صفات العميان في القرآن الكريم
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
((حقوق الطبع متاحة لجميع الهيئات العلمية والخيرية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي القائل :{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) } [الرعد/19]
والصلاة والسلام الأتمين على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز العميان ، وليس المقصود بهم هنا عميان العينين ، بل عميان القلوب والعقول ، قال تعالى :{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) } [الأعراف/179]
ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يعقلون بها، فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها، هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها، ولا تفهم ما تبصره، ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما، بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها، وهم بخلاف ذلك، أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته.
وهؤلاء لا يستمعون لدعوة الحق ولا يسمعونها ، بل ويحاربونها بكل ما أوتوا من قوة .
وقد قسمته لثلاثة أبواب :
الباب الأول - صفات العميان
وتحته عشرون مبحثاً
الباب الثاني - نتائج العمى
وتحته سبعة مباحث
الباب الثالث- علاج العمى
وتحته تسعة مباحث
هذا وقد قمت بتفسيرها بشكل مختصر ، من أمهات كتب التفسير بما يدلُّ على المراد منها ، ولم أجعله تفسيرا مطولا .
قال تعالى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) } [طه/123-126]
سائلا المولى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يبعدنا عن العمى وأن يهدينا سواء السبيل ، وأن ينفع به كاتبه وقارئه وناقله وناشره في الدارين .
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 17 رمضان 1429 هـ الموافق ل 17/9/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - -
?
تعريف العمى
قال الراغب في مفردات القرآن :
عمى
- العمى يقال في افتقاد البصر والبصيرة، ويقال في الأول: أعمى، وفي الثاني: أعمى وعم، وعلى الأول قوله: ?أن جاءه الأعمى? [عبس/2]، وعلى الثاني ما ورد من ذم العمى في القرآن نحو قوله: ?صم بكم عمي? [البقرة/ 18]، وقوله: ?فعموا وصموا? [المائدة/71]، بل لم يعد افتقاد البصر في جنب افتقاد البصيرة عمى حتى قال: ?فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور? [الحج/46]، وعلى هذا قوله: ?الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري? [الكهف/101]، وقال: ?ليس على الأعمى حرج? [الفتح/ 17]، وجمع أعمى عمي وعميان. قال تعالى: ?بكم عمي? [البقرة/171]، ?صما وعميانا? [الفرقان/73]، وقوله: ?ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا? [الإسراء/72]، فالأول اسم الفاعل، والثاني قيل: هو مثله، وقيل: هو أفعل من كذا، الذي للتفضيل لأن ذلك من فقدان البصيرة، ويصح أن يقال فيه: ما أفعله، وهو أفعل من كذا، ومنهم من حمل قوله تعالى: ?ومن كان في هذه أعمى? [الإسراء/72]، على عمى البصيرة والثاني على عمى البصر، وإلى هذا ذهب أبو عمرو (هو أبو عمرو بن العلاء توفي سنة 154. انظر: ترجمته في بغية الوعاة 2/231؛ وانظر: قول أبي عمرو هذا في البصائر 4/103.
قال الدمياطي: وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول محضة بكونه ليس أفعل تفضيل، وفتح الثاني لأنه للتفضيل، ولذا عطف عليه: و(أضل). انظر: الإتحاف ص 285.وهو عكس ما قاله الراغب)، فأمال الأولى لما كان من عمى القلب، وترك الإمالة في الثاني لما كان اسما، والاسم أبعد من الإمالة. قال تعالى: ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ? [فصلت/44]، ?إنهم كانوا قوما عمين? [الأعراف/64]، وقوله: ?ونحشره يوم القيامة أعمى? [طه/124]، ?ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما? [الإسراء/97]، فيحتمل لعمى البصر والبصيرة جميعا. وعمي عليه، أي: اشتبه حتى صار بالإضافة إليه كالأعمى قال: ?فعميت عليهم الأنباء يومئذ? [القصص/66]، ?وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم? [هود/28]. والعماء: السحاب، والعماء: الجهالة، وعلى الثاني حمل بعضهم ما روي أنه [قيل: أين كان ربنا قبل أن خلق السماء والأرض؟ قال: في عماء تحته عماء وفوقه عماء] (الحديث عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: (كان في عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء). أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، وقال ابن العربي: قد رويناه من طرقه، وهو صحيح سندا ومتنا.انظر: عارضة الأحوذي 11/273؛ وأخرجه أحمد في المسند 4/11؛ وابن ماجه 1/64)، قال: إن ذلك إشارة إلى أن تلك حالة تجهل، ولا يمكن الوقوف عليها، والعمية: الجهل، والمعامي: الأغفال من الأرض التي لا أثر بها.
ــــــــــــ(1/1)
الباب الأول
صفات العميان
1. لا يتذكرون :
قال تعالى : {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (19) سورة الرعد
لا يَسْتَوِي المُهْتَدِي مِنَ النَّاسِ ، الذِي يَعْلَمُ أَنَّ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقُّ ، الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ ، مَعَ الضَّالِّ ، الذِي لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ ، لأنَّهُ يَكُونُ كَالأَعْمَى لاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ ، وَلاَ يَفْهَمُهُ ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ إِلَيْهِ ، وَلاَ صَدَّقَ بِهِ وَلاَ انْتَفَعَ . ؟ فَالذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ ، وَالبَصَائِرِ المُدْرِكَةِ ( أُولُو الأَلْبَابِ ) .
إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا , إنما المقابل هو الأعمى ! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق . وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف . فالعمى وحده هو الذي ينشىء الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى . والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان:مبصرون فهم يعلمون , وعمي فهم لا يعلمون ! والعمى عمى البصيرة , وانطماس المدارك , واستغلال القلوب , وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح , وانفصالها عن مصدر الإشعاع . .
إنما يتذكر أولو الألباب . .الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر , وتنبه إلى دلائله فتتفكر
---------------
وقال تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر
وَهَلْ يَسْتَوِي حَالُ هَذَا المُشْرِكِ الذِي يَكْفُرُ بِنعَمِ اللهِ ، وَيُشْرِكُ بِهِ الأَصْنَامَ وَالأَنْدَادَ ، وَلاَ يَذْكُرُ الله إِلاَّ عِنْدَ الشَّدَّةِ والبَلاَءِ ، مَعَ حَالِ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ قَائِمٌ بِأَدَاءِ الطَّاعَاتِ ، وَدَائِبٌ عَلَى العِبَادَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ حِينَمَا يَكُونُ النَّاسُ نِياماً ، لاَ يَرْجُو مِنْ أَدَائِهَا غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ ، إِنَّهُمَا بِلاَ شَكٍّ لاَ يَسْتَوِيَانِ .
ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى عَدَمَ التَّسَاوِي بَيْنَ المُؤْمِنِ المُطِيعِ والكَافِرِ الجَاحِدِ ، فَقَالَ لرَسُولِهِ الكَرِيمِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤَلاَءِ : هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ مِنْ ثَوَابٍ ، وَمَا لَهُمْ فِي مَعْصِيَتِهِ مِنْ عِقَابٍ ، وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ بِحُجَجِ اللهِ ، وَيَتَّعِظُ بِهَا ، وَيَتَدَبَّرُهَا أَهَلُ العُقُولِ والأَفْهَامِ ، لاَ أَهْلَ الجَهْلِ والغَفْلَةِ .
وهي صورة مشرقة مرهفة . فالقنوت والطاعة والتوجه - وهو ساجد وقائم - وهذه الحساسية المرهفة - وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه - وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة . وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي . . هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة . فلا جرم يعقد هذه الموازنة: (قل:هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ?) . .
فالعلم الحق هو المعرفة . هو إدراك الحق . هو تفتح البصيرة . هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود . وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن , ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى , ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس .
وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة . . هذا هو . . القنوت لله . وحساسية القلب , واستشعار الحذر من الآخرة , والتطلع إلى رحمة الله وفضله ; ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة . . هذا هو الطريق , ومن ثم يدرك اللب ويعرف , وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب ; وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة . فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة , والمشاهدات الظاهرة , فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء . .
إنما يتذكر أولو الألباب . . وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق . المنتفعة بما ترى وتعلم , التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه , ولا تنسى يوم لقاه . .
ــــــــــــ(1/2)
2.سكرت أبصارهم :
قال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) } سورة الحجر
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَكْذِيبِ الكُفَّارِ لَهُ ، وَيَقُولُ لَهُ : إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى الأُمَمِ الخَالِيَةِ التِي كَانَتْ تَكْفُرُ بِرَبِّهَا ، وَتُكْذِّبُ رُسُلَهُ ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمُ اللهُ ، لأَنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبِّهِمْ .
وَلَمْ يَأْتِ أُمَّةً رَسُولٌ إِلاَّ اسْتَهْزَؤُوا بِهِ وَكَذَّبُوهُ ، لأنَّ حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ ، مُسْتَثْقَلٌ عَلَى النُّفُوسِ ، كَمَا أَنَّ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ مَا أَلِفُوهُ مِنَ المُعْتَقَدَاتِ هُوَ ثَقيلٌ أَيْضاً .
وَكَذَلِكَ يُلْقِي اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ ، وَيَسْلُكُهُ فِيها مُكَذَّباً بِمَا فِيهِ ، مُسْتَهْزَأً بِهِ غَيْرَ مَقْبُولٍ لَدَيْهِمْ لأنَّهُ لَيْسَ فِي نُفُوسُهُمْ اسْتِعْدَادٌ لِتَلَقِّي الحَقِّ ، وَلاَ تُضِيءُ نُفُوسُهُمْ بِمَصَابِيحِ هِدَايَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ كَمَا فَعَلَ الذِينَ مِنَ قَبْلِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ ، فَلَكَ يَا مُحَمَّدُ أُسْوَةٌ بِمَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ .
وَقَوْمُكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَذا القُرْآنِ مَعَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِمَا فَعَلَهُ اللهُ بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ العَذَابِ وَالاسْتِئْصَالِ ، وَكَيْفَ نَجَّى رُسُلَهُ وَالذِينَ آمَنُوا لَهُمْ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ ، وَسَيَحِلُّ بِهؤُلاَءِ الذِينَ يُكَذِّبُونَكَ مَا حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ ، وَنَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ حِينٍ .
إِنَّ هؤُلاَءِ الكَفَرَةَ المُعَانِدِينَ يَطْلُبُونَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ لِيُؤْمِنُوا لَكَ ، وَلَكِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا ، حَتَّى إِنَّنا لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَظَلُّوا يَصْعَدُونَ فِي ذَلكَ البَابِ فَيَرَوْنَ مَنْ فِي السَّمَاءِ مِنَ المَلائِكَةِ ، وَمَا فِيهَا مِنَ العَجَائِبِ لِمَا صَدَّقُوا بِذَلِكَ .
وَلَقَالُوا : لَقَدْ سُدَّتْ أَبْصَارُنا ، وَحُبِسَتْ عَنِ النَّظَرِ ، وَشُبِّهَ عَلَيْنَا ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا ) ، وَسُحِرْنَا ، فَمَا نَرَاهُ هُوَ تَخَيُّلٌ لاَ حَقِيقَةَ لَهُ ، وَقَدْ سَحَرَنَا مُحَمَّدُ بِمَا يَظْهَرُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ الآيَاتِ . فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ ، فَكَيْفَ يَقْتَرِحُ عَلَيْكَ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ؟
ولقد بذل أعداء هذا الدين - وفي مقدمتهم اليهود - رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين الله . وقدروا على أشياء كثيرة . . قدروا على الدس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى تاريخ الأمة المسلمة . وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون . وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين . وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون , وبخاصة في العصر الحديث . .
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد - والظروف الظاهرية كلها مهيأة له - . . لم يقدروا على إحداث شيء فيهذا الكتاب المحفوظ , الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه ; وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع ; فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب , وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقا تنزيل من عزيز حكيم .
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد وعد . أما هو اليوم - من وراء كل تلك الأحداث الضخام ; ومن وراء كل تلك القرون الطوال . فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب , والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول: (إنا نحن نزلنا الذكر , وإنا له لحافظون) . . وصدق الله العظيم . .
ويعزي الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فيخبره أنه ليس بدعا من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والتكذيب , فهكذا المكذبون دائما في عنادهم الذميم:
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين . وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . .
وعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم , يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به . وعلى هذا النحو نجري هذا التكذيب في قلوبهم التي لا تتدبر ولا تحسن الاستقبال , جزاء ما أعرضت وأجرمت في حق الرسل المختارين: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين) . .
نسلكه في قلوبهم مكذبا بما فيه مستهزأ به ; لأن هذه القلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا النحو . سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية أم في الأجيال اللاحقة ; فالمكذبون أمة واحدة , من طينة واحدة: (وقد خلت سنة الأولين) . .
وليس الذي ينقصهم هو توافر دلائل الإيمان , فهم معاندون ومكابرون , مهما تأتهم من آية بينة فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون .
وهنا يرسم السياق نموذجا باهرا للمكابرة المرذولة والعناد البغيض: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون , لقالوا:إنما سكرت أبصارنا , بل نحن قوم مسحورون) . .
ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها . يصعدون بأجسامهم , ويرون الباب المفتوح أمامهم , ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها . . ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون:لا . لا . ليست هذه حقيقة . إنما أحد سكر أبصارنا وخدرها فهي لا ترى إنما تتخيل: (إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) . . سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر , فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكر مسحور !
يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري . ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء . ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان . وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل . فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة . إنما هم قوم مكابرون . مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف !
إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير , مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير . .
وهذا النموذج ليس محليا ولا وقتيا , ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين . . إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته , وتستغلق بصيرته , وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي , وينقطع عن الوجود الحي من حوله , وعن إيقاعاته وإيحاءاته .
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها "المذاهب العلمية ! " وهي أبعد ما تكون عن العلم ; بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة . .
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ; ويجادلون في وجوده - سبحانه - وينكرون هذا الوجود . . ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله , والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته , بلا خالق , وبلا مدبر , وبلا موجه . . يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و "أخلاقية ! " كذلك . ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس , والتي لا تنفصل عنه بحال . . "علمية " . . هي وحدها "العلمية " !
وعدم الشعور بوجود الله سبحانه , مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية , هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النكدة . كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة:
(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا:إنما سكرت أبصارنا , بل نحن قوم مسحورون !) . .
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء . وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا هامسا وجاهرا , باطنا وظاهرا , بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار .
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته ; وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره ; كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه . . وهي موافقات لا تحصى . . إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري , كما ترفضه الفطرة من أعماقها . وكلما توغل "العلم" في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته ; رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده ; واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه . . هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته . قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجيء إلا أخيرا !
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته , ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده . كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة . وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا . . كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا:
يقول عالم الأحياء والنبات "رسل تشارلز إرنست" الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا:"لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ; فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين , أو من الفيروس , أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية , قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة , يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة , فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك , فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله , الذي خلق الأشياء ودبرها .
"إنني اعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيمانا راسخا"
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة . إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة . والمنطق السائد في بحثه هو منطق "العلم الحديث" - بكل خصائصه - لا منطق الإلهام الفطري , ولا منطق الحس الديني . ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري , كما يقررها الحس الديني . ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود , اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها ; أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا !
والذين يجادلون في الله - مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل , وعن منطق الكون . . أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا . . إنهم العمي الذين يقول الله تعالى فيهم: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) .
وإذا كانت هذه حقيقتهم ; فإن ما ينشئونه من مذاهب "علمية ! " اجتماعية وسياسية واقتصادية ; وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني ; يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط , صادر عن أعمى , معطل الحواس الأخرى , محجوبا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعا - على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها . وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئا ; فضلا على أن يكيف نظرته , ويقيم منهج حياته , على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلا !
إن هذه قضية إيمانية اعتقادية , وليست قضية رأي وفكر ! إن الذي يقيم تفكيره , ويقيم مذهبه في الحياة , ويقيم نظام حياته كذلك , على أساس أن هذا الكون المادي هو منشى ء ذاته , ومنشى ء الإنسان أيضا . . إنما يخطئ في قاعدة الفكر والمذهب والنظام ; فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ; ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم , يقيم اعتقاده وتصوره , ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره . ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى "الاشتراكية العلمية " منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء ! ويصبح الأخذ بما يسمى "الاشتراكية العلمية " - وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء أنظمتها - عدولا جذريا عن الإسلام:اعتقادا وتصورا ثم منهجا ونظاما . . حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك "الاشتراكية العلمية " واحترام العقيدة في الله بتاتا . ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والإسلام . . وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها . .
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان ; إما أن يتخذوا الإسلام دينا , وإما أن يتخذوا المادية دينا . فإذااتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا "الاشتراكية العلمية " المنبثقة من "الفلسفة المادية " , والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه , نظاما . . وعلى الناس أن تختار . . إما الإسلام , وإما المادية , منذ الابتداء !
إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير . إنما هو نظام قائم على عقيدة . . كما أن "الاشتراكية العلمية " - بهذا الاصطلاح - ليست قائمة على هواء , إنما هي منبثقة انبثاقا طبيعيا من "المذهب المادي" الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر أصلا , ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي . . ومن ثم ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى "الاشتراكية العلمية " بكل تطبيقاتها !
ولا بد من الاختيار بينهما . . ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار !!!
ــــــــــــ(1/3)
3.لا يسمعون ولا يرون :
قال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (179) سورة الأعراف
لَقَدْ خَلَقْنَا كَثيراً مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ لِيَكُونُوا وَقُوداً لِجَهَنََّمَ ، لأنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ أهْلِهَا ، وَلاَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيءٍ مِنْ جَوَارِحِهِمْ التِي جَعَلَها اللهُ سَبِيلاً لِلْهِدَايَةِ ، فَلاَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ بِآذَانِهِم ، وَلا يَفْقَهُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ ، وَلا يَرَوْنَ النُّورَ بِعُيُونِهِمْ ، فَهُمْ كَالبَهَائِمِ وَالأنْعَامِ السَّارِحَةِ ، لاَ تَنْتَفِعُ بِحَوَاسِّهَا إلا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعَاشِهَا وَبَقَائِهَا ، أوْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الدَّوَابِّ وَأكْثَرُ ضَلالاً ، لأنَّ الدَّوَابَّ قَدْ تَسْتَجِيبُ لِراعِيها إذا أنِسَتْ بِهِ ، وَإنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلاَمَهُ ، بِخِلافِ هَؤُلاءِ . ولأنَّ الدَّوَابَّ تَفْعَلُ مَا خُلِقَتْ لَهُ ، إمَّا بِطَبْعِهَا وَإمَّا بِتَسْخِيرِهَا . أمَّا الكَافِرُونَ فِإِنَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللهَ وَيُوَحِّدُ هُ ، فَكَفَرُوا بِاللهِ ، وَأشْرَكُوا بِهِ فَهُمُ الغَافِلُونَ .
ثم بيان لطبيعة الهدى وطبيعة الكفر . يكشف عن أن الكفر تعطلٌ في أجهزة الفطرة يحول دون تلقي هدى الله , وينتهي بالخسارة المطلقة:(من يهد الله فهو المهتدي , ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون . ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس , لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام بل هم أضل . أولئك هم الغافلون) .
إن مشيئة الله سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني , هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج للهدى والضلال . . وذلك مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية الواحدة والاتجاه إليها . ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى . ومع إرسال الرسل بالبينات لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت وهداية العقل إذا ضل . . ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك الاستعداد المزدوج للهدى والضلال الذي خلق الإنسان به , وفق مشيئة الله التي جرى بها قدره .
كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري قدر اللّه بهداية من يجاهد للهدى . وأن يجري قدر اللّه كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه اللّه من عقل وما أعطاه من أجهزه الرؤية والسمع في إدراك الآيات المبثوثة في صفحات الكون , وفي رسالات الرسل , الموحية بالهدى .
وفي كل الحالات تتحقق مشيئة اللّه ولا يتحقق سواها , ويقع ما يقع بقدر اللّه لا بقوة سواه . وما كان الأمر ليكون هكذا إلا أن اللّه شاءه هكذا . وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر اللّه . فليس في هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور , كما أنه ليس هناك قوة إلا قدر اللّه ينشىء الأحداث . . وفي إطار هذه الحقيقة الكبيرة يتحرك الإنسان بنفسه , ويقع له ما يقع من الهدى والضلال أيضاً . .
وهذا هو التصور الإسلامي الذي تنشئه مجموعة النصوص القرآنية مقارنة متناسقة , حين لا تؤخذ فرادى وفق أهواء الفرق والنحل , وحين لا يوضع بعضها في مواجهة البعض الآخر , على سبيل الاحتجاج والجدل !
وفي هذا النص الذي يواجهنا هنا: (من يهد اللّه فهو المهتدي , ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) .
