صفاتُ المفلحينَ في القرآن والسُّنَّةِ
بقلم
الباحث في الكتاب والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين .
أما بعد :
فقد ذكر الله تعالى المفلحين في القرآن الكريم وأثنى عليهم خيرا ، وبين صفاتهم ، وما أعدَّ لهم من الجزاء الأوفى في الدارين .
و في هذا الكتاب مقدمة حول معنى الفلاح ، و بابان :
الباب الأول- صفات المفلحين في القرآن والسنة ، وقد نافت على الأربعين .
الباب الثاني – صفات الذين لا يفلحون في القرآن والسنة .
وقد قمت بشرحها بشكل مختصر من أمهات كتب التفسير ، ولم أتعرض لكثير من تفاصيل الآيات ، وإنما كان التركيز على الجانب السلوكي والاجتماعي ، وذكرت كثيرا من الأحاديث التي تعين على فهم ذلك ، وقمت بتخريخها من مظانها والحكم عليها بشكل مختصر .
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) سورة آل عمران
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 4 ربيع الآخر 1429 هـ الموافق ل 10/4/2008 م
تم اختصاره وتهذيبه بتاريخ 9 رجب 1429 هـ الموافق 12/7/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
مقدمة
حول معنى الفلاح في القرآن الكريم(1)
الفلح: الشق، وقيل: الحديد بالحديد يفلح(2)، أي: يشق. والفلاح: الأكار لذلك، والفلاح: الظفر وإدراك بغية، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي؛ فالدنيوي: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، وهو البقاء والغنى والعز، وإياه قصد الشاعر بقوله:
__________
(1) - مفردات ألفاظ القرآن ـ نسخة محققة - (ج 2 / ص 203)
(2) - (انظر: المجمل 3/705؛ واللسان (فلح) ؛ والأمثال ص 96)،(1/1)
*أفلح بما شئت فقد يدرك بالض**ضعف وقد يخدع الأريب*
(البيت لعبيد بن الأبرص، من قصيدة له مطلعها(1):
أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب
وفلاح أخروي، وذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل. ولذلك قيل: (لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ) (الحديث عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم: « اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ »(2).
__________
(1) - وهو في ديوانه ص 26؛ وتفسير القرطبي 1/182)
(2) - أخرجه البخاري في فضائل الصحابة 7/90؛ ومسلم برقم 1805؛ وأحمد 3/170)(1/2)
وقال تعالى: { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (64) سورة العنكبوت ، { أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (22) سورة المجادلة ، {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (14) سورة الأعلى ، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (9) سورة الشمس ، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) سورة المؤمنون { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189) سورة البقرة ، { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (117) سورة المؤمنون {فأولئك هم المفلحون} [الحشر/9]، وقوله: { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} (64) سورة طه ، فيصح أنهم قصدوا به الفلاح الدنيوي، وهو الأقرب، وسمي السحور الفلاح، ويقال: إنه سمي بذلك لقولهم عنده: حي على الفلاح، وقولهم في الأذان: (حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) أي: على الظفر الذي جعله الله لنا بالصلاة، عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْهُ حَتَّى بَقِىَ سَبْعُ لَيَالٍ فَقَامَ بِنَا لَيْلَةَ السَّابِعَةِ حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ كَانَتِ اللَّيْلَةُ السَّادِسَةُ الَّتِى تَلِيهَا فَلَمْ يَقُمْهَا حَتَّى كَانَتِ الْخَامِسَةُ الَّتِى تَلِيهَا ثُمَّ قَامَ بِنَا حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ. فَقَالَ « إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَإِنَّهُ يَعْدِلُ قِيَامَ لَيْلَةٍ ». ثُمَّ كَانَتِ الرَّابِعَةُ الَّتِى تَلِيهَا فَلَمْ يَقُمْهَا حَتَّى كَانَتِ الثَّالِثَةُ الَّتِى تَلِيهَا. قَالَ فَجَمَعَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ. قَالَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلاَحُ. قِيلَ وَمَا الْفَلاَحُ قَالَ السُّحُورُ.(1/3)
قَالَ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ..(1)
وقال الزبيدي(2):
" الفَلحُ محرّكَةً والفَلاحُ : الفَوْزُ بما يُغْتبَط به وفيه صَلاحُ الحال . والنَّجاةُ والبَقاءُ في النّعيم والخَيرِ . وفي حديث أَبى الدّحداح بشَّرك اللّهُ بخَير وفَلَحٍ أَي بَقَاءِ وفَوْزٍ وهو مقصورٌ من الفَلاح وقولهم : لا أَفْعَلُ ذلك فَلاحَ الدّهْرِ أَي بقاءَه . وقال الشاعر :
" ولكنْ ليَس في الدُّنْيَا فَلاَحُ أَي بقاءٌ وفي التهذيب عن ابن السِّكّيت : الفَلَحُ والفَلاحُ : البقاءُ قال الأَعشي :
ولئن كنّا كقَوْمٍ هَلَكوا ... ما لِحَيٍّ يا لَقَومٍ مِنْ فَلَحْ وقال عَديّ :
ثمَّ بعدَ الفَلاَحِ والرُّشْدِ والإِ ... مَّةِ وَارَتْهُم هُنَاكَ القُبورُ وقال الأَضبطُ بن قُرَيعٍ السَّعْديّ :
لكلِّ هَمٍّ من الهُمُومِ سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُّبْحُ لا فَلاَحَ معَه
__________
(1) - أخرجه أبو داود برقم (1375) ؛ وابن ماجه 1/420؛ والنسائي 3/83: باب من صلى مع الإمام حتى ينصرف؛ وأحمد 5/160)، أي: الظفر الذي يجعل لنا بصلاة العتمة.
(2) - تاج العروس - (ج 1 / ص 1701)(1/4)
يقول : ليس مع كرِّ اللّيلِ والنّهَارِ بقاءٌ . وفي حديث الأَذان : حَيَّ على الفَلاَح يعني هَلُمَّ على بَقاءِ الخَير . وقيل : أَسْرِعْ إِلى الفَوزِ بالبقاءِ الدّائمِ . وقال ابنُ الأَثير : وهو مِن أَفلَحَ كَالنَّجاح من أَنجَحَ أَي هَلُمُّوا إِلى سَببِ البقاءِ في الجَنّة والفَوْزِ بها وهو الصّلاة في الجَمَاعَة . قلت : فليس في كلام العرب كلِّه أَجمعُ من لفظَةِ الفلاحِ لخيرَيِ الدُّنيا والآخرة كما قاله أَئمّةُ اللِّسَان . و في الحديث صَلَّينا معَ رَسُول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلّم حتَّى خَشِينَا أَن يَفُوتَنا الفَلاحُ أَي السَّحورُ كالفَلَح ؛ لبقاءِ غَنَائِه . وعبارة الأَساس والصّحاح : لأَنّ به بقاءَ الصَّوم وأَصلُ الفَلاحِ البَقَاءُ . والفَلْح : الشَّقُّ والقَطْع . قال شيخنا : الفَلْحُ وما يُشاركه كَالفَلْق والفلْد والفَلْذِ ونحو ذلك يَدُلُّ على الشَّقّ والفَتْح كما في الكشّاف وصَرحَ به الرّاغبُ وغيره . وهو بناءً على ما عليه قُدماءُ أَهلِ اللُّغَة من أَنّ المشاركة في أَكثرِ الحروف اشتقاقٌ يدور عليه معنَى المادّةِ فيتّحد أَصلُ مَعناهَا ويتغايَرُ في بَعْض الوُجوه كما هو صَنيعُ صَاحبِ التهذيب والعَيْن وغيرهما . انتهَى المقصود منه . وفَلَحَ رَأْسَه فَلْحاً : شَقَّه . والفَلْح : المَكْر كالتفليح ويأْتى قريباً . و الفَلْح : النَّجْشُ في البَيْع وقد فَلَحَ به وذلك أَن يَطْئنّ إِليك فيقول لك بِعْ ليِ عَبْداً أَو مَتاعاً أَو اشْتره لي فتأْتي التجارَ فتَشتريه بالغَلاءِ وتَبيع بالوَكْس وتُصيب من التاجر . وهو الفَلاَّح . وفي التهذيب : والفَلْح النَّجْشُ وهو زيادة المكْتَرِى ليَزيدَ غيرُه فيَغُرَّ به كالفَلاَحة بالفتح . وفِعلُ الكلِّ فَلَحَ كمَنَع يفلَح فَلْحاً . والفَلَحُ محرّكةَ : شَقٌّ في الشِّفةِ . وقد فَلحها يَفلَحها فَلْحاً شَقَّهَا واسم ذلك الشَّقِّ الفَلَحةُ مثل القَطَعة .(1/5)
وقيل : الفَلَحُ : شَقٌّ في وَسطها دون العَلَم . وقيل هو تَشقُّقٌ في الشَّفةِ واسترخاءٌ وضِخَم كما يُصِيب شِفَاهَ الزِّنْج رَجُلٌ أَفْلحُ وامرأَةٌ فلْحاءُ . وفي التهذيب : الفَلَح : شَقٌّ في الشَّفة السُّفْلَى فإِذا كَان في العُلْيَا فهو عَلَمٌ . والفَلاَّح : المَلاّح وهو الذي يَخدُمُ السُّفنَ . وَفَلحَ الأَرْضَ للزِّراعة يَفْلَحها فَلْحاً إِذا شَقَّها للحَرْث . و الفَلاّح : الأَكَّار لأَنّه يَفلَحُ الأَرْضَ أَي يَشقُّها وحرْفتُه الفِلاَحة . وفي الأَساس : وأَحْسَبُك من فَلاَّحَة اليمن وهم الأَكَرَة لأَنّهم يَفلحون الأَرضَ أَي يَشقّونها . و الفَلاّح : المُكَارِى تشبيهاً بالأَكّار ومنه قولُ عَمْرِو بِن أَحمرَ الباهلّي :
لهَا رِطْلٌ تكيِلُ الزَّيتَ فيه ... وفَلاَّحٌ يَسوقُ لها حِمَارَا
كذا في التهذيب . وقال اللّه تعالى " قدْ أَفلَحَ المؤمنون " أَي أُصِيرُوا إِلى الفَلاَح . قال الأَزهرِيّ : وإِنَّمَا قيل لأَهل الجَنّةِ مُفْلِحُونَ لفَوْزِهم ببَقاءِ الأَبدِ . وقال أَبو إِسحاق في قوله عزّ وجلّ " أُولئك هم المفلحون " يُقَال لكلّ مَن أَصابَ خَيْراً مُفلِحٌ . وقول عَبِيد :(1/6)
أَفْلِحْ بما شِئْتَ فقد يُبلَغ با ... لنَّوْكِ وقد يُخَدَّعُ الأَريُب معناه فُزْ وَاظْفَرْ . وفي التَّهْذِيبُ : يقول عِشْ بما شِئْتَ من عَقْلٍ وحُمْق فَقد يُرْزَق الأَحمقُ ويُحرَمُ العاقلُ . وقال اللّيْث في قوله تعالى : " وقد أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعلَى أَي ظَفِرَ بِالْمُلْكِ مَن غَلَبَ . وأَفلَحَ بالشَّيْءِ : عاشَ به . قال شيخنا : المعروف أَنّه رباعيّ لازم وقرأَ طَلْحة بن مُصَرّف ؛ وعَمْرو بن عُبيد " قد أُفلِحَ المؤمنون " بالبناءِ للمفعول حكاه الشيخ أَبو حَيّان في البحر ونقله في العناية وبَسَطه . والتَّفليح : الاستهزاءُ والمَكْرُ وقد فَلّحَ بهم تَفليحاً : مَكَرَ وقال غيرَ الحَقِّ . وقال أَعرابيّ : قد فلَّحوا به أَي مَكُروا . وقال ابن سِيده : الفَلَحةُ محرّكةً : القَرَاحُ من الأَرضِ الذي اشتُقَّ للزَّرْع عن أَبي حنيفة وأَنشد لحسّان :
دَعُوا فَلَحَات الشّام قد حَالَ دُونَهَا ... طِعَانٌ كَأَفَواهِ المَخَاضِ الأَوراكِ(1/7)
يَعْنِي المَزارِعَ . ومن رواه : فَلَجات الشأْم بالجيم فمعناه ما اشتُقّ من الأَرض للدِّبار كلّ ذلك قَولُ أَبي حنيفة كذا في اللسان . والفَلِيحة : سَنفَةُ المَرْخِ إِذا انشقَّت ويروَى بالجيم وقد تقدّم . ومن أَلفاظ الجاهلّية في الطّلاق قَال شيخنا : أَي الدّالّة عليه بالكنايَة . لأَنّه لاَ يَلزم معَه إِلاّ بمقارنَة النِّيَّة كما عرف في الفروع - : استَفْلِحِي بأَمْرِكِ أَي فُوزي به . وفي حديث ابن مسعود أَنّه قال : إِذا قال الرجلُ لامرأتهِ استفلِحِي بأَمرِك فَقَبِلَتْه فواحدةٌ بائنة . قال أَبو عُبَيْدة : معناه اظفَرِي بأَمرِك واسْتَبِدِّي بأَمرك . قال شيخنا : وهو مَرْوِيٌ بالجيم أَيضاً . وقد تقدّمت الإِشارة في مَحلّه وبالوَجْهَيْن ضَبَطَه البَيْضَاويّ تَبَعاَ للزَّمَخْشَرِيّ عند قوله تعالى " أُولئكَ هُمُ المُفْلِحُون " . والفَلاَحَة بالفتح وضبطَه صاحب اللسان بالكسر : الحِرَاثة وهي حِرْفَة الأَكَّار . ويقال : فُلانٌ في رِجْلِه فُلُوحٌ بالضّمّ أَي شُقُوقٌ من البَرد . ويُروَى بالجيم أَيضاً . والفَلْحُ : الشَّقّ والقَطْع . قال الشاعر :
قد عَلِمَتْ خَيْلُكَ أَنَّى الصَّحْصَحُ ... إِنَّ الحَدِيدَ بالحَدِيدَ يُفْلَحُ
أَي يُشَقُّ ويُقْطَع . وأَورَد الأَزهريُّ هذا البيتَ شاهداً مع فَلَحْت الحَديدَ إِذا قَطَعْته . ومُفْلِح : كمحْسِن وكَسَحَاب وزُبَيرٍ وأَحْمَدَ أَسماءٌ . ومما يُستدرك عليه : قَومٌ أَفلاحٌ : فائزُون قال ابن سيده : لا أَعرفُ له واحداً . وأَنشد :
بَادوا فلم تَكُ أُولاهُمْ كآخِرِهِمْ ... وهَلْ يُثَمَّرُ أَفلاحٌ بأَفْلاحِ(1/8)
أَي قَلَّمَا يُعْقِبُ السَّلفُ الصالحُ إِلا الخَلَفَ الصّالِحَ . وفي الحديث " كلُّ قَومٍ على مَفْلَحةٍ من أَنفُسِهِم " وهي مَفعَلَة من الفَلَاح وهو مثْل قوله تعالى : " كلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " . والفَلَحَة محرّكةً : مَوضِعُ الفَلَح وهو الشَّقُّ في الشَّفَة السُّفلَى . وفي حديث كعْبٍ : " المرأَةُ إِذا غابَ عنها زَوْجُهَا تَفَلَّحَتْ وتنكَّبَتِ الزِّينة " أَي تَشقَّقتْ وتَقَشَّفَت . قال ابن الأَثير : قال الخَطّابيّ : أُراه تَقَلَّحَت بالقاف من القَلَح وهو الصُّفرة التّي تَعلو الأَسنان . وكان عنترةُ العَبْسيّ يُلَقَب الفَلحاءَ لفَلَحَة كانت به وإِنما ذَهبوا إلى تأْنِيث الشَّفة قال شُرَيحُ بنُ بُجَيرِ بنِ أَسْعَدَ التَّغلبيّ :
ولوْ أَنّ قَوْمِي قَوْمُ سَوْءِ أَذلةٌ ... لأَخْرَجَني عَوْفُ بنُ عَوْفٍ وعِصْيَدُ
وعَنْتَرَةُ الفلْحَاءُ جاءَ مُلأَمّاً ... كأَنّهُ فِنْدٌ مِنْ عَمَايةَ أَسودُ أَنَّثَ الصِّفَة لتأْنِيثِ الاسم . قال الشَّيخ ابن بَرّيّ : كان شُرَيْح قال هذه القَصِيدةَ بسَبب حرْبٍ كانت بينه وبين بني مُرّةَ بنِ فَزارة وَعَبْس . والفِنْدُ القِطْعة العظيمةُ الشَّخْصِ من الجَبل . وعَمَايةُ : جَبلٌ عظيمٌ . والمُلأَمُ : الذي قد لبِسَ لأْمَته وهي الدِّرْعُ . قال : وذكَرَ النحويّون أَن تأْنيث الفَلحاءِ إِتباعٌ لتأْنيث لفْظ عنترَةَ . قال ابن منظور : ورأَيْتُ في بعض حواشي نُسخ الأُصول الّتي نَقلْت منها ما صُورته : في الجمهرة لابن دريدٍ . عِصْيدٌ لقبُ حِصْنِ بن حُذَيفةَ أَو عُيينةَ بنِ حِصْن ورجلٌ مُتفلِّحُ الشَّفَةِ واليَدينِ والقَدَمَينِ : أَصابَه فيها تَشقُّقٌ من البَردِ . والفَيْلحَانيُّ : تِينٌ أَسودُ يَلِي الطُّبَّارَ في الكِبَر وهو يَتقلَّع إِذا بَلغَ شديدُ السّوادِ حكاه أَبو حنيفة . قال : وهو جَيِّدُ الزبيبِ يعنى بالزَّبيب يابسَه . "(1/9)
- - - - - - - - - - - - -
الباب الأول
صفات المفلحين في القرآن والسنة
1-الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله
قال تعالى : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة 5]
لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ ( الكِتَابُ ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ.
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ ( الغَيْبِ ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ . وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ ، وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا ، وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ.(1/10)
فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ : مِنْ إِيمَانٍ باللهِ ، وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ . . . هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ ، وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ ، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ .
(ذلك الكتاب لا ريب فيه . . هدى للمتقين) . .
الهدى حقيقته , والهدى طبيعته , والهدى كيانه , والهدى ماهيته . . ولكن لمن ? لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا ? . . للمتقين . . فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب . هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك . هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب .
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى , ويحذر أن يكون على ضلالة , أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره , ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيا , خائفا , حساسا , مهيأ للتلقي . . ورد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له:أما سلكت طريقا ذا شوك ? قال بلى ! قال:فما عملت ? قال:شمرت واجتهدت . قال:فذلك التقوى . .
فذلك التقوى . . حساسية في الضمير , وشفافية في الشعور , وخشية مستمرة , وحذر دائم , وتوق لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات , وأشواك المطامع والمطامح , وأشواك المخاوف والهواجس , وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء , والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا . وعشرات غيرها من الأشواك !(1/11)
ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين ; وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين: (الذين يؤمنون بالغيب , ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون , والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك , وبالآخرة هم يوقنون) . .
إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب , والقيام بالفرائض , والإيمان بالرسل كافة , واليقين بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية , وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة , والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعا , ولتهيمن على البشرية جميعا , وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة , شاملة للشعور والعمل , والإيمان والنظام .
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها , انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا . .
(الذين يؤمنون بالغيب) . . فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها , وصدر عنها هذا الوجود ; ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات .(1/12)
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان , فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه , إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي , ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود , وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ; فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ; ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائهوأعماقه , ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود , وأن وراء الكون ظاهره وخافيه , حقيقة أكبر من الكون , هي التي صدر عنها , واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول .(1/13)
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له , وما لم توهب القدرة للإحاطة به , وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان , وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض , فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة , تنظر فيها , وتتعمقها وتتقصاها , وتعمل وتنتج , وتنمي هذه الحياة وتجملها , على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود , وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول . فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها , دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة , وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول . . فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا , ومحاولة عابثة أخيرا . فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال . وعابثه لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال . . ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى , وهي أن المحدود لا يدرك المطلق , لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل ; وإن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون ; وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل ; وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن , والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون , وهو الصفة الأولى من صفات المتقين .(1/14)
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان , كجماعة الماديين في كل زمان , يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري . . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا "تقدمية " وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها , فجعل صفتهم المميزة , صفة: (الذين يؤمنون بالغيب) والحمد لله على نعمائه , والنكسة للمنتكسين والمرتكسين !
(ويقيمون الصلاة) . . فيتجهون بالعبادة لله وحده , ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد , وعبادة الأشياء . يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد ; والقلب الذي يسجد لله حقا , ويتصل به على مدار الليل والنهار , يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود , ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض , ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق . . وهذا كله مصدر قوة للضمير , كما أنه مصدر تحرج وتقوى , وعامل هام من عوامل تربية الشخصية , وجعلها ربانية التصور , ربانية الشعور , ربانية السلوك .
(ومما رزقناهم ينفقون) . . فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم , لا من خلق أنفسهم ; ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق , والتضامن بين عيال الخالق , والشعور بالآصرة الإنسانية , وبالأخوة البشرية . . وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح , وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن , وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر , وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس , لا بين أظفار ومخالب ونيوب !(1/15)
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة , وسائر ما ينفق في وجوه البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة , لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناده لفاطمة بنت قيس " إن في المال حقا سوى الزكاة " . . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) . . وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة , وارثة العقائد السماوية , ووارثة النبوات منذ فجر البشرية , والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة , وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان . وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية , ووحدة دينها , ووحدة رسلها , ووحدة معبودها . . قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . . قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد . قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان , وهو ثابت مطرد , كالنجم الهادي في دياجير الظلام
(وبالآخرة هم يوقنون) . . وهذه خاتمة السمات . الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة , والمبدأ بالمصير , والعمل بالجزاء ; والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملا , وأنه لم يخلق عبثا , ولن يترك سدى ; وأن العدالة المطلقة في انتظاره , ليطمئن قلبه , وتستقر بلابله , ويفيء إلى العمل الصالح , وإلى عدل الله روحمته في نهاية المطاف .
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة , ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب . بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود , ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء , وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك , وراء هذا الحيز الصغير المحدود .(1/16)
وكل صفة من هذه الصفات - كما رأينا - ذات قيمة في الحياة الإنسانية , ومن ثم كانت هي صفات المتقين . وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعا , هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة . فالتقوى شعور في الضمير , وحالة في الوجدان , تنبثق منها اتجاهات وأعمال ; وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة ; وتصل الإنسان بالله في سره وجهره . وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلي الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة , ويلتقي فيه المعلوم والمجهول . ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن , فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة , واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه . ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها , وجعلها صلة بين العبد والرب . ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافا بجميل العطاء , وشعورا بالإخاء . ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق , والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة . ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين . . وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك , مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئا عظيما . شيئا عظيما حقا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها . ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض , وفي حياة البشر جميعا . . ومن ثم كان هذا التقرير: (أولئك على هدى من ربهم , وأولئك هم المفلحون) . .
وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا . والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم
.
- - - - - - - - - - - - -
2- لا يأتون البيوت إلا من أبوابها(1/17)
قال تعالى :{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) }[البقرة 189]
سَأَلَ بَعْضُ المُسْلِمينَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِلافِ الهِلاَلِ : يَكُونُ صَغِيراً فَيَكْبُرُ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَصْغُرُ . فَنَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ . وَفِيهَا يُجِيبُهُمُ اللهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الحِكْمَةِ فِي اخْتِلافِ الأَهِلَّةِ وَفَائِدَتِهِ ، فَأَجِبْهُمْ : بِأَنَّهَا مَعَالِمُ للنَّاسِ ، يُوَقِّتُونَ بِهَا أُمُورَ دُنْيَاهُمْ ، فَيَعْلَمُونَ أَوْقَاتَ زُرُوعِهِمْ ، وَأَجَلَ عقُودِهِمْ ، وَهِيَ مَعَالِمُ لِلْعِبَادَاتِ المُوَقَّتَةِ ، فَيَعْرِفُونَ بِهَا أَوْقَاتَها كَالصِّيَامِ ، وَالإِفْطَارِ وَالحَجِّ . . وَلَوْ كَانَ الهِلاَلُ مُلاَزِماً حَالاً وَاحِداً لَمَا تَيَسَّرَ التَّوْقِيتُ بِهِ .(1/18)
وَكَانَ العَرَبُ إِذَا أَحْرَمُوا فِي الجَاهِلِيَّةِ أَتَوا البَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ ، وَقِيلَ أَيْضاً إِنَ أَحَدَهُمْ إِذا أَرَادَ سَفَراً وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِسَفَرِهِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ أَنْ يُقيمَ وَيَدَعَ السَّفَرَ ، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتِهِ مِنْ بَابِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَسَوَّرُهُ مِنْ ظَهْرِهِ . فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِدُخُولِ البُيُوتِ مِنْ أَبْوابَها . وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ إِنَّ البِرَّ هُوَ التَّقْوَى ، وَلَيسَ فِي إِتْيانِ البُيُوتِ مِنْ ظُهُورِها بِرٌّ ، وَلاَ تَقْوَى . فَاتَّقُوا الله ، وَافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ، وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِذا وَقَفْتُمْ فِي الآخِرَةِ بَيْنَ يَدَيهِ لِلْحِسَابِ .
--------------
مواقيت للناس في حلهم وإحرامهم , وفي صومهم وفطرهم , وفي نكاحهم وطلاقهم وعدتهم , وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم . . وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء .
وسواء كان هذا الجواب ردا على السؤال الأول أو على السؤال الثاني , فهو في كلتا الحالتين اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري ; وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عنالدورة الفلكية للقمر وكيف تتم وهي داخلة في مدلول السؤال:ما بال القمر يبدو هلالا . . . إلخ . كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية . وهي داخلة في مضمون السؤال:لماذا خلق الله الأهلة ? فما هو الإيحاء الذي ينشئه هذا الاتجاه في الإجابة ?(1/19)
لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص , ونظام خاص , ومجتمع خاص . . كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض , ذات دور خاص في قيادة البشرية , لتنشىء نموذجا معينا من المجتمعات غير مسبوق ; ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة ; ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض ; وتقود إليها الناس .
والإجابة "العلمية " عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علما نظريا في الفلك ; إذا هم استطاعوا , بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين , أن يستوعبوا هذا العلم , ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك , لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة , كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات .
من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية , ولا تفيدها كثيرا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها . وليس مجالها على أية حال هو القرآن . إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية . ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي . . كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم , أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم !
إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله . إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية . وإن وظيفته أن ينشىء تصورا عاما للوجود وارتباطه بخالقه , ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه ; وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته . . ومن بينها طاقته العقلية , التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة , وإطلاق المجال لها لتعمل - بالبحث العلمي - في الحدود المتاحة للإنسان - وبالتجريب والتطبيق , وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج , ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال .(1/20)
إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته:تصوره واعتقاده , ومشاعره ومفهوماته , وسلوكه وأعماله , وروابطه وعلاقاته . . أما العلوم المادية , والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه , فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته . بما أنها أساس خلافته في الأرض , وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه . . والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد , ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له ; ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه , وتناسق تكوينه , وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه - وهو أي الإنسان أحد أجزائه - ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته . . ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي .
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن , الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه , وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها . . كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه !
إن القرآن كتاب كامل في موضوعه , وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها . . لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها . . والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان . والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه . بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره . كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذييسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه . وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور , ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط , يتركه القرآن يبحث ويجرب , ويخطيء ويصيب , في مجال العلم والبحث والتجريب . وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.(1/21)
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه , وطبيعة التناسق بين أجزائه . . لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن , بفروض العقل البشري ونظرياته , ولا حتى بما يسميه "حقائق علمية " مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره .
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة . أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أيا كانت الأدوات المتاحة له - فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة ; وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها . . فمن الخطأ المنهجي - بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته - أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية . وهي كل ما يصل إليه العلم البشري !
هذا بالقياس إلى "الحقائق العلمية " . . والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى "علمية " . ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية ; وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره ; وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه . . وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها . . فهذه كلها ليست "حقائق علمية " حتى بالقياس الإنساني . وإنما هي نظريات وفروض . كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية . إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرا أكبر من الظواهر , أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق ! ومن ثم فهي قابلة دائما للتغيير والتعديل والنقص والإضافة ; بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب , بظهور أداة كشف جديدة , أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة !
وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة - أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا - تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي . كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم . .(1/22)
الأولى:هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع . ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم . أو الاستدلال له من العلم . على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه , ونهائي في حقائقه . والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس , وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق , لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته , وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة .
والثانية:سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته . وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق - بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية - مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي . حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله ; بل يصادقه ويعرف بعض أسراره , ويستخدم بعض نواميسه في خلافته . نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق , وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة !
والثالثة:هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر . وكل يوم يجد فيها جديد .
وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن , كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا ..
ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات - ومن حقائق - عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن . . كلا ! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان . ولقد قال الله سبحانه: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) . . ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله . وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا .(1/23)
فكيف ? ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة ? هنا ينفع المثال: يقول القرآن الكريم مثلا: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) . . ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون . . الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد , وبعد القمر عنها هذا البعد , وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها , وبسرعة حركتها هذه , وبميل محورها هذا , وبتكوين سطحها هذا . . وبآلاف من الخصائص . . . هي التي تصلح للحياة وتوائمها . . فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة . . هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) وتعميقه في تصورنا . . فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه . . وهكذا . .
هذا جائز ومطلوب . . ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميا , هذه الأمثلة الأخرى:
يقول القرآن الكريم: خلق الإنسان من سلالة من طين . . ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة , وأن هذه الخلية نشأت في الماء , وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان . فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية . لنقول:هذا هو الذي عناه القرآن !!
لا . . إن هذه النظرية أولا ليست نهائية . فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيا . وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر , ما يكاد يبطلها . وهي معرضة غدا للنقض والبطلان . . بينما الحقيقة القرآنية نهائية . وليس من الضروري أن يكون هذا معناها . فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة . وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية . . وكفى . . ولا زيادة . .(1/24)
ويقول القرآن الكريم: (والشمس تجري لمستقر لها) . . فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري . . ويقول العلم:إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلا في الثانية . ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعا بسرعة 170 ميلا في الثانية . . ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية . إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان . . أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية - في أن الشمس تجري - وكفى . . فلا نعلق هذه بتلك أبدا .
ويقول القرآن الكريم: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) . . ثم تظهر نظرية تقول:إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها . . فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية . ونقول:هذا ما تعنيه الآية القرآنية !
لا . . ليس هذا هو الذي تعنيه ! فهذه نظرية ليست نهائية . وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي ! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة . وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء . . كيف ? ما هي السماء التي فصلت عنها ? هذا ما لا تتعرض له الآية . . ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع:إنه المدلول النهائي المطابق للآية !
وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة , فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها , دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق . . وفرق بين هذا وذاك .
ثم نعود إلى النص القرآني: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها . ولكن البر من اتقى , وأتوا البيوت من أبوابها , واتقوا الله لعلكم تفلحون) . .(1/25)
والارتباط بين شطري الآية يبدو أنه هو المناسبة بين أن الأهلة هي مواقيت للناس والحج , وبين عادة جاهلية خاصة بالحج هي التي يشير إليها شطر الآية الثاني . . في الصحيحين - بإسناده - عن البراء - رضي الله عنه - قال:" كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت , فجاء رجل منهم فدخل من قبل بابه , فكأنه عير بذلك . فنزلت: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ; ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها) . .
ورواه أبو داود عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال:كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه . . فنزلت هذه الآية .
وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة , أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق , فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر - أي الخير أو الإيمان - فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل , وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل , ولا يؤدي إلى شيء . وجاء يصحح التصور الإيماني للبر . . فالبر هو التقوى . هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن . وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان . ولا تعني أكثر من عادة جاهلية .
كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها . وكرر الإشارة إلى التقوى , بوصفها سبيل الفلاح: (وأتوا البيوت من أبوابها , واتقوا الله لعلكم تفلحون) . .
وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة - هي التقوى - وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة ; وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني , ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج . . كل ذلك في آية واحدة قصيرة . .
- - - - - - - - - - - - -
3- يدعون على الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(1/26)
قال تعالى :{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [أل عمران 104]
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ ، وَتَنْهَى عَنْهُ ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها . . هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض , ولتغليب الحق على الباطل , والمعروف على المنكر , والخير على الشر . . هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه , ووفق منهجه . . فهي التي تقررها الآية التالية: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير , ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , وأولئك هم المفلحون) . .
فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير , وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته . فهناك "دعوة " إلى الخير . ولكن هناك كذلك "أمر" بالمعروف . وهناك "نهي" عن المنكر . وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان , فإن "الأمر والنهي" لا يقوم بهما إلا ذو سلطان . .(1/27)
هذا هو تصور الإسلام للمسألة . . إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى . . سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر . . سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله . . سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر . . وتحقيق هذا المنهج يقتضي "دعوة " إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة "تأمر" بالمعروف "وتنهى " عن المنكر . . فتطاع . . والله يقول: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) . . فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر . أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي , على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية , وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة , وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره , زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب !
والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير , إذا نظرنا إلى طبيعته , وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم , ومصالح بعضهم ومنافعهم , وغرور بعضهم وكبريائهم . وفيهم الجبار الغاشم . وفيهم الحاكم المتسلط . وفيهم الهابط الذي يكره الصعود . وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد . وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل . وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة . . وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف , ويعرفون المنكر . ولا تفلح الأمة , ولا تفلح البشرية , إلا أن يسود الخير , وإلا أن يكون المعروف معروفا , والمنكر منكرا . . وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى . . وتطاع . .(1/28)
ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين:الإيمان بالله والأخوة في الله . لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة , وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة , وكلفها به هذا التكليف . وجعل القيام به شريطة الفلاح . فقال عن الذين ينهضون به: (وأولئك هم المفلحون) . .
إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته . فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية . هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير . المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل . والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم . . عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر . والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة . والحق فيه أقوى من الباطل . والعدل فيه أنفع من الظلم . . فاعل الخير فيه يجد على الخير اعوانا . وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلانا . . ومن هنا قيمة هذا التجمع . .
إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد , لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه . والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة , لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص . . يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلا . فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة . لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي , ومن بيئة غير البيئة الجاهلية(1/29)
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له ; فيحيا فيه هذا التصور , ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية , وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه . وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة .
هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة . الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص , وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة , وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله , وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض . . والأخوة في الله . كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة , وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار . الإيثار المنطلق في يسر , المندفع في حرارة , المطمئن الواثق المرتاح .
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين . . على الإيمان بالله:ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتمثل صفاه في الضمائر ; وتقواه ومراقبته , واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب . الحب الفياض الرائق , والود . الود العذب الجميل , والتكافل . التكافل الجاد العميق . . وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا , لولا أنه وقع , لعد من أحلام الحالمين ! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة , ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة ! وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان !
وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان . .(1/30)
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف ; وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا , فنزع الله الراية منهم , وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية . . فوق ما ينتظرهم من العذاب , يوم تبيض وجوه وتسود وجوه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . فأما الذين اسودت وجوههم:أكفرتم بعد إيمانكم ? فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) . .
وهنا يرسم السياق مشهدا من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية . . فنحن في مشهد هول . هول لا يتمثل في الفاظ ولا في أوصاف . ولكن يتمثل في آدميين أحياء . في وجوه وسمات . . هذه وجوه قد أشرقت بالنور , وفاضت بالبشر , فابيضت من البشر والبشاشة , وهذه وجوه كمدت من الحزن , وغبرت من الغم , واسودت من الكآبة . . وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه . ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب: (أكفرتم بعد إيمانكم ? فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون !) . .
(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) . وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار . . على طريقة القرآن .
وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف . ومعنى النعمة الإلهية الكريمة . . بالإيمان والائتلاف .
وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب , الذين تحذر أن تطيعهم . كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم . يوم تبيض وجوه , وتسود وجوه . .
- - - - - - - - - - - -
4-لا يأكلون الربا(1/31)
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) }[آل عمران/130-132]
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا ، وَالتَّعَامُلِ بِهِ ، بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ، وَهُدَى اللهِ لَهُمْ ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ ، إذْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلمَدِينِ إذَا حَلَّ أجَلُ الدَّيْنِ : إمّا أنْ تَقْضِيَ دَيْنَكَ وَإمَّا أنْ تُرٍبيَ . فَإِنْ قَضَاهُ فِبِهَا ، وَإلاَّ زَادَهُ فِي المُدَّةِ وَزَادَهُ فِي المِقْدارِ ، وَهَكَذَا كُلَّ عَامٍ ، فَرُبَّما تَضَاعَفَ القَلِيلُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيراً مُضَاعَفاً . وَيَأمُرُ اللهُ عِبَادَهُ بِالتَّقْوَى لَعَلَّهُمْ يُفْلِحُونَ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ .
وَيَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالتَّقْوَى ، وَبِالابْتِعَادِ عَنْ مُتَابَعَةِ المُرَابِينَ ، وَتَعَاطِي مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبا ، الذِي يُفْضِي بِهِمْ إِلى دُخُولِ النَّارِ التِي أعَدَّهَا اللهُ لِلْكَافِرِينَ .
وَيَأمُرُُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، فِيمَا نَهَيَا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا ، وَمَا أَمَرا بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ كِي يُرْحَمُوا فِي الدُّنيا ، بِصَلاحِ حَالِ المُجْتَمَعِ ، وَفِي الآخِرَةِ ، بِحُسْنِ الجَزَاءِ .
--------------(1/32)
والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها , وفي كل شأن من شؤونها , وفي كل جانب من جوانب نشاطها . ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني ; وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله , كلما أسلفنا .
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها , وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق . ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ; وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب , والسيطرة على الأهواء والشهوات , وإشاعة الود والسماحة في الجماعة . . فكلها قريب من قريب . . وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات , وكل توجيه من هذه التوجيهات , يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة , وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة !
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة , واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) . .
ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص , ويتداروا به , ليقولوا:إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافا مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم !
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع , وليست شرطا يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد: (وذروا ما بقي من الربا) . . أيا كان !
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف , لنقول:إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة , والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت , أيا كان سعر الفائدة .(1/33)
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية , ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف . فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية ،كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضا - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها , وتأثيره في مصائرها جميعا .
والإسلام - وهو ينشىء الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية , كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير . .
أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين . . أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب:
إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين . . ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله , ويعزل نفسه من صفوف الكافرين . . والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان . وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية , وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته .(1/34)
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان . وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة ; وهناك النار التي أعدت للكافرين ! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة . . والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله , وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين , ليس عبثا ولا مصادفة . إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين .
وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله . . فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى , ولتحقيق منهج الله في حياة الناس . .
ثم يجيء التوكيد الأخير: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) . .
وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول , وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة . ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة . هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره . وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدا بعد توكيد . .
وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول , بوصفها وسيلة الفلاح , وموضع الرجاء فيه(1/35)
وأَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا حِكَمًا تَشْرِيعِيَّةً : مِنْهَا : أَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ; لِأَنَّ مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً تَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ , وَمَالُ الْمُسْلِمِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ , وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ , قَالَ صلى الله عليه وسلم : { حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ } وَإِبْقَاءُ الْمَالِ فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَتَمْكِينُهُ مِنْ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ , فَقَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ , وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ مُتَيَقَّنٌ , وَتَفْوِيتُ الْمُتَيَقَّنِ لِأَجْلِ الْمَوْهُومِ لَا يَخْلُو مِنْ ضَرَرٍ . وَمِنْهَا : أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْمَكَاسِبِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيلِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ , فَلَا يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الشَّاقَّةِ , وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ الَّتِي لَا تَنْتَظِمُ إلَّا بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ . وَمِنْهَا : أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ الْقَرْضِ ; لِأَنَّ الرِّبَا إذَا حُرِّمَ طَابَتْ النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ , وَلَوْ حَلَّ الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ , فَيُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ .(1/36)
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ . . . فَرِبَا النَّسِيئَةِ , وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ , وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ , حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً , وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ , فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ , وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ , فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ , وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ , وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ , فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ , وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنْهُ لِأَخِيهِ , فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ , وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ , فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا . . .
- - - - - - - - - - - - - -
5- الصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) }[أل عمران 200](1/37)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ أنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الذِي ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ ، فَلاَ يَدَعُونَهُ لِشِدَّةٍ وِلاَ لِرَخَاءٍ ، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ . وَالمُرَابَطَةِ هِيَ المَرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ لِلْغَزْوِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيهَا " .
( وَقِيلَ إنَّ المُرَابَطَةَ المَقْصُودَةَ هُنَا هِيَ الانْتِظَارُ فِي المَسَاجِدِ لأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ حِينَمَا تَحِينُ أَوْقَاتُها ، أيْ رَابِطُوا فِي المَسَاجِدِ ، وَاتَّقُوا اللهَ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء . والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء , وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء: (يا أيها الذين آمنوا) .
النداء لهم . للصبر والمصابرة , والمرابطة , والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكر إن مفردين , ويذكر إن مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة , ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة , وإلى المرابطة والتقوى , فيكون هذا أنسب ختام .(1/38)
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق , حافل بالعقبات والأشواك , مفروش بالدماء والأشلاء , وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة:الصبر على شهوات النفس ورغائبها , وأطماعها ومطامحها , وضعفها ونقصها , وعجلتها وملالها من قريب ! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم , وانحراف طباعهم , وأثرتهم , وغرورهم , والتوائهم , واستعجالهمللثمار ! والصبر على تنفج الباطل , ووقاحة الطغيان , وانتفاش الشر , وغلبة الشهوة , وتصعير الغرور والخيلاء ! والصبر على قلة الناصر , وضعف المعين , وطول الطريق , ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق ! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله , وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ , والحنق , والضيق , وضعف الثقة أحيانا في الخير , وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ; والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط ! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة , واستقبال الرخاء في تواضع وشكر , وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام , وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء ! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله , واستسلام لقدره , ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق ; وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات !
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .(1/39)
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها , ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم , فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى:أعدائهم من كوامن الصدور , وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم , يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر , والدفع بالدفع , والجهد بالجهد , والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق , فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق !
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد , وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا , ولا تستسلم للرقاد ! فما هادنها أعداؤها قط , منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة , والتعرض بها للناس . وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد , حيثما كانت إلى آخر الزمان !(1/40)
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم , كما يتحكم في أموالهم , كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم ; والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة ; والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون , لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعا . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين , الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة , وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي ; ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكلتكاليفها , ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام !!
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ; ويحرسه أن يضعف ; ويحرسه أن يعتدي ; ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ , إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ; ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .(1/41)
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها , وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار: (لعلكم تفلحون) . وصدق الله العظيم . .
- - - - - - - - - - - - -
6- ابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيله
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ْ}[المائدة 35]
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ وَطَاعَتِهِ حَقّاً وَصِدْقاً ، وَاتِّقَاءِ سَخَطِهِ وَعِقَابِهِ ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ مُخَالَفَةِ شَرْعِهِ ، وَالانْكِفَافِ عَنْ إتْيانِ مَحَارِمِهِ ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ ، وَبِأنْ يَتَقَرَّبُوا إليهِ بَطَاعَتِهِ ، وَبِالعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ ( وَابْتَغُوا إلَيهِ الوَسِيلَةَ ) . ثُمَّ أمَرَهُمْ بِجِهَادِ أعْدائِهِمْ ، وَأعْدَاءِ اللهِ ، الخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ . وَرَغَّبَهُمْ تَعَالَى فِي الجِهَادِ ، بِأنْ أبَانَ لَهُمْ مَا أعَدَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ القَيَامَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ ، وَكَرِيمِ المَنْزِلَةِ ، فَلَعَلَّهُمْ ، إنْ قَامُوا بِأمْرِ رَبِّهِمْ ، أنْ يُفْلِحُوا بِالفَوْزِ بِرِضَى اللهِ وَجَنَّتِهِ.
( وَيَشْمُلُ الجِهَادُ كُلَّ جَهْدٍ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الحَقِّ ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى التِزَامِهِ ، كَمَا يَشْمُلُ جِهَادَ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ أهْوائِها ، وَحَمْلِها عَلَى العَدْلِ وَالإِنْصَافِ فِي جَمِيعِ الأحْوالِ ) .(1/42)
والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده . إنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف . فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب , وتقويم الطبع . وهداية الروح - ذلك إلى جانب إقامة المجتمع المسلم إن أقصى ما يتصوره الخيال على أساس الافتراض:هو أن يكون للذين كفروا كل ما في الأرض جميعا . ولكن السياق يفترض لهم ما هو فوق الخيال في عالم الافتراض . فيفرض أن لهم ما في الأرض جميعا , ومثله معه ; ويصورهم يحاولون الافتداء بهذا وذلك , لينجوا به من عذاب يوم القيامة . ويرسم مشهدهم وهم يحاولون الخروج من النار . ثم عجزهم عن بلوغ الهدف , وبقاءهم في العذاب الأليم المقيم . .
إنه مشهد مجسم ذو مناظر وحركات متواليات . . منظرهم ومعهم ما في الأرض ومثله معه . . ومنظرهم وهم يعرضونه ليفتدوا به . ومنظرهم وهم مخيبو الطلب غير مقبولي الرجاء . . ومنظرهم وهم يدخلون النار . . ومنظرهم وهم يحاولون الخروج منها . . ومنظرهم وهم يرغمون على البقاء . ويسدل الستار , ويتركهم مقيمين هناك !
- - - - - - - - - - -
7- لا يشربون الخمر ولا يلعبون بالميسر ولا يذبحون على النصب ولا يستقسمون بالأزلام(1/43)
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) } [المائدة/90-94]
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الخَمْرِ وَلَعْبِ القِمَارِ ( المَيْسِر ) ، وَعَنْ ذَبْحِ القَرَابِينِ عِنْدَ الأَنْصَابِ ، ( وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ ) ، كَمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلاَمِ ( وَالأَزْلاَمِ ثَلاَثَةُ قِدَاحٍ أَوْ سِهَامٍ يُجِيلُونَهَا ثُمَّ يُلْقُونَهَا ، وَقَدْ كُتِبَ عَلَى أَحَدِهَا ( افْعَلْ ) ، وَعَلى الأخَرِ ( لاَ تَفْعَلْ ) ، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ مِنَ الكِتَابَةِ . فَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ ( افْعَلْ ) فَعَلَ . وَإذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ ( لاَ تَفْعَلْ ) لَمْ يَفْعَلْ . وَإذا خَرَجَ السَّهْمُ الغُفْلُ مِنَ الكِتَابَةِ أَعَادَ الاسْتِقْسَامَ .(1/44)
وَيَقُولُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إنَّ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ : الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ . . إنَّمَا هِيَ شَرٌّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( رِجْسٌ ) فَاجْتَنِبُوا هَذَا الرِّجْسَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَتَفُوزُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ
إنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ لَكُمْ شُرْبَ الخَمْرِ ، وَلَعِبَ المَيْسِرِ ، لِيُعَادِيَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَيَبْغُضَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، فِيِتَشَتَّتَ أمْرُكُمْ بَعْدَ أنْ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِالإيمَانِ ، وَجَمَعَ بِأخُوَّةِ الإسْلاَمِ ، ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يَصْرِفَكُمْ بِالسُّكْرِ وَالاشْتِغَالِ بِالمَيْسِرِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ الذِي بِهِ صَلاَحُ أمْرِكُمْ ، فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَاتِكُمْ ، وَعَنِ الصَّلاَةِ التِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ ، تَزْكِيَةً لِنُفُوسِكُمْ ، وَتَطْهِيراً لِقُلُوبِكُمْ .
وَالخَمْرُ تٌفْقِدُ الإِنْسَانَ عَقْلَهُ الذِي يَمْنَعُهُ عَنْ إتْيَانِ الأفْعَالِ القَبِيحَةِ ، وَعَنْ تَوْجِيهِ الأقْوَالِ الشَّائِنَةِ إلى النَّاسِ ، فَإِذَا شَرِبَهاَ الإِنْسَانُ أقْدَمَ عَلَى مَا لاَ يُقْدِمُ عَلَيهِ وَهُوَ صَاحٍ مَتَمَالِكٌ قِواهُ فَيُسِيءُ إلى أصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ ، وَيُؤذِيهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ .
وَالمَيْسِرُ يُثِيرُ البَغْضَاءَ وَالشَحْنَاءَ بَيْنَ اللاعِبِينَ وَالحَاضِرِينَ ، وَكَثِيراً مَا يُفرِّطُ المُقَامِرُ فِي حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالأوْلاَدِ ، حَتَّى يُوشِكُ أنْ يَمْقُتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ .
ثُمَّ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ ليُفَوِّتُوا عَلَى إبْلِيسَ غَرَضَهُ .(1/45)
يَأمُرُ ناللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أمَرَ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ الخَمْرِ وَالمَيسِرِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ المُحَرَّمَاتِ ، وَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ مِنْ شَرْعِ اللهِ ، وَفِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَهُمْ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ العِصْيَانِ وَالمُخَالَفَةِ وَالعِنَادِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ إنْ تَوَلَّوْا عَنِ الإِيمَانِ ، وَأصَرُّوا عَلَى المُخَالَفَةِ ، وَالاعْتِدَاءِ عَلَى حُرُماتِ اللهِ ، وَعَلَى تَجَاوُزِ شَرْعِهِ الكَرِيمِ ، فَإنَّ الحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَيهِمْ ، وَالرَّسُولُ قَامَ بِمَا أمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنَ الإِبْلاغِ وَالإِنْذَارِ وَالدَّعْوَةِ ، وَإنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى اللهِ فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أعْمَالِهِمْ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِها.حِينَمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الخَمْرِ تَسَاءَلَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ عَنْ حَالِ مَنْ شَرِبُوا الخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ .(1/46)
وَبُيَيِّنُ لَهُمْ تَعَالَى أنَّ الذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمْ ، وَ لاَ إثْمَ ، فِيمَا أَكَلُوا أوْ شَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ ، أوْ أكَلُوا وَشَرِبُوا ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّماً ثُمَّ حُرِّمَ ، إذَا مَا اتَّقَوا اللهَ ، وَآمَنُوا بِمَا كَانَ قَدْ نَزَلَ مِنَ الأحْكَامِ ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ التِي كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ ، كَالصَّلاَةِ وَالصَّومِ ، ثُمَّ اتَّقَوا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ العِلْمِ بِهِ ، وَآمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّقْوَى ، وَأحْسَنُوا أعْمَالَهُمْ ، فَأَتَوْا بِهَا عَلَى الوَجْهِ الأكْمَلِ ، وَتَمَّمُوا نَقْصَ فَرِائِضِهَا بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ، فَلا يُبِقِي فِي قُلُوبِهِمْ أثَراً مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ ، التِي وَصَفَ بِهَا الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ ، مِنَ الإِيقَاعِ فِي العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ .(1/47)
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية , ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها , وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف , ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون ; ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك ! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها ! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها [ كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها ! ] . . وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة , فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه . فالذي قدحه [ المعلى ] يأخذ النصيب الأوفر , وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه . وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها !
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية ; ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية .(1/48)
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر , لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة ; فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغاثرة جهد ضائع . حاشا للمنهج الرباني أن يفعله ! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى . عقدة العقيدة . بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذورة ; وإقامة التصور الأسلامي الصحيح . إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بين للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق . وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبة منهم هذا الإله الحق وما يكرهه . وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا ! أو يطيعوا أمرا ولا نهيا ; وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة ; وما لم تنعقد هذه العقيدة أولا فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي . . إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا . وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية , وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة ; وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب , وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد , وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .(1/49)
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها , من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاما , لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية ! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهملسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله ; وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكالف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال . لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أيا كان !(1/50)
أو بتعبير آخر:لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد "الإسلام" . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب الى أمر الله رأي أو اختيار . . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" تحت عنوان:"انحلت العقدة الكبرى ":" . . انحلت العقدة الكبرى . . عقدة الشرك والكفر . . فانحلت العقد كلها ; وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأول , فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ; وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى , فكان النصر حليفه في كل معركة . وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة , لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ; ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ; ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ; وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد . . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ; فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ; وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة " .
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة , المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها , والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي:
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . .) فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر [ وهو المخمر ] في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر .(1/51)
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر . قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما) . . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الاثم اكبر من النفع . إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ; ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع.
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب , وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) . . والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ; ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة . وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدهاثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة , وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان:(1/52)
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء . فنزلت التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر , قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما) . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء , فنزلت التي في النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . .) الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في المائدة: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ; ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ?) فدعي عمر فقرئت عليه فقال:"انتهينا . انتهينا" . . [ أخرجه أصحاب السنن ] . ولما نزلت آيات التحريم هذه , في سنة ثلاث بعد وقعة أحد , لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة:"ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت" . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها , وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر !
والآن ننظر في صياغة النص القرآني ; والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ? وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع: (يا أيها الذين آمنوا . .
لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ; ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى . . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر:
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . .(1/53)
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف "الطيبات" التي احلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم ; ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه , وتشمئز منه نفسه , ويجفل منه كيانه , ويبعد عنه من خوف ويتقيه !
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق: (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) . .
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر , ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة . . .) .
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان , وغاية كيدة وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد (الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة) . . ويالها إذن من مكيدة !
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم , وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ; إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه , ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء , مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة , فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي , والميسر يلهي , وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ; وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !(1/54)
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب (الذين آمنوا) وتحفزها , يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع: فهل أنتم منتهون ?
فيجيب لتوه:"انتهينا . انتهينا" . .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) . .
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله:طاعة الله وطاعة الرسول . . الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة , والتهديد الملفوف:
(فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) . .
وقد بلغ وبين , فتحددت التبعة على المخالفين , بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم , في هذا الأسلوب الملفوف , الذي ترتعد له فرائص المؤمنين ! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأدى ; ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم , وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين !
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب , فتنفتح له مغاليقها , وتتكشف له فيها المسالك
والدروب . .
ولعله يحسن هنا أن نبين ما هي الخمر التي نزل فيها هذا النهي:
أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -:"كل مخمر خمر . وكل مسكر حرام" . .
وخطب عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر جماعة من الصحابة فقال:"يا أيها الناس قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة:من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل" . . [ ذكره القرطبي في تفسيره ] .(1/55)
فدل هذا وذلك على أن الخمر تشمل كل مخمر يحدث السكر . . وأنه ليس مقصورا على نوع بعينه . وأن كل ما أسكر فهو حرام . إن غيبوبه السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة , مراقبا لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها , وفي صيانتها من الضعف والفساد , وفي حماية نفسه وماله وعرضه , وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته ; فعلية في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه , وتكاليف لنفسه , وتكاليف لأهله , وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها , وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع , فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره . . وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات ; وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق , وأن يواجهوها , ويعيشوا فيها , ويصرفوا حياتهم وفقها , ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة ; أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل , ووهن العزيمة , وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة , وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الانسان .(1/56)
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسية . أو في اعتبار شربها هو المحرم . والأول قول الجمهور والثاني قول ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين . . وحسبنا هذا القدر في سياق الظلال .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات , وذكر فيها تحريم الخمر , ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة , مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة:كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا:فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ; يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع , أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ; وهي رجس من عمل الشيطان , ماتوا والرجس في بطونهم !
عنذئذ نزلت هذه الآية: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا , والله يحب المحسنين)
نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ; وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ; وأنه لا يحرم بأثر رجعي ; فلا عقوبة إلا بنص ; سواء في الدنيا أو في الآخرة ; لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم , وهي لم تحرم بعد , ليس عليهم جناح ; فإنهم لم يتناولوا محرما ; ولم يرتكبوا معصية . . لقدكانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .(1/57)
ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس:هل هو ناشى ء عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها , أم إنه ناشى ء عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها , أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم , أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته , أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ; والطاعة لأمره واجبة , والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد:إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه !! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ; وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ , سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .(1/58)
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها , وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ?
ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا , إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) . .(1/59)
ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إلية النفس في صياغة العبارة القرآنية على النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح , ومرة مع الإيمان , ومرة مع الإحسان . . كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما يستريح إليه نفسي الأن . . وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو قاله ابن جرير الطبري:"الاتقاء الاول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل . والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل" . وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو:"إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال . فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى . ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية , ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة . . ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى . ولابراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني . فالتقوى . . تلك الحساسية المرهفة برقابة الله , والاتصال به في كل لحظة . والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه , والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة . والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها . . هذه هي مناط الحكم , لا الظواهر والأشكال . . وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان" .
وأنا , اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا . . ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر . . والله المستعان .
- - - - - - - - - - - - - -
8- بعيدون عن الخبائث وعقولهم راجحة
قال تعالى :{ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[المائدة 100](1/60)
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ تُخَاطِبُهُمْ : لاَ يَسْتَوي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ ، يَا أيُّهَا الإِنْسَانُ ، كَثْرَةُ الخَبِيثِ؛ وَقَلِيلٌ مِنَ الحَلاَلِ خَيْرٌ مِنْ كَثيرٍ مِنَ الحَرَامِ الضَّارِّ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى " ) فَاتَّقُوا اللهَ يَا ذَوي العُقُولِ الصَّحِيحَةِ المُسْتَقِيمَةِ ، وَتَجَنَّبُوا الحَرَامَ ، وَاقْنَعُوا بِالحَلاَلِ ، وَاكْتَفُوا بِهِ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
وَكَمَا لاَ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ، كَذَلِكَ لاَ يَسْتَوِي البَرُّ وَ الفَاجِرُ ، وَلاَ المُصْلِحُ وَالمُسْدُ ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الجَزَاءِ الحَقِّ العَادِلِ .
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق , هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام . والحرام خبيث , والحلال طيب . . ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب . ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف , وبلا عقابيل من ألم أو مرض . . وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة . . والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له , يختار الطيب على الخبيث ; فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة: (فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون) . .
هذه هي المناسبة الحاضرة . . ولكن النص - بعد ذلك - أفسح مدى وأبعد أفقا . وهو يشمل الحياة جمعيا , ويصدق في مواضع شتى:(1/61)
لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة , وجعلها خير أمة أخرجت للناس , يعدها لأمر عظيم هائل . . كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض , لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط , ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط . ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة . رياضة تخلعها أولا من جاهليتها ; وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية ; وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته . ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلا وفق قيم الإسلام في ميزان الله . . حتى تكون ربانية حقا . . وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم . . وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ; ولو أعجبها كثرة الخبيث ! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس . ولكن تمييز الخبيث من الطيب , وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله , يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته , وكفة الطيب ترجح على قلته . . وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة . . القوامة على البشرية . . تزن لها بميزان الله ; وتقدر لها بقدر الله ; وتختار لها الطيب , ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث !
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان . . ذلك حين ينتفش الباطل ; فتراه النفوس رابيا ; وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته . . ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش , فلا تضطرب يده , ولا يزوغ بصره , ولا يختل ميزانه ; ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ; ولا عدة حوله ولا عدد . . إنما هو الحق . . الحق المجرد إلا من صفته وذاته ; وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته ; وإلا من جماله الذاتي وسلطانه !(1/62)
لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن , وقوامة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله . . لا في نفوسها وضمائرها فحسب , ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض , بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع , وإهواء ومشارب , وتصادم بين المصالح , وغلاب بين الأفراد والجماعات . ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام .
لقد رباها بشتى التوجيهات , وشتى المؤثرات , وشتى الابتلاءات , وشتى التشريعات ; وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دورا في النهاية واحدا , هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها , وبمشاعرها واستجاباتها , وبسلوكها وأخلاقها , وبشريعتها ونظامها , لأن تقوم على دين الله في الأرض , ولأن تتولى القوامة على البشر . . وحقق الله ما يريده بهذه الأمة . . والله غالب على أمره . . وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله . . حلما يتمثل في واقع . . وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله . .
- - - - - - - - - - - - -
9-
حسناتهم كثيرة
قال تعالى :{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الأعراف 8]
وَاللهُ تَعَالَى يَزِنُ أَعْمَالِ العِبَادِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُقَدِّرُهَا بِعَدْلٍ تَامٍّ ( بِالحَقِّ ) ، فَلا يَظْلِمُ أَحَداً شَيْئاً ، فَالذِينَ تَرْجَحُ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ وَحَسَنَاتُهُمْ ( ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ ) فَأُولئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ بِالنَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ ( المُفْلِحُونَ)
((1/63)
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون) . . فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق . وجزاؤها إذن هو الفلاح . . وأي فلاح بعد النجاة من النار , والعودة إلى الجنة , في نهاية الرحلة المديدة , وفي ختام المطاف الطويل ?
(ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) . .
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ . وقد خسروا أنفسهم . فماذا يكسبون بعد ? إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه . فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له ?
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله: (بما كانوا بآياتنا يظلمون) والظلم - كما أسلفنا - يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر: (إن الشرك لظلم عظيم) .
ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان - كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر "الإسلامي" ! . . . .
فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبية والمثيل . مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء . . وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق . . من أن الحساب يومئذ بالحق , وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة , وأن عملاً لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع .
- - - - - - - - - - - - - - -
10-
ذكرُ آلاء الله
قال تعالى :{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف 69](1/64)
أَعَجِبْتُمْ وَكَذَّبْتُمْ أَنْ بَعَثَ اللهُ إِلَيْكُمْ رَسُولاً مِنَ البَشَرِ ( مِنْكُمْ ) يُوحِي إِلَيْهِ لِيَدْعُوكُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلِيُنْذِرَكُمْ وَيُخَوِّفَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ ، إنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى الكُفْرِ وَالجُحُودِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟ كَلاّ لاَ تَعْجَبُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَذَلِكَ لُطْفٌ مِنْهُ بِكُمْ ، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ ، الذِي أَهْلَكَ اللهُ النَّاسَ بِدَعْوَتِهِ لَمَّا خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ .
وَقَدْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ فَزَادَ فِي أَجْسَامِكُمْ بَسْطَةً طُولاً وَقُوَّةً ، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ هذِهِ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَيْهَا بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَحُسْنِ العِبَادَةِ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِي النَّجَاةِ مِنْ نَقْمَتِهِ تَعَالَى ، وَتَفُوزُونَ فِي اكْتِسَابِ مَرْضَاتِهِ .
فلقد كان من حق هذا الاستخلاف , وهذه القوة والبسطة , أن تستوجب شكر النعمة , والحذر من البطر , واتقاء مصير الغابرين . وهم لم يأخذوا على الله عهداً:أن تتوقف سنته التي لا تتبدل , والتي تجري وفق الناموس المرسوم , بقدر معلوم . وذكر النعم يوحي بشكرها ; وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها ; ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة .
ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر . . وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم , واختصروا الجدل , واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح , ويهزأ بالإنذار:
(قالوا:أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ? فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) . .
- - - - - - - - - - - -
11-
اتباعُ الرسول صلى الله عليه وسلم(1/65)
قال تعالى :{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } [الأعراف/155-157](1/66)
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى ، عَلَيهِ السَّلاَمُ ، بِأَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، يَعْتَذِرُونَ إِليهِ عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ ، وَوَاعَدَهُمْ مَوْعِداً . فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلاً مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدُوا العِجْلَ ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ . فَلَمَّا أَتَوُا المَكَانَ المَوْعُودَ ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى : يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ عِيَاناً وَجَهْرَةً ، فَأَنْتَ كَلَّمَتُهُ فَاجْعَلْنَا نَرَاهُ . فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا ، كَمَا جَاءَ فِي آيةِ أُخْرَى ، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللهَ تَعَالى وَيَقُولُ : يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلى المِيقَاتِ وَأَهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ ، لِيَرَى ذلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلاَ يَتَّهِمُونِي بِقَتْلِهِمْ ، فَلاَ تُهْلِكُنَا يَا رَبِّ بِمَا فَعَلَهُ الجُهَّالُ مِنَّا ، فَمَا مِحْنَةُ عِبَادَةِ العِجْلِ إِلاَّ ابْتِلاءٌ مِنْكَ وَفِتْنَةٌ أَضْلَلْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ إِضْلاَلَهُ مِمَّنْ سَلَكُوا سَبِيلَ الغوَايةِ ، وَهَدَيْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ هِدَايَتَهُ ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ ، فَاغْفِرْ لَنَا وَلاَ تُؤَاخِذْنَا بِذُنُوبِنَا ، وَارْحَمْنَا لِكَيلاَ نَقَعَ فِي مِثْلِ ذلِكَ فِي المُسْتَقْبَلِ ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ الغَافِرِينَ .(1/67)
وَأَثْبِتْ لَنَا ، بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ { واكتب لَنَا } حَيَاةً طَيِّبَةً فِي هذِهِ الدُّنيا ، مِنْ عَافِيةٍ وَبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ ، وَتَوْفِيقٍ لِطَاعَةِ ، وَمَثُوبَةٍ حَسَنَةٍ فِي الآخِرَةِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، وَنَيْلِ رِضْوَانِكَ ، إِنَّنَا تُبْنَا إِلَيْكَ { هُدْنَآ إِلَيْكَ } مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ ، وَمِنْ تَقْصِيرِ العُقَلاءِ مِنّا فِي نَهْيِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيهِمْ .
وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دُعَاءِ مُوسَى قَائِلاً : لَقَدْ أَوْجَبْتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابِي خَاصّاً أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ ، الذِينَ لَمْ يَتُوبُوا ، أَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ ، وَسَأُثْبِتُ رَحْمَتِي بِمَشِيئَتِي لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكُفْرَ وَالمَعَاصِيَ ، وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَاتِ التِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُهُمْ ، وَلِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِي الدَّالَّةِ عَلَى الوحْدَانِيَّةِ ، وَيُصَدِّقُونَ رُسُلِي ، وَمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ.(1/68)
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ الذِينَ يَشْمَلُهُمْ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمْ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مُحَمَّداً النَّبيِّ الأُمِّيَّ ، الذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ وَالبِشَارَةُ بِهِ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الخَيْرَاتِ ، وَبِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَيَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ ، كَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ ، وَالقِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ أَوِ الخَطَإِ ، مِنْ غَيْرَ شَرْعٍ لِلدِّيَةِ ، وَقَطْعِ الأَعْضَاءِ الخَاطِئَةِ ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ ، وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ . . . فَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ يُسْرٌ وِسَمَاحَةٌ .
[ وَقَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم يُوصِي أَمِيرِينِ أَرْسَلَهُمَا فِي بَعْثَينِ إِلى اليَمَنِ : " بَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا " ] .
وَوَسَّعَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أُمُورَهَا ، وَسَهَّلَهَا لَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَالذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُميِّ ، حِينَ بُعِثَ ، مِنْ قَومِ مُوسَى وَعِيسَى ، وَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَعَزَّرُوهُ بِأَنْ مَنَعُوهُ وَحَمَوْهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ ، مَعَ التَّعْظِيمِ وَالإِجْلاَلِ ، وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الأَعْظَمَ الذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ ، وَهُوَ القُرآنُ . . فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ، الفَائِزُونَ بالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ .
{(1/69)
إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } . .
يعلن موسى - عليه السلام - إدراكه لطبيعة ما يقع؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين! . وهذا هو الشأن في كل فتنة : أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين . وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين ، ويخرجون منها ضالين . . وموسى - عليه السلام - يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء :
{ أنت ولينا } . .فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك ، ونيل مغفرتك ورحمتك : { فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } . .{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك } . .رجعنا إليك ، والتجأنا إلى حماك ، وطلبنا نصرتك .
وهكذا قدم موسى - عليه السلام - لطلب المغفرة والرحمة ، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه ، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه . فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم؛ ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام .
ثم يجيئه الجواب : { قال : عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء } . .
تقريراً لطلاقة المشيئة ، التي تضع الناموس اختياراً ، وتجريه اختياراً : وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً ، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته ، لأنه هكذا أراد . . فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب . . وبذلك تجري مشيئته . . أما رحمته فقد وسعت كل شيء؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك : وبذلك تجري مشيئته ، ولا تجري مشيئته - سبحانه - بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(1/70)
وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل ، إذا يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء . . بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه ، والذي لا يدرك البشر مداه . . فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله!
{ فسأكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
وإنه لنبأ عظيم ، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي ، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد .
جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، وبمنهج رسالته ، وبخصائص ملته . فهو « النبي الأمي » ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ، ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي؛ ويعظمونه ويوقرونه ، وينصرونه ويؤيدونه ، ويتبعون النور الهادي الذي معه { أولئك هم المفلحون } . .
وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل- على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه ، وعن حامل رايته ، وعن طريق أتباعه ، وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة ، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .(1/71)
وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير ، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين!
إنها الجريمة عن علم وعن بينة! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا؛ وما يزالون يصرون ويدأبون!
والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم!
والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة ، وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة ، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود!
ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب ، والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة!(1/72)
ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد ( المستقلة! ) لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية! تنكر « الغيبية » لأنها « علمية »! و « تطوّر » الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في « حرية! » ، و « تطوّر » كذلك الفقه الإسلامي ، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره .
كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية!!
إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين ، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد !
- - - - - - - - - - - - - - -
12-
الثباتُ في المعركة وذكر الله كثيرا
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) [الأنفال/45-48] }(1/73)
يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ ، وَيَأمُرُهُمْ بِذِكِرِ اللهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ، لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ ، وَتَثْبُتَ نُفُوسُهُمْ ، وَهَذَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الفَوْزِ وَالنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيا ، وَمِنْ أَسْبَابِ الفَوْزِ بِالفَلاَحِ وَبِرِضْوَانِ اللهِ فِي الآخِرَةِ .
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ المُشْرِكِينَ ، وَبِالإِخْلاَصِ لَهُ ، وَبِبَذْلِ الجُهْدِ فِي القِتَالِ ، وَبِذِكْرِ اللهِ كَثِيراً لِتَطْمَئِنَّ النُّفُوسُ وَتَهْدَأَ ، وَيُزَايلَهَا الخَوْفُ وَالتَّرَدُّدُ وَالقَلَقُ ، كَمَا أمَرَهُمْ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِ ، إِنْجَاحاً لِلْخُطَّةِ العَامَّةِ لِلْجَيْشِ فِي المَعْرَكَةِ . ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِألاَّ يَتَنَازَعُوا ، وَلاَ يَخْتَلِفُوا ، لأنَّ فِي التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ الفَشَلَ وَالخُذْلاَنَ وَضَيَاعَ مَا حَقَّقَهُ المُسْلِمُونَ فِي المَعْرَكَةِ { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } . ثُمَّ يُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتِزَامِ الصَّبْرِ ، لأنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .(1/74)
وَعَلَيْكُمْ ، أَيُّها المُؤْمِنُونَ ، أَنْ تَمْتَثِلُوا لِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ صلى الله عليه وسلم ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِمَا ، وَلاَ تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمْ المُشْرِكِينَ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بَطَراً بِمَا أوتُوا مِنَ النَّعْمَةِ ، وَمُرَاءَاةً لِلنَّاسِ لِيُعْجَبُوا بِهِمْ ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالغِنَى وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ . . وَهُمْ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِخُرُوجِهِم الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ ، وَالحَدَّ مِنْ انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ ، وَاللهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ ، وَسَوْفَ يُجَازِيهِمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
في هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات , وقواعد وتوجيهات , وصور ومشاهد ; وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة , وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير ; ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد !
إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا - في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة - وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء , وإلى التزود بزاد النصر ; والتأهب بأهبته .
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا , واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون , وأطيعوا الله ورسوله , ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم , واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط) . . فهذه هي عوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .(1/75)
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ; وأنه يألم كما يألمون , ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه ! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر ? بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها , ولا حياة له سواها ?!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة , وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة , فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي , قولهم:(وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين) . .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل , وهي تواجه جالوت وجنوده:(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) . . ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا , والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . .(1/76)
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ; فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" ; فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم , كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها:(الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيماناً وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل) . .
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى:إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها , فهي معركة لله , لتقرير ألوهيته في الأرض , وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ; وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ; لا للسيطرة , ولا للمغنم , ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ; يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله , فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) . .(1/77)
فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس للهورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر , إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها ! وإنما هو وضع "الذات" في كفة , والحق في كفة ; وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . . ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة . . إنها طاعة القيادة العليا فيها , التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله , ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . . والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . . أية معركة . . في ميدان النفس أم في ميدان القتال . (واصبروا , إن الله مع الصابرين) . .
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح . . ويبقى التعليم الأخير: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط)(1/78)
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها ! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ; تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر , وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده , والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله , تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم , لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة , فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ; وفي إقامة منهجه في الحياة ; وفي إعلاء كلمته في الأرض ; وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ; يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ; كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله:وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط) . .(1/79)
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل , وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير , إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل:" لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر , وتعزف القيان علينا , فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:" واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع , لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم , إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان , وأصاب محمد صلى الله عليه وسلم النفير ; وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ; وكانت بدر قاصمة الظهر لهم:(والله بما يعملون محيط) . .
لا يفوته منهم شيء , ولا يعجزه من قوتهم شيء , وهو محيط بهم وبما يعملون .
- - - - - - - - - - - - -
13- الجهاد بالمال والنفس
قال تعالى :{ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة/86-90](1/80)
وَإِذَا أُنْزِلتَ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ فِيهَا دَعْوَةٌ إلَى الإِيمَانِ بِاللهِ ، وَالإِخْلاَصِ فِي العَقِيدَةِ لَهُ ، وَفِيهَا ذِكْرٌ لِلقِتَالِ ، وَحَثٌّ عَلَى الجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، حَاوَلَ ذَوُو القُدْرَةِ عَلَى الجِهَادِ ، وَالسَّعَةِ فِي الإِنْفَاقِ ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ القِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ ، وَاسْتَأْذَنُوكَ فِي القُعُودِ مَعَ القَاعِدِينَ مِنَ العَجَزَةِ وَأَصْحَابَ الأَعْذَارِ .
رَضُوا لأَنْفُسِهِمْ بِالقُعُودِ ، وَبِعَارِ البَقَاءِ مَعَ النِّسَاءِ المُتَخَلِّفَاتِ فِي البَلَدِ ، بَعْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ ( الْخَوَالِفِ ) ، وَقَدْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الأُمُورُ ، وَأَصْبَحُوا لاَ يَفْقَهُونَ ، وَلاَ يَعْرِفُونَ مَا فِي الجِهَادِ مِنْ خَيْرٍ لِلنَّفْسِ وَلِلجَمَاعَةِ ، وَلاَ مَا فِي القُعُودِ عَنِ الجِهَادِ مِنْ مَضَرَّةٍ لِلنَّفْسِ وَلِلجَمَاعَةِ ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
إذَا تَخَلَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الجِهَادِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَالمُؤْمِنِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَهَؤُلاَءِ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالخَيْرَاتِ : فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ النَّصْرِ ، وَمَحُوِ الْكُفْرِ ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَالتَّمَتُّعِ بِالمَغَانِمِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِرِضَا اللهِ وَجَنَّاتِهِ .
وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .(1/81)
إنهما طبيعتان . . طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء . وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء . وإنهما خطتان . . خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون . وخطة الاستقامة والبذل والكرامة .
فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولوا الطول ، الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل . جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها الله لهم ، وشكر النعمة التي أعطاها الله إياهم ، ولكن ليتخاذلوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن.
دون أن يستشعروا ما في هذه القعدة الذليلة من صغار وهوان ، ما دام فيها السلامة ، وطلاب السلامة لا يحسون العار ، فالسلامة هدف الراضين بالدون : { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } . .
ولو كانوا يفقهون لأدركوا ما في الجهاد من قوة وكرامة وبقاء كريم ، وما في التخلف من ضعف ومهانة وفناء ذميم .
« إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة . وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين . وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق ، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال ، فتعيش عيشة تافهة رخيصة ، مفزعة قلقة ، تخاف من ظلها ، وتفرق من صداها ، يحسبون كل صيحة عليهم ، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة . . هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة . إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة . يؤدونها من نفوسهم ، ويؤدونها من أقدارهم ، ويؤدونها من سمعتهم ، ويؤدونها من اطمئنانهم ، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون » ومن هؤلاْ . . أولئك الذين { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } . .
{(1/82)
لكن الرسول والذين آمنوا معه } . . وهم طراز آخر غير ذلك الطراز . . { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } . . فنهضوا بتكاليف العقيدة ، وأدوا واجب الإيمان؛ وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود { وأولئك لهم الخيرات } . . خيرات الدنيا والآخرة ، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية . وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى ، ولهم رضوان الله الكريم { وأولئك هم المفلحون } . . الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم : { أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } . . { ذلك الفوز العظيم } .
- - - - - - - - - - - - - -
13-
الركوع والسجود والعبادة لله وفعل الخير
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }[الحج 77-78]
يأمُر اللهُ المؤمِنِينَ بِعِبََادَتِهِ ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلاةِ ، وَبِالرُّكُوع والسجُودٍِِِ له ، وَبِفِعْلِِ الخَيْرِ ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُوصِلُُهُمْ إلَى الخَيْرِ ، لَعَلََّ ذَلِكَ يُوصِلُهُمْْ إِلَى الخَيْرِ واللفَلاََحِ فيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِِ .(1/83)
يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بٍِالجِهَادِ وأَخْلَصَهُُ : بِالأَمْوَالِ والأَنْفْسِ والألْسِنَةِ ، فَقَدْ اصْطفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ، واخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سَِِوامهُم ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ ، وَلَمْْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْهِمِ فِي شَيْءٍٍ مِنْ أُمورِ دِينِِهمِ ، بَلْ وَسَّع عَلَيهم ، فِي شَيْءِ مِنْ أُمورِ دِيِنهِم ، بَلْْ وَسَّعَ عََلَيْهِمِ ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلّةِ إبْرِاهيِمَ عَلَيْهِم فِي شَيْءٍ مِنْ أُمورِ دِيِنِهم ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْهم ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامَمُ ( وَنَصَبَ مِلَّةِ ) عَلَى تَقْدِيرِ الزَمُوا مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) ، وَقَدْ سَمَّاهُم اللهُ تَعَالَى بِالمُسْلِمين فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ ، وَفي هَذَا القُرْآنِ ( مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) .(1/84)
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً عُدُولاً لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، لأَنَّ النَّاسَ جَمِيعاً يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمِ ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغَتَهُم رِسَالَةَ أَبْلَغَتْهُم رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، والرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ أَبْلَغَهَا مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيهِ ، فَلْيُقَابِلِ المُسْلِمُونَ هَذِهِ النِعْمَةَ العَظِيمَةَ بالقِيَامِ بِشُكْرِ اللهِ عَلَيهَا ، وَأداءِ حَقِّ اللهِ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِم ، ومِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إقَامَةُ الصَّلاَةِ وأداؤها حَقَّ أَدَائِها ، وَدفْعُ الزَّكَاةِ ، والاعْتِصَامُ بِاللهِ ، وَالاسْتِعَانَهُ بِهِ ، والاتِّكَالُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مَوْلاَهُمْ وَحَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ ، وَهُوَ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّاصِر عَلَى الاَعْداءِ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ " ) . " وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بنَ جبَلٍ وَأَبَا مُوسَى حِينَما بَعَثَهُمَا أمِيرَيْنَ عَلَى اليَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا : بَشِّرِا وَلاَ تُنَفَّرَا ، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرا " .
وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة , ويلخص تكاليفها التي ناطها بها , ويقرر مكانها الذي قدره لها , ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل , متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله .
إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود . وهما ركنا الصلاة البارزان . ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة , وحركة ظاهرة في التعبير , ترسمها مشهدا شاخصا , وهيئة منظورة . لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثرا وأقوى استجاشة للشعور .(1/85)
ويثني بالأمر العام بالعبادة . وهي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها , وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات , ولم يتحول في طبيعتها شيء , ولكن تحول القصد منها والاتجاه !
ويختم بفعل الخير عامة , في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة . .
يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة , الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة , فاستقام ضميرها واستقامت حياتها نهضت بالتبعة الشاقة: (وجاهدوا في الله حق جهاده) . . وهو تعبير شامل جامح دقيق , يصور تكليفا ضخما , يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .
(وجاهدوا في الله حق جهاده) . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء , وجهاد النفس , وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .
(وجاهدوا في الله حق جهاده) . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة , واختاركم لها من بين عباده: (هو اجتباكم) . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة , ولا يجعل هنالك مجالا للتخلي عنها أو الفرار ! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء !(1/86)
وهو تكليف محفوف برحمة الله: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة , والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !
وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية , موصول الماضي بالحاضر: (ملة أبيكم إبراهيم) وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - فلم تنقطع من الأرض , ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .
وقد سمى الله هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن: (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) . .
والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحتى سلمت إليها الأمانة , وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله: (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) . . فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة , ويحدد نهجها واتجاهها , ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا , فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ; وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها , وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج , المختار من الله .
ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه , وتخلت عن تكاليفه , ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .(1/87)
هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله: فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير.
فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد
بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها , بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد , والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .
فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .
إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ; ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .
وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية , ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة , المستقيمة على منهج الله في ظل الله . .
- - - - - - - - - - - - - -
15- الإيمانُ الكامل(1/88)
قال تعالى : { َقدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) [المؤمنون] }
لَقَدْ فَازَ المُؤْمِنُونَ المُصَدِّقُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ ، وسَعِدُوا وَأَفْلَحُوا الإِفْلاَحُ - الفَوْزُ بِالبُغْيَةِ بَعْدَ سَعْيٍ واجْتِهَادٍ.
الذين خَشَعَتْ قُلُوبُهم وَخَافَتْ مِنَ اللهِ ، وَسَكَنَتْ . والخُشُوعُ فِي الصَّلاَةِ إِنَّمَا يَحْصلُ لِمَنْ فَرَغَ قَلْبُه لَهَا ، وَاشْتَغَلَ بِها عَمَّا سِوَاهَا ، وَآثَرَهَا عَلَى غَيْرِها ، وَحِينَئذٍ تَكُونُ رَاحةً لَهُ ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ .
والذِينَ يَنْصِرِفُونَ إِلَى الجِدِّ ، وَيُعْرِضُونَ عَمَّا لاَ فَائِدَةَ مِنْهُ مِنَ الأَفْعَالِ والأَقْوالِ ( اللَّغْوِ ) . وَقَدْ وَصفَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } أَيْ إِنَّهُمْ لاَ يَتَوقَّفُونَ وَلاَ يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ .(1/89)
وَالذينَ يُطَهِّرًُونَ أَنْفُسَهُم بِتَأْدِيَةِ زَكَاةِ أَمْوالِهِمْ . وَهَذِهِ الآيَةُ مَكَّيَّةٌ ، وَزَكَاةُ المَالِ فُرِضَتْ فِي المَدِينَةِ ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُم : إِنَّ المَقْصُودَ بالزَّكَاةِ هُنَا زَكَاةُ النفْسِ مِنَ الشِّرْكِ والدَّنَسِ . ( وَيَرَى ابنُ كَثِيرٍ : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ المَقْصُودُ بِهَا كِلاَ الأَمَريْنِ ، زَكَاةَ النفْسِ وطَهَارَتَهَا ، وزكَاةً الأَمْوَالِ لأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ زَكَاةِ النَّفْسِ ) .
والذينَ يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُم فَلاَ يُقَارِفُونَ مُحَرَّماً ، وَلاَ يَقَعُونَ فِيمَا نَهَاهُم اللهُ عَنْهُ مِنْ زَنىً وَغَيْرِهِ .
وَلاَ يَقْرَبُونَ سِوَى مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجٍِههِمْ ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْْمَانُهم مِنْ إِمَاءٍ ، وَمَنْ بَاشَرَ مَا أَحَلَّّ اللهُ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَلُومٍ فِي ذَلِكَ .
فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الحَرَامِ ، فَهْوَ مِنَ المُعْتَدِينَ ، المُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللهُ .
وَالذينَ إِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا أَمَانَاتِهم ، بَلْ يُؤَدُّونَها إِلى أَهْلِهَا ، وإِذَا عَاهَدُوا أو عَاقَدُوا أَوْفُوا بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَخُونُوا وَلَمْ يَغْدُرُوا ، وَبقوا مُحَافِظِينَ عَلَى عُهُودِهِمْ وأَمَانَاتِهِمْ وعُقُودِهِمْ .
والذينَ يُداوِمُونَ عَلَى أَدَاءِ صَلَوَاتِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ ، يُؤَدُّونَها فِي مَوَاقِيتِهَا ، ويَتِمُّونَها بِخُشُوعِها ، وسُجُودِها ، حَتَّى تُؤدِّي المَقْصُودَ مِنْهَا ، وَهُوَ خَشْيَةُ اللهِ ، والانْتِهَاءُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ .(1/90)
وَبَعْدَ أَنْ عَدَّدَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوصَافَ المُؤْمِنِينَ الحَمِيدَةَ قَالَ إِنَّ الذينَ اتَّصَفُوا بهذِهِ الصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ يَرِثُونَ الجَنَّةَ ، وَيَتَبَوَّءُونَ أَعْلَى مَرَاتِبها ، جَزاءً لَهُمْ عَلَى مَا زَيَّنُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مِنَ الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ ، والآدَابِ العَاليَةِ ، وَيَبْقَونَ فِيها خَالِدِينَ أَبَداً .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ وَلَهُ مَنْزِلانِ : مَنْزِلٌ فِي الجَنَّةِ ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ . فَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ ، فَذَلِكَ قَوْلَه تَعَالَى : { أولئك هُمُ الوارثون } " ( أَخْرَجَه ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَة ) .
فَهَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ هُمُ الذينَ يَرِثُونَ مَنَازِلَ الكُفَّارِ فِي الجَنَّةِ ، وَيْبْقَونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " إِذَا سَأَلْتُم الله الجَنَّةَ فَاسْألوهُ الفِرْدَوْسَ فَإِنَّه أَعْلَى الجَنَّةِ وأَوْسَطُ الجَنَّةِ ، وَمِنْهُ تُفَجِّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ "
إنه الوعد الصادق ، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين . وعد الله لا يخلف الله وعده؛ وقرار الله لا يملك أحد رده . الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة . فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة . الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته؛ والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح ، وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين .
فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة ، ووعدهم هذا الوعد ، وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان؟(1/91)
من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض؟ والمكتوب لهم الفوز والنجاة ، والثواب والرضوان في الآخرة؟ ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله؟
فما قيمة هذه الصفات؟
قيمتها أنها ترسم شخصية المسلم في أفقها الأعلى . أفق محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله ، وخير خلق الله ، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه ، والذي شهد له في كتابه بعظمة خلقه : { وإنك لعلى خلق عظيم } فلقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن . ثم قرأت . { قد أفلح المؤمنون } حتى { والذين هم على صلواتهم يحافظون } . وقالت . هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومرة أخرى . . ما قيمة هذه الصفات في ذاتها؟ ما قيمتها في حياة الفرد ، وفي حياة الجماعة ، وفي حياة النوع الإنساني؟
{ الذين هم في صلاتهم خاشعون } . . تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله ، فتسكن وتخشع ، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات . ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته ، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل ، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه . ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم ، فلا يشهدون إلا الله ، ولا يحسون إلا إياه ، ولا يتذوقون إلا معناه . ويتطهر وجدانهم من كل دنس ، وينفضون عنهم كل شائبة؛ فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله . . عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها ، وتجد الروح الحائرة طريقها ، ويعرف القلب الموحش مثواه . وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله .
{(1/92)
والذين هم عن اللغو معرضون } . . لغو القول ، ولغو الفعل ، ولغو الاهتمام والشعور . إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر . . له ما يشغله من ذكر الله ، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق . وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب ، ويشغل الفكر ، ويحرك الوجدان . . وله ما يشغله من تكاليف العقيدة : تكاليفها في تطهير القلب ، وتزكية النفس وتنقية الضمير .
وتكاليفها في السلوك ، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان . وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف . وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها ، والسهر عليها من كيد الأعداء . . وهي تكاليف لا تنتهي ، ولا يغفل عنها المؤمن ، ولا يعفي نفسه منها ، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية . وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري . والطاقة البشرية محدودة . وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو اللهو . والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح .
ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين . ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ . .
{ والذين هم للزكاة فاعلون } . . بعد إقبالهم على الله ، وانصرافهم عن اللغو في الحياة . . والزكاة طهارة للقلب والمال : طهارة للقلب من الشح ، واستعلاء على حب الذات ، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر ، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء . وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيباً حلالا ، لا يتعلق به حق إلا في حالات الضرورة ولا تحول حوله شبهة . وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب والترف في جانب ، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعاً ، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين ، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكيك والانحلال .
{(1/93)
والذين هم لفروجهم حافظون } . وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة . ووقاية النفس والأسرة والمجتمع . بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال ، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلال؛ وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب ، ومن فساد البيوت فيها والأنساب .والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد . لأنه لا أمن فيها للبيت ، ولا حرمة فيها للأسرة . والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة ، إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج؛ ولا بد له من الأمن والاستقرار والطهارة ، ليصلح محضناً ومدرجاً ، وليعيش فيه الوالدان مطمئناً كلاهما للآخر ، وهما يرعيان ذلك المحضن . ومن فيه من فراخ!
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية ، فالمقياس الذي لا يخطئ للإرتقاء البشري هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها . وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة ، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم ، لأنها طريقة نظيفة معروفة ، يعرف فيها كل طفل أباه . لا كالحيوان الهابط الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح ، وبدافع اللقاح ، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء! .
والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل ان يودعها بذور الحياة : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } .
. ومسألة الأزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلاً . فهي النظام المشروع المعروف . أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئاً من البيان .(1/94)
ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال ، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي . واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي . فما كان يمكن والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين بالقوة المادية في طريقه أن يلغي هذا النظام من جانب واحد ، فيصبح أسارى المسلمين رقيقاً عند اعدائه ، بينما هو يحرر أسارى الأعداء . . فجفف الإسلام كل منابع الرق عدا أسرى الحرب إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى .
ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات ، تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن مقضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح . فأباح الإسلام حينئذ الاستماع بهن بالتسري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحرَّرن لسبب من الأسباب الكثيرة التي جعلها الإسلام سبلاً لتحرير الرقيق .
ولعل هذا الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن ، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات تحريم الرقيق هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام! وذلك حتى يأذن الله فيرتفعن إلى مرتبة الحرية . والأمة تصل إلى مرتبة الحرية بوسائل كثيرة . . إذا ولدت لسيدها ثم مات عنها . وإذا أعتقها هو تطوعاً أو في كفارة . وإذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها . وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها . . الخ
وعلى أية حال فقد كان الإسترقاق في الحرب ضرورة وقتية ، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله يسترق الأسرى ، ولم يكن جزءاً من النظام الاجتماعي في الإسلام .
{(1/95)
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } . . وراء الزوجات وملك اليمين ، ولا زيادة بطريقة من الطرق . فمن ابتغى وراء ذلك فقد عدا الدائرة المباحة ، ووقع في الحرمات ، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد . وهنا تفسد النفس لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح ، ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان؛ وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا ومن هناك : وهذا كله هو الذي يتوقاه الإسلام .
{ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } راعون لأماناتهم وعهدهم أفراداً؛ وراعون لأماناتهم وعهدهم جماعة . .
والأمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق الجماعة؛ وفي أولها أمانة الفطرة؛ وقد فطرها الله مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الذي هي منه وإليه شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته ، بحكم إحساسها الداخلي بوحدة الناموس الذي يحكمها ويحكم الوجود ، ووحدة الإرادة المختارة لهذا الناموس المدبرة لهذا الوجود .
. والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها ، فتظل قائمة بأمانتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته . ثم تأتي سائر الأمانات تبعاً لتلك الأمانة الكبرى .
والعهد الأول هو عهد الفطرة كذلك . وهو العهد الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان بوجوده وبتوحيده . وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق . فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيداً عليه فيه ، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته .(1/96)
والجماعة المسلمة مسؤولة عن أماناتها العامة ، مسؤولة عن عهدها مع الله تعالى ، وما يترتب على هذا العهد من تبعات . والنص يجمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة وكل عهد . ويصف المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون . فهي صفة دائمة لهم في كل حين . وما تستقيم حياة الجماعة إلا أن تؤدى فيها الأمانات؛ وترعى فيها العهود؛ ويطمئن كل من فيها إلى هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة ، الضرورية لتوفير الثقة والأمن والاطمئنان .
{ والذين هم على صلواتهم يحافظون } . . فلا يفوّتونها كسلاً ، ولا يضيعونها إهمالاً؛ ولا يقصرون في إقامتها كما ينبغي أن تقام؛ إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن ، مستوفية الأركان والآداب ، حية يستغرق فيها القلب ، وينفعل بها الوجدان . والصلاة صلة ما بين القلب والرب ، فالذي لا يحافظ عليها لا ينتظر أن يحافظ على صلة ما بينه وبين الناس محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير . . ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان ، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله .
تلك الخصائص تحدد شخصية المؤمنين المكتوب لهم الفلاح . وهي خصائص ذات أثر حاسم في تحديد خصائص الجماعة المؤمنة ونوع الحياة التي تحياها . الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله؛ وأراد له التدرج في مدارج الكمال . ولم يرد له أن يحيا حياة الحيوان ، يستمتع فيها ويأكل كما تأكل الأنعام .
ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان ، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق ، إلى الغاية المقدرة لهم ، هنالك في الفردوس ، دار الخلود بلا فناء ، والأمن بلا خوف ، والإستقرار بلا زوال : { أولئك هم الوارثون ، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}
وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين . وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال .(1/97)
ومن صفات المؤمنين ينتقل إلى دلائل الإيمان في حياة الإنسان ذاته ، وفي أطوار وجوده ونموه ، مبتدئاً بأصل النشأة الإنسانية ، منتهياً إلى البعث في الآخرة مع الربط بين الحياتين في السياق : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاماً ، فكسونا العظام لحماً .
- - - - - - - - - - -
16- موازينهم ثقيلة بالحسنات
قال تعالى :{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) [الأعراف/4-11](1/98)
وَكَثِيرٌ مِنَ القُرَى ( أَوِ البِلاَدِ ) أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَهَا ، لِمُخَالَفَتِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ فِيما جَاؤُوهُمْ بِهِ ، وَتَكْذِيبِهمْ إِيَّاهُمْ ، فَأَخْزَاهُمُ اللهُ فِي الدُّنيا ، وَسَيُذِلُّهُمْ فِي الآخِرَةِ ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَبَأْسُهُ لَيلاَ ( بَيَاتاً ) وَمِنْهُمْ مَنْ جَاءَهُمْ نَهَاراً وَهُمْ يَسْتَرِيحُونَ وَسَطَ النَّهَارِ ( قَائِلُونَ ) ، وَكِلاَ الوَقْتَينِ وَقْتُ غَفْلَةٍ مِنَ النَّاسِ وَلَهْوٍ ، فَعَلى العَاقِلِ أَلاَّ يَغْتَرَّ بِالدُّنْيَا ، وَأَلاَّ يَأْمَنَ غَدْرَ اللَّيَالِي .
وَحِينَ جَاءَهُمُ العَذَابُ لَمْ يَقُولُوا شَيْئاً غَيْرَ الاعْتِرَافِ بِذُنُوبِهِمْ ، وَظُلْمِهِمْ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ ، وَشَهِدُوا بِبُطْلاَنِهِ ، وَبِأَنَّهُم حَقِيقُونَ بِهَذا العَذَابِ الذِي نَزَلَ بِهِمْ ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَظْلِمْهُمْ .
يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُ سَيَسْأَلُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا أَجَابُوا بِهِ رُسُلَهُمْ فِيمَا أَرْسَلَهُمُ اللهُ بِهِ إِلَيْهِم ، وَسَيَسْأَلُ الرُّسُلَ أَيْضاً عَمَّا بَلَّغُوهُ إلَى الأُمَمِ مِنْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ ، وَعَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ أَقْوَامُهُمْ .
وَسَيَقُصُّ اللهُ تَعَالَى ، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، عَلَى الرُّسُلِ ، وَعَلَى أَقْوَامِهِمْ الذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِم ، كُلَّ مَا وَقَعَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ ، قَصَصاً بِعِلْمٍ مِنْهُ مُحِيطٍ بِكُلِّ شَيءٍ كَانَ مِنْهُمْ ، وَمَا كَانَ اللهُ غَائِباً عَنْهُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ ، وَلاَ فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ ، بِلْ كَانَ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ ، وَيُبْصِرُ مَا يَعْمَلُونَ ، وَيُحِيطُ بِمَا يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ .(1/99)
وَاللهُ تَعَالَى يَزِنُ أَعْمَالِ العِبَادِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُقَدِّرُهَا بِعَدْلٍ تَامٍّ ( بِالحَقِّ ) ، فَلا يَظْلِمُ أَحَداً شَيْئاً ، فَالذِينَ تَرْجَحُ مَوَازِينُ أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ وَحَسَنَاتُهُمْ ( ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمْ ) فَأُولئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ بِالنَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ ( المُفْلِحُونَ ) .
أَمَّا الذِينَ خَفَّتْ موازينُ أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَرَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وَكَيثْرَةِ مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ السَّيِّئاتِ ، فَهؤُلاءِ يَكُونُونَ قَدْ خِسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لأَنَّهُمْ حَرَمُوهَا السَّعَادَةَ التِي كَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لَهَا لَوْ لمْ يُفْسِدُوا فِطْرَتَهَا .
وَالمُؤْمِنُونَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِ الأَعْمَالِ ، هُمُ المُفْلِحُونَ ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَهُوَ مُفْلِحٌ ، وَإِنْ عُذِّبَ عَلَى بَعْضِ ذُنُوبِهِ بِمِقْدَارِهَا ، وَإِنَّ الكَافِرِينَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَكَاتِهِمْ هُمْ فِي خُسْرَانٍ عَظِيمٍ .
يَمْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُمْ الأَرْضَ قَراراً يَعِيشُونَ وَيَسْتَقِرُّونَ عَلَيها ، وَجَعَلَ فِيها جِبَالاً رَاسِياتٍ تَسَهِّلُ اسْتِقْرارَ النَّاسِ عَلَيهَا ، فَلا تَمِيدُ بِهِمْ ، وَجَعَلَ فِيها أَنْهَاراً ، وَأَبَاحَ للنَّاسِ التَّمَتُّعَ بِمَنَافِعِها ، وَسَخَّرَ الرِّياحَ لإِخْرَاجِ أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا ، وَجَعَلَ لِلنَّاسِ مَا يَيَسَبَّبُونَ بِهِ وَيَتَكَسَّبُونَ ( مَعَايِشَ ) ، وَلِكنَّ النَّاسَ ، مَعَ جَميعِ هذِهِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، قَلِيلٌ مِنْهُمُ الشَّكُورُ ، وَاللهُ تَعَالَى سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُفْرَانِهِمْ بِالنِّعَمِ حِسَاباً عَسِيراً .(1/100)
إن مصارع الغابرين خير مذكر ، وخير منذر . . والقرآن يستصحب هذه الحقائق ، فيجعلها مؤثرات موحية ، ومطارق موقظة ، للقلوب البشرية الغافلة .
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها . أهلكت وهي غارة غافلة . في الليل وفي ساعة القيلولة ، حيث يسترخي الناس للنوم ، ويستسلمون للأمن : { وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون } .وكلتاهما .. البيات والقيلولة . . ساعة غرّة واسترخاء وأمان! والأخذ فيهما أشد ترويعا وأعنف وقعا . وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط!
ثم ما الذي حدث؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار!
{ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين } . .
والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! { إنا كنا ظالمين } . . فيا له من موقف مذهل رعيب مخيف ، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك!
إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك . فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن . . فالشرك هو الظلم . والظلم هو الشرك . وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟!
وبينما المشهد معروض في الدنيا ، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه ، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين؛ وتكشف لهم الحق فعرفوه ، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف ، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة . فإن الندم قد فات موعده ، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب . .
بينما المشهد هكذا معروضاً في الدنيا إذا السياق ينتقل ، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة . بلا توقف ولا فاصل . فالشريط المعروض موصول المشاهد ، والنقلة تتخطى الزمان والمكان ، وتصل الدنيا بالآخرة ، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة؛ وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة :
{(1/101)
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم ، وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق . فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون } . .
إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي ، خاصية من خواص القرآن . . إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة . وفي سطر من كتاب . لتلتحم الدنيا بالآخرة؛ ويتصل البدء بالختام!
فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء ، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون : { إنا كنا ظالمين } .
ولكنه السؤال الجديد ، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود : { فلنسألن الذين أرسل إليهم ، ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم - وما كنا غائبين } .
فهو السؤال الدقيق الوافي ، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين . . وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد؛ وتفصل فيه الخفايا والدقائق! . . يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون . ويسأل الرسل فيجيبون . ثم يقص عليهم العليم الخبير كل شيء أحصاه الله ونسوه! يقصه عليهم - سبحانه - بعلم فقد كان حاضراً كل شيء . وما كان - سبحانه - غائباً عن شيء . . وهي لمسة عميقة التأثير والتذكير والتحذير!
{ والوزن يومئذ الحق } . .
إنه لا مجال هنا للمغالطة في الوزن؛ ولا التلبيس في الحكم؛ ولا الجدل الذي يذهب بصحة الأحكام والموازين ..
{ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } . .
فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق . وجزاؤها إذن هو الفلاح . . وأي فلاح بعد النجاة من النار ، والعودة إلى الجنة ، في نهاية الرحلة المديدة ، وفي ختام المطاف الطويل؟
{ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون } . .(1/102)
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ . وقد خسروا أنفسهم . فماذا يكسبون بعد؟ إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه . فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له؟
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله : { بما كانوا بآياتنا يظلمون } والظلم - كما أسلفنا - يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر : { إن الشرك لظلم عظيم } ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان - كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر « الإسلامي »! . . فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبيه والمثيل . مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء . . وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق . . من أن الحساب يومئذ بالحق ، وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة ، وأن عملاً لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع .
من هنا تبدأ الرحلة الكبرى . . تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض ، كحقيقة مطلقة ، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً .
{ ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش ، قليلاً ما تشكرون } :
إن خالق الأرض وخالق الناس ، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض . هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله ، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش . .
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، ودورتها حول الشمس ، وميلها على محورها ، وسرعة دورتها . . إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها ، وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته ، وبنمو هذه الحياة ورقيها معاً . . وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض ، قادراً على تطويعها واستخدامها؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته .(1/103)
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك ، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن « يقهر الطبيعة » كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة!
إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة . . هي التي تصور الكون عدواً للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذه القوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية ، وكل تسخير لها « قهراً للطبيعة » في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني!
إنها تصورات سخيفة ، فوق أنها تصورات خبيثة!
لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان ، عدوة له ، تتربص به ، وتعاكس اتجاهه ، وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون- ما نشأ هذا الإنسان أصلاً! وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق . . إن الله هو الذي خلق الكون ، وهو الذي خلق الإنسان . وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان ، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته . . . وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه . ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة!
وفي ظل هذا التصور يعيش « الإنسان » في كون مأنوس صديق؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة .
.(1/104)
يعيش مطمئن القلب ، مستروح النفس ، ثابت الخطو ، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة؛ ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته؛ وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع .
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه . . على العكس ، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة . . إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره ، ولا يمنع عنه مدده وعونه . . وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله!
إن مأساة « الوجودية » الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث . . تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني ، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني! والبؤس النفسي والعقلي ، والشرود في التيه : تيه التمرد ، أو تيه العدم . . وهما سواء . .
وهي ليست مأساة « الوجودية » وحدها من مذاهب الفكر الأوربي . إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها ، المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة ، التي تنشئ في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود ، وما وراءه من قوة مدبرة .
إن « الإنسان » هو ابن هذه الأرض؛ وهو ابن هذا الكون . لقد أنشأه الله من هذه الأرض ، ومكنه فيها ، وجعل له فيها أرزاقاً ومعايش ، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان ، تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته . .(1/105)
ولكن الناس قليلاً ما يشكرون . . ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون . . وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر ، وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون : وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى :{ قليلاً ما تشكرون } .
-----------------------
و قال تعالى :{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) }[المؤمنون/102-104]
والعَمَلُ هَوَ مِيزَانُ عِنْدَ اللهِ ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ كَانَ مِنَ المُفْلِحِينَ الذين فَازُوا بِمَا سَعَوا إِلَيْهِ ، فَنَجَوْا مِنَ النَّارِ ، وأُدْخِلُوا الجَنَّةَ .
وَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَأُوْلَئِكَ الذين خَابُوا وَهَلُكُوا ، وَبَاؤُوا بالصِّفَقَةِ الخَاسِرَةِ وَخَلَدُوا فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
تَلْفَحُ النَّارُ وُجُوهَهُم فَتَشْوِيها ، وَتَتَقَلَّصُ شِفَاهُهُمْ ، وَتَتَغَيَّرُ مَلاَمِحُهُمْ
ومعنى الآيتين الكريمتين : والوزن الحق ثابت فى ذلك اليوم الذى يسأل الله فيه الرسل والمرسل إليهم . ويخبرهم جميعا بما كان منهم فى الدنيا ، فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان والعلم الصالح ، فأولئك هم الفائزون بالثواب والنعيم ، ومن خفت موازين أعماله بالكفر والمعاصى فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب .(1/106)
قال تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } وقد اختلف العلماء فى كيفية الوزن فقال بعضهم : إن التى توزن هى صحائف الأعمال التى كتبت فيها الحسنات والسيئات تأكيداً للحجة وإظهاراً للنصفة ، وقطعا للمعذرة . قال ابن عمر : " توزن صحائف أعمال العباد يوم القيامة " .
وقيل : إن الوزن هنا كناية عن القضاء السوى ، والعدل التام فى تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال ، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول : هذا الكلام فى وزن هذا وفى وزانه . أى يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن .
والذى نراه أن من الواجب علينا أن نؤمن بأن فى الآخرة وزنا للأعمال ، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء ، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجرى فى ذلك اليوم الهائل الشديد ، أما كيفية هذا الوزن فمرده إلى الله ، لأنه شىء استأثر الله بعلمه ، وعلينا أن نعفى أنفسنا من محاولة الكشف عن أمر غيبى لم يرد فى حقيقته خبر قاطع فى كتاب الله أو سنة رسوله .
** - - - - - - - - - - -
17- غض البصر وحفظ الفرج(1/107)
قال تعالى :{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } [النور/30، 31]
يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَه المُؤْمِنِيِنَ بِأَنْ يَغُضُوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ البَصَرُ عَلَى مُحَرِّم عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَعَلى المُؤْمِن أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ سَرِيعاً ، كَمَا يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِحِفْظِ فُرُوجِهم عَنِ الزِّنَى ، وبِحِفْظِها مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا ، فَذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَزَكَى لِدِيِنهِم .
( وَفِي الحَدِيثِ ، " احْفَظْ عَوْرَتَكَ إٍِلاَّ مِنْ زَوْجِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ " ) . ( أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ )(1/108)
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبَصَارِهِنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ ، وأَنْ يَغْضُضْنَ بَصَرَهُنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلى الرِّجَالِ الأَجَانِبِ عَنْهُنَّ ، لأَنَّهُ أَوَلى بِهِنَّ وَأَلْيَقُ ، وَأَنْ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ عَنْ الفَوَاحِشِ ، وَعَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ ، وَعَنْ أن ، ْ يَراهُنَّ ، أَحَدٌ ، وَأَنْ لاَ يُظْهِرْنَ شَيئْاً مِنَ الزِّينَةِ للأَجَانِبِ إِلاَّ مَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كالرِّدَاءِ والثِّيَابِ والخلخَالِ ( وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : الوَجْهِ والكَفَّيْنِ والخَاتَمِ ) ، وأَنْ يُلْقِينَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى فَتْحَاتِ ثِيَابِهِنَّ عِنْدَ الصُّدُورِ ( جُيُوبِهِنَّ ) لِيَسْتُرْنَ بِذَلِكَ شُعُورَهُنَّ وَأَعْنَاقُهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ حَتَّى لاَ يُرى مِنْهَا شَيءٌ ، وَأَنْ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( كالسِّوارِ والخَاتَمِ والكُحْلِ والخِصَابِ . . .(1/109)
) إِلاَّ للأَزْوَاجِ وآبَاءِ الأَزْوَاجِ والإخْوَةِ وأَبْنَائِهِمْ ، وَأبْنَاءِ الأَخَوَاتِ ، وأَبْنَاءِ الأَزْوَاجِ ، وَبَقِيةِ المَحَارِمِ الذينَ عَدَّدهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ ، أو لِلنِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ ( نِسَائِهِنَّ - وَقِيلَ إِنَّ نِسَاءَهُنَّ تَعْنِي النِّسَاءَ المَخْتَصَّاتِ بِصُحْبَتِهِنَّ وخِدْمَتِهِنَّ ) ، أو لِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مِنْ عَبِيدَ مُسْلِمِينَ ( وَقِيلَ حَتَّى لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ ) ، أو الأتْبَاعِ المُغَفَّلِينَ وَفِي عُقُولِهِمْ وَلَهٌ ، وَلاَ يَشْتَهُونَ النِّسَاءَ ( وَهُمْ التَّابِعُونَ غَيْرُ أوْلِي الإِرْبَةِ مِن الرِّجَالِ ) ، أو لِلأَطْفَالِ الصِّغَارِ الذين لاَ يَفْهَمُونَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَعَوْرَاتِهِنَّ ، أَمَّا إذَا كانَ الطِّفْلُ مُرَاهِقاً أَوْ قَرِيباً مِنْهُ ، يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَدْرِيهِ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْهَاءِ والحَسْنَاءِ فَلاَ يُسْمَحُ لَهُ بالدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ ) .
كَمَا أَمَرَهُنَّ بِأَنْ لاَ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَفِي أَرْجُلِهِنَّ الخَلاَخِيلُ فَيَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الأَرْضَ ليُسمَعَ صَوْتُ مِشْيَتِهِنَّ ، وَلِتَلْتَفِتَ الأَنْظَارُ إِلَيْهِنَّ ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ نِسَاءُ الجَاهِلِيَّةِ .
( وَفِي الحَدِيثِ " الرَّافِلَةُ فِي الزَّيِنَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمِثْلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ " ) . ( أَخْرَجَهُ الترْمَذِي ) .(1/110)
وارْجِعُوا تَائِبينَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ يا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ربُّكُم مِنَ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الجَمِيلَةِ والأَخْلاقِ الحَمِيدَةِ ، واتْرُكُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أهلُ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ والأْخْلاقِ الذَّمِيمَةِ ، فإِنَّ الفَلاَحَ فِي فِعْلِ ما أَمَرَ اللهَ وَرَسُولُه بِهِ ، وَتَرْكِ مَا نَهَيا عَنْهُ .
وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي ، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام . كما أن فيه إغلاقاً للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية . ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم!
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر . أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة ، ويقظة الرقابة ، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى . ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة؛ بوصفهما سبباً ونتيجة؛ أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع . كلتاهما قريب من قريب .
{ ذلك أزكى لهم } . . فهو أطهر لمشاعرهم؛ وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف ، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط .
وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها ، وجوها الذي تتنفس فيه .
والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية؛ وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري ، الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم : { إن الله خبير بما يصنعون } . .
{ وقل للمؤمنات : يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } . .
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة ، أو الهاتفة المثيرة ، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال . ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب ، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة!
{ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } . .(1/111)
والزينة حلال للمرأة ، تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ، وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد ، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ، وتجليته للرجال .
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية؛ ولكنه ينظمها ويضبطها ، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد هو شريك الحياة يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها ، المحارم والمذكورون في الآية بعد ، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع.
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين ، فيجوز كشفه . لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر : « يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه » .
{ وليضربن بخمرهن على جيوبهن } . .
والجيب فتحة الصدر في الثوب . والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر . ليداري مفاتنهن ، فلا يعرضها للعيون الجائعة؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة ، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ، ولكنها قد تترك كميناً في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة!
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء!(1/112)
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي . وقلوبهن مشرقة بنور الله ، لم يتلكأن في الطاعة ، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال . وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة! تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء . وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ، وأقرطة أذنيها . فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها : « يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها » . . وعن صفية بنت شيبة قالت : بينما نحن عند عائشة . قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن .
فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً . وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، أشد تصديقاً لكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابته . فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه . فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان « .
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي ، وطهر إحساسه بالجمال؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب ، بل الطابع الإنساني المهذب . . وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال . فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ، الذي يرفع الذوق الجمالي ، ويجعله لائقاً بالإنسان ، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال .(1/113)
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات . على الرغم من هبوط الذوق العام ، وغلبة الطابع الحيواني عليه؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات ، في مجتمع يتكشف ويتبرج ، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان!
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . . ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة . فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم :
الآباء ، والأبناء ، وآباء الأزواج وأبناؤهم ، والإخوة وأبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات . . كما يستثني النساء المؤمنات : { أو نسائهن } فأما غير المسلمات فلا . لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن ، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها . وفي الصحيحين : » لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها « . أما المسلمات فهن أمينات ، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن امرأة مسلمة وزينتها . . ويستثني كذلك { ما ملكت أيمانهن } قيل من الإناث فقط ، وقيل : ومن الذكور كذلك . لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته . والأول أولى ، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان ، مهما يكن له من وضع خاص؛ في فترة من الزمان . . ويستثني { التابعين غير أولي الإربة من الرجال } . . وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون . وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة . لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء . . . ويستثني { الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } . . وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس . فإذا ميزوا ، وثار فيهم هذا الشعور ولو كانوا دون البلوغ فهم غير داخلين في هذا الاستثناء .
وهؤلاء كلهم عدا الأزواج ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها ، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة .(1/114)
لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء .
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء ، فقد مضت الآية تنهى المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة ، وتهيج الشهوات الكامنة ، وتوقظ المشاعر النائمة . ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } . .
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها . فإن الخيال ليكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان . وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها ، أو حليها ، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته . كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم ، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد ، قد يثير حواس رجال كثيرين ، ويهيج أعصابهم ، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها رداً . والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله . لأن منزله هو الذي خلق ، وهو الذي يعلم من خلق . وهو اللطيف الخبير .
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن :
{ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } .
بذلك يثير الحساسية برقابة الله ، وعطفه ورعايته ، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق ، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله ، وبتقواه . .
* - - - - - - - - - - -
18- السمع والطاعة(1/115)
قال تعالى :{ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) }[النور/47-53]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المُنَافِقِينَ الذين يُظْهِرُونَ خِلافَ مَا يُبْطِنُونَ ، فَيَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ : آمَنَّا بِاللهِ وبِالرَّسُولِ ، وأَطْعَنَا أمْرَهُمَا ، ثُمَّ تُخَالِفُ أَعْمَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ فَيَفْعَلُونَ خِلافَ مَا يَقُولُونَ ، لِذَلِكَ يَقُولُ تَعَالَى عَنْهُمْ : إِنَّ أولَئِكَ لَيْسُوا بالمُؤْمِنِينَ المُخْلِصينَ الثَّابِتِينَ عَلَى الإِيْمَانِ الصَّحِيحِ .(1/116)
وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، بِمُقْتَضى مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ شَرْعٍ ، طَهَرَ نِفَاقُهم ، وأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ ، واسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَنْ اتِّبَاعِهِ ، فَإِذَا كَانَتْ الحُكُومَةُ عَلَيْهِمْ أَعْرَضَوا وَدَعَوا إِلى غَيرِ الحَقِّ ، وأحَبُّوا أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَاطِلُهُمْ ، لأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ لاَ يَحْكُمُ إِلاَّ بالحَقِّ .
وَإذَا كَانَتِ الحُكُومَةُ لَهُمْ ، لاَ عَلَيْهِمْ ، جَاؤوا سَامِعِينَ مُطِيعِينَ ( مُذْعِنِينَ ) ، وَلَكِنَّ إِذْعَانَهُمْ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَنِ اعْتِقَادٍ مِنْهُمْ أَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الحَقُّ بَلْ لأَنَّهُ مُوَافِقٌ لأَهْوَائِهِمْ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ إذَا خَالَفَ الحَقّ قَصْدهُمْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ .
وَلاَ يَخْرُجُ سَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الاحْتِكَامِ إِلى كِتَابِ اللهِ ، وَإِلَى رَسُولِ الله مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِداً مِنْ ثَلاثَةٍ .
- إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضُ الكُفْرِ والنِّفَاقِ .
- وَإِمَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّهُم ارْتَابُوا أَوْ شَكُّوا فِي نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السلامُ .
- وإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَجُورَ عَلَيهم اللهُ وَرَسُولَهُ فِي الحُكْمِ .(1/117)
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : وَلَكِنَّ الحَقِيقَةِ هِي أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ الاحْتِكَامِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ إِلاَّ لأَنَّهُمْ مَرْضَى القُلُوبِ بِالْكُفْرِ والنِّفَاقِ ، وَلأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ بِمُخالَفَتِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِم الذي يَقْضِي عَلَى المُؤْمِنِينَ بالرِّضَا بِحُكْمِ اللهِ ، وَحُكْمِ رَسُولِهِ فِيمَا أَحَبُّوا ، وَفِيمَا كَرِهُوا ، والتَّسْلِيمِ لِقَضَائِهِ { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ . }
أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَهَؤُلاءِ الذينَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ ، هُمُ المُفْلِحُونَ ، لأَنَّهُمْ يَنَالُونَ مَا يَطْلبُونَ ، وَيَسْلَمُونَ مِمَّا يَرْهَبُونَ .
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ ، وَمَنْ يَخْشَ اللهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ ، وَيَتَقَّهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ والأَعْمَالِ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ ، وَالآمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك . والإسلام عقيدة متحركة ، لا تطيق السلبية . فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج؛ ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع .
ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية؛ وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون . مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة ، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل .(1/118)
وهؤلاء كانوا يقولون : { آمنا بالله وبالرسول وأطعنا } . . يقولونها بأفواههم ، ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم . فيتولون ناكصين يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان : { وما أولئك بالمؤمنين } فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم . والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها؛ ثم يدعها ويمضي ، إنما هو تكيف في النفس ، وانطباع في القلب ، وعمل في الواقع ، ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير . .
ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شريعة الله التي جاء بها :
{ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } . .
فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق ، ولا ينحرف مع الهوى ، ولا يتأثر بالمودة والشنآن . وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل . ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأبون أن يجيئوا إليه . فأما إذا كانوا أصحاب حق قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله ، راضين خاضعين ، لأنهم واثقون أنه سيقضي لهم بحقهم ، وفق شريعة الله ، التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق .
هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان ، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي ، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان . المنافقين الذين لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر ، فيتظاهرون بالإسلام . ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله ، ولا أن يحكم فيهم قانونه ، فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير { وما أولئك بالمؤمنين } فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله . إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه!(1/119)
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق . وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب . وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله . وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سيِّئ الأدب معتم ، لم يتأدب بأدب الإسلام ، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان .
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم ، وتتعجب من ريبتهم ، وتستنكر تصرفهم الغريب : { أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ } . .
والسؤال الأول للإثبات . فمرض القلب جدير بأن ينشئ مثل هذا الأثر .
وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها ، فلا تتذوق حقيقة الإيمان ، ولا تسير على نهجه القويم .
والسؤال الثاني للتعجب . فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل؟ على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين!
والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب . فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه؟
إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف . لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً . وكل خلقه أمامه سواء . فلا يظلم أحداً منهم لمصلحة أحد . وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف . فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم . أفراداً كانوا أم طبقة أم دولة .(1/120)
وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه . وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة ، وحين تشرع دولة لدولة . أو كتلة من الدول لكتلة . . فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة . إنما هي العدالة المطلقة ، التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله ، ولا يحققها حكم غير حكمه .
من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون ، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر؛ ولا يحبون للحق أن يسود . فهم لا يخشون في حكم الله حيفا ، ولا يرتابون في عدالته أصلاً { بل أولئك هم الظالمون } . .
فأما المؤمنون حقاً فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله . ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم؛ هو القول الذي يليق بالمؤمنين؛ وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور :
{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا : سمعنا وأطعنا . وأولئك هم المفلحون } . .
فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف . السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى؛ النابعان من التسليم المطلق لله ، واهب الحياة ، المتصرف فيها كيف يشاء؛ ومن الإطمئان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم . فالله الذي خلق أعلم بمن خلق . .
{ وأولئك هم المفلحون } . . المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم ، وينظم علاقاتهم ، ويحكم بينهم بعلمه وعدله؛ فلا بد أن يكونوا خيراً ممن يدبر أمورهم ، وينظم علاقاتهم ، ويحكم بينهم بشر مثلهم ، قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً . . والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد ، لا عوج فيه ولا التواء ، مطمئنون إلى هذا المنهج ، ماضون فيه لا يتخبطون ، فلا تتوزع طاقاتهم ، ولا يمزقهم الهوى كل ممزق ، ولا تقودهم الشهوات والأهواء .
والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم .
{ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } . .(1/121)
وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام . فالأن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي ، مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه . والتقوى أعم من الخشية ، فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة؛ والتحرج من إتيان ما يكره توقيراً لذاته سبحانه ، وإجلالاً له ، وحياء منه ، إلى جانب الخوف والخشية .
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ، الناجون في دنياهم وأخراهم . وعد الله ولن يخلف الله وعده . وهم للفوز أهل ، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم . فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة ، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة . وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج ، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه ، فلا ينحرفون ولا يلتفتون .
وأدب الطاعة لله ورسوله ، مع خشية الله وتقواه ، أدب رفيع ، ينبئ عن مدى إشراق القلب بنور الله ، واتصاله به ، وشعوره بهيبته . كما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه . فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله ، ولا تستمد منها ، هي ذلة يأباها الكريم ، وينفر منها طبع المؤمن ، ويستعلي عليها ضميره . فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار .
- - - - - - - - - - -
19- التوبة والإيمان والعمل الصالح
قال تعالى :{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) }[القصص/65-67] .
يُنَادي اللهُ تَعَالى المُشرِكِينَ وَيَسْأَلُهُم عَمَّا أَجَابُوا بهِ عَلَى دَعْوَةِ المُرسَلِينَ إِليهِمْ ، وكَيفَ كَانَ حَالُهُم مَعَهُم حِينما أبلغُوهُم دَعْوَةَ رَبِّهِمْ؟(1/122)
فَلاَ يَجدُونَ مَا يرُدُّونَ بهِ عَلَى السُّؤالِ فيَسكُنُونَ . وَتَخْفَى عَليهِم الحُجَجُ وكُلُّ طُرُقِ العِلْمِ التِي كَانَتْ تُجدِيهِمْ نَفْعاً في الحَيَاة الدُّنيا ، فَلا يَسْأَلُ بَعْضُهُم بَعْضاً ، لِتَساوِيِهم جَميعاً في عَمَى الأنباء عَليهِمْ ، والعَجزِ عنِ الجَوَابِ .
وأَما الذي تَابَ ، مِنَ المُشرِكينَ ، عَمَّا اقتَرَفَهُ مِنَ الشِّرْك والذُّنوبِ والمآثِمِ والمَحَارِمِ ، وآمَنَ بِرَبّهِ إِيماناً مُخْلِصَاً ، وصَدَّقَ رَسُولَهُ ، وَعَمِلَ في الدُّنيا عَمَلاً صالحاً ، فإِنَّهُ يَرجُو أَنْ يكُونَ في الآخِرَةِ مِنَ المُفْلِحينَ الفَائزينَ بِرِضوانِ الله .
( وَعَسَى مِنَ اللهَ تَعَالى مُوجِبَةٌ أَيْ إِنَّ ذَلكَ وَاقعٌ بِفَضْلِ اللهِ وَمِنَّتِهِ لاَ مَحَالَةَ ) .
إن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين . ولكنه كذلك سؤال التأنيب والترذيل . وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت . ذهول المكروب وصمت الذي لا يجد ما يقول : { فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون } .
والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة . وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم ، وهم لا يعلمون شيئاً عن أي شيء! ولا يملكون سؤالاً ولا جواباً . وهم في ذهولهم صامتون ساكتون!
{ فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين } . .
وهذه هي الصفحة المقابلة . ففي الوقت الذي يبلغ الكرب ذروته بالمشركين ، يتحدث عمن تاب وآمن وعمل صالحاً ، وما ينتظره من الرجاء في الفلاح . ولمن شاء أن يختار . وفي الوقت فسحة للاختيار!
- - - - - - - - - - - - - -
20- إعطاءُ الناس حقوقهم
قال تعالى :{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الروم 38]}(1/123)
وإِذا كَانَ اللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُبْسُطُ الرِّزْقَ ، وَيَقْدِرُهُ ، فأَعطِ يا أَيُّها النَّبِيُّ أَنتَ والمُؤِمِنُونَ ، مَا تَستَطِيعُونَ إِعطَاءَهُ مِنَ المَالِ لِلفُقَراءِ والمُحْتاجِينَ مِنَ الأَقَارِبِ والمَسَاكِينِ الذينَ لا مالَ لَهُمْ ، ولِلْمُسَافرينَ أبناءِ السَّبيلِ الذينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ ، وَهُمْ بَعيدُونَ عَنْ أَهْلِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ لِيتَمَكَّنُوا مِنَ العَوْدَةِ إِلى بَلَدِهِمْ .
ثمَّ يَقُولُ تَعالى : إِنّ الإِعطَاءِ لهؤلاءِ المُحتاجِينَ فيهِ خيرٌ للمُعْطِينَ عندَ اللهِ ، وهوَ الذِي يَتَقَبَّلُ العَملَ الصَّالِحَ ، ويَجزِي بهِ فَاعِلَهُ الثَّوابَ الجَزيلَ ، وَقَد رَبحَ هؤلاءِ المُعْطُونَ في صَفْقَتِهِمْ لأَنَّهُمْ أعْطَوا ما يَفْنَى ، وَحَصَلُوا عَلى مَا يَبْقَى ( وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى : { ذَلِكَ خَيرٌ لِمَنْ يُريدُ وَجْهَ اللهِ } هُوَ : ذَلِكَ خيرٌ لِلذِينَ يُريدُون النَّظرَ إِلى وجهِ اللهِ يومَ القِيامة ) .(1/124)
وما دام المال مال الله , أعطاه رزقا لبعض عباده , فالله صاحب المال الأول قد قرر قسما منه لفئات من عباده , يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال . ومن ثم سماها حقا . ويذكر هنا من هذه الفئات (ذا القربى والمسكين وابن السبيل) . ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا . ولكن المبدأ كان قد تقرر . مبدأ أن المال مال الله , بما أنه هو الرازق به , وأن لفئات من المحتاجين حقا فيه مقررا لهم من صاحب المال الحقيقي , يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال . . . وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال . وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام . فما دام المال مال الله , فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول , سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته , أو في طريقة إنفاقه . وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء .
وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح . وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون) . .
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس , كي ترد عليه الهدية مضاعفة ! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي: وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله . . هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال . . وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) . .(1/125)
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال:إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس . إنما هي إرادة وجه الله . أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر ? أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع ? فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه ; وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس . . ذلك حساب الدينا , وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة . فهي التجارة الرابحة هنا وهناك !
- - - - - - - - - - - - -
21- محسنون
قال تعالى : {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }لقمان] .
هذِهِ هِيَ آياتُ القُرآنِ الحَكِيمِ بَيَاناً وَتَفْصِيلاً .
وَهِيَ تَهدِي مِنَ الزِّيغِ الذينَ أَحْسَنُوا العَمَلَ واتَّبَعُوا الشَّرِيعَةَ ، وتَشْفِيهِمْ من الشَّكِ والضَّلاَلَةِ.
ثُمَّ يُعَرَّفُ اللهُ تَعَالى هؤُلاءِ الذينَ يُحْسِنُونَ العَمَلَ ، وَيَهْتَدُونَ بالقُرآن ، فَيَقُولُ : إِنَّهُم الذِينَ يَقِيمُونَ الصَّلاَةَ عَلَى وَجْهِهَا الأَكْمَلِ ، ويُتِمُونَّها بِخُشُوعِها وَرُكُوعِها وَسُجُودِها ، وَيُؤدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ عَلى أَموالِهِم ، وَيُؤْمِنُونَ إيماناً ثَابِتاً رَاسِخاً بِأَنَّ اللهَ سَيَْعَثُ الخَلاَئِقَ في الآخِرَة ، وأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وأَنَهُ سَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ .
وَهَؤُلاءِ الذينَ اتَّصَفُوا بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ ، هُمْ عَلَى بَيِِّنَةٍ ونُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَهؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِمَا أَمَّلُوا مِنْ ثَوابِ اللهِ يومَ القِيَامَةِ ، فَرَبَحَتْ صَفْقَتُهُمْ .(1/126)
هذا الكتاب الحكيم . أو آياته .(هدى ورحمة للمحسنين) فهذه حاله الأصيلة الدائمة . . أن يكون هدى ورحمة للمحسنين . هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه . ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار ; وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح ; وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به ; ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه , والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية , وتتعارف الفطر التي لا تزيغ .
والمحسنون هم:(الذين يقيمون الصلاة , ويؤتون الزكاة , وهم بالآخرة هم يوقنون) . . وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملا تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك , وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب , ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة . . وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري , وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون . ويجد الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان . . واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري , وتطلعه إلى ما عند الله , واستعلائه على أوهاق الأرض , وترفعه على متاع الحياة الدنيا ; ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل ; والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . .(1/127)
وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة ; لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة ; ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور , ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة , وتصطلح نفوسهم عليه , وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه , ووضوح الطريق . وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق ; وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز . إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة , ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين !
وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة . .(أولئك على هدى من ربهم , وأولئك هم المفلحون) . ومن هدي فقد أفلح , فهو سائر على النور , واصل إلى الغاية , ناج من الضلال في الدنيا , ومن عواقب الضلال في الآخرة ; وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود ; فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود .
- - - - - - - - - - - -
22- لا يوادون من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (20-22رة المجادلة .(1/128)
إِنَّ الذِينَ يُخَالِفُونَ أَوَامِرَ اللهِ ، وَيُعَادُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ القِيَامِ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، هُمْ فِي جُمْلَةِ أَهْلِ الذِّلَّةِ ، لأنَّ الغَلَبَةَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَسَيُلاَقُونَ الذِّلَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالقَتْلِ والأَسْرِ وَالإِخْرَاجِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِالخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالعَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
وَقَدْ قَضَى اللهُ تَعَالَى ، وَحَكَمَ فِي أُمِّ الكِتَابِ ، بِأَنَّ النَّصْرَ والغَلَبَةَ سَتَكُونُ لَهُ تَعَالَى ، وَلِرَسُولِهِ وِلِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَقَضَاءُ اللهِ نَافِذٌ لاَ مَحَالَةَ ، وَلاَ رَادَّ لَهُ ، وَاللهُ قَوِيٌ لاَ يُقْهَرُ ، عَزِيزٌ لاَ يُغَالَبُ .(1/129)
لا تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ . وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ، وَجُنْدُهُ ، وَحِزْبُهُ ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق .(1/130)
فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض ; ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية , وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد . وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد أو الشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض - كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية - فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة . فضلا على أن فترات الإلحاد والوثنية إلى زوال مؤكد , لأنها غير صالحة للبقاء . والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد .
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة . فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة , فهذا الواقع هو الباطل الزائل . الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة . لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم .
وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة , من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة , بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية . ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين , يحميهم من الانهيار , ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها , ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه . . حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى . يجده في هذا الواقع ذاته بدون حاجة إلى الانتظار الطويل !!(1/131)
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود , وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون , وأن الله ورسله هم الغالبون . وأن هذا هو الكائن والذي لا بد أن يكون . ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون !
وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون , أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس:(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله , ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه , ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون) . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان , والانحياز النهائي للصف المتميز , والتجرد من كل عائق وكل جاذب , والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) . .
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه , وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين:ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله ! فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان .
(ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) . .(1/132)
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين:لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
(أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) . . فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار , ولا انطماس فيه ولا غموض !
(وأيدهم بروح منه) . .
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق , ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
(ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) . .
جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ; ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية
(رضي الله عنهم ورضوا عنه) . .
وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة , ترسم حالة المؤمنين هؤلاء , في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . . ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ; فتقبلهم في كنفه , وأفسح لهم في جنابه , وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .
(أولئك حزب الله) . .
فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .
((1/133)
ألا إن حزب الله هم المفلحون) .
ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ?
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين:حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين:راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق , وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . . وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان !!
لا نسب ولا صهر , ولا أهل ولا قرابة , ولا وطن ولا جنس , ولا عصبية ولا قومية . . أنما هي العقيدة , والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم , وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم , ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله , فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت رايةالباطل , فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض , ولا من جنس , ولا من وطن ولا من لون , ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . . لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة , مما تعالجه هذه الآية في النفوس , وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم , والمفاضلة القاطعة . . إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة , ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله صلى الله عليه وسلم في شأنها وشأن زوجها !(1/134)
فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .
- - - - - - - - - - - - -
23- الإيثارُ
قال تعالى :{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر/8، 9].
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حَالَةَ الفُقَرَاءِ المُسْتَحِقِّينَ لِمَالِ الفَيْءِ فَيَذْكُرُ أَنَّهُم الذِينَ اضْطَرَّهُم كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَتَرْكِ أَمْوَالِهِمْ ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى ، وابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ ، وَنُصْرَةً للهِ وَرَسُولِهِ ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي إِيْمَانِهِمْ ، الذِينَ وَفَّقُوا قَوْلَهُمْ مَعَ فِعْلِهِمْ ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ المُهَاجِرُونَ(1/135)
ثُمَّ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ ، حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ ، فَقَالَ تَعَالَى : والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ ، وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ ، كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ ، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ . وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ ، وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ، لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ . وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ ، وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ .
( رُوِيَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ حُسْنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَليلٍ ، وَلاَ حُسْنَ بَذْلٍ فِي كَثِيرٍ ، لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَأ ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ . قَالَ : لاَ . مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ، وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ ) .
وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ " ) . ( البُخَارِيُّ ) .(1/136)
وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ ، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُحَّ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَطُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ") هذه صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين . . أخرجوا إخراجا من ديارهم وأموالهم . أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة . لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله . . . وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه . لا ملجأ لهم سواه , ولا جناب لهم إلا حماه . . وهم مع أنهم مطاردون قليلون (ينصرون الله ورسوله) . . بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات . (أولئك هم الصادقون) . . الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم , وصدقوها بعملهم . وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه . وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه . وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس !
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم , يحبون من هاجر إليهم , ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات , وبلغت إلى آفاق , لولا أنها وقعت بالفعل , لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .(1/137)
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم , وتسكن إليه أرواحهم , ويثوبون إليه ويطمئنون له , كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
(يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع , ومن مال يختصون به كهذا الفيء , فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول:حسدا ولا ضيقا . إنما يقول:(شيئا) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم , فلا تجد شيئا أصلا.
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .
((1/138)
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه , فقد وقي هذا المعوق عن الخير , فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .(1/139)
والذين جاءوا من بعدهم , يقولون:ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . . وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية . وهي تبرز أهم ملامح التابعين . كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان . هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة , إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة , لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان ; وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق , ممن يربطهم معهم رباط الإيمان . مع الشعور برأفة الله , ورحمته , ودعائه بهذه الرحمة , وتلك الرأفة: (ربنا إنك رؤوف رحيم) . . وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود . تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها , وآخرها بأولها , في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف . وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب ; وتتفرد وحدها في القلوب , تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة , فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة , كما يذكر أخاه الحي , أو أشد , في إعزاز وكرامة وحب . ويحسب السلف حساب الخلف . ويمضي الخلف على آثار السلف . صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان , تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم , متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم .(1/140)
إنها صورة باهرة , تمثل حقيقة قائمة ; كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم . صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس . صورة الحقد الذي ينغل في الصدور , وينخر في الضمير , على الطبقات , وعلى أجيال البشرية السابقة , وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم . وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين !
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة , ولا لمسة ولا ظل . صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها ; وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها . صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله , بريئة الصدور من الغل , طاهرة القلوب من الحقد , وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء . حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة . فالصلاة ليست سوى أحبولة , والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين !
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم) . . هذه هي قافلة الإيمان . وهذا هو دعاء الإيمان . وإنها لقافلة كريمة . وإنه لدعاء كريم .
- - - - - - - - - - - -
24- الانتشارُ في الأرض وابتغاء فضل الله(1/141)
قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) } الجمعة )
يَحُثَّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ عَلَى تَرْكِ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَعَلَى السَّعْيِ بِسَكِينَةٍ وَوِقَارٍ إِلَى المَسَاجِدِ ، حِينَما يُؤَذِّنُ المُؤَذِّنُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ ، لِلاسْتِمَاعِ إِلَى مَوَاعِظِ الخُطَبَاءِ ، وَلأَداءِ الصِّلاَةِ مَعَ الجَمَاعَةِ . وَذِلكَ السَّعْيُ إِلَى الصَّلاَةِ خَيْرٌ لِلمُؤْمِنِينَ وَأَبْقَى مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ ، هَذَا إِنْ كَانَ المُخَاطَبُونَ مِنْ ذَوِي العِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَا يَذِرُّ وَيْنْفُعُ .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ ( أَيْ تُسْرِعُونَ ) وَأَتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَعَلَيكُمُ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " ) . ( رَوَاهُ الشّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ) .(1/142)
فَإِذَا أَدَّيْتُمُ الصَّلاَةَ فَتَفَرَّقُوا لِمُبَاشَرَةِ مَصَالِحِكُمْ الذُّنْيَوِيَّةِ ، وَاسْأَلُوا اللهَ الرِّزْقَ الحَلاَلَ ، واذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً أَثْنَاءَ بَيْعِكُمْ وَشِرَائِكُمْ ، وَلاَ تَتْركُوا الدُّنْيَا تَشْغَلُكُمْ عَمَّا يَنْفَعُكُمْ فِي الآخِرَةِ ، لَعَلَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تُفْلِحُونَ ، وَتَفُوزُونَ بِرِضَا اللهِ ، وَحُسْنِ ثَوَابِهِ .
قَدِمَتْ عِيرٌ بِتَجَارَةٍ إِلَى المَدِينَةِ فِي إِحْدَى المَرَّاتِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ عَلَى المِنْبَرِ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمْعَةِ ، فَخَرَجَ النَّاسُ ، وَبِقِيَ
اثْنا عَشَرَ رَجُلاً ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ يُعَاتِبُ فِيهَا عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَلَى انْصِرَافِهِمْ عَنِ الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمْعَةِ إِلى التِّجَارَةِ .
وَمَعْنَى الآيَةِ أَنَّ بَعْضَ المُؤْمِنينَ إِذَا رَأَوْا عِيرَ تِجَارَةٍ ، أَوْ لَهْواً أَسْرَعُوا إِليهِ ، وَتَرَكُو الرَّسُولَ قَائماً يَخْطُبُ فِي النَّاسِ . فَقُلْ لَهُمْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ : مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الخَيْرِ وَالثَّوَابِ ، خَيْرٌ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ، فَاسْعَوا إِليهِ ، وَاطْلُبُوا الرِّزْقَ مِنْهُ ، فَلَنْ يَفُوتَكُمْ رِزْقٌ إِذَا تَأْخَّرْتُمْ لِسَمَاعِ الخُطْبَةِ .
(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) . .
وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت:
(ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) . .(1/143)
مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب . وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس ; فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض , ليخلو إلى ربه , ويتجرد لذكره , ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى , ويملأ قلبه وصدره من ذلك الهواء النقي الخالص العطر ويستروح شذاه !
ثم يعود إلى مشاغل العيش مع ذكر الله: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الإرض , وابتغوا من فضل الله , واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون . . وهذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي . التوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض , من عمل وكد ونشاط وكسب . وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو وانقطاع القلب وتجرده للذكر . وهي ضرورة لحياة القلب لايصلح بدونها للاتصال والتلقي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى . وذكر الله لا بد منه في أثناء ابتغاء المعاش , والشعور بالله فيه هو الذي يحول نشاط المعاش إلى عبادة . ولكنه - مع هذا - لابد من فترة للذكر الخالص , والانقطاع الكامل , والتجرد الممحض . كما توحي هاتان الآيتان .
وكان عراك بن مالك - رضي الله عنه - إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال:"اللهم إني أجبت دعوتك , وصليت فريضتك , وانتشرت كما أمرتني . فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين" . . [ رواه ابن أبي حاتم ] . .
وهذه الصورة تمثل لنا كيف كان يأخذ الأمر جدا , في بساطة تامة , فهو أمر للتنفيذ فور سماعه بحرفيته وبحقيقته كذلك !
ولعل هذا الإدراك الجاد الصريح البسيط هو الذي ارتقى بتلك المجموعة إلى مستواها الذي بلغت إليه , مع كل ما كان فيها من جواذب الجاهلية . مما تصوره الآية الأخيرة في السورة:
(وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل:ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين) . .(1/144)
عن جابر - رضي الله عنه - قال:" بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاما , فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا , منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) . . "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة . وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله (والله خير الرازقين) . . وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ . ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق . فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها . وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود , مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة , وعدم النكوص من منتصف الطريق . والله المستعان
- - - - - - - - - - - - -
25- كرماءُ
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) }[التغابن/ 14-18](1/145)
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ بَينِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ أَعْدَاءٌ لِلإِنْسَانِ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ الطَّاعَاتِ التِي تُقَرِّبُ إِلَى اللهِ ، وَرُبَمَا حَمَلُوهُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي اكْتِسَابِ الحَرَامِ ، واجْتِرَاحِ الآثَامِ ، لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ يُؤَدِّي البُغْضُ إِلَى ارْتِكَابِ الجَرَائِمِ بِحَقِّ الأَزْوَاجِ وَالآبَاءِ ، فَتَكُونُ عَدَاوَةٌ حَقِيقِيَّةٌ .
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يَكُونُ فِيهِ هَلاَكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدِ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ ، يُعَيِّرَانِهِ بِالفَقْرِ فَيْرْتَكِبُ مَرَاكِبَ السُّوءِ فَيَهْلِكُ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ حُبُّهُ لَهُمْ ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحِرْصُهُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ فِي حَيَاتِهِ ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيَرْتَكِبُ المَحْظُورَاتِ لِتَحْصِيلِ مَا يَكُونُ سَبَباً لِذَلِكَ فَيَهْلِكُ .
ثُمَّ يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى العَفْوِ والصِّفْحِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الخَيْرُ لِلإِنْسَانِ ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِمْ وَبِهِ ، وَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُمْ ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ تَكَرُّماً مِنْهُ .
الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اخْتِبَارٌ مِنَ اللهِ وَابْتِلاَءٌ ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ ، إِذْ كَثِيراً مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ارْتِكَابُ المَحْظُورَاتِ ، وَاجْتِرَاحُ الآثَامِ ، وَقَدْ قَدَّمَ اللهُ الأَمْوَالَ عَلَى الأَوْلاَدِ لأَنَّهَا أَعْظَمُ فِتْنَةً .
" وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي المَالُ "(1/146)
ثُمَّ يُنَبِّهُ تَعَالَى النَّاسَ إِلَى مَا أَعَدَّهُ مِنْ عَظِيمِ الأَجْرِ فِي الآخِرَةِ لِمَنْ آثَرَ مَحَبَّةَ اللهِ وَطَاعَتَهُ ، عَلَى مَحَبَّةِ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ .
فَابْذُلُوا فِي تَقْوَى اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الجَهْدِ وَالطَّاقَةِ .
" وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَمَا نَهِيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) واسْمعُوا وَأَطِيعُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَاعْمَلُوا بِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ عَلَى الأَقَارِبِ وَالفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ ، وَأَحْسِنُوا إِلَى عِبَادِ اللهِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيكُمْ يَكْنْ ذَلِكَ خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . وَمَنْ يَبْتَعِدْ عَنِ البُخْلِ وَالحِرْصِ عَلَى المَالِ ، يَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ .
مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ مَالٍ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَتَقَرُّباً إِليهِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُدُّ ذَلِكَ الإِنْفَاقَ مُقَدَّماً إِلَيه تَعَالَى ، وَهُوَ يُخْلفُهُ وَيَرُدُّهُ إِلَى المُنْفقِينَ - أَضْعَافاً كَثِيرَةً - الحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِها إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ - وَيَمْحُو عَنْكُمْ بِها سَيِّئَاتِكُمْ ، وَيَسْتُرُهَا عَلَيْكُمْ ، وَاللهُ شكُورٌ يَجْزِي عَلَى القَلِيل بِالكَثِيرِ ، وَهُوَ كَثِيرُ الحِلْمِ وَالمَغْفِرَةِ ، يَغْفِرُ وَيَسْتُرُ ، وَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ عِبَادَهُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالأَخْطَاءِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ مُسْتَغْفِرْينَ .(1/147)
فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معاً : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } . . والتنبيه إلى أن يكون من الأزواج والأولاد من يكون عدواً . . إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية . ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء . فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله . كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير ، وتضحية الكثير . كما يتعرض هو وأهله للعنت .
وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده . فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدواً له ، لأنهم صدوه عن الخير ، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا . كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه ، اتقاء لما يصيبهم من جرائه ، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه ، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله . . وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات . . وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن .
ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة ، التحذير من الله ، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا ، والحذر من تسلل هذه المشاعر ، وضغط هذه المؤثرات .
ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد . وكلمة فتنة تحتمل معنيين :
الأول أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم ، فانتبهوا لهذا ، وحاذروا وكونوا أبداً يقظين لتنجحوا في الابتلاء ، وتخلصوا وتتجردوا لله . كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب!
والثاني أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية ، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله .(1/148)
وكلا المعنيين قريب من قريب .
وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن بريدة : سمعت أبي بريدة يقول : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ، فوضعهما بين يديه . ثم قال : صدق الله ورسوله ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة . نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما » . ورواه أهل السنة من حديث ابن واقد . فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذان ابنا بنته . . وإنه لأمر إذن خطير . وخطر . وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس ، وأودعها هذه المشاعر ، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط ، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو ، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء!
ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد ، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج . فهذه فتنة { والله عنده أجر عظيم } . .
ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة ، بالسمع والطاعة :
(فاتقوا الله ما استطعتم - واسمعوا وأطيعوا) . .
وفي هذا القيد: (ما استطعتم) يتجلى لطف الله بعباده , وعلمه بمدى طاقاتهم في تقواه وطاعته . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فالطاعة في الأمر ليس لها حدود , ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع . أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان . ويهيب بهم إلى الإنفاق:
(وأنفقوا خيرا لأنفسكم) . .فهم ينفقون لأنفسهم . وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم . فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم , ويعدها الخير لهم حين يفعلون .(1/149)
ويريهم شح النفس بلاء ملازما . السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه ; والوقاية منه فضل من الله: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) . . ثم يمضي في إغرائهم بالبذل وتحبيبهم في الإنفاق , فيسمي إنفاقهم قرضا لله . ومن ذا الذي لا يربح هذه الفرصة التي يقرض فيها مولاه ? وهو يأخذ القرض فيضاعفه ويغفر به , ويشكر المقرض , ويحلم عليه حين يقصر في شكره . وهو الله !
(إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم . والله شكور حليم) . .
وتبارك الله . ما أكرمه ! وما أعظمه ! وهو ينشئ العبد ثم يرزقه . ثم يسأله فضل ما أعطاه . قرضا . يضاعفه . . ثم . . يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه ! ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه . . ! يالله !!!
إن الله يعلمنا - بصفاته - كيف نتسامى على نقصنا وضعفنا , ونتطلع إلى أعلى دائما لنراه - سبحانه - ونحاول أن نقلده في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة . وقد نفخ الله في الإنسان من روحه . فجعله مشتاقا أبدا إلى تحقيق المثل الأعلى في حدود طاقته وطبيعته , ومن ثم تبقى الآفاق العليا مفتوحة دائما ليتطلع هذا المخلوق إلى الكمال المستطاع , ويحاول الارتفاع درجة بعد درجة , حتى يلقى الله بما يحبه له ويرضاه .
- - - - - - - - - - - -
26- تزكية النفس (1)
قال تعالى :{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14 ) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) }الأعلى]
وَقَدْ أَدْرَكَ الفَلاَحَ ، وَظَفِرَ بِالبغْيَةِ مِنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَطَهَّرَهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ وَالمَعَاصِي .
وَاسْتَذْكَرَ قَلْبُهُ دَائِماً صِفَاتِ رَبِّهِ مِنَ الجَلاَلِ وَالكَمَالِ فَخَضَعَ لِجَبَرُوتِهِ ، وَخَشَعَ قَلْبُهُ لَهُ وَصَلَّى(1/150)
والتزكي:التطهر من كل رجس ودنس , والله - سبحانه - يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه , فاستحضر في قلبه جلاله:(فصلى) . . إما بمعنى خشع وقنت . وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي , فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب , والشعور بمهابته في الضمير . . هذا الذي تطهر وذكر وصلى (قد أفلح) يقينا . أفلح في دنياه , فعاش موصولا , حي القلب , شاعرا بحلاوة الذكر وإيناسه . وأفلح في أخراه , فنجا من النار الكبرى , وفاز بالنعيم والرضى . .
فأين عاقبة من عاقبة ? وأين مصير من مصير ?
- - - - - - - - - - -
27- تزكية النفس (2)
قال تعالى :{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس]
أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِالنَّفْسِ وَخَلْقِهَا سَوِيَّةً عَلَى الفِطْرَةِ القَوِيمَةِ .
فَبَيَّنَ لِلنَّفْسِ الخَيْرَ وَالشَّرَ ، وَأَعْطَاهَا القُدْرَةَ عَلى التَّمِيِيزِ بَيْنَهُمَا ، والقُدْرَةَ عَلَى الاخْتِيَارِ .
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَلْهَمَ النُّفُوسَ مَعْرَفَةَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ ، ذَكَرَ مَا تَلْقَاهُ النُّفُوسُ مِنَ الجَزَاءِ عَلَى فِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، فَقَالَ تَعَالَى : مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَنَمَّاهَا وَطَهَّرَهَا مِنَ الأخْلاَقِ الدِّنِيئَةِ وَالرَّاذَائِلِ ، فَازَ وَأَفْلَحَ ( وَهَذَا جَوَابُ القَسَمِ ) .(1/151)
أَمَّا مَنْ أَخْفَى فَضَائِلَ نَفْسِهِ ، وَأَمَاتَ اسْتِعْدَادَهَا لِلْخَيْرِ ، بِفِعْلِ المَعَاصِي ، وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ ، وَمُجَانَبَةِ الخَيْرِ وَالبِرِّ وَالقُرُبَاتِ ، فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ . وَقَدْ حَذَفَ اللهُ تَعَالَى المُقْسَمَ عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ نَظَائِرِهِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . . لَينْزِلَنَّ بِالمُكَذِّبِينَ مِنْكُمْ مَا نَزَلَ بِثَمُودَ .
إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة , مزدوج الاستعداد , مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه [ من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه ] مزود باستعدادات متساوية للخير والشر , والهدى والضلال . فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر . كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء . وأن هذه القدرة كامنة في كيانه , يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة:(ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها) . . ويعبر عنها بالهداية تارة:(وهديناه النجدين) . . فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد . . والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك . ولكنها لا تخلقها خلقا . لأنها مخلوقة فطرة , وكائنة طبعا , وكامنة إلهاما .
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان . هي التي تناط بها التبعة . فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها , وتغليبه على استعداد الشر . . فقد أفلح . ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) . .(1/152)
وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة , وقدرة يقابلها تكليف , ومنحة يقابلها واجب . .
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي , ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف , فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة , وتكشف له عن موحيات الإيمان , ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله , وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه . وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي:فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني , حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه , وتمنحه حرية الاختيار [ في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ] فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم , ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده , وفضلها على كثير من العالمين .
وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره , وتجعل أمره بين يديه [ في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ] فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) . . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو !(1/153)
وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة , ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه , ولم يضلله , كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة , ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريبا من الله , يهتدي بهديه , ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق!
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها , وهو يغتسل في نور الله الفائض , ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .
- - - - - - - - - - - - -
28-الكفافُ في الرزق
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ».صحيح مسلم (2473 )
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هُدِىَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَرُزِقَ الْكَفَافَ وَقَنِعَ بِهِ ».سنن ابن ماجه (4277 )
وفي المعجم الكبير للطبراني - (ج 13 / ص 241) (15183 ) عَنْ فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:"أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إِلَى الإِسْلامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنَعَ بِهِ".
وفي المعجم الكبير للطبراني - (ج 20 / ص 97) (1429) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ"
الْكَفَاف : الْكِفَايَة بِلَا زِيَادَة وَلَا نَقْص . وَفِيهِ فَضِيلَة هَذِهِ الْأَوْصَاف ، وَقَدْ يُحْتَجّ بِهِ لِمَذْهَبِ مَنْ يَقُول : الْكَفَاف أَفْضَل مِنْ الْفَقْر وَمِنْ الْغِنَى .(1/154)
و(( الكفاف )) : ما يكف عن الحاجات ، ويدفع الضرورات والفاقات ، ولا يلحق بأهل الترفهات.
ومعنى هذا الحديث : أن من فعل تلك الأمور ، واتصف بها ، فقد حصل على مطلوبه ، وظفر بمرغوبه في الدُّنيا والآخرة .
- - - - - - - - - - - -
29- أداءُ الواجبات وترك المحرمات
عَنْ أَبِى سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ». قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ « لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ ». قَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ قَالَ « لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ ». قَالَ وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ ». قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ ». موطأ مالك (429 ) و صحيح البخاري(44)(1/155)
وفي صحيح مسلم (109 ) عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ - عَنْ أَبِى سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ « لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ فَقَالَ « لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ ». وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ « لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ » قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ».
قَوْله : ( ثَائِر الرَّأْس ) هُوَ مَرْفُوع عَلَى الصِّفَة ، وَيَجُوز نَصْبه عَلَى الْحَال ، وَالْمُرَاد أَنَّ شَعْره مُتَفَرِّق مِنْ تَرْك الرَّفَاهِيَة ، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى قُرْب عَهْده بِالْوِفَادَةِ ، وَأَوْقَعَ اِسْم الرَّأْس عَلَى الشَّعْر إِمَّا مُبَالَغَة أَوْ لِأَنَّ الشَّعْر مِنْهُ يَنْبُت . قَوْله : ( يُسْمَع ) بِضَمِّ الْيَاء عَلَى الْبِنَاء لِلْمَفْعُولِ ، أَوْ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَة لِلْجَمْعِ ، وَكَذَا فِي " يُفْقَه " .(1/156)
قَوْله ( دَوِيّ ) بِفَتْحِ الدَّالّ وَكَسْر الْوَاو وَتَشْدِيد الْيَاء ، كَذَا فِي رِوَايَتنَا . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : جَاءَ عِنْدنَا فِي الْبُخَارِيّ بِضَمِّ الدَّال . قَالَ : وَالصَّوَاب الْفَتْح . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الدَّوِيّ صَوْت مُرْتَفِع مُتَكَرِّر وَلَا يُفْهَم . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَادَى مِنْ بُعْد . وَهَذَا الرَّجُل جَزَمَ اِبْن بَطَّال وَآخَرُونَ بِأَنَّهُ ضِمَام بْن ثَعْلَبَة وَافِد بَنِي سَعْد بْن بَكْر . وَالْحَامِل لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِيرَاد مُسْلِم لِقِصَّتِهِ عَقِب حَدِيث طَلْحَة ؛ وَلِأَنَّ فِي كُلّ مِنْهُمَا أَنَّهُ بَدْوِيّ ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَالَ فِي آخِر حَدِيثه " لَا أَزِيد عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُص " . لَكِنْ تَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ سِيَاقهمَا مُخْتَلِف ، وَأَسْئِلَتهمَا مُتَبَايِنَة ، قَالَ : وَدَعْوَى أَنَّهُمَا قِصَّة وَاحِدَة دَعْوَى فَرَط ، وَتَكَلُّف شَطَط ، مِنْ غَيْر ضَرُورَة . وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَوَّاهُ بَعْضهمْ بِأَنَّ اِبْن سَعْد وَابْن عَبْد الْبَرّ وَجَمَاعَة لَمْ يَذْكُرُوا لِضِمَام إِلَّا الْأَوَّل ، وَهَذَا غَيْر لَازِم .(1/157)
قَوْله : ( فَإِذَا هُوَ يَسْأَل عَنْ الْإِسْلَام ) أَيْ : عَنْ شَرَائِع الْإِسْلَام ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ حَقِيقَة الْإِسْلَام ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُر لَهُ الشَّهَادَة لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَعْلَمهَا أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْأَل عَنْ الشَّرَائِع الْفِعْلِيَّة ، أَوْ ذَكَرَهَا وَلَمْ يَنْقُلهَا الرَّاوِي لِشُهْرَتِهَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُر الْحَجّ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ بَعْد أَوْ الرَّاوِي اِخْتَصَرَهُ ، وَيُؤَيِّد هَذَا الثَّانِي مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّف فِي الصِّيَام مِنْ طَرِيق إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر عَنْ أَبِي سُهَيْل فِي هَذَا الْحَدِيث قَالَ : فَأَخْبَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِع الْإِسْلَام ، فَدَخَلَ فِيهِ بَاقِي الْمَفْرُوضَات بَلْ وَالْمَنْدُوبَات .
قَوْله : ( خَمْس صَلَوَات ) فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر الْمَذْكُورَة أَنَّهُ قَالَ فِي سُؤَاله : أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّه عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاة ؟ فَقَالَ : الصَّلَوَات الْخَمْس . فَتَبَيَّنَ بِهَذَا مُطَابَقَة الْجَوَاب لِلسُّؤَالِ . وَيُسْتَفَاد مِنْ سِيَاق مَالِك أَنَّهُ لَا يَجِب شَيْء مِنْ الصَّلَوَات فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة غَيْر الْخَمْس ، خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ الْوِتْر أَوْ رَكْعَتَيْ الْفَجْر أَوْ صَلَاة الضُّحَى أَوْ صَلَاة الْعِيد أَوْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْد الْمَغْرِب .(1/158)
قَوْله : ( هَلْ عَلَيَّ غَيْرهَا ؟ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّع ) تَطَّوَّع بِتَشْدِيدِ الطَّاء وَالْوَاو ، وَأَصْله تَتَطَوَّع بِتَاءَيْنِ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا ، وَيَجُوز تَخْفِيف الطَّاء عَلَى حَذْف إِحْدَاهُمَا . وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الشُّرُوع فِي التَّطَوُّع يُوجِب إِتْمَامه تَمَسُّكًا بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُتَّصِل ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : لِأَنَّهُ نَفْي وُجُوب شَيْء آخَر إِلَّا مَا تَطَوَّعَ بِهِ ، وَالِاسْتِثْنَاء مِنْ النَّفْي إِثْبَات ، وَلَا قَائِل بِوُجُوبِ التَّطَوُّع ، فَيَتَعَيَّن أَنْ يَكُون الْمُرَاد إِلَّا أَنْ تَشْرَع فِي تَطَوُّع فَيَلْزَمك إِتْمَامه . وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيّ بِأَنَّ مَا تَمَسَّكَ بِهِ مُغَالَطَة ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء هُنَا مِنْ غَيْر الْجِنْس ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّع لَا يُقَال فِيهِ " عَلَيْك " فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا يَجِب عَلَيْك شَيْء ، إِلَّا إِنْ أَرَدْت أَنْ تَطَّوَّع فَذَلِكَ لَك . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّطَوُّع لَيْسَ بِوَاجِبٍ . فَلَا يَجِب شَيْء آخَر أَصْلًا . كَذَا قَالَ . وَحَرْف الْمَسْأَلَة دَائِر عَلَى الِاسْتِثْنَاء ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ مُتَّصِل تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ مُنْقَطِع اِحْتَاجَ إِلَى دَلِيل ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْره أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثُمَّ يُفْطِر ، وَفِي الْبُخَارِيّ أَنَّهُ أَمَرَ جُوَيْرِيَة بِنْت الْحَارِث أَنْ تُفْطِر يَوْم الْجُمُعَة بَعْد أَنْ شَرَعَتْ فِيهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة لَا يَسْتَلْزِم الْإِتْمَام - إِذَا كَانَتْ نَافِلَة - بِهَذَا النَّصّ فِي الصَّوْم وَالْقِيَاس فِي الْبَاقِي .(1/159)
فَإِنْ قِيلَ : يَرِد الْحَجّ ، قُلْنَا : لَا ؛ لِأَنَّهُ اِمْتَازَ عَنْ غَيْره بِلُزُومِ الْمُضِيّ فِي فَاسِده فَكَيْف فِي صَحِيحه . وَكَذَلِكَ اِمْتَازَ بِلُزُومِ الْكَفَّارَة فِي نَفْله كَفَرْضِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
عَلَى أَنَّ فِي اِسْتِدْلَال الْحَنَفِيَّة نَظَرًا لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِفَرْضِيَّةِ الْإِتْمَام ، بَلْ بِوُجُوبِهِ . وَاسْتِثْنَاء الْوَاجِب مِنْ الْفَرْض مُنْقَطِع لِتَبَايُنِهِمَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاء مِنْ النَّفْي عِنْدهمْ لَيْسَ لِلْإِثْبَاتِ بَلْ مَسْكُوت عَنْهُ . وَقَوْله " إِلَّا أَنْ تَطَّوَّع " اِسْتِثْنَاء مِنْ قَوْله لَا ، أَيْ : لَا فَرْض عَلَيْك غَيْرهَا .
قَوْله : ( وَذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاة ) فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر قَالَ : أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّه عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاة ، قَالَ فَأَخْبَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِع الْإِسْلَام ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الرِّوَايَة أَنَّ فِي الْقِصَّة أَشْيَاء أُجْمِلَتْ ، مِنْهَا بَيَان نُصُب الزَّكَاة فَإِنَّهَا لَمْ تُفَسَّر فِي الرِّوَايَتَيْنِ ، وَكَذَا أَسْمَاء الصَّلَوَات ، وَكَأَنَّ السَّبَب فِيهِ شُهْرَة ذَلِكَ عِنْدهمْ ، أَوْ الْقَصْد مِنْ الْقِصَّة بَيَان أَنَّ الْمُتَمَسِّك بِالْفَرَائِضِ نَاجٍ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلَ النَّوَافِل .
قَوْله : ( وَاَللَّه ) أَيْ : رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر فَقَالَ " وَاَلَّذِي أَكْرَمَك " . وَفِيهِ جَوَاز الْحَلِف فِي الْأَمْر الْمُهِمّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .(1/160)
قَوْله : ( أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ ) وَقَعَ عِنْد مُسْلِم مِنْ رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر الْمَذْكُورَة " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ " أَوْ " دَخَلَ الْجَنَّة وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ " . وَلِأَبِي دَاوُدَ مِثْله لَكِنْ بِحَذْفِ " أَوْ " . فَإِنْ قِيلَ : مَا الْجَامِع بَيْن هَذَا وَبَيْن النَّهْي عَنْ الْحَلِف بِالْآبَاءِ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل النَّهْي ، أَوْ بِأَنَّهَا كَلِمَة جَارِيَة عَلَى اللِّسَان لَا يُقْصَد بِهَا الْحَلِف ، كَمَا جَرَى عَلَى لِسَانهمْ عَقْرَى ، حَلْقَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، أَوْ فِيهِ إِضْمَار اِسْم الرَّبّ كَأَنَّهُ قَالَ : وَرَبّ أَبِيهِ ، وَقِيلَ : هُوَ خَاصّ وَيَحْتَاج إِلَى دَلِيل ، وَحَكَى السُّهَيْلِيّ عَنْ بَعْض مَشَايِخه أَنَّهُ قَالَ : هُوَ تَصْحِيف ، وَإِنَّمَا كَانَ وَاَللَّه ، فَقُصِّرَتْ اللَّامَانِ . وَاسْتَنْكَرَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا وَقَالَ : إِنَّهُ يَجْزِم الثِّقَة بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَة . وَغَفَلَ الْقَرَافِيّ فَادَّعَى أَنَّ الرِّوَايَة بِلَفْظِ : وَأَبِيهِ لَمْ تَصِحّ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّأ ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِ الْجَوَاب فَعَدَلَ إِلَى رَدّ الْخَبَر ، وَهُوَ صَحِيح لَا مِرْيَة فِيهِ ، وَأَقْوَى الْأَجْوِبَة الْأَوَّلَانِ . وَقَالَ اِبْن بَطَّال : دَلَّ قَوْله " أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ " عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْدُق فِيمَا اِلْتَزَمَ لَا يُفْلِح ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْل الْمُرْجِئَة ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْف أَثْبَتَ لَهُ الْفَلَاح بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُر الْمَنْهِيَّات ؟ أَجَابَ اِبْن بَطَّال بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ قَبْل وُرُود فَرَائِض النَّهْي .(1/161)
وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِأَنَّ السَّائِل ضِمَام ، وَأَقْدَم مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ وَفَدَ سَنَة خَمْس ، وَقِيلَ بَعْد ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَر الْمَنْهِيَّات وَاقِعًا قَبْل ذَلِكَ . وَالصَّوَاب أَنَّ ذَلِكَ دَاخِل فِي عُمُوم قَوْله " فَأَخْبَرَهُ بِشَرَائِع الْإِسْلَام " كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ أَمَّا فَلَاحه بِأَنَّهُ لَا يَنْقُص فَوَاضِح ، وَأَمَّا بِأَنْ لَا يَزِيد فَكَيْف يَصِحّ ؟ أَجَابَ النَّوَوِيّ بِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الْفَلَاح لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ . وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِزَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُون مُفْلِحًا ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَفْلَحَ بِالْوَاجِبِ فَفَلَاحه بِالْمَنْدُوبِ مَعَ الْوَاجِب أَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْف أَقَرَّهُ عَلَى حَلِفه وَقَدْ وَرَدَ النَّكِير عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَل خَيْرًا ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال وَالْأَشْخَاص ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْأَصْل بِأَنَّهُ لَا إِثْم عَلَى غَيْر تَارِك الْفَرَائِض ، فَهُوَ مُفْلِح وَإِنْ كَانَ غَيْره أَكْثَر فَلَاحًا مِنْهُ . وَقَالَ الطِّيبِيّ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا الْكَلَام صَدَرَ مِنْهُ عَلَى طَرِيق الْمُبَالَغَة فِي التَّصْدِيق وَالْقَبُول ، أَيْ : قَبِلْت كَلَامك قَبُولًا لَا مَزِيد عَلَيْهِ مِنْ جِهَة السُّؤَال ، وَلَا نُقْصَان فِيهِ مِنْ طَرِيق الْقَبُول . وَقَالَ اِبْن الْمُنِير : يَحْتَمِل أَنْ تَكُون الزِّيَادَة وَالنَّقْص تَتَعَلَّق بِالْإِبْلَاغِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَافِد قَوْمه لِيَتَعَلَّم وَيُعَلِّمهُمْ . قُلْت : وَالِاحْتِمَالَانِ مَرْدُودَانِ بِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر ، فَإِنَّ نَصَّهَا " لَا أَتَطَوَّع شَيْئًا ، وَلَا أَنْقُص مِمَّا فَرَضَ اللَّه عَلَيَّ شَيْئًا " .(1/162)
وَقِيلَ : مُرَاده بِقَوْلِهِ لَا أَزِيد وَلَا أَنْقُص أَيْ : لَا أُغَيِّر صِفَة الْفَرْض كَمَنْ يَنْقُص الظُّهْر مَثَلًا رَكْعَة أَوْ يَزِيد الْمَغْرِب ، قُلْت : وَيُعَكِّر عَلَيْهِ أَيْضًا لَفْظ التَّطَوُّع فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر . وَاَللَّه أَعْلَم . فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 73) (44)
- - - - - - - - - - - -
30- قراءة بعض السور
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَقْرِئْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ « اقْرَأْ ثَلاَثًا مِنْ ذَوَاتِ الرَّاءِ ». فَقَالَ كَبِرَتْ سِنِّى وَاشْتَدَّ قَلْبِى وَغَلُظَ لِسَانِى. قَالَ « فَاقْرَأْ ثَلاَثًا مِنْ ذَوَاتِ حم ». فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ. فَقَالَ « اقْرَأْ ثَلاَثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ ». فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرِئْنِى سُورَةً جَامِعَةً. فَأَقْرَأَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا. فَقَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ ».مَرَّتَيْنِ. سنن أبى داود (1401 ) (حديث حسن)(1/163)
وفي مسند أحمد (6732) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَقْرِئْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَهُ « اقْرَأْ ثَلاَثاً مِنْ ذَاتِ (الر) ». فَقَالَ الرَّجُلُ كَبِرَتْ سِنِّى وَاشْتَدَّ قَلْبِى وَغَلُظَ لِسَانِى. قَالَ « فَاقْرَأْ مِنْ ذَاتِ (حم) ». فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى فَقَالَ « اقْرَأْ ثَلاَثاً مِنْ الْمُسَبِّحَاتِ ». فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ وَلَكِنْ أَقْرِئْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً. فَأَقْرَأَهُ ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَداً. ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ ». ثُمَّ قَالَ « عَلَىَّ بِهِ ». فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ « أُمِرْتُ بِيَوْمِ الأَضْحَى جَعَلَهُ اللَّهُ عِيداً لِهَذِهِ الأُمَّةِ ». فَقَالَ الرَّجُلُ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدُ إِلاَّ مَنِيحَةَ ابْنِى أَفَأُضَحِّى بِهَا قَالَ : « لاَ وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِكَ وَتُقَلِّمُ أَظْفَارَكَ، وَتَقُصُّ شَارِبَكَ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ ، فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ ».(حسن)
( فَقَالَ أَقْرِئْنِي ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الرَّاء أَيْ عَلِّمْنِي
( فَقَالَ اِقْرَأْ ثَلَاثًا ) : أَيْ ثَلَاث سُوَر
( مِنْ ذَوَات الرَّاء ) : بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مِنْ السُّوَر الَّتِي صُدِّرَتْ بِالرَّاءِ
( فَقَالَ كَبُرَتْ ) : بِضَمِّ الْبَاء وَتُكْسَر
( سِنِّي ) : أَيْ كَثُرَ عُمْرِي
( وَاشْتَدَّ قَلْبِي ) : أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ قِلَّةُ الْحِفْظِ وَكَثْرَةُ النِّسْيَان
((1/164)
وَغَلُظَ لِسَانِي ) : أَيْ ثَقُلَ بِحَيْثُ لَمْ يُطَاوِعْنِي فِي تَعَلُّم الْقُرْآنِ وَلَا تَعَلُّم السُّوَر الطِّوَال
( قَالَ ) : أَيْ فَإِنْ كُنْت لَا تَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهُنَّ
( فَاقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم ) : فَإِنَّ أَقْصَرَ ( ذَوَات حم ) : أَقْصَر مِنْ أَقْصَر ذَوَاتِ الرَّاءِ
( مِنْ الْمُسَبِّحَاتِ ) : أَيْ مَا فِي أَوَّله سَبِّحْ وَيُسَبِّحُ
((1/165)
فَأَقْرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا ) : أَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الرَّجُل قَالَ الطِّيبِيُّ : كَأَنَّهُ طَلَبَهُ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَلَاحُ إِذَا عَمِلَ بِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ سُورَة جَامِعَة ، وَفِي هَذِهِ السُّورَة آيَة زَائِدَة لَا مَزِيد عَلَيْهَا { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } وَلِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْجَامِعَة الْفَاذَّة { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ } قَالَ الطِّيبِيُّ : وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ لِبَيَانِ الِاسْتِقْصَاء فِي عَرْض الْأَعْمَال وَالْجَزَاء عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة فَلَا تُظْلَمُ نَفْس شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَال حَبَّة مِنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ( لَا أَزِيدُ عَلَيْهِ أَبَدًا ) : أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَقْرَأْتنِيهِ مِنْ فِعْل الْخَيْر وَتَرْك الشَّرّ ، وَلَعَلَّ الْقَصْدَ بِالْحَلِفِ تَأْكِيدُ الْعَزْمِ لَا سِيَّمَا بِحُضُورِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ الْمُبَايَعَةِ وَالْعَهْدِ
( ثُمَّ أَدْبَرَ ) : أَيْ وَلَّى دُبُرَهُ وَذَهَبَ
( أَفْلَحَ ) : أَيْ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ
((1/166)
الرُّوَيْجِل ) : قَالَ الطِّيبِيُّ : تَصْغِيرُ تَعْظِيمٍ لِبُعْدِ غَوْرِهِ وَقُوَّةِ إِدْرَاكِهِ وَهُوَ تَصْغِيرٌ شَاذٌّ إِذْ قِيَاسُهُ رُجَيْلٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرُ رَاجِلٍ بِالْأَلِفِ بِمَعْنَى الْمَاشِي
( مَرَّتَيْنِ ) : إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ مَرَّة لِلدُّنْيَا وَمَرَّة لِلْأُخْرَى ، وَقِيلَ لِشِدَّةِ إِعْجَابِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنْهُ قَالَهُ عَلِيٌّ الْقَارِيّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .عون المعبود - (ج 3 / ص 336) (1191 )
قال التعالى :{ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} سورة الزلزة
كَانَ الكُفَّارُ كَثِيراً مَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَاعَةِ وَالحِسَابِ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ ، فَذَكَرَ اللهَ تَعَالى فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلاَمَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ .
إِذَا زُلْزِلَت الأَرْضُ وَاضْطَرَبَتْ ، وَتَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا حَرَكَةً شَدِيدَةً
وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ مَا فِي جَوْفِهَا مِنْ أَمْوَاتٍ وَسَوَائِلَ مُنْصَهِرَةٍ وَمَعَادِنَ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالى { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}(1/167)
وَيَقُولُ الأَحْيَاءُ الذِينَ يَشْهَدُونَ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ ، وَهُمْ مَشْدُوهُونَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنِ : مَا الذِي وَقَعَ لِهَذِهِ الأَرْضِ؟ فَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً ، صَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً ، لَقَدْ أَتَاهَا مِنْ أَمْرِ رَبِّهَا مَا أَتَاهَا.
فإِذَا وَقَعَتِ الزَّلْزَلَةُ ، وَاضْطَرَبَتِ الأَرْضُ ، وَتَحَرَّكَتْ مِنْ أسْفَلِهَا حِينَئِذٍ تُحَدِّثُ الأَرْضُ بِمَا عَمِلَ العَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ : " قَرَأَ رَسُولُ اللهِ هَذِهِ الآيَةَ ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) ، وَقَالَ : أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ فَإِنَّ أَخبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدِ وَكُلِّ أَمَةٍ بِمَا عَمِلاَ عَلَى ظَهْرِهَا ، أَنْ تَقُولَ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا . فَهِذِهِ أَخْبَارُهَا " ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ )
وَقَدْ حَدَثَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمرَهَا بِأَنْ تَتَزَلْزَلَ وَتَنْشَقَّ وَتَتَحَدَّثَ بِمَا فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ظَهْرِهَا فَأَطَاعَتْ أَمْرَ رَبِّهَا .
وَيَوْمَ تَتَزَلْزَلُ الأَرْضُ ، وَتَنْدَكُّ ، وَيَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى المَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ ، وَيَجْمَعُهُمْ لِلْحِسَابِ وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِعَدْلِهِ المُطْلَق ، فَيَرْجِعُ النَّاسُ عَنْ مَوْقِفِ الحِسَابِ ( يَصْدُرُ النَّاسُ ) أَصْنَافاً مُتَمَايِزِينَ ، فَيَكُونُ المُحْسِنُونَ مَعاً ، فِي طَرِيقِهِمْ إِلى دَار المَثُوَبَةِ ، وَيَكُونُ الطُّغَاةُ المُجْرِمُون وَالمُسيئُونَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى دَارِ العُقُوبَةِ لِيُلاَقُوا جَزَاءَ مَا عَمِلُوهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا .(1/168)
فَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ فَإِنَّهُ سَيَجِدُ ثَوَابَهُ مَهْمَا كَانَ حَقِيراً ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي وَزْنِ الذَّرَّةِ . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَو أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسقِي "
وَقَالَ أَيْضاً : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " ( أَخْرَجَهُمَا البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ) .
وَمَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ سُوءٍ فَإنَّهُ وَاجِدٌ جَزَاءَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ .
إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة . هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي . وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها؛ فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار!
وهذا هو طابع الجزء كله ، يتمثل في هذه السورة تمثلاً قوياً . .
{ إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان مالها؟ يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها } .
إنه يوم القيامة حيث ترتجف الأرض الثابتة ارتجافاً ، وتزلزل زلزالا ، وتنفض ما في جوفها نفضاً ، وتخرج ما يثقلها من أجساد ومعادن وغيرها مما حملته طويلاً . وكأنها تتخفف من هذه الأثقال ، التي حملتها طويلاً!
وهو مشهد يهز تحت أقدام المستمعين لهذه السورة كل شيء ثابت؛ ويخيل إليهم أنهم يترنحون ويتأرجحون ، والأرض من تحتهم تهتز وتمور! مشهد يخلع القلوب من كل ما تتشبث به من هذه الأرض ، وتحسبه ثابتاً باقياً؛ وهو الإيحاء الأول لمثل هذه المشاهد التي يصورها القرآن ، ويودع فيها حركة تكاد تنتقل إلى أعصاب السامع بمجرد سماع العبارة القرآنية الفريدة!
ويزيد هذا الأثر وضوحاً بتصوير « الإنسان » حيال المشهد المعروض ، ورسم انفعالاته وهو يشهده:
{ وقال الإنسان : ما لها؟ } . .(1/169)
وهو سؤال المشدوه المبهوت المفجوء ، الذي يرى ما لم يعهد ، ويواجه ما لا يدرك ، ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه والسكوت . مالها؟ ما الذي يزلزلها هكذا ويرجها رجا؟ مالها؟ وكأنه يتمايل على ظهرها ويترنح معها؛ ويحاول أن يمسك بأي شيء يسنده ويثبته ، وكل ما حوله يمور موراً شديداً!
« والإنسان » قد شهد الزلازل والبراكين من قبل . وكان يصاب منها بالهلع والذعر ، والهلاك والدمار ، ولكنه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبهاً بينه وبين ما كان يقع من الزلازل والبراكين في الحياة الدنيا . فهذا أمر جديد لا عهد للإنسان به . أمر لا يعرف له سراً ، ولا يذكر له نظيراً . أمر هائل يقع للمرة الأولى!
{ يومئذ } . . يوم يقع هذا الزلزال ، ويُشدَه أمامه الإنسان { تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها } . . يومئذ تحدث هذه الأرض أخبارها ، وتصف حالها وما جرى لها . . لقد كان ما كان لها { بأن ربك أوحى لها } . . وأمرها أن تمور موراً ، وأن تزلزل زلزالها ، وأن تخرج أثقالها! فأطاعت أمر ربها { وأذنت لربها وحقت } تحدث أخبارها . فهذا الحال حديث واضح عما وراءه من أمر الله ووحيه إليها . .
وهنا و { الإنسان } مشدوه مأخوذ ، والإيقاع يلهث فزعاً ورعباً ، ودهشة وعجبا ، واضطراباً وموراً . . هنا و { الإنسان } لا يكاد يلتقط أنفاسه وهو يتساءل : مالها مالها؟ هنا يواجه بمشهد الحشر والحساب والوزن والجزاء :
{ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم .فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } .(1/170)
وفي لمحة نرى مشهد القيام من القبور : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } . . نرى مشهدهم شتيتاً منبعثاً من أرجاء الأرض { كأنهم جراد منتشر } . . وهو مشهد لا عهد للأنسان به كذلك من قبل . مشهد الخلائق في أجيالها جميعاً تنبعث من هنا ومن هناك : { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً } وحيثما امتد البصر رأى شبحاً ينبعث ثم ينطلق مسرعاً! لا يلوي على شيء ، ولا ينظر وراءه ولا حواليه : { مهطعين إلى الداع } ممدودة رقابهم ، شاخصة أبصارهم . { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر . هائل مروّع . مفزع . مرعب . مذهل . .
كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئاً مما يبلغه إرسال الخيال قليلاً يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق!
{ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } . . { ليروا أعمالهم } . . وهذه أشد وأدهى . . إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم ، ليواجهوها ، ويواجهوا جزاءها . ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحياناً أقسى من كل جزاء . وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه ، ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير . فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد ، في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر؟!
إنها عقوبة هائلة رهيبة . . مجرد أن يُروا أعمالهم ، وأن يواجهوا بما كان منهم!
ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها .
{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } . .
ذرة . . كان المفسرون القدامى يقولون : إنها البعوضة . وكانوا يقولون : إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس . . فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة . . .(1/171)
فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم ، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس ، فالهباءة ترى بالعين المجردة . أما الذرة فلا ترى أبداً حتى بأعظم المجاهر في المعامل . إنما هي « رؤيا » في ضمير العلماء! لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره . وكل ما رآه هو آثارها!
فهذه أو ما يشبهها من ثقل ، من خير أو شر ، تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها! . .
عندئذ لا يحقر « الإنسان » شيئاً من عمله . خيراً كان أو شراً . ولا يقول : هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن . إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله ارتعاشه ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل!
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض . . إلا في القلب المؤمن . .
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر . . وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر . . ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال . إنها قلوب عتلة في الأرض ، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب!!
- - - - - - - - - - - - - -
31- أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ ». سنن أبى داود (4251 ) صحيح
( وَيْل لِلْعَرَبِ ) : الْوَيْل حُلُول الشَّرّ وَهُوَ تَفْجِيع ، أَوْ وَيْل كَلِمَة عَذَاب أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّم ، وَخَصَّ الْعَرَب بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ مُعْظَم مَنْ أَسْلَمَ
( مِنْ شَرّ ) : عَظِيم
( قَدْ اِقْتَرَبَ ) : ظُهُوره ، وَالْأَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد بِهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الْمُتَّفَق عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ " فُتِحَ الْيَوْم مِنْ رَدْم يَأْجُوج وَمَأْجُوج " الْحَدِيث وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .(1/172)
قَالَ الطِّيبِيُّ : أَرَادَ بِهِ الِاخْتِلَاف الَّذِي ظَهَرَ بَيْن الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَقْعَة عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوْ مَا وَقَعَ بَيْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . قَالَ الْقَارِي : أَوْ أَرَادَ بِهِ قَضِيَّة يَزِيد مَعَ الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى أَقْرَب لِأَنَّ شَرّه ظَاهِر عِنْد كُلّ أَحَد مِنْ الْعَجَم وَالْعَرَب
( أَفْلَحَ ) : أَيْ نَجَا
( مَنْ كَفَّ يَده ) : أَيْ عَنْ الْقِتَال وَالْأَذَى أَوْ تَرَكَ الْقِتَال إِذَا لَمْ يَتَمَيَّز الْحَقّ مِنْ الْبَاطِل .عون المعبود - (ج 9 / ص 290) (3708 )
وقال المناوي : " (ويل) كلمة تقال لمن وقع في هلكة ولا يترحم عليه بخلاف ويح كذا في التنقيح (للعرب) يعني المسلمين (من شر قد اقترب) وهو الفتن التي حدثت بينهم من قتل عثمان وخروج معاوية على عليّ قال ابن حجر: ثم توالت الفتن حتى صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكلة كما وقع في حديث آخر: يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قضعتها، والخطاب للعرب (أفلح من كف يده) عن القتال ولسانه عن الكلام في الفتن لكثرة الخطر أو أراد ما يقع من مفسدة يأجوج ومأجوج أو من التتار من المفاسد الهائلة التي قالوا إنه لم يسمع وقوع مثلها في العالم من بدء الدنيا إلى الآن، وقال القرطبي: أخبر بما يكون بعده بين العرب، وقد وجد ذلك بما استؤثر عليهم من الملك والدولة وصار ذلك في غيرهم من الترك والعجم وتشتتوا في البوادي بعد أن كان العز والملك والدنيا لهم ببركته عليه الصلاة والسلام وما جاءهم به من الإسلام فلما كفروا النعمة فقتل بعضهم بعضاً وسلب بعضهم أموال بعض سلبها اللّه منهم ونقلها لغيرهم {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم}.فيض القدير، شرح الجامع الصغير (9647 )
- - - - - - - - - - - - - -
32- صلاحُ الصلاة يؤدي للفلاح(1/173)
عَنْ حُرَيْثِ بْنِ قَبِيصَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ : اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِى جَلِيسًا صَالِحًا. قَالَ فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِى هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ إِنِّى سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِى جَلِيسًا صَالِحًا فَحَدِّثْنِى بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِى بِهِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَىْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ». سنن الترمذى (415 ) وهو حديث حسن
قَوْلُهُ : " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ " بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ(1/174)
" يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ " أَيْ الْمَفْرُوضَةُ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : إِنَّ أَوَّلَ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ . فَحَدِيثُ الْبَابِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَدِيثُ الصَّحِيحِ مَحْمُولٌ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ مُحَاسَبَةُ الْعِبَادِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى حُقُوقِهِمْ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقَعُ أَوَّلًا الْمُحَاسَبَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ حُقُوقِ الْعِبَادِ اِنْتَهَى . وَقِيلَ الْأَوَّلُ مِنْ تَرْكِ الْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ
" فَإِنْ صَلُحَتْ " بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِهَا ، قَالَ اِبْنُ الْمَلَكِ : صَلَاحُهَا بِأَدَائِهَا صَحِيحَةً
" فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ " الْفَلَاحُ الْفَوْزُ وَالظَّفَرُ ، وَالْإِنْجَاحُ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ يُقَالُ أَنْجَحَ فُلَانٌ إِذَا أَصَابَ مَطْلُوبَهُ . قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ : فَقَدْ أَفْلَحَ أَيْ فَازَ بِمَقْصُودِهِ ، وَأَنْجَحَ أَيْ ظَفِرَ بِمَطْلُوبِهِ فَيَكُونُ فِيهِ تَأْكِيدٌ ، وَفَازَ بِمَعْنَى خَلَصَ مِنْ الْعِقَابِ ، وَأَنْجَحَ أَيْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ " وَإِنْ فَسَدَتْ " بِأَنْ لَمْ تُؤَدَّ أَوْ أُدِّيَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ أَوْ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ " فَقَدْ خَابَ " بِحِرْمَانِ الْمَثُوبَةِ " وَخَسِرَ " بِوُقُوعِ الْعُقُوبَةِ ، وَقِيلَ مَعْنَى خَابَ نَدِمَ وَخَسِرَ أَيْ صَارَ مَحْرُومًا مِنْ الْفَوْزِ وَالْخَلَاصِ قَبْلَ الْعَذَابِ(1/175)
" فَإِنْ اِنْتَقَصَ " بِمَعْنَى نَقَصَ الْمُتَعَدِّي " شَيْئًا " أَيْ مِنْ الْفَرَائِضِ
" هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ " أَيْ فِي صَحِيفَتِهِ سُنَّةٌ أَوْ نَافِلَةٌ مِنْ صَلَاةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ السِّيَاقِ قَبْلَ الْفَرْضِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ مُطْلَقًا
" فَيُكَمِّلُ " بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَبِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ قَالَهُ الْقَارِي
" بِهَا " قَالَ اِبْنُ الْمَلَكِ : أَيْ بِالتَّطَوُّعِ وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ النَّافِلَةِ . وَقَالَ الطِّيبِيُّ : الظَّاهِرُ نَصْبُ فَيُكَمِّلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ فَكَمَّلُوا بِهَا فَرِيضَتَهُ ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ ضَمِيرَ التَّطَوُّعِ فِي بِهَا نَظَرًا إِلَى الصَّلَاةِ(1/176)
" مَا اِنْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ " فَهُوَ مُتَعَدٍّ قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا اِنْتَقَصَهُ مِنْ السُّنَنِ وَالْهَيْئَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا مِنْ الْخُشُوعِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ فِي الْفَرِيضَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ . فِيهَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ فِي التَّطَوُّعِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا اِنْتَقَصَ أَيْضًا مِنْ فُرُوضِهَا وَشُرُوطِهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مَا تَرَكَ مِنْ الْفَرَائِضِ رَأْسًا فَلَمْ يُصَلِّهِ فَيُعَوِّضُ عَنْهُ مِنْ التَّطَوُّعِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ الصَّحِيحَةِ عِوَضًا عَنْ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ اِنْتَهَى . وَقَالَ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُكَمِّلُ لَهُ مَا نَقَصَ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَإِعْدَادِهَا بِفَضْلِ التَّطَوُّعِ ، وَيُحْتَمَلُ مَا نَقَصَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ ، وَلَيْسَ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا فَرْضٌ أَوْ فَضْلٌ فَكَمَا يَكْمُلُ فَرْضُ الزَّكَاةِ بِفَضْلِهَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ وَوَعْدُهُ أَنْفَذُ وَعَزْمُهُ أَعَمُّ اِنْتَهَى
" ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ " أَيْ إِنْ اِنْتَقَصَ فَرِيضَةً مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ تُكَمَّلُ مِنْ التَّطَوُّعِ .تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 451) (378 )
- - - - - - - - - - - - -
33- مَنِ احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ(1/177)
عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ لاَ. قُلْتُ بَلَى.قَالَ أَنْتَ تَقُولُ ذَاكَ يَا أَصْلَعُ بِمَا تَقُولُ ذَلِكَ قُلْتُ بِالْقُرْآنِ بَيْنِى وَبَيْنَكَ الْقُرْآنُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ مَنِ احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ قَالَ سُفْيَانُ يَقُولُ فَقَدِ احْتَجَّ. وَرُبَّمَا قَالَ قَدْ فَلَجَ فَقَالَ (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) قَالَ أَفَتَرَاهُ صَلَّى فِيهِ قُلْتُ لاَ. قَالَ لَوْ صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَ عَلَيْكُمْ فِيهِ الصَّلاَةُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلاَةُ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ حُذَيْفَةُ قَدْ أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِدَابَّةٍ طَوِيلَةِ الظَّهْرِ مَمْدُودَةٍ هَكَذَا خَطْوُهُ مَدُّ بَصَرِهِ فَمَا زَايَلاَ ظَهْرَ الْبُرَاقِ حَتَّى رَأَيَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَوَعْدَ الآخِرَةِ أَجْمَعَ ثُمَّ رَجَعَا عَوْدَهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا قَالَ وَيَتَحَدَّثُونَ أَنَّهُ رَبَطَهُ لِمَ أَيَفِرُّ مِنْهُ وَإِنَّمَا سَخَّرَهُ لَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. سنن الترمذى (3440 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
( قَالَ لَا ) أَيْ قَالَ حُذَيْفَةُ لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَقَوْلُهُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَادِيثُ صَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
( قُلْت بَلَى ) أَيْ قَدْ صَلَّى فِيهِ
((1/178)
يَا أَصْلَعُ ) هُوَ الَّذِي اِنْحَسَرَ الشَّعْرُ عَنْ رَأْسِهِ . قَالَهُ الْجَزَرِيُّ ، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الصَّلَعُ مُحَرَّكَةٌ اِنْحِسَارُ شَعْرِ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ لِنُقْصَانِ مَادَّةِ الشَّعْرِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَقُصُورِهَا عَنْهَا وَاسْتِيلَاءِ الْحِفَافِ عَلَيْهَا
( بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ ) أَيْ بِأَيِّ دَلِيلٍ تَقُولُ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
( قُلْت بِالْقُرْآنِ ) أَيْ أَقُولُ بِالْقُرْآنِ
( بَيْنِي وَبَيْنَك الْقُرْآنُ ) أَيْ فَحَكَمٌ بَيْنِي وَبَيْنَك الْقُرْآنُ وَيَفْصِلُ
( مَنْ اِحْتَجَّ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ ) أَيْ فَازَ بِمَرَامِهِ
( قَالَ سُفْيَانُ ) أَيْ فِي بَيَانِ مُرَادِ حُذَيْفَةَ بِقَوْلِهِ أَفْلَحَ
( يَقُولُ ) أَيْ حُذَيْفَةُ ، يَعْنِي يُرِيدُ ( قَدْ اِحْتَجَّ ) أَيْ أَتَى بِالْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ
( وَرُبَّمَا قَالَ ) أَيْ سُفْيَانُ ( قَدْ فَلَجَ ) مِنْ الْفَلْجِ : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ ، وَبِالْجِيمِ ، وَهُوَ الظَّفْرُ وَالْفَوْزُ ، وَفَلَجَ عَلَى خَصْمِهِ مِنْ بَابِ نَصَرَ كَذَا فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : أَفْلَحَ مِنْ بَابِ الْإِفْعَال وَهُوَ بِمَعْنَى الْفَلَجِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْفَلَجُ وَالظَّفْرُ وَالْفَوْزُ كَالْإِفْلَاجِ
( فَقَالَ ) أَيْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى }
يَعْنِي إِذْ أَسْرَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَدَخَلَهُ .أَنَّهُ قَدْ صَلَّى فِيهِ
( قَالَ ) أَيْ حُذَيْفَةُ ( أَفَتَرَاهُ صَلَّى فِيهِ ) يَعْنِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَصْرِيحٌ لِصَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
((1/179)
قُلْت لَا ) يَعْنِي لَيْسَ فِيهَا تَصْرِيحٌ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُ صَلَّى فِيهِ
( قَالَ لَوْ صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ فِيهِ كَمَا كُتِبَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قَدْ أَجَابَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عَنْ قَوْلِ حُذَيْفَةَ هَذَا فَقَالَ : وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَنَعَ التَّلَازُمَ فِي الصَّلَاةِ إِنْ كَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْفَرْضُ ، وَإِنْ أَرَادَ التَّشْرِيعَ فَنَلْتَزِمُهُ وَقَدْ شَرَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَرَنَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِهِ فِي شَدِّ الرِّحَالِ ، وَذَكَرَ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ فِي غَيْرِمَا حَدِيثٍ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ : حَتَّى أَتَيْت بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَأَوْثَقْت دَابَّتِي بِالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَرْبِطُ بِهَا ، وَفِيهِ : فَدَخَلْت أَنَا وَجِبْرِيلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا رَكْعَتَيْنِ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ ، وَزَادَ : ثُمَّ دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَعَرَفْت النَّبِيِّينَ مِنْ بَيْنِ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتهمْ . وَفِي حَدِيثِ اِبْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ : وَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتهمْ اِنْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ مُخْتَصَرًا
( بِدَابَّةٍ ) هِيَ الْبُرَاقُ ( طَوِيلَةِ الظَّهْرِ مَمْدُودَةٍ هَكَذَا ) أَيْ أَشَارَ حُذَيْفَةُ لِطُولِ ظَهْرِهَا وَمَدَّ بِيَدِهِ
( خَطْوُهُ ) فِي الْقَامُوسِ : خَطَا خَطْوًا مَشَى ، وَالْخُطْوَةُ وَيُفْتَحُ : مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ
( مَدُّ بَصَرِهِ ) أَيْ مُنْتَهَى بَصَرِهِ
((1/180)
فَمَا زَايَلَهَا ظَهْرُ الْبَرْقِ ) أَيْ مَا فَارَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلُ ظَهْرَهُ ، فِي الْقَامُوسِ : زَايَلَهُ مُزَايَلَةً وَزِيَالًا : فَارَقَهُ اِنْتَهَى . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَاكِبًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبُرَاقِ .
وَفِي صَحِيحِ اِبْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ اِبْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ جِبْرِيلَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ رَدِيفًا لَهُ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَرْثِ فِي مُسْنَدِهِ : أُتِيَ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبَ خَلْفَ جِبْرِيلَ فَسَارَ بِهِمَا ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي رُكُوبِهِ مَعَهُ .
الرِّوَايَاتُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رُكُوبَ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبُرَاقِ
( ثُمَّ رَجَعَا عَوْدُهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ : رَجَعَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ وَعَوْدُهُ عَلَى بَدْئِهِ : أَيْ لَمْ يَقْطَعْ ذَهَابَهُ حَتَّى وَصَلَهُ بِرُجُوعِهِ
( وَيَتَحَدَّثُونَ أَنَّهُ رَبَطَهُ لِمَا لَيَفِرُّ مِنْهُ إِلَخْ ) قَدْ أَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ قَوْلِ حُذَيْفَةَ هَذَا وَقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ فَقَالَ : الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي .(1/181)
الْحَافِظُ : بَعْدَ ذِكْرِ كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ هَذَا يَعْنِي مَنْ أَثْبَتَ رَبْطَ الْبُرَاقِ وَالصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى مَنْ نَفَى ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ فَأَتَى جِبْرِيلُ الصَّخْرَةَ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَضَعَ إِصْبَعَهُ فِيهَا فَخَرَقَهَا فَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ ، وَنَحْوَهُ لِلتِّرْمِذِيِّ اِنْتَهَى . وَقَوْلُهُ لِمَا يَعْنِي : لِأَيِّ شَيْءٍ رَبَطَ الْبُرَاقَ ، ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِيَفِرَّ مِنْهُ : أَيْ هَلْ رَبَطَهُ لِخَوْفِ فِرَارِهِ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا سَخَّرَهُ إِلَخْ يَعْنِي لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ الْفِرَارُ ، لِأَنَّهُ مُسَخَّرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى رَبْطِهِ . تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 477) (3072 )
قلت : ويؤده آية {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور ، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض ، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء ، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه ، وبين عقيدته وعمله ، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم ، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض ، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله ، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة .(1/182)
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض : أفراداً وأزواجاً ، وحكومات وشعوباً ، ودولاً وأجناساً ، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه ، وهو أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل ، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } . . { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً } فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه ، والثاني مقطوع لاركيزة له . وبهما معاً تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معاً تتحقق الهداية بهذا القرآن .
- - - - - - - - - - - -
34-أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا وَيَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخِطْمِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ :
أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا
وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :(1/183)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ يُعَالِجُ الْمَسَاجِدَا
وَيَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا
وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :
وَيَتْلُو الْقُرْآنَ قَائِمًا وَقَاعِدَا
وَهُمْ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ. مصنف ابن أبي شيبة (26045) صحيح مرسل
وفي هذا الارتجاز عند بناء المسجد فائدتان :
إحداهما : ما في هذا الكلام من الموعظة الحسنة ، والحث على العمل ، فيوجب ذلك للسامعين النشاط في العمل ، وزوال ما يعرض للنفس من الفتور والكسل عند سماع ثواب العمل وفضله ، أو الدعاء لعامله بالمغفرة .
والثانية : أن المتعاونين على معالجة الأعمال الشاقة كالحمل والبناء ونحوها قد جرت عادتهم بالاسترواح إلى استماع بعضهم إلى ما ينشده بعضهم ، ويجيبه الأخر عنه ، فإن كل واحد منهم يتعلق فكره بما يقول صاحبه ، ويطرب بذلك ، ويجيل فكره في الجواب عنه بمثله ، فيخف بذلك على النفوس معالجة تلك الأثقال ، وربما نسي ثقل المحمول بالاشتغال بسماع الارتجاز ، والمجاوبة عنه .
ويؤخذ من هذا أنواع من الاعتبار :
منها : حاجة النفس إلى التلطف بها في حمل أثقال التكليف ، حتى تنشط للقيام بها ، ويهون بذلك عليها الأعمال الشاقة على النفس ، من الطاعات .
ومنها : احتياج الإنسان في حمل ثقل التكليف إلى من يعونه على طاعة الله ، وينشط لها بالمواعظ وغيرها كما قال تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة:2] وقال : { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر:3] .فتح الباري لابن رجب - (ج 3 / ص 242)
- - - - - - - - - - - - -
35- أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ(1/184)
عَنْ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : دَخَلَ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ عَلَى حُذَيْفَةَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَاعْتَنَقَهُ ، فَقَالَ : الْفِرَاقُ ، فَقَالَ : نَعَمْ حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ , أََلاَ , أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ , أَلَيْسَ بَعْدَ مَا أَعْلَمُ مِنَ الْيَقِينِ . مصنف ابن أبي شيبة(37203) صحيح
وعن زيد بن سلام ، عن أبيه ، عن جده ، أن حذيفة بن اليمان لما احتضر أتاه ناس من الأعراب ، قالوا له : يا حذيفة ، ما نراك إلا مقبوضا ، فقال لهم : عب مسرور ، وحبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم ، اللهم إني لم أشارك غادرا في غدرته ، فأعوذ بك اليوم من صاحب السوء . كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، فقلت : يا رسول الله إنا كنا في شر فجاءنا الله بالخير فهل بعد ذلك الخير شر ؟ قال : فقال : « نعم » قلت : وهل وراء ذلك الخير من شر ؟ قال : « نعم » قلت : كيف ؟ « قال : » سيكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب رجال في جثمان إنسان « فقلت : كيف أصنع إن أدركني ذلك ؟ قال : » تسمع للأمير الأعظم وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك « » المستدرك على الصحيحين (8673 ) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه « وهو كما قال .
وفي حديث معاوية عن النبي ( أنه قال: " إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة " . وقد أخبر النبي ( عن الفتن التي كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا.(1/185)
وكان أول هذه الفتن ما حدث بعد عمر رضي الله عنه، ونشأ من تلم قتل عثمان رضي الله عنه، وما ترتب عليه من إراقة الدماء وتفرق القلوب وظهور فتن الدين كبدع الخوارج المارقين من الدين وإظهارهم ما أظهروا، ثم ظهور بدع أهل القدر والرفض ونحوهم، وهذه هي الفتن التي تموج كموج البحر المذكورة في حديث حذيفة المشهور حين سأله عنها عمر، وكان حذيفة رضي الله عنه من أكثر الناس سؤالاً للنبي ( عن الفتن خوفاً من الوقوع فيها. ولما حضره الموت قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم! الحمد لله الذي سبق بي الفتنة! قادتها وعلوجها. وكان موته قبل قتل عثمان رضي الله عنه بنحو من أربعين يوماً، وقيل: بل مات بعد قتل عثمان. وكان في تلك الأيام رجل من الصحابة نائماً، فآتاه آتٍ في منامه فقال له: قم! فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فتوضأ وصلى، ثم اشتكى ومات بعد قليل.
وقد روي عن النبي ( أنه قال لرجل: " إذا مت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان فإن استطعت أن تموت فمت " ، وهذا إشارة إلى هذه الفتن التي وقعت بمقتل عثمان رضي الله عنه.
والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائز، وقد دعا به الصحابة والصالحون بعدهم، ولما حج عمر رضي الله عنه آخر حجة حجها استلقى بالأبطح ثم رفع يديه وقال: اللهم إنه قد كبرت سني، ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون. ثم رجع إلى المدينة فما انسلخ الشهر حتى قتل رضي الله عنه.(1/186)
ودعا علي ربه أن يريحه من رعيته حيث سئم منهم فقتل عن قريب. ودعت زينب بنت جحش لما جاءها عطاء عمر من المال فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها. فماتت قبل العطاء الثاني. ولما ضجر عمر بن العزيز من رعيته حيث ثقل عليهم قيامه فيهم بالحق طلب من رجل كان معروفاً بإجابة الدعوة أن يدعو له بالموت، فدعا له ولنفسه بالموت فماتا. ودعي طائفة من السلف الصالح إلى ولاية القضاء، فاستمهلوا ثلاثة أيام فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا.اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى - (ج 1 / ص 21)
- - - - - - - - - - - -
36- فضلُ صلاةِ الركعتين بعد الوضوء
عَنْ قَابُوسٍ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِنَبِىِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَدَخَلَ الْجَنَّةَ فَسَمِعَ مِنْ جَانِبِهَا وَجْساً قَالَ « يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا ». قَالَ هَذَا بِلاَلٌ الْمُؤَذِّنُ. فَقَالَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ جَاءَ إِلَى النَّاسِ « قَدْ أَفْلَحَ بِلاَلٌ رَأَيْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا ». قَالَ فَلَقِيَهُ مُوسَى فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ مَرْحَباً بِالنَّبِىِّ الأُمِّىِّ. قَالَ فَقَالَ « وَهُوَ رَجُلٌ آدَمُ طَوِيلٌ سَبْطٌ شَعَرُهُ مَعَ أُذُنَيْهِ أَوْ فَوْقَهُمَا ».(1/187)
فَقَالَ « مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ». قَالَ هَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ. قَالَ فَمَضَى فَلَقِيَهُ عِيسَى فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ « مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ». قَالَ هَذَا عِيسَى. قَالَ فَمَضَى فَلَقِيَهُ شَيْخٌ جَلِيلٌ مَهِيبٌ فَرَحَّبَ بِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَكُلُّهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَالَ « مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ». قَالَ هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ فَنَظَرَ فِى النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ قَالَ « مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ ». قَالَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ. وَرَأَى رَجُلاً أَحْمَرَ أَزْرَقَ جَعْداً شَعِثاً إِذَا رَأَيْتَهُ قَالَ « مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ». قَالَ هَذَا عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَسْجِدَ الأَقْصَى قَامَ يُصَلِّى ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ جِىءَ بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ اليَمِينِ وَالآخَرُ عَنِ الشِّمَالِ فِى أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِى الآخَرِ عَسَلٌ فَأَخَذَ اللَّبَنَ فَشَرِبَ مِنْهُ فَقَالَ الَّذِى كَانَ مَعَهُ الْقَدَحُ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ. مسند أحمد (2366) حسن
الآدم : أسمر اللون = الجعد : معناه هنا القصير المتردد أو البخيل = السبط : مسترسل الشعر =الوجس : الصوت الخفى(1/188)
ويفسره حديث في سنن الترمذى (4053 ) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى بُرَيْدَةُ قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَا بِلاَلاً فَقَالَ « يَا بِلاَلُ بِمَ سَبَقْتَنِى إِلَى الْجَنَّةِ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَطُّ إِلاَّ سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِى دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِى فَأَتَيْتُ عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشَرَّفٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ فَقُلْتُ أَنَا عَرَبِىٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُلْتُ أَنَا قُرَشِىٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ قُلْتُ أَنَا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ». فَقَالَ بِلاَلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلاَّ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِى حَدَثٌ قَطُّ إِلاَّ تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا وَرَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَىَّ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بِهِمَا ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ وَمُعَاذٍ وَأَنَسٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رَأَيْتُ فِى الْجَنَّةِ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا فَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنِّى دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ يَعْنِى رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنِّى دَخَلْتُ الْجَنَّةَ هَكَذَا رُوِىَ فِى بَعْضِ الْحَدِيثِ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْىٌ.
الخشخشة : صوت احتكاك الشىء اليابس = مشرف : أى له شرفة .(1/189)
وهذا حديث يبين فضل صلاة ركعتين بعد الوضوء
ففي صحيح مسلم(560 ) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضى الله عنه - دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلاَةِ.
- - - - - - - - - - - - - -
37- مَنْ وَرَدَ الحوضَ فقد أَفْلَحَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَمَنْ وَرَدَ أَفْلَحَ وَيُؤْتَى بِأَقْوَامٍ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ. فَيُقَالُ مَا زَالُوا بَعْدَكَ يَرْتَدُّونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ». مسند أحمد (2369) صحيح لغيره
الفرط : المتقدم والمراد الشفيع(1/190)
وقد ورد في فضله أحاديث كثيرة ، منها كما في صحيح مسلم( 6129 ) عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلاَ فِى اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ».
يشخب : يسيل = المصحية : التى لا غيم فيها = الميزاب : أنبوبة تركب فى جانب البيت من أعلاه لينصرف منها ماء المطر
وفي مصنف ابن أبي شيبة (31682) عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : الْحَوْضُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَأَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنْ الْمِسْكِ , آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ , مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ , مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا. (صحيح)(1/191)
وفي مسند أحمد (6670) عَنْ أَبِى سَبْرَةَ قَالَ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَسْأَلُ عَنِ الْحَوْضِ حَوْضِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ يُكَذِّبُ بِهِ بَعْدَ مَا سَأَلَ أَبَا بَرْزَةَ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَعَائِذَ بْنَ عَمْرٍو وَرَجُلاً آخَرَ وَكَانَ يُكَذِّبُ بِهِ فَقَالَ أَبُو سَبْرَةَ أَنَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ فِيهِ شِفَاءُ هَذَا إِنَّ أَبَاكَ بَعَثَ مَعِى بِمَالٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَحَدَّثَنِى بِمَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَمْلَى عَلَىَّ فَكَتَبْتُ بِيَدِى فَلَمْ أَزِدْ حَرْفاً وَلَمْ أَنْقُصْ حَرْفاً حَدَّثَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ - أَوْ يَبْغَضُ الْفَاحِشَ - وَالْمُتَفَحِّشَ ». قَالَ « وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَاحُشُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ وَحَتَّى يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنَ الأَمِينُ ». وَقَالَ « أَلاَ إِنَّ مَوْعِدَكُمْ حَوْضِى عَرْضُهُ وَطُولُهُ وَاحِدٌ وَهُو كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ وَهُوَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فِيهِ مِثْلُ النُّجُومِ أَبَارِيقُ شَرَابُهُ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ الْفِضَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مَشْرَباً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَ أَبَداً ». فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَا سَمِعْتُ فِى الْحَوْضِ حَدِيثاً أَثْبَتَ مِنْ هَذَا. فَصَدَّقَ بِهِ وَأَخَذَ الصَّحِيفَةَ فَحَبَسَهَا عِنْدَهُ . ( صحيح لغيره)(1/192)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنِّي آخُذُ بِحُجَزِكُمْ أَقُولُ اتَّقُوا النَّارَ اتَّقُوا الْحُدُودَ، فَإِذَا مُتُّ تَرَكْتُكُمْ، وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَ فَقَدْ أَفْلَحَ، فَيُؤْتَى بِأَقْوَامٍ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ رَبِّ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا بَعْدَكَ يَرْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ. المعجم الكبير للطبراني (10791 ) صحيح
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ:أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ , أَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَجَهَنَّمَ , إِيَّاكُمْ وَالْحُدُودَ , فَإِذَا مِتُّ , فَأَنَا فَرَطُكُمْ وَمَوْعِدُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ , فَمَنْ وَرَدَ أَفْلَحَ , وَيَأْتِي قَوْمٌ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ , فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي , فَيُقَالُ: لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ. المعجم الكبير للطبراني (12345) صحيح
- - - - - - - - - - - -
38- مَنْ تمسَّكَ بالسُّنَّة فقد أفلحَ(1/193)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَكَانَ لاَ يَأْتِيهَا كَانَ يَشْغَلُهُ الصَّوْمُ وَالصَّلاَةُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ». قَالَ إِنِّى أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُ « صُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً ». وَقَالَ لَهُ « اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ شَهْرٍ ». قَالَ إِنِّى أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ « اقْرَأْهُ فِى كُلِّ خَمْسَ عَشْرَةَ ». قَالَ إِنِّى أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ « اقْرَأْهُ فِى كُلِّ سَبْعٍ ». حَتَّى قَالَ « اقْرَأْهُ فِى كُلِّ ثَلاَثٍ ». وَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَةً وَلِكُلِّ شِرَةٍ فَتْرَةً فَمَنْ كَانَتْ شِرَتُهُ إِلَى سُنَّتِى فَقَدْ أَفْلَحَ وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ ». مسند أحمد (6936) وصحيح ابن حبان (11) صحيح
الشرة : والشرة هي الحرص على الشيء والرغبة والنشاط. قال الطحاوي: فوفقنا بذلك على أنها هي الحدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عزوجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب منهم فيها ما دون الحدة التي لا بد من القصر عنها والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه، حتى يلقوا ربهم عزوجل عليه.
وقد جاءت أحاديث تتحدث على التمسك بالسنة منها(1/194)
مارواه الترمذى (2891 ) عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
( فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ ) أَيْ زَمَنَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ ( فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي ) أَيْ فَلْيَلْزَمْ سُنَّتِي
((1/195)
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ) فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا قَالَهُ الْقَارِي . وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ : إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ أَكْثَرُهَا مُتَعَسِّفَةٌ ، وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَلْزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَقَدْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ هِيَ نَفْسُ طَرِيقَتِهِ ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْهَا وَعَمَلًا بِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصْغَرِ الْأُمُورِ فَضْلًا عَنْ أَكْبَرِهَا . وَكَانُوا إِذَا أَعْوَزَهُمْ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلُوا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ الرَّأْيِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبُّرِ ، وَهَذَا الرَّأْيُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِمَا تَقْضِي ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ أَوْ كَمَا قَالَ .(1/196)
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْت هَذَا فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ . فَإِنْ قُلْت : إِذَا كَانَ مَا عَمِلُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثَمَرَةٌ ، قُلْت : ثَمَرَتُهُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْرَكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ وَزَمَنَ الْخُلَفَاءِ وَلَكِنَّهُ حَدَثَ أَمْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي زَمَنِهِ فَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ فَأَشَارَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إِلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ مِنْ الشَّكِّ وَيَخْتَلِجُ فِيهَا مِنْ الظُّنُونِ . فَأَقَلُّ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثِيرًا مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْسَبُ الْفِعْلُ أَوْ التَّرْكُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقُدْرَةِ وَمَكَانُ الْأُسْوَةِ فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَقِفْ عِنْدَ تَحْرِيرِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ . اِنْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ .(1/197)
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ صَاحِبِ سُبُلِ السَّلَامِ فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ آذَانِ الْجُمُعَةِ وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ قِيلَ هُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : قَالَ الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً وَقَدْ اِنْتَهَى بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ . قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَصَفَ الرَّاشِدِينَ بِالْمَهْدِيِّينَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ : وَهُمْ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ وَذُو النُّورَيْنِ وَأَبُو تُرَابٍ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَوَاظَبُوا عَلَى اِسْتِمْطَارِ الرَّحْمَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ النَّبَوِيَّةِ وَخَصَّهُمْ اللَّهُ بِالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ السُّنِّيَّةِ وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَشَاقِّ الْأَسْفَارِ وَمُجَاهَدَةِ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ . أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى وَالتَّصَدِّي إِلَى الرِّيَاسَةِ الْكُبْرَى لِإِشَاعَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ أَعْلَامِ الشَّرْعِ الْمَتِينِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ وَازْدِيَادًا لِمَثُوبَاتِهِمْ اِنْتَهَى . تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 475)
- - - - - - - - - - - -
39- فضل عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وسببه(1/198)
عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِى أَنَّ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ يَجْمَعُ لِىَ النَّاسَ لِيَغْزُوَنِى وَهُوَ بِعُرَنَةَ فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْعَتْهُ لِى حَتَّى أَعْرِفَهُ. قَالَ « إِذَا رَأَيْتَهُ وَجَدْتَ لَهُ أُقْشَعْرِيرَةً ». قَالَ فَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحاً بِسَيْفِى حَتَّى وَقَعْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِعُرَنَةَ مَعَ ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنَّ مَنْزِلاً وَحِينَ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا وَصَفَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأُقْشَعْرِيرَةِ فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ مُحَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِى عَنِ الصَّلاَةِ فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِى نَحْوَهُ أُومِئُ بِرَأْسِى الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ قَالَ مَنِ الرَّجُلُ قُلْتُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ فَجَاءَكَ لِهَذَا. قَالَ أَجَلْ أَنَا فِى ذَلِكَ. قَالَ فَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئاً حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِى حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ حَتَّى قَتَلْتُهُ ثُمَّ خَرَجْتُ وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُكِبَّاتٍ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَآنِى فَقَالَ « أَفْلَحَ الْوَجْهُ ».(1/199)
قَالَ قُلْتُ قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « صَدَقْتَ ». قَالَ ُم قَامَ مَعِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَخَلَ بِى بَيْتَهُ فَأَعْطَانِى عَصاً فَقَالَ « أَمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ ». قَالَ فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ فَقَالُوا َا هَذِهِ الْعَصَا قَالَ قُلْتُ أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَمَرَنِى أَنْ أَمْسِكَهَا. قَالُوا أَوَلاَ تَرْجِعُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ أَعْطَيْتَنِى هَذِهِ الْعَصَا قَالَ « آيَةٌ بَيْنِى وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُونَ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَقَرَنَهَا عَبْدُ اللَّهِ بِسَيْفِهِ فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ أَمَرَ بِهَا فَصُبَّتْ مَعَهُ فِى كَفَنِهِ ثُمَّ دُفِنَا جَمِيعاً. مسند أحمد (16470) حسن(1/200)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى ابْنِ أَبِى الْحُقَيْقِ بِخَيْبَرَ لِيَقْتُلُوهُ فَقَتَلُوهُ وَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُمْ :« أَفْلَحَتِ الْوُجُوهُ ». فَقَالُوا : أَفْلَحَ وَجْهُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ :« أَقَتَلْتُمُوهُ ». قَالُوا : نَعَمْ فَدَعَا بِالسَّيْفِ الَّذِى قُتِلَ بِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَسَلَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« أَجَلْ هَذَا طَعَامُهُ فِى ذُبَابِ السَّيْفِ ». وَكَانَ الرَّهْطُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، وَأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِىٍّ حَلِيفٌ لَهُمْ ، وَأَبُو قَتَادَةَ فِيمَا يَظُنُّ الزُّهْرِىُّ ، وَلاَ يَحْفَظُ الزُّهْرِىُّ الْخَامِسَ ، السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 221) (6051) وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً فَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَهَذِهِ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِيمَا بَيْنَ أَرْبَابِ الْمَغَازِى. وَقَدْ رُوِىَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ الزُّهْرِىِّ وَرُوِىَ عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فَذَكَرَا هَذِهِ الْقِصَّةَ وَذَكَرَا مَعَ هَؤُلاَءِ مَسْعُودَ بْنَ سِنَانٍ.(1/201)
وفي سيرة ابن هشام - (ج 2 / ص 619) غَزْوَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ خَالِدَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ وَهُوَ بِنَخْلَةَ أَوْ بِعُرَنَةَ يَجْمَعُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ لِيَغْزُوهُ فَقَتَلَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ : دَعَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّ ابْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ يَجْمَعُ لِي النّاسَ لِيَغْزُونِي ، وَهُوَ بِنَخْلَةَ أَوْ بِعُرَنَةَ فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ . قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ انْعَتْهُ لِي حَتّى أَعْرِفَهُ . قَالَ إنّك إذَا رَأَيْته أَذْكَرَك الشّيْطَانَ وَآيَةُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَنّك إذَا رَأَيْته وَجَدْت لَهُ قُشَعْرِيرَةً . قَالَ فَخَرَجْت مُتَوَشّحًا سَيْفِي ، حَتّى دُفِعْت إلَيْهِ وَهُوَ فِي ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنّ مَنْزِلًا ، وَحَيْثُ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَلَمّا رَأَيْته وَجَدْت مَا قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْقُشَعْرِيرَةِ فَأَقْبَلْت نَحْوَهُ وَخَشِيت أَنْ تَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُجَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنْ الصّلَاةِ فَصَلّيْت وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ أُومِئُ بِرَأْسِي ، فَلَمّا انْتَهَيْت إلَيْهِ قَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟ قُلْت : رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ سَمِعَ بِك وَبِجَمْعِك لِهَذَا الرّجُلِ فَجَاءَك لِذَلِكَ . قَالَ أَجَلْ إنّي لَفِي ذَلِكَ .(1/202)
قَالَ فَمَشَيْت مَعَهُ شَيْئًا ، حَتّى إذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْت عَلَيْهِ بِالسّيْفِ فَقَتَلْته ، ثُمّ خَرَجْت ، وَتَرَكْت ظَعَائِنَهُ مُنْكَبّاتٌ عَلَيْهِ فَلَمّا قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَآنِي ، قَالَ أَفْلَحَ الْوَجْهُ قُلْت : قَدْ قَتَلْته يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ صَدَقْت .
ثُمّ قَامَ بِي ، فَأَدْخَلَنِي بَيْتَهُ فَأَعْطَانِي عَصًا ، فَقَالَ أَمْسِكْ هَذِهِ الْعَصَا عِنْدَك يَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُنَيْسٍ . قَالَ فَخَرَجْت بِهَا عَلَى النّاسِ فَقَالُوا : مَا هَذِهِ الْعَصَا ؟ قُلْت : أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَهَا عِنْدِي . قَالُوا : أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَسْأَلَهُ لِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ فَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَ أَعْطَيْتنِي هَذِهِ الْعَصَا ؟ قَالَ آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ . إنّ أَقَلّ النّاسِ الْمُتَخَصّرُونَ يَوْمئِذٍ قَالَ فَقَرَنَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتّى مَاتَ ثُمّ أَمَرَ بِهَا فَضُمّتْ فِي كَفَنِهِ ثُمّ دُفِنَا جَمِيعًا .
الظعائن : جمع الظعينة وهى المرأة = الظعن : جمع الظعينة وهى المرأة = المكبة : مكبة عليه لازمة له غير تاركة
وقوله: "المتخصرون" أي: المتكئون على المخاصر، جمع مخصرة، وهي ما يأخذه الرجل بيده ليتوكأ عليه مثل العصا ونحوه.
- - - - - - - - - - - - - - -
40- قَدْ أَفْلَحَ الْمُزْهِدُ الْمُجْهِدُ(1/203)
عَنْ أَبِى السَّلِيلِ قَالَ وَقَفَ عَلَيْنَا رَجُلٌ فِى مَجْلِسِنَا بِالْبَقِيعِ فَقَالَ حَدَّثَنِى أَبِى أَوْ عَمِّى أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَقُولُ « مَنْ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ أَشْهَدُ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ فَحَلَلْتُ مِنْ عِمَامَتِى لَوْثاً أَوْ لَوْثَيْنِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا فَأَدْرَكَنِى مَا يُدْرِكُ بَنِى آدَمَ فَقَعَدْتُ عَلَى عِمَامِتِى فَجَاءَ رَجُلٌ وَلَمْ أَرَ بِالْبَقِيعِ رَجُلاً أَشَدَّ سَوَاداً أَصْغَرَ مِنْهُ وَلاَ آدَمَ يَعْبُرُ بِنَاقَةٍ لَمْ أَرَ بِالْبَقِيعِ نَاقَةً أَحْسَنَ مِنْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَدَقَةٌ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ دُونَكَ هَذِهِ النَّاقَةَ. قَالَ فَلَمَزَهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَذَا يَتَصَدَّقُ بِهَذِهِ فَوَاللَّهِ لَهِىَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ فَسَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « كَذَبْتَ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْها ». ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ قَالَ « وَيْلٌ لأَصْحَابِ الْمِئِينَ مِنَ الإِبِلِ ». ثَلاَثاً قَالُوا إِلاَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا ».
وَجَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ الْمُزْهِدُ الْمُجْهِدُ ». ثَلاَثاً الْمُزْهِدُ فِى الْعَيْشِ الْمُجْهِدُ فِى الْعِبَادَةِ. مسند أحمد (20897) ( فيه جهالة )
لمز : اللمز العيب والوقوع فى الناس
ويؤيده قوله تعالى : {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (92) سورة آل عمران(1/204)
لَنْ تَنَالُوا يَا أيُّها المُؤْمِنُونَ الخَيْرَ وَالجَنَّةَ حَتَّى تُنْفِقُوا فِي سَبيلِ اللهِ مِنْ أحَبِّ أمْوالِكُم إليَكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيءٍ يُنْفِقُهُ العَبْدُ فِي سَبيلِ مَرْضَاةِ رَبِّه .
قد فقه المسلمون وقتها معنى هذا التوجيه الإلهي ، وحرصوا على أن ينالوا البر - وهو جماع الخير - بالنزول عما يحبون ، وببذل الطيب من المال ، سخية به نفوسهم في انتظار ما هو أكبر وأفضل .
روى مسلم (2362 ) عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَى وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِى كِتَابِهِ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرَحَى وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ ». فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. .(1/205)
وفي صحيح مسلم( 2363 ) عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أُرَى رَبَّنَا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّى قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِى بَرِيحَا لِلَّهِ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اجْعَلْهَا فِى قَرَابَتِكَ ». قَالَ فَجَعَلَهَا فِى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ.
وفي سنن النسائى (3619 ) عَنْ عُمَرَ رضى الله عنه قَالَ جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ مَالاً لَمْ أُصِبْ مِثْلَهُ قَطُّ كَانَ لِى مِائَةُ رَأْسٍ فَاشْتَرَيْتُ بِهَا مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنِّى قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ « فَاحْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ ». (صحيح)
سبل : اجعلها فى سبيل الله
وعلى هذا الدرب سار الكثيرون منهم يلبون توجيه ربهم الذي هداهم إلى البر كله ، يوم هداهم إلى الإسلام . ويتحررون بهذه التلبية من استرقاق المال ، ومن شح النفس ، ومن حب الذات؛ ويصعدون في هذا المرتقى السامق الوضيء أحراراً خفافاً طلقاء . .
- - - - - - - - - - - - - - -
41- قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ(1/206)
عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيماً وَلِسَانَهُ صَادِقاً وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً وَجَعَل أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً فَأَمَّا الأُذُنُ فَقِمَعٌ وَالْعَيْنُ مُقِرَّةٌ بِمَا يُوعِى الْقَلْبُ وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِياً ». مسند أحمد (21916) وفي مجمع الزوائد(17721) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وهو حسن لغيره
أي قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان بالله تعالى ، قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة .
إِنَّمَا أُمِرُوا بِمَا يُصْلِحُ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَبِمَا يُحَقِّقُ لَهُمُ السَّعَادَةَ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ : مِنْ إِخْلاَصٍ للهِ فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ ، وَتَطْهِيرِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ بِهِ ، وَاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ المُنْحَرِفَةِ عَنِ الشَّرْكِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَأَدَائِهَا حَقَّ الأَدَاءِ ، وَدَفْعِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ . . . وَهَذَا هُوَ الدِّينُ الحَقُّ الذِي جَاءَ فِي الكُتُبِ القَيِّمَةِ المُسْتَقِيمَةِ التِي لا عِوَجَ فِيهَا .(1/207)
وجعل قلبه سليما من كل العلل كما قال تعالى على لسان النبي إبراهيم عليه السلام : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) [الشعراء/84-89] }
وفي يَومِ القِيامةِ ، يومَ يُبْعَثُ الخَلائِقُ ، لا يَقِي المَرءَ منْ عذابِ اللهِ مالُهُ ، ولوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الأرْضِ ذًهَباً ، ولا يَنْفَعُهُ بنُوهُ ، ولا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ .
ولا يَنْفَعُهُ في ذَلكَ اليوم إِلاَّ إيمَانُه ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ ، وأَنْ يأْتِيَ اللهَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ ، مُبَرَّإٍ من الشِّرْكِ والدَّنَسِ ، والخَطَايا ، وقَدْ أَخْلَصَ الإِيمانَ للهِ ، وأخْلَصَ العَقِيدَةَ لَهُ ، وآمَنَ إيمَاناً صادقاً أنه لا إِلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأنَّ السَّاعَةَ آتيةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وأنَّ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ .
وصار لسانه لا ينطق إلا بالحق والصدق ، كما قال تعالى : {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (84) سورة الشعراء .
وأَن يَجْعَلَ لهُ ذِكْراً جَميلاً ، يَذْكُرُه بهِ منْ يأتي بعدَهُ ، وَأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً يُقْتَدَى بهِ بِمَا يُوفِّقُهُ إليهِ ربُّهُ مِنْ عَمَلِ الخَيْرِ .
ونفسه مطمئنة لربها راضية عنه وراض عنها قال تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }(1/208)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ التِي اسْتَيْقَنَتِ الحَقَّ فَلا يُخَالِجُهَا شَكٌّ ، وَوَقَفَتْ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ فَلا تُزَعْزِعُهَا الشَّهَواتُ ، فَاطْمَأَنَّتْ وَهَدَأَتْ .
ارْجِعِي إِلَى مَحَل الكَرَامَةِ بِجِوَارِ رَبِّكِ رَاضِيَةً عَمَّا عَمِلْتِ فِي الدُّنْيَا ، مَرْضِيّاً عَنْكِ إِذ لَمْ تَكُونِي سَاخِطَةً لاَ فِي الغِنَى وَلاَ فِي الفَقْرِ .
فَادْخُلِي فِي زُمْرَةِ عِبَادِي المُكَرَّمِينَ ، وَكُونِي فِي جُمْلَتِهِمْ . وَادْخُلِي جَنَّتِي ، وَتَمَتَّعِي فِيهَا بِمَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ ولاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .
وَصارت خَلِيقَتُهُ وسمته مُسْتَقِيمَةً على الحقِّ ، كما قال تعالى : {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (112) سورة هود
فَالزَمِ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ الذِي لاَ عِوَجَ فِيهِ ، وَاثْبَتْ عَلَيهِ . وَكَذلِكَ فَلْيَسْتَقِمْ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ ، وَآمَنَ مَعَكَ ، وَلاَ تَنْحَرِفُوا عَمَّا رُسِمَ لَكُمْ ، وَلاَ تَتَجَاوَزُوا حُدُودَ الاعْتِدَالِ ، فَتُكَلِّفُوا أَنْفُسَكُمْ مَا لاَ تُطِيقُونَ ، فَالإِفْرَاطُ فِيهِ كَالتَّفْرِيطِ ، كِلاَهُمَا زَيْغٌ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ .
وَجَعَل أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً للخير دون الشرِّ ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) [الزمر/17، 18] }(1/209)
والذينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الأَصْنَامِ ، واتِّبَاعَ الشَّيَاطِينِ ، وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُعْرِضِينَ عَمّا سِوَاهُ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بالثَّوَابِ العَظِيمِ حِينَ المَوْتِ ، وَحِينَ يَلْقَونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ .
وَهَؤُلاَءِ الذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ، وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ ، وَسَمِعُوا القَوْلَ فَاتَّبَعُوا أَحْسَنَهُ وَأَوْلاَهُ بالقَبُولِ . . هَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بالنَّعِيمِ المُقِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، وَأولَئِكَ هُمُ الذِينَ وَفَّقَهُمُ اللهَ تَعَالَى لِلرَّشَادِ وَالصَّوَابِ ، وَأولَئِكَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ والأَفْهَامِ السَّلِيمَةِ .
وَعَيْنُهُ نَاظِرَةٌ لملكوت السموات والأرض ، قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) [آل عمران/190-194]}(1/210)
فَأَمَّا الأُذُنُ فَقِمَعٌ ،لا تسمعُ إلا ما يرضي الله تعالى . قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) [الحاقة/11-13] }
إِنَّا لَمَّا طَغَى المَاءُ ، وَتَزَايَدَ ارْتِفَاعُهُ ، فِي عَهْدِ نُوحٍ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، حَمَلْنَا نُوحاً وَمَنْ مَعَهُ مِنْ آبَائِكُمُ المُؤْمِنِينَ الأَوَّلِينَ فِي السَّفِينَةِ ، لِنُنَجِّيَهُمْ مِنَ الغَرَقِ الذِي قَضَيْنَا بِأَنْ يَكُونَ عِقَاباً لِلْمُكَذِّبِينَ الكَافِرِينَ . لِنَجْعَلَ إِغْرَاقَ الكَافِرِينَ ، وَإِنْجَاءَ المُؤْمِنِينَ بِالسَّفِينَةِ ، عِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ ، وَعِظَةً لِكُلِّ مَنْ لَهُ أُذُنٌ تَسْمَعُ وَتَعِي مَا تَسْمَعُ .
وَالْعَيْنُ مُقِرَّةٌ بِمَا يُوعِى الْقَلْبُ من خير وطمأنينة .
وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِياً للخير دون الشرِّ ، قال تعالى : {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11) سورة التغابن(1/211)
مَا أَصَابَ أَحَداً شَيءٌ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا ، إِلاَّ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، فَالمَرْءُ يَعْمَلُ وَيَتَّخِذُ مِنَ الأَسْبَابِ مَا هُوَ في طَوقِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ ، لَجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَلَكِنَّ النَّتَائِجَ بِيَدِ اللهِ وَوفْقَ قَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، فَإِذَا مَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلَيْهِ أَلاَّ يَغْتَمَّ وَلاَ يَحْزَنَ ، وَعَلَيهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّما كَانَ ذَلِكَ بإِرَادَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ . وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ وَآمَنَ أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِقَضَاءِ اللهِ ، وَقَدَرِهِ ، فَصَبَرَ واحْتَسَبَ ، عَوَّضَهُ اللهُ عَنْ إِصَابَتِهِ فِي الدُّنْيَا ، هُدًى فِي قَلْبِهِ ، وَيَقِينا صَادِقاً بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالأَشْيَاءِ كُلِّهَا . فَالمُؤْمِنُ عَلَيهِ وَاجبَانِ :
- السَّعْيُ وَبَذْلُ الجُهْدِ واتِّخَاذُ الأَسْبَابِ لِجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً .
- ثُمَّ التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ اليَقِينَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ هُوَ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلاَ يَغْتَمُّ وَلاَ يَحْزَنُ لِمَا يَقَعُ .
- - - - - - - - - - - - - - -
42- أفلح من رُزقَ لبًّا(1/212)
عَنْ رَجُلٍ مِنْ بني قُشَيْرٍ يُقَالُ لَهُ قُرَّةُ بن هُبَيْرَةَ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَنَا أَرْبَابٌ وَرَبَّاتٌ نَعْبُدُهُنَّ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَدَعَوْنَاهُنَّ فَلَمْ يُجِبْنَ، وَسَأَلْنَاهُنَّ فَلَمْ يُعْطِينَ، فَجِئْنَاكَ فَهَدَانَا اللَّهُ بِكَ، فَنَحْنُ نَعْبُدُ اللَّهَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا"
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِي ثَوْبَيْنِ مِنْ ثِيَابِكَ قَدْ لَبِسْتَهُمَا فَكَسَاهُ، فَلَمَّا كَانَ بِالْمَوْقِفِ فِي عَرَفَاتٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"أَعِدْ عَلِيَّ مَقَالَتَكَ"، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا". المعجم الكبير للطبراني (15414 و15415) حسن لغيره
(قد أفلح من رزق لباً) أي عقلاً خالياً من الشوائب سمي به لأنه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء وقيل هو ما زكى من العقل وكل لب عقل ولا عكس ، وإنما أفلح من رزقه لأن العقل يدرك به المعاني ويمنع عن القبائح وهو نور اللّه في القلب وأي فلاح أعظم من امتلاء القلب بنور اليقين قال الكشاف: والفلاح الظفر بالمراد وقيل البقاء في الخير وأفلح دخل في الفلاح كأبشر دخل في البشارة.
قال تعالى : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) [البقرة/269]
فصاحب اللب - وهو العقل - هو الذي يتذكر فلا ينسى , ويتنبه فلا يغفل , ويعتبر فلا يلج في الضلال . . وهذه وظيفة العقل . . وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله ; وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا .(1/213)
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده , فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه . هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي:
رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة . .
وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى:أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها , بل يعينه عليها:(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) . . ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيهالحكمة , وتمنحه ذلك الخير الكثير .
وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء , والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) . (يؤتي الحكمة من يشاء . . .) . .
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما: طريق الله . وطريق الشيطان . أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان . ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده . . ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق . . المنهج الذي شرعه الله . . وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان .
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد . كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب . ليست هنالك شبهة ولا غشاوة . . الله . أو الشيطان . منهج الله أو منهج الشيطان . طريق الله أو طريق الشيطان . . ولمن شاء أن يختار.(1/214)
وقال تعالى : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد/19-25]
إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا , إنما المقابل هو الأعمى! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق . وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف . فالعمى وحده هو الذي ينشى ء الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى . والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان:مبصرون فهم يعلمون , وعمي فهم لا يعلمون ! والعمى عمى البصيرة , وانطماس المدارك , واستغلال القلوب , وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح , وانفصالها عن مصدر الإشعاع . .
إنما يتذكر أولو الألباب . .
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر , وتنبه إلى دلائله فتتفكر .
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء:
(الذين يوفون بعهد الله , ولا ينقضون الميثاق) . .(1/215)
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد , وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق . والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان ; والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان .
وعهدالإيمان قديم وجديد . قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ; المدركة إدراكا مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود , ووحدة الخالق صاحب الإرادة , وأنه وحده المعبود . وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير . . ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه , ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه , مع العمل الصالح والسلوك القويم , والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم . .
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر . سواء مع الرسول أو مع الناس . ذوي قرابة أو أجانب . أفرادا أم جماعات . فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود , لأن رعايتها فريضة ; والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس , لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق .
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله . يقررها في كلمات .
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب) . .(1/216)
هكذا في إجمال . فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه . أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة , والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء . لهذا ترك الأمر مجملا , ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل , لأن هذا التفصيل يطول , وهو غير مقصود , إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي , والطاعة المطلقة التي لا تتفلت , والصلة المطلقة التي لا تنقطع . . ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
(ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب) . .
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء قي يوم لقائه الرهيب . وهم أولوا الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب .
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) . .
والصبر ألوان . وللصبر مقتضيات . صبر على تكاليف الميثاق . من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد . . . الخ وصبر على النعماء والبأساء . وقل من يصبرعلى النعمة فلا يبطر ولا يكفر . وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور . . وصبر وصبر وصبر . . كله ابتغاء وجه ربهم , لا تحرجا من أن يقول الناس:جذعوا . ولا تجملا ليقول الناس:صبروا . ولا رجاء في نفع من وراء الصبر . ولا دفعا لضر يأتي به الجزع . ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله , والصبر على نعمته وبلواه . صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع . .
وأقاموا الصلاة . .
وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه , ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء , ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله , ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب , الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه .
(وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) . .(1/217)
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل , وفي الوفاء بتكاليف الميثاق . ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله , التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة . والتي تزكي نفس معطيها من البخل , وتزكي نفس آخذها من الغل ; وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله . والإنفاق سرا وعلانية . السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة , وتتحرج النفس من الإعلان . والعلانية حيث تطلب الأسوة , وتنفذ الشريعة , ويطاع القانون . ولكل موضعه في الحياة .
ويدرأون بالحسنة السيئة . .
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله . ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس , وتوجهها إلى الخير ; وتطفيء جذوة الشر , وترد نزغ الشيطان , ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية . فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة . ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع , ويحتاج الشر إلى الدفع , فلا مكان لمقابلتها بالحسنة , لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين . فأما في دين الله فلا . . إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم . والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم . والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف , واستشارة الألباب , والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب .
(أولئك لهم عقبى الدار:جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ; والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم , فنعم عقبى الدار) . .
(أولئك) في مقامهم العالي لهم عقبى الدار:جنات عدن للإقامة والقرار .(1/218)
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم . ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم , وتلاقي أحبابهم , وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم , في حركة رائجة غادية:
(يدخلون عليهم من كل باب) . .
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا:
(سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . .
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام .
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته ، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل حركة؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة؛ ويقيمون الصلاة؛ وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان . .(1/219)
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة؛ التي تسير على هدى الله وحده؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . . إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء ، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وحده؛ والتي تتبع من ثم مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . . إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! . . إنها كلها من مناهج العُمْي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العُمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أرباباً من دون الله ، تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله؛ وتعبدهم لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله ..
وآية هذا الذي نقوله استمداداً من النص القرآني هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . . سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية! . . وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية! إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . . لأنها كلها سواء من صنع العُمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده؛ ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .(1/220)
إن المسلم يرفض بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق كل منهج للحياة غير منهج الله؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي؛ وكل وضع كذلك سياسي؛ غير المنهج الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله؛ فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعُمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العُمي! . .
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العُمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط؛ ولم ترتفع « إنسانيتها » قط ، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم
.
- - - - - - - - - - - - -
43- الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي للفلاح في الدارين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ خُرَيْمُ بن فَاتِكٍ لِعُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا أُخْبِرُكَ كَيْفَ كَانَ بُدُوُّ إِسْلامِي ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ فِي طَلَبِ نَعَمٍ لِي إِذَا أَنَا مِنْهَا عَلَى أَثَرٍ ، إِذْ أَجَنَّنِي اللَّيْلُ بِأَبْرَقِ الْعَزَّافِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ ، فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ :(1/221)
وَيْحَكْ عُذْ بِاللَّهِ ذِي الْجَلالِ وَالْمَجْدِ وَالنَّعْمَاءِ وَالأَفْضَالِ
وَاقْتَرِ آيَاتٍ مِنَ الأَنْفَالِ وَوَحِّدِ اللَّهَ وَلا تُبَالِ ،
قَالَ : فَذُعِرْتُ ذُعْرًا شَدِيدًا ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي ، قُلْتُ : يَا أَيُّهَا الْهَاتِفُ مَا تَقُولُ ؟ أَرَشَدٌ عِنْدَكَ أَمْ تَضْلِيلُ بَيِّنْ لَنَا هُدِيتَ مَا الْحَوِيلُ ، قَالَ :
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ذِي الْخَيْرَاتِ بِيَثْرِبَ يَدْعُو إِلَى النَّجَاةِ
يَأْمُرُ بِالصَّوْمِ وَبِالصَّلاةِ ويَنْزِعُ النَّاسَ عَنِ الْهَنَاتِ
قَالَ : فَاتَّبَعْتُ رَاحِلَتِي ، فَقُلْتُ :
أَرْشِدْنِي رُشْدًا هُدِيتَ لا جُعْتَ وَلا عُرَيتَ
بَرِحْتَ سَعِيدًا مَا بَقِيَتَ وَلا تُؤْثِرْنَ عَلَى الْخَيْرِ الَّذِي أُتِيتَ
قَالَ : فَاتَّبَعَنِي وَهُوَ يَقُولُ :
صَاحَبَكَ اللَّهُ وَسَلَّمَ نَفْسَكَ وَبَلَغَ الأَهْلَ وَأَدَّى رِحْلَكَا
آمِنْ بِهِ أَفْلَحَ رَبِّي حَقَّكَا وانْصُرْهُ أَعَزَّ رَبِّي نَصْرَكَا(1/222)
قَالَ : فَدَخَلْتُ الْمَدِينَةَ ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَاطَّلَعْتُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَقَالَ : ادْخُلْ رَحِمَكَ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا إِسْلامُكَ ، قُلْتُ : لا أُحْسِنُ الطُّهُورَ فَعَلَّمَنِي ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ ، وَهُوَ يَقُولُ : مَا مِنْ مُسْلِمٍ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى صَلاةً يَحْفَظُهَا ويَعْقِلُهَا إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ لِي عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، لَتَأْتِيَنَّ عَلَى هَذَا الْبَيِّنَةَ أَوْ لأُنَكِّلَنَّ بِكَ ، فَشَهِدَ لِي شَيْخُ قُرَيْشٍ ، عُثْمَانُ بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَأَجَازَ شَهَادَتَهُ ) . المعجم الكبير للطبراني (4055) حسن لغيره(1/223)
قلت : ويؤيده قوله تعالى : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف/155-157] }(1/224)
هذه الرحمة سأكتبها للذين يخافون الله ويجتنبون معاصيه، ويتبعون الرسول النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدون صفته وأمره مكتوبَيْن عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالتوحيد والطاعة وكل ما عرف حُسْنه، وينهاهم عن الشرك والمعصية وكل ما عرف قُبْحه، ويُحِلُّ لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والمناكح، ويُحرِّم عليهم الخبائث منها كلحم الخنزير، وما كانوا يستحلُّونه من المطاعم والمشارب التي حرَّمها الله، ويذهب عنهم ما كُلِّفوه من الأمور الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب، وإحراق الغنائم، والقصاص حتمًا من القاتل عمدًا كان القتل أم خطأ، فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم وأقروا بنبوته، ووقروه وعظَّموه ونصروه، واتبعوا القرآن المنزل عليه، وعملوا بسنته، أولئك هم الفائزون بما وعد الله به عباده المؤمنين.
- - - - - - - - - - - - - -
44- كثرة قراءة القرآن
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ:"مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ بِخَمْسِ آيَاتٍ لَمْ يَكْتُبْ فِي لَيْلَتِهِ أَبَدًا مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانتِينَ، وَمَنْ قَرَأَ ثَلاثَ مِائَةٍ كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ، وَمَنْ قَرَأَ سَبْعَ مِائَةٍ أَفْلَحَ". المعجم الكبير للطبراني (8640 ) صحيح
وعَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ».أخرجه البخاري (4639 )(1/225)
وفي سنن الترمذى (3164 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَجِىءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وبرقم(3162 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وبرقم(3153 ) عَنِ الْحَارِثِ قَالَ مَرَرْتُ فِى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِى الأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِىٍّ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِى الأَحَادِيثِ. قَالَ وَقَدْ فَعَلُوهَا قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ أَمَا إِنِّى قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « أَلاَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ».(1/226)
فَقُلْتُ مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِى غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِى لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلاَ تَنْقَضِى عَجَائِبُهُ هُوَ الَّذِى لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ) مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ». ( حسن لغيره )
وفي مسند أحمد ( 23678) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَجِىءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لِصَاحِبِهِ أَنَا الَّذِى أَسْهَرْتُ لَيْلَكَ وَأَظْمَأْتُ هَوَاجِرَكَ ». ( صحيح)
الهواجر : جمع الهاجرة وهو وقت شدة الحر(1/227)
وفي مصنف ابن أبي شيبة( 30037) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ , سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلاً فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ فَخَالَفَ أَمْرَهُ فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا لَهُ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ حَمَّلْته إيَّايَ فَشَرُّ حَامِلٍ تَعَدَّى حُدُودِي وَضَيَّعَ فَرَائِضِي , وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي وَتَرَكَ طَاعَتِي , فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ : فَشَأْنُك بِهِ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ , فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يَكُبَّهُ عَلَى مَنْخِرِهِ فِي النَّارِ , وَيُؤْتَى بِرَجُلٍ صَالِحٍ قَدْ كَانَ حَمَلَهُ وَحَفِظَ أَمْرَهُ فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا لَهُ دُونَهُ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ حَمَّلْته إيَّايَ فَخَيْرُ حَامِلٍ , حَفِظَ حُدُودِي وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتِي وَاتَّبَعَ طَاعَتِي , فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ لَهُ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ : شَأْنُك بِهِ , فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يُلْبِسَهُ حُلَّةَ الآِسْتَبْرَقِ وَيَعْقِدَ عَلَيْهِ تَاجَ الْمُلْكِ وَيَسْقِيَهُ كَأْسَ الْخَمْرِ." ( صحيح)(1/228)
قَالَ الطِّيبِيُّ : أَيْ خَيْرُ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ ، مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ اِنْتَهَى . قَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ : وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَمَلَ خَارِجٌ عَنْهُمَا لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُوَرِّثًا لِلْعَمَلِ لَيْسَ عِلْمًا فِي الشَّرِيعَةِ إِذْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ اِنْتَهَى . قَالَ الْحَافِظُ : فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِئُ أَفْضَلَ مِنْ الْفَقِيهِ ، قُلْنَا لَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَانُوا فُقَهَاءَ النُّفُوسِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ اللِّسَانِ ، فَكَانُوا يَدْرُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ بِالسَّلِيقَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْرِيهَا مَنْ بَعْدَهُمْ بِالِاكْتِسَابِ ، فَكَانَ الْفِقْهُ لَهُمْ سَجِيَّةً ، فَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ شَأْنِهِمْ شَارَكَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا مَنْ كَانَ قَارِئًا أَوْ مُقْرِئًا مَحْضًا لَا يَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ مَعَانِي مَا يَقْرَؤُهُ أَوْ يُقْرِئُهُ ، فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِئُ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ عَنَاءً فِي الْإِسْلَامِ بِالْمُجَاهِدَةِ وَالرِّبَاطِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَثَلًا ، قُلْنَا حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ يَدُورُ عَلَى النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي ، فَمَنْ كَانَ حُصُولُهُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ كَانَ أَفْضَلَ ، فَلَعَلَّ مِنْ مُضْمَرَةٌ فِي الْخَبَرِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْخَيْرِيَّةُ وَإِنْ أُطْلِقَتْ لَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ ، كَانَ اللَّائِقُ بِحَالِهِمْ ذَلِكَ ، أَوْ الْمُرَادُ خَيْرُ الْمُتَعَلِّمِينَ مَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ لَا مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى نَفْسِهِ . اِنْتَهَى . تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 226)(1/229)
- - - - - - - - - - - - -
45- أفلح من استمع للقرآن وعمل به
عَنْ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بن حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، فَلْيَقُمْ مَعِي رَجُلٌ مِنْكُمْ، وَلا يَقُمْ رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقُمْتُ مَعَهُ، وَأَخَذْتُ إِدَاوَةً فِيهَا نَبِيذٌ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا بَرَزَ خَطَّ عَلَيَّ خَطًّا، وَقَالَ لِي:لا تَخْرُجْ مِنْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ لَمْ تَرَنِي وَلَمْ أَرَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَتَوَارَى عَنِّي حَتَّى لَمْ أَرَهُ، فَلَمَّا سَطَحَ الْفَجْرُ أَقْبَلَ، فَقَالَ لِي:أَرَاكَ قَائِمًا؟فَقُلْتُ: مَا قَعَدْتُ، فَقَالَ:مَا عَلَيْكَ لَوْ فَعَلْتَ؟قُلْتُ: خَشِيتُ أَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ، فَقَالَ:أَمَا إِنَّكَ لَوْ خَرَجْتَ مِنْهُ لَمْ تَرَنِي وَلَمْ أَرَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَلْ مَعَكَ وَضُوءٌ؟قُلْتُ: لا، فَقَالَ:مَا هَذِهِ الإِدَاوَةُ؟قُلْتُ: فِيهَا نَبِيذٌ، قَالَ:تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ، فَتَوَضَّأَ وَأَقَامَ الصَّلاةَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلانِ مِنَ الْجِنِّ، فَسَأَلاهُ الْمَتَاعَ، فَقَالَ:أَلَمْ آمُرْ لَكُمَا وَلِقَوْمِكُمَا بِمَا يُصْلِحُكُمْ؟قَالا: بَلَى، وَلَكِنْ أَحْبَبْنَا أَنْ يَشْهَدَ بَعْضُنَا مَعَكَ الصَّلاةَ، قَالَ:مِمَّنْ أَنْتُمَا؟قَالا: مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ، فَقَالَ:أَفْلَحَ هَذَانِ، وَأَفْلَحَ قَوْمُهُمَا، وَأَمَرَ لَهُمَا بِالرَّوْثِ وَالْعِظَامِ طَعَامًا وَلَحْمًا، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ .(1/230)
المعجم الكبير للطبراني ( 9819 ) وفيه ضعف
قال تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)[الجن/1-17] }
(إنا سمعنا قرآنا عجبا) . .(1/231)
فأول ما بدههم منه أنه(عجب) غير مألوف , وأنه يثير الدهش في القلوب , وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح , ومشاعر مرهفة , وذوق ذواق . . عجب ! ذو سلطان متسلط , وذو جاذبية غلابة , وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب . . عجب ! فعلا . يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون !
(يهدي إلى الرشد) . .
وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن , التي أحسها النفر من الجن , حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم . . وكلمة الرشد في ذاتها ذات دلاله واسعة المدى . فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب . ولكن كلمة الرشد تلقي ظلا آخر وراء هذا كله . ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب . ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات , فهو ينشئ حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب .
والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية , وإدراك ومعرفة , واتصال بمصدر النور والهدى , واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى . كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها . هذا المنهج الذي لم تبلغ البشرية في تاريخها كله , في ظل حضارة من الحضارات , أو نظام من الأنظمة , ما بلغته في ظله أفرادا وجماعات , قلوبا ومجتمعات , أخلاقا فردية ومعاملات اجتماعية . . على السواء .
فآمنا به . .(1/232)
وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن , وإدراك طبيعته , والتأثر بحقيقته . . يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون . وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجن , فيقولون:كاهن أو شاعر أو مجنون . . وكلها صفات للجن فيها تأثير . وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن مسحورين متأثرين أشد التأثر , منفعلين أشد الانفعال , لا يملكون أنفسهم من الهزة التي ترج كيانهم رجا . . ثم يعرفون الحق , فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان: فآمنا به غير منكرين لما مس نفوسهم منه ولا معاندين , كما كان المشركون يفعلون !
(ولن نشرك بربنا أحدا) . .
فهو الإيمان الخالص الصريح الصحيح . غير مشوب بشرك , ولا ملتبس بوهم , ولا ممتزج بخرافة , الإيمان الذي ينبعث من إدراك حقيقة القرآن , والحقيقة التي يدعو إليها القرآن , حقيقة التوحيد لله بلا شريك .
(وأنه تعالى جد ربنا , ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) . .
والجد:الحظ والنصيب . وهو القدر والمقام . وهو العظمة والسلطان . . وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام . والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله - سبحانه - وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة - أي زوجة - وولدا بنين أو بنات !
وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله , جاءته من صهر مع الجن ! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه , واستنكاف من هذا التصور أن يكون ! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون ! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين ! وكل تصور يشبه هذه التصورات , ممن زعموا أن لله ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير !
(وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا , وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) .(1/233)
وهذه مراجعة من الجن لما كانوا يسمعون من سفهائهم من الشرك بالله , وادعاء الصاحبة والولد والشريك , بعدما تبين لهم من سماع القرآن أنه لم يكن حقا ولا صوابا , وأن قائليه إذن سفهاء فيهم خرق وجهل , وهم يعللون تصديقهم لهؤلاء السفهاء من قبل بأنهم كانوا لا يتصورون أن أحدا يمكن أن يكذب على الله من الإنس أو الجن . فهم يستعظمون ويستهولون أن يجرؤ أحد على الكذب على الله . فلما قال لهم سفهاؤهم:إن لله صاحبة وولدا , وإن له شريكا صدقوهم , لأنهم لم يتصوروا أنهم يكذبون على الله أبدا . . وهذا الشعور من هؤلاء النفر بنكارة الكذب على الله , هو الذي أهلهم للإيمان . فهو دلالة على أن قلوبهم نظيفة مستقيمة ; إنما جاءها الضلال من الغرارة والبراءة ! فلما مسها الحق انتفضت , وأدركت , وتذوقت وعرفت . وكان منهم هذا الهتاف المدوي: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به , ولن نشرك بربنا أحدا . وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا.
وهذه الإنتفاضة من مس الحق , جديرة بأن تنبه قلوبا كثيرة مخدوعة في كبراء قريش , وزعمهم أن لله شركاء أو صاحبة وولدا . وأن تثير في هذه القلوب الحذر واليقظة , والبحث عن الحقيقة فيما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم وما يقوله كبراء قريش , وأن تزلزل الثقة العمياء في مقالات السفهاء من الكبراء ! وقد كان هذا كله مقصودا بذكر هذه الحقيقة . وكان جولة من المعركة الطويلة بين القرآن وبين قريش العصية المعاندة ; وحلقة من حلقات العلاج البطيء لعقابيل الجاهلية وتصوراتها في تلك القلوب . التي كان الكثير منها غرا بريئا , ولكنه مضلل مقود بالوهم والخرافة وأضاليل المضللين من القادة الجاهليين !
(وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) . .(1/234)
وهذه إشارة من الجن إلى ما كان متعارفا في الجاهلية - وما يزال متعارفا إلى اليوم في بيئات كثيرة - من أن للجن سلطانا على الأرض وعلى الناس , وأن لهم قدرة على النفع والضر , وأنهم محكمون في مناطق من الأرض أو البحر أو الجو . . إلى آخر هذه التصورات . مما كان يقتضي القوم إذا باتوا في فلاة أو مكان موحش , أن يستعيذوا بسيد الوادي من سفهاء قومه , ثم يبيتون بعد ذلك آمنين !
والشيطان مسلط على قلوب بني آدم - إلا من اعتصم بالله فهو في نجوة منه - وأما من يركن إليه فهو لا ينفعه . فهو عدو له . إنما يرهقه ويؤذيه . . وهؤلاء النفر من الجن يحكون ما كان يحدث:(وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) . . ولعل هذا الرهق هو الضلال والقلق والحيرة التي تنوش قلوب من يركنون إلى عدوهم , ولا يعتصمون بالله منه ويستعيذون ! كما هم مأمورون منذ أبيهم آدم وما كان بينه وبين إبليس من العداء القديم !
والقلب البشري حين يلجأ إلى غير الله , طمعا في نفع , أو دفعا لضر , لا يناله إلا القلق والحيرة , وقلة الاستقرار والطمأنينة . . . وهذا هو الرهق في أسوأ صوره . . الرهق الذي لا يشعر معه القلب بأمن ولا راحة !
إن كل شيء - سوى الله - وكل أحد , متقلب غير ثابت , ذاهب غير دائم , فإذا تعلق به قلب بقي يتأرجح ويتقلب ويتوقع ويتوجس ; وعاد يغير اتجاهه كلما ذهب هذا الذي عقد به رجاءه . والله وحده هو الباقي الذي لا يزول . الحي الذي لا يموت . الدائم الذي لا يتغير . فمن اتجه إليه اتجه إلى المستقر الثابت الذي لا يزول ولا يحول: (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) . .(1/235)
يتحدثون إلى قومهم , عن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن , يقولون:إنهم كانوا يظنون - كما أنكم تظنون - أن الله لن يبعث رسولا . ولكن ها هو ذا قد بعث رسولا , بهذا القرآن الذي يهدي إلى الرشد . . أو أنهم ظنوا أنه لن يكون هناك بعث ولا حساب - كما ظننتم - فلم يعملوا للآخرة شيئا , وكذبوا ما وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أمرها , لأنهم كانوا لا يعتقدون من قبل فيها .
وكلا الظنين لا ينطبق على الحقيقة , وفيه جهل وقلة إدراك لحكمة الله في خلق البشر . فقد خلقهم باستعداد مزدوج للخير والشر والهدى والضلال [ كما نعرف من هذه السورة أن للجن هذه الطبيعة المزدوجة كذلك إلا من تمحض منهم للشر كإبليس , وطرد من رحمة الله بمعصيته الفاجرة , وانتهى إلى الشر الخالص بلا ازدواج ] ومن ثم اقتضت رحمة الله أن يعين أولئك البشر بالرسل , يستجيشون في نفوسهم عنصر الخير , ويستنقذون ما في فطرتهم من استعداد للهدى . فلا مجال للاعتقاد بأنه لن يبعث إليهم أحدا .
هذا إذا كان المعنى هو بعث الرسل . فأما بعث الآخرة فهو ضرورة كذلك لهذه النشأة التي لا تستكمل حسابها في الحياة الدنيا , لحكمة أرادها الله , وتتعلق بتنسيق للوجود يعلمه ولا نعلمه ; فجعل البعث في الآخرة لتستوفي الخلائق حسابها , وتنتهي إلى ما تؤهلها له سيرتها الأولى في الحياة الدنيا . فلا مجال للظن بأنه لن يبعث أحدا من الناس . فهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله . سبحانه ووتعالى . .
وهؤلاء النفر من الجن يصححون لقومهم ظنهم , والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم .
- - - - - - - - - - - - - -
46- أفلح وجهُ أبي قتادة رضي الله عنه(1/236)
عَنْ أَبِيهِ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ ، أَنَّهُ حَرَسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ بَدْرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ احْفَظْ أَبَا قَتَادَةَ كَمَا حَفِظَ نَبِيَّكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ
و عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، قَالَ :أَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَكِبْتُ ، فَأَدْرَكْتُهُمْ ، وَقَتَلْتُ مَسْعَدَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآنِي أَفْلَحَ الْوَجْهِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ثَلاثًا وَنَفَّلَنِي سَلَبَ مَسْعَدَةَ " المعجم الصغير للطبراني(1194و1195) وفيه جهالة .
واللقاح إبل الصدقة
- - - - - - - - - - - - - -
47- أَفْلَحَ مَنْ حُفِظَ مِنَ الْهَوَى وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِى خُطْبَتِهِ: أَفْلَحَ مِنْكُمْ مَنْ حُفِظَ مِنَ الْهَوَى وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ وَوُفِّقَ إِلَى الصِّدْقِ فِى الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ يَجُرُّهُ إِلَى الْخَيْرِ مَنْ يَكْذِبْ يَفْجُرْ ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَعْدَهُ. السنن الكبرى للبيهقي (6015) (حسن)(1/237)
وقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِى خُطْبَتِهِ : أَفْلَحَ مِنْكُمْ مَنْ حُفِظَ مِنَ الْهَوَى وَالطَّمَعِ وَالْغَضَبِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الصِدْقِ مِنَ الْحَدِيثِ خَيْرٌ ، مَنْ يَكْذِبْ يَفْجُرْ ، وَمَنْ يَفْجُرْ يَهْلَكْ إِيَّاكُمْ وَالْفُجُورَ مَا فُجُورُ امْرِئٍ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُ وَهُوَ الْيَوْمَ حَىٌّ وَغَدًا مَيِّتٌ اعْمَلُوا عَمَلَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ ، وَاجْتَنِبُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى. السنن الكبرى للبيهقي (6014) ووصله في شعب الإيمان للبيهقي (10213) حسن
- - - - - - - - - - - - -
48- أفلح عبدُ الله المجاهدُ
عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أفلح عبد الله المجاهد ذو الطمرين ، لو أقسم على الله لأبره ، وخاب صاحب القطيفة ، ومن أصاب نهبة ذات شرف يرفع المؤمنون إليه أبصارهم وضعه الله يوم القيامة » مسند الشاميين للطبراني( 984 ) حسن
أبر الله قَسَمَه : صدقه وأجابه وأمضاه
القطيفة : كساء أو فراش له أهداب
النهبة : كل ما يؤخذ بلا حق قهرا وظلما كالمال المنهوب من الغنيمة وغيرها
- - - - - - - - - - - - - - - - -
البابُ الثاني
صفاتُ الذين لا يفلحون
1-الظالمون
قال تعالى : { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) }[الأنعام/21، 22](1/238)
إنَّ أَهْلَ الكِتَابِ يَعرِفُونَ أنَّ مُحَمَّداً خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالرُّسُلِ ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبنَاءَهُمْ ، بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الأَخْبَارِ وَالأَنْبَاءِ ، عَنِ الأَنْبِيَاءِ المُتَقَدِّمِينَ ، فَقَدْ بَشَّرَ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ وَنَعْتِهِ ، وَصِفَتِهِ وَمَكَانِ هِجْرَتِهِ ، وَصِفَةِ أُمَّتِهِ . . . وَالذِينَ أَنْكَرُوا نُبوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ مِنْ عُلَمَاءِ اليَهُودِ ، عِلَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ كَعِلَّةِ مَنْ أَنْكَرُوهَا مِنْ زُعَمَاءِ المُشْرِكِينَ ، وَهِيَ الخَوْفَ مِنْ فُقْدَانِ الزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ ، لِذَلِكَ فَإنَّ هَؤُلاءِ يُعَدُّونَ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لإيثَارِهِمِ الجَاهَ وَالرِّيَاسَةَ عَلَى الإيمَانِ بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ ، الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً فِي كُتُبِهِمْ .
لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً ، كَمَنْ زَعَمَ أنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ شَرِيكاً . . . أَوْ زَادَ فِي دِينِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، أَوْ كَذَّبِ بِآيَاتِهِ المُنَزَّلَةِ كَالقُرْآنِ ، أَوْ آيَاتِهِ الكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ، أَوْ التِي يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ الكِرَامَ . . .
وَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً ، أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ يَكُونُ أَظْلَمَ الظَّالِمِينَ ، وَلاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يَوْمَ الحِسَابِ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي النَّارِ ، وَلا يَفُوزُونَ بِنَعِيمِ اللهِ فِي الجَنَّةِ .(1/239)
إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرناً ينطق بحقيقة واحدة . . هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } . . ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة . . إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع؛ بلغة من اللغات الأجنبية . . وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه ، ومصادر قوته ، ووسائل مقاومته ، وطرق إفساد توجيهه! ومعظمهم - بطبيعة الحال - لا يفصح عن نيته هذه؛ فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة؛ وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين - الممثل في الاستعمار - إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية؛ وأن استمرار الهجوم على الإسلام - ولو في الصورة الفكرية - سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة! لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث . . يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين ، حتى ينوم المشاعر المتوفزة ، ويخدر الحماسة المتحفزة ، وينال ثقة القارىء واطمئنانه . . ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة . . هذا الدين نعم عظيم . . ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة « الإنسانية » الحديثة! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع ، وفي أشكال الحكم ، وفي قيم الأخلاق! وينبغي - في النهاية - أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب ، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة « الإنسانية » الحديثة! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب . . وبذلك يظل ديناً عظيماً . . !!!(1/240)
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين - وهي ظاهرياً تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر - يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب؛ لينبههم إلى خطورة هذا الدين ، وإلى أسرار قوته؛ ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف ، ليسددوا ضرباتهم على الهدف .
وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم!
إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه؛ جديدة دائماً؛ كلما عاشوا في ظلاله؛ وهم يخوضون معركة العقيدة؛ ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ؛ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر . ويرون بنور الله . الذي يكشف الحق ، وينير الطريق . .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح الظالمون . ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين . انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون } . .(1/241)
هذا استطراد في مواجهة المشركين بحقيقة ما يزاولونه ، ووصف موقفهم وعملهم في تقدير الله سبحانه . . مواجهة تبدأ باستفهام تقريري لظلمهم بافتراء الكذب على الله؛ وذلك فيما كانوا يدعونه من أنهم على دينه الذي جاء به إبراهيم عليه السلام؛ ومن زعمهم أن ما يحلونه وما يحرمونه من الأنعام والمطاعم والشعائر - كالذي سيجيء في آخر السورة مشفوعاً بقوله تعالى : { بزعمهم } - هو من أمر الله . . وليس من أمره . وذلك كالذي يزعمه بعض من يدعون اليوم أنهم على دين الله الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقولون عن أنفسهم إنهم « مسلمون »! وهو من الكذب المفترى على الله . ذلك أنهم يصدرون أحكاماً وينشئون أوضاعاً ، ويبتدعون قيماً من عند أنفسهم يغتصبون فيها سلطان الله ويدعونه لأنفسهم ، ويزعمون أنها هي دين الله؛ ويزعم لهم بعض من باعوا دينهم ليشتروا به مثوى في دركات الجحيم ، أنه هو دين الله! . . وباستنكار تكذيبهم كذلك بآيات الله ، التي جاءهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فردوها وعارضوها وجحدوها . وقالوا : إنها ليست من عند الله . بينما هم يزعمون أن ما يزاولونه في جاهليتهم هو الذي من عند الله! وذلك كالذي يحدث من أهل الجاهلية اليوم . . حذوك النعل بالنعل . .
يواجههم باستنكار هذا كله؛ ووصفه بأنه أظلم الظلم :{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته! } . .
والظلم هنا كناية عن الشرك . في صورة التفظيع له والتقبيح . وهو التعبير الغالب في السياق القرآني عن الشرك . وذلك حين يريد أن يبشع الشرك وينفر منه . ذلك أن الشرك ظلم للحق ، وظلم للنفس ، وظلم للناس . هو اعتداء على حق الله - سبحانه - في أن يوحد ويعبد بلا شريك . واعتداء على النفس بإيرادها موارد الخسارة والبوار . واعتداء على الناس بتعبيدهم لغير ربهم الحق ، وإفساد حياتهم بالأحكام والأوضاع التي تقوم على أساس هذا الاعتداء .
.(1/242)
ومن ثم فالشرك ظلم عظيم ، كما يقول عنه رب العالمين . ولن يفلح الشرك ولا المشركون :
{ إنه لا يفلح الظالمون } . .
والله - سبحانه - يقرر الحقيقة الكلية؛ ويصف الحصيلة النهائية للشرك والمشركين - أو للظلم والظالمين - فلا عبرة بما تراه العيون القصيرة النظر ، في الأمد القريب ، فلاحاً ونجاحاً . . فهذا هو الاستدراج المؤدي إلى الخسار والبوار . . ومن أصدق من الله حديثاً؟ . .
==================
وقال تعالى : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) }[الأنعام/134-136]
أَخْبِرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ : أنَّ الذِي يُوعَدُونَ بِهِ ، مِنْ أَمْرِ الحَشْرِ وَالحِسَابِ وَالجَزَاءِ ، كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ ، وَأَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ اللهَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِمْ ، وَإِنْ أَصْبَحُوا تُرَاباً وَعِظَاماً ، لأنَّهُ تَعَالَى لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ .
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى الكُفَّارَ ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ ، فَيَأْمُرُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ : اسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقَتِكُمْ ، إنْ كُنْتُمْ تَظُنَّونَ أَنَّكُمْ عَلَى هُدًى ، فَأَنَا مُسْتَمِرٌ عَلَى طَرِيقَتِي وَمَنْهَجِي ، وَسَتَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ العَاقِبَةُ ، أَتَكُونُ لَكُمْ أَمْ لِي؟ وَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ فَفَتَحَ مَكَّةَ ، وَأَذَلَّ اللهُ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ ، لأنَّ المُشْرِكِينَ وَالظَّالِمِينَ لاَ يُفْلِحُونَ .(1/243)
إنكم في يد الله وقبضته ، ورهن مشيئته وقدره . فلستم بمفلتين أو مستعصين . . ويوم الحشر الذي شاهدتم منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم؛ وأنه لآت لا ريب فيه ، ولن تفلتوا يومها ، ولن تعجزوا الله القوي المتين . وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف ، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } (135) سورة الأنعام.
إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه ، والحق الذي وراءه؛ ومن القوة التي في الحق ، والقوة التي وراء الحق . . التهديد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه نافض يديه من أمرهم ، واثق مما هو عليه من الحق ، واثق من منهجه وطريقه ، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال ، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون : { إنه لا يفلح الظالمون } . .
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف . . إنه لا يفلح المشركون ، الذين يتخذون من دون الله أولياء . وليس من دون الله ولي ولا نصير . والذين لا يتبعون هدى الله . وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين . .
======================
وقال تعالى : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) } [يوسف/22-24](1/244)
وَلَمَّا اسْتَكْمَلَ يُوسُفُ عَقْلَهُ ، وَتَمَّ خَلْقُهُ ( بَلَغَ أَشُدَّهُ ) ، آتَاهُ اللهُ النُّبُوَّةَ ( حُكْماً وَعِلْماً ) ، وَحَبَاهُ بِهَا ، مِنْ بَيْنِ أُولئِكَ القَوْمِ ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مُحْسِناً فِي عَمَلِهِ ، عَامِلاً بِطَاعَةِ رَبِّهِ ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المُحْسِنِينَ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ مُحَاوَلَةِ امْرَأَةِ العَزِيزِ - التِي أَوْصَاهَا زَوْجُهَا بِيُوسُفَ - اسْتِغَوَاءَهُ ، وَطَلَبِهَا مِنْهُ فِعْلَ الفَاحِشَةَ ، بَعْدَ أَنْ أَحَبَّتْهُ حُبّاً شَدِيداً ، لِجَمَالِهِ وَبَهَائِهِ ، فَحَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَجَمَّلَتْ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَغْلَقَتِ الأَبْوَابَ ، وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا ، قَائِلَةً لَهُ : ( هِيتَ لَكَ - أَيْ هَلُمَّ إِلَيَّ ) ، فَامْتَنَعَ يُوسُفُ عَنِ الاسْتِجَابَةِ إِلَيْهَا ، وَقَالَ لَهَا إِنَّ بَعْلَكِ هُوَ سَيِّدُ البَيْتِ الذِي أُقِيمُ فِيهِ ( رَبِّي ) ، وَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيَّ ، فَلاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُقَابِلَهُ عَلَى ذَلِكَ بِفِعِلِ الفَاحِشَةِ مَعْ أَهْلِهِ . وَالظَّالِمُونَ النَّاكِرُونَ لِلْجَمِيلِ لاَ يُفْلِحُونَ أَبَدَاً .
وَلكِنَّ أَكْثَرَ المُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَمٌّ بِهَا وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَا يَذْهَبُونَ إِلَيهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ النَّصِّ ( لَوْلا ) التِي هِيَ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بُرْهَانَ رَبَّهُ لَهَمَّ بِهَا ، فَوُجُودُ الهَمِّ مِنْهُ يَقُومُ عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ البُرْهَانِ وَلكِنْ وُجِدَتْ رُؤْيَةُ البُرْهَانِ فَانْتَفَى الهّمُّ مِنْ جَانِبِهِ ) .(1/245)
وَقَدْ بَرَّأَ اللهُ يُوسُفَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فِي الآيةِ وَقَالَ إِنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ لأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الذِينَ أَخْلَصَهُمْ رَبُّهُمْ لِطَاعَتِهِ عَنْ فِعْلِ مَا يَشِينُهُمْ مِنَ المَعَاصِي .
أي: { وَلَمَّا بَلَغَ } يوسف { أَشُدَّهُ } أي: كمال قوته المعنوية والحسية، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة والرسالة. { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أي: جعلناه نبيا رسولا وعالما ربانيا، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها، وإلى عباد الله ببذل النفع والإحسان إليهم، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم علما نافعا.
ودل هذا، على أن يوسف وفَّى مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.
هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته، وصبره عليها أعظم أجرا، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة، لوقوع الفعل، فقدم محبة الله عليها، وأما محنته بإخوته، فصبره صبر اضطرار، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها، طائعا أو كارها، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك، أن { رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر.
{(1/246)
وَ } زادت المصيبة، بأن { غَلَّقَتِ الأبْوَابَ } وصار المحل خاليا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي: افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ، ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عزب، وقد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم.
فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة، و { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي.
فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة، وهذا من أعظم الظلم، والظالم لا يفلح، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.
=====================(1/247)
وقال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)}[القصص/36، 37]
فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى وَهَارُونَ إِلى فِرْعَونَ وَمَلَئِهِ ، وَعَرَضَا عَلَيهِمْ ما آتاهُما اللهُ مِنَ المُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ ، والدَّلاَلاَتِ القَاهِرَاتِ على صِدْقِهِما ، لَمْ يَجِدْ فِرْعَونُ وَمَنْ مَعَهُ مَت يَدْحَضُونَ بِهِ بَراهينَ اللهِ وَحُجَجَهُ ، فَعَدَلُوا إِلى العِنادِ والمُبَاهَتَةِ استِكْبَاراً مِنْهُم عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ ، فَقَالُوا : مَا هذا الذِي جَاءَ بِهِ هذا إٍِلاَّ سِحْرٌ مُفَتَعَلٌ وَمَصْنُوعٌ ( مُفْتَرىً ) ؛ وَقَالُوا إِنهُم لَمْ يَسْمَعُوا فيما تَنَاقَلُوه عَنْ آبائِهِمِ الأَوَّلِينَ أَنَّ أَحَداً عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ ، وَلَمْ يُشْرِكْ بهِ شَيئاً .
فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ بقَولِهِ : إِنَّ رَبي يَعْلَمُ أَنِّي جِئْتُ بِالحَقِّ والهُدَى مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى ، فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ العَاقِبةَ الحَميِدَةَ سَتكُونُ لأَولِيَائِهِ وأَنْبِيَائِهِ والمُؤمِنينَ بِهِ ، وأَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لاَ يُفْلِحُونَ أبداً ، وَلاَ يُدرِكُونَ طُلْبَتَهُمْ وَبُغْيَتَهُمْ.(1/248)
إن السياق هنا يعجل بالضربة القاضية؛ ويختصر حلقة السحرة التي تذكر في سور أخرى بتفصيل أو إجمال . يختصرها ليصل من التكذيب مباشرة إلى الإهلاك . ثم لا يقف عند الأخذ في الدنيا ، بل يتابع الرحلة إلى الآخرة . . وهذا الإسراع في هذه الحلقة مقصود ، متناسق مع اتجاه القصة في السورة : وهو تدخل يد القدرة بلا ستار من البشر ، فما إن يواجه موسى فرعون حتى يعجل الله بالعاقبة ، وتضرب يد القدرة ضربتها الحاسمة ، بلا تفصيل في المواجهة أو تطويل .
{فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (36) سورة القصص.. .
وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة يومذاك . . { ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } . . فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه . المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب . إنهم يدعون أنه سحر ، ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم ، لم يسمعوا به في آبائهم الأولين!
وهم لا يناقشون بحجة ، ولا يدلون ببرهان ، إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً ولا يدفع دعوى . فأما موسى عليه السلام فيحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله . فما أدلوا بحجة ليناقشها ، ولا طلبوا دليلاً فيعطيهم ، إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان ، فالاختصار أولى والإعراض أكرم ، وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله : { وقال موسى : ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون } .(1/249)
وهو رد مؤدب مهذب ، يلمح فيه ولا يصرح . وفي الوقت ذاته ناصع واضح ، مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل . فربه أعلم بصدقه وهداه ، وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى ، والظالمون في النهاية لا يفلحون . سنة الله التي لا تتبدل . وإن بدت ظواهر الأمور أحياناً في غير هذا الاتجاه . سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه .
- - - - - - - - - - - -
2-المجرمون
قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) }[يونس/15-18](1/250)
كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إِذَا قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم القُرْآنَ عَلَيْهِمْ قَالُوا لَهُ : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ، وَضَعْ قُرْآناً غَيْرَهُ لَيْسَ فِيهِ مَا لاَ نُؤْمِنُ بِهِ مِنَ البَعْثِ ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ ، وَلاَ مَا نَكْرَهُهُ مِنْ ذَمٍّ لآلِهَتِنَا . وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ آمِراً نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ : إِنَّنِي عَبْدٌ مَأْمُورٌ ، وَرَسُولٌ أُبَلِّغُ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ رَبِّي ، وَأتَّبِعُ أَوَامِرَهُ ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي ، وَلاَ مِمَّا تُجِيزُهُ لِي رِسَالَتِي ، أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ، وَإِنِّي أَخَافُ ، إِنْ أَنَا عَصَيْتُ أَمْرَهُ ، عَذَابَ يَوْمٍ شَدِيدِ الخَطَرِ وَالهَوْلِ .
وَقُلْ لَهُمْ : إِنَّنِي إِنَّمَا جِئْتُكُمْ بِهَذا القُرْآنِ بِإِذِنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَلَوُ شَاءَ اللهُ أَنْ لاَ أَتْلُوَهُ عَلَيْكُمْ مَا تَلَوْتُهُ ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لاَ يُعْلِمَكُمْ بِهِ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ ، لَمَا أَرْسَلَنِي ، وَلَمَا أَدْرَاكُمْ بِهِ ، وَلكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا العِلْمِ لِتَهْتَدُوا ، وَتَكُونُوا خَلائِفَ فِي الأَرْضِ . فَقَدْ عِشْتُ فِيكُمْ وَبَيْنَكُمْ سِنِينَ طَوِيلَةً مِنْ عُمْرِي لَمْ أُبَلِّغْكُمْ خِلاَلَهَا شَيئاً ، لأنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْحَى إلَيَّ بِرِسَالَتِهِ ، فَلَمَّا أَوْحَى إِلَيَّ ، وَأَمَرَنِي بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ أَوَامِرَهُ فَعَلْتُ ، أَلَيْسَ لَكُمْ عُقُولٌ تُمَيِّزُونَ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ؟
((1/251)
وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لاَ . فَقَالَ هِرَقْلُ : أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ لِيَكْذِبَ عَلَى اللهِ ) .
لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً ، وَلاَ أَشَدُّ إِجْرَاماً مِنْ رَجُلٍ تَقَوَّلَ عَلَى اللهِ ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، وَلاَ أَظْلَمَ مِنْ رَجُلٍ كَفَرَ بِاللهِ ، وَكَذَّبَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ، وَبِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ ، وَلاَ يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ الذِينَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا كَافِرِينَ .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بيِّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله } . .
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد ، إنما يصدر عن عبث وهزل؛ وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله . وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله!
إن هذا القرآن دستور حياة شامل ، منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية ، ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق ، ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف . ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه ، أو يطلب تبديل بعض أجزائه .
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله؛ كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة ، ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية . فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآناً آخر ، أو يؤلف جزءاً مكان جزء؟!
{ قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } . .(1/252)
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر . إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله ، وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه . فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه . وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه . وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم .
{ قل : لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به . فقد لبثت فيكم عمراً من قبله . أفلا تعقلون؟ }.
إنه وحي من الله ، وتبليغه لكم أمر من الله كذلك . ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته ، ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم . فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس . قل لهم هذا . وقل لهم : إنك لبثت فيهم عمراً كاملاً من قبل الرسالة . أربعين سنة . فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن . لأنك لم تكن تملكه . لم يكن قد أوحي إليك . ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمراً كاملاً؟
ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئاً إلا البلاغ . .
وقل لهم : ما كان لي أن أفتري على الله الكذب ، وأن أقول : إنه أوحي إلي إلا بالحق . فليس هنالك ما هو أشد ظلماً ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟ } ..
وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين ، وهي التكذيب بآيات الله ، فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله : { إنه لا يفلح المجرمون } . .
- - - - - - - - - - - - -
3-المفترون على الله الكذب(1/253)
قال تعالى : { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }يونس/68-70]
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى مُتَنَكِّراً عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ للهِ وَلَداً : إِنَّهُ تَقَدَّسَ اسْمُهُ وَتَنَزَّهَ غَنِيٌّ عَمَنْ سِوَاهُ ، وَكُلُّ شَيءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِمَّا خَلَقَ ، وَكُلُّ شَيءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ وَعَبْدٌ؟ ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى : لَيْسَ لَدَيْكُمْ أَيُّها المُتَخَرِّصُونَ المُفْتَرُونَ مِنْ دَلِيلٍ ( سُلْطَانٍ ) ، عَلَى مَا تَقُولُونَ مِنْ كَذِبٍ وَبُهْتَانٍ . ثُمَّ يَسْتَنْكِرُ تَعَالَى قَوْلَ مَنْ يَقُولُونَ بِلاَ عِلْمٍ ، وَلاَ بِيِّنَةٍ يُؤَيِّدُونَ بِهَا صِحَّةَ قَوْلِهِمْ ( إِنَّ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) ، فَكَيْفَ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ قَوْلاً لاَ تَعْلَمُونَ حِقِيقَتَهُ وَتَنْسِبُونَهُ إِلَيْهِ؟
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى المُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ ، مِمَّنْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ شُرَكَاءَ ، بِأَنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُونَ فِي الدُّيْنا ، لأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا مَتَّعَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَلِيلاً فِإِنَّهُ يَسْتَدْرِجُهُمْ بِذلِكَ ، ثُمَّ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ، كَمَا أَنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُونَ فِي الآخِرَةِ لأَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ وَقُودَ جَهَنَّمَ .(1/254)
إِنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ فِي الدُّنْيا الفَانِيَةِ ، وَمَتَاعُهُمْ فِيهَا قَلِيلٌ حَقِيرٌ ، مُدَّةَ حَيَاتِهِم القَصِيرَةِ فِي الدُّنْيا ، ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَى اللهِ فَيُذِيقَهُمْ فِي الآخِرَةِ العَذَابَ الشَّدِيدَ المُؤْلِمْ ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ الكَذِبَ فِيمَا ادَّعُوا مِنَ الإِفْكِ وَالبُهْتَانِ .
وعقيدة أن لله - سبحانه - ولداً ، عقيدة ساذجة ، منشؤها قصور في التصور ، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية ، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية؛ والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء ، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان لله .
فالبشر يموتون ، والحياة باقية إلى أجل معلوم ، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر ، والولد وسيلة لهذا الامتداد .
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون . والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية ، تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء الله - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة .
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم ، ويكافحون أعداؤهم من الحيوان والناس . فهم في حاجة إلى التساند ، والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال .
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه ، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال . .
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض ، حتى ينقضي الأجل ، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً .
وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية ، فلا الحاجة إلى الامتداد ، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة ، ولا الحاجة إلى النصير ، ولا الحاجة إلى المال . ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات الله تعالى . .(1/255)
ومن ثم تنتفي حكمة الولد ، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاته ، يتحقق بالولد . وما قضت حكمة الله أن يتولد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة . فهي تقتضي الولد اقتضاء . وليست المسألة جزافاً .
ومن ثم كان الرد على فرية : { قالوا اتخذ الله ولداً } . . هو : { سبحانه! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض } .
{ سبحانه! . . } تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصوّر . { هو الغني } . . بكل معاني الغنى ، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال . مما يقتضي وجود الولد . والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات ، فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية . { له ما في السماوات وما في الأرض } . فكل شيء ملكه . ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد . فالولد إذن عبث . تعالى الله سبحانه عن العبث!
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية ، مما جد عند المتكلمين ، وفي الفلسفات الأخرى . لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة . ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاصر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها!
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم ، وحاجتهم إلى الولد ، وتصورهم لهذه الحاجة ، وانتفاء وجودها بالقياس إلى الله الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام ، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة .
ثم يجبههم بالواقع ، وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون . ويسمي البرهان سلطاناً ، لأن البرهان قوة ، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان : { إن عندكم من سلطان بهذا } . .
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون .
{ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ } . .(1/256)
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق . فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على الله - سبحانه -! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة . فهو أولاً ينافي ما يستحقه الله من عباده من تنزيه وتعظيم ، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق ، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات . فكلها فرع من تصور هذه العلاقة .
وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفهسم في الوثنيات من سلطان؛ وكل ابتدعته الكنيسة لها من سلطان ، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين الله تعالى وبناته الملائكة : أو بين الله تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والبنوة ، وحكاية الخطيئة ، ومنها نشأت مسألة الاعتراف ، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح ( بزعمهم ) . . إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة .
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي ، ولكنه مسألة الحياة برمتها . وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء ، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه! إنما نشأ من هذه الحلقة . حلقة فساد تصور العلاقة بين الله وخلقه . وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء .(1/257)
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام . . الله خالق أزلي باق ، لا يحتاج إلى الولد . والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء . وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي . فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز ، ومن حاد عنها ضل وخسر . . الناس في هذا كلهم سواء . وكلهم مرجعهم إلى الله . وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء . وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . ولكل نفس ما عملت . ولا يظلم ربك أحداً.
عقيدة بسيطة واضحة ، لا تدع مجالاً لتأويل فاسد ، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات ، وفي في سحب وضباب!
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام الله وكلهم مخاطب بالشريعة ، وكلهم مكلف بها ، وكلهم حفيظ عليها ، وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض ، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين الله .
{ قل : إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } . .
لا يفلحون أي فلاح . لا يفلحون في شِعب ولا طريق . لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى . والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن الله الصحيحة ، المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع ، وتنمية الحياة ، ودفعها إلى الإمام . وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية ، ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية . فذلك فلاح ظاهري موقوت ، منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال .
{ متاع في الدنيا . ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } . .
مجرد متاع واط . وهو متاع قصير الأمد . وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة . إنما يعقبه { العذاب الشديد } ثمرة للانحراف عن سنن الله الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان .
=====================(1/258)
وقال تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) }النحل/115-117]
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى مَا حَرَّمَ عَلَى المُؤْمِنِينَ مِنَ الطَّعَامِ مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ ، وَدُنْيَاهُمْ ، مِنَ المَيْتَةِ وَلَحْمِ الخِنْزِيرِ وَالدَّمِ المَسْفُوحِ ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ . فَمَنْ اضَطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ المُحَرَّمَةِ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فِي حُدُودِ إِزَالَةِ الضَّرُورَةِ ، لِيَقِيَ نَفْسَهُ الهَلاَكَ ، وَدُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّداً العُدْوَانَ وَالبَغْيَ ، وَتَجَاوُزَ مَا حَرَّمَ اللهُ ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ ذَلِكَ ، لأنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَلاَ تَقُولُوا عَنْ شَيءٍ هَذَا حَرَامٌ ، وَهَذا حَلاَلٌ ، إِذَا لَمْ يَأْتِكُمْ حِلُّهُ وَتَحْرِيمُهُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَالَّذِي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ .
( وَيَدْخُلُ فِي هَذا ابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ ، أَوْ تَحْلِيلُ شَيءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ ، أَوْ تَحْرِيمُ شَيءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِّ وَالهَوَى ) .
ثُمَّ يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَفْتَرُونَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ ، وَيَقُولُ عَنْهُمْ : إِنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا ، وَلاَ فِي الآخِرَةِ .
{(1/259)
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به } . . وهي محرمة إما لأن فيها أذى للجسم والحس كالميتة والدم ولحم الخنزير ، أو أذى للنفس والعقيدة كالذي توجه به ذابحه لغير الله . { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } فهذا الدين يسر لا عسر . ومن خاف على نفسه الموت أو المرض من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات قدر ما يدفع الضرر غير باغ على مبدأ التحريم ولا متجاوز قدر الضرورة التي أباحت المحظور .
ذلك حد الحلال والحرام الذي شرعه الله في المطعومات ، فلا تخالفوه اتباعاً لأوهام الوثنية ، ولا تكذبوا فتدعوا تحريم ما أحله الله . فالتحريم والتحليل لا يكونان إلا بأمر من الله . فهما تشريع . والتشريع لله وحده لا لأحد من البشر . وما يدعي أحد لنفسه حق التشريع بدون أمر من الله إلا مفتر ، والمفترون على الله لا يفلحون : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب : هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . متاع قليل ولهم عذاب أليم } . .
لا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم وتحكيه : هذا حلال وهذا حرام .
فهذا حلال وهذا حرام حين تقولونها بلا نص هي الكذب عينه ، الذي تفترونه على الله . والذين يفترون على الله الكذب ليس لهم إلا المتاع القليل في الدنيا ومن ورائه العذاب الأليم ، والخيبة والخسران . .
ثم يجرؤ ناس بعد ذلك على التشريع بغير إذن من الله ، وبغير نص في شريعته يقوم عليه ما يشرعونه من القوانين ، وينتظرون أن يكون لهم فلاح في هذه الأرض أو عند الله !
- - - - - - - - - - - - -
4-السَّاحرونَ(1/260)
قال تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) }[يونس/75-78]
ثُمَّ اللهُ بَعَثَ الرُّسُلَ ، الذِينَ أَتَوا بَعْدَ نُوحٍ ، مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ ( مَلَئِهِ - وَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى الأَشْرَافَ بِالذِّكْرِ لأنَّ الدَهْمَاءَ كَانُوا تَبَعاً لَهُمْ ) . وَكَانُوا قَوْماً رَاسِخِينَ فِي الإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ وَالفَسَادِ ، وَقَدْ أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى وَهَارُونَ بِآيَاتٍ وَحُجَجٍ وَبَرَاهِينَ ، عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ ، وَعَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمَا ، فَاسْتَكْبَرُ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ ، وَالانْقِيَادِ لَهُ ، وَقَدْ ارْتَكَبُوا بِرَفْضِهِم الاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَّةِ اللهِ إِثْماً عَظِيماً .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ بِالحَقِّ الوَاضِحِ ، وَالدَّلِيلِ القَاطِعِ ، عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمَا ، قَالُوا : إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ وَاضِحٌ لِمَنْ رَآهُ وَعَايَنَهُ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِهِمْ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئاً آخَرَ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ المُعْجِزَاتِ التِي أَرْسَلَ اللهُ بِهَا مُوسَى إِلَيْهِمْ .(1/261)
وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى مُوَّبِخاً ، وَمُسْتَنْكِراً قَوْلَهُمْ َاتِّهَامَهُمْ إِيَّاهُ بِالسِّحْرِ : أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ الوَاضِحِ الظَّاهِرِ ، لَمَّا جَاءَكُمْ ، إنَّهُ سِحْرٌ ، فَهَلْ هَذَا سِحْرٌ ، وَإِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ ، وَلاَ يَنْجَحُ السَّاحِرُونَ وَلاَ يُفْلِحُونَ ، لأَنَّ السِّحْرَ بَاطِلٌ .
فالسحر لا يستهدف هداية الناس ، ولا يتضمن عقيدة ، وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق؛ ولا يتضمن منهاجاً تنظيمياً للحياة . فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس . وما كان الساحرون ليؤدوا عملاً يستهدف مثل هذه الأغراض ، ويحقق مثل هذا الاتجاه؛ وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف .
وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات الله : { قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟ وما نحن لكما بمؤمنين } . .
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي . وهو الخوف على السلطان في الأرض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.(1/262)
إنها العلة القديمة الجديدة ، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات ، وانتحال شتى المعاذير ، ورمي الدعاة بأشنع التهم ، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة . . إنها هي { الكبرياء في الأرض } وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف ، وبكل ما فيها من فساد ، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات . لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة ، واستنارة العقول بالنور الجديد ، خطر على القيم الموروثة ، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير ، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند . إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون الله . . ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعاً - إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده للعالمين؛ وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها ، وتزاولها في حياة الناس . وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير . ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بروبية الله وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد . . ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير؛ وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم ، والانقلاب على سلطانهم ، والانقضاض على ملكهم ، والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان!
إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى الله رب العالمين!
وما كان رجال من أذكياء قريش مثلاً ليخطئوا إدراك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صدق وسمو ، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد . ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة ، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد . كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض ، فقالوا متبجحين : { وما نحن لك بمؤمنين } !(1/263)
وتعلق فرعون وملؤه بحكاية السحر ، وأرادوا - في أغلب الظن - أن يغرقوا الجماهير بها ، بأن يعقدوا حلقة للسحرة يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها ، ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحراً ماهراً . وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشونه على معقتداتهم الموروثة ، وعلى سلطانهم في الأرض ، وهو الأساس . . ونرجح أن هذه كانت الدوافع الحقيقية لمهرجان السحرة ، بعدما أفصح القوم عن شعورهم بالخطر الحقيقي الذي يتوقعونه : { وقال فرعون : ائتوني بكل ساحر عليم .فلما جاء السحرة قال لهم موسى : ألقوا ما أنتم ملقون . فلما ألقوا قال موسى : ما جئتم به السحر ، إن الله سيبطله ، إن الله لا يصلح عمل المفسدين ، ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } . .
ونلاحظ هنا اختصاراً في موقف المباراة ، لأن نهايته هي المقصودة . وفي قولة موسى : { ما جئتم به السحر } . .
رد على تهمة السحر التي وجهت إليه . فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء ، لأنه ليس أكثر من تخييل وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول ، لا تصحبه دعوة ، ولا تقوم عليه حركة . فهذا هو السحر لا آيات الله التي جاءهم بها حقاً من عند الله . . وفي قوله : { إن الله سيبطله } . .
تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه ، المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } . .
الذين يضللون الناس بالسحر ، أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال : { ويحق الله الحق بكلماته } . .
كلماته التكوينية { كن فيكون } . .
وهي تعبير عن توجه المشيئة . أو كلماته التي هي آياته وبيناته : { ولو كره المجرمون } . .
فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة الله ، ولا تقف دون آياته .
وقد كان . . وبطل السحر وعلا الحق . . ولكن السياق يختصر المشاهد هنا؛ لأنها ليست مقصودة في هذا المجال .(1/264)
ويسدل الستار هنا ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم! . وهذا إحدى عبر القصة المقصودة .
================
وقال تعالى : { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) }[طه/65](1/265)
قَالَ السَّحَرَةُ لِمُوسَى إِمَّا أَنْ تَبْدَأَ بِإِظْهَارِ مَا عِنْدَكَ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ ، وَتُلْقِيهِ أَمَامَ النَّاسِ وَالمَلِكِ ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ البَادِئِينَ .
فَشَعَرَ مُوسَى بِشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ . وَقَالَ مُفَسِّرُونَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتِنَهُمُ السَّحَرَةُ ، وَيَغْتَرُّوا بِهِمْ ، قَبْلَ أَنْ يُلْقِي هُوَ عَصَاهُ ، وَيُبْطِلَ عَمَلَ السَّحَرَةِ .
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَإِنَّهَا تَتَحَوَّلُ إِلَى ثُعْبَانٍ ضَخْمٍ يَبْتَلِعُ جَمِيعَ مَا أَلْقُوهُ مِنَ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ ، وَيُبْطِلَ جَمِيعَ مَا صَنَعُوهُ مِنَ السِّحْرِ ، لأَنَّ مَا صَنَعُوهُ سِحْرٌ وَتَمْوِيهٌ ، لاَ حَقِيقَةَ لَهُ ، وَاللهُ لاَ يَهْدِي كَيْدَ السَّاحِرِينَ ، وَلاَ مَا يَصْنَعُونَ .
وَقَدْ تَحَوَّلَتِ العَصَا إِلَى ثُعْبَانٍ أَخَذَ يَبْتَلِعُ جَمِيعَ مَا أَلْقَاهُ السَّحَرَةُ حَتَّى لَمْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئاً ، وَفِرْعَوْنُ وَالسَّحَرَةُ وَالنَّاسُ يَرَوْنَ كَلَّ ذَلِكَ . فَوَقَعَ الحَقُّ ، وَزَهَقَ البَّاطِلُ .
وَلَمَّا عَايَنَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ ، وَهُمْ أَصْحَابُ الخِبْرَةِ بِفُنُونِ السِّحْرِ ، وَطُرُقِهِ ، عَلِمُوا عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالحِيَلِ ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ وَحْدَهُ ، وَحِينَئِذٍ وَقَعُوا سَاجِدِينَ للهِ ، وَقَالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ .(1/266)
وَلَمَّا صَالَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ وَتَوَعَّدَهُمْ ، هَانَتْ عَلَيْهِمْ نُفُوسُهُمْ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَالُوا لَهُ : لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى رَبِّنَا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَخَالِقُنَا وَخَالِقُ كُلِّ شَيءٍ مِنْ عَدَمٍ ، فَهُوَ المُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ العِبَادَةَ لاَ أَنْتَ ، فَافْعَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئاً إِلاَّ فِي هَذِهِ الدَّارُ الدُّنْيَا ، وَهِيَ دَارٌ زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ ، وَنَحْنُ قَدْ رَغْبِنَا فِي دَارِ القَرَارِ ، الدَّارِ الأخِرَةِ .
وَتَابَعَ السَّحَرَةُ وَعْظَهُمْ لِفِرْعَوْنَ وَهُمْ يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نَقْمَةِ اللهِ ، وَعَذَابِهِ الدَّائِمِ ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الأَبَدِيِّ المُخَلَّدِ ، فَقَالُوا لَهُ : إِنَّهُ مَنْ يَأْتِي رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَدَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ جَزَاءً لَهُ ، وَكَانَ مُخَلَّداً فِيهَا ، وَلاَ يَمُوتُ فِيهَا مِيتَةً مُرِيحَةً فَيَرْتَاحُ " ، وَلاَ يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً يُسَرُّ بِهَا .
وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ العُلاَ ، هِيَ جَنَّاتُ إِقَامَةٍ ( عَدْنٍ ) ، تَنْسَابُ فِيهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا مَاكِثِينَ أَبَداً ، وَهَذا جَزَاءُ مَنْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالشِّرْكِ ، وَعَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَاتَّبَعَ المُرْسَلِينَ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ .
{ قالوا : يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى } . .
وهي دعوة الميدان إلى النزال . يبدو فيها التماسك وإظهار النصفة والتحدي .
{ قال : بل ألقوا } . .(1/267)
فقبل التحدي ، وترك لهم فرصة البدء ، واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة . . ولكن ماذا؟ إنه لسحر عظيم فيما يبدو ، وحركة مفاجئة ماجت بها الساحة حتى موسى : { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى } ،
والتعبير يشي بعظمة ذلك السحر وضخامته حتى ليوجس في نفسه خيفة موسى ، ومعه ربه يسمع ويرى . وهو لا يوجس في نفسه خيفة إلا لأمر جلل ينسيه لحظة أنه الأقوى ، حتى يذكره ربه بأن معه القوة الكبرى : { قلنا : لا تخف . إنك أنت الأعلى . وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى } . .
لا تخف إنك أنت الأعلى . فمعك الحق ومعهم الباطل . معك العقيدة ومعهم الحرفة . معك الإيمان بصدق ما أنت عليه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة . أنت متصل بالقوة الكبرى وهم يخدمون مخلوقاً بشرياً فانياً مهما يكن طاغية جباراً .
لا تخف { وألق ما في يمينك } بهذا التنكير للتضخيم { تلقف ما صنعوا } . فهو سحر من تدبير ساحر وعمله . والساحر لا يفلح أنى ذهب وفي أي طريق سار ، لأنه يتبع تخييلاً ويصنع تخييلاً؛ ولا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية . شأنه شأن كل مبطل أمام القائم على الحق المعتمد على الصدق .
وقد يبدو باطله ضخماً فخماً ، مخيفاً لمن يغفل عن قوة الحق الكامنة الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول ولا تتظاهر؛ ولكنها تدمغ الباطل في النهاية ، فإذا هو زاهق وتلقفه فتطويه ، فإذا هو يتوارى .
وألقى موسى . . ووقعت المفاجأة الكبرى . والسياق يصور ضخامة المفاجأة بوقعها في نفوس السحرة الذين جاءوا للمباراة فهم أحرص الناس على الفوز فيها ، والذين كانوا منذ لحظة يحمس بعضهم بعضاً ويدفع بعضهم بعضاً . والذين بلغت بهم البراعة في فنهم إلى حد أن يوجس في نفسه خيفة موسى .(1/268)
ويخيل إليه وهو الرسول أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى! يصور السياق وقع المفاجأة في نفوسهم في صورة تحول كامل في مشاعرهم ووجدانهم ، لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه؛ ولا يكفي النطق للإفضاء به : { فألقي السحرة سجداً . قالوا : آمنا برب هارون وموسى } . .
إنها اللمسة تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله . وتصادف « الزر » الصغير فينبعث النور ويشرق الظلام . إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلى الإيمان .
ولكن أنى للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف؟ أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب؟ وهم قد نسوا لطول ما طغوا وبغوا ، ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم ، نسوا أن الله هو مقلب القلوب؛ وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} (71) سورة طه.
{ آمنتم له قبل أن آذن لكم } . . قولة الطاغية الذي لا يدرك أنهم هم أنفسهم لا يملكون وقد لمس الإيمان قلوبهم أن يدفعوه عنها ، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء .
{ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } . . فذلك سر الاستسلام في نظره ، لا أنه الإيمان الذي دب في قلوبهم من حيث لا يحتسبون . ولا أنها يد الرحمن تكشف عن بصائرهم غشاوة الضلال .
ثم التهديد الغليظ بالعذاب الغليظ الذي يعتمد عليه الطغاة؛ ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح : { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل } .(1/269)
ثم الاستعلاء بالقوة الغاشمة . قوة الوحوش في الغابة . القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال ، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالناب : { ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى } !
ولكنه كان قد فات الأوان . كانت اللمسة الإيمانية قد وصلت الذرة الصغيرة بمصدرها الهائل . فإذا هي قوية قويمة . وإذا القوى الأرضية كلها ضئيلة ضئيلة . وإذا الحياة الأرضية كلها زهيدة زهيدة . وكانت قد تفتحت لهذه القلوب آفاق مشرقة وضيئة لا تبالي أن تنظر بعدها إلى الأرض وما بها من عرض زائل .
ولا إلى حياة الأرض وما فيها من متاع تافه : { قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض . إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ، والله خير وأبقى } .
إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنماً يتسابق إليه المتسابقون . فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة ، وترخص ملكه وزخرفه وجاهه وسلطانه : { قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا . . } فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى . { فاقض ما أنت قاض } ودونك وما تملكه لنا في الأرض . { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } . فسلطانك مقيد بها ، وما لك من سلطان علينا في غيرها . وما أقصر الحياة الدنيا ، وما أهون الحياة الدنيا . وما تملكه لنا من عذاب أيسر من أن يخشاه قلب يتصل بالله ، ويأمل في الحياة الخالدة أبداً . { إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر } مما كنت تكلفنا به فلا نملك لك عصياناً؛ فلعل بإيماننا بربنا يغفر لنا خطايانا { والله خير وأبقى } خير قسمة وجواراً ، وأبقى مغنماً وجزاء . إن كنت تهددنا بمن هو أشد وأبقى . .
وألهم السحرة الذين آمنوا بربهم أن يقفوا من الطاغية موقف المعلم المستعلي :
{(1/270)
إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا . ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى . جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} .
فإذا كان يتهددهم بمن هو أشد وأبقى . فها هي ذي صورة لمن يأتي ربه مجرماً هي أشد عذاباً وأدوم { فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا } فلا هو ميت فيستريح ، ولا هو حي فيتمتع . إنما هو العذاب الذي لا ينتهي إلى موت ولا ينتهي إلى حياة . . وفي الجانب الآخر الدرجات العلى . . جنات للإقامة ندية بما يجري تحت غرفاتها من أنهار { وذلك جزاء من تزكى } وتطهر من الآثام .
وهزأت القلوب المؤمنة بتهديد الطغيان الجائر ، وواجهته بكلمة الإيمان القوية . وباستعلاء الإيمان الواثق . وبتحذير الإيمان الناصع . وبرجاء الإيمان العميق .
ومضى هذا المشهد في تاريخ البشرية إعلاناً لحرية القلب البشري باستعلائه على قيود الأرض وسلطان الأرض ، وعلى الطمع ، في المثوبة والخوف من السلطان . وما يملك القلب البشري ان يجهر بهذا الإعلان القوي إلا في ظلال الإيمان .
وهنا يسدل الستار ليرفع على مشهد آخر وحلقة من القصة جديدة .
إنه مشهد انتصار الحق والإيمان في واقع الحياة المشهود ، بعد انتصارهما في عالم الفكرة والعقيدة . فلقد مضى السياق بانتصار آية العصا على السحر؛ وانتصار العقيدة في قلوب السحرة على الاحتراف؛ وانتصار الإيمان في قلوبهم على الرغب والرهب ، والتهديد والوعيد .(1/271)
فالآن ينتصر الحق على الباطل والهدى على الضلال ، والإيمان على الطغيان في الواقع المشهود . والنصر الأخير مرتبط بالنصر الأول . فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير؛ وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن . . إن للحق والإيمان حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية . فأما إذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب ، والحق شعاراً لا ينبع من الضمير ، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان ، لأنهما يملكان قوة مادية حقيقية لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان . . يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس وحقيقة الحق في القلب؛ فتصبحا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل ويصول بها الطغيان .
- - - - - - - - - - - - - -
5-المرتدون عن الدين
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) }[الكهف/19، 20](1/272)
وَكَمَا أَرْقَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الكَهْفِ وَحَفِظَ أَجْسَادَهُمْ مِنَ البِلَى ، بَعَثَهُمْ مِنْ رُقُودِهِمْ ، وَأَبْدَانِهِمْ سَلِيمَةٌ ، وَشُعُورُهُمْ وَأَبْشَارُهُمْ سَلِيمَةٌ ، فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ رَقْدَتِكُمْ؟ قَالُوا : لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( إِذْ يُقَالُ إِنَّهُمْ دَخَلوا الكَهْفَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَاسْتَيْقَظُوا فِي آخِرِهِ ) ، فَقَالُوا وَكَأَنَّهُمْ اسْتَكْثَرُوا نَوْمَهُمْ : اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ . وَالمُهِمُّ الآنَ أَنْ تَبْعَثُوا وَاحِداً مِنْكُمْ إِلَى المَدِينَةِ بِمَا مَعَكُمْ مِنْ عِمْلَةٍ مِنَ الفِضَّةِ ( وَرَقِكُمْ ) ، فَلْيَبْحَثْ لَكُمْ عَنْ أَطْيَبِ طَعَامٍ وَأَطْهَرَهُ ، وَلْيَأْتِكُمْ بِشَيءٍ مِنْهُ ، وَعَلَى هَذَا الرَّسُولِ أَنْ يُحَاوِلَ قَدْرَ جُهْدِهِ عَدَمَ لَفْتِ الأَنْظَارِ إِلَيْهِ ، وَلْيَتَلَطَّفُ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، لِكَيْلاَ يَشْعُرَ أَحَداً بِمَكَانِكُمْ .
لأَنَّ قَوْمَكُمْ إِنْ عَلِمُوا بِمَكَانِكُمْ عَذَّبُوكُمْ ، وآذَوْكُمْ إِلَى أَنْ يَضْطَرُّوكُمْ إِلَى العَوْدَةِ فِي مِلَّتِهِمْ ، أَوْ يَبْلُغُوا بِكُمُ المَوْتَ رَجْماً بِالحِجَارَةِ ، وَإِذَا وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى العَوْدَةِ إِلَى دِينِهِمْ فَلاَ فَلاَحَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَلاَ فِي الآخِرَةِ .
إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة ، فيعرض هذا المشهد ، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس . . إنهم يفركون أعينهم ، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل : كم لبثتم؟ كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل . ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل . { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } !(1/273)
ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها ، ويدعوا أمرها لله شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله وأن يأخذوا في شأن عملي . فهم جائعون . ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة : { قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً ، فليأتكم برزق منه } . . أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه .
وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم ، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجماً بوصفهم خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلهاً واحداً في المدينة المشركة! أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب . وهذه هي التي يتقونها . لذلك يوصون الرسول أن يكون حذراً لبقاً : { وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبدا } . . فما يفلح من يرتد عن الإيمان إلى الشرك ، وإنها للخسارة الكبرى .
وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم ، حذرين خائفين ، لا يدرون أن الأعوام قد كرت ، وأن عجلة الزمن قد دارت ، وأن أجيالاً قد تعاقبت ، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها ، وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم ، وأن قصة الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف؛ وأن الأقاويل حولهم متعارضة؛ حول عقيدتهم ، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم .
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً .(1/274)
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه ، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً . إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر ، مع بقاء قلبه ثابتاً على الإسلام مطمئناً بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي ، وفي الارتداد الحقيقي ، بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ، ويرتد عن إيمانه وإسلامه ، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به ، ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيراً : إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .
- - - - - - - - - - - - - - -
6-الكافرون
قال تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} [المؤمنون/117 ]
يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ أَشْرَكَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدَاً سِوَاهُ فَيَقُولُ : إِنَّ مَنْ أَشْرَكَ باللهِ سِوَاهُ ، وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ ، وَلاَ بُرْهَانَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ ، وَلاَ دَلِيلَ فَإِنَّ الله يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُوَفِّيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جَزَاءٍ ، وَلاَ يُفْلِحُ الكُفَّارُ ، وَلاَ يَنْجُونَ مِنَ العِقَابِ .(1/275)
وكل دعوى بألوهية أحد مع الله , فهي دعوى ليس معها برهان . لا من الدلائل الكونية , ولا من منطق الفطرة , ولا من حجة العقل . وحساب مدعيها عند ربه , والعاقبة معروفة: (إنه لا يفلح الكافرون) . . سنة نافذة لا تتخلف , كما أن الفلاح للمؤمنين طرف من الناموس الكبير .وكل ما يراه الناس على الكافرين من نعمة ومتاع , وقوة وسلطان , في بعض الأحيان , فليس فلاحا في ميزان القيم الحقيقية . إنما هو فتنة واستدراج , ينتهي بالوبال في الدنيا . فإن ذهب بعضهم ناجين في الدنيا , فهناك في الآخرة يتم الحساب . والآخرة هي الشوط الأخير في مراحل النشأة , وليست شيئا منفصلا في تقدير الله وتدبيره . ومن ثم هي ضرورة لا بد منها في النظرة البعيدة .
==================(1/276)
وقال تعالى :{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) }[القصص/79-83](1/277)
ويَلْفِتُ اللهُ تَعَالى نَظَرَ كُبَراءِ قُريشٍ ، الذِين اغتَرُّوا بأَمَوالِهِم ، واسْتَطَالُوا بِهَا عَلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، وَعَلَى المُؤمنينَ ، إِلى أنَّ المَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ ، وَأَنَّ المَالَ لاَ قِيمَةَ لهُ في مِيزَانِ اللهِ تَعَالى ، يَوْمَ الحِسَابِ في الآخِرَةِ ، وأَنَّ أمْوالَ هؤلاءِ الكُفَّارِ مِنْ قُريشٍ ، لا تُعَدُّ شيئاً مذكُوراً بالنِّسبةِ لِلمَالِ الذي آتاهُ اللهُ قَارُونَ ، ثُمَّ خَسَفَ اللهُ بهِ وبدَارِهِ الأَرْضَ لأَنَّهُ بَطِرَ وَأَشِرَ ، واسْتَكْبَرَ ولم يَبْتَعِ بهذا المَالِ ثَوابَ اللهِ ، وجَزَاءَهُ في الدَّارِ الآخِرَةِ .
وَيَقُولُ تَعَالى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ بَني إِسرائيلَ ( وَقَالَ بعضُ المُفَسِّرينَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ أقرِباءِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ ) ، وَقَدْ آتاهُ اللهُ كثيراً منَ المَالِ ، حَتَّى إِنَّ مَفَاتَيِحَ خَزَائِنِ أمْوَالِهِ لَيَصْعُبُ عَلَى الجَمَاعَةِ حَمْلُها لِكَثْرَتِهَا ، وَثِقلِ وَزْنِها ، فَطَغَى وَبَغَى ، وَبَطِرَ ، وَتَكَّبرَ ، فَقَالَ لبهُ قَومُهُ ناصِحِينَ : لا تَبْطَرْ ، ولا تَفْرَحْ بمَا أَنتَ فيهِ من النَّعمَةِ والمَالِ ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى لاَ يًُحِبُّ البَطرِينَ الأَشِرِينَ ، الذين لا يَشكُرونَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وآلائِهِ ، وَتَنْسِيهمُ الدُّنيا والآخِرَةَ .(1/278)
واسْتَعْمِلْ مَا وَهَبكَ اللهُ مِنَ المَالِ الجَزيلِ ، والنَّعمَةِ الطَّائِلَةِ ، في طَاعَةِ رَبِّكَ ، والتَّقَرُّبِ إليهِ ، ولا تَنْسَ حَظَّكَ ( نَصِيبَكَ ) مِنَ الدُّنيا ، ممَّا أَبَاحَهُ اللهُ فيها لِعِبادِهِ ، مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَلاَبِسِ وغَيرها . . فإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقّاً ، وَلِنَفَسِكَ عَليكَ حَقّاً ، . . فَآتِ كُلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ . وأحْسِنْ إِلى خَلْقِ اللهِ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا يَكنْ هَمُّكَ الإِفسَادَ في الأَرضِ ، والإِساءَةَ إلى خَلْقِ اللهِ ، إنّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ .
فَأَجَابَ قَارُونَ نَاصِحِيهِ مِنْ قَومِهِ : إِنَّهُ لا يَفْتَقِرُ إلى مَا يَقُولُونَ ، فإِنَّ الله إِنَّما أعطَاهُ هذا المَالَ لِعلمِهِ بأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ ، وَلأَنَّهُ يُحِبّهُ . ويَرُدّ اللهُ تَعَالى عَليهِ قائِلاً : إِنَّهُ كَانَ قَبلَ قَارُونَ أُناسٌ كثيرونَ أكثرُ منهُ مالاً ، إِلاَّ أَنهُ سُبحَانَهُ لَمْ يُعْطِهِمْ هذا المَالَ عَنْ مَحَبَّةٍ منهُ لهُمْ ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ ، وَعَدمِ شُكرِهِمْ ، وفي الآخِرَةِ لا يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُجرِمينَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ ، ومِقْدَارِهَا وَكُنْهِها . . وَلاَ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيها ، وإِنِّما يُلْقِيهِمْ فِي جَهَّنَم دُونَ سُؤَالٍ .
وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا ، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا .(1/279)
فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ ، قَالُوا لَهُمْ : الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ .
وَبينمَا كَانَ قَارُونَ يَخْتَالُ بِطِراً مُتَفَاخِراً عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في حِلْيَتِهِ وزِينَتهِ ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بهِ وبِدَارِهِ الأَرضَ ، فَأَصبَحَ هُوَ ودارُهُ وأموَالُهُ وخَزَائِنُهُ لا أثرَ لَهُمْ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَطْشِ اللهِ وَعَذَابِهِ ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ ولا جَمْعُهُ وَلا خَدَمُهًُ ، وَلَمْ يَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَقْمَةَ اللهِ وَعَذَابَهُ .
وَلَمَّا رَأَى الذينَ تَمَنَّوْا مَالَ قَارُونَ وكُنُوزَهُ ، مَا حَلَّ بهِ وبِمَالِهِ ، قالُوا : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ وَلولا لُطْفُ اللهِ بِنا لأَعْطَانَا مَا سَأَلنا ، ثُمَّ فَعَلَ بِنَا كَمَا فَعَلَ بقَارُونَ ، فَخَسَفَ بِنَا الأَرضَ ، لَقَدْ كَانَ قَارُونُ كَافِراً برَبِّهِ ، وَلاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ في النَّجَاةِ مِنْ عَذابِ اللهِ تَعَالى .(1/280)
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ - الجَنَّةُ التي عَلِمْتَ مِمَّا تَقدَّمَ وَصْفَهَا - قَدْ جَعَلَها الله خَالِصَةً لِعِبَادِهِ المُؤمِنينَ المُتَواضِعِينَ ، الذينَ لاَ يُريدُونَ اسْتِكْبَاراً على خَلْقِ اللهِ ، وَلاَ تَعَاظُماً عَلَيهِمْ ، وَلاَ َجَبُّراً ، وَلاَ فَسَاداً في الأَرضِ . وَالعَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ ، وهيَ الجَنَّةُ ، جَعَلَها اللهُ لِمَنْ مَلأَتْ خَشْيَةُ اللهِ قَلَبْهُ ، واتَّقى عَذَابَه بِفعلِ الطَّاعَاتِ ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ .
مَنْ جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ حَسَناتٌ اكْتَسَبَها في الدُّنيا ، ضَاعَفَ الله ثَوابَهُ ، فَضْلاً منهُ وكَرماً ، ومَنْ جَاءَ بالسَّّيَئَةِ فَلاَ يُجزَى إِلاَّ مِثْلَها ، عَدلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً .
لقد كان قارون من قوم موسى ، فآتاه الله مالاً كثيراً ، يصور كثرته بأنه كنوز والكنز هو المخبوء المدخر من المال الفائض عن الاستعمال والتداول وبأن مفاتح هذه الكنوز تعيي المجموعة من أقوياء الرجال . . من أجل هذا بغى قارون على قومه . ولا يذكر فيم كان البغي ، ليدعه مجهلاً يشمل شتى الصور . فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال .
حق الفقراء في أموال الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه ، فتفسد القلوب ، وتفسد الحياة . وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب .
وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي ، ورجعه إلى النهج القويم ، الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء؛ وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم؛ ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال؛ ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال؛ وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم ، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب :
{(1/281)
إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض . إن الله لا يحب المفسدين } .
وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة .
{ لا تفرح } . . فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال ، والاحتفال بالثراء ، والتعلق بالكنوز ، والابتهاج بالملك والاستحواذ . . لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال؛ وينسي نعمته ، وما يجب لها من الحمد والشكران . لا تفرح فرح الذي يستخفه المال ، فيشغل به قلبه؛ ويطير له لبه ، ويتطاول به على العباد . .
{ إن الله لا يحب الفرحين } . . فهم يردونه بذلك إلى الله ، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال ، المتباهين ، المتطاولين بسلطانه على الناس .
{ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا } . . وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم . المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفاً ، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس؛ وليعلموا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها ، فتنمو الحياة وتتجدد ، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة ، فلا ينحرفون عن طريقها ، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان ، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة ، التي لا حرمان فيها ، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .
{(1/282)
وأحسن كما أحسن الله إليك } . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف ، والإحسان به إلى الخلق ، وإحسان الشعور بالنعمة ، وإحسان الشكران .
{ ولا تبغ الفساد في الأرض } . . الفساد بالبغي والظلم . والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة . والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء . والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال .
{ إن الله لا يحب المفسدين } . . كما أنه لا يحب الفرحين .
كذلك قال له قومه : فكان رده جملة واحدة ، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد :
{ قال : إنما أوتيته على علم عندي } !
إنما أوتيت هذا المال استحقاقاً على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله . فما لكم تملون عليَّ طريقة خاصة في التصرف فيه ، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة ، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص ، واستحققته بعلمي الخاص؟
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، ويفتنه المال ويعميه الثراء .
وهو نموذج مكرر في البشرية . فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح ، غير حاسب لله حساباً ، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه!
والإسلام يعترف بالملكية الفردية ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه . ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجاً معيناً للتصرف في الملكية الفردية كما يفرض منهجاً لتحصيلها وتنميتها وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق تحصيله ، وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .(1/283)
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه ، ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لمنهجه القويم . وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم .
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، رداً على قولته الفاجرة المغرورة :
{ أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً؟ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } .
فإن كان ذا قوة وذا مال ، فقد أهلك الله من قبله أجيالاً كانت أشد منه قوة وأكثر مالاً . وكان عليه أن يعلم هذا . فهذا هو العلم المنجي . فليعلم . وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم . فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد!
{ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } !
ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة ، يتجلى فيه البغي والتطاول ، والإعراض عن النصح ، والتعالي على العظة ، والإصرار على الفساد ، والاغترار بالمال ، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران .
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه ، فتطير لها قلوب فريق منهم ، وتتهاوى لها نفوسهم ، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون ، ويحسون أنه أوتي حظاً عظيماً يتشهاه المحرومون .
ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون ، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين ، في ثقة وفي يقين :
{ فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثلما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ، ولا يلقاها إلا الصابرون } .
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان ، والرجاء فيما عند الله ، والاعتزاز بثواب الله . والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان :
{(1/284)
قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم } . .
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب ، وتبهر الذين يريدون الحياة الدينا ، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى ، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع ، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه ، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه ، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة ، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفساً ، وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . وهؤلاء هم { الذين أوتوا العلم } . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم :
{ وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ، ولا يلقاها إلا الصابرون }
ثواب الله خير من هذه الزينة ، وما عند الله خير مما عند قارون . والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون . . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم . الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها . الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون . وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة . درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض ، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان .(1/285)
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حداً للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطماً . ويجيء المشهد الثالث حاسماً فاصلاً : { فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين } . .
هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة : { فخسفنا به وبداره الأرض } فابتلعته وابتلعت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقاً .وذهب ضعيفا عاجزا , لا ينصره أحد , ولا ينتصر بجاه أو مال .
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ; وردتهم الضربة القاضية إلى الله ; وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال . وكان هذا المشهد الأخير:
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون:وي ! كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر . لولا أن من الله علينا لخسف بنا . وي ! كأنه لا يفلح الكافرون . .
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس , ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله . فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء . وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال , ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين , ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .
ويسدل الستار على هذا المشهد . وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة , وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان . . ثم يأخذ في التعقيب في أنسب أوان: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . والعاقبة للمتقين) . .(1/286)
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم . العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية . تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق . تلك الدار الآخرة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) . . فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ; ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها . إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله , ومنهجه في الحياة . أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا . ولا يبغون فيها كذلك فسادا . أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة . تلك الدار العالية السامية .
(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه .
وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه . الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها . والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا: (من جاء بالحسنة فله خير منها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) . .
وهكذا يسوق لنا القرآن فى قصصه العبر والعظات ، لقوم يتذكرون ، فمن قصة قارون نرى أن كفران النعم يؤدى إلى زوالها ، وأن الغرور والبغى والتفاخر كل ذلك يؤدى إلى الهلاك ، وأن خير الناس من يبتغى فيما آتاه الله من نعم ثواب الآخرة ، دون أن يهمل نصيبه من الدنيا ، وأن العاقل هو من يستجيب لنصح الناصحين ، وأن الناس فى كل زمان ومكان ، منهم الذين يريدون زينة الحياة الدنيا ، ومنهم الأخيار الأبرار الذين يفضلون ثواب الآخرة ، على متع الحياة الدنيا ، وأن العاقبة الحسنة قد جعلها - سبحانه - لعباده المتقين ، وأنه - سبحانه - يجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
- - - - - - - - - - - - - -
7- لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً(1/287)
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ :لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ ، قَالَ : لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ : " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً "صحيح البخاري (4073 ) البغا
وعَنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ عَصَمَنِى اللَّهُ بِشَىْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا هَلَكَ كِسْرَى قَالَ « مَنِ اسْتَخْلَفُوا ». قَالُوا ابْنَتَهُ . فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ». قَالَ فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ يَعْنِى الْبَصْرَةَ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَعَصَمَنِى اللَّهُ بِهِ. سنن الترمذى (2431 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ يَلِى أَمْرَ فَارِسَ ». قَالُوا امْرَأَةٌ.قَالَ « مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ يَلِى أَمْرَهُمُ امْرَأَةٌ ». مسند أحمد ( 21049) صحيح
قَوْله : ( نَفَعَنِي اللَّه بِكَلِمَةٍ سَمِعْتهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّام الْجَمَل ) فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ، وَالتَّقْدِير : نَفَعَنِي اللَّه أَيَّام الْجَمَل بِكَلِمَةٍ سَمِعْتهَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ قَبْل ذَلِكَ ، فَأَيَّام يَتَعَلَّق بِـ " نَفَعَنِي " لَا بِـ " سَمِعْتهَا " فَإِنَّهُ سَمِعَهَا قَبْل ذَلِكَ قَطْعًا ، وَالْمُرَاد بِأَصْحَابِ الْجَمَل الْعَسْكَر الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَائِشَة .(1/288)
قَوْله : ( بَعْدَمَا كِدْت أَلْحَق بِأَصْحَابِ الْجَمَل ) يَعْنِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَمَنْ مَعَهَا ، وَسَيَأْتِي بَيَان هَذِهِ الْقِصَّة فِي كِتَاب الْفِتَن إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَمُحَصَّلهَا أَنَّ عُثْمَان لَمَّا قُتِلَ وَبُويِعَ عَلِيّ بِالْخِلَافَةِ خَرَجَ طَلْحَة وَالزُّبَيْر إِلَى مَكَّة فَوَجَدَا عَائِشَة وَكَانَتْ قَدْ حَجَّتْ ، فَاجْتَمَعَ رَأْيهمْ عَلَى التَّوَجُّه إِلَى الْبَصْرَة يَسْتَنْفِرُونَ النَّاس لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَان ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ، فَكَانَتْ وَقْعَة الْجَمَل ، وَنُسِبَتْ إِلَى الْجَمَل الَّذِي كَانَتْ عَائِشَة قَدْ رَكِبَتْهُ وَهِيَ فِي هَوْدَجهَا تَدْعُو النَّاس إِلَى الْإِصْلَاح ، وَالْقَائِل : " لَمَّا بَلَغَ " هُوَ أَبُو بَكْرَة ، وَهُوَ تَفْسِير لِقَوْلِهِ : " بِكَلِمَةٍ " وَفِيهِ إِطْلَاق الْكَلِمَة عَلَى الْكَلَام الْكَثِير .(1/289)
قَوْله : ( مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْت كِسْرَى ) هِيَ بُورَان بِنْت شيرويه بْن كِسْرَى بْن برويز ، وَذَلِكَ أَنَّ شيرويه لَمَّا قَتَلَ أَبَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَ أَبُوهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ اِبْنه قَدْ عَمِلَ عَلَى قَتْله اِحْتَالَ عَلَى قَتْل اِبْنه بَعْد مَوْته فَعَمِلَ فِي بَعْض خَزَائِنه الْمُخْتَصَّة بِهِ حُقًّا مَسْمُومًا وَكَتَبَ عَلَيْهِ : حُقّ الْجِمَاع ، مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُ كَذَا جَامَعَ كَذَا . فَقَرَأَهُ شيرويه ، فَتَنَاوَلَ مِنْهُ فَكَانَ فِيهِ هَلَاكه ، فَلَمْ يَعِشْ بَعْد أَبِيهِ سِوَى سِتَّة أَشْهُر ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يُخَلِّف أَخًا لِأَنَّهُ كَانَ قَتَلَ إِخْوَته حِرْصًا عَلَى الْمُلْك وَلَمْ يُخَلِّف ذَكَرًا ، وَكَرِهُوا خُرُوج الْمُلْك عَنْ ذَلِكَ الْبَيْت فَمَلَّكُوا الْمَرْأَة وَاسْمهَا بُورَانُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة . ذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن قُتَيْبَة فِي الْمَغَازِي . وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا أَنَّ أُخْتهَا أرزميدخت مَلَكَتْ أَيْضًا . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : فِي الْحَدِيث أَنَّ الْمَرْأَة لَا تَلِي الْإِمَارَة وَلَا الْقَضَاء ، وَفِيهِ أَنَّهَا لَا تُزَوِّج نَفْسهَا ، وَلَا تَلِي الْعَقْد عَلَى غَيْرهَا ، كَذَا قَالَ ، وَهُوَ مُتَعَقَّب وَالْمَنْع مِنْ أَنْ تَلِي الْإِمَارَة وَالْقَضَاء قَوْل الْجُمْهُور ، وَأَجَازَهُ الطَّبَرِيُّ وَهِيَ رِوَايَة عَنْ مَالِك ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة تَلِي الْحُكْم فِيمَا تَجُوز فِيهِ شَهَادَة النِّسَاء .(1/290)
وَمُنَاسَبَة هَذَا الْحَدِيث لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَة أَنَّهُ تَتِمَّة قِصَّة كِسْرَى الَّذِي مَزَّقَ كِتَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِ اِبْنه فَقَتَلَهُ ثُمَّ قَتَلَ إِخْوَته حَتَّى أَفْضَى الْأَمْر بِهِمْ إِلَى تَأْمِير الْمَرْأَة ، فَجَرَّ ذَلِكَ إِلَى ذَهَاب مُلْكهمْ وَمُزِّقُوا كَمَا دَعَا بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .فتح الباري لابن حجر - (ج 12 / ص 247)
وقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْحَدِيثِ : إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِي الْإِمَارَةَ وَلَا الْقَضَاءَ وَفِيهِ إِنَّهَا لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَلَا تَلِي الْعَقْدَ عَلَى غَيْرِهَا كَذَا قَالَ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ وَالْمَنْعُ مِنْ أَنْ تَلِيَ الْإِمَارَةَ وَالْقَضَاءَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَجَازَهُ الطَّبَرِيُّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَمَّا تَلِي الْحُكْمَ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ " تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 48)(1)
__________
(1) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 6 / ص 5069) رقم الفتوى 46488 حكم ترشيح المرأة للمناصب العامة
تاريخ الفتوى : 09 صفر 1425
السؤال : ما حكم أن تترشح مسلمة أو مسلم في الانتخابات الحكومية لبلد غير إسلامي دستوره علماني، علما بأن نية المتقدم تكون لاستغلال المنصب للدفاع عن حقوق الأقلية المسلمة وحتى تؤخذ أكثر بعين الاعتبار ولإعطائها صوتا في قرارات الحكومة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا مانع شرعاً إن شاء الله تعالى أن يتولى المسلم منصباً في بلد غير إسلامي إذا كان ذلك بنية حسنة وبقصد الدفاع عن حقوق المسلمين ورفع الظلم عن المظلومين وإقامة ما استطاع من العدل وتقليل الشر وسد مكان عن الظلمة والأشرار..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكن من المحرمات لا يؤاخذ بما عجز عنه، فإن توليه الأبرار خير من توليه الفجار.
وقد حكى لنا القرآن الكريم على لسان يوسف عليه السلام أنه قال لملك مصر وهو غير مسلم قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وللمزيد من الفائدة والتفصيل عن هذا الموضوع نرجو الاطلاع على الفتوى رقم: 5141 .
وأما ترشيح المرأة للمناصب العامة الكبرى فلا يجوز عند جمهور أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. رواه البخاري وغيره عن أبي بكرة رضي الله عنه وذلك لما يترتب عليها من تحمل الأعباء الشاقة التي تتنافى مع طبيعة المرأة ولما يترتب عليها من الخلوة ومخالطة الرجال الأجانب.
أما المناصب الصغرى التي تستطيع المرأة القيام بها ولا يترتب على تقلدها ارتكاب محرم فإنه لا مانع منها إن شاء الله تعالى، فقد ولى عمر رضي الله عنه الشفاء بنت عبد الله العدوية مهام الحسبة في سوق المدينة ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة الشفاء، وللمزيد من الفائدة والتفصيل وأقوال العلماء حول هذا الموضوع نرجو الاطلاع على الفتوى رقم: 32047 .
والله أعلم. المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه(1/291)
قلت : ويؤيد ذلك قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء(1/292)
مِنْ شَأْنِ الرَّجُلِ أنْ يَقُومَ عَلَى المَرْأَةِ بِالحِمَايَةِ وَالرِّعَايَةِ ، وَلِذَلِكَ فَرَضَ اللهُ تَعَالَى الجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالجِهَادُ مِن أخَصِّ شُؤُونِ الحِمَايَةِ . وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الخِلْقَةِ ، وَأعْطَاهُمْ مَا لَمْ يُعْطَ النِّسَاءُ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ ، كَمَا فَضّلَهُمْ بِالقُدْرَةِ عَلَى الإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ أَمْوالِهِمْ ، فَإِنَّ فِي المُهُورِ تَعْوِيضاً لِلْنِّسَاءِ ، وَمُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى الدُّخُولِ تَحْتَ رِئَاسَةِ الرَّجُلِ ، وَقَبُولِ القِيَامَةِ عَلَيْهِنَّ . وَالقِيَامَةُ تَعْنِي الإِرْشَادَ وَالمُرَاقَبَةَ فِي تَنْفِيذِ مَا تُرْشِدُ إلَيْهِ النِّسَاءُ ، وَمُلاَحَظَةَ أَعْمَالِهِنَّ ، وَمِنْ ذَلِكَ حِفْظُ المَنْزِلِ ، وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِ إلاَّ بِإِذْنٍ ، وَالانْصِرَافَ إلى وَظِيفَتِهِنَّ الفِطْرِيَّةِ مِنْ حَمْلٍ وَرَضَاعٍ وَتَرْبِيَّةٍ . وَالنِّسَاءُ الصَّالِحَاتُ مُطِيعَاتٌ لأَزْوَاجِهِنَّ ، حَافِظَاتٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي خِلْوَاتِهِمْ ، لاَ يُطْلِعْنَ عَلَيهِ أَحَداً ، وَيَحْفَظْنَّ أَنْفُسَهُنَّ مِنْ أَيْدِي العَابِثِينَ ، وَعَلَيْهِنَّ أنْ يَحْفَظَنَّ أَمْوَالَ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الضَيَاعِ ، وَهَذا الصِنْفُ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلْرِّجَالِ عَلَيِهِنَّ سُلْطَانُ التَّأديب .(1/293)
أمَّا اللَّوَاتِي تَخْشَوْنَ مِنْهُنَّ أنْ لاَ يَقُمْنَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الوَجْهِ الذِي تَرْضَونَ ، فَعَلَى الرِّجَالِ مُعَامَلَتُهُنَّ ، مُبْتَدِئِينَ بِالوَعْظِ وَالإِرْشَادِ ، وَالتَّذْكِيرِ بِوَاجِبَاتِهِنَّ ، فَقَدْ يَكْفِي ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ ، فَجَرِّبُوا الهَجْرَ فِي المَضْجَعِ ، وَالإِعْرَاضِ عَنْهُنَّ ، فَقَدْ يُفِيدُهُنَّ ذَلِكَ فَيَفِئْنَ إلى الصَّوَابِ . وَإذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَجَرِّبُوا الضَّرْبَ غَيْرَ المُبَرِّحِ وَغَيْرَ المُؤْذِي ، وَهَذا لاَ يَلْجَأُ إلَيْهِ إلاَّ إذَا يَئِسَ الرَّجُلُ مِنْ رُجُوعِ المَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا إلاَّ بِهِ .
وَإذَا أَطَاعَتِ المَرْأَةُ زَوْجَهَا فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْهَا ، مِمَّا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ مِنْها ، فَلاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْها ، وَلَيْسَ لَهُ ضَرْبَهَا ، وَلاَ هُجْرَانَها ، وَلاَ إِسَاءَةُ مُعَامَلَتِهَا .
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى الرِّجَالَ إذا بَغَوْا عَلَى النِّسَاءِ بَغْيِرِ سَبَبٍ ، وَيُعْلِمُهُمْ بِأنَّهُ وَليُّهُنَّ ، وَأنَّهُ سَيَنْتَقِمُ مِمَّنْ يَبْغِي عَلَيْهِنَّ .
إن الأسرة - كما قلنا - هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية .
الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق . والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني ، وهو أكرم عناصر هذا الكون ، في التصور الإسلامي .
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأناً ، والأرخص سعراً : كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية . . . وما إليها . . . لا يوكل أمرها - عادة - إلا لأكفأ المرشحين لها؛ ممن تخصصوا في هذا الفرع علمياً ، ودربوا عليه عملياً ، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة . . .(1/294)
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً . . فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة ، التي تنشئ أثمن عناصر الكون . . العنصر الإنساني . .
والمنهج الرباني يراعي هذا . ويراعي به الفطرة ، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات ، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة . والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها ، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة . .
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله . وأن الله - سبحانه - لا يريد أن يظلم أحداً من خلقه ، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة ، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة!
وقد خلق الله الناس ذكراً وأنثى . . زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون . . وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل . . وهي وظائف ضخمة أولاً وخطيرة ثانياً . وليست هينة ولا يسيرة ، بحيث تؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلاً كذلك أن ينوط بالشطر الثاني - الرجل - توفير الحاجات الضرورية . وتوفير الحماية كذلك للأنثى؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة؛ ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل . . ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد! وكان عدلاً كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه . وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك .
وكان هذا فعلاً . . ولا يظلم ربك أحداً . .(1/295)
ومن ثم زودت المرأة - فيما زودت به من الخصائص - بالرقة والعطف ، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة - بغير وعي ولا سابق تفكير - لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها - حتى في الفرد الواحد - لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه ، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فوراً وفيما يشبه أن يكون قسراً . ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج؛ ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك ، لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى - مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شيء .
وهذه الخصائص ليست سطحية . بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة . . بل يقول كبار العلماء المختصين : إنها غائرة في تكوين كل خلية . لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى ، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين ، بكل خصائصه الأساسية!
وكذلك زود الرجل - فيما زود به من الخصائص - بالخشونة والصلابة ، وبطء الانفعال والاستجابة؛ واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة . لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائماً لحماية الزوج والأطفال . إلى تدبير المعاش . . إلى سائر تكاليفه في الحياة . . لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام؛ وإعمال الفكر ، والبطء في الاستجابة بوجه عام! . . وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها . .
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة ، وأفضل في مجالها . . كما أن تكليفه بالإنفاق - وهو فرع من توزيع الاختصاصات - يجعله بدوره أولى بالقوامة ، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة؛ والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها . .
وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني ، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي .(1/296)
قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد . ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات . ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية؛ وتكليف كل شطر - في هذا التوزيع - بالجانب الميسر له ، والذي هو معان عليه من الفطرة .
وأفضليته في مكانها . . في الاستعداد للقوامة والدربة عليها . . والنهوض بها بأسبابها . . لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة - كسائر المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً - ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها ، معان عليها ، مكلف تكاليفها . وأحد الشطرين غير مهيأ لها ، ولا معان عليها . . ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى . . وإذا هو هيىء لها بالاستعدادات الكامنة ، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي ، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى . . وظيفة الأمومة . . لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها . وفي مقدمتها سرعة الانفعال ، وقرب الاستجابة . فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي؛ وآثارها في السلوك والاستجابة!
إنها مسائل خطيرة . . أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر . . وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء . . وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة ، هددت البشرية تهديداً خطيراً في وجودها ذاته؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية ، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز .
ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها . .
لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد ، ومن تدهور وانهيار؛ ومن تهديد بالدمار والبوار ، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة .
فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة . أو اختلطت معالمها . أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصلية!(1/297)
ولعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة . وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة؛ عندما تعيش مع رجل ، لا يزاول مهام القوامة؛ وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هي القوامة! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام!
ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال - الذين ينشأون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب . إما لأنه ضعيف الشخصية ، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر . وإما لأنه مفقود : لوفاته - أو لعدم وجود أب شرعي! - قلما ينشأون أسوياء . وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما ، في تكوينهم العصبي والنفسي ، وفي سلوكهم العملي والخلقي . .
فهذه كلها بعض الدلائل ، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها ، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها!
- - - - - - - - - - - - - - -
8- المديح في الوجه
َقَالَ أَبُو بَكْرَةَ ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْراً فَقَالَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ وَاللَّهِ لَوْ سَمِعَهَا مَا أَفْلَحَ أَبَداً ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا أَثْنَى أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ فَلْيَقُلْ وَاللَّهِ إِنَّ فُلاَناً وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَداً ». مسند أحمد –( 21053) صحيح(1/298)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- - قَالَ - فَقَالَ « وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ». مِرَارًا « إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا أَحْسِبُهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَاكَ كَذَا وَكَذَا ».صحيح مسلم (7693 )
ورقم(7694 )عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَفْضَلُ مِنْهُ فِى كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ». مِرَارًا يَقُولُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ».
قَوْله : ( وَيْحك ) هِيَ كَلِمَة رَحْمَة وَتَوَجُّع ، وَوَيْل كَلِمَة عَذَاب ، وَقَدْ تَأْتِي مَوْضِع وَيْح كَمَا سَأَذْكُرُهُ .
قَوْله : ( قَطَعْت عُنُق صَاحِبك يَقُولهُ مِرَارًا ) فِي رِوَايَة يَزِيد بْن زُرَيْعٍ عَنْ خَالِد الْحَذَّاء الَّتِي مَضَتْ فِي الشَّهَادَات " وَيْحك قَطَعْت عُنُق صَاحِبك ، قَطَعْت عُنُق صَاحِبك ، مِرَارًا " وَبَيَّنَ فِي رِوَايَة وُهَيْب الَّتِي سَأُنَبِّهُ عَلَيْهَا بَعْد أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا .
قَوْله : ( إِنْ كَانَ أَحَدكُمْ ) فِي رِوَايَة يَزِيد بْن زُرَيْعٍ " وَقَالَ إِنْ كَانَ "(1/299)
قَوْله : ( لَا مَحَالَة ) أَيْ لَا حِيلَة لَهُ فِي تَرْك ذَلِكَ وَهِيَ بِمَعْنَى لَا بُدَّ وَالْمِيم زَائِدَة ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ الْحَوْل أَيْ الْقُوَّة وَالْحَرَكَة .
قَوْله : ( فَلْيَقُلْ أَحْسِب كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى ) بِضَمِّ أَوَّله أَيْ يُظَنّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَة يَزِيد بْن زُرَيْعٍ " إِنْ كَانَ يَعْلَم ذَلِكَ " وَكَذَا فِي رِوَايَة وُهَيْب .
قَوْله : ( وَاَللَّه حَسِيبه ) بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر ثَانِيه وَبَعْد التَّحْتَانِيَّة السَّاكِنَة مُوَحَّدَة أَيْ كَافِيهِ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هُنَا فَعِيل مِنْ الْحِسَاب أَيْ مُحَاسَبَة عَلَى عَمَله الَّذِي يَعْلَم حَقِيقَته ، وَهِيَ جُمْلَة اِعْتِرَاضِيَّة ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ : هِيَ مِنْ تَتِمَّة الْمَقُول ، وَالْجُمْلَة الشَّرْطِيَّة حَال مِنْ فَاعِل فَلْيَقُلْ ، وَالْمَعْنَى فَلْيَقُلْ أَحْسِب أَنَّ فُلَانًا كَذَا إِنْ كَانَ يُحْسَب ذَلِكَ مِنْهُ ، وَاَللَّه يَعْلَم سِرّه لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجَازِيه ، وَلَا يَقُلْ أَتَيَقَّن وَلَا أَتَحَقَّق جَازِمًا بِذَلِكَ .(1/300)
قَوْله : ( وَلَا يُزَكَّى عَلَى اللَّه أَحَد ) كَذَا لِأَبِي ذَرّ عَنْ الْمُسْتَمْلِيّ وَالسَّرَخْسِيّ بِفَتْحِ الْكَاف عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " وَلَا يُزَكِّي " بِكَسْرِ الْكَاف عَلَى الْبِنَاء لِلْفَاعِلِ وَهُوَ الْمُخَاطَب أَوَّلًا الْمَقُول لَهُ فَلْيَقُلْ ، وَكَذَا فِي أَكْثَر الرِّوَايَات ، وَفِي رِوَايَة غُنْدَر " وَلَا أُزَكِّي " بِهَمْزَةِ بَدَل التَّحْتَانِيَّة أَيْ لَا أَقْطَع عَلَى عَاقِبَة أَحَد وَلَا عَلَى مَا فِي ضَمِيره لِكَوْنِ ذَلِكَ مُغَيَّبًا عَنْهُ ، وَجِيءَ بِذَلِكَ بِلَفْظِ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ النَّهْي أَيْ لَا تُزَكُّوا أَحَدًا عَلَى اللَّه لِأَنَّهُ أَعْلَم بِكُمْ مِنْكُمْ .فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 225)
وقال ابن بطال : معنى هذا الحديث - والله أعلم - النهى عن أن يفرط فى مدح الرجل بما ليس فيه؛ فيدخله من ذلك الإعجاب، ويظن أنه فى الحقيقة بتلك المنزلة؛ ولذلك قال: قطعتم ظهر الرجل. حين وصفتموه بما ليس فيه. فربما ذلك على العجب والكبر، وعلى تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل، واقتصر على حاله من حصل موصوفًا بما وصف به، وكذلك تأول العلماء فى قوله عليه السلام: « احثوا التراب فى وجه المداحين » المراد به: المداحون الناس فى وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم.
ولذلك قال عمر بن الخطاب: المدح هو الذبح. ولم يرد به من مدح رجلاً بما فيه، فقد مدح رسول الله عليه السلام فى الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث فى وجه المداحين ولا أمر بذلك كقول أبى طالب:(1/301)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه تثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له فى كثير من شعره،وكعب بن زهير، وقد مدح رسول الله عليه السلام الأنصار فقال: « إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع » ومثل هذا قوله عليه السلام: « لا تطردونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، قالوا: عبد الله؛ فإنما أنا عبد الله ورسوله » أى: لاتصفونى بما ليس لى من الصفات تلتمسون بذلك مدحى، كما وصفت النصارى عيسى لما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا.
فأما وصفه بما فضله الله به وشرفه فحق واجب على كل من بعثه الله إليه من خلقه وذلك كوصفه عليه السلام بما وصفها به فقال: « أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه » .
وفى هذا من الفقه أن من رفع أمرأط فوق حده وتجاوز به مقداره بما ليس فيه، فمعتدّ آثم؛ لأن ذلك لو جاز فى أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله، ولكن الواجب أن يقصر كل أحد على ما أعطاه الله من منزلته، ولا يعدى به إلى غيرها من غير قطع عليها، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث أبى بكرة: « إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب كذا وحسيبه الله، ولا أزكى على الله أحدًا » .شرح ابن بطال - (ج 17 / ص 311)
أَسْبَابُ الْعُجْبِ :(1/302)
مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعُجْبِ كَثْرَةُ مَدِيحِ الْمُتَقَرِّبِينَ ، وَإِطْرَاءُ الْمُتَمَلِّقِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّفَاقَ عَادَةً وَمَكْسَبًا ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيْحَكَ ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ - يَقُولُهُ مِرَارًا - إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُل : أَحْسَبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ ، وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا (أخرجه البخاري ومسلم ) .
وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " الْمَدْحُ ذَبْحٌ .
وَلِذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِل أَنْ يَسْتَرْشِدَ إِخْوَانَ الصِّدْقِ ، الَّذِينَ هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ ، وَمَرَايَا الْمَحَاسِنِ وَالْعُيُوبِ ، عَلَى مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مُسَاوِيهِ الَّتِي صَرَفَهُ حُسْنُ الظَّنِّ عَنْهَا .
وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال : الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ ، إِذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ ( أخرجه أبو داود ) .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي .
وَيَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ إِذَا رَأَى مِنْ غَيْرِهِ سَيِّئَةً أَنْ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ رَأَى فِيهَا مِثْل ذَلِكَ أَزَالَهُ وَلاَ يَغْفُل عَنْهُ .(1)
- - - - - - - - - - - - - - -
9- لَوْ أَنَّ الْمَسَاكِينَ صَدَقُوا مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُمْ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 29 / ص 283)(1/303)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"لَوْلا أَنَّ الْمَسَاكِينَ يَكْذِبُونَ مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُمْ".
و عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَوْ أَنَّ الْمَسَاكِينَ صَدَقُوا مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُمْ". المعجم الكبير للطبراني(7894 و7895) وله طرق أخرى وفيه ضعف
(لولا أن المساكين) في رواية بدله السؤال (يكذبون) في دعواهم الفاقة ومزيد الحاجة (ما أفلح من ردهم) يعني يكذبون في صدق ضرورتهم وحاجتهم غالباً لا أن كلهم كذلك بل فيهم من يجعل المسألة حرفة. سمعت عائشة سائلاً يقول: من يعشيني أطعمه اللّه من ثمار الجنة فعشته فخرج فإذا هو ينادي من يعشيني فقالت: هذا تاجر لا مسكين، فلما احتمل أمرهم كذباً وصدقاً خفف أمر الرد بقوله لولا ولم يجزم وقوع التهديد وإنما رد الراد بفوات التقديس وهو التطهير بالصدقة لأن للسائل حقاً وفيه حث على إجابة السائل وتحذير من التغافل عنه والرد خوفاً من كونه صادقاً.فيض القدير، شرح الجامع الصغير(7515 )
قلت : ويؤيده قوله تعالى : {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (10) سورة الضحى
والأصل أنهم لا يسألون الناس ، كما قال تعالى : {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (273) سورة البقرة
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « أَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ ».موطأ مالك (1846 ) حسن لغيره
((1/304)
أعطوا السائل) الذي يسأل التصدق عليه بصدقة غير مفروضة (وإن) لفظ رواية الموطأ ولو (جاء على فرس) يعني لا تردّوه وإن جاء على حالة تدل على غناه كأن كان على فرس فإنه لو لم تدعه الحاجة إلى السؤال لما بذل وجهه، وزعم أن المراد لا تردّوه وإن جاء على فرس يطلب علفه وطعامه ركيك متعسف. قال الحراني: ولو في مثل هذا السياق تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها فكونه جاء على فرس يؤذن بغناه فلا يليق أن يعطى فنص عليه دفعاً للتوهم، وقال ابن حبان: هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة يتضمنها السياق والمعنى أعطوه كائناً من كان ولا تجيء هذه الحال إلا منبهة على ما كان يتوهم أنه ليس مندرجاً تحت عموم الحال المحذوفة فأدرج تحته. ألا ترى أنه لا يحسن: أعطوا السائل ولو كان فقيراً أهـ ومقصود الحديث الحث على إعطاء السائل وإن جل ولو ما قل لكن إذا وجده ولم يعارضه ما هو أهم وإلا فلا ضير في ردّه كما يفيده قوله في الحديث المار؟ إذا رددت على السائل إلخ، وقال في المطامح: قد تدخل لو في التعظيم كما هنا .فيض القدير، شرح الجامع الصغير(1162 )
- - - - - - - - - - - - - - - -
أهم المصادر
1. القرآن الكريم خط عادي
2. تفسير الطبري ت أحمد محمد شاكر
3. تفسير ابن كثير ط دار القلم - دار طيبة للنشر والتوزيع- الشاملة 2 –موقع التفاسير
4. تفسير القرطبي دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية + الشاملة 2+موقع التفاسير
5. تفسير الشوكاني (فتح القدير ) الشاملة 2+موقع التفاسير
6. التفسير الوسيط -سيد طنطاوي -موقع التفاسير http://www.altafsir.com
7. أيسر التفاسير - أسعد حومد - موقع التفاسير http://www.altafsir.com
8. صفوة التفاسير للصابوني- دار الصابوني .
9. تفسير الظلال - موقع التفاسير http://www.altafsir.com
10. مسند أحمد بن حنبل ط- موسوعة الأزهر - المكنز(1/305)
11. صحيح البخاري ط- موسوعة الأزهر - المكنز
12. صحيح مسلم ط- موسوعة الأزهر - المكنز
13. سنن أبي داود - موسوعة الأزهر - المكنز
14. سنن الترمذي - موسوعة الأزهر - المكنز
15. سنن النسائي - موسوعة الأزهر - المكنز
16. سنن ابن ماجة - موسوعة الأزهر - المكنز
17. سنن الدارمي- موسوعة الأزهر - المكنز
18. موطأ الإمام مالك - موسوعة الأزهر - المكنز
19. السنن الكبرى للبيهقي موسوعة الأزهر - المكنز
20. شعب الإيمان للبيهقي الشاملة 2 جامع الحديث النبوي
21. معجم الطبراني الكبير أبو المعاطي
22. معجم الطبراني الأوسط جامع الحديث النبوي
23. المعجم الصغير للطبراني جامع الحديث النبوي
24. مسند أبي عوانة الشاملة 2
25. مسند الشاميين للطبراني الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
26. صحيح الترغيب والترهيب الشيخ ناصر الدين الألباني- أية طبعة مرقمة
27. الترغيب والترهيب للمنذري- أية طبعة مرقمة
28. دلائل النبوة للبيهقي جامع الحديث النبوي – الشاملة 2
29. سلسلة الأحاديث الصحيحة الشيخ ناصر الدين الألباني- أية طبعة مرقمة
30. مسند أبي يعلى الموصلي جامع الحديث النبوي - وطبعة دار المأمون
31. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
32. صحيح ابن حبان جامع الحديث النبوي – وطبعة مؤسسة الرسالة
33. صحيح ابن خزيمة- الشاملة 2 – جامع الحديث النبوي
34. معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصفهاني جامع الحديث النبوي
35. مسند الحميدي - موسوعة الأزهر - المكنز
36. المستدرك للحاكم – جامع الحديث النبوي والطبعة الأساسية دار المعرفة
37. مصنف عبد الرزاق – المكتب الإسلامي
38. مسند البزار- الشاملة 2
39. مصنف ابن أبي شيبة تحقيق محمد عوامة
40. السنة لابن أبي عاصم – جامع الحديث النبوي –الشاملة 2
41. الآداب للبيهقي - جامع الحديث النبوي –الشاملة 2
42. معرفة الصحابة لأبي نعيم –جامع الحديث النبوي - الشاملة 2(1/306)
43. مسند عبد بن حميد–جامع الحديث النبوي - الشاملة 2
44. تهذيب الآثار للطبري–جامع الحديث النبوي - الشاملة 2
45. السنن الكبرى للنسائي مؤسسة الرسالة
46. صحيح الجامع الصغير الألباني -المكتب الإسلامي
47. المختارة للضياء المقدسي الشاملة 2 + المطبوع
48. الشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
49. الإبانة الكبرى لابن بطة الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
50. الرد على الجهمية للدارمي الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
51. الاعتقاد للبيهقي الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
52. المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
53. صحيح أبي داود الألباني – أية طبعة مرقمة
54. صحيح الترمذي الألباني– أية طبعة مرقمة
55. صحيح النسائي الألباني– أية طبعة مرقمة
56. صحيح ابن ماجة الألباني– أية طبعة مرقمة
57. صحيح الجامع الصغير للألباني – أية طبعة مرقمة- المكتب الإسلامي
58. شرح معاني الآثار للطحاوي – جامع الحديث النبوي
59. فوائد تمام- الشاملة 2 - جامع الحديث النبوي
60. مشكل الآثار للطحاوي– الشاملة 2 – جامع الحديث النبوي
61. حلية الأولياء لأبي نعيم الشاملة 3+ جامع الحديث النبوي
62. فضائل القرآن للفريابي – الشاملة 2- جامع الحديث النبوي
63. صفة الجنة لأبي نعيم الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
64. صِفَةُ الْجَنَّةِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
65. الزهد والرقائق لابن المبارك الشاملة 2+ جامع الحديث النبوي
66. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر – الشاملة 2
67. شروح العقيدة الطحاوية
68. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة الشاملة 2
69. التيسير بشرح الجامع الصغير ـ للمناوى - مكتبة الإمام الشافعي – الرياض
70. شرح الأربعين النووية عطية بن محمد سالم – الشاملة 2
71. عُمْدَةِ الْقَارِي للعيني الشاملة 2(1/307)
72. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين- جامع الحديث النبوي - الشاملة 2
73. فتح الباري لابن حجر العسقلاني – الشاملة 2
74. شرح صحيح مسلم للنووي – الشاملة 2
75. فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي – أي طبعة مرقمة
76. تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي المباركفوري – الشاملة 2
77. عون المعبود شرح سنن أبي داود– الشاملة 2
78. شرح ابن بطال على البخاري– الشاملة 2
79. شرح سنن أبي داود ـ عبد المحسن العباد – الشاملة 2
80. مجمع الزوائد للهيثمي– الشاملة 2- الطبعة المرقمة
81. الأسماء والصفات للبيهقي– الشاملة 2- جامع الحديث النبوي
82. شرح سنن النسائي للسندي – الشاملة 2
83. حاشية السندي على ابن ماجه - الشاملة 2
84. المنتقى - شرح الموطأ للباجي – الشاملة 2
85. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي – الشاملة 2
86. جامع العلوم والحكم لابن رجب تحقيق الفحل– الشاملة 2
87. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين عبد المحسن بن حمد العباد البدر- دار ابن القيم، الدمام - السعودية
88. الموسوعة الفقهية الكويتية – وزارة الأوقاف – الكويت
89. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح القاري– الشاملة 2
90. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي –الفكر
91. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الشاملة 2+ المطبوع
92. تقريب التهيب للحافظ ابن حجر الشاملة 2 + المطبوع
93. الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للذهبي الشاملة 2 + المطبوع
94. تهذيب الكمال للمزي الشاملة 2 + مؤسسة الرسالة
95. تعجيل المنفعة للحافظ ابن حجر الشاملة 2+ المطبوع
96. لسان الميزان للحافظ ابن حجر الشاملة 2+ المطبوع
97. سير أعملا النبلاء للذهبي الشاملة 2 + ط مؤسسة الرسالة
98. الضعفاء الكبير للعقيلي الشاملة 2 + جماع الحديث النبوي
99. الشاملة 2
100. برنامج قالون
الفهرس العام
مقدمة ... 3
حول معنى الفلاح في القرآن الكريم ... 3
الباب الأول ... 7(1/308)
صفات المفلحين في القرآن والسنة ... 7
1-الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله ... 7
2- لا يأتون البيوت إلا من أبوابها ... 12
3- يدعون على الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ... 18
4-لا يأكلون الربا ... 21
6- ابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيله ... 27
7- لا يشربون الخمر ولا يلعبون بالميسر ولا يذبحون على النصب ولا يستقسمون بالأزلام ... 28
8- بعيدون عن الخبائث وعقولهم راجحة ... 37
9- ... حسناتهم كثيرة ... 39
10- ... ذكرُ آلاء الله ... 40
11- ... اتباعُ الرسول صلى الله عليه وسلم ... 41
12- ... الثباتُ في المعركة وذكر الله كثيرا ... 45
13- الجهاد بالمال والنفس ... 49
13- ... الركوع والسجود والعبادة لله وفعل الخير ... 51
15- الإيمانُ الكامل ... 54
16- موازينهم ثقيلة بالحسنات ... 60
17- غض البصر وحفظ الفرج ... 66
18- السمع والطاعة ... 70
19- التوبة والإيمان والعمل الصالح ... 74
20- إعطاءُ الناس حقوقهم ... 75
21- محسنون ... 77
22- لا يوادون من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ... 79
23- الإيثارُ ... 83
24- الانتشارُ في الأرض وابتغاء فضل الله ... 86
25- كرماءُ ... 88
26- تزكية النفس (1) ... 91
27- تزكية النفس (2) ... 92
28-الكفافُ في الرزق ... 94
29- أداءُ الواجبات وترك المحرمات ... 95
30- قراءة بعض السور ... 99
31- أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ ... 104
32- صلاحُ الصلاة يؤدي للفلاح ... 105
33- مَنِ احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ ... 107
35- أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ ... 111
36- فضلُ صلاةِ الركعتين بعد الوضوء ... 113
38- مَنْ تمسَّكَ بالسُّنَّة فقد أفلحَ ... 117
39- فضل عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وسببه ... 119
42- أفلح من رُزقَ لبًّا ... 126
44- كثرة قراءة القرآن ... 134
47- أَفْلَحَ مَنْ حُفِظَ مِنَ الْهَوَى وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ ... 141
48- أفلح عبدُ الله المجاهدُ ... 142
البابُ الثاني ... 143
صفاتُ الذين لا يفلحون ... 143
1-الظالمون ... 143
2-المجرمون ... 149
3-المفترون على الله الكذب ... 151
4-السَّاحرونَ ... 156
5-المرتدون عن الدين ... 163
6-الكافرون ... 165(1/309)
7- لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً ... 172
8- المديح في الوجه ... 178
أهم المصادر ... 183(1/310)