغًا عظيمًا، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو، وتوجهه إلى دمشق . وظن الناس بالله الظنونا . هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام . وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر . وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام . وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها . وهذا ـ إذا أحسن ظنه ـ قال : إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين . ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام . وهذا ظن خيارهم . وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديث والمبشرات أمانى كاذبة، وخرافات لاغية . وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل /يتفهم، ولا لسان يتكلم .
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب . ولا يميز فى التحديث بين المخطئ والصائب . ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدى لدفع ما يتخيل أنه معارض لها فى بادئ الروية .(1/456)
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسمًا بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء، { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] . ابتلاهم الله بهذا الابتلاء، الذى يكفر به خطيآتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات، ما استوجبوا به أعلى الدرجات . قال الله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [ الأحزاب : 12 ] . وهكذا قالوا فى هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية، والخلافة الرسالية، وحزب الله المحدثون عنه . حتى حصل لهؤلاء التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم .
/وأما الذين فى قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم فى هذه السورة، فذكروا هنا، وفى قوله : { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } [ الأحزاب : 60 ] ، وفى قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
وذكر الله مرض القلب فى مواضع، فقال تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } [ الأنفال : 49 ] .
والمرض فى القلب كالمرض فى الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون فى القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال، من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته .(1/457)
وذلك ـ كما فسروه ـ هو من ضعف الإيمان، إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته . فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك، كلها أمراض . وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التى فيه .
وعلى هذا فقوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] هو إرادة الفجور، وشهوة الزنا، كما فسروه به . ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم : / ( وأى داء أدوأ من البخل ؟ ! ) .
وقد جعل الله ـ تعالى ـ كتابه شفاء لما فى الصدور، وقال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنما شفاء العِىِّ السؤال ) .
وكان يقول فى دعائه : ( اللهم إنى أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء ) .
ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض فى قلبه، كما ذكروا أن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال : لو صححت لم تخف أحدًا . أى : خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك؛ ولهذا أوجب الله على عباده ألا يخافوا حزب الشيطان، بل لا يخافون غيره ـ تعالى ـ فقال : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] أى : يخوفكم أولياءه . وقال لعموم بنى إسرائيل تنبيهًا لنا : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] .(1/458)
وقال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] . وقال : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [ البقرة : 150 ] . وقال تعالى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 3 ] . وقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } [ التوبة : 18 ] . وقال : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ } [ الأحزاب : 39 ] . وقال : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [ التوبة : 13 ] .
فدلت هذه الآية ـ وهى قوله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ الأحزاب : 12 ] ـ على أن المرض والنفاق فى القلب يوجب الريب فى الأنباء الصادقة التى توجب أمن الإنسان من الخوف،حتى يظنوا أنها كانت غرورًا لهم، كما وقع فى حادثتنا هذه سواء .
ثم قال تعالى : { وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } [ الأحزاب : 13 ] ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سَلْع، وجعل الخندق بينه وبين العدو . فقالت طائفة منهم : لا مقام لكم هنا؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة . وقيل : لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى دين الشرك . وقيل : لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم .(1/459)
وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال : ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغى الدخول فى دولة التتار . وقال بعض الخاصة : ما بقيت أرض الشام تسكن، بل ننتقل عنها، إما إلى الحجاز واليمن، وإما إلى مصر . وقال بعضهم : بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد /استسلم لهم أهل العراق، والدخول تحت حكمهم .
فهذه المقالات الثلاث قد قيلت فى هذه النازلة . كما قيلت فى تلك . وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة : لا مقام لكم بهذه الأرض .
ونفى المقام بها أبلغ من نفى المقام . وإن كانت قد قرئت بالضم أيضًا . فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان، فكيف يقيم به ؟ !
قال الله تعالى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } [ الأحزاب : 13 ] .
وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون ـ والناس مع النبى صلى الله عليه وسلم عند سَلْع داخل الخندق، والنساء والصبيان فى آطام المدينة : يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، أى : مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل ـ وأصل العورة : الخالى الذى يحتاج إلى حفظ وستر . يقال : اعور مجلسك إذا ذهب ستره، أو سقط جداره . ومنه عورة العدو . وقال مجاهد والحسن : أى ضائعة تخشى عليها السراق . وقال قتادة : قالوا : بيوتنا مما يلى العدو، فلا نأمن على أهلنا، فائذن لنا أن /نذهب إليها؛لحفظ النساء والصبيان . قال الله تعالى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } ؛ لأن الله يحفظها { إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } فهم يقصدون الفرار من الجهاد، ويحتجون بحجة العائلة .(1/460)
وهكذا أصاب كثيرًا من الناس فى هذه الغزاة . صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة، كمصر، ويقولون : ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون فى ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم فى حصن دمشق، لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله ؟ قال الله تعالى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا } [ الأحزاب : 14 ] ، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة ـ وهى الافتتان عن الدين بالكفر، أو النفاق لأعطوا الفتنة، ولجاؤوها من غير توقف .
وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم . ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام ـ وتلك فتنة عظيمة ـ لكانوا معه على ذلك . كما ساعدهم فى العام الماضى أقوام بأنواع من الفتنة فى الدين والدنيا، ما بين ترك واجبات، وفعل محرمات، إما فى حق الله، وإما فى حق العباد . كترك الصلاة، وشرب /الخمور، وسب السلف، وسب جنود المسلمين، والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين، وحريمهم . وأخذ أموال الناس، وتعذيبهم، وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم، إلى غير ذلك من أنواع الفتنة .
ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا } [ الأحزاب : 15 ] ، وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا ـ قديمًا وحديثًا ـ فى هذه الغزوة . فإن فى العام الماضى، وفى هذا العام ـ فى أول الأمر ـ كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر، ثم فر منهزمًا، لما اشتد الأمر .(1/461)
ثم قال الله تعالى : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 16 ] ، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل . فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون؛ ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ) . والفرار من القتل كالفرار من الجهاد . وحرف [ لن ] ينفى الفعل فى الزمن المستقبل . والفعل نكرة . والنكرة فى سياق النفى تعم جميع أفرادها . فاقتضى ذلك : أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدًا . وهذا خبر الله الصادق . فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله فى خبره .
/والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن . فإن هؤلاء الذين فروا فى هذا العام لم ينفعهم فرارهم، بل خسروا الدين والدنيا، وتفاوتوا فى المصائب . والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك فى الدين والدنيا، حتى الموت الذى فروا منه كثر فيهم . وقل فى المقيمين . فما منع الهرب من شاء الله . والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد، ولا قتل، بل الموت قل فى البلد من حين خرج الفارون . وهكذا سنة الله قديمًا وحديثًا .(1/462)
ثم قال تعالى : { وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 16 ] ، يقول : لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة، ثم تموتون . فإن الموت لابد منه . وقد حكى عن بعض الحمقى أنه قال : فنحن نريد ذلك القليل . وهذا جهل منه بمعنى الآية . فإن الله لم يقل : إنهم يمتعون بالفرار قليلاً . لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدًا . ثم ذكر جوابًا ثانيًا : أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل . ثم ذكر جوابًا ثالثًا : وهو أن الفار يأتيه ما قضى له من المضرة، ويأتى الثابت ما قضى له من المسرة . فقال : { قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [ الأحزاب : 17 ] .
ونظيره قوله فى سياق آيات الجهاد : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } الآية [ النساء : 78 ] . وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ آل عمران : 156 ] . فمضمون الأمر : أن المنايا محتومة، فكم ممن حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد ـ لما احتضر : لقد حضرت كذا وكذا صفًا، وإن ببدنى بضعًا وثمانين، ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهاأنذا أموت على فراشى كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء .(1/463)
ثم قال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } [ الأحزاب : 18 ] . قال العلماء : كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له : ويحك ! اجلس فلا تخرج . ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر : أن ائتونا بالمدينة، فإنا ننتظركم . يثبطونهم عن القتال . وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدًا . فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم . فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة . فانصرف بعضهم من عند النبى صلى الله عليه وسلم، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ . فقال : أنت هاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إلىَّ، فقد أحيط بك وبصاحبك .
/فوصف المثبطين عن الجهاد ـ وهم صنفان ـ بأنهم إما أن يكونوا فى بلد الغزاة، أو فى غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول، أو بالعمل، أو بهما . وإن كانوا فى غيره راسلوهم، أو كاتبوهم : بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة، ليكونوا معهم بالحصون، أو بالبعد . كما جرى فى هذه الغزاة .
فإن أقوامًا فى العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو، وأقوامًا بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم : هلم إلينا . قال الله ـ تعالى ـ فيهم : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } [ الأحزاب : 18، 19 ] أى : بخلاء عليكم بالقتال معكم، والنفقة فى سبيل الله . وقال مجاهد : بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة . وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله، من نصره ورزقه الذى يجريه بفعل غيره، فإن أقوامًا يشحون بمعروفهم، وأقوامًا يشحون بمعروف الله وفضله . وهم الحساد .(1/464)
ثم قال تعالى : { فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ] ، من شدة الرعب الذى فى قلوبهم، يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره ولا يطرف . فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] ، ويقال فى اللغة : / [ صلقوكم ] وهو رفع الصوت بالكلام المؤذى . ومنه : [ الصالقة ] وهى التى ترفع صوتها بالمصيبة . يقال : صلقه، وسلقه ـ وقد قرأ طائفة من السلف بها، لكنها خارجة عن المصحف ـ إذا خاطبه خطابًا شديدًا قويًا . ويقال : خطيب مسلاق : إذا كان بليغًا فى خطبته، لكن الشدة هنا فى الشر لا فى الخير . كما قال : { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } [ الأحزاب : 19 ] . وهذا السلق بالألسنة الحادة، يكون بوجوه :
تارة يقول المنافقون للمؤمنين : هذا الذى جرى علينا بشؤمكم، فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة .
وتارة يقولون : أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا .
وتارة يقولون : أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم، كما قال تعالى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] .
وتارة يقولون : أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا /أنفسكم والناس معكم .(1/465)
وتارة يقولون أنواعًا من الكلام المؤذى الشديد . وهم مع ذلك أشحة على الخير، أى : حراص على الغنيمة والمال الذى قد حصل لكم . قال قتادة : إن كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم . يقولون : أعطونا، فلستم بأحق بها منا . فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق . وأما عند الغنيمة فأشح قوم . وقيل : أشحة على الخير، أى : بخلاء به، لا ينفعون، لا بنفوسهم ولا بأموالهم .
وأصل الشح : شدة الحرص الذى يتولد عنه البخل والظلم، من منع الحق، وأخذ الباطل . كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمَرَهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) . فهؤلاء أشحاء على إخوانهم، أى : بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير، أى : حراص عليه . فلا ينفقونه، كما قال : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، ثم قال تعالى : { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 20 ] .
فوصفهم بثلاثة أوصاف :
/أحدها : أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد . وهذه حال الجبان الذى فى قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن .
الوصف الثانى : أن الأحزاب إذا جاؤوا تمنوا ألا يكونوا بينكم، بل يكونون فى البادية بين الأعراب، يسألون عن أنبائكم : إيش خبر المدينة ؟ وإيش جرى للناس ؟
والوصف الثالث : أن الأحزاب إذا أتوا ـ وهم فيكم ـ لم يقاتلوا إلا قليلاً . وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس فى هذه الغزوة كما يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه منهم من خبرهم .(1/466)
ثم قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [ الأحزاب : 21 ] ، فأخبر ـ سبحانه ـ أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه . فليتأسوا به فى التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها، وإهانة له . فإنه لو كان كذلك ما ابتلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خير الخلائق ـ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك،/ فيكون فى حقه عذابًا كالكفار والمنافقين .
ثم قال تعالى : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 22 ] . قال العلماء : كان الله قد أنزل فى سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، فبين الله ـ سبحانه منكرًا على من حسب خلاف ذلك ـ أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم بـ [ البأساء ] ، وهى الحاجة والفاقة . و [ الضراء ] وهى الوجع والمرض . و [ الزلزال ] وهى زلزلة العدو .(1/467)
فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ الأحزاب : 22 ] ، وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال . وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا لحكم الله وأمره . وهذه حال أقوام فى هذه الغزوة قالوا ذلك .
وكذلك قوله : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } [ الأحزاب : 23 ] أى : عهده الذى عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل، أو عاش . و [ النحب ] : النذر والعهد . وأصله من النحيب . وهو /الصوت . ومنه : الانتحاب فى البكاء، وهو الصوت الذى تكلم به فى العهد . ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق فى اللقاء ـ ومن صدق فى اللقاء فقد يقتل ـ صار يفهم من قوله : { قَضَى نَحْبَهُ } أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب : نذر الصدق فى جميع المواطن؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت . وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } [ الأحزاب : 23 ] أى : أكمل الوفاء . وذلك لمن كان عهده مطلقًا بالموت، أو القتل . { وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ } قضاءه، إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد . وأصل القضاء : الإتمام والإكمال .
{(1/468)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 24 ] . بين الله ـ سبحانه ـ أنه أتى بالأحزاب ليجزى الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا فى إيمانهم، كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] فحصر الإيمان فى المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون فى قولهم : آمنا، لا من قال، كما قالت الأعراب : { آمنا } [ الحجرات : 14 ] ، والإيمان لم يدخل فى قلوبهم، بل انقادوا واستسلموا . وأما المنافقون فهم بين أمرين : إما أن يعذبهم، وإما أن يتوب عليهم . فهذا حال الناس فى الخندق وفى هذه الغزاة .
/وأيضًا، فإن الله ـ تعالى ـ ابتلى الناس بهذه الفتنة، ليجزى الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون، لينصروا الله ورسوله، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم . ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين؛ فإن منهم من ندم . والله ـ سبحانه ـ يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات . وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها .(1/469)
وقد ذكر أهل المغازى ـ منهم ابن إسحاق ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى الخندق : ( الآن نغزوهم، ولا يغزونا ) ، فما غزت قريش ولا غطفان، ولا اليهود المسلمين بعدها، بل غزاهم المسلمون، ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة . كذلك ـ إن شاء الله ـ هؤلاء الأحزاب من المغل وأصناف الترك ومن الفرس، والمستعربة، والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا . ويتوب الله على من يشاء من المسلمين، الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم، ويحسن ظنهم بالإسلام، وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم . فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولى الأبصار، كما قال : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [ الأحزاب : 25 ] .
/ فإن الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا ـ ريح شديدة باردة ـ وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرًا . إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين، فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم، والبرد الشديد، والريح العاصف، والجوع المزعج، ما الله به عليم .(1/470)
وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التى وقعت فى هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة . وكنا نقول لهم : هذا فيه خيرة عظيمة . وفيه لله حكمة وسر، فلا تكرهوه . فكان من حكمته : أنه فيما قيل : أصاب قازان وجنوده، حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل : سبب رحيلهم . وابتلى به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه . وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضى حلب : يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله فى قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه . فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو، جزاء منه، وبيانًا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الديار .
/وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضًا وتعاديًا، كما ألقى ـ سبحانه ـ عام الأحزاب بين قريش وغطفان، وبين اليهود . كما ذكر ذلك أهل المغازى . فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك، كما ذكره أهل المغازى، مثل عروة بن الزبير، والزهرى، وموسى بن عقبة، وسعيد بن يحيى الأموى، ومحمد بن عائذ، ومحمد بن إسحاق، والواقدى، وغيرهم .
ثم تبقى بالشام منهم بقايا، سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم، مضافاً إلى عسكر حماة وحلب، وما هنالك . وثبت المسلمون بإزائهم . وكانوا أكثر من المسلمين بكثير، لكن فى ضعف شديد وتقربوا إلى حماة، وأذلهم الله ـ تعالى ـ فلم يقدموا على المسلمين قط . وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم، فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار، كما جرى فى غزوة الخندق، حيث قتل على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فيها عمرو بن عبد ود العامرى لما اقتحم الخندق، هو ونفر قليل من المشركين .(1/471)
كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين . وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم . وساق المسلمون خلفهم فى آخر /النوبات،فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات . وبعضهم فى جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم، وخالطوهم، وأصاب المسلمون بعضهم . وقيل : إنه غرق بعضهم .
وكان عبورهم وخلو الشام منهم فى أوائل رجب، بعد أن جرى ـ ما بين عبور قازان أولاً وهذا العبورـ رجفات ووقعات صغار، وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة؛ لأجل الغزاة، لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا . وثبت بإزائهم المقدم الذى بحماة، ومن معهم من العسكر، ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم، ونالوا أجرًا عظيمًا . وقد قيل : إنهم كانوا عدة كمانات، إما ثلاثة، أو أربعة . فكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقى فى قلوب عدوهم الرعب فيهربون، لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل [ تيزين ]
و [ الفوعة ] و [ معرة مصرين ] وغيرها ما لم يكونوا وطئوه فى العام الماضى .
وقيل : إن كثيرًا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ـ بسبب الرفض ـ وأن عند بعضهم فرامين منهم، لكن هؤلاء ظلمة، ومن أعان ظالمًا بلى به، والله تعالى يقول : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] .(1/472)
وقد ظاهروهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب،من /أهل [ سيس ] والأفرنج . فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهى الحصون ـ ويقال للقرون : الصياصى ـ ويقذف فى قلوبهم الرعب . وقد فتح الله تلك البلاد . ونغزوهم إن شاء الله ـ تعالى ـ فنفتح أرض العراق وغيرها، وتعلو كلمة الله ويظهر دينه؛ فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس . وخرجت عن سنن العادة . وظهر لكل ذى عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التى بارك فيها للعالمين ـ بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم، وكر العدو كرة فلم يلو عن . . وخذل الناصرون فلم يلووا على . . . وتحير السائرون فلم يدروا من . . . ولا إلى . . . وانقطعت الأسباب الظاهرة . وأهطعت الأحزاب القاهرة، وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق .
فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة، وأساسًا /لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفى صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا .(1/473)
قال الشيخ ـ رحمه الله : كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر فى جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد . ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم، وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم . فكتبته فى رجب، والله أعلم . والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=541 - TOP#TOPوسئل شيخ الإسلام تقى الدين عمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على ابن أبى طالب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته، وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه، وأنهم كفروا بذلك، فهل يجب قتالهم ؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا ؟
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله .(1/474)
فلو قالوا : نصلى ولا نزكى، أو نصلى الخمس ولا نصلى الجمعة ولا الجماعة، أو نقوم بمبانى الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه، أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين، وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة،/ أو قالوا : إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين، أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وما عليه جماعة المسلمين، فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها، كما جاهد المسلمون مانعى الزكاة، وجاهدوا الخوارج وأصنافهم، وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام .(1/475)
وذلك لأن الله ـ تعالى ـ يقول فى كتابه : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] . فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر، وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة . وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } [ البقرة : 278، 279 ] ، فقد أخبر ـ تعالى ـ أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله، والربا آخر ما حرم الله فى القرآن، فما حرمه قبله أوكد . وقال تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } [ المائدة : 33 ] .
/فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول فى طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله، ومن عمل فى الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى فى الأرض فسادًا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة، حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال، وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين فى الأرض فسادًا . وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه، ويقرون بالإيمان بالله ورسوله .(1/476)
فالذى يعتقد حل دماء المسلمين، وأموالهم، ويستحل قتالهم، أولى بأن يكون محاربًا لله ورسوله، ساعيًا فى الأرض فسادًا من هؤلاء . كما أن الكافر الحربى الذى يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ويرى جواز قتالهم، أولى بالمحاربة من الفاسق الذى يعتقد تحريم ذلك . وكذلك المبتدع الذى خرج عن بعض شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، وأموالهم، هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينًا يتقرب به إلى الله . كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينًا تتقرب به إلى الله .
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التى يعتقد أصحابها أنها ذنوب . وبذلك مضت سنة رسول الله / صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم، والصلاة خلفهم مع ذنوبهم، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنته، وأخبر عن ذى الخويصرة وأصحابه ـ مع عبادتهم وورعهم ـ أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . وقد قال تعالى فى كتابه : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] .
فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضي بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى فى قلوبهم حرج من حكمه . ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة .(1/477)
وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين . ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال : لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر : كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم /وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ) ؟ فقال أبو بكر : ألم يقل : ( إلا بحقها ) ؟ ! فإن الزكاة من حقها . والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق . فاتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم .
وهذا الاستنباط من صِدِّيق الأمة قد جاء مصرحًا به . ففى الصحيحين عن عبد الله ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات .(1/478)
وهذا مطابق لكتاب الله . وقد تواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، ذكرها مسلم فى صحيحه، وأخرج منها البخارى غير وجه . وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله : صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه . قال صلى الله عليه وسلم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه /مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ) ، وفى رواية : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ، وفى رواية : ( شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه ) .
وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلهم بحرورى لما خرجوا عن السنة والجماعة، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب، وأغاروا على ماشية المسلمين . فقام أمير المؤمنين على بن أبى طالب وخطب الناس، وذكر الحديث، وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال، فاستحل قتالهم، وفرح بقتلهم فرحًا عظيمًا، ولم يفعل فى خلافته أمرًا عامًا كان أعظم عنده من قتال الخوارج . وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين، حتى كفروا عثمان وعليا . وكانوا يعملون بالقرآن فى زعمهم، ولا يتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى يظنون أنها تخالف القرآن . كما يفعله سائر أهل البدع مع كثرة عبادتهم وورعهم .
وقد ثبت عن على فى صحيح البخارى وغيره، من نحو ثمانين وجهًا، أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر ثم عمر . وثبت عنه /أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية . وروى عنه بأسانيد جيدة أنه قال : لا أوتى بأحد يفضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى . وعنه أنه طَلَب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه .(1/479)
وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أمر برجل فَضله على أبى بكر أن يجلد لذلك . وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ لصبيغ بن عَسْل؛ لما ظن أنه من الخوارج : لو وجدتك محلوقًا لضربت الذى فيه عيناك .
فهذه سنة أمير المؤمنين على وغيره، قد أمر بعقوبة الشيعة؛ الأصناف الثلاثة، وأخفهم المفَضِّلة . فأمر هو وعمر بجلدهم . والغالية يقتلون باتفاق المسلمين، وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة فى على وغيره، مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم : بيت صاد، وبيت سين، ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع، أو ينكرون القيامة، أو ينكرون ظواهر الشريعة، مثل الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام، ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم، وكتمان أسرارهم، وزيارة شيوخهم . ويرون أن الخمر حلال لهم، ونكاح ذوات المحارم حلال لهم .
فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى، فإن لم يظهر /عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم فى الدرك الأسفل من النار، ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرًا . فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة، ولا يحل نكاح نسائهم، ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين . فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب، وإذا كانوا فى قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة، وألزموا بشرائع الإسلام التى تجب على المسلمين .
وليس هذا مختصًا بغالية الرافضة، بل من غلا فى أحد من المشايخ، وقال : إنه يرزقه، أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبى، أو أنه مستغن عن شريعة النبى صلى الله عليه وسلم، وأن له إلى الله طريقًا غير شريعة النبى صلى الله عليه وسلم، أو أن أحدًا من المشايخ يكون مع النبى صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى .
وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل الواحد المقدور عليه منهم .(1/480)
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة،فقد روى عنهما ـ أعنى : عمر وعلى ـ قتلهما أيضًا . والفقهاء وإن تنازعوا فى قتل الواحد /المقدور عليه من هؤلاء، فلم يتنازعوا فى وجوب قتالهم إذا كانوا ممتنعين؛ فإن القتال أوسع من القتل، كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة، وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به .
وهذه النصوص المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الخوارج، قد أدخل فيها العلماء لفظًا أو معنى من كان فى معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين، بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية، مثل الخرمية، والقرامطة، والنصيرية، وكل من اعتقد فى بشر أنه إله، أو فى غير الأنبياء أنه نبى، وقاتل على ذلك المسلمين فهو شر من الخوارج الحرورية .
والنبى صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية؛ لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج فى حياته . فذكرهم لقربهم من زمانه، كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها فى ذلك الزمان، مثل قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] ، وقوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، ونحو ذلك . ومثل تعيين النبى صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار، وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميم وأسد وغطفان وغيرهم بأحكام؛ لمعان قامت به، وكل من وجدت فيه تلك المعانى ألحق بهم؛ لأن /التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم، بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم؛ هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم .
وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرًا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم؛ فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليًا، وأتباع عثمان وعلى فقط، دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك .(1/481)
والرافضة كَفَّرتْ أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكَفَّروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين .
فيُكفِّرون كلَّ من اعتقد فى أبى بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة، أو تَرضي عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم؛ ولهذا يكفرون أعلام الملة، مثل سعيد بن المسيب، وأبى مسلم الخولانى، وأويس القرنى، وعطاء بن أبى رباح، وإبراهيم النَّخَعِى، ومثل مالك والأوزاعى، وأبى حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والثورى، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وفضيل بن عياض، وأبى سليمان الدارانى، ومعروف الكرخى، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التسترى، وغير هؤلاء . ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور، كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك،/ وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو، والعامة وأهل الحديث . ويرون فى أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم، وأن المائعات التى عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة، ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى؛ لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلى .
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فيعاونون التتار على الجمهور . وهم كانوا من أعظم الأسباب فى خروج جنكزخان ـ ملك الكفار ـ إلى بلاد الإسلام، وفى قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفى أخذ حلب، ونهب الصالحية، وغير ذلك، بخبثهم ومكرهم؛ لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم .(1/482)
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر فى النوبة الأولى . وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين . وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين، والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر، وكذلك لما فتح المسلمون الساحل ـ عكة وغيرها ـ ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم . وكل هذا الذى وصفت بعض أمورهم، وإلا فالأمر أعظم من ذلك .
/وقد اتفق أهل العلم بالأحوال : أن أعظم السيوف التى سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها، وأعظم الفساد الذى جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة، إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم .
فهم أشد ضررًا على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية؛ ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة . فليس فى الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبًا ولا أكثر تصديقًا للكذب وتكذيبًا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر منه فى سائر الناس، وهى التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) ، وفى رواية : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) . وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التى هى سيما المنافقين واليهود، ويستعملونها مع المسلمين { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ الفتح : 11 ] ، ويحلفون ما قالوا وقد قالوا، ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه .(1/483)
وقد أشبهوا اليهود فى أمور كثيرة، لاسيما السامرة من اليهود؛ فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف، يشبهونهم فى دعوى الإمامة فى /شخص أو بطن بعينه، والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه، وفى اتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه، وتأخير الفطر، وصلاة المغرب، وغير ذلك، وتحريم ذبائح غيرهم .
ويشبهون النصارى فى الغلو فى البشر والعبادات المبتدعة، وفى الشرك، وغير ذلك .(1/484)
وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين، وهذه شيم المنافقين، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ المائدة : 51 ] ، وقال تعالى : { تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ المائدة : 80، 81 ] . وليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة، وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة ـ والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة ـ وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين، ولا الصلاة خلفهم، ولا طاعتهم فى طاعة الله، ولا تنفيذ شىء من أحكامهم؛ لاعتقادهم أن ذلك لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم . ويرون أن المعصوم قد دخل فى السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، وهو إلى الآن لم يخرج، ولا رآه أحد، ولا علَّم أحدًا دينًا، ولا /حصل به فائدة، بل مضرة . ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به، ولا يكون مؤمنًا إلا من آمن به، ولا يدخل الجنة إلا أتباعه، مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادى، أو من استحوذ عليهم بالباطل، مثل ابن العود ونحوه، ممن قد كتب خطه مما ذكرناه من المخازى عنهم، وصرح بما ذكرناه عنهم، وبأكثر منه .
وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التى فى الكتاب والسنة، وكل من آمن بقدر الله وقضائه،فآمن بقدرته الكاملة،ومشيئته الشاملة،وأنه خالق كل شىء .(1/485)
وأكثر محققيهم ـ عندهم ـ يرون أن أبا بكر وعمر، وأكثر المهاجرين والأنصار، وأزواج النبى صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة، وسائر أئمة المسلمين وعامتهم، ما آمنوا بالله طرفة عين قط؛ لأن الإيمان الذى يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلاً من أصله، كما يقوله بعض علماء السنة . ومنهم من يرى أن فرج النبى صلى الله عليه وسلم الذى جامع به عائشة وحفصة لابد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم؛ لأن وطء الكوافر حرام عندهم .
ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخارى ومسلم، ويرون أن /شعر شعراء الرافضة، مثل الحميرى، وكوشيار الديلمى، وعمارة اليمنى خيرًا من أحاديث البخارى ومسلم . وقد رأينا فى كتبهم من الكذب والافتراء على النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب فى كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل .
وهم مع هذا يعطلون المساجد التى أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة، ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور، ونهى أمته عن ذلك . وقال قبل أن يموت بخمس : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك ) . ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات، حتى إن من مشائخهم من يفضلها على حج البيت الذى أمر الله به ورسوله . ووصف حالهم يطول .
فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج . وهذا هو السبب فيما شاع فى العرف العام : أن أهل البدع هم الرافضة . فالعامة شاع عندها أن ضد السنى هو الرافضى فقط؛ لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء .(1/486)
/وأيضا، فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم، وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذى لا وجود له . فمستند الخوارج خير من مستندهم .
وأيضا، فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال، وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله . وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ؛ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وطلب أن يفسد الإسلام، كما فعل بولص النصرانى، الذى كان يهوديا فى إفساد دين النصارى .
وأيضا، فغالب أئمتهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض؛ لأنه طريق إلى هدم الإسلام، كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان فى زمن المعتصم مع بابك الخرمى، وكانوا يسمون [ الخرمية ] و [ المحمرة ] . و [ القرامطة الباطنية ] الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك، وأخذوا الحجر الأسود، وبقى معهم مدة، كأبى سعيد الجنابى وأتباعه . والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر، وبنوا القاهرة، وادعوا أنهم فاطميون، مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريؤون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نسبهم متصل
بالمجوس واليهود، واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى، بل الغالية الذين يعتقدون /إلهية على والأئمة . ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة، الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك .
وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك، لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار [ هولاكو ] يقرر أصنامهم .
وأيضا، فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد، وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد .(1/487)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=552 - TOP#TOPالقول الثاني : أن الأصل في العقود والشروط : الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله ـ نصًا أو قياسًا ـ عند من يقول به . وأصول أحمد المنصوصة عنه، أكثرها يجري على هذا القول . ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا / للشروط . فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه .
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضي العقد، أو لم يرد به نص . وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى اله عليه وسلم والصحابة مالا تجده عند غيره من الأئمة . فقال بذلك، وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه، أو يضعف دلالته . وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس . وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة والتي سنذكرها في تصحيح الشروط؛ كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقًا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة . وأحمد ـ في إحدي الروايتين عنه ـ يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا، ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه . ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق . فإذا كان لها مقتضي عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط، مالم يتضمن مخالفة الشرع . كما سأذكره ـ إن شاء الله .
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكني الدار، ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك / الغير، اتباعًا لحديث جابر لما باع النبي صلى اله عليه وسلم جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة .(1/488)
ويجوز ـ أيضا ـ للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة واشترطت عليه خدمة النبي صلى اله عليه وسلم ما عاش .
ويجوز ـ على عامة أقواله ـ أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها؛ كما في حديث صفية، وكما فعله أنس بن مالك وغيره، وإن لم ترض المرأة؛ كأنه أعتقها واستثني منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح؛ إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة .
ويجوز ـ أيضا ـ للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته وغلته جميعا لنفسه لمدة حياته؛ كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك، وروي فيه حديث مرسل عن النبي صلى اله عليه وسلم . وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه ؟ فيه عنه روايتان .
ويجوز ـ أيضا ـ على قياس قوله ـ استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة، والصداق وفدية الخلع، والصلح على القصاص، ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك، سواء كان بإسقاط كالعتق، أو بتمليك بعوض كالبيع . أو بغير عوض كالهبة .
/ ويجوز أحمد ـ أيضا ـ في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في الصحيحين عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال : ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) ومن قال بهذا الحديث قال : إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة . وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح . فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق، فتشترط ألا تسافر معه ولا تنتقل من دارها . وتزيد على ما يملكه بالإطلاق،فتشترط أن تكون مخلية به،فلا يتزوج عليها ولا يَتَسَرَّي .(1/489)
ويجوز ـ على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه ـ أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كاليسار والجمال، ونحو ذلك، ويملك الفسخ بفواته . وهو من أشد الناس قولاً بفسخ النكاح وانفساخه، فيجوز فسخه بالعيب، كما لو تزوج عليها، وقد شرطت عليه ألا يتزوج عليها، وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة، وبالخلف في الصفة على الصحيح، كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر . وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت، واشتراط الطلاق . وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة، ونحو ذلك ؟ فيه عنه روايتان . إحداهما : نعم؛ كنكاح الشِّغار . /وهو رواية عن مالك . والثانية : لا ينفسخ؛ لأنه تابع وهو عقد مفرد؛ كقول أبي حنيفة والشافعي .(1/490)
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلاً أو تركًا في المبيع مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه . وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق . وقد يروي ذلك عنه، لكن الأول أكثر في كلامه . ففي جامع الخلال عن أبي طالب : سألت أحمد عن رجل اشتري جارية فشرط أن يتسري بها : تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسري بها، ولا تكون للخدمة ؟ قال : لا بأس به . وقال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل اشتري من رجل جارية، فقال له : إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني ؟ قال : لا بأس به، ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط؛ لأن ابن مسعود قال لرجل : لا تقربنها ولأحد فيها شرط . وقال حنبل : حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ أن ابن مسعود اشتري جارية من امرأته، وشرط لها : إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به . فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب . فقال : لا تنكحها وفيها شرط . وقال حنبل : قال عَمِّي : كل شرط في فرج فهو على هذا . والشرط الواحد في البيع جائز، إلا أن عمر كره لابن مسعود / أن يطأها؛ لأنه شرط لامرأته الذي شرط . فكره عمر أن يطأها وفيها شرط . وقال الكرماني : سألت أحمد عن رجل اشتري جارية وشرط لأهلها ألا يبيعها ولا يهبها ؟ فكأنه رخص فيه . ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فلا يقربها . يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب، حين قال لعبد الله بن مسعود .(1/491)
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول، كالمقايلة . وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط، وربما تأولوا قوله : [ جائز ] أي العقد جائز، وبقية نصوصه تصرح بأن مراده [ الشرط ] أيضا . واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة . وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه، ولا يهبه، أو يتسراها ونحو ذلك، مما فيه تعيين لمصرف واحد؛ كما روي عمر بن شبة في أخبار عثمان : أنه اشتري من صهيب دارًا، وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده .
وجماع ذلك : أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة . فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع، وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوز ـ أيضا ـ استثناء بعض التصرفات .
وعلى هذا فمن قال : هذا الشرط ينافي مقتضي العقد . قيل له : / أينافي مقتضي العقد المطلق، أو مقتضي العقد مطلقا ؟ فإن أراد الأول، فكل شرط كذلك . وإن أراد الثاني، لم يسلم له . وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد؛ كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد . فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافِ مقصوده . هذا القول هو الصحيح : بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار، مع الاستصحاب، وعدم الدليل المنافي .(1/492)
أما الكتاب : فقال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] ، والعقود هي العهود . وقال تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ } [ الأنعام : 152 ] ، وقال تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 34 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا } [ الأحزاب : 15 ] ، فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد . وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ } ، فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد؛ كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به؛ ولهذا قرنه بالصدق في قوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ } ؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل، كما/ قال تعالى : { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 75ـ 77 ] ، وقال ـ سبحانه ـ : { وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] ، قال المفسرون ـ كالضحاك وغيره ـ : تساءلون به : تتعاهدون وتتعاقدون .(1/493)
وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل، أو ترك، أو مال، أو نفع، ونحو ذلك، وجمع ـ سبحانه ـ في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة؛ كالرحم . والمكسوبة؛ كالعقود التي يدخل فيها الصهر،وولاية مال اليتيم، ونحو ذلك . وقال ـ سبحانه ـ : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ } [ النحل : 91، 92 ] ، والأيمان : جمع يمين، وكل عقد فإنه يمين .(1/494)
قيل : سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين، يدل على ذلك قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 4ـ 8 ] ، والإلُّ : هو القرابة . والذمة : العهد ـ وهما المذكوران في قوله : { تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] ، إلى قوله : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] ، فذمهم الله على قطيعة الرحم، ونقض الذمة . إلى قوله : { وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } [ التوبة : 12 ] ، وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي صلى اله عليه وسلم عام الحديبية، ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة .(1/495)
وأما قوله ـ سبحانه : { بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 1 ] ، فتلك عهود جائزة؛ لا لازمة فإنها كانت مطلقة، وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها؛ كالوكالة، ونحوها .
ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم : إن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة، فقوله ـ مع أنه مخالف لأصول أحمد ـ يرده القرآن . وترده سنة رسول الله صلى اله عليه وسلم في أكثر المعاهدين، فإنه لم / يوقت معهم وقتا .(1/496)
فأما من كان عهده مؤقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 4 ] ، وقال : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 7 ] ، وقال : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } [ الأنفال : 58 ] ، فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة؛ لأن المحذور من جهتهم، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } الآية [ الصف : 2 ] . وجاء ـ أيضا ـ في صحيح مسلم عن أبي موسي الأشعري : ( إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة ) ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } ، في سورتي المؤمنون [ الآية : 8 ] والمعارج [ الآية : 32 ] .(1/497)
وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المعارج : 19ـ32 ] ، وهذا يقتضي وجوب ذلك؛ لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك؛ ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب، وكذلك في سورة المؤمنين، قال في أولها : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 10، 11 ] ، فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين؛ لأن ظاهر الآية الحَصْر؛ فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يُشْعر بالحصر، ومن لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة، إلا أن يعفو الله عنه، وإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به . ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي صلى اله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله : ( إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر ) وعنه : ( على كل خُلِق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب ) ومازالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الأمانة . وهذا عام .(1/498)
وقال تعالى : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } [ البقرة : 26، 27 ] ، فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته؛ لأن الواجب إما بالشرع، وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره .(1/499)
وقال ـ أيضا ـ : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ باب سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 20ـ25 ] ، وقال : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 100 ] ، وقال : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا(1/500)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 75، 76 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 77 ] ، وقال / تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ المائدة : 89 ] والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر، قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتي يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر . وإذا خاصم فجر ) . وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ) . وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد، عن النبي صلى اله عليه وسلم قال : ( لكل غادر لواء عند اسْتِه يوم القيامة ) . وفي رواية : ( لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة ) . وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال : كان رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا أَمَّرَ أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي الله، وفيمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال : ( اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا . وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال .(2/1)
فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم ) الحديث . / فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول .
وفي الصحيحين عن ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب ـ لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى اله عليه وسلم : هل يغدر ؟ ـ فقال : لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها : قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة . وقال هرقل في جوابه : سألتك هل يغدر ؟ فذكرت أنه لا يغدر،وكذلك الرسل لا تغدر . فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين .
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال : ( إن أحق الشروط أن توفوا به : ما استحللتم به الفروج ) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها .
وروى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى اله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطي بي، ثم غدر . ورجل باع حرًا، ثم أكل ثمنه . ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يُعْطه أجره ) فذم الغادر . وكل من شرط شرطًا ثم نقضه فقد غدر .
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق/ والعقود،وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك .
ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع، لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبًا؛ كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا . وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس، ونحو ذلك . وكذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض، ويجب السكوت أو التعريض .(2/2)
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط؛ إذ لا معني للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده . ومقصود العقد : هو الوفاء به . فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة .
وقد روى أبو داود، والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال : / قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم ) وكثير بن زيد قال يحيي بن معين في رواية : هو ثقة . وضعفه في رواية أخري .
وقد روى الترمذي، والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا ) . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وروي ابن ماجه منه اللفظ الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة . وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به . فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه . وقد روي أبو بكر البزار ـ أيضا ـ عن محمد بن عبد الرحمن ابن السلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الناس على شروطهم ما وافقت الحق ) . وهذه الأسانيد ـ وإن كان الواحد منها ضعيفا ـ فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا .(2/3)
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب؛ فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما / أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله . وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله،وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجبًا بدونه . فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبًا ولا حرامًا، وعدم الإيجاب ليس نفيًا للإيجاب،حتي يكون المشترط مناقضًا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجبًا؛ فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض مالم يكن واجبا؛ ويباح ـ أيضا ـ لكل منهما مالم يكن مباحًا، ويحرم على كل منهما مالم يكن حرامًا . وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رَهْنا،أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛فإنه يجب،ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك .(2/4)
وهذا المعنى هو الذي أَوْهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال : لأنها إما أن تبيح حرامًا، أو تحرم حلالًا، أو توجب ساقطًا، أو تسقط واجبًا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع . وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتي توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حرامًا بدون الشرط، فالشرط لا يبيحه؛ كالربا، وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين . فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة، فإنه جائز . وكذلك الولاء،/ فقد نهى النبي صلى اله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته . وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد . وقال صلى اله عليه وسلم : ( من ادعي إلى غير أبيه، أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ) وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، أو انتساب المعتق إلى غير مولاه . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما .
وأما ما كان مباحًا بدون الشرط، فالشرط يوجبه؛ كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء؛ فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبًا، وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالًا وحرامًا مطلقًا فالشرط لا يغيره .(2/5)
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحْهُ مطلقًا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله . وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقًا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة / والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب . وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب .
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع . وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : مقاطع الحقوق عند الشروط .
وأما الاعتبار فمن وجوه :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=552 - TOP#TOPأحدها : أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية . والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتي يدل دليل على التحريم . كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم . وقوله تعالى : { وَقَدْ فصل لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 119 ] ، عامٌّ في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة .
وأيضا، فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين ـ إن شاء الله ـ معني حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم . فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالًا، وإما عفوًا؛ كالأعيان التي لم تحرم .(2/6)
/ وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل ـ أيضا ـ به على عدم تحريم العقود والشروط فيها؛ سواء سمي ذلك حلالا، أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم؛ فإن ما ذكره الله تعالى في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع؛ منه ما سببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال . كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أَحْمَسِيّا، ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مَجْبِيَّة ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع . فأمرهم الله ـ سبحانه ـ في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم .
فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حِلُّها بشرع خاص، كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمروا بالوفاء بها . وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم، وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله، ولا يحرم إلا ما حرمه الله؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين مالم يأذن به الله، وحرموا مالم يحرمه الله، فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل / شرعي، كنا محرمين مالم يحرمه الله، بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله؛ فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين مالم يأذن به . فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر . فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع؛ كالعتق والصدقة .(2/7)
فإن قيل : العقود تغير ما كان مشروعا؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال، فعقد عقدًا أزاله عن تلك الحال، فقد غير ما كان مشروعا، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا تغير في إباحتها .
فيقال : لا فرق بينهما؛ وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكًا لشخص، أو لا تكون . فإن كانت ملكًا فانتقالها بالبيع أو غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود . وإن لم تكن ملكًا فملكها بالاستيلاء ونحوه، هو فعل من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود .
وأيضا، فإنها قبل الذكاة محرمة . فالذكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال . فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والذكاة،الأصل فيها الحل،وإن غير حكم العين . فكذلك أفعالنا في الأملاك بالعقود /ونحوها،الأصل فيها الحل . وإن غيرت حكم الملك له .
وسبب ذلك : أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء . كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة . فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه، لم يحرم علينا رفعه . فمن اشتري عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره؛ لإثباته سبب ذلك، وهو الملك الثابت بالبيع . ومالم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، مالم يحرمه الشارع عليه . كمن أعطي رجلا مالًا، فالأصل ألا يحرم عليه التصرف فيه . وإن كان مزيلًا للملك الذي أثبته المعطي مالم يمنع منه مانع .(2/8)
وهذه نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية ـ من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو ـ لم يشرعها الشارع شرعًا جزئيًا، وإنما شرعها شرعًا كليًا، مثل قوله : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [ البقرة : 275 ] ، وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } [ النساء : 24 ] ، وقوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ النساء : 3 ] . وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد . فإذا وجد بيع معين أثبت ملكًا معينا . فهذا المعين سببه / فعل العبد، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله، لاما أثبته الله من الحكم الكلي؛ إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئي، إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط، لا أن الشارع أثبته ابتداء .
وإنما تَوَهَّم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام، وليس كذلك؛ فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته، وهو الشارع . وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق اليه، فكذلك إخراجه؛ إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدًا، مثل أن يقول : هذا الثوب بِعْهُ أو لا تبعه، أو هِبْه أو لا تهبْه، وإنما حكم على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين .(2/9)
فتدبر هذا، وفَرِّق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد . وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم . وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذًا، ولإيجاب العقل أيضا .
/ http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=552 - TOP#TOPوأيضا، فإن الأصل في العقود رضى المتعاقدين . وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله قال في كتابه العزيز : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } [ النساء : 29 ] ، وقال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } [ النساء : 4 ] ، فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه . فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب . فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم . وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق، فكذلك سائر التبرعات، قياسًا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن . وكذلك قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } [ النساء : 29 ] ، لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة . وإذا كان كذلك فإذا تراضي المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن؛ إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله؛ كالتجارة في الخمر، ونحو ذلك .(2/10)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=552 - TOP#TOPوأيضا، فإن العقد له حالان : حال إطلاق، وحال تقييد . ففرق بين العقد المطلق وبين المعني المطلق من العقود . فإذا قيل : هذا شرط ينافي مقتضي العقد فإن أريد به، ينافي العقد المطلق . فكذلك كل شرط زائد . وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضي العقد المطلق والمقيد، احتاج إلى دليل على ذلك، وإنما يصح هذا إذا نافي مقصود العقد .
فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود . فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء . ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا .
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق؛ فإن هذا لا ينافي مقتضي العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصودًا للعقد . فإن اشْتِراء العبد لعتقه يقصد كثيرًا . فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه؛ كما بينه النبي صلى اله عليه وسلم بقوله : ( كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق ) فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوًا . وإذا كان منافيًا لمقصود الشارع كان مخالفًا لله ورسوله . فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغوًا، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عَمَلٌ مقصود للناس يحتاجون اليه؛ إذ لولا حاجتهم اليه لما فعلوه؛ فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة اليه . ولم يثبت تحريمه، فيباح؛ لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج .(2/11)
وأيضا، فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال : لا تحل ولا تصح، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص؛ من نص، أو إجماع، أو / قياس عند الجمهور . كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال : لا تحل وتصح حتي يدل على حلها دليل سمعي، وإن كان عامًا، أو يقال : تصح ولا تحرم، إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام .(2/12)
والقول الأول باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم . فقال ـ سبحانه ـ في آية الربا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] ، فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية ـ الذي اتفق العمل عليه ـ يوجب أنه غير منهي عنه، وكذلك النبي صلى اله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض . وقال صلى اله عليه وسلم : ( أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام ) وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل أحدًا : هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟ ولم يأمر أحدًا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجودًا حين الإسلام، كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة، أن يمسك أربعًا ويفارق سائرهن . وكما أمر فَيْرُوز الديلمي / الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى . وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس، أن يفارقوا ذوات المحارم . ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع . ولو كانت العقود عندهم كالعبادات، لا تصح إلا بشرع، لحكموا بفسادها . أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع .(2/13)
فإن قيل : فقد اتفق فقهاء الحديث ـ أهل الحجاز ـ على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله، مضت، ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء .
قلنا : ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ، بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أَرَ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سَوَّوْا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها . كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما، وإن كان بغير نكاح . فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودًا في نفسه ـ وإن لم يقترن بالآخرـ أقرهم / الشارع على ذلك، بخلاف الأموال؛ فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع؛ لعدم حصول المقصود .
فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=552 - TOP#TOPوأيضا، فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودًا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم ـ فيما أعلمه ـ يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد : لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله . فلو كان إذن الشارع الخاص شرطًا في صحة العقود، لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق .
وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
فصل(2/14)
وإذا آجر الأرض أو الرباع؛ كالدور، والحوانيت، والفنادق، وغيرها . كانت إيجارة لازمة من الطرفين، لا تكون لازمة من أحد الطرفين، جائزة من الطرف الآخر، بل إما أن تكون لازمة منهما، أو تكون جائزة غير لازمة منهما، عند كثير من العلماء .
كما لو استكراه كل يوم بدرهم، ولم يوقت أجلا، فهذه الإجارة جائزة غير لازمة، في أحد قولي العلماء . فكلما سكن يومًا لزمته أجرته، وله أن يسكن اليوم الثاني، وللمؤجر أن يمنعه سكني اليوم الثاني .
وكذلك إذا كان أجر الشهر بكذا، أو كل سنة بكذا ، ولم يؤجلا أجلاً .
وأما إذا كانت لازمة من الطرفين، فإذا كان المستأجر لا يمكنه /الخروج قبل انقضاء المدة، لم يكن للمؤجر أن يخرجه قبل انقضاء المدة، لا لأجل زيادة حصلت عليه في أثناء المدة، ولا لغير زيادة، سواء كانت العين وقفًا، أو طلقا . وسواء كانت ليتيم أو لغير يتيم . وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم من أئمة المسلمين، لم يقل أحد من الأئمة : إن الإجارة المطلقة تكون لازمة من جانب المستأجر، غير لازمة من جانب المؤجر؛ في وقف، أو مال يتيم، ولا غيرهما . وإن شذ بعض المتأخرين فحكى نزاعا في بعض ذلك، فذلك مسبوق باتفاق الأئمة قبله . والله تعالي قد أمر بالوفاء بالعقود، وأمر بالوفاء بالعهد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ) وقال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) .(2/15)
وإذا قال الناظر للطالب : اكتب عليك إجارة، واسكن، فقد أجره . فإن لم يكن أجره لم يحل له أن يسلم إليه العين، فإنه يكون قد سلم الوقف ومال اليتيم إلى ما لا يجوز تسليمه، فيكون ظالمًا ضامنا . ولو لم يستأجر لكان له أن يخرج إذا شاء، ولكان غاصبا لا تجب عليه الأجرة المسماة، بل أجرة المثل لما انتفع به في أحد قولي العلماء . وعلى قول من لا يضمن منافع الغصب لا يجب /عليه شيء .
وغاية ما يقال : إنه قبضها بإجارة فاسدة، ولو كان كذلك لكان له أن يخرج إذا شاء، بل كان يجب عليه أن يرد العين على المؤجر؛ كالمقبوض بالعقد الفاسد، بل يجب عليه المسمي، أو أجرة المثل، في أحد قولي العلماء . وفي الآخر يجب أقل الأمرين من المسمي أو أجرة المثل . فلا يجوز قبول الزيادة، لا في وقف، أو مال يتيم، وغيرهما، إلا حيث لا تكون الإجارة لازمة، وذلك حيث يكون المستأجر متمكنا من الخروج، ورد العقار إليهم إذا شاء، وهو الذي يسميه العامة الإخلاء، والإغلاق .
فإذا كان متمكنا من الإخلاء والإغلاق، كان المؤجر ـ أيضا ـ متمكنًا من أن يخرجه، ويؤجره لغيره، وإن لم يقع عليه زيادة، ويجب أن يعمل ما يراه من المصلحة .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=614 - TOP#TOPوسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن قال : الطلاق يلزمنى على المذاهب الأربعة، أو نحو ذلك : هل يلزمه الطلاق كما قال، أم كيف الحكم ؟
فأجاب :(2/16)
وأما قول الحالف : الطلاق يلزمنى على مذاهب الأئمة الأربعة، أو على مذهب من يلزمه بالطلاق، لا من يجوز في الحلف به كفارة، أو فعلى /الحج على مذهب مالك بن أنس، أو فعلي كذا على مذهب من يلزمه من فقهاء المسلمين، أو فعلى كذا على أغلظ قول قيل في الإسلام، أو فعلي كذا أني لا أستفتي من يفتيني بالكفارة في الحلف بالطلاق، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا ولا أستفتي من يفتيني بحل يميني أو رجعة في يميني، ونحو هذه الألفاظ التي يغلظ فيها اللزوم تغليظًا يؤكد به لزوم المعلق عند الحنث؛ لئلا يحنث في يمينه، فإن الحالف عند اليمين يريد تأكيد يمينه بكل ما يخطر بباله من أسباب التأكيد، ويريد منع نفسه من الحنث فيها بكل طريق يمكنه، وذلك كله لا يخرج هذه العقود عن أن تكون أيمانًا مكفرة، ولو غلظ الأيمان التي شرع الله فيها الكفارة بما غلظ، ولو قصد ألا يحنث فيها بحال، فذلك لا يغير شرع الله، وأيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، بل ما كان الله قد أمر به قبل يمينه فقد أمر به بعد اليمين، واليمين ما زادته إلا توكيدًا .
وليس لأحد أن يفتي أحدًا بترك ما أوجبه الله، ولا بفعل ما حرمه الله ولو لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه ؟ !
وهذا مثل الذي يحلف على فعل ما يجب عليه، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وطاعة السلطان، ومناصحته وترك الخروج، ومحاربته، وقضاء الدين الذي عليه، وأداء الحقوق إلى مستحقيها والامتناع من الظلم والفواحش، وغير ذلك ـ فهذه الأمور كانت قبل اليمين واجبة، وهي بعد اليمين أوجب .(2/17)
/وما كان محرمًا قبل اليمين فهو بعد اليمين أشد تحريمًا، ولهذا كانت الصحابة يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على طاعته والجهاد معه، وذلك واجب عليهم ولو لم يبايعوه فالبيعة أكدته، وليس لأحد أن ينقض مثل هذا العقد . وكذلك مبايعة السلطان التي أمر الله بالوفاء بها ليس لأحد أن ينقضها ولو لم يحلف، فكيف إذا حلف ؟ ! بل لو عاقد الرجل غيره على بيع، أو إجارة أو نكاح، لم يجز له أن يغدر به، ولوجب عليه الوفاء بهذا العقد، فكيف بمعاقدة ولاة الأمور على ما أمر الله به ورسوله، من طاعتهم، ومناصحتهم، والامتناع من الخروج عليهم ـ فكل عقد وجب الوفاء به بدون اليمين إذا حلف عليه كانت اليمين موكدة له، ولو لم يجز فسخ مثل هذا العقد بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) .
وما كان مباحًا قبل اليمين إذا حلف الرجل عليه لم يصر حرامًا، بل له أن يفعله ويكفر عن يمينه، وما لم يكن واجبًا فعله إذا حلف عليه لم يصر واجبًا عليه، بل له أن يكفر يمينه ولا يفعله . ولو غلظ في اليمين بأي شيء غلظها، فأيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، وليس لأحد أن يحرم بيمينه ما أحله الله، ولا يوجب بيمينه ما لم يوجبه الله، هذا هو شرع محمد صلى الله عليه وسلم .(2/18)
/وأما شرع من قبله فكان في شرع بني إسرائيل إذا حرم الرجل شيئًا حرم عليه، وإذا حلف ليفعلن شيئًا وجب عليه، ولم يكن في شرعهم كفارة، فقال تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } [ آل عمران : 93 ] ، فإسرائيل حرم على نفسه شيئًا فحرم عليه، وقال الله تعالى لنبينا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 1، 2 ] ، وهذا الفرض هو المذكور في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ المائدة : 87 : 89 ] .(2/19)
ولهذا لما لم يكن في شرع من قبلنا كفارة، بل كانت اليمين توجب عليهم فعل المحلوف عليه أمر الله أيوب أن يأخذ بيده ضغثًا فيضرب به ولا يحنث؛ لأنه لم يكن في شرعه كفارة يمين، ولو كان في شرعه كفارة يمين كان ذلك أيسر عليه من ضرب امرأته ولو بضغث، فإن أيوب كان قد رد الله عليه أهله ومثلهم معهم، لكن لما كان ما يوجبونه باليمين بمنزلة ما يجب / بالشرع، كانت اليمين عندهم كالنذر . والواجب بالشرع قد يرخص فيه عند الحاجة، كما يرخص في الجلد الواجب في الحد إذا كان المضروب لا يحتمل التفريق، بخلاف ما التزمه الإنسان بيمينه في شرعنا فإنه لا يلزم بالشرع فيلزمه ما التزمه، وله مخرج من ذلك في شرعنا بالكفارة .(2/20)
ولكن بعض علمائنا لما ظنوا أن الأيمان مما لا مخرج لصاحبه منه، بل يلزمه ما التزمه، فظنوا أن شرعنا في هذا الموضع كشرع بني إسرائيل احتاجوا إلى الاحتىال في الأيمان : إما في لفظ اليمين، وإما بخلع اليمين، وإما بدور الطلاق، وإما بجعل النكاح فاسدًا فلا يقع فيه الطلاق . وإن غلبوا عن هذا كله دخلوا في التحليل، وذلك لعدم العلم بما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع من الحنيفية السمحة، وما وضع الله به من الآصار والأغلال، كما قال تعالى : { وَرَحْمتى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف 156 : 157 ] .(2/21)
وصار ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته هو الحق في نفس الأمر، وما أحدث غيره غايته أن يكون بمنزلة شرع من قبله مع شرعه، وإن كان /الذين قالوه باجتهادهم لهم سعي مشكور وعمل مبرور، وهم مأجورون على ذلك مثابون عليه، فإنه كلما كان من مسائل النزاع التي تنازعت فيه الأمة فأصوب القولين فيه ما وافق كتاب الله وسنة رسوله، من أصاب هذا القول فله أجران، ومن لم يؤده اجتهاده إلا إلى القول الآخر كان له أجر واحد، والقول الموافق لسنته مع القول الآخر بمنزلة طريق سهل مخصب يوصل إلى المقصود، وتلك الأقوال فيها بعد، وفيها وعورة، وفيها حدوثة، فصاحبها يحصل له من التعب والجهد أكثر مما في الطريقة الشرعية .
ولهذا أذاعوا ما دل عليه الكتاب والسنة على تلك الطريقة التي تتضمن من لزوم ما يبغضه الله ورسوله ـ من القطيعة، والفرقة، وتشتيت الشمل، وتخريب الديار، وما يحبه الشيطان و السحرة من التفريق بين الزوجين وما يظهر مافيها من الفساد لكل عاقل ـ ثم إما أن يلزموا هذا الشر العظيم ويدخلوا في الآصار وأغلال، وإما أن يدخلوا في منكرات أهل الاحتىال، وقد نزه الله النبي وأصحابه من كلا الفريقين بما أغناهم به من الحلال .(2/22)
فالطرق ثلاثة : إما الطريقة الشرعية المحضة الموافقة للكتاب والسنة، وهي طريق أفاضل السابقين الأولين، وتابعيهم بإحسان، وإما طريقة الآصار والأغلال والمكر والاحتىال، وإن كان من سلكها سادات أهل العلم والإيمان، وهم مطيعون لله ورسوله فيما أتوا به من الاجتهاد /المأمور به { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . وهذا كالمجتهد في القبلة إذا أدي اجتهاد كل فرقة إلى جهة من الجهات الأربع، فكلهم مطيعون لله ورسوله مقيمون للصلاة، لكن الذي أصاب القبلة في نفس الأمر له أجران . والعلماء ورثة الأنبياء، وقال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [ الأنبياء : 78 : 79 ] ، وكل مجتهد مصيب : بمعني أنه مطيع لله، ولكن الحق في نفس الأمر واحد .
والمقصود هنا : أن ما شرع الله تكفيره من الأيمان هو مكفر، ولو غلظه بأي وجه غلظ، ولو التزم ألا يكفره كان له أن يكفره؛ فإن التزامه ألا يكفره التزام لتحريم ما أحله الله ورسوله، وليس لأحد أن يحرم ما أحله الله ورسوله، بل عليه في يمينه الكفارة .(2/23)
فهذا الملتزم لهذا الالتزام الغليظ هو يكره لزومه إياه، وكلما غلظ كان لزومه له أكره إليه؛ وإنما التزمه لقصده الحظر والمنع؛ ليكون لزومه له مانعًا من الحنث، لم يلتزمه لقصد لزومه إياه عند وقوع الشرط، فإن هذا القصد يناقض عقد اليمين، فإن الحالف لا يحلف إلا بالتزام ما يكره وقوعه عند المخالفة، ولا يحلف قط إلا بالتزامه ما يريد وقوعه عند المخالفة، فلا يقول حالف : إن فعلت كذا غفر الله لي، ولا أماتني على الإسلام، بل يقول : إن فعلت /كذا فأنا يهودي، أو نصراني، أو نسائي طوالق، أو عبيدي أحرار، أو كل ما أملكه صدقة، أو على عشر حجج حافيا مكشوف الرأس على مذهب مالك بن أنس، أو فعلى الطلاق على المذاهب الأربعة، أو فعلى كذا على أغلظ قول .
وقد يقول مع ذلك : على ألا أستفتي من يفتيني بالكفارة، ويلتزم عند غضبه من اللوازم ما يري أنه لا مخرج له منه إذا حنث . ليكون لزوم ذلك مانعًا من الحنث، وهو في ذلك لا يقصد قط أن يقع به شيء من تلك اللوازم وإن وقع الشرط أو لم يقع، وإذا اعتقد أنها تلزمه التزمها لاعتقاده لزومها إياه مع كراهته لأن يلتزمه، لا مع إرادته أن يلتزمه، وهذا هو الحالف واعتقاد لزوم الجزاء غير قصده للزوم الجزاء .(2/24)
فإن قصد لزوم الجزاء عند الشرط، لزمه مطلقًا، ولو كان بصيغة القسم . فلو كان قصده أن يطلق امرأته إذا فعلت ذلك الأمر، أو إذا فعل هو ذلك الأمر، فقال : الطلاق يلزمنى لا تفعلين كذا، وقصده أنها تفعله فتطلق؛ ليس مقصوده أن ينهاها عن الفعل، ولا هو كاره لطلاقها، بل هو مريد لطلاقها، طلقت في هذه الصورة، ولم يكن هذا في الحقيقة حالفًا، بل هو معلق للطلاق على ذلك الفعل بصيغة القسم، ومعني كلامه معني التعليق الذي يقصد به الإيقاع، فيقع به الطلاق هنا عند الحنث في اللفظ الذي هو بصيغة القسم . ومقصوده مقصود التعليق . والطلاق هنا /إنما وقع عند الشرط الذي قصد إيقاعه عنده، لا عندما هو حنث في الحقيقة : إذ الاعتبار بقصده ومراده، لا بظنه واعتقاده، فهو الذي تبني عليه الأحكام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
والسلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وجماهير الخلف من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم متفقون على أن اللفظ الذي يحتمل الطلاق وغيره إذا قصد به الطلاق فهو طلاق، وإن قصد به غير الطلاق لم يكن طلاقًا . وليس للطلاق عندهم لفظ معين، فلهذا يقولون : إنه يقع بالصريح والكناية . ولفظ الصريح عندهم كلفظ الطلاق لو وصله بما يخرجه عن طلاق المرأة لم يقع به الطلاق كما لو قال لها : أنت طالق من وثاق الحبس، أو من الزوج الذي كان قبلي ونحو ذلك .(2/25)
والمرأة إذا أبغضت الرجل كان لها أن تفتدي نفسها منه، كما قال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ البقرة : 229 ] ، وهذا الخلع تبين به المرأة، فلا يحل له أن يتزوجها بعده إلا برضاها، وليس هو كالطلاق المجرد، فإن ذلك يقع رجعيا له أن يرتجعها في العدة بدون رضاها، لكن تنازع العلماء في هذا الخلع : هل يقع به طلقة بائنة محسوبة من الثلاث، أو /تقع به فرقة بائنة وليس من الطلاق الثلاث بل هو فسخ ؟ على قولين مشهورين .
والأول : مذهب أبي حنيفة ومالك وكثير من السلف، ونقل عن طائفة من الصحابة، لكن لم يثبت عن و احد منهم، بل ضعف أحمد بن حنبل وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم جميع ما روي في ذلك عن الصحابة .
والثاني : أنه فرقة بائنة، وليس من الثلاث وهذا ثابت عن ابن عباس باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وهو قول أصحابه ـ كطاووس وعكرمة ـ وهو أحد قولي الشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، وإسحاق بن راهوية، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وابن خزيمة وغيرهم . واستدل ابن عباس على ذلك بأن الله تعالى ذكر الخلع بعد طلقتين ثم قال : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] ، فلو كان الخلع طلاقًا لكان الطلاق أربعًا .(2/26)
ثم أصحاب هذا القول تنازعوا : هل يشترط أن يكون الخلع بغير لفظ الطلاق ؟ أو لا يكون إلا بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة، ويشترط مع ذلك ألا ينوى الطلاق ؟ أو لا فرق بين أن ينوىه أو لا ينوىه، وهو خلع بأي لفظ وقع بلفظ الطلاق أو غيره ؟ على أوجه في مذهب أحمد وغيره : أصحها الذي دل عليه كلام ابن عباس وأصحابه، وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، وهو الوجه الأخير، وهو : أن الخلع هو الفرقة بعوض، فمتى فارقها بعوض فهي /مفتدية لنفسها به، وهو خالع لها بأي لفظ كان، ولم ينقل أحد قط لا عن ابن عباس وأصحابه ولا عن أحمد بن حنبل أنهم فرقوا بين الخلع بلفظ الطلاق وبين غيره، بل كلامهم لفظه ومعناه يتناول الجميع .
والشافعي ـ رضي الله عنه ـ لما ذكر القولين في الخلع هل هو طلاق أم لا ؟ قال : وأحسب الذين قالوا هو طلاق هو فيما إذا كان بغير لفظ الطلاق؛ ولهذا ذكر محمد بن نصر والطحاوي أن هذا لا نزاع فيه، والشافعي لم يحك عن أحد هذا، بل ظن أنهم يفرقون . وهذا بناه الشافعي على أن العقود وإن كان معناها واحدًا فإن حكمها يختلف باختلاف الألفاظ . وفي مذهبه نزاع في الأصل .
وأما أحمد بن حنبل، فإن أصوله ونصوصه وقول جمهور أصحابه أن الاعتبار في العقود بمعانيها لا بالألفاظ، وفي مذهبه قول آخر : أنه تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ، وهذا يذكر في التكلم بلفظ البيع، وفي المزارعة بلفظ الإجارة، وغير ذلك . وقد ذكرنا ألفاظ ابن عباس وأصحابه، وألفاظ أحمد وغيره، وبينا أنها بينة في عدم التفريق . وأن أصول الشرع لا تحتمل التفريق، وكذلك أصول أحمد . وسببه ظن الشافعي أنهم يفرقون . وقد ذكرنا في غير هذا الموضع وبينا أن الآثار الثابتة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس وغيره تدل دلالة بينة أنه خلع، وإن كان بلفظ الطلاق، وهذه الفرقة توجب البينونة . والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي .(2/27)
/قال هؤلاء : وليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلاً، بل كل طلاق ذكره الله تعالى في القرآن فهو الطلاق الرجعي . وقال هؤلاء : ولو قال لامرأته : أنت طالق طلقة بائنة لم يقع بها إلا طلقة رجعية، كما هو مذهب أكثر العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه . قالوا : وتقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله، وهذا قول فقهاء الحديث، وهو مذهب الشافعي، وظاهر مذهب أحمد؛ فإن كل طلاق بغير عوض لا يقع إلا رجعيا . وإن قال : أنت طالق طلقة بائنة أو طلاقًا بائنًا، لم يقع به عندهما إلا طلقة رجعية . وأما الخلع ففيه نزاع في مذهبهما . فمن قال بالقول الصحيح طرد هذا الأصل، واستقام قوله، ولم يتناقض كما يتناقض غيره، إلا من قال من أصحاب الشافعي وأحمد : إن الخلع بلفظ الطلاق يقع طلاقًا بائنًا، فهؤلاء أثبتوا في الجملة طلاقًا بائنًا محسوبًا من الثلاث فنقضوا أصلهم الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة . وقال بعض الظاهرية : إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقًا رجعيا، لا بائنًا؛ لأنه لم يمكنه أن يجعله طلاقًا بائنًا لمخالفة القرآن، وظن أنه بلفظ الطلاق يكون طلاقًا فجعله رجعيا، وهذا خطأ، فإن مقصود الافتداء لا يحصل إلا مع البينونة؛ ولهذا كان حصول البينونة بالخلع مما لم يعرف فيه خلاف بين المسلمين، لكن بعضهم جعله جائزًا، فقال : للزوج أن يرد العوض ويراجعها، والذي عليه الأئمة الأربعة والجمهور أنه لا يملك الزوج وحده أن يفسخه، ولكن لو اتفقا على فسخه كالتقايل، فهذا فيه نزاع آخر، كما بسط في موضعه .(2/28)
/والمقصود هنا أن كتاب الله يبين أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا رجعيا، وليس في كتاب الله طلاق بائن إلا قبل الدخول . وإذا انقضت العدة فإذا طلقها ثلاثًا فقد حرمت عليه، وهذه البينونة الكبرى، وهي إنما تحصل بالثلاث لا بطلقة واحدة مطلقة، لا يحصل بها لا بينونة كبرى، ولا صغرى . وقد ثبت عن ابن عباس أنه قيل له : إن أهل اليمن عامة طلاقهم الفداء، فقال ابن عباس : ليس الفداء بطلاق . ورد المرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة، وبهذا أخذ أحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه، لكن تنازع أهل هذا القول : هل يختلف الحكم باختلاف الألفاظ ؟ والصحيح أن المعني إذا كان واحدًا فالاعتبار بأي لفظ وقع، وذلك أن الاعتبار بمقاصد العقود وحقائقها لا باللفظ وحده، فما كان خلعًا فهو خلع بأي لفظ كان، وما كان طلاقاً فهو طلاق بأي لفظ كان، وما كان يمينًا فهو يمين بأي لفظ كان، وما كان إيلاء فهو إيلاء بأي لفظ كان، وما كان ظهارًا فهو ظهار بأي لفظ كان .
والله تعالى ذكر في كتابه الطلاق واليمين والظهار والإيلاء والافتداء ـ وهو الخلع ـ وجعل لكل واحد حكمًا، فيجب أن نعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، وندخل في الطلاق ما كان طلاقًا، وفي اليمين ما كان يمينًا، وفي الخلع ما كان خلعًا، وفي الظهار ما كان ظهارًا، وفي الإيلاء ما كان إيلاء . وهذا هو الثابت عن أئمة الصحابة وفقهائهم والتابعين لهم بإحسان . ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك ببعض، /فيجعل ما هو ظهار طلاقًا، فيكثر بذلك وقوع الطلاق الذي يبغضه الله ورسوله، ويحتاجون إما إلى دوام المكروه، وإما إلى زواله بما هو أكره إلى الله ورسوله منه، وهو نكاح التحليل .(2/29)
وأما الطلاق الذي شرعه الله ورسوله فهو أن يطلق امرأته إذا أراد طلاقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه، أو كانت حاملاً قد استبان حملها، ثم يدعها تتربص ثلاثة قروء، فإن كان له غرض راجعها في العدة، وإن لم يكن له فيها غرض، سرحها بإحسان . ثم إن بدا له بعد هذا إرجاعها، يتزوجها بعقد جديد، ثم إذا أراد ارتجاعها أو تزوجها، وإن أراد أن أن يطلقها طلقها، فهذا طلاق السنة المشروع .
ومن لم يطلق إلا طلاق السنة لم يحتج إلى ما حرم الله ورسوله من نكاح التحليل وغيره، بل إذا طلقها ثلاث تطليقات له في كل طلقة رجعة، أو عقد جديد، فهنا قد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، ولا يجوز عودها إليه بنكاح تحليل أصلاً، بل قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له واتفق على ذلك أصحابه وخلفاؤه الراشدون وغيرهم، فلا يعرف في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من خلفائه أو أصحابه أعاد المطلقة ثلاثًا إلى زوجها بعد نكاح تحليل أبدًا، ولا كان نكاح التحليل ظاهرًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان من يفعله سرًا، وقد لا تعرف المرأة ولا وليها وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، وفي الربا قال : ( لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه ) ، فلعن الكاتب والشهود، لأنهم كانوا يشهدون على دين الربا، ولم يكونوا يشهدون على نكاح التحليل .
/وأيضًا فإن النكاح لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكتب فيه صداق كما تكتب الديون، ولا كانوا يشهدون فيه لأجل الصداق، بل كانوا يعقدونه بينهم، وقد عرفوا به، ويسوق الرجل المهر للمرأة فلا يبقي لها عليه دين؛ فلهذا لم يذكر رسول الله في نكاح التحليل الكاتب والشهود كما ذكرهم في الربا .(2/30)
ولهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإشهاد على النكاح حديث . ونزاع العلماء في ذلك على أقوال في مذهب أحمد وغيره، فقيل : يجب الإعلان أشهدوا أو لم يشهدوا، فإذا أعلنوه ولم يشهدوا تم العقد، وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايات . وقيل : يجب الإشهاد؛ أعلنوه أو لم يعلنوه، فمتى أشهدوا وتواصوا بكتمانه لم يبطل، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات . وقيل : يجب الأمران : الإشهاد والإعلان . وقيل : يجب أحدهما، وكلاهما يذكر في مذهب أحمد .
وأما نكاح السر الذي يتواصون بكتمانه ولا يشهدون عليه أحدًا، فهو باطل عند عامة العلماء، وهو من جنس السفاح قال الله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } [ النساء : 24 ] ، وهذه المسائل مبسوطة في موضعها .(2/31)
/وإنما المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الأقوال الثابتة بالكتاب والسنة، وما فيها من العدل والحكمة والرحمة، وبين الأقوال المرجوحة، وإن ما بعث الله به نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة يجمع مصالح العباد في المعاش والمعاد على أكمل وجه، فإنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا نبي بعده، وقد جمع الله في شريعته ما فرقه في شرائع من قبله من الكمال؛ إذ ليس بعده نبي، فكمل به الأمر، كما كمل به الدين، فكتابه أفضل الكتب، وشرعه أفضل الشرائع، ومنهاجه أفضل المناهج، وأمته خير الأمم، وقد عصمها الله على لسانه فلا تجتمع على ضلالة، ولكن يكون عند بعضها من العلم والفهم ما ليس عند بعض، والعلماء ورثة الأنبياء، وقد قال تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [ الأنبياء : 78، 79 ] ، فهذان نبيان كريمان حكما في قصة فخص الله أحدهما بالفهم، ولم يعب الآخر، بل أثني عليهما جميعًا بالحكم والعلم . وهكذا حكم العلماء المجتهدين ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل العاملين بالكتاب .
وهذه القضية التي قضى فيها دواد وسليمان لعلماء المسلمين فيها وما يشبهها ـ أيضًا ـ قولان : منهم من يقضي بقضاء داود، ومنهم من يقضي بقضاء سليمان، وهذا هو الصواب، وكثير من العلماء أو أكثرهم لا يقول به، بل قد لا يعرفه . وقد بسطنا هذا في غير هذا الجواب . والله أعلم بالصواب .(2/32)
/وأما إذا حلف بالحرام فقال : الحرام يلزمنى لا أفعل كذا، أو الحل على حرام لا أفعل كذا، أو ما أحل الله على حرام إن فعلت كذا، أو ما يحل على المسلمين يحرم على إن فعلت كذا، أو نحو ذلك، وله زوجة، ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف، لكن القول الراجح أن هذه يمين لا يلزمه بها طلاق، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق، وهو مذهب أحمد المشهور عنه، حتى لو قال : أنت على حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده .
ولو قال أنت على كظهر أمي وقصد به الطلاق، فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء، وفي ذلك أنزل الله القرآن، فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقاً، والإيلاء طلاقًا، فرفع الله ذلك كله، وجعل في الظهار الكفارة الكبرى، وجعل الإيلاء يمينًا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر، فإما أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان . وكذلك قال كثير من السلف والخلف : إنه إذا كان مزوجاً فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقًا كان مظاهرًا، وهو مذهب أحمد .
وإذا حلف بالظهار، أو الحرام لا يفعل شيئًا، وحنث في يمنه، أجزأته الكفارة في مذهبه، لكن قيل : إن الواجب كفارة ظهار، سواء حلف /أو أوقع، وهو المنقول عن أحمد . وقيل : بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين، وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار . وهذا أقوى وأقيس على أصل أحمد وغيره . فالحالف بالحرام تجزئه كفارة يمين، كما تجزئ الحالف بالنذر إذا قال : إن فعلت كذا فعلى الحج، أو فمالي صدقة .
وكذلك إذا حلف بالعتق لزمته كفارة يمين عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين، وكذلك الحلف بالطلاق تجزئ ـ أيضًا ـ فيه كفارة يمين، كما أفتى من أفتى به من السلف والخلف، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذاك، بل معناه يوافقه . وكل يمين يحلف بها المسلمون من أيمانهم ففيها كفارة يمين، كما دل عليه الكتاب والسنة .(2/33)
وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو يعتق أو أن يظاهر، فهذا يلزمه ما أوقعه، سواء كان منجزًا أو معلقًا، فلا تجزئه كفارة يمين . والله أعلم بالصواب .
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) ، وقال آخر : إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث، وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه / وزاد في دنياه لم يدخل في ضمن هذا الحديث .
قال له ناقل الحديث : أنا لو فعلت كل ما لا يليق، وقلت لا إله إلا الله : دخلت الجنة ولم أدخل النار ؟(2/34)
فأجاب ـ رحمه الله : الحمد لله رب العالمين، من اعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين؛ فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهم كثيرون، بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويتصدقون، ولكن لا يتقبل منهم، قال الله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] وقال تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 53، 54 ] وقال تعالى : { إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [ النساء : 140 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } إلى قوله : { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ الحديد : 12 : 15 ] .(2/35)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) ولمسلم : ( وإن / صلى وصام وزعم أنه مسلم ) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) .
ولكن إن قال : لا إله إلا الله خالصًا صادقًا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد في النار، إذ لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من دخلها من فساق أهل القبلة من أهل السرقة، والزنا وشرب الخمر، وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم، وغير هؤلاء - فإنهم إذا عذبوا فيها عذبهم على قدر ذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة : ( منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا، أخرجوا بعد ذلك كالحمم، فيلقون في نهر يقال له الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويدخلون الجنة مكتوب على رقابهم : هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار ) . وتفصيل هذه المسألة في غير هذا الموضع، والله أعلم .
بعض صفات المنافقين في الظلال
الدرس الثالث:8 - 16 صفات المنافقين
ثم ننتقل - مع السياق - إلى الصورة الثالثة . أو إلى النموذج الثالث
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها . وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها . ولكنها تتلوى في الحس . وتروغ من البصر , وتخفى وتبين . . إنها صورة المنافقين:(2/36)
ومن الناس من يقول:آمنا بالله وباليوم الآخر , وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا , وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض , قالوا:إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم:آمنوا كما آمن الناس , قالوا:أنؤمن كما آمن السفهاء ? ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا . وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم , إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم , ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى , فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين . .
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ; ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا . نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح , أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح . وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس , وعلى تصورهم للأمور ! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية , موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل . وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل
إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر . وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)(2/37)
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ; ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم , فهم لا يخادعون المؤمنين , إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون:
(يخادعون الله والذين آمنوا) . .
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة , وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها , وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل صفهم صفه , وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه , ويأخذهم في كنفه , ويجعل عدوهم عدوه , وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ; والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق , والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها , وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته , ومعركته هي معركته , وعدوه هو عدوه , ويأخذه في صفة , ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ?!
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم , وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه , وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة .
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين , ولا خداع الخادعين , ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين . .(2/38)
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم:آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية:
(وما يخدعون إلا أنفسهم , وما يشعرون) . .
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور ! إن الله بخداعهم عليم ; والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق , ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه , والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر مصير !
ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة ? ولماذا يخادعون هذا الخداع
(في قلوبهم مرض) . .
في طبيعتهم آفة . في قلوبهم علة . وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم . ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه:
(فزادهم الله مرضا) . .
فالمرض ينشىء المرض , والانحراف يبدأ يسيرا , ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . سنة لا تتخلف . سنة الله في الأشياء والأوضاع , وفي المشاعر والسلوك . فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم . المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين:
(ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) .
وصفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول - صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد , والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون:
(وإذا قيل لهم:لا تفسدوا في الأرض , قالوا:إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون , ولكن لا يشعرون) . .(2/39)
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع , بل يضيفون اليهما السفه والادعاء: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) . . لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد , بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: (قالوا:إنما نحن مصلحون) . .
والذين يفسدون أشنع الفساد , ويقولون:إنهم مصلحون , كثيرون جدا في كل زمان . يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم . ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم . والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم , لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية , ولا يثوب إلى قاعدة ربانية . .
ومن ثم يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق:
(ألا إنهم هم المفسدون , ولكن لا يشعرون) . .
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس , ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس:
(وإذا قيل لهم:آمنوا كما آمن الناس , قالوا:أنؤمن كما آمن السفهاء ? ألا إنهم هم السفهاء , ولكن لا يعلمون) . .
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة , وأسلموا وجوههم لله , وفتحوا صدورهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين . . هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم . .
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول صلى الله عليه وسلم ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام ! ومن ثم قالوا قولتهم هذه: (أنؤمن كما آمن السفهاء ?) . . ومن ثم جاءهم الرد الحاسم , والتقرير الجازم:
(ألا إنهم هم السفهاء , ولكن لا يعلمون) . .
ومتى علم السفيه أنه سفيه ? ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم ?!(2/40)
ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين . . إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع , والسفه والادعاء , إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام:
(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا , وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم , إنما نحن مستهزؤون) . .
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة , والمكر السيىء براعة . وهو في حقيقته ضعف وخسة . فالقوي ليس لئيما ولا خبيثا , ولا خادعا ولا متآمرا ولا غمازا في الخفاء لمازا . وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة ,
ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين , ليتقوا الأذى , وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى . . هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم - وهم غالبا - اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته , كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندا وملاذا . . هؤلاء المنافقون كانوا (إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا:إنا معكم إنما نحن مستهزئون) - أي بالمؤمنين - بما نظهره من الإيمان والتصديق !
وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم , حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي:
(الله يستهزئ بهم , ويمدهم في طغيانهم يعمهون) . .
وما أبأس من يستهزيء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه !! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب . وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب .
وهو يقرأ:(الله يستهزئ بهم , ويمدهم في طغيانهم يعمهون) . . فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته , واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته , كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ , غافلة عن المقبض المكين . . وهذا هو الاستهزاء الرعيب , لا كاستهزائهم الهزيل الصغير .(2/41)
وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها . حقيقة تولي الله - سبحانه - للمعركة التي يراد بها المؤمنون . وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله , ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين , المتركين في عماهم يخبطون , المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم , وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم , والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك , وهم غافلون يعمهون !
والكلمة الأخيرة التي تصور حقيقة حالهم , ومدى خسرانهم:
(أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى , فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) . . فلقد كانوا يملكون الهدى لو أرادوا . كان الهدى مبذولا لهم . وكان في أيديهم . وكلنهم (اشتروا الضلالة بالهدى) , كأغفل ما يكون المتجرون:
(فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) . .
الدرس الرابع:17 -20 مثلان مصوران لخسارة المنافقين
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرفه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية . .
ذلك أن كلا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء وفيه بساطة على معنى من المعاني . . الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها , والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها . أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة . وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات , ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة . .
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة , ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه ; كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم , ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم .(2/42)
وزيادة في الإيضاح , يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة ويكشف عن طبيعتها , وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا:
(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا , فلما أضاءت ما حوله , ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون) . .
. إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء , ولم يصموا آذانهم عن السماع , وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك , كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار , فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها . عندئذ (ذهب الله بنورهم) الذي طلبوه ثم تركوه: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) جزاء إعراضهم عن النور !
وإذا كانت الآذان والألسنة والعيون , لتلقي الأصداء والأضواء , والانتفاع بالهدى والنور , فهم قد عطلوا آذانهم فهم(صم) وعطلوا ألسنتهم فهم(بكم) وعطلوا عيونهم فهم(عمي) . . فلا رجعة لهم إلى الحق , ولا أوبة لهم إلى الهدى . ولا هداية لهم إلى النور !
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة:
(أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق , يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه , وإذا أظلم عليهم قاموا , ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير) . .
إنه مشهد عجيب , حافل بالحركة , مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال , وفيه هول ورعب , وفيه فزع وحيرة , وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير (فيه ظلمات ورعد وبرق) . . (كلما أضاء لهم مشوا فيه) . . (وإذا أظلم عليهم قاموا) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) . .(2/43)
إن الحركة التي تغمر المشهد كله:من الصيب الهاطل , إلى الظلمات والرعد والبرق , إلى الحائرين المفزعين فيه , إلى الخطوات المروعة الوجلة , التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين , وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ; ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .
الدرس الخامس:مقدمة الدرس تحقيق الفئة المقصودة بالآيات
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين - قيل إن بعضهم من المهاجرين , الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين . حيث لم يكن مأذونا لهم - بعد في قتال , للحكمة التي يعلمها الله ; والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد . . فلما كتب عليهم القتال , بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة , وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية . . إذا هم - كما يصورهم القرآن - "يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ! وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ! لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! " ممن إذا أصابهم الحسنة قالوا :هذه من عند الله . وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: هذه من عندك . وممن يقولون:طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم بيت طائفة منهم غير الذي تقول) . وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . . .(2/44)
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء , في الأسلوب القرآني ; الذي يصور حالة النفس , كما لو كانت مشهدا يرى ويحس ! ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة , والأجل والقدر , والخير والشر , والنفع والضرر , والكسب والخسارة , والموازين والقيم ; ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة:
(ألم تر إلى الذين قيل لهم:كفوا أيديكم , وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ? قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة . وإن تصبهم حسنة يقولوا:هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل:كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ? ما أصابك من حسنة فمن الله . وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا , وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ; من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) .
(ويقولون:طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم , وتوكل على الله , وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) .
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) . .
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات ; قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: (وإن منكم لمن ليبطئن) . . الآيات . . ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين ; التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها .(2/45)
وقد كدنا نرجح هذا الرأي ; لأن ملامح النفاق واضحة , فيما تصفه هذه المجموعات كلها . وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم , أمر أقرب إلى طبيعتهم , وإلى سوابقهم كذلك . وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا . .
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين:[ قيل لهم:كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال . . الآيات ] هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين , المندسين في الصف المسلم . وربما كلها وصفا للمنافقين عامة ; وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال .
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى ; وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان ; أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ; ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم . .
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع , لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذونا لهم في القتال - فقيل لهم: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) . .(2/46)
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي صلى الله عليه وسلم من ميلهم على أهل منى - أي قتلهم - لو أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورده عليهم:" إننا لم نؤمر بقتال " . . فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعه العقبة - في المنافقين , الذين تتحدث عنهم بقية الآيات . ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى . فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف ; رضي الله عنهم جميعا .
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجوعة واردة في بعض من المهاجرين , الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال . . وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم , بل في المنافقين . لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون الحسنة ! أو قول الطاعة وتبييت غيرها . . وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف . لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام , ولا تدل على النفاق . .
والحق . . أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء . والروايات الواردةعنها ليس فيها جزم كذلك بشيء . . حتى في آيات المجموعة الأولى . التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين ; كما ورد أنها في طائفة من المنافقين !
ومن ثم نأخذ بالأحوط ; في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر . التي وردت في الآيات السابقة . ومن سمة إسناد السيئه للرسول صلى الله عليه وسلم دون الحسنة , ورد هذه وحدها إلى الله ! ومن سمة تبييت غير الطاعة . . وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني , ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية !!! والله المعين .(2/47)
الوحدة الرابعة:46 - 57 الموضوع:
التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين موضوع الوحدة
بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور , في مشاهد الكون الكبير . . يعود سياق السورة إلى موضوعهاالأصيل . موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة , لتتطهر قلوبها وتشرق , وتتصل بنور الله في السماوات والأرض .
ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم , وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض .
فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين , الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون . فهم يظهرون الإسلام , ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرضى بحكمه , والطمأنينة إليه . ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم . أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض , والتمكين في الدين , والأمن في المقام , جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله . وطاعتهم لله ورسوله . وذلك على الرغم من عداء الكافرين . وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير . .
الدرس الأول:46 - 53 رفض المنافقين حكم الله وقبول المؤمنين ذلك
(لقد أنزلنا آيات مبينات . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . .
فآيات الله مبينة كاشفة ; تجلو نور الله , وتكشف عن ينابيع هداه . وتحدد الخير والشر , والطيب والخبيث . وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملا دقيقا لا لبس فيه ولا غموض ; وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام . فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة , لا يخشى منها صاحب حق على حقه ; ولا يلتبس فيها حق بباطل , ولا حلال بحرام .
((2/48)
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . . والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد . غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقا , ومن وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره , فاتصل به , وسار على الدرب , حتى يصل - بمشيئة الله - ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال . حسب مشيئة الله في الهدى والضلال .
ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس . فريق المنافقين , الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام:
(ويقولون:آمنا بالله وبالرسول وأطعنا . ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك . وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? بل أولئك هم الظالمون) . .
إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك . والإسلام عقيدة متحركة , لا تطيق السلبية . فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ; ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع . ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية ; وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون . مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة , لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل .
وهؤلاء كانوا يقولون: (آمنا بالله وبالرسول وأطعنا) . . يقولونها بأفواههم , ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم . فيتولون ناكصين ; يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان: (وما أولئك بالمؤمنين) فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم . والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها ; ثم يدعها ويمضي . إنما هو تكيف في النفس , وانطباع في القلب , وعمل في الواقع , ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير . .(2/49)
ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شريعة الله التي جاء بها:
(وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) . .
فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق , ولا ينحرف مع الهوى , ولا يتأثر بالمودة والشنآن . وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل . ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأبون أن يجيئوا إليه . فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله , راضين خاضعين , لأنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم , وفق شريعة الله , التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق .
هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان , ثم يسلك هذا السلوك الملتوي , إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان . المنافقين الذي لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر , فيتظاهرون بالإسلام . ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله , ولا أن يحكم فيهم قانونه , فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير (وما أولئك بالمؤمنين) فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله . إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه !
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق . وهو المظهر الذي ينبى ء عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب . وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله . وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سييء الأدب معتم , لم يتأدب بأدب الإسلام , ولم يشرق قلبه بنور الإيمان .
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم , وتتعجب من ريبتهم , وتستنكر تصرفهم الغريب:
(أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ?) . .(2/50)
والسؤال الأول للإثبات . فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الأثر . وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها , فلا تتذوق حقيقة الإيمان , ولا تسير على نهجه القويم .
والسؤال الثاني للتعجب . فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان ? هل هم يشكون في مجيئه من عند الله ? أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !
والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب . فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?
إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف . لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا . وكل خلقه أمامه سواء , فلا يظلم أحد منهم لمصلحة أحد . وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف . فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم . أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة .
وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه . وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة , وحين تشرع دولة لدولة . أو كتلة من الدول لكتلة . . فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة .
إنما هي العدالة المطلقة , التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله , ولا يحققها حكم غير حكمه .
من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون , الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر ; ولا يحبون للحق أن يسود . فهم لا يخشون في حكم الله حيفا , ولا يرتابون في عدالته أصلا (بل أولئك هم الظالمون) . .
فأما المؤمنون حقا فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله . ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ; هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبى ء عن إشراق قلوبهم بالنور:
((2/51)
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا:سمعنا وأطعنا . وأولئك هم المفلحون) . .
فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف . السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق لله , واهب الحياة , المتصرف فيها كيف يشاء ; ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم . فالله الذي خلق أعلم بمن خلق . .
(وأولئك هم المفلحون) . . المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بعلمه وعدله ; فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بشر مثلهم , قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا . . والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد , لا عوج فيه ولا التواء , مطمئنون إلى هذا المنهج , ماضون فيه لا يتخبطون , فلا تتوزع طاقاتهم , ولا يمزقهم الهوى كل ممزق , ولا تقودهم الشهوات والأهواء . والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم .
(ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) . .
وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام . فالآن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي , مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه . والتقوى أعم من الخشية , فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة ; والتحرج من إتيان ما يكره توقيرا لذاته سبحانه , وإجلالا له , وحياء منه , إلى جانب الخوف والخشية .(2/52)
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون , الناجون في دنياهم وأخراهم . وعد الله ولن يخلف الله وعده . وهم للفوز أهل , ولديهم أسبابه من واقع حياتهم . فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة , وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة . وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج , وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه , فلا ينحرفون ولا يلتفتون .
وأدب الطاعة لله ورسوله , مع خشية الله وتقواه , أدب رفيع , ينبىء عن مدى إشراق القلب بنور الله , واتصاله به , وشعوره بهيبته . كما ينبىء عن عزة القلب المؤمن واستعلائه . فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله , ولا تستمد منها , هي ذلة يأباها الكريم , وينفر منها طبع المؤمن , ويستعلي عليها ضميره . فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار .
وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين , وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان , وما هم بمؤمنين , بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين:
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن . قل:لا تقسموا . طاعة معروفة . إن الله خبير بما تعملون . قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم . وإن تطيعوه تهتدوا . وما على الرسول إلا البلاغ المبين) . .
ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن والله يعلم إنهم لكاذبون . فهو يرد عليهم متهكما , ساخرا من أيمانهم . (قل:لا تقسموا . طاعة معروفة) . . لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها , مفروغ منها , لا تحتاج إلى حلف أو توكيد ! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به:لا تحلف لي على صدقك . فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل .(2/53)
ويعقب على التهكم الساخر بقوله: (إن الله خبير بما تعملون) . . فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد , وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون !
لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة . الطاعة الحقيقية . لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة !
(قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) . .
(فإن تولوا) وتعرضوا , أو تنافقوا ولا تنفذوا (فإنما عليه ما حمل) من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وعليكم ما حملتم) وهو أن تطيعوا وتخلصوا . وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: (وإن تطيعوه تهتدوا) إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح . (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) فليس مسؤولا عن إيمانكم , وليس مقصرا إذا أنتم توليتم . إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول .
الدرس الثاني:55 - 57 وعد المؤمنين بالتمكين وانتصار الدين
وبعد استعراض أمر المنافقين , والانتهاء منه على هذا النحو . . يدعهم السياق وشأنهم , ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين , يبين جزاء الطاعة المخلصة , والإيمان العامل , في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير:
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ; وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ; وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . يعبدونني لا يشركون بي شيئا . ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . .
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?(2/54)
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ?
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !(2/55)
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) . . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) . . ولقد كانوا خائفين , لا يأمنون , ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة .(2/56)
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية:كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده , وإلى عبادته وحده بلا شريك له , سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة , فقدموها , فأمرهم الله بالقتال , فكانوا بها خائفين , يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ; فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال:يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم - " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة " . وأنزل الله هذه الآية , فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب , فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه , فأدخل الله عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط , وغيروا فغير بهم . .
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . . الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله . .
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) . . لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء , وجازت الابتلاء , وخافت فطلبت الأمن , وذلت فطلبت العزة , وتخلفت فطلبت الاستخلاف . . كل ذلك بوسائله التي أرادها الله , وبشروطه التي قررها الله . . تحقق وعد الله الذي لا يتخلف , ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .(2/57)
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة , وبألا يحسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم:
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة , وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض . ومأواهم النار ولبئس المصير) . .
فهذه هي العدة . . الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: (لعلكم ترحمون) في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .
فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات . ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية , وهو يدرك شروطها على حقيقتها , قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب , أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالات .
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله , وحكمت هذا النهج في الحياة , وارتضته في كل أمورها . . إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن . وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة , وذلت , وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها الأعداء .
ألا وإن وعد الله قائم . ألا وإن شرط الله معروف . فمن شاء الوعد فليقم بالشرط . ومن أوفى بعهده من الله ?
سورة المنافقون(2/58)
إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
سورة المنافقون
تقديم لسورة المنافقون
هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص "المنافقون" الدال على موضوعها . . ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين , ووصف أحوالهم ومكائدهم . فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحا أو تصريحا . ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين , والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم .
وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم , وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين , ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب .
وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين , ولو من بعيد . وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله , والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد , والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات .(2/59)
وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة , واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع في أي وقت تقريبا , وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين . . هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها ; وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدرا كبيرا ; وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة , وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين .
وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب:"سيرة الرسول:صور مقتبسة من القرآن الكريم" لمؤلفه الأستاذ "محمد عزة دروزة " نقتطف منه فقرات كاشفة:
"وعلة ظهور تلك الحركة في المدينة واضحة , فالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم , فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر , وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء , كما كان شأن المنافقين بوجه عام . ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهارا , ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد , ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ ; وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فرارا بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولا , ثم إلى يثرب ; وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه , أو بالإغراء والتهويش ; وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين , وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب . . .(2/60)
"أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفا جدا . فالنبي صلى الله عليه وسلم استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصارا أقوياء من الأوس والخزرج ; ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه , ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام . ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به - إما عن جهالة وغباء , وإما عن غيظ وحقد وعناد , لأنهم رأوا في قدوم النبي حدا لنفوذهم وسلطانهم - موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار ; وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف , لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي , ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر , إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم , وغدوا يرون في النبي رسول الله , وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة , ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع , فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك , ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد , ويحملهم ذلك على مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ونفوذه - أن يظهروا علنا في نزعتهموعدائهم , ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام , والقيام بأركانه , والتضامن مع قبائلهم . وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه , وإذا كانوا وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس , وعليها طابع من النفاق بارز , فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين , والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط ; ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق , غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار , كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا .(2/61)
وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة , وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون , وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم , وتحذر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة .
"ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية , حتى لكأنه نضال قوي , يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة , وإن اختلفت الأدوار والنتائج ; إذ أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد , ودائرة الإسلام تتسع , وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز ; وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة , وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام , وتوطد عزته وسلطانه" .
[(2/62)
ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون , وخاصة في أوائل العهد , أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم , كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة , ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا ; وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان محوطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب , وأهل مكة خصومه الألداء , وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر , ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه ; واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به , ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر ; ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى , والتضامن في موقف المعارضة والكيد , حتى ليمكن القول:إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد , وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق , ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن الله للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم , وكفاه شرهم ] .
الدرس الأول:1 - 4 سبب تكذيب المنافقين وتلاعبهم وصدهم عن سبيل الله وتصوير جبنهم
وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر , وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله . وحلفهم كذبا ليصدقهم المسلمون , واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم , ويخدعون المسلمين فيهم:
(إذا جاءك المنافقون قالوا:نشهد إنك لرسول الله - والله يعلم إنك لرسوله - والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله , إنهم ساء ما كانوا يعملون) . .(2/63)
فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان , لا يقصدون بها وجه الحق , إنما يقولونها للتقية , وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين . فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة , فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها , ويداروا أنفسهم بقولها . ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة: (والله يعلم إنك لرسوله) . . (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) .
والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه . فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين . ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقا ولا يشهدون بها خالصي الضمير !
(اتخذوا أيمانهم جنة) . . وهي توحي بأنهم كانوا يحلفون الأيمان كلما انكشف أمرهم , أو عرف عنهم كيد أو تدبير , أو نقلت عنهم مقالة سوء في المسلمين . كانوا يحلفون ليتقوا ما يترتب على افتضاح أمر من أمورهم , فيجعلون أيمانهم وقاية وجنة يحتمون وراءها , ليواصلوا كيدهم ودسهم وإغواءهم للمخدوعين فيهم . (فصدوا عن سبيل الله) . . صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم مستعينين بتلك الأيمان الكاذبة: (إنهم ساء ما كانوا يعملون) . . وهل أسوأ من الكذب للخداع والتضليل ! ?
ويعلل حالهم هذه من شهادة مدخولة كاذبة , وأيمان مكذوبة خادعة , وصد عن سبيل الله وسوء عمل . . يعلله بأنهم كفروا بعد الإيمان , واختاروا الكفر بعد أن عرفوا الإسلام:
(ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم , فهم لا يفقهون) . .(2/64)
فهم عرفوا الإيمان إذن , ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر . وما يعرف الإيمان ثم يعود إلى الكفر قلب فيه فقه , أو تذوق , أو حياة . وإلا فمن ذا الذي يذوق ويعرف , ويطلع على التصور الإيماني للوجود , وعلى التذوق الإيماني للحياة , ويتنفس في جو الإيمان الذكي , ويحيا في نور الإيمان الوضيء , ويتفيأ ظلال الإيمان الندية . . ثم يعود إلى الكفر الكالح الميت الخاوي المجدب الكنود ? من ذا الذي يصنع هذا إلا المطموس الكنود الحقود , الذي لا يفقه ولا يحس ولا يشعر بهذا الفارق البعيد ! (فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) . .
ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة ; تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس , وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود . بل تنصبهم تمثالا وهدفا للسخرية في معرض الوجود:
(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم . وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة . يحسبون كل صيحة عليهم . هم العدو فاحذرهم . قاتلهم الله ! أنى يؤفكون ?) . .
فهم أجسام تعجب . لا أناسي تتجاوب ! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون . . فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة . . (تسمع لقولهم كأنهم خشب) . . ولكنها ليست خشبا فحسب . إنما هي (خشب مسندة) . . لا حركة لها , ملطوعة بجانب الجدار !
هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح ! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم:
(يحسبون كل صيحة عليهم) . .
فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء . وهم يخشون في كل لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف . والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم ; يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف , يحسبونه يطلبهم , وقد عرف حقيقة أمرهم !!(2/65)
وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان . . إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال !
وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين:
(هم العدو فاحذرهم) . .
هم العدو الحقيقي . العدو الكامن داخل المعسكر , المختبئ في الصف . وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح .(فاحذرهم) . . ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤمر هنا بقتلهم , فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم - كما سيجيء نموذج من هذه المعاملة بعد قليل - . .
(قاتلهم الله أنى يؤفكون) . .
فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا . والدعاء من الله حكم بمدلول هذا الدعاء , وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه . . وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف .
الدرس الثاني:5 - 8 تآمر المنافقين على المسلمين وقصة ابن أبي في الفتنة
ويستطرد السياق في وصف تصرفاتهم الدالة على دخل قلوبهم , وتبييتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكذبهم عند المواجهة . . وهي مجموعة من الصفات اشتهر بها المنافقون:
(وإذا قيل لهم:تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم , ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون . سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم , لن يغفر الله لهم , إن الله لا يهدي القوم الفاسقين . هم الذين يقولون:لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا . ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون . يقولون:لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . ولكن المنافقين لا يعلمون) . .
وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبدالله بن أبي بن سلول:(2/66)
وفصل ابن إسحاق هذا في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست على المريسيع . . ماء لهم . . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء - بعد الغزوة - وردت واردة الناس , ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له:جهجاه بن مسعود يقود فرسه , فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون ابن الخزرج على الماء , فاقتتلا , فصرخ الجهني:يا معشر الأنصار . وصرخ جهجاه . يا معشر المهاجرين . فغضب عبدالله بن أبي بن سلول , وعنده رهط من قومه , فيهم زيد بن أرقم غلام حدث . فقال:أوقد فعلوها ? قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا . والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول:سمن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم:هذا ما فعلتم بأنفسكم:أحللتموهم بلادكم , وقاسمتموهم أموالكم , أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم . فسمع ذلك زيد بن أرقم . فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه , فأخبره الخبر , وعنده عمر بن الخطاب . فقال:مر به عباد بن بشر فليقتله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ? لا ولكن أذن بالرحيل " . وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها . فارتحل الناس , وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه - فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به . وكان في قومه شريفا عظيما . فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه:يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل . حدبا على ابن أبي بن سلول ودفعا عنه .(2/67)
قال ابن إسحاق فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير , فحياه بتحية النبوة وسلم عليه , ثم قال:يا نبي الله , والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أو ما بلغك ما قال صاحبكم ? " قال:وأي صاحب يا رسول الله ? قال " عبدالله بن أبي " قال:وما قال ? قال:" زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل ? " قال:فأنت يا رسول الله والله لتخرجنه منها إن شئت . هو والله الذليل وأنت العزيز . ثم قال:يا رسول الله ارفق به . فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه , فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا !
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى , وليلتهم حتى أصبح , وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس . ثم نزل بالناس , فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما , وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبدالله ابن أبي .
قال ابن إسحاق:ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين , في ابن أبي ومن كان على مثل أمره . فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن ارقم , ثم قال:" هذا الذي أوفى لله بأذنه " . . وبلغ عبدالله بن عبدالله بن أبي الذي كان من أمر أبيه .
قال ابن إسحاق . فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبدالله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله , إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه . فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه , فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني , وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله , فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس , فأقتله , فأقتل مؤمنا بكافر , فأدخل النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا " .(2/68)
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم:" كيف ترى يا عمر ? أما والله لو قتلته يوم قلت لي:اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته " . . قال:قال عمر:قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري . .
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبدالله بن عبدالله بن أبي على باب المدينة , واستل سيفه , فجعل الناس يمرون عليه , فلما جاء أبوه عبدالله بن أبي قال له ابنه:وراءك ! فقال:مالك ? ويلك ! فقال:والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل ! فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة , فشكا إليهعبدالله بن أبي ابنه . فقال ابنه عبدالله:والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن . .
وننظر مرة إلى الأحداث , ومرة إلى الرجال , ومرة إلى النص القرآني , فنجدنا مع السيرة , ومع المنهج التربوي الإلهي , ومع قدر الله العجيب في تصريف الأمور . .(2/69)
فهذا هو الصف المسلم يندس فيه المنافقون ; ويعيشون فيه - في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة عشر سنوات . والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرجهم من الصف , ولا يعرفهم الله له بأسمائهم وأعيانهم إلا قبيل وفاته . وإن كان يعرفهم في لحن القول , بالالتواء والمداورة . ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات . ذلك كي لا يكل الله قلوب الناس للناس . فالقلوب له وحده , وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه , فأما الناس فلهم ظاهر الأمر ; كي لا يأخذوا الناس بالظنة , وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة ! وحتى حينما عرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنفر الذين ظلوا على نفاقهم إلى أواخر حياته , فإنه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدون فرائضه . إنما عرفهم وعرف بهم واحدا فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - ولم يشع ذلك بين المسلمين . حتى إن عمر - رضي الله عنه - كان يأتي حذيفة ليطمئن منه على نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمه له من المنافقين ! وكان حذيفة يقول له:يا عمر لست منهم . ولا يزيد ! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبدا . فكان أصحابه يعرفون عندما يرون الرسول لا يصلي على ميت . فلما قبض صلى الله عليه وسلم كان حذيفة لا يصلي على من عرف أنه منهم . وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتى ينظر . فإن رأى حذيفة هناك علم أنه ليس من المجموعة وإلا لم يصل هو الآخر ولم يقل شيئا !
وهكذا كانت تجري الأحداث - كما يرسمها القدر - لحكمتها ولغايتها , للتربية والعبرة وبناء الأخلاق والنظم والآداب .
وهذا الحادث الذي نزلت فيه تلك الآيات هو وحده موضع عبر وعظات جمة . .(2/70)
هذا عبدالله بن أبي بن سلول . يعيش بين المسلمين . قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوالى الأحداث والآيات من بين يديه ومن خلفه على حقيقة هذا الدين وصدق هذا الرسول . ولكن الله لا يهدي قلبه للإيمان , لأنه لم يكتب له هذه الرحمة وهذه النعمة . وتقف دونه ودون هذا الفيض المتدفق من النور والتأثير , تقف دونه إحنة في صدره أن لم يكن ملكا على الأوس والخزرج , بسبب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام إلى المدينة ! فتكفه هذه وحدها عن الهدى . الذي تواجهه دلائله من كل جانب . وهو يعيش في فيض الإسلام ومده في يثرب !
وهذا ابنه عبدالله - رضي الله عنه وأرضاه - نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع . يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه . ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف . ويسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل أباه هذا . فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينة , يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة . إنه يحب الإسلام , ويحب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه . ولكنه لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه . وهو يخشى أن تخونه نفسه , وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية , وهتاف الثأر . . وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه , ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه . فيطلب منه إن كان لا بد فاعلا أن يأمره هو بقتل أبيه . وهو لا بد مطيع . وهو يأتيه برأسه . كي لا يتولى ذلك غيره , فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض . فيقتله . فيقتل مؤمنا بكافر . فيدخل النار . .(2/71)
وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلب النظر في هذا الموقف الكريم . روعة الإيمان في قلب إنسان , وهو يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية - أن يقتل أباه - وهو صادق النية فيما يعرض . يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق . . وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر , فيدخل النار . . وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول:"فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني" . وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج ; لا بأن يرد أمره أو يغيره - فالأمر مطاع والإشارة نافذة - ولكن بأن يكل إليه هو أن يأتيه برأسه !
والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المحرجة , فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة:[ بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا ] . . ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رأيه:" فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ? " .
ثم تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في الحادث تصرف القائد الملهم الحكيم . . وأمره بالسير في غير أوان , ومتابعة السير حتى الإعياء , ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين:يا للأنصار ! يا للمهاجين ! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبدالله بن أبي بن سلول , وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان . . وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أسيد بن حضير , وما فيه من تعبئة روحية ضد الفتنة , واستجاشة للأخذ على يد صاحبها وهو صاحب المكانة في قومه حتى بعد الإسلام !(2/72)
وأخيرا نقف أمام المشهد الرائع الأخير . مشهد الرجل المؤمن عبدالله بن عبدالله بن أبي . وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل . تصديقا لمقاله هو: (ليخرجن الأعز منها الأذل) . ليعلم أن رسول الله هو الأعز . وأنه هو الأذل . ويظل يقفه حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن له . فيدخلها بإذنه . ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل . في نفس الواقعة . وفي ذات الأوان .
ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال . رفعهم إلى هذه القمة , وهم بعد بشر , بهم ضعف البشر , وفيهم عواطف البشر , وخوالج البشر . وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة , حين يدركها الناس على حقيقتها , وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق .
ثم نعيش في ظلال النصوص القرآنية التي تضمنت تلك الأحداث:
(وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم , ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) . .
فهم يفعلون الفعلة , ويطلقون القولة . فإذا عرفوا أنها بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأيمان يتخذونها جنة . فإذا قال لهم قائل:تعالوا يستغفر لكم رسول الله , وهم في أمن من مواجهته , لووا رؤوسهم ترفعا واستكبارا ! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة . وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام . ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة ; فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة . حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان !
ومن ثم يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قضاه الله في شأنهم على كل حال . وبعدم جدوى الاستغفار لهم بعد قضاء الله:
(سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم . إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) . .(2/73)
ويحكي طرفا من فسقهم , الذي استوجب قضاء الله فيهم:
(هم الذين يقولون:لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) . .
وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع , ولؤم النحيزة . وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان , في حرب العقيدة ومناهضة الأديان . ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يسحبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين .
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين !
وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه تحت وطأة الضيق والجوع !
وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين , ليموتوا جوعا أو يكفروا بالله , ويتركوا الصلاة !
وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام , بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق . .
وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان , من قديم الزمان , إلى هذا الزمان . . ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية:
(ولله خزائن السماوات والأرض . ولكن المنافقين لا يفقهون) . .
ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين , فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم . فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين !(2/74)
وهكذا يثبت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة , التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم . ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع . والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه . فقد شاءت رحمته ألا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق . وقد علم أنهم لا يرزقون أنفسهم كثيرا ولا قليلا لو قطع عنهم الأرزاق ! وهو أكرم أن يكل عباده - ولو كانوا أعداءه - إلى ما يعجزون عنه البتة . فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء !
ثم قولتهم الأخيرة:
(يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) . .
وقد رأينا كيف حقق ذلك عبدالله بن عبدالله بن أبي ! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز !
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . ولكن المنافقين لا يعلمون) . .
ويضم الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه , ويضفي عليهم من عزته , وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله ! وأي تكريم بعد أن يوقف الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره . ويقول:ها نحن أولاء ! هذا لواء الأعزاء . وهذا هو الصف العزيز !
وصدق الله . فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن . العزة المستمدة من عزته تعالى . العزة التي لا تهون ولا تهن , ولا تنحني ولا تلين . ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان . فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة . .
(ولكن المنافقين لا يعلمون) . .
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل ?(2/75)