يقرر أن من يهديه الله - وفق سنته التي صورناها في الفقرة السابقة - فهو المهتدي حقاً , الواصل يقيناً , الذي يعرف الطريق , ويسير على الصراط , ويصل إلى الفلاح في الآخرة . . وأن الذي يضله الله - وفق سنته تلك - فهو الخاسر الذي خسر كل شيء ولم يربح شيئاً . . مهما ملك , ومهما أخذ ; فكل ذلك هباء أو هواء ! وإنه لكذلك إذا نظرنا إليه من زاوية أن هذا الضال قد خسر نفسه . وماذا يأخذ وماذا يكسب من خسر نفسه ?!
ويؤيد ما ذهبنا إليه في فهم الآية السابقة وأخواتها نص الآية التالية: ولقد ذرانا لجهنم كثيراً من الجن والإنس . لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام , بل هم أضل . . أولئك هم الغافلون . . إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم ! وهم مهيأون لها ! فما بالهم كذلك ?
هنالك اعتباران:
الاعتبار الأول:أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم . . وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم . فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث .
والاعتبار الثاني:أن هذا العلم الأزلي - الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث - ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم . إنما هم كما تنص الآية:
(لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها) . .
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا - ودلائل الإيمان والهدى حاضرة في الوجود وفي الرسالات تدركها القلوب المفتوحة والبصائر المكشوفة - وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية . ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة . لقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ولم يستخدموها . . لقد عاشوا غافلين لا يتدبرون: (أولئك كالأنعام , بل هم أضل , أولئك هم الغافلون) . .
والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة ; والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله . . أولئك كالأنعام بل هم أضل . . فللأنعام استعدادات فطرية تهديها . أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة . فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا . إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ; ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها ; ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها . . فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية . . ثم هم يكونون من ذرء جهنم ! يجري بهم قدر الله إليها وفق مشيئته حين فطرهم باستعداداتهم تلك , وجعل قانون جزائهم هذا . فكانوا - كما هم في علم الله القديم - حصب جهنم منذ كانوا !
ــــــــــــ(1/4)
4.العمى والصمم :
قال تعالى :{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)} سورة المائدة
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ أَخَذَ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فِي التَّوْرَاةِ ، عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى ، وَعَلَى اتِّبَاعِ الأَحْكَامِ التِي شَرَعَهَا لِهَدْيِ خَلْقِهِ ، وَعَلَى تَحَلِّيهِمْ بِالفَضَائِلِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ ، وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ، وَأنَّهُ أرْسَلَ إلَيْهِمُ النًّبِيِّينَ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ ، وَيُؤَكِّدُوا عَهْدَ اللهِ ، فَنَقَضُوا العَهْدَ وَالمِيثَاقَ ، وَاتَّبَعُوا آرَاءَهُمْ ، وَقَدَّمُوهَا عَلَى الشَرَائِعِ ، فًَمَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ مِنَ الشَرَائِعِ قَبَلُوهُ ، وَمَا خَالَفَهَا رَدُّوهُ ، وَرَفَضُوهُ ، وَكُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَاهُ أَنْفُسَهُمْ ، وَلاَ يَتَّفِقُ مَعَ رَغَبَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ ، كَذَّبُوهُ أَوْ قَتَلُوهُ .
وَظَنُّوا أنَّ اللهَ لَنْ يَخْتَبِرَهُمْ بِشَدَائِدِ الأُمُورِ ، كَتَسْلِيطِ الأُمَمِ القَوِيَّةِ عَلَيْهِم بِالقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالاضْطِهَادِ ، لِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، وَلِمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ مِنْ أنَّ نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِمْ سَتَدْفَعُ عَنْهُمُ العِقَابَ الذِي يَسْتَحِقُونَهُ بِسَبَبِ قَتْلِ الأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ ، فَعَمُّوا عَنْ آيَاتِ اللهِ التِي أَنْزَلَها فِي كُتُبِهِ عَنْ عِقَابِ المُفْسِدِينَ ، فَلَمْ يُبْصِرُوهَا ، وَصَمُّوا أَسْمَاعَهُمْ عَنْ سَمَاعِ المَوَاعِظِ فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَا ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِم مَنْ أَذَاقَهُمُ الذُّلَّ ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى اللهِ تَائِبِينَ فَتَقَّبلَ مِنْهُم تَوْبَتَهُمْ ، وَأَعَادَ إِلَيْهِمْ عَزْمَهُمْ ، ثُمَّ عَادَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلاَلِ ، وَصَارُوا كَالعُمْيِ الصُّمِّ ، بِسَبَبِ دَعْوَتِهِمْ إلَى ظُلْمِهِمْ ، وَأَعْمَالِهِمْ السَّيِّئَةِ ، وَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا .
وسجل بني إسرائيل مع أنبيائهم حافل بالتكذيب والإعراض ; حافل بالقتل والاعتداء ! حافل بتحكيم الشهوات والأهواء .
ولعله من أجل ذلك قص الله تاريخ بني إسرائيل على الأمة المسلمة في تفصيل وتطويل . . لعلها تتقي أن تكون كبني إسرائيل ; ولعلها تحذر مزالق الطريق , أو لعل الواعين منه الموصولين بالله يدركون هذه المزالق ; أو يتأسون بأنبياء بني إسرائيل حين يصادفون ما صادفوا وأجيال من ذراري المسلمين تنتهي إلى ما انتهى إليه بنو إسرائيل , حين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ; فتحكم الهوى ; وترفض الهدى , وتكذب فريقا من الدعاة إلى الحق , وتقتل فريقا ; كما صنع بغاة بني إسرائيل , في تاريخهم الطويل !
لقد صنع بنو إسرائيل تلك الآثام كلها ; وهم يحسبون أن الله لن يفتنهم بالبلاء , ولن يأخذهم بالعقاب .حسبوا هذا الحسبان غفلة منهم عن سنة الله ; وغرورا منهم بأنهم "شعب الله المختار" !
(وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموًا) . . طمس الله على أبصارهم فلا يفقهون مما يرون شيئا ; وطمس على مسامعهم فلا يفيدون مما يسمعون شيئا . .
(ثم تاب الله عليهم) . . وأدركهم برحمته . . فلم يرعووا ولم ينتفعوا: (ثم عموا وصموا . كثير منهم . .) (والله بصير بما يعملون) . . وهو مجازيهم بما يراه ويعلمه من أمرهم . . وما هم بمفلتين . . ويكفي أن يعرف الذين آمنوا هذا التاريخ القديم عن يهود , وهذا الواقع الجديد ; لتنفر قلوبهم المؤمنة من ولائهم , كما نفر قلب عبادة بن الصامت ; فلا يتولاهم إلا المنافقون من أمثال عبدالله بن أبى بن سلول !
ــــــــــــ(1/5)
5.الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام :
قال تعالى :{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) } سورة محمد
فَلَعَلَكُمْ يَا أيُّها المُنَافِقُونَ إِنَ تولَّيتُمْ عَنِ الجِهَادِ خَوْفاً وَفَزَعاً مِن أَهْوَالِ الحَرْبِ ، تَخْرُجُونَ مِنَ الإِسْلامِ الذي دَخْلَتُمُوهُ في الظَّاهِرِ ، وَتَعُودُونَ إلى مَا كُنْتُم عَلَيهِ في الجَاهِليَّةِ تُفِسدُونَ في الأَرْضِ وَتَقْطَعُونَ أرْحَامَكُمْ . ( وَقَدْ يَكُونُ المَعْنى : فَلَعَلَّكُم إنْ تَوَلَّيتُمُ الحُكْمَ وَأمُورَ الأمَّةِ تَعْمَدُونَ إلى الإِفسَادِ في الأَرْضِ وَتَقْطِيعِ الأرْحَامِ ) .
وَالذِينَ يَبْلُغُ بِهِم الأمْرُ حَدَّ التَّوَلِّي عَنِ الجِهَادِ ، وَعَنِ الإِيمان ، وَحَدَّ الإِقْدَامِ عَلَى الإِفسَادِ في الأَرْضِ وَقَطْعِ الأرْحَامِ ، هُمُ الذِينَ طَرَدَهُمُ اللهُ مِنْ رَحَمْتِهِ ، فأصَمَّهُمْ عَنِ الانْتِفَاعِ بِما يَسْمَعُونَ ، وَأعْمَى أبْصَارَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ مَا نَصَبَ اللهُ في الكَوْنِ مِنْ آياتٍ ، وَعَنِ الاعْتِبَارِ بِها .
وهذا التعبير . . (هل عسيتم) . . يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين . ويلوح لهم بالنذير والتحذير . . احذروا فإنكم منتهون إلى أن تعودوا إلى الجاهلية التي كنتم فيها . تفسدون في الأرض وتقطعون الأرحام , كما كان شأنكم قبل الإسلام . . وبعد هذه اللفتة المفزعة المنذرة لهم يعود إلى الحديث عنهم لو انتهوا إلى هذا الذي حذرهم إياه: (أولئك الذين لعنهم الله , فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ?) .
أولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الأمر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه , ولم يستيقنوه . (أولئك الذين لعنهم الله) . . وطردهم وحجبهم عن الهدى , (فأصمهم وأعمى أبصارهم) . . وهم لم يفقدوا السمع , ولم يفقدوا البصر ; ولكنهم عطلوا السمع وعطلوا البصر , أو عطلوا قوة الإدراك وراء السمع والبصر ; فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لأنها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة . ويتسائل في استنكار: (أفلا يتدبرون القرآن) . . وتدبر القرآن يزيل الغشاوة , ويفتح النوافذ , ويسكب النور , ويحرك المشاعر , ويستجيش القلوب , ويخلص الضمير . وينشيء حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير , (أم على قلوب أقفالها ?) فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور ? فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور !
ــــــــــــ(1/6)
6. الاستكبار في الأرض واستحباب العمى على الهدى :
قال تعالى :{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} فصلت
أَمَّا عَادٌ فَإِنَّهُمْ بَغَوْا وَعَصَوْا رَبَّهُمْ ، وَاغْتَرُّوا بِقُوَّتِهِمْ فَقَالُوا : مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوّةً حَتَّى يَسْتَطِيعَ قَهْرَنَاً وَإِذْلاَلَنَا؟ وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مُوَبِّخاً : أَلاَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَنْ يُبَارِزُونَ بِالعَدَاوَةِ؟ إِنَّهُ العَظِيمُ الذِي خَلَقَ الأَشْيَاءَ ، وَرَكَّبَ فِيهَا القُوَّةَ الحَامِلَةَ لَهَا ، وَإِنَّ بَطْشَهُ شَدِيدٌ ، وَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ فِيهِمْ بَأْسَهُ وَعَذَابَهُ . وَكَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسَلِهِ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهَا ، وَلَكِنَّهُمْ جَحَدُوهَا ، وَعَصَوا رُسُلَ رَبِّهِمْ . فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ رَيحاً شَدِيدَةَ الهُبُوبِ ، أَوْ شَدِيدَةَ البُرُودَةِ ( صَرْصَراً ) تُهْلِكُ بِشِدَّتِهَا أَوْ بِشِدَّةِ بُرُودَتَهَا ، وَإِذَا هَبَّتْ سُمِعَ لَهَا صَوْتٌ قَوِيٌّ لِتَكُونَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى اغْتِرَارِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ ، وَقَدْ أَرْسَلَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ شُؤْمٍ مُتَتَابِعَةٍ ( نَحِسَاتٍ ) ، لِيُذِيقَهُمْ عَذَابَ الذُّلِّ وَالهَوَانِ فِي الحِيَاةِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الاسْتِكْبَارِ . وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ خِزْياً وَإِهَانَةً مِنْ عِذَابِ الدُّنْيَا ، وَلاَ يَجِدُونَ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ نَصِيراً وَلاَ مُعِيناً . أَمَّا ثَمُودُ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمُ الحَقَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ صَالِحٍ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَكَذَّبُوهُ وَاسْتَحَبّوا العَمَى عَلَى الهُدَى ، وَالكُفْرَ عَلَى الإِيْمَانِ ، فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَرَجْفَةً وَذُلاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الكُفْرِ والآثَامِ ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِ اللهِ .
وَنَجَّى اللهُ تَعَالَى صَالِحاً وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ العَذَابِ ، فَلَمْ يُوقِعْهُ بِهِمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ ، وَأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَاتِ .
وهذا الإنذار المرهوب المخيف: (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب , وتبجح المشركين الذي حُكي في مطلع السورة , وشذوذ كفار البشر من موكب الوجود الكبير الذي عُرض قبل هذا الإنذار . وقد روى ابن اسحاق قصة عن هذا الإنذار قال:حدثني يزيد بن زياد , عن محمد بن كعب القرظي , قال:حدثت أن عتبة بن ربيعة , وكان سيداً , قال يوماً وهو جالس في نادي قريش , ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده:يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ? - وذلك حين اسلم حمزة - رضي الله عنه - ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون - فقالوا:بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يابن أخي . إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم , وسفهت أحلامهم , وعبت به آلهتهم ودينهم , وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها , لعلك تقبل منها بعضها . قال:فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قل يا ابا الوليد أسمع " . قال:يابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ; وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ; وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ; وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء , وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . . أو كما قال . . حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال:" أفرغت يا أبا الوليد ? " قال:نعم . قال:" فاستمع مني " . قال:أفعل . قال: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون , بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها , وألقى يديه خلف ظهره , معتمداً عليهما , يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد , ثم قال:" قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه , فقال بعضهم لبعض:نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا:ما وراءك يا أبا الوليد ? قال:ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالسحر , ولا بالشعر , ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي . . خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه , فاعتزلوه , فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ , فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم , وإن يظهر على العرب فملكه ملككم , وعزه عزكم , وكنتم أسعد الناس به . قالوا:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال:هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم . وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح - وهو ابن عبدالله الكندي الكوفي [ قال ابن كثير:وقد ضُعف بعض الشيء ] عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - إلى قوله:(فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فأمسك عتبه على فيه . وناشده الرحم , ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش , واحتبس عنهم . . . الخ . . ثم لما حدثوه في هذا قال:" فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف . وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب . فخشيت أن ينزل بكم العذاب " . . فهذه صورة من وقع هذا الإنذار من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلب رجل لم يؤمن ! ولانترك هذه الرواية قبل أن نقف وقفة قصيرة أمام صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدب النفس الكبيرة وطمأنينة القلب المؤمن . وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه , وقلبه مشغول بما هو اعظم , حتى لتبدو هذه الخواطر مقززة تثير الاشمئزاز:ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاها حليماً , ويستمع كريماً , وهو مطمئن هادىء ودود . لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة . حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة:" أفرغت يا أبا الوليد ? " . فيقول:نعم . فيقول:صلى الله عليه وسلم ; " فاستمع مني " ولا يفاجئه بالقول حتى يقول:أفعل . وعندئذ يتلو صلى الله عليه وسلم في ثقة وفي طمأنينة وفي امتلاء روح قول ربه لا قوله: بسم الله الرحمن الرحيم . حم . . . . .
إنها صورة تلقي في القلب المهابة . والثقة . والمودة . والاطمئنان . . ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه . . الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين !
صلى الله عليه وسلم . . وصدق الله العظيم: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) . .
ونعود بعد هذه الوقفة القصيرة إلى النص القرآني الكريم: (فإن أعرضوا فقل:أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . . .) . . إنها جولة في مصارع الغابرين , بعد تلك الجولة في ملكوت السماوات والأرض . جولة تهز القلوب المستكبرة برؤية مصارع المستكبرين: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله) . . الكلمة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعين . وقام عليها بنيان كل دين . (قالوا:لو شاء ربنا لأنزل ملائكة . فإنا بما أرسلتم به كافرون) . . وهي كذلك الشبهة المتكررة التي ووجه بها كل رسول . وما كان لرسول يخاطب البشر أن يكون إلا من البشر . يعرفهم ويعرفونه . ويجدون فيه قدوة واقعية , ويعاني هو ما يعانونه . ولكن عاداً وثمودا أعلنوا كفرهم برسلهم , لأنهم بشر لا ملائكة كما كانوا يقترحون !
وإلى هنا أجمل مصير عاد وثمود . وهو واحد . إذ انتهى هؤلاء وهؤلاء إلى الأخذ بالصاعقة . ثم فصل قصة كل منهما بعض التفصيل: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق . وقالوا:من أشد منا قوة ?) . . إن الحق أن يخضع العباد لله , وألا يستكبروا في الأرض , وهم من هم بالقياس إلى عظمة خلق الله . فكل استكبار في الأرض فهو بغير الحق . استكبروا واغتروا (وقالوا:من أشد منا قوة ?) . . وهو الشعور الكاذب الذي يحسه الطغاة . الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف إلى قوتهم . وينسون: أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ? .
إنها بديهة أولية . . إن الذي خلقهم من الأصل أشد منهم قوة . لأنه هو الذي مكن لهم في هذا القدر المحدود من القوة . ولكن الطغاة لا يذكرون: وكانوا بآياتنا يجحدون . .
وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم ! ويتباهون بقوتهم . إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات . لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) . . إنها العاصفة الهوجاء المجتاحة الباردة في أيام نحس عليهم . وإنه الخزي في الحياة الدنيا . الخزي اللائق بالمستكبرين المتباهين المختالين على العباد . . ذلك في الدنيا . . وليسوا بمتروكين في الآخرة: (ولعذاب الآخرة أخزى . وهم لا ينصرون) . . (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) . . ويظهر أن هذه إشارة إلى اهتدائهم بعد آية الناقة , ثم ردتهم وكفرهم بعد ذلك . وإيثارهم العمى على الهدى . والضلال بعد الهدى عمى أشد العمى !
(فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) . . والهوان أنسب عاقبة . فليس هو العذاب فحسب , وليس هو الهلاك فحسب . ولكنه كذلك الهوان جزاء على العمى بعد الإيمان .
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . .
وتنتهي الجولة على مصرع عاد وثمود . والإنذار بهذا المصرع المخيف المرهوب . ويتكشف لهم سلطان الله الذي لا ترده قوة ولا يعصم منه حصن , ولا يبقي على مستكبر مريد .
ــــــــــــ(1/7)
7.عدم اهتدائهم بالقرآن :
قال تعالى :{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)} فصلت
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى المُشْرِكِينَ العَرَبَ بِمَا أَنْعَمَهُ عَلَيْهِمْ إِذْ أَنّزَلَ عَلَيْهِمْ القُرْآنَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِيَفْهَمُوهُ ، وَيَتَدَبَّرُوا أَحْكَامَهُ . ثُمَّ يُشِيرُ تَعَالَى إِلَى طَريقَتِهِمْ فِي العِنَادِ ، وَالمُكَابَرَةِ ، وَيَسْتَنْكِرُها عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمِ القُرْآنَ بِلُغَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ لاَعْتَرَضُوا عَلَيْهِ ، وَلَقَالُوا : لَوْلاَ جَاءَ عَرَبيّاً فَصِيحاً مُفَصّلاً دَقِيقاً .
وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بَعْضَهُ عَرَبِياًً وَبَعْضَهُ أَعْجَمِيّاً لاَعْتَرَضُوا كَذَلِكَ وَلَقَالُوا : أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟؟
وَحِينَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ القُرْآنُ عَرَبِياً مُبِيناً قَالُوا : لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ . فَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ إِلاَّ الجَدَلَ والمُكَابَرَةَ وَالمُعَانَدَةَ ، وَهَذَا القُرْآنُ هُوَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ يَهْتَدُونَ بِأَحْكَامِهِ وَبِمَا جَاءَ فِيهِ ، وَهُوَ شِفَاءٌ لِنُفُوسِهِمْ . أَمَّا الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فَقُلُوبُهُمْ مَطْمُوسَةٌ لاَ تَفْقَهُ ، وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَصَمَمٌ ، فَلاَ تَسْمَعُ ، وَفِي قُلُوبِهِمْ عَمًى فَلاَ تَتَبَيَّنُ مِنْهُ شَيئاً . فَكَأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ يُنَادِيهِ أَحدٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَ مِنْهُ مَا يَقُولُهُ لَهُ . ( أَوْ أَنَّ هَذَا القُرْآنَ بَعِيدٌ جِداً مِنْ قُلُوبِهِمْ ) .
فهم لا يصغون إليه عربياً , وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم . فيقولون:لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ولو جعله الله قرآنا أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً , وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً ! ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي ?! فهو المراء والجدل والإلحاد .
والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل , هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء , فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته , فتهتدي به وتشتفي . فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب , فهو وقر في آذانهم , وعمى ً في قلوبهم . وهم لا يتبينون شيئاً . لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه:
(قل:هو للذين آمنوا هدى وشفاء , والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر , وهو عليهم عمى ً , أولئك ينادون من مكان بعيد) . .
ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة . فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء , ويحييها إحياء ; ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها . وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم , ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى . وما تغير القرآن . ولكن تغيرت القلوب . وصدق الله العظيم .
--------------------
وقال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ بَأنْ يَتَدَّبُروا مَعَانِيَ القُرْآنِ ، وَيَتَفَّهَمُوا مَا فِيهِ مِنْ إِحْكَامٍ وَبَلاَغَةٍ ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ ، لَعَلِمُوا أنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأنَّ مَا وَعَدَ بِهِ اللهُ المُتَّقِينَ الصَّادِقِينَ وَمَا أَنْذَرَ بِهِ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ ، وَاقِعٌ لاَ مَحَالَةَ . وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ ، وَلاَ اضْطِرَابَ ، وَلاَ تَعَارُضَ ، لأنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، وَلَوْ كَانَ مُنْزَلاً مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَمَا خَلاَ مِنِ اخْتِلافٍ وَتَعَارُضٍ ، لأنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَمَلِ المَخْلُوقَاتِ ، وَعَمَلُ المَخْلُوقَاتِ لاَ يَخْلُو مِنَ الاخْتِلافِ وَالتَّنَاقُضِ
وهنا يعرض عليهم القرآن خطة , هي غاية ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني , واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه , الذي وهبه له الخالق المنان . يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبر عقولهم . . ويعين لهم منهج النظر الصحيح ; كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطى ء إذا اتبعها ذلك المنهج . وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة ; ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى . . ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى: أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا . .
وفي هذا العرض , وهذا التوجيه , منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها . وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى !
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا . . ومستوياتها ومجالاتها , مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها . ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه , في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد , وكل جيل , مخاطب بهذه الآية . ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف , أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه . .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه , وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة . ظاهرة عدم الاختلاف . . أو ظاهرة التناسق . . ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية . . ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ; التوفيق والتعثر . القوة والضعف . التحليق والهبوط . الرفرفة والثقلة . الإشراق والانطفاء . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر . وأخصها سمة "التغير" والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال . يبدو ذلك في كلام البشر , واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد , أو المفكر الواحد , أو الفنان الواحد , أو السياسي الواحد , أو القائد العسكري الواحد . . أو أي كان في صناعته ; التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا . . وهو:التغير , والاختلاف . .
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو:الثبات , والتناسق , هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه , والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى . . كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان . . إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية ; ويدل على الصانع . يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال , ولا تتوالى عليه الأحوال ! .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف . . والتناسق المطلق الشامل الكامل . . بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحملهالعبارات . ويؤديه الأداء . . منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ; ثم بين دنياه وآخرته ; وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد ; وفي عالم "الإنسان" وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام . .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني , فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع . فما من نظرية بشرية , وما من مذهب بشري , إلا وهو يحمل الطابع البشري . . جزئية النظر والرؤية . . والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية . . وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة ; التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ; أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها . . إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف , الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود , ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة , فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل , الثابت الأصول ; ثبات النواميس الكونية ; الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية !
وتدبر هذه الظاهرة , في آفاقها هذه , قد لا يتسنى لكل إدراك , ولا يتسنى لكل جيل . بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ; وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية , في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة . . إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك , ويلتقي عليها كل جيل . . وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر . وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت , وإنما وحدة وتناسق . . ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق ! .
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة , كما يكل كل أحد , وكل جماعة , وكل جيل . وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن ; وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله . ولا يمكن أن يكون من عند غير الله .
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة , لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله . فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم , سبيلا إلى الغرور , وتجاوز الحد المأمون ; والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل !
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها , وإدراك مداها . فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله . ويجعلون منهندا لشرع الله . بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك . . الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى:حقيقة أن هذا الدين من عند الله . لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ; وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله . . ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها , أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك - تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها . فالحكمة متحققه حتما ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى "المصلحة " متحققة فيه في اللحظة الحاضرة . فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عندالله . . والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله - فضلا على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود ; ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة ; فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها , أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري . . وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه ; لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه !
فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى . . إنما يكون هذا فيما لا نص فيه , مما يجد من الأقضية ; وهذا سبق بيان المنهج فيه , وهو رده إلى الله والرسول . . وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي . إلى جانب الاجتهاد في فهم النص , والوقوف عنده , لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها !!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة . . وهو ملك عريض !!!
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذى أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال . كي لا نمضى في التيه بلا دليل . إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق . . وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل !!!
-------------------
وقال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد
أفَلاَ يَتَدبَّرُ المُنَافِقُونَ مَا في القُرآنِ مِنْ مَواعِظَ وَعِبرٍ لِيَعْلَمُوا خَطأ مَا هُمْ مُقِيمُونَ عَلَيهِ ، أمْ أنَّ قُلُوبَهمَ وَضَعَ اللهُ عَليهَا أقفالاً فَهِي تَحوُلُ بَيْنَك وَبَينَ فَهْمِ القُرآنِ وَتَدَبُّرِ عِظَاتِهِ؟
ويتسائل في استنكار: (أفلا يتدبرون القرآن) . . وتدبر القرآن يزيل الغشاوة , ويفتح النوافذ , ويسكب النور , ويحرك المشاعر , ويستجيش القلوب , ويخلص الضمير . وينشيء حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير , (أم على قلوب أقفالها ?) فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور ? فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور !
ــــــــــــ(1/8)
8.مقلدون لمن سبقهم تقليدا أعمى :
قال تعالى :{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }(56) الأنبياء
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ مَا فِيهِ صَلاَحُهُ وَهُدَاهُ مِنْ قَبْلِ هَارُونَ وَمُوسَى ، وَوَفَّقْنَاهُ لِلْحَقِّ ، وَأَضَأْنَا لَهُ سَبِيلَ الرَّشَادِ ، وَكُنَّا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ ذُو يَقِينٍ وَإِيْمَانٍ باللهِ وَتَوْحِيدٍ لَهُ ، وأَنَّهُ أَهْلٌ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ .
( وقِيلَ بَلِ المَعْنَى هُو : وَفَّقْنَاهُ إِلَى هُدَاهُ مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ والْبُلُوغِ ، وَوَفَّقْنَاهُ للنَّظَرِ والاسْتِدْلاَلِ ، لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ، فَرَأَى النَّجْمَ والْقَمَرَ ثُمَّ رَأَى الشَّمْسَ ) .
فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَرُدُّونَ بِهِ عَلَى سُؤَالِهِ لَهُمْ إِلاَّ قَوْلَهُمْ لَهُ : إِنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَعْبُدُونَها ، فَهُمْ يَقْتَفُونَ آثَارَهُمْ فِي عِبَادَتِها .
فَقَالُوا لَهُ ، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى ضَلاَلٍ : إِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِ هَذَا الكَلاَمِ مِنْ قَبْلُ . وَسَأَلُوهُ إِنْ كَانَ جَادّاً فِي قَوْلِهِ هَذَا أَوْ هَازِلاً؟
والحلقة المعروفة هنا هي حلقة الرسالة . وهي مقسمة إلى مشاهد متتابعة , بينها فجوات صغيرة . وهي تبدأ بالإشارة إلى ما سبق هداية إبراهيم إلى الرشد . ويعني به الهداية إلى التوحيد . فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة(الرشد) في هذا المقام .
(ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل , وكنا به عالمين) . .
آتينا رشده , وكنا عالمين بحاله وباستعداده لحمل الأمانة التي يحملها المرسلون .
(إذ قال لأبيه وقومه:ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ?) . .
فكانت قولته هذه دليل رشده . . سمى تلك الأحجار والخشب باسمها: (هذه التماثيل) ولم يقل إنها آلهة , واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة . و كلمة(عاكفون) تفيد الانكباب الدائم المستمر . و هم لايقضون وقتهم كله في عبادتها . ولكنهم يتعلقون بها . فهو عكوف معنوي لا زمني . وهو يسخف هذا التعلق ويبشعه بتصويرهم منكبين أبدا على هذة التماثيل !
فكان جوابهم وحجتهم أن (قالوا:وجدنا آباءنا لها عابدين) !
وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة , في مقابل حرية الإيمان , وانطلاقه للنظر والتدبر , وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقية لاالتقليدية . فالإيمان باللة طلاقة وتحرر من القداسات الوهمية التقليدية , والوراثات المتحجرة التى لا تقوم على دليل: (قال:لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) . .
وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذة التماثيل قيمة ليست لها , ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها . فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم , إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق .
وعندما واجههم إبراهيم بهذه الطلاقة في التقدير , وبهذه الصراحة في الحكم , راحوا يسألون:
(قالوا:أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ?) . .
وهو سؤال المزعزع العقيدة , الذي لا يطمئن إلى ما هو عليه , لأنه لم يتدبره ولم يتحقق منه . ولكنه كذلك معطل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد . فهو لا يدري أي الأقوال حق . والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل ! وهذا هو التيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيمة في العقل والضمير .
فأما إبراهيم فهو مستيقن واثق عارف بربه , متمثل له في خاطره وفكره , يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه: (قال:بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن , وأنا على ذلكم من الشاهدين) .
فهو رب واحد . رب الناس ورب السماوات والأرض . ربوبيته ناشئة عن كونه الخالق . فهما صفتان لا تنفكان: (بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن) . . فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة , لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب , في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق , وأن الخالق هو الله . ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئا وهم يعلمون !
إنه واثق وثوق الذي يشهد على واقع لا شك فيه: (وأنا على ذلكم من الشاهدين) . . وإبراهيم - عليه السلام - لم يشهد خلق السماوات والأرض , ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه . . ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حد أن يشهد المؤمنون عليه واثقين . . إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر . وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبر , وبوحدة الناموس الذي يدبر الكون ويصرفه .
---------------
وقال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} الشعراء
واتْلُ يا مُحَمَّدُ عَلَى قَوْمِكَ أخْبَارَ أبيهِمْ إبراهيم عَليهِ السَّلامُ ، لَعَلَّهُمْ يَقْتَدُونَ بهِ في الإِخلاصِ والتَّوَكُّلِ على اللهِ تَعالى ، وَعِبَادَتِه وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ ، والتَّبَرُّؤ منَ الشِّرْكِ وأهلِهِ فقدْ أُوتِي رُشْدَهُ من صِغَرِهِ ، فَهوَ حينَ نَشَأَ وَتَرَعْرَعَ أنكَرَ على أبيهِ وقومِهِ عبادةَ الأصْنَامِ .
فقال لأبيه وقومِهِ : مَاذا تَعْبدُونَ؟ وما هذهِ التَّمَاثيلُ التي أَنُتمْ على عِبَادَتِها عَاكِفُونَ؟ مَعَ أنَّها لا تَستحِقُّ العبادَةُ .
فقالُوا لَهُ مُبَاهينَ : إنهُمْ يَعْبُدونَ أصْنَاماً يظَلُّونَ مُقيمينَ على عِبَادَتِها ودُعائِها تَعْظِيماً لها وتَمْجِيداً .
فَسَأَلَهُمْ إبراهيمُ مُسْتَغْرِباً ، ومُسْتَهْزِئاً ، وَمُنْكِراً تَصَرُّفَهُمْ هذا : هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ حِينَما تَدْعُونَهُمْ وهُمْ حِجَارَةٌ ، وهَلْ يُجِيبُونَكُمْ إذا دَعَوْتُمُوهُمْ؟
وَهَلْ يَسْتَطِيعُونَ نَفْعَكُمْ إِذا أطَعْتُمُوهُم ، أَوْ ضَرَّكُمْ إِنْ عَصَيْتُموهُمْ؟
فَاعْتَرَفُوا بأَنَّهُمْ لا يَعْرِفُون أنَّها تَنْفعُ وتَضُرُّ ، وإنَّما وَجَدُوا آباءَهُمْ يَعْبُدُونَها ، ويَسجُدُونَ لهَا ، ويَنْحَرُونَ لها القَرابينَ ، فاقْتَدَوْا بِهمْ ، وفَعلُوا فِعلهُمْ .
قالَ إبراهيمُ لقومِهِ : هلْ تَرَوْنَ هذهِ الأصنامَ التي تَعْبُدُونها أنتم؟ أفرأيتُمْ - أتَأَمَّلْتُمْ فَعَلِمْتُمْ . والتي عَبَدَهَا آباؤُكُم الأقْدَمُون من قَبْلِكُمْ؟
إِنَّنِي بَرَاءٌ منها جَميعاً ، وَأَنَا لا أَعتَرِفُ برُبوبيَّةِ شَيءٍ منْها ، وإِنَّنِي لا أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ سُبحانَهُ ، فَهُوَ رَبُّ العَالمِينَ ، وَلا رَبَّ سِوَاهُ .
اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته , وأنهم يتبعون ديانته . اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة ; وهو يخالف أباه وقومه فى شركهم , وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال , ويسألهم في عجب واستنكار: (ما تعبدون ?) .
(قالوا:نعبد أصناما فنظل لها عاكفين) !
وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة . فحكاية قولهم:إنها أصنام . تنبى ء بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر , وأنهم مع ذلك يعكفون لها , ويدأبون على عبادتها . وهذه نهاية السخف . ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم !
ويأخذ إبراهيم - عليه السلام - يوقظ قلوبهم الغافية , وينبه عقولهم المتبلدة , إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير:
(قال هل يسمعونكم إذ تدعون ? أو ينفعونكم أو يضرون ?)
فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال ! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة , ويدعونها للنفع والضر . فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفغ والضر ? لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه !
ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر ; وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول . فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير: (قالوا:بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) . .
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع . ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها , فعكفنا عليها وعبدناها !
وهو جواب مخجل . ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه , كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه . فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث ; بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم , فيخلوا باعتبار أولئك الآباء , ويقروا أنهم كانوا على ضلال . وهذا مالا يجوز في حق الذاهبين ! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء فى وجه الحق , فيؤثرونها على الحق , في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس , فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير .
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم - على حلمه وأناته - إلا أن يهزهم بعنف , ويعلن عداوته للأصنام , وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات !
(قال:أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون ? فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) . .
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون , أن يفارقهم بعقيدته , وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم , هم وآباؤهم - وهم آباؤه - الأقدمون !
وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم ; وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة , وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان . وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون .
واستثنى إبراهيم (رب العالمين) من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون:(فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) . . فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله , قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف ; وقد يكون من عبد الله ولكن أشرك معه آلهة أخرى مدعاة . فهو الاحتياط إذن في القول , والدقة الواعية في التعبير , الجديران بإبراهيم - عليه السلام - في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق .
---------------
وقال تعالى : { { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23)} سورة الزخرف
وَإِذْ فَقَدَ المُشْرِكُونَ كُلَّ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، قَالُوا : إِنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَعْبُدُونَهَا فَعَبَدُوهَا ، وَاتَّبِّعُوهُمْ فِي ذَلِكَ مُقَتِدِينَ بِهِمْ ، لأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ آباءهُمْ أَرْجَحُ مِنْهُمْ عُقُولاً ، وَأَصَّحُّ أَفْهَاماً ، فَلاَ يُمكِنُ أَنْ يَكُونُوا فِي عِبَادَةِ الأَصْنَامِ عَلَى ضَلاَلٍ .
وَلَيْسَتْ مَقَالَةُ مُشْرِكِي قُرَيشٍ هَذِهِ شَيئاً مبْتَدعاً مِنْهُمْ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلْ رَسُولاً إِلَى قَرْيَةٍ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ إِلاَّ قَالَ أَهْلُ الجَاهِ والرِّيَاسَةِ فِيهَا : إِنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَى دِينٍ وَمِلَّةٍ ( أُمَّةٍ ) وَإِنَّهُمْ يَتْبَعُونَ طَرِيقَهُمْ ، وَيَسِيرُونَ عَلَى نَهْجِهِمْ ، وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ فِيمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ .
وهي قولة تدعو إلى السخرية , فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة . إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد , بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل . وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث هو منساق ; ولا يسأل:إلى أين نمضي ? ولا يعرف معالم الطريق !
والإسلام رسالة التحرر الفكري والانطلاق الشعوري لا تقر هذا التقليد المزري , ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازاً بالإثم والهوى . فلا بد من سند , ولا بد من حجة , ولا بد من تدبر وتفكير , ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين .
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم مصائر الذين قالوا قولتهم تلك واتبعوا طريقهم في المحاكاة والتقليد , وفي الإعراض والتكذيب , بعد الإصرار على ما هم فيه على الرغم من الإعذار والبيان !
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها:إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . قال:أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ? قالوا إنا بما ارسلتم به كافرون . فانتقمنا منهم:فانظر كيف كان عاقبة المكذبين . .
وهكذا يتجلى أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة , وحجتهم كذلك مكرورة: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) أو(مقتدون) . . ثم تغلق قلوبهم على هذه المحاكاة , وتطمس عقولهم دون التدبر لأي جديد . ولو كان أهدى . ولو كان أجدى . ولو كان يصدع بالدليل . وثم لا يكون إلا التدمير والتنكيل لهذه الجبلة التي لا تريد أن تفتح عينيها لترى , أو تفتح قلبها لتحس , أو تفتح عقلها لتستبين . .
وهذا هو مصير ذلك الصنف من الناس يعرضه عليهم لعلهم يتبينون عاقبة الطريق الذي يسلكون
ــــــــــــ(1/9)
9.أضل من الأنعام :
قال تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44) سورة الفرقان
هَلْ تَطُنُّ يا محمدُ أنَّ هؤلاءِ المُشرِكينَ يَسمَعُون أو يَعْقِلونَ؟ إنهم في الحَقيقَةِ لا يَسْمعُونَ حقَّ السَّماعِ ، ولا يُدْرِكُون حقَّ الإِدْرَاكِ ولا يفْهَمُونَ فَهْما صَحِيحاً ما تَتْلُوه عليْهِمْ مِنَ الآياتِ والمواعظِ الداعِيَةِ إلى الإيمانِ وإلى الخَيْرِ ، حَتَّى تَجْتَهِدَ في دَعْوَتِهِمْ ، وتَحْفِلَ بِإرشَادِهِمْ ، وتذكيرِهِمْ ، وتَطْمَعَ في إيمَانِهِمْ ، فَهُمْ أَسْوَأُ من الأنْعَامِ السَّارِحَةِ ، وأضَلُّ سَبيلاً ، لأنَّ الأنْعَامَ السَّارِحَةَ تنقَادُ لصَاحِبِها الذي يَتَعَهَّدُهَا ، وتعرفُ مَنْ يُحْسِنُ إليها ومن يُسيءُ ، وتطلبُ ما يَنفَعُها ، وتَجتنبُ ما يَضرُّها ، وتَهتدِي لمَرْعَاها ومَشْرَبِها .
أما هؤلاءِ المُشركونَ فإنهمْ لا يَنْقادُونَ لَخَالِقِهِمْ وبارِئِهم ، ولا يَعْرِفُونَ إحْسَانَهُ إليهم ، ولا يعْرِفُونَ إساءَةَ الشيطانِ وعَدَاوتَهُ لَهُم ، وهوَ الذي يزيِّنُ لهمُ الكُفْرَ واتِّباعَ الشَّهَواتِ .
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته . فقد كان عندهم ذا مكانة من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش . وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين . ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل . ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلا بسفح هذا الجبل قالوا:نعم أنت عندنا غير متهم .
ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون: (أهذا الذي بعث الله رسولا ?) وهي قولة ساخرة مستنكرة . . أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية , وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء ? كلا . إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم . وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية , وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع .
ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة , ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين:
روى ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم - موسم الحج - فقال لهم:يا معشر قريش:إنه قد حضر هذا الموسم , وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه , وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا , فأجمعوا فيه رأيا واحدا , ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا , ويرد قولكم بعضه بعضا . قالوا:فأنت يا أبا عبد شمس , فقل وأقم لنا رأيا نقول به . قال:بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا:نقول كاهن . قال لا والله ما هو بكاهن . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا:فنقول:إنه مجنون قال:ما هو بمجنون , لقد رأينا الجنون وعرفناه , فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا:فنقول شاعر قال:ما هو بشاعر , لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه , فما هو بالشعر . قالوا:فنقول ساحر . قال ما هو بساحر , لقد رأينا السحار وسحرهم , فما هو بنفثهم ولا عقدهم . قالوا:فما تقول يا أبا عبد شمس ? قال:والله إن لقوله طلاوة , وإن أصله لعذق , وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل , وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا:ساحر جاء يقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه , وبين المرء وأخيه , وبين المرء وزوجه , وبين المرء وعشيرته . . فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم , لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه , وذكروا لهم أمره .
فهذا مثل من الكيد والتدبير يشي بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته . فما كان اتخاذهم إياه هزوا , وقولهم ساخرين: (أهذا الذي بعث الله رسولا ?) بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم , إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير , التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية , استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية ! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان .
وبينما كانوا يظهرون الهزء والاستخفاف كانت أقوالهم ذاتها تشي بمقدار ما في نفوسهم من شخصه ومن حجته ومن القرآن الذي جاء به , فيقولون: (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها) . .
فلقد زلزل قلوبهم إذن باعترافهم حتى كادوا يتركون آلهتم وعبادتهم - على شدة حرصهم على استبقاء ديانتهم وما وراءها من مراكز ومغانم - لولا أنهم قاوموا تأثرهم به وصبروا على آلهتهم ! والصبر لا يكون إلا على المقاومة العنيفة للجاذبية العنيفة . وهم يسمون الهداية إضلالا لسوء تقديرهم للحقائق وتقويمهم للقيم . ولكنهم لا يملكون إخفاء الزلزلة التي أصابت قلوبهم من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وشخصيته والقرآن الذي معه حتى وهم يتظاهرون بالاستخفاف بشخصه ودعوته , إصرارا وعنادا . ومن ثم يعاجلهم بالتهديد المجمل الرهيب: (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) . .
فيعلمون إن كان ما جاءهم به هو الهدى أو أنه هو الضلال . ولكن حين لا ينفع العلم , حين يرون العذاب . سواء أكان ذلك في الدنيا كما ذاقوا يوم بدر , أم كان في الآخرة كما يذوقون يوم الحساب .
ويلتفت بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه عن عنادهم وجموحهم واستهزائهم , فهو لم يقصر في الدعوة , ولم يقصر في الحجة , ولم يستحق ما لاقوه به من التطاول , إنما العلة فيهم أنفسهم . فهم يجعلون من هواهم إلها يعبدونه , ولا يرجعون إلى حجة أو برهان . وماذا يملك الرسول لمن يتخذ إلهه هواه:(أرأيت من اتخذ إلهه هواه . أفأنت تكون عليه وكيلا ?)
وهو تعبير عجيب يرسم نموذجا عميقا لحالة نفسية بارزة , حين تنفلت النفس من كل المعايير الثابتة والمقاييس المعلومة , والموازين المضبوطة , وتخضع لهواها , وتحكم شهواتها وتتعبد ذاتها , فلا تخضع لميزان , ولا تعترف بحد , ولا تقتنع بمنطق , متى اعترض هواها الطاغي الذي جعلت منه إلها يعبد ويطاع .
والله - سبحانه - يخاطب عبده في رفق ومودة وإيناس في أمر هذا النموذج من الناس:(أرأيت ?) ويرسم له هذه الصورة الناطقة المعبرة عن ذلك النموذج الذي لا جدوى من المنطق معه , ولا وزن للحجة , ولا قيمة للحقيقة ; ليطيب خاطره من مرارة الإخفاق في هدايته . فهو غير قابل للهدى , وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره , ولا أن يحفل بشأنه: (أفأنت تكون عليه وكيلا ?) . .
ثم يخطو خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يتعبدون هواهم , ويحكمون شهواتهم , ويتنكرون للحجة والحقيقة , تعبدا لذواتهم وهواها وشهواتها . يخطو خطوة أخرى فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل . ثم يخطو الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من مكانة الأنعام إلى درك أسفل و أحط:
(أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام . بل هم أضل سبيلا) .
وفي التعبير تحرز وإنصاف , إذ يذكر(أكثرهم) ولا يعمم , لأن قلة منهم كانت تجنح إلى الهدى , أو تقف عند الحقيقة تتدبرها . فأما الكثرة التي تتخذ من الهوى إلها مطاعا , والتي تتجاهل الدلائل وهي تطرق الأسماع والعقول , فهي كالأنعام . وما يفرق الإنسان من البهيمة إلا الاستعداد للتدبر والإدراك , والتكيف وفق ما يتدبر ويدرك من الحقائق عن بصيرة وقصد وإرادة واقتناع , ووقوف عند الحجة والاقتناع . بل إن الإنسان حين يتجرد من خصائصه هذه ليكونن أحط من البهيمة , لأن البهيمة تهتدى بما أودعها الله من استعداد , فتؤدي وظائفها أداء كاملا صحيحا . بينما يهمل الإنسان ما أودعه الله من خصائص , ولا ينتفع بها كما تنتفع البهيمة: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) . .
وهكذا يعقب على استهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التعقيب الذي يخرج المستهزئين من إطار الآدمية في عنف واحتقار ومهانة .
ــــــــــــ(1/10)
10.اتباع الهوى :
قال تعالى : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (50) سورة القصص
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا طَلَبتَهُ مِنْهُمْ مِنَ الإِتيَانِ بكِتَابٍ أَهْدَى مِنَ التَّورَاةِ والقُرآنِ ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الحَقَّ فاعْلَمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ ، واللهُ تَعَالى لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ، وَلا يُوفِّقُهُمْ إِلى اتِّبَاعِ سَبِيلِ الحَقِّ والرَّشَادِ .
إن الحق في هذا القرآن لبين ; وإن حجة هذا الدين لواضحة , فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده . وإنهما لطريقان لا ثالث لهما:إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى , وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم . وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق . ولا حجة من غموض في العقيدة , أو ضعف في الحجة , أو نقص في الدليل . كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون .
(فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) . . وهكذا جزما وقطعا . كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها . . إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين . متجنون لا حجة لهم ولامعذرة , متبعون للهوى , معرضون عن الحق الواضح: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ?) . . وهم في هذا ظالمون باغون: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) . . إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن , ولم يحيطوا علما بهذا الدين . فما هو إلا أن يصل إليهم , ويعرض عليهم , حتى تقوم الحجة , وينقطع الجدل , وتسقط المعذرة . فهو بذاته واضح واضح , لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه , ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه , ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله . (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) . ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم , وعرضه عليهم , فلم يعد لهم من حجة ولا دليل . . (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) . .
------------------
وقال تعالى : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (29) سورة الروم
وَلكِنَّ الذِينَ ظَلمُوا أَنْفُسَهَمْ بكُفْرِهِمْ باللهِ ، قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ جَهْلاً مِنهُمْ بحَقِّ اللهِ عَلَيهِمْ ، وَعَظَمَتهِ ، فَأَشْرَكُوا الأَصْنَامَ والأَوْثَانَ مَعَهُ في العِبَادَةِ ، وَلا حُجَّةَ وَلا دَليلَ لَهُم في عَبَادَتِها ، فَمَنْ ذَا الذِي يَسَْتَطِيعُ أَنْ يَهْدِيَ بَشَراً قَدْ خَلَقَ اللهُ فيهِ الاسْتِعْدَادَ لِلضَّلاَلَةِ؟ وَهؤلاءِ الظَّالِمُونَ لأنفُسِهِمْ ليسَ لًَهُمْ مَنْ يَنْصُرهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللهِ وقدَرِهِ ، وَلا مَنْ يُجِيرُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ وَعِقَابِهِ .
والهوى لا ضابط له ولا مقياس . إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة , ورغباتها ومخاوفها . وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان . وهو الضلال الذي لا يرجى عمه هدى , والشرود الذي لا ترجى معه أوبة: (فمن يهدي من أضل الله ?) نتيجة لاتباعه هواه ? (وما لهم من ناصرين) يمنعونهم من سوء المصير .
-------------------
وقال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23) سورة الجاثية
أَفَلا تَرَى إِلى حَالِ هذا الذِي اتَّبعَ هواهُ ، وَأَتبَعَ نَفْسَهُ هَوَاها ، فَلا يَهوَى شَيْئاً إِلا فَعَلَه ، لاَ يَخَافُ رَبّاً ، وَلا يَخشَى عِقَاباً ، وَأَضَلَّهُ اللهُ فَلَمْ يَجْعَلْهُ يَسْلكُ سَبيلَ الرَّشَادِ ، لأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّه لا يَهْتَدِي وَلَو جَاءَتْهُ كُلُّ آيةٍ .
وَخَتَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى سَمْعِهِ فَأَصْبَحَ لاَ يَتَأَثَّر بما يُتلى عَلَيهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ ، وَخَتَم عَلَى قَلبِهِ فَلَم يَعُدْ يُبصِرُ حُجَجَ اللهِ وآيَاتِهِ ، وَلَمْ يَعُدْ يَنْتَفِعُ بِها . فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أن يُوَفِّقَ مِثْلَ هذَا الضَّالِّ ، الخَاضِعِ لهوَاهُ ، إِلى الهُدَى ، وَإِصَابَةِ الحقِّ إِنْ لم يَهدِهِ اللهُ ، أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ وَتُدْرِكُونَ؟
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت , وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها , وتخضع له , وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها . وتقيمه إلهاً قاهراً لها , مستولياً عليها , تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول . يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد:
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ?) . . أفرأيته ? إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب ! وهو يستحق من الله أن يضله , فلا يتداركه برحمة الهدى . فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض !
(وأضله الله على علم) . . على علم من الله باستحقاقه للضلالة . أو على علم منه بالحق , لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع . وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه:
(وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) . . فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ; وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى . وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم .
(فمن يهديه من بعد الله ?) . . والهدى هدى الله . وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة . فذلك من شأن الله , الذي لا يشاركه فيه أحد , حتى رسله المختارون .
(أفلا تذكرون ?) . . ومن تذكر صحا وتنبه , وتخلص من ربقة الهوى , وعاد إلى النهج الثابت الواضح , الذي لا يضل سالكوه . .
ــــــــــــ(1/11)
11.قصر النظر :
قال تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7 ) } سورة الروم
وَهذا الذِي أَخْبَرَكَ بهِ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنَّهُ سَيَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى الفُرسِ ، هُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ تَعَالى ، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً ، لأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ جَرَتْ بأَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيِنِ إِلى الحَقِّ ، وَيَجْعَلَ لَهَا العَاقِبَةَ . ولكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ذلِكَ لِجْهْلِهِمْ ، وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ في النَّوامِيسِ التِي وَضَعَهَا اللهُ في الكَوْنِ .
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ إلاَّ بالأُمُورِ الدُّنْيا : كَتَدْبيرِ مَعَايِشِهِمْ ، وَتَنْمِيَةِ مَتَاجِرِهِمْ ، واسْتِثْمَارِ مَزَارِعِهِمْ . . وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ ، وما يَنْفَعُهُمْ في الآخِرَةِ ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لا عَقْلَ لَهُ .
ذلك النصر وعد من الله , فلابد من تحققه في واقع الحياة:(لا يخلف الله وعده) فوعده صادر عن إرادته الطليقة , وعن حكمته العميقة . وهو قادر على تحقيقه , لا راد لمشيئته , ولا معقب لحكمه , ولا يكون في الكون إلا ما يشاء .
وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ولو بدا في الظاهر أنهم علماء , وأنهم يعرفون الكثير . ذلك أن علمهم سطحي , يتعلق بظواهر الحياة , ولا يتعمق سننها الثابتة , وقوانينها الأصيلة ; ولا يدرك نواميسها الكبرى , وارتباطاتها الوثيقة: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) . . ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر ; ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه .
وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير , مهما بدا للناس واسعا شاملا , يستغرق جهودهم بعضه , ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة . والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل , تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه .
والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود ; ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه , يظل ينظر وكأنه لا يرى ; ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة , ولكنه لا يدرك حكمته , ولا يعيش بها ومعها . وأكثر الناس كذلك , لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود ; وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود . والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس . ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية .
(وهم عن الآخرة هم غافلون) . . فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة , وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة . والذين لا يدركون حكمة النشأة , ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة , ولا يقدرونها قدرها , ولا يحسبون حسابها , ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود , لا تتخلف مطلقا ولا تحيد .
والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل ; وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم ; فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا ; ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا , لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض . فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون . ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود . والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيره . ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة , وقدر زهيد من النصيب الضخم , وفصل صغير من الرواية الكبيرة !
ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها , مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها . لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة , ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة ; ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون . فلكل منهما ميزان , ولكل منهما زاوية للنظر , ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال . . هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا ; وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن , ونواميس شاملة للظاهر والباطن , والغيب والشهادة , والدنيا والآخرة , والموت والحياة , والماضي والحاضر والمستقبل , وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء . . وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه ; ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان . الخليفة في الأرض . المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله .
----------------
وقال تعالى عن قارون :
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} القصص
وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا ، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا .
فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ ، قَالُوا لَهُمْ : الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ .
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت , ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان , والرجاء فيما عند الله , والاعتزاز بثواب الله . والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان: قال الذين يريدون الحياة الدنيا:ياليت لنا مثل ما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . .
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب , وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا , ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ? ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى , كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع , غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه , ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه , ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة , وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفسا , وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم) . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:(وقال الذين أوتوا العلم:ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا , ولا يلقاها إلا الصابرون) .
ثواب الله خير من هذه الزينة , وما عند الله خير مما عند قارون . والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون . . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم . الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها . الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون . وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة . درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض , والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان .
ــــــــــــ(1/12)
12.لا يرجعون إلى الحق:
قال تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) } البقرة
يُصوِّرُ اللهُ تَعَالى حَالَ المُنَافِقِينَ الذِينَ أَسْلَمُوا وَدَخَلَ نُورُ الإِيمَانِ إِلى قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ دَاخَلَهُمُ الشَّكُّ فِيهِ فَكَفَرُوا ، فَيَقُولُ : إِنَّ حَالَهُمْ يُشْبِهُ حَالَ جَمَاعَةٍ أَوْقَدوا نَاراًً لِيَنْتَفِعُوا بِها فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُمْ مِنَ الأَشْيَاءِ وَالأَمَاكِنِ ، عَرَضَ لَهَا عَارِضٌ أَطْفَأَهَا فَأَصْبَحُوا فِي ظَلامٍ دَامِسٍ لا يَتَسَنَّى لَهُمْ مَعَهُ الإِبْصَارُ والاهْتِدَاءُ ، ذلِكَ لأَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا فَضَائِلَ الإِيمَانِ وَمَحَاسِنَهُ ، فَأَصْبَحُوا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ لاَ يُبْصِرُونَ مَسْلَكاً مِنْ مَسَالِكِ الهِدَايَةِ وَالنَّجَاةِ .
وَهؤُلاءِ كَأَنَّهُمْ صُمٌّ لاَ يَسْمَعُونَ ، وَبُكْمٌ لاَ يَنْطِقُونَ ، وَعُمْيٌ لاَ يُبْصِرُونَ ، لأَنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِحَوَاسِّهِمْ مَعَ سَلاَمَتِهَا ، وَلِذلِكَ فَإِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلى الحَقِّ لأَنَّ مَنْ فَقَدَ حَوَاسَّهُ لاِ يَسْمَعُ صَوْتاً يَهْتَدِي بِهِ ، وَلاَ يَصِيحُ لِيُنْقِذَ نَفْسَهُ ، وَلاَ يَرَى بَارِقاً مِنْ نُورٍ يَتَّجِهُ إِليهِ وَيَقْصُدُهُ ، وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ حَالُهُ : ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، وَهُوَ يَتَرَدَّى فِي مَهَاوِي الهَلاَكِ .
. إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء , ولم يصموا آذانهم عن السماع , وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك , كما صنع الذين كفروا . ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه . . لقد استوقدوا النار , فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها . عندئذ (ذهب الله بنورهم) الذي طلبوه ثم تركوه: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) جزاء إعراضهم عن النور !
وإذا كانت الآذان والألسنة والعيون , لتلقي الأصداء والأضواء , والانتفاع بالهدى والنور , فهم قد عطلوا آذانهم فهم(صم) وعطلوا ألسنتهم فهم(بكم) وعطلوا عيونهم فهم(عمي) . . فلا رجعة لهم إلى الحق , ولا أوبة لهم إلى الهدى . ولا هداية لهم إلى النور !
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة:
(أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق , يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه , وإذا أظلم عليهم قاموا , ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير) . .
إنه مشهد عجيب , حافل بالحركة , مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال , وفيه هول ورعب , وفيه فزع وحيرة , وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير (فيه ظلمات ورعد وبرق) . . (كلما أضاء لهم مشوا فيه) . . (وإذا أظلم عليهم قاموا) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) . .
إن الحركة التي تغمر المشهد كله:من الصيب الهاطل , إلى الظلمات والرعد والبرق , إلى الحائرين المفزعين فيه , إلى الخطوات المروعة الوجلة , التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين , وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ; ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .
ــــــــــــ(1/13)
13.لا يعقلون :
قال تعالى :{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171)} البقرة
وَمَثَلُ الذِينَ كَفَرُوا فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الغَيِّ والضَّلاَلِ ، وَالجَهْلِ وَتَقْلِيدِ الآبَاءِ والرُّؤَسَاءِ ، كَمَثَلِ الدَّوَابِّ السَّارِحَةِ التِي لاَ تَفْقَهُ شَيْئاً مِمَّا يُقَالُ لَهَا ، فَإِذَا نَعَقَ فِيها رَاعِيها فَإِنَّها تَسْمَعُ صَوْتَهُ ، وَلكِنَّها لاَ تَفْقَهُ مَا يَقُولُ وَلاَ تَفْهَمُهُ ، فَهُمْ صُمٌّ عَنْ سَمَاعِ الحَقِّ ، وَبُكْمٌ لاَ يَتَفَوَّهُونَ بِهِ ، وَعُمْيٌ عَنْ رُؤْيَةِ طَرِيقِهِ وَمَسْلَكِهِ ، لاَ يَعْقِلُونَ شَيئاً وَلاَ يَفْهَمُونَ .
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام , وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه , وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام . أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلا . . سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله ; وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) . أولو كان الأمر كذلك , يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم ? فأي جمود هذا وأي تقليد ?!
ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود , صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها , بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني ! بل هم أضل من هذه البهيمة , فالبهمية ترى وتسمع وتصيح , وهم صم بكم عمي: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون) !
صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان والسنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها , وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون .
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره , ويغلق منافذ المعرفة والهداية , ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .
ــــــــــــ(1/14)
14.العمى هو عمى القلوب لا الأبصار
قال تعالى : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج
إِنًَّ القُرَى التي أَهْلَكَهَا اللهُ بِظُلْمِها وَكُفْرِها وَتَكْذِيبِها رُسُلَ اللهِ ، هِيَ كَثِيرَةٌ ( فَكَأين ) فَأَصْبَحَتْ مُهَدَّمَةَ البُنْيَانِ ، قَدْ سَقَطَتْ سُقُوفُها عَلى قِيعَانِها ، وأَقْفَرَت الأَبْنِيةُ مِنْ سَاكِنيها ، فَأَصْبَحَتْ مُوحِشَةً كَئِيبَةً ، وَأَصْبَحَتِ الآبَارُ مُعَطَّلَةً مَهْجُورَةً لَمْ يَبْقَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَأتِي إِلَيْهَا لِيَحْمِلَ مِنها الماءَ ، وأَصْبَحَتِ القُصُورُ ، المَبْنِيَّةُ لِتَكُونَ حُصُوناً وَمَعَاقِلَ يَحَتَمِي أَصْحَابُها بِها ، مَهْجُورَةً خَالِيةً مِنْ سَاكِنيها .
أفلم يَسِر المكذبون من قريش في الأرض ليشاهدوا آثار المهلكين، فيتفكروا بعقولهم، فيعتبروا، ويسمعوا أخبارهم سماع تدبُّر فيتعظوا؟ فإن العمى ليس عمى البصر، وإنما العمى المُهْلِك هو عمى البصيرة عن إدراك الحق والاعتبار.
إن مصارع الغابرين حيالهم شاخصة موحية , تتحدث بالعبر , وتنطق بالعظات . . (أفلم يسيروا في الأرض) فيروها فتوحى لهم بالعبرة ? وتنطق لهم بلسانها البليغ ? وتحدثهم بما تنطوي عليه من عبر ? (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) فتدرك ما وراء هذه الآثار الدوارس من سنة لا تتخلف ولا تتبدل . (أو آذان يسمعون بها) فتسمع أحاديث الأحياء عن تلك الدور المهدمة والآبار المعطلة والقصور الموحشة ? .
أفلم تكن لهم قلوب ? فإنهم يرون ولا يدركون , ويسمعون ولا يعتبرون (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) !
ويمعن في تحديد مواضع القلوب: (التي في الصدور) زيادة في التوكيد , وزيادة في إثبات العمى لتلك القلوب على وجه التحديد !
ولو كانت هذه القلوب مبصرة لجاشت بالذكرى , وجاشت بالعبرة , وجنحت إلى الإيمان خشية العاقبة الماثلة في مصارع الغابرين , وهي حولهم كثير .
ولكنهم بدلا من التأمل في تلك المصارع , والجنوح إلى الإيمان , والتقوى من العذاب . . راحوا يستعجلون بالعذاب الذي أخره الله عنهم إلى أجل معلوم: (ويستعجلونك بالعذاب . ولن يخلف الله وعده . وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) . .
وذلك دأب الظالمين في كل حين . يرون مصارع الظالمين , ويقرأون أخبارهم ويعلمون مصائرهم . ثم إذا هم يسلكون طريقهم غير ناظرين إلى نهاية الطريق ! فإذا ذكروا بما نال أسلافهم استبعدوا أن يصيبهم ما أصابهم . . ثم يطغى بهم الغرور والاستهتار إذا أملى لهم الله على سبيل الاختبار . فإذا هم يسخرون ممن يخوفهم ذلك المصير . وإذا هم - من السخرية - يستعجلون ما يوعدون ! (ولن يخلف الله وعده) فهو آت في موعده الذي أراده الله وقدره وفق حكمته . واستعجال الناس به لا يعجله كي لا تبطل الحكمة المقصودة من تأجيله . وتقدير الزمن في حساب الله غيره في حساب البشر: (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) . .
ولقد أملى الله للكثير من تلك القرى الهالكة ; فلم يكن هذا الإملاء منجيا لها من المصير المحتوم والسنة المطردة في هلاك الظالمين: وكأي من قرية أمليت لها وهي ظالمة , ثم أخذتها , وإلي المصير . . فما بال هؤلاء المشركين يستعجلون بالعذاب , ويهزأون بالوعيد , بسبب إملاء الله لهم حينا من الزمان إلى أجل معلوم ? .
ــــــــــــ(1/15)
15.اتباع الشهوات :
قال تعالى : { وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} (27) سورة النساء
وَاللهُ يُرِيدُ بِمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الأَحْكَامِ أنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا فِيهِ مَصَالِحُكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ، وَأَنْ تَهْتَدُوا وَتَعْمَلُوا صَالِحاً ، وَتَتَّبِعُوا شَرْعَهُ لِيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَيُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِئَاتِكُمْ ، وَيُرِيدُ أَتْبَاعُ الشَّيْطَانِ الضَّالُونَ أنْ تَمِيلُوا عَنِ الحَقِّ إلى البَاطِلِ مَيْلاً عَظِيماً .
وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته , وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات , ويحيدون عن منهج الله - وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات - فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام , وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع , وشهوة تطاع , وانحراف وفسوق وضلال .
فماذا يريد الله بالناس , حين يبين لهم منهجه , ويشرع لهم سنته ? إنه يريد أن يتوب عليهم . يريد أن يهديهم . يريد أن يجنبهم المزالق . يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة .
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات , ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله , ولم يشرعها لعباده ? إنهم يريدن لهم أن يميلوا ميلا عظيما عن المنهج الراشد , والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم .
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة:ميدان تنظيم الأسرة ; وتطهير المجتمع ; وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة , التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء ; وتحريم ما عداها من الصور , وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون . . في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات ?
فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة . وفيها إرادة التنظيم , وإرادة التطهير , وإرادة التيسير , وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال .
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال:ديني , أو أخلاقي , أو اجتماعي . . يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح , من أي لون كان . السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب , ولا يسكن معه عصب , ولا يطمئن معه بيت , ولا يسلم معه عرض , ولا تقوم معه أسرة . يريدون أن يعود الآدميون قطعانا من البهائم , ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة ! كل هذا الدمار , وكل هذا الفساد , وكل هذا الشر باسم الحرية , وهي - في هذا الوضع - ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة !
وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه , وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات . وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي , الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف . وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي , الذي لا عاصم منه , إلا منهج الله , حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله .
واللمسة الأخيرة في التعقيب تتولى بيان رحمة الله بضعف الإنسان , فيما يشرعه له من منهج وأحكام . والتخفيف عنه ممن يعلم ضعفه , ومراعاة اليسر فيما يشرع له , ونفي الحرج والمشقة والضرر والضرار .
ــــــــــــ(1/16)
16.لا يؤمنون بالآخرة :
قال تعالى :{ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (64) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) } سورة النمل
وَاسْأَلْهُمْ هَلِ الذينَ تُشْرِكُونَهُمْ بالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ خيرٌ أَمِ اللهُ الذي يَبْدَأُ الخَلْقَ ، بِقُدْرَتِهِ وَسُلطَانِهِ ، وَيَبتَدِعُهُ عَلى غيرِ مِثَالٍ سَبَقَ ، ثُمَّ يُفْنِيهِ إِذا شَاءَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَهُوَ الذِي يَرزُقُكُمْ بِإِنزالِ المَطرِ مِنَ السَّماءِ فَيُخرجُ لكُم منَ الأَرضِ زُرُوعاً وَثِماراً ونَبَاتَاتٍ ، وثِمَاراً ونَبَاتَاتٍ ، تَنْتَفِعُ بِها الأَنْعَامُ والمَخلُوقَاتُ والبَشَرُ ، فَهلْ إٍِلهٌ آخرُ مَعَ اللهِ فَعَلَ هذا؟ أَمْ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؟ فإِذا ادَّعيُتُمْ أَنَّ آلِهَةً أُخْرى فَهَاُوا بُرْهَانَكُم عَلَى صِحَّةِ مَا تَقُولُونَ مِنْ وُجُودِ هذِهِ الآلِهَةِ الأُخْرَى التِي تَستَطيعُ أَنْ تَخلُقَ وَتَرْزُقَ؟
يَأْمُرُ الله تَعالى رَسُولَه صلى الله عليه وسلم بأَنْ يُعْلِمَ الخَلائِقَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهلِ السَّماواتِ والأرضِ الغَيبَ ، وإِنَّما يعلَمُهُ اللهُ وَحْدَهُ ، وَعِنْدَهُ وَحْدَهُ مَفَاتِيحُ الغَيبِ ، لاَ يعلَمُها إلاَّ هُو ، وَلا يَشْعُرُ الخَلاَئِقُ المَوْجُودُونَ في السَّماواتِ والأَرْضِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ومَتَى يَبْعَثُ اللهُ الأَمواتَ مِنْ قُبُورِهِمْ .
وَقَدْ قَصَّرَ عِلْمُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ ، وَعَجَزُوا عَنْ ذلك وَغَابَ عَنْهُمْ ، وَإِنَّ أكثرَ النّاسِ مِنَ الكَافِرينَ في شَكٍّ مِنْ حُدُوثِها وَوَقُوعِها ، بَلْ هُم في عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبيرينِ مِنْ أمرِها وشَأْنِها .
وَقَالَ الكَافِرُونَ باللهِ ، وَالمُكَذِّبُونَ لِرُسُلِهِ ، المُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ والنُّشُورِ : هَلْ سَنَخْرُجُ مِنْ قُبُورِنا أحياءً كَهَيئتنا مِنْ بعدِ مَمَاتِنا ، وَبَعْدَ أَنْ نَكُونَ قَد بَلِينا ، وَأَصْبَحَتْ عِظَامُنا تُراباً؟
وَمَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهذا نَحْنُ وَآباؤُنَا ، ولاَ نَرَى حَقِيقَةً لَهُ ، وَلاَ وُقُوعاً ، وَمَا هذا الوَعدُ بِإِعَادةِ نَشْرِ الأَجسَادِ منَ القُبُورِ بعدَ أَنْ تَصيرَ رُفَاتاً وتُراباً إِلا قَصَصٌ مِنْ قَصَصِ الأوَّلينَ ، تَتَنَاقَلُهَا الأَلسُنُ ، جيلاً بعدَ جيل ، ولا سَنَدَ لها مِنَ الحَقيقةِ ولا ظِلَّ ، لأنَّهُ لَوْ كَانَ البَعثُ حَقاً لحَصَلَ .
فَقُلْ يا مُحَمَّد لهؤلاءِ المُكَذِّبينَ لِلرُّسُلِ وَالمَعَادِ : سِيروا في الأرضِ فانظُروا كَيفَ كَانَتْ نِهَايَةُ الذين كَذَّبوا الرُّسُلَ مِنْ قَبلِكُمْ ، وكَفَرُوا بربِّهِمْ ، وأَفسَدُوا في الأَرضِ؟ لَقَد دَمَّرَ اللهُ عَلَيهِمْ ، وَأْهْلَكَهُمْ ، وَنَجَّى رُسُلَهُ والمُؤمنينَ ، فاحذَرُوا أَنّ يُصيبُكُم مِثلُمَا أَصَابَهُم ، ولسْتُمْ بأَكْرَمَ على اللهِ مِنْهُمْ .
والإيمان بالبعث والحشر , وبالحساب والجزاء , عنصر أصيل في العقيدة , لا يستقيم منهجها في الحياة إلا به . فلا بد من عالم مرتقب , يكمل فيه الجزاء , ويتناسق فيه العمل والأجر , ويتعلق به القلب , وتحسب حسابه النفس , ويقيم الإنسان نشاطه في هذه الأرض على أساس ما ينتظره هناك .
ولقد وقفت البشرية في أجيالها المختلفة ورسالاتها المتوالية موقفا عجيبا من قضية البعث والدار الآخرة , وعلى بساطتها وضرورتها . فكان أعجب ما تدهش له أن ينبئها رسول أن هناك بعثا بعد الموت وحياة بعد الدثور . ولم تكن معجزة بدء الحياة الواقعة التي لا تنكر تلهم البشرية أن الحياة الأخرى أهون وأيسر . ومن ثم كانت تعرض عن نذير الآخرة , وتستمرى ء الجحود والمعصية , وتستطرد في الكفر والتكذيب .
والآخرة غيب . ولا يعلم الغيب إلا الله . وهم كانوا يطلبون تحديد موعدها أو يكذبوا بالنذر , ويحسبوها أساطير , سبق تكرارها ولم تحقق أبدا !
فهنا يقرر أن الغيب من أمر الله , وأن علمهم عن الآخرة منته محدود: (قل:لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله , وما يشعرون أيان يبعثون . بل ادارك علمهم في الآخرة , بل هم في شك منها , بل هم منها عمون) . .
ولقد وقف الإنسان منذ بدء الخليقة أمام ستر الغيب المحجوب , لا ينفذ إليه علمه , ولا يعرف مما وراء الستر المسدل , إلا بقدر ما يكشف له منه علام الغيوب . وكان الخير في هذا الذي أراده الله , فلو علم الله أن في كشف هذا الستر المسبل خيرا لكشفه للإنسان المتطلع الشديد التطلع إلى ما وراءه !
لقد منح الله هذا الإنسان من المواهب والاستعدادات والقوى والطاقات ما يحقق به الخلافة في الأرض , وما ينهض به بهذا التكليف الضخم . . ولا زيادة . . وانكشاف ستر الغيب له ليس مما يعينه في هذه المهمة . بل إن انطباق أهدابه دونه لمما يثير تطلعه إلى المعرفة , فينقب ويبحث . وفي الطريق يخرج المخبوء في باطن الأرض , وجوف البحر , وأقطار الفضاء ; ويهتدي إلى نواميس الكون والقوى الكامنة فيه , والأسرار المودعة في كيانه لخير البشر , ويحلل في مادة الأرض ويركب , ويعدل في تكوينها وأشكالها , ويبتدع في أنماط الحياة ونماذجها . .حتى يؤدي دوره كاملا في عمارة هذه الأرض , ويحقق وعد الله بخلافة هذا المخلوق الإنساني فيها .
وليس الإنسان وحده هو المحجوب عن غيب الله , ولكن كل من في السماوت والأرض من خلق الله . من ملائكة وجن وغيرهم ممن علمهم عند الله . فكلهم موكلون بأمور لا تستدعي انكشاف ستر الغيب لهم , فيبقي سره عند الله دون سواه .
(قل:لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) . . وهو نص قاطع لا تبقى بعده دعوى لمدع , ولا يبقى معه مجال للوهم والخرافة .
وبعد هذا التعميم في أمر الغيب يخصص في أمر الآخرة لأنها القضية التي عليها النزاع مع المشركين بعد قضية التوحيد: (وما يشعرون أيان يبعثون) . .
ينفي عنهم العلم بموعد البعث في أغمض صوره وهو الشعور . فهم لا يعلمون بهذا الموعد يقينا , ولا يشعرون به حين يقترب شعورا . فذلك من الغيب الذي يقرر أن لا أحد يعلمه في السماوات ولا في الأرض . . ثم يضرب عن هذا ليتحدث في موقفهم هم من الآخرة , ومدى علمهم بحقيقتها: (بل ادارك علمهم في الآخرة) . .
فانتهى إلى حدوده , وقصر عن الوصول إليها , ووقف دونها لا يبلغها .
(بل هم في شك منها) . . لا يستيقنون بمجيئها , بله أن يعرفوا موعدها , وينتظروا وقوعها .
(بل هم منها عمون) . . بل هم منها في عمى , لا يبصرون من أمرها شيئا , ولا يدركون من طبيعتها شيئا . . وهذه أشد بعدا عن الثانية وعن الأولى: وقال الذين كفروا:أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون ? . . وهذه كانت العقدة التي يقف أمامها الذين كفروا دائما:أإذا فارقتنا الحياة , ورمت أجسادنا وتناثرت في القبور , وصارت ترابا . . أإذا وقع هذا كله - وهو يقع للموتى بعد فترة من دفنهم إلا في حالات نادرة شاذة - أإذا وقع هذا لنا ولآبائنا الذين ماتوا قبلنا يمكن أن نبعث أحياء كرة أخرى , وأن نخرج من الأرض التي اختلط رفاتنا بترابها فصار ترابا ?
يقولون هذا وتقف هذه الصورة المادية بينهم وبين تصور الحياة الأخرى . وينسون أنهم خلقوا أول مرة ولم يكونوا من قبل شيئا . ولا يدري أحد أين كانت الخلايا والذرات التي تكونت منها هياكلهم الأولى . فلقد كانت مفرقة في أطواء الأرض وأعماق البحار وأجواز الفضاء . فمنها ما جاء من تربة الأرض , ومنها ما جاء من عناصر الهواء والماء , ومنها ما قدم من الشمس البعيدة , ومنها ما تنفسه إنسان أو نبات أو حيوان , ومنها ما انبعث من جسد رم وتبخرت بعض عناصره في الهواء ! . . ثم تمثلت هذه الخلايا والذرات في طعام يأكلونه , وشراب يشربونه , وهواء يتنفسونه , وشعاع يستدفئون به . . ثم إذا هذا الشتيت الذي لا يعلم عدده إلا الله , ولا يحصي مصادره إلا الله , يتجمع في هيكل إنسان ; وهو ينمو من بويضة عالقة في رحم , حتى يصير جسدا مسجى في كفن . . فهؤلاء في خلقتهم أول مرة , فهل عجب أن يكونوا كذلك أو على نحو آخر في المرة الآخرة !
ولكنهم كانوا هكذا يقولون . وبعضهم ما يزال يقوله اليوم مع شيء من الاختلاف !
هكذا كانوا يقولون . ثم يتبعون هذه القولة الجاهلة المطموسة بالتهكم والاستنكار: (لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل . إن هذا إلا أساطير الأولين) .
فهم كانوا يعرفون أن الرسل من قبل قد أنذروا آباءهم بالبعث والنشور . مما يدل على أن العرب لم تكن أذهانهم خالية من العقيدة , ولا غفلا من معانيها . إنما كانوا يرون أن الوعود لم تتحقق منذ بعيد ; فيبنون على هذا استهتارهم بالوعد الجديد قائلين:إنها أساطير الأولين يرويها محمد صلى الله عليه وسلم غافلين أن للساعة موعدها الذي لا يتقدم لاستعجال البشر ولا يتأخر لرجائهم , إنما يجيء في الوقت المعلوم لله , المجهول للعباد في السماوات والأرض سواء . ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل - عليه السلام - وهو يسأله عن الساعة:" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " .
وهنا يلمس قلوبهم بتوجيهها إلى مصارع الذين كذبوا قبلهم بالوعيد ويسميهم المجرمين: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) .
وفي هذا التوجيه توسيع لآفاق تفكيرهم , فالجيل من البشر ليس مقطوعا من شجرة البشرية ; وهو محكوم بالسنن المتحكمة فيها ; وما حدث للمجرمين من قبل يحدث للمجرمين من بعد ; فإن السنن لا تحيد ولا تحابي . والسير في الأرض يطلع النفوس على مثل وسير وأحوال فيها عبرة , وفيها تفتيح لنوافذ مضيئة . وفيها لمسات للقلوب قد توقظها وتحييها . والقرآن يوجه الناس إلى البحث عن السنن المطردة , وتدبر خطواتها وحلقاتها , ليعيشوا حياة متصلة الأوشاج متسعة الآفاق , غير متحجرة ولا مغلقة ولا ضيقة ولا منقطعة .
وبعد أن يوجههم هذا التوجيه يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينفض يديه من أمرهم , ويدعهم لمصيرهم , الذي وجههم إلى نظائره , وألا يضيق صدره بمكرهم , فإنهم لن يضروه شيئا , وألا يحزن عليهم فقد أدى واجبه تجاههم وأبلغهم وبصرهم .
(ولا تحزن عليهم . ولا تكن في ضيق مما يمكرون) . . وهذا النص يصور حساسية قلبه صلى الله عليه وسلم وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم , ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير .
ثم يمضي في سرد مقولاتهم عن قضية البعث , واستهانتهم بالوعيد بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة: (ويقولون:متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) . .
كانوا يقولون هذا كلما خوفوا بمصائر المجرمين قبلهم , ومصارعهم التي يمرون عليها مصبحين كقرى لوط , وآثار ثمود في الحجر , وآثار عاد في الأحقاف , ومساكن سبأ بعد سيل العرم . . كانوا يقولون مستهزئين: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به ? إن كنتم صادقين فهاتوه , أو خبرونا بموعده على التحديد !
وهنا يجيء الرد يلقي ظلال الهول المتربص , وظلال التهكم المنذر في كلمات قصار:
(قل:عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) . . بذلك يثير في قلوبهم الخوف والقلق من شبح العذاب . فقد يكون وراءهم - رديفا لهم كما يكون الرديف وراء الراكب فوق الدابة - وهم لا يشعرون . وهم في غفلتهم يستعجلون به وهو خلف رديف ! فيالها من مفاجأة ترتعش لها الأوصال . وهم يستهزئون ويستهترون !
ومن يدري . إن الغيب لمحجوب . وإن الستار لمسبل . فما يدري أحد ما وراءه . وقد يكون على قيد خطوات ما يذهل وما يهول ! إنما العاقل من يحذر , ومن يتهيأ ويستعد في كل لحظة لما وراء الستر المسدول !
ــــــــــــ(1/17)
17.التعلق بالحياة الدنيا :
قال تعالى : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } (212) سورة البقرة
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ زَيَّنَ الحَيَاةَ الدُّنيا ، وَحَسَّنَها فِي أَعْيُنِ الكَافِرِينَ الذِينَ رَضُوا بِهَا ، وَجَمَعُوا الأَمْوالَ ، وَمَنَعُوا إِنْفَاقَهَا فِيمَا أَمَرَ اللهُ ، وَسَخِرُوا مِنَ الذِينَ آمَنُوا ، الذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الحَيَاةِ الدُّنيا وَزُخْرُفِهَا ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ ، فَفَازُوا بِالمَقَامِ الأَوَّلِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَكَانُوا بِذلِكَ فَوْقَ الذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ القِيَامَةِ . وَيُعْطِي اللهُ مَنْ يُريدُ مِنْ خَلْقِهِ عَطَاءً جَزِيلاً بِلا حَصْرٍ وَلا تَعْدَادٍ فِي الدُّنيا ، لأَنَّ الرِزْقَ لاَ يُقَدَّرُ عَلَى حِسَابِ الإِيمَانِ وَالكُفْرِ ، بَلْ يَجْرِي تَبَعاً لِمَشِيئَةِ اللهِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُزَادُ لَهُ الرِّزْقَ اسْتِدْراجاً ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقْتَر عَليهِ اخْتِبَاراً .
لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا ; بأعراضها الزهيدة , واهتماماتها الصغيرة . زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ; ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها ; ولا يعرفون قيما أخرى غير قيمها . والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن , ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة . . إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها ; لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة , ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها . . ولكن لأنه ينظر إليها من عل - مع قيامه بالخلافة فيها , وإنشائه للعمران والحضارة , وعنايته بالنماء والإكثار - فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الاعراض وأغلى . ينشد منها أن يقر في الأرض منهجا , وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل , وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس , ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع , وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود , الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف , وضخامة الاهتمام , وشمول النظرة .
وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض , المستعبدون لأهداف الأرض . . ينظرون للذين آمنوا , فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم , ومتاعهم الزهيد ; ليحاولوا آمالا كبارا لا تخصهم وحدهم , ولكن تخص البشرية كلها ; ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم ; ويرونهم يعانون فيها المشقات ; ويقاسون فيها المتاعب ; ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة . . ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا - في هذه الحال - فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا . عندئذ يسخرون منهم . يسخرون من حالهم , ويسخرون من تصوراتهم , ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه !
(زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا . . .) . .
ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان . . إنه ميزان الأرض . ميزان الكفر . ميزان الجاهلية . . أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه . والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه: (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) . .
هذا هو ميزان الحق في يد الله . فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان . وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء , وسخرية الساخرين , وقيم الكافرين . . إنهم فوقهم يوم القيامة . فوقهم عند الحساب الختامي الأخير . فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين
والله يدخر لهم ما هو خير , وما هو أوسع من الرزق . يهبهم إياه حيث يختار ; في الدنيا أو في الآخرة , أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير: (والله يرزق من يشاء بغير حساب) . .
وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء , ويفيض على من يشاء . لا خازن لعطائه ولا بواب ! وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه , وليس لهم فيما أعطوا فضل . وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة . . فالعطاء كله من عنده . واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى . .
وستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من الناس . . تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله ; فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض , واهتمامات الصغار ; وبذلك يحققون إنسانيتهم ; ويصبحون سادة للحياة , لا عبيدا للحياة . . كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر:الذين زينت لهم الحياة الدنيا , واستعبدتهم أعراضها وقيمها ; وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون !
وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين ; مهما أوتوا من المتاع والأعراض . على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون , وأن المؤمنين هم المحرومون ; فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة . وهم أحق بالرثاء والإشفاق . .
ــــــــــــ(1/18)
18.لا يؤمنون إلا بالخوارق :
قصة السحرة :
قال تعالى : { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) } سورة الشعراء
ودُعيَ الناسُ إلى الاجْتماع لِمُشَاهَدَةِ المُبارَزَةِ بينَ السَّحَرةِ وبينَ مُوسى وهَارونَ ، فَإخذَ الناسُ يَحُثُّ بعضُهُم بَعْضاً على الاجْتِمَاعِ في اليومِ المَعْلُومِ لحُضُورِ الحَفْلِ المَشْهُودِ .
وقالَ قائلُهمْ : لعلَّنا نَتَّبعُ السَّحَرَةَ إنْ غَلَبُوا مُوسَى وأخَاه . ( ولم يَقُولُوا لعلَّنا نتبعُ الحقَّ سَواءٌ كانَ منَ السَحَرةِ أو مِن موسَى ، ولكنهُمْ كانُوا على دِينِ مَلِكِهِمْ فرعونَ ) .
وَجَاءَ السَّحَرةُ إلى مَجْلِسِ فرعونَ ، وَقَدْ جَلَسَ على كُرْسِيِّهِ وحولَهُ كِبَارُ رِجَالِ دَوْلَتِهِ ، وخَدَمُهُ وحَشَمُهُ وجُنْدُهُ ، فَقامَ السَّحَرةُ بينَ يديْ فرعونَ يَطْلُبون منهُ الإِحْسَان إليهمْ إنْ غَلَبُوا مُوسى وهَارون ، وقالُوا لهُ : وهَلْ لَنَا مِنْ أجرٍ إذا انْتَصَرْنَا عليهِما؟
فقالَ لهمْ فرعونُ : نَعَمْ إنَّ لَكُمْ لاَجْراً ، وإنَّ لَكُمْ عِنْدي أكثرَ مِنْ ذَلِكَ ، فإنَّكُمْ سَتَكُونُونَ مِنْ جُلَسَائِي ، ومنَ المُقَرَّبِين عِنْدِي .
ولمَّا اجْتَمَعُوا ، في اليومِ المَعْلُومِ ، أمَامَ فرعونَ والناسِ المُحْتَشِدينَ ، سأَلَ السَّحَرَةُ مُوسى إنْ كَان يُريدُ أن يَبْدَأَ هو بإلقاءِ ما عِنْدَهُ مِنْ فُنُونِ السَّحَرَةُ مُوسى إنْ كَان يُريدُ أن يَبْدَأَ هو بإلقاءِ ما عِنْدَهُ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ ، أوْ يكونُونَ هُمُ البَادِئِيْنَ؟ فقالَ لهمْ : بَلْ ألْقُوا أنُتمْ مَا لَدَيْكُم من فُنُونِ السِّحْرِ .
فأَلَقَوْا حِبَالَهُمْ وعِصِيَّهُمْ فسَحَرُوا أعْيُنَ الناسِ واستَرْهَبُوهم وجَاؤُوا بسحرٍ عَظيمٍ - كَما جَاءَ في آيةٍ أُخْرَى - ونَظَرُوا إلى مَا أَتَوْا منَ السِّحْرِ فظنُّوهُ عَظيماً ، وداخَلَهُم الزَّهْوُ ، وأيْقَنُوا بالنَّصْرِ ، فأقْسَمُوا بِعِزَّةِ فرعَوْنَ ، وَقُوَّتِهِ ، وَيُمْنِهِ ، أنهُمْ سَيًَكونُون الغالبينَ .
فألقَى مُوسى عَصَاهُ فانْقَلَبَتْ ثًعْبَاناً عَظِيماً أخَذَ يُطَارِدُ حِبَالَ السَّحَرةِ ، وعِصَيَّهُمْ ويَبتلعُها ، حتّى أتَى عَليْها جَميعاً ، وقَدْ حَدَثَ كلُّ ذلِكَ أمامَ فرعونَ ومَلِئِ وجُندِهِ وأهلِ مَمْلَكَتهِ .
وعَلِمَ السَّحَرَةُ أنَّ مَا أتَى بهِ مُوسَى لَيْسَ سِحْراً ، لأنَّهُ لوَ كانَ سِحْراً لَما غَلَبَهُمْ ، وهُمْ جُمُوعٌ من السَّحَرةِ ، لهمْ بالسحْرِ علمٌ وَمَعْرِفَةٌ ، وأيْقَنُوا أَنَّ أتَى بهِ مُوسى هوَ الحَقُّ من عندِ اللهِ تَعالى فَخَرُّوا على وُجُوهِهِمْ سَاجِدينَ للهِ ربِّ العالَمينَ ، تَائِبينَ مُسْتَغفرينَ رَبَّهُمْ على مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ سِحرٍ وكُفْرٍ ، ورَغْبَةٍ في مُعَارَضَةِ الحَقِّ مِنْ عندِ اللهِ بِسْحْرِهِمْ .
وقالُوا : آمَنَّا بربِّ العالِمين الذيْ دَعا موسَى فِرعَونَ إلى عبادَتِهِ حينَما جاءَهُ ، وأعْلَنُوا إيْمَانَهُمْ أمامَ فرعونَ ومَلئِهِ .
ثمَّ بَيَّنُوا أنَّ ربَّ العالمينَ الذيْ آمنُوا بهِ هوَ ربُّ مُوسَى وهَارُونَ ، ومؤيِّدُهُما بنصْرِهِ .
فشعَرَ فرعَونُ أنُه غُلِبَ عَلَى أمْرِه غَلْباً كَبيراً أمامَ شَعْبِهِ ومَلَئِهِ وسَحَرَتِهِ ، فَعَدَلَ إلى المُكَابَرَة والعِنَادِ ، ودَعْوَى الباطِلِ ، فشرَعَ يَتَهَدَّدُ السحرةَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ ، ويقولُ لَهُمْ : إنَّ مُوسى هو كبيرُهُم ، وهو الذي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ ، وإنهُمْ تَوَاطُؤوا معهُ ليظْهَرَ عليهمْ أمامَ النَّاسِ فيتَّبِعُوه .
وقالَ لَهُمْ فرعونُ : كيفَ تؤمنونَ لهُ قبلَ أن تسْتَأذنُونِي في ذلكَ؟ وقبلَ أنْ أسْمَحَ لكُمْ بهِ؟ ثمّ تَوَعَّدَهمْ بقطعِ أيدِيهمْ وأَرجُلهمْ بصُورةٍ مُتَخَالِفةٍ فإِذا قَطَعَ اليدَ اليُمنى قطعَ الرجلَ اليسرى ، وبأَنَّهُ سَيَصْلِبُهُم جَميعاً على جُذوع النَّخلِ .
فقالُوا لهُ : لا حَرَجَ علينا ولا بأسَ في ذلك ، وهوَ لا يَضُرُّنا ولا نُبالي بِهِ ، فإنَّنا راجِعُون إلى ربِّنا ، وهو تَعالى لا يُضيعُ أجرَ المُحْسنين ، لا ضَيْرَ علينا - لا ضَرَرَ علينا فيما يُصِيبُنا .
وإنَّنا نَطمعُ في أَنْ يَغفِرَ لنا رَبُّنا ذنُوبَنَا وما اقْتَرفْنَاه في حياتِنَا الماضيةِ من الخَطَايا ، وما أكْرَهْتَنَا عليه من السِّحرِ ، إذْ كُنَّا أولَ من آمنَ من قومِك بمُوسى ورسالَتِه انْقِياداً للحقِّ ، وإعْرَاضاً عن زُخْرُفِ الدُّنيا وزينَتِها .
وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرغون الطاغية ; تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره ; ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية , ولا شيء سوى الأجر والمصلحة . وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائما في كل مكان وفي كل زمان .
وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع . وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر . يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه . وهو بزعمه الملك والإله !
ثم إذا مشهد المباراة الكبرى وأحداثه الجسام: (قال لهم موسى:ألقوا ما أنتم ملقون . فألقوا حبالهم وعصيهم , وقالوا:بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون:فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون , فألقي السحرة ساجدين . قالوا:آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون . قال:آمنتم له قبل أن آذن لكم ! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ولأصلبنكم أجمعين . قالوا:لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون . إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين) . .
ويبدأ المشهد هادئا عاديا . إلا أنه يشي منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه ; وقلة اكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن , المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة , ووراءهم فرعون وملؤه , وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة . . يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون: (قال لهم موسى:ألقوا ما أنتم ملقون) . .
وفي التعبير ذاته ما يشي بالاستهانة: (ألقوا ما أنتم ملقون) . . بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام .
وحشد السحرة أقصى مهارتم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته: (فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا:بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) . .
ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم , كما فصله في سورة الأعراف وطه , ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق , وينتهي مسارعا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل ; لأن هذا هو هدف السورة الأصيل .
(فألقى موسى عصاه , فإذا هي تلقف ما يأفكون) . . ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة ; فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه ; وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه . وهم جمع كثير . محشود من كل مكان . وموسى وحده وليس معه إلا عصاه . ثم إذا هي تلقف ما يأفكون ; واللقف أسرع حركة للأكل . وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلا , ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقا . فلا تبقي لها أثرا . ولو كان ما جاء به موسي سحرا , لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها . ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا !
عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا . وهم أعرف الناس بأنه الحق: (فألقي السحرة ساجدين . قالوا:آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون) . .
وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم , ولم يكونوا أصحاب عقيدةولا قضية . ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا . لقد كانت هزة رجتهم رجا , وخضتهم خضا ; ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم , فأزالت عنها ركام الضلال , وجعلتها صافية حيه خاشعة للحق , عامرة بالإيمان , في لحظات قصار . فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا , بغير إرادة منهم , تتحرك ألسنتهم , فتنطلق بكلمة الإيمان , في نصاعة وبيان: (آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون) .
وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب , فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن . إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه " . وهكذا انقلب السحرة المأجورون , مؤمنين من خيار المؤمنين . على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه . لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج , ولايعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول .
ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجىء وقع الصاعقة على فرعون وملئه . فالجماهير حاشدة . وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة . عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي , ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره , ويريد أن يجعل الحكم لقومه ; وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه . . ثم ها هم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته . ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب ; ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله , ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله , ويخلعون عنهم عبادة فرعون , وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته , وانتظروا أجره , واستفتحوا بعزته !
وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون , إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش . أسطورة الألوهية , أو بنوته للآلهة - كما كان شائعا في بعض العصور - وهؤلاء هم السحرة . والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها . ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين , رب موسى وهارون , والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها . فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة ? والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما .
إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة , وذعر الملأ من حوله , إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة ; وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين .
عندئذ جن جنون فرعون , فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال . بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى !
قال:آمنتم له قبل أن آذن لكم ! إنه لكبيركم الذى علمكم السحر . فلسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ولأصلبنكم أجمعين . .
(آمنتم له قبل أن آذن لكم) . . لم يقل آمنتم به . إنما عده استسلاما له قبل إذنه . على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته , عارف بهدفه , مقدر لعاقبته . ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم . ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللماسات الوضيئة ? ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة - وهم من الكهنة - كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه , أو كان يختلف إليهم في المعابد . فارتكن فرعون إلىهذه الصلة البعيدة , وقلب الأمر فبدلا من أن يقول:إنه لتلميذكم قال:إنه لكبيركم . ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير !
-------------------
وكذلك في قصة أصحاب الأخدود :
فعَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّى قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِى أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ. فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ». أخرجه مسلم
ــــــــــــ(1/19)
19.السخرية من المؤمنين اتهامهم بالأكاذيب :
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } سورة المطففين
إِنَّ المُجْرِمِينَ الذِينَ يُعَانُونَ سُوء العَذَابِ ، فِي الآخِرَةِ ، كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَسْخَرُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ أَكْرَمَهُم اللهُ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ ، حِينَمَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا .
وَكَانُوا إِذَا مَرُّوا بِالمُؤْمِنِينَ يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ وَيَتَغَامَزونَ عَلَيْهِمْ بِالعُيُونِ ، اسْتِهْزَاءً بِهِمْ .
وَإِذَا رَجَعُوا إِلَى جَمَاعَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ والضَّلاَلِ ، رَجَعُوا مُعْجَبِينَ بِأَنْفُسِهِمْ لِمَا فَعَلُوهُ بِالمُؤْمِنِينَ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالإِيْذَاءِ .
وَإِذَا رَأَى هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ المُؤْمِنِينَ قَالُوا : إِنَّهُمْ ضَالُّونَ إِذْ بَدَّلُوا دِينَهُمْ ، وَتَرَكُوا مَا كَانَ يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ، وَاتَّبَعُوا مُحَمَّداً وَدِينَهُ .
وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلِ الكُفَارَ رُقَبَاءَ عَلَى المُؤْمِنِينَ ، وَلَمْ يَعْهَدْ إِلَيْهِمْ بمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، فَلاَ يَحقُّ لَهُمْ أَنْ يَعِيبُوا عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعْمَالَهُمْ .
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ الذِي يُكَرِّمُ فِيهِ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ ، وَيُخزِي الكَافِرِينَ المُجْرِمِينَ ، فَإِنَّ المُؤْمِنِينَ هُمُ الذِينَ يَضْحَكُونَ مِنَ الكُفَّارِ ، وَمَا صَارُوا إِلَيهِ مِنَ الخَزْيِ والذَّلِّ وَالعَذَابِ .
وَيَكُونُ المُؤْمِنُونَ المَكَرَّمُونَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ جَالِسِينَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ .
لِيَرَوا إِنْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ قَدْ لَقُوا الجَزَاءَ الأَوْفَى ، الذِي يَسْتَحِقُّونَهُ عََلَى كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِم المُجْرِمَةِ ، فِي الحِيَاةِ الدُّنْيَا .
والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا , وسوء أدبهم معهم , وتطاولهم عليهم , ووصفهم بأنهم ضالون . . مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة . ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى . وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها . مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور !!
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) . . كانوا . . فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة . فإذا المخاطبون به في الآخرة . يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا . وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا !
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم , وسخرية منهم . إما لفقرهم ورثاثة حالهم . وإما لضعفهم عن رد الأذى . وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء . . فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا . وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة . وهم يسلطون عليهم الأذى , ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع , مما يصيب الذين آمنوا , وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين !
(وإذا مروا بهم يتغامزون) . . يغمز بعضهم لبعض بعينه , أو يشيره بيده , أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين . وهي حركة وضيعة واطية تكشف عن سوء الأدب , والتجرد من التهذيب . بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين , وإصابتهم بالخجل والربكة , وهؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين !
(وإذا انقلبوا إلى أهلهم) بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم . . (انقلبوا فكهين) . . راضين عن أنفسهم , مبتهجين بما فعلوا , مستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير . فلم يتلوموا ولم يندموا , ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا . وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير !
(وإذا رأوهم قالوا:إن هؤلاء لضالون) !
وهذه أعجب . . فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال . وأن يزعموا حين يرون المؤمنين , أن المؤمنين ضالون . ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير: (إن هؤلاء لضالون !) . .
والفجور لا يقف عند حد , ولا يستحيي من قول , ولا يتلوم من فعل . واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون , إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود !
والقرآن لا يقف ليجادل عن الذين آمنوا , ولا ليناقش طبيعة الفرية . فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة . ولكنه يسخر سخرية عالية من القوم الذين يدسون أنوفهم فيما ليس من شأنهم , ويتطفلون بلا دعوة من أحد في هذا الأمر:(وما أرسلوا عليهم حافظين) . . وما وكلوا بشأن هؤلاء المؤمنين , وما أقيموا عليهم رقباء , ولا كلفوا وزنهم وتقدير حالهم ! فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير !
وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا . . ما كان . . ويطوي هذا المشهد الذي انتهى . ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذلك النعيم:
(فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون) . .
اليوم والكفار محجوبون عن ربهم , يقاسون ألم هذا الحجاب الذي تهدر معه إنسانيتهم , فيصلون الجحيم , مع الترذيل والتأنيب حين يقال: (هذا الذي كنتم به تكذبون) . .
اليوم والذين آمنوا على الأرائك ينظرون . في ذلك النعيم المقيم , وهم يتناولون الرحيق المختوم بالمسك الممزوج بالتسنيم . .
فاليوم . . الذين آمنوا من الكفار يضحكون . .
والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل: (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ?) .
أجل ! هل ثوبوا ? هل وجدوا ثواب ما فعلوا ? وهم لم يجدوا(الثواب) المعروف من الكلمة . فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم ! ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا . فهو ثوابهم إذن . وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام !
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته - مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا - كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري , كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون , من تثبيته وتسريته وتأسيته .
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين , فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها , وهو لا يهملها - وإن أمهل الكافرين حينا - وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون ! إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . . وهذا يكفي ! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة , تحسه وتقدره , وتستريح إليه وتستنيم !
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها , ونعيمها في جناته , وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم , مع الإهانة والترذيل . . تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة , وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة , وأذاهم البالغ , وسخريتهم اللئيمة . . الجنة للمؤمنين , والجحيم للكافرين . وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس !
فأما النصر في الدنيا , والغلب في الأرض , فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت . .
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال , بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء . وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب , وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت , آتاها النصر في الأرض , وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة , مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ; ولمتتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه !
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة , تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
ــــــــــــ(1/20)
20.البطش بالمؤمنين :
قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (72) سورة الحج
وَإِذَا قُرِئَتْ عَلَى هَؤُلاَءِ المًُشْرِكِينَ ، العَابِدِينَ غَيْرَ اللهِ ، آيَاتُ القرآنِ البَيِّنَاتُ ، وَذُكِّرُوا بِمَا فِيهَا مِنْ حُجَج وَبَرَاهِينَ ، وَدَلاَئلِ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيتِهِ ، وَعَظَمَتِهِ ، تَتَبَدَّلُ مَلاَمِحُ وُجُوهِهِمْ ، وَتَثُورُ نُفُوسُهم وَيَهُمُّونَ بِالبَطْشِ بالذين يَقْرَؤُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ ، وَيَذُكِّرونَهُمْ بِهَا ، وَيَكَادُونَ يُبَادِرُونَهم بالضَّرْبِ والشَّتْمِ ( يَسْطُونَ بِهِمْ ) .
فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ : إِنَّ النَّارَ التِي أَعَدَّها اللهُ للكَافِرِينَ لِيُذِّبَهُمْ فِيهَا هِيَ أَشَدَّ وَأَقْسَى وَأَعْظَمُ مِمَّا تُخَوِّفُونَ بِهِ أولِياءَ اللهِ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا؛ وَبِئْسَ النَّارُ مَنْزِلاً وَمُقَاماً وَمَصِيراً ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، للذين كَفَرُوا .
وهؤلاء إنما يعبدون آلهة من الأصنام والأوثان , أو من الناس أو الشيطان . . وهذه كلها لم ينزل الله بها قوة من عنده , فهي محرومة من القوة . وهم لا يعبدونها عن علم ولا دليل يقتنعون به , إنما هو الوهم والخرافة . وما لهم من نصير يلجأون إليه وقد حرموا من نصرة الله العزيز القدير .
وأعجب شيء أنهم وهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا , وما ليس لهم به علم . لا يستمعون لدعوة الحق , ولا يتلقون الحديث عنها بالقبول . إنما تأخذهم العزة بالإثم , ويكادون يبطشون بمن يتلون عليهم كلام الله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر , يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) . .
إنهم لا يناهضون الحجة بالحجة , ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجأون إلى العنف والبطش عندما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل . وذلك شأن الطغاة دائما يشتجر في نفوسهم العتو , وتهيج فيهم روح البطش , ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف الغليظ !
ومن ثم يواجههم القرآن الكريم بالتهديد والوعيد: (قل:أفأنبئكم بشر من ذلكم ?) بشر من ذلكم المنكر الذي تنطوون عليه , ومن ذلك البطش الذي تهمون به . .(النار) . . وهي الرد المناسب للبطش والمنكر (وبئس المصير) . .
- - - - - - - - - - - - -
الباب الثاني
نتائج العمى
1-عدم الاهتداء للحق :
قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (57) سورة الكهف
وَلاَ أَحَدَ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ وُعِظَ بِآيَاتِ اللهِ ، وَدَلَّ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الهُدَى وَالرَّشَادِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَتَدَبَّرْهَا ، وَلَمْ يَكْتَرِثْ بِهَا ، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي عَوَاقِبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الظُّلْمِ ، وَالكُفْرِ ، وَالمَعَاصِي ( نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) ، فَلَمْ يُنِبْ إِلَى اللهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ تَائِباً مُسْتَغْفِراً .
وَقَدْ كَانَ إِعْرَاضُ الكَافِرِينَ عَمَّا ذَكَرُوا لأَنَّ اللهَ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةً وَأَغْلِفَةً لِكَيْلاَ يَفْقَهُوا مَا يُذَكَّرُونَ بِهِ ( أَكْنَّةً ) وَلأَنَّهُ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَثِقَلاً لِكَيْلاَ يَسْمَعُوهُ . وَلِذَلِكَ فَإِنَّ دَعْوَتَكَ إِيَّاهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى الهُدَى وَالإِيمَانِ بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ ، لَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِمْ ، وَلَنْ يَسْتَجِيبُوا لَهَا أَبَداً
فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن , ولا أن ينتفعوا به . لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه , وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه . وقدر عليهم الضلال - بسبب استهزائهم وإعراضهم - فلن يهتدوا إذن أبدا . فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي .
----------------
وقال تعالى : { وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} (43) سورة يونس
وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجِّهُ إِلَيْكَ نَظَرَهُ ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُبْصِرُ مَا آتَاكَ اللهُ مِنْ نُورِ الإِيمَانِ ، وَالخُلُقِ العَظِيمِ ، وَالدَّلاَلَةِ القَاطِعَةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ . وَكَمَا أَنَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ العُمْيِ بِدَلاَئِلَ البَصَرِ الحِسِّيَّةِ ، كَذَلِكَ فِإِنَّكَ لاَ تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِالدَّلاَئِلِ العَقْلِيَّةِ ، إِذَا كَانُوا فَاقِدِينَ لِنِعْمَةِ البَصِيرَةِ التِي تُدْرِكُها .
إن هؤلاء الخلائق الذين يستمعون ولا يعقلون ما سمعوا , وينظرون ولا يميزون ما نظروا . . إن هؤلاء لكثير , في كل زمان وفي كل مكان . والرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لهم شيئاً . لأن حواسهم وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم , فكأنها معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها . والرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمع الصم , ولا يبصر العمي . فذلك من شأن الله وحده عز وجل . والله سن سنة وترك الخلق لمقتضى السنة . وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليهتدوا بها , فإذا هم عطلوها حقت عليهم سنته التي لا تتخلف ولا تحابي , ولقوا جزاءهم عدلاً , ولم يظلمهم الله شيئاً: (إن الله لا يظلم الناس شيئاً , ولكن الناس أنفسهم يظلمون) . .
وفي هذه الآيات الأخيرة تسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجده في نفسه من ضيق بهذا التكذيب لما معه من الحق , وبهذا العناد الصفيق بعد تكرار البيان والإعلام . وذلك بما يقرره له ربه من أن إباءهم الهدى لم يكن عن تقصير منه في الجهد . ولا قصور فيما معه من الحق . ولكن هؤلاء كالصم العمي . وما يفتح الآذان والعيون إلا الله . فهو شأن خارج عن طبيعة الدعوة والداعية داخل في اختصاص الله .
وفيها كذلك تحديد حاسم لطبيعة العبودية ومجالها - حتى ولو تمثلت في شخص رسول الله . فهو عبد من عباد الله لا قدرة له خارج مجال العبودية . والأمر كله لله .
--------------------
وقال تعالى : { وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} (81) سورة النمل
وَإِنَّك لاَ تَستَطِيع أَنْ تَهدِيَ مَنْ أَعْمَاهُمُ اللهُ عَنِ الهُدَى والرَّشَادِ فَجَعَلَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً تَمنَعُهُمْ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا جِئْتَ بِهِ نَظَراً يُوصِلُهُمْ إِلى مَعرِفَةِ الحَقِّ ، وَسُلُوكِ سَبيلِهِ ، وَإِنَّما يَستَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَميعٌ بَصِيرٌ ، يَنْتَفِعُ بِسَمِعِهِ وَبَصَرِهِ ، وَقَدْ خَضَعَ وَخَشَعَ للهِ ، وَوَعَى مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ عَلى أَلسِنَةِ الرُّسُلِ ، عَليهِم السَّلاَمُ ، فَهؤُلاءِ هُمْ مُسلِمُونَ لأَمرِ رَبِّهِمْ .
والتعبير القرآني البديع يرسم صورة حية متحركة لحالة نفسية غير محسوسة . حالة جمود القلب , وخمود الروح , وبلادة الحس , وهمود الشعور . فيخرجهم مرة في صورة الموتى , والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو , وهم لا يسمعون الدعاء , لأن الموتى لا يشعرون ! ويخرجهم مرة في هيئة الصم مدبرين عن الداعي , لأنهم لا يسمعون ! ويخرجهم مرة في صورة العمي يمضون في عماهم ; لا يرون الهادي لأنهم لا يبصرون ! وتتراءى هذه الصور المجسمة المتحركة , فتمثل المعنى وتعمقه في الشعور !
وفي مقابل الموتى والعمي والصم يقف المؤمنون . فهم الأحياء , وهم السامعون , وهم المبصرون .
(إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) . . إنما تسمع الذين تهيأت قلوبهم لتلقي آيات الله , بالحياة والسمع والبصر . وآية الحياة الشعور . وآية السمع والبصر الانتفاع بالمسموع والمنظور . والمؤمنون ينتفعون بحياتهم وسمعهم وأبصارهم . وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يسمعهم , فيدلهم على آيات الله , فيستسلمون لتوهم ولحظتهم (فهم مسلمون) .
إن الإسلام بسيط وواضح وقريب إلى الفطرة السليمة ; فما يكاد القلب السليم يعرفه , حتى يستسلم له , فلا يشاق فيه . وهكذا يصور القرآن تلك القلوب , القابلة للهدى , المستعدة للاستماع , التي لا تجادل ولا تماري بمجرد أن يدعوها الرسول فيصلها بآيات الله , فتؤمن لها وتستجيب .
------------------
وقال تعالى : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (40) سورة الزخرف
وهؤلاءِ الكُفَّارُ المُعَانِدُونَ هُمْ كَالعُمِيِ لانْغِلاَقِ قُلُوبِهِمْ عنِ الهُدَى ، وإِنَّكَ لاَ تَسْتَطيعُ هِدَايَتَهُمْ ، وَلا صَرْفَهُمْ عَنْ كُفْرِهِمْ إِلى الإِيمانِ ، فَإَنْتَ لاَ تستطيعُ أَنْ تُسْمِعَ أَحَداً سَمَاعاً يَنْتَفِعُ بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قلبُهُ قَدْ تَهَيَّأَ للإِيمَانِ بآيَاتِ اللهِ ، فَهُوَ وَحْدَهُ الذي إِذا سَمِعَ كِتَابَ اللهِ تَدَبَّرَهُ ، وَفَهِمَهُ ، وعمِلَ بِمَا فيهِ بِخُشُوعٍ وانقِيادٍ لأَمرِ اللهِ تَعَالى .
وهذا المعنى يتكرر في القرآن تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبياناً لطبيعة الهدى والضلال , ورجعهما إلى مشيئة الله وتقديره وحده ; وإخراجهما من نطاق وظيفة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ووضع حدود فاصلة بين مجال القدرة الإنسانية المحدودة في أعلى درجاتها عند مرتقى النبوة , ومجال القدرة الإلهية الطليقة ; وتثبيت معنى التوحيد في صورة من أدق صوره , وفي موضع من ألطف مواضعه: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) . . وهم ليسوا صماً ولا عمياً , ولكنهم كالصم والعمي في الضلال , وعدم الانتفاع بالدعاء إلى الهدى , والإشارة إلى دلائله . ووظيفة الرسول أن يُسمع من يَسمع , وأن يهدي من يبصر . فإذا هم عطلوا جوارحهم , وطمسوا منافذ قلوبهم وأرواحهم فما للرسول إلى هداهم من سبيل ; ولا عليه من ضلالهم , فقد قام بواجبه الذي يطيق .
والله يتولى الأمر بعد أداء الرسول لواجبه المحدود: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون . أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون) . .
والأمر لا يخرج عن هذين الحالين . فإذا ذهب الله بنبيه فسيتولى هو الانتقام من مكذبيه . وإذا قدر له الحياة حتى يتحقق ما أنذرهم به , فالله قادر على تحقيق النذير , وهم ليسوا له بمعجزين . ومرد الأمر إلى مشيئة الله وقدرته في الحالين , وهو صاحب الدعوة . وما الرسول إلا رسول .
ــــــــــــ(1/21)
2-عدم الاستواء بين الأعمى والبصير:
قال تعالى : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (50) سورة الأنعام
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ ، الذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ الآيَاتِ تَعْجِيزاً لِجَهْلِهْم بِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ ، وَلِظَنِّهِمْ أنَّ النَّبِيَّ لاَ يَكُونُ نَبِيّاً إلاّ إذَا أَصْبَحَ قَادِراً عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ البَشَرُ عَلَيْهِ : إنِّي لاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي أَمْلِكُ خَزَائِنَ اللهِ ، وَلاَ أَتَصَرَّفُ بِهَا ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنَّي أَعْلَمُ غَيْبَ اللهِ ، فَعِلْمُ الغَيْبِ عِنْدَ اللهِ وَحْدَهُ وَلا أَطَّلِعُ مِنْهُ إلاَّ عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ رَبِّي ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَلاَ أَدَّعِي أنِّي مَلَكٌ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ يُوحِي إِليهِ اللهُ ، وَقَدْ شَرَّفَنِي سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ ، وَإِنَّنِي أَتَّبِعُ مَا يُوحِيهِ اللهُ إلَيَّ ، وَلاَ أَخْرُجُ عَنْهُ مُطْلَقاً . قُلْ لَهُمْ : هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الحَقَّ وَهُدِيَ إلَيهِ ، مَعَ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ ، وَلَمْ يَنْقَدْ إِلَيهِ؟ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ فِي أنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ؟
لقد كان المعاندون من قريش يطلبون أن يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من الخوارق يصدقونه بها - وهم كانوا كما أسلفنا يعلمون صدقه ولا يشكون فيه - وتارة كانوا يطلبون أن تكون هذه الآية تحويل الصفا والمروة ذهبا ! وتارة تكون إبعادهما عن مكة ليصبح مكانهما خصبا مخضرا بالزروع والثمار ! وتارة تكون إنباءهم بما سيقع لهم من أحداث مغيبة ! وتارة تكون طلب إنزال ملك عليه ! وتارة تكون طلب كتاب مكتوب في قرطاس يرونه يتنزل عليه من السماء . . إلى آخر هذه المطالب التي يوارون وراءها تعنتهم وعنادهم !
ولكن هذه المطالب كلها إنما كانوا يصوغون فكرتها من تلك الأوهام والأساطير التي أحاطت بصورة النبوة وصورة النبي في الجاهليات من حولهم , وأقربها إليهم أوهام أهل الكتاب وأساطيرهم حول النبوة , بعدما انحرفوا عما جاءتهم به رسلهم من الحق الواضح في هذه الأمور . .
ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من "النبوءات" الزائفة , يدعيها "متنبئون" ويصدقها مخدوعون . . ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون ! حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب , والاتصال بالجن والأرواح , وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى والتعاويذ , أو بالدعوات والصلوات , أو بغيرها من الوسائل والأساليب . وتتفق كلها في الوهم والضلالة , وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب .
"فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء . ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة "بالأرباب ! " لا تطيع الكاهن , ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه , وترشده بالعلامات والأحلام , ولا تلبي سائر الدعوات والصلوات ! ولكنهما - نبوءة السحر ونبوءة الكهانة - تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس . لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان , ويريدان قصدا ما يطلبانه بالعزائم والصلوات , ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره , ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها , ولعله لايعيها . ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه , ولحن رموزه وإشاراته . وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب "مانتي" "" ويسمون المفسر:"بروفيت" "" أى المتكلم بالنيابة عن غيره . ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها . وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون , إلا أن يكون الكاهن متوليا للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب , ومضامين رموزه وإشاراته . ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة . فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها , والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده . وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة ; ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة , لأنه قد يعتري صاحبه في البرية , كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد" .
"وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار , ودراويش الطرق الصوفية , لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود , واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد , وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب .
"جاء في كتاب صموئيل الأول:
أن شاول أرسل لأخذ داود رسلا . . "فرأوا جماعة الأنبياء يتنبأون , وشاول واقف بينهم رئيسا عليهم . فهبط روح الله على رسل شاول , فتنبأوا هم أيضا . وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء . . . فخلع هو أيضا ثيابه , وتنبأ هو أيضا أمام صموئيل , وانتزع عاريا ذلك النهار كله وكل الليل" .
"وجاء في كتاب صموئيل كذلك:
" . . أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة , وأمامهم رباب ودف وناي وعود , وهم يتنبأون , فيحل عليهم روح الرب , فتتنبأ معهم , وتتحول إلى رجل آخر .
"وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني:"إذ قال بنو الأنبياء يا ليشع:هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا , فلنذهب إلى الأردن" .
"وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواضع , كما جاء في سفر الأيام الأول . حيث قيل:إن داود ورؤساء الجيش أفرزوا للخدمة بني أساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج" . . .
وهكذا حفلت الجاهليات - ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية - بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي . وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور ; ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة ; وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة . . ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول . . ومنها هذا التقرير: (قل:لا أقول لكم عندي خزائن الله , ولا أعلم الغيب , ولا أقول لكم:إني ملك . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . قل:هل يستوي الأعمى والبصير ? أفلا تتفكرون ?) . .
إنه صلى الله عليه وسلم يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشرا مجردا من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة . وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء . . لا ثراء . ولا ادعاء . . إنها عقيدة يحملها رسول , لا يملك إلا هداية الله , تنير له الطريق !
ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم . . إنه لا يقعد على خزائن الله , ليغدق منها على من يتبعه , ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن ; ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكا . . إنما هو بشر رسول ; وإنما هي هذه العقيدة وحدها , في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة . .
إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة , وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة , وإلى الله . فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف . . من أرادها لذاتها فهو بها حقيق , وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة . ومن أرادها سلعة في سوق المنافع , فهو لا يدرك طبيعتها , ولا يعرف قيمتها , وهي لا تمنحه زادا , ولا غناء . .
لذلك كله يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدمها للناس هكذا , عاطلة من كل زخرف , لأنها غنية عن كل زخرف ; وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال , ولا إلى وجاهة دنيا , ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى . إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى .
قل:لا أقول لكم عندي خزائن الله , ولا أعلم الغيب , ولا أقول لكم:إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي . . ثم ليعلموا أنهم حينئذ إنما يفيئون إلى النور والبصيرة , ويخرجون من الظلام والعماء: (قل:هل يستوي الأعمى والبصير ? أفلا تتفكرون ?) . .
ثم . . إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر , والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى . . هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة . . فما شأن العقل البشري في هذا المجال ?
سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط . . إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي , وإدراك مدلولاته . . وهذه وظيفته . . ثم هذه هي فرصته في النور والهداية ; وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي , فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف , وسوء الرؤية , ونقص الرؤية , وسوء التقدير , وسوء التدبير .
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدا . تجربة بعد تجربة , وحادثة بعد حادثة , وصورة بعد صورة . . حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة , ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاما , ويضع على أساسها نظاما , ملحوظا فيه الشمول والتوازن . . ومن ثم يظل - حين ينعزل عن منهج الله وهداه - يرتاد التجارب , ويغير الأحكام , ويبدل النظام , ويضطرب بين الفعل وردود الفعل , ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال . . وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة , وأجهزة إنسانية كريمة . . ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله ; وجعل التجارب والتقلبات في "الأشياء" وفي "المادة " وفي "الأجهزة " وفي "الآلات" . . وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه . والخسارة في النهاية مواد وأشياء . لا أنفس وأرواح !
ويتعرض لهذا كله - بعد طبيعة تركيبه - بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات , لا بد لها من ضابط , يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها , ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها ! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده ; فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات - وهي شتى - من ضابط آخر يضبطه هو ذاته ; ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا , ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة , وكل حكم - في مجال الحياة البشرية - ليقوم به تجربته وحكمه , وليضبط به اتجاهه وحركته .
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي , باعتبار أن كليهما - العقل والوحي - من صنع الله فلا بد أن يتطابقا . . هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر , ولم يقل بها الله سبحانه !
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي - حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر - إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله . . فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة , ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري , ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به . لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل , وأن الفطرة وحدها تنحرف . وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة , إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي , وهو النور والبصيرة . والذي يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين ; أو أن العلم - وهو من منتجات العقل - يغني البشرية عن هدى الله ; إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك . . فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم , هي أبأس حياة يشقى فيها "الإنسان" مهما فتحت عليه أبواب كل شيء ; ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد ; ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق . . وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية ! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون ! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي , وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات . ثم يقيم له الأسس , ويضع له القواعد , التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة ; كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة الله - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك !
والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير , وبترك وحي الله وهداه أعمى , واقتران الحديث عن تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي وحده , بالإشارة إلى العمى والبصر , بالسؤال التحضيضي على التفكير: إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل:هل يستوي الأعمى والبصير:أفلا تتفكرون ? . .
اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق , أمر ذو دلالة في التعبير القرآني . . فالتفكر مطلوب , والحض عليه منهج قرآني ; ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي , الذي يمضي معه مبصرا في النور ; لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى , بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير . .
والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق , إنما يتحرك في مجال واسع جدا . . يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله , الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضا ; كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث , ومجالات الحياة جميعا . . فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج , وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات ! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعا . فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان . . العقل . . إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني . . فلا تضل إذن ولا تطغى . .
-------------------
وقال تعالى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } (24) سورة هود
وَضَرََبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِحَالِ المُؤْمِنِينَ ، أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالجَنَّةِ ، وَلِحَالِ الكَافِرِينَ ، أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ فَقَالَ : إِنَّ الكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الأَعْمَى وَالأَصَمِّ الذِي لاَ يُبْصِرُ وَلاَ يَسْمَعُ ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ . وَمَثَلُ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ كَمَثَلِ البَصِيرِ السَّمِيعِ الذِي يَتْبَعُ الخَيْرَ ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ ، وَهُوَ سَمِيعٌ لِلْحُجَّةِ فَلا يَرُوجُ عَلَيْهِ البَاطِلُ . فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَانِ حَالاً؟ كَلاَّ إِنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ ، أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلاَلِ مِنَ التَّبَايُنِ ، وَفِيمَا بَيْنَ البَاطِلِ وَالحَقِّ مِنَ الاخْتِلاَفِ وَالتَّمَايُزِ فَتَعْتَبِرُوا وَتَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الهُدَى وَالإِيمَانِ ، وَتَبْتَعِدُوا عَنْ طَرِيقِ الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ . ؟
إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء , وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب . فما بال حين يكون هذا الافتراء على الله ?
(أولئك يعرضون على ربهم , ويقول الأشهاد:هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) .
إنه التشهير والتشنيع . بالإشارة:(هؤلاء) . . (هؤلاء الذين كذبوا) . . وعلى من ? (على ربهم) لا على أحد آخر ! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد , تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة:
(ألا لعنة الله على الظالمين) . .
يقولها الأشهاد كذلك . والأشهاد هم الملائكة والرسل والمؤمنون , أو هم الناس أجمعون . فهو الخزي والتشهير - إذن - في ساحة العرض الحاشدة ! أو هو قرار الله سبحانه في شأنهم إلى جانب ذلك الخزي والتشهير على رؤوس الأشهاد: (ألا لعنة الله على الظالمين) . .
والظالمون هم المشركون . وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل الله .
(ويبغونها عوجا) . .
فلا يريدون الاستقامة ولا الخطة المستقيمة , إنما يريدونها عوجا والتواء وانحرافا . يريدون الطريق أو يريدون الحياة أويريدون الأمور . . كلها بمعنى . . (وهم بالآخرة هم كافرون) ويكرر(هم) مرتين للتوكيد وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير .
والذين يشركون بالله - سبحانه - وهم الظالمون - إنما يريدون الحياة كلها عوجا حين يعدلون عن استقامة الإسلام . وما تنتج الدينونة لغير الله - سبحانه - إلا العوج في كل جانب من جوانب النفس , وفي كل جانب من جوانب الحياة .
إن عبودية الناس لغير الله سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد الله أن يقيمها على الكرامة . وتنشئ في الحياة الظلم والبغي وقد أراد الله أن يقيمها على القسط والعدل . وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه الأرباب الأرضية والطبل حولها والزمر , والنفخ فيها دائما لتكبر حتى تملأ مكان الرب الحقيقي . ولما كانت هذه الأرباب في ذاتها صغيرة هزيلة لا يمكن أن تملأ فراغ الرب الحقيقي , فإن عبادها المساكين يظلون في نصب دائب , وهم مقعد مقيم ينفخون فيها ليل نهار , ويسلطون عليها الأضواء والأنظار , ويضربون حولها بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح , حتى يستحيل الجهد البشري كله من الإنتاج المثمر للحياة إلى هذا الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم . . فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء ?!
(أولئك) . . البعداء المبعدون الملعونون .
(لم يكونوا معجزين في الأرض) . .فلم يكن أمرهم معجزا لله , ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا . . (وما كان لهم من دون الله من أولياء) . .
ينصرونهم أو يمنعونهم من الله . إنما تركهم لعذاب الآخرة , ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة: (يضاعف لهم العذاب) . .
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر ; كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) . . (أولئك الذين خسروا أنفسهم) . .
وهي أفدح الخسارة , فالذي يخسر نفسه لا يفيد شيئا مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في الدنيا , لم يحسوا بكرامتهم الآدمية التي تتمثل في الارتفاع عن الدينونة لغير الله من العبيد . كما تتمثل في الارتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع - مع المتاع بها - إلى ما هو أرقى وأسمى . وذلك حين كفروا بالآخرة , وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه . وخسروا أنفسهم في الآخرة بهذا الخزي الذي ينالهم , وبهذا العذاب الذي ينتظرهم . .
(وضل عنهم ما كانوا يفترون) . . غاب عنهم فلم يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على الله . فقد تبدد وذهب وضاع .
(لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) . . الذين لا تعدل خسارتهم خسارة . وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى . وفي الجانب الآخر أهل الإيمان والعمل الصالح , المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه لا يشكون ولا يقلقون: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وأخبتوا إلى ربهم , أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) . .
والإخبات الطمأنينة والاستقرار والثقة والتسليم . . وهي تصور حال المؤمن مع ربه , وركونه إليه واطمئنانه لكل ما يأتي به , وهدوء نفسه وسكون قلبه , وأمنه واستقراره ورضاه:
(مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع . هل يستويان مثلا ?) . .
صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين . والفريق الأول كالأعمى لا يرى وكالأصم لا يسمع - والذي يعطل حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها , وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل , ليدرك ويتدبر فكأنما هو محروم من تلك الجوارح والحواس - والفريق الثاني كالبصير يرى وكالسميع يسمع , فيهديه بصره وسمعه .
(هل يستويان مثلا ?) . . . سؤال بعد الصورة المجسمة لا يحتاج إلى إجابة لأنها إجابة مقررة
(أفلا تذكرون) . .
فالقضية في وضعها هذا لا تحتاج إلى أكثر من التذكر . فهي بديهية لا تقتضي التفكير . .
وتلك وظيفة التصوير الذي يغلب في الأسلوب القرآني في التعبير . . أن ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري إلى بديهيات مقررة لا تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير . .
------------------
وقال تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (16) سورة الرعد
يُقَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ الآلَهُ الوَاحِدُ ، وَأَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَكَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ هُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، وَهُوَ رَبُّهَا وَمُدَبِّرُهَا ، وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ هَؤُلاَءِ ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ هَذا ، اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولِيَاءَ يَعْبُدُونَهُمْ ، وَهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ وَلاَ لِعَابِدِيهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً . فَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ عَبَدَ اللهُ وَحْدَهُ ، وَمَنْ عَبَدَ هَذِهِ الآلِهَةِ مَعَ اللهِ ، وَأَشْرَكَهَا فِي العِبَادَةِ مَعَهُ؟ وَكَمَا لاَ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ ، وَكَمَا لاَ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ، كَذَلِكَ لاَ يَسْتَوِي مَنْ عَبَدَ اللهُ وَهُو خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ، وَمَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ آلِهَةً لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً .(1/22)
سلهم - وكل من في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته - رضي أم كره -: (من رب السماوات والأرض ?) . . وهو سؤال لا ليجيبوا عنه , فقد أجاب السياق من قبل . إنما ليسمعوا الجواب ملفوظا وقد رأوه مشهودا: قل:الله . . ثم سلهم: (أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ?) . . سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك الأولياء . سلهم والقضية واضحة , والفرق بين الحق والباطل واضح:وضوح الفارق بين الأعمى والبصير , وبين الظلمات والنور . وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى المؤمنين ; فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره كل من في السماوات والأرض . وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين , فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين .
أم ترى هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله , خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله . فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك , فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء ? فهم معذورون إذن إن كان الأمر كذلك , في اتخاذ الشركاء , فلهم من صفات الله تلك القدرة على الخلق , التي بها يستحق المعبود العبادة ; وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه !
وهو التهكم المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله , ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئا , وما هي بخالقة شيئا , إنما هي مخلوقة . وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير شبهة . وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير . .
والتعقيب على هذا التهكم اللاذع , حيث لا معارضة ولا جدال , بعد هذا السؤال:
(قل:الله خالق كل شيء . وهو الواحد القهار) . . فهي الوحدانية في الخلق , وهي الوحدانية في القهر - أقصى درجات السلطان - وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعا وكرها لله ; وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء . . وقد سبقته من قبل بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع . . فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول , إلا أن يكون أعمى مطموسا يعيش في الظلمات , حتى يأخذه الهلاك ?!
وقبل أن نغادر هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء . بين (خوفا وطمعا) وبين البرق الخاطف والسحاب الثقال - و(الثقال) هنا , بعد إشارتها إلى الماء , تشارك في صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف - وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من خيفته . وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع . وبين السماوات والأرض , وسجود من فيهن طوعا وكرها . وبين الشخوص والظلال . وبين الغدو والآصال . وبين الأعمى والبصير . وبين الظلمات والنور . وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئا , ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . . . وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر وتنسيق عجيب .
---------------------
وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} (58) سورة غافر
وَكَمَا أَنَّهُ لاَ يَسْتَوِي الأَعْمَى الذِي لاَ يُبْصِرُ شَيئاً ، مَعَ البَصِيرِ الذِي يَرَى مَا انْتَهَى إِلَيهِ بَصَرُهُ ، بَلْ هُنَاكَ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ كَبِيرٌ ، كَذَلِكَ لاَ يَسْتَوِي المُؤْمِنُونَ الأَبْرَارُ الذِينَ يُطِيعُونَ اللهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ ، مَعَ الفُجَّارِ الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ ، وَاجْتَرَحُوا السَّيئَاتِ ، وَعَصَواُ رَبَّهُمْ ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِهِ ، فَمَا أَقَلَّ تَذَكُّرُكُمْ حُجَجَ اللهِ ، وَمَا أَقَلَّ اعْتِبَارَكُمْ وَاتِّعَاظَكُمْ بِهَا ، وَلَوْ تَذَكَّرْتُمْ وَاعْتَبَرْتُمْ لَعَرَفْتُمْ خَطَأ مَا أَنْتُمْ فِيهِ .
فالبصير يرى ويعلم ; ويعرف قدره وقيمته , ولا يتطاول , ولا ينتفخ ولا يتكبر لأنه يرى ويبصر . والأعمى لا يرى ولا يعرف مكانه , ولا نسبته إلى ما حوله , فيخطىء تقدير نفسه وتقدير ما يحيط به , ويتخبط هنا وهنالك من سوء التقدير . . وكذلك لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء . إن أولئك أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير .
فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
وهذا عمي وجهل فهو يسيء . . يسيء كل شيء . يسيء إلى نفسه , ويسيء إلى الناس . ويسيء قبل كل شيء إدراك قيمته وقيمة ما حوله . ويخطىء في قياس نفسه إلى ما حوله . فهو أعمى . . والعمى عمى القلوب !
(قليلاً ما تتذكرون) . . ولو تذكرنا لعرفنا . فالأمر واضح قريب . لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والتذكير . .
ــــــــــــ(1/23)
3- عدم الاغترار بتقلبهم في الحياة الدنيا :
قال تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) } آل عمران
لاَ تَنْظُرْ إلَى مَا أتْرِفَ فِيهِ هَؤُلاءِ الكُفَّارُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ وَالسُّرُورِ . وَلاَ تَعْجَبْ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ ثُمَّ عَوْدَتِهُمْ سَالِمِينَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَدِيَارِهِمْ .
فَإنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ ، يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، ثمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَهْدُ .
أمَّا المُتَّقُونَ فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَخِلاَلَ أَشْجَارِهَا ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ أَبَداً ، مُنَزَّلِينَ فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ الذِينَ يَبرُّونَ وَالِدَيْهِمْ وَأَبْنَاءَهُمْ .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . . وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) . متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . . وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله: (جنات تجري من تحتها الأنهار) . . (خالدين فيها) . . (نزلا من عند الله) . . (وما عند الله خير للأبرار) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
ــــــــــــ(1/24)
4- الهلاك في الدارين والخسارة :
قال تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) } [الزمر/71-72]
وَيُسَاقُ الذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ جَمَاعَاتٍ ( زُمَراً ) سَوْقاً عَنِيفاً بِزَجْرٍ وَتَهْدِيدٍ ، وَحِينَمَا يَصِلُونَ إِلَيها ، تَفْتَحُ لَهُمْ جَهَنَّمُ أَبُوَابَهَا ، وَيَقُولُ لَهُمْ حُرَاسُ جَهَنَّمَ ( خَزَنَتُهَا ) : أَلَمْ يَأْتِكُم فِي الدُّنْيَا رُسُلٌ مِن جِنْسِكُمْ يُحَذِّرُونَكُمْ مِنَ هَوْلِ هَذَا اليَوْمِ؟ فَيُجِيبُونَ مَعْتَرِفِينَ ، وَيَقُولُونَ : نَعَمْ لَقَدْ جَاءَهُمْ رُسُلٌ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَدَعَوْهُم إِلَى الإِيْمَانِ بِاللهِ والإِقْلاَعِ عَنِ الكُفْرِ . . وََلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ ، وَخَالَفُوهُمْ ، وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِمْ لِمَا سََبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ والضَّلاَلَةِ ، فَعَدَلُوا بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ فَاسْتَحَقُّوا هَذَا المَصِيرَ .
وَحِينَئِذٍ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ : ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ لِتَبْقَوْا فِيهَا خَالِدِينَ أَبداً ، وَبِئْسَتْ جَهَنَّمُ مَصِيراً وَمَقِيلاً لِمَنْ كَانُوا يَتَكَبَّرُونَ فِي الدُّنْيَا بِغَيِرِ حَقٍّ ، وَيَرْفضُونَ اتِّبَاعَ الحَقِّ ، فَبِئْسَ الحَالُ ، وَبِئْسَ المَآلُ .
فالموقف موقف إذعان وتسليم . لا موقف مخاصمة ولا مجادلة . وهم مقرون مستسلمون !
(قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها . فبئس مثوى المتكبرين) !
-------------------
وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) } سورة المؤمنون
حَتَّى إِذَا جَاءَ المُتْرَفِينَ مِنْهُمْ ، المُنَعَّمِينَ فِي الدُّنْيَا ، عَذَابُ اللهِ وَبَأَسُهُ وَنِقْمَتَهُ ، إِذَا هُمْ يَسْتَغِيثُونَ ، وَيَصْرُخُونَ وَاغوثَاهُ ( يَجْأَرُونَ ) ، لِشدَةِ مَا يُعَانُونَ مِنَ الكُرَبِ والآلامِ .
وَيُجِيبُهُم الرَّبُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلاً : لاَ تَسْتَغِيثُوا فَلَنْ يُجِيرَكُم اليَوْمَ أَحَدٌ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ مِنْ سُوءِ العَذَابِ ، سَوَاءٌ اسْتَغَثْتُم وَصَرَخْتُمْ ، أو سَكَتُّم ، وَلَنْ يَنْصُرَكُم أَحَدٌ مِنْ اللهِ ، فَقَدْ قُضِيَ الأَمْرُ ، وَوَجَبَ العَذَابُ .
لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ اللهِ تُتْلَى عَلَيْكُم بالحَقِّ ، فَكُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنْ سَمَاعِها ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهَا ، وَتُعْر ِضُونَ عَنْهَا ، وَتُدِيرُونَ ظُهُورَكُمْ إِلَيْهَا وَلِذَلِكَ فًَلاَ عُذْرَ لَكُم اليَوْمَ .
وَقَدْ كُنْتُم تُعْرِضُونَ عَن الإِيْمَانِ وَأَنْتًمْ تَسْتَكْبِرُونَ بالبَيْتِ الحَرَامِ ، وَتَقُولُونَ : نَحْنَ أَهْلُ حَرَمِ اللهِ ، وَخُدَّامُ بَيْتِهِ ، فَلاَ يُظْهِرُ عَلَيْنَا أَحَداً ، وَلاَ نَخَافُ أَحَداً ، وَكُنْتُم تَسْمرُونَ حَوْلَ البَيْتِ ، وَتَتَنَاوَلُونَ القُرْآنَ بالُجِرِ مِنَ القَوْلِ ( سَامِراً تَهْجُرُونَ ) .
ثم يرسم مشهد انتباههم على الكارثة الباغتة المفاجئة:(حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون) . . والمترفون أشد الناس استغراقا في المتاع والانحراف والذهول عن المصير . وها هم أولاء يفاجأون بالعذاب الذي يأخذهم أخذا , فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار , مستغيثين مسترحمين [ وذلك في مقابل الترف والغفلة والاستكبار والغرور ] ثم ها هم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب:(لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) . . وإذا المشهد حاضر , وهم يتلقون الزجر والتأنيب , والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير , والتذكير بما كان منهم وهم في غمرتهم مستغرقون:(قد كانت آياتي تتلى عليكم , فكنتم على أعقابكم تنكصون) فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه , أو مكروه تجانبونه , مستكبرين عن الإذعان للحق . ثم تزيدون على هذا السوء القول وهجره في سمركم , حيث تتناولون الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به بكلمات السوء .
ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم ; وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم بالكعبة . فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه ; وهم يجأرون طالبين الغوث , فيذكرهم بسمرهم الفاحش , وهجرهم القبيح . وكأنما هو واقع اللحظة , وهم يشهدونه ويعيشون فيه ! وذلك على طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كانها واقع مشهود .
والمشركون في تهجمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء الجاهلة , التي لا تدرك قيمة الحق لأنها مطموسة البصيرة عمياء , فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء والاتهام . ومثل هؤلاء في كل زمان . وليست جاهلية العرب إلا نموذجا لجاهليات كثيرة خلت في الزمان ; وما تزال تظهر الآن بعد الآن !
-------------------
وقال تعالى :{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) } سورة المؤمنون
وَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَأُوْلَئِكَ الذين خَابُوا وَهَلُكُوا ، وَبَاؤُوا بالصِّفَقَةِ الخَاسِرَةِ وَخَلَدُوا فِي نَارِ جَهَنَّمَ . تَلْفَحُ النَّارُ وُجُوهَهُم فَتَشْوِيها ، وَتَتَقَلَّصُ شِفَاهُهُمْ ، وَتَتَغَيَّرُ مَلاَمِحُهُمْ .
وَيُقَالُ لأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً لَهُمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوا مِنْ كُفْرِ وَآثَامٍ فِي الدُّنْيَا فَأَوْصَلَهُمْ ذَلِكَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ : لَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ ، وَأَنْزَلْتُ إِلَيْكُمُ الكُتُبَ ، وَأَزَلْتُ شُبَهَكُمْ ، فَلَمْ تَبْقَ لَكُمْ حُجَّةٌ ، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي .
وَيَرُدُّونَ قَائِلِينَ : يَا رَبِّ لَقد كَثُرَتْ مَعَاصِينَا التي أَوْرَثَتْنَا الشَّقَاءَ وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْنَا الحُجَّةُ وَلِكِنَّنَا كُنَّا أَشْقَى مِنْ أَنْ نَنْقَادَ لَهَا ، وَكُنَّا بِذَلِكَ ضَالِّينَ عَنْ طَرِيقِ الثَّوَابِ .
ثُمَّ يَقُولُونَ لِرَبِهِّمْ : رَبَّنَا أَخْرَجْنَا مِنَ النَّارِ ، وَرُدَّنَا إِلَى الدُّنْيَا ، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وارْتِكَابِ الآثامِ ، فَنَحْنُ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِنَا مُسْتَحِقُّونَ للْعُقُوبَةِ
وَيَرُّدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى الكُفَّارِ إِذَا سَأَلُوا الخُرُوجَ مِنَ النَّارِ ، والرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا ، وَيَقُولُ لَهُمْ : امْكُثُوا فِيها صَاغِرِينَ مُهَانِينَ أَذِلاَّءَ واسْكُتُوا ( اخْسَؤُوا ) وَلاَ تَعُودُوا إِلَى سُؤَالِكُم ، هَذَا ، فَإِنَّهُ لاَ رَجْعَةَ لَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى مُذَكِّراً لِهَؤُلاَءِ بِذُنُوِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا ، وَبِاسْتِهْزَائِهِمْ بِعِبَادِه المُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَائِه : إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي آمنُوا بِي وَبِرُسُلِي ، وَكَانُوا يَقُولُون : رَبَّنَا آمَنَّا بِكَ ، وَبِرُسُلِكَ ، فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ، وَأَنْتَ خَيْرٌ الرَّاحِمِينَ .
فَتَشَاغَلْتُم بِهِمْ سَاخِرِينَ مِنْهُمْ ، وَدَأَبْتُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَسِيتُم ذِكْرِي ، وَلَمْ تَخَافُوا عِقَابِي ، وَكُنْتُم تَضْحَكُونَ مِنْهُم اسْتِهْزَاءً بِهِم .
وَإِنِّي جَزَيْتُهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَكَافَأْتُهم عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَكُمْ لَهُمْ ، وَاسْتِهْزَائِكُم بِهِمْ ، وَجَعَلْتُهُم الفَائِزِينَ بالسَّعَادَةِ والسَّلاَمَةِ والجَنَّةِ والنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ .
إنما تقطعت الروابط , وسقطت القيم التي كانوا يتعارفون عليها في الدنيا (فلا أنساب بينهم يومئذ) . وشملهم الهول بالصمت , فهم ساكنون لا يتحدثون (ولا يتساءلون) .
ويعرض ميزان الحساب وعملية الوزن في سرعة واختصار .
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون . تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون . .
وعملية الوزن بالميزان تجري على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير , وتجسيم المعاني في صور حسية , ومشاهد ذات حركة .
ومشهد لفح النار للوجوه حتى تكلح , وتشوه هيئتها , ويكدر لونها . . مشهد مؤذ أليم .
وهؤلاء الذين خفت موازينهم خسروا كل شيء . فقد خسروا أنفسهم . وحين يخسر الإنسان نفسه فماذا يملك إذن ? وما الذي يتبقى له . وقد خسر نفسه التي بين جنبيه , وخسر ذاته التي تميزه , فكأنما لم يكن له وجود .
وهنا يعدل عن أسلوب الحكاية إلى أسلوب الخطاب والمواجهة , فإذا العذاب الحسي - على فظاعته - أهون من التأنيب والخزي الذي يصاحبه . وكأنما نحن نراه اللحظة ونشهده في حوار ممض كطويل:
(ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون !) . .
وكأنما يخيل إليهم - وقد سمعوا هذا السؤال - أنهم مأذونون في الكلام , مسموح لهم بالرجاء . وأن الاعتراف بالذنب قد يجدي في قبول الرجاء:
(قالوا:ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين . ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) . .
وهو اعتراف تتجلى فيه المرارة والشقوة . . ولكن كأنما هم قد تجاوزوا حدهم وأساءوا أدبهم , فلم يكن مأذونا لهم في غير الإجابة على قدر السؤال . بل لعله كان سؤالا للتبكيت لا يطلب عليه منهم جواب . فهم يزجرون زجرا عنيفا قاسيا: قال:اخسأوا فيها ولا تكلمون . .
اخرسوا واسكتوا سكوت الأذلاء المهنين , فإنكم لتستحقون ما أنتم فيه من العذاب الأليم والشقاء المهين: (إنه كان فريق من عبادي يقولون:ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين . فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري , وكنتم منهم تضحكون) . .
وكذلك لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب , واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم ; إنما بلغ بكم السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا , وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته ; وأن تضحكوا منهم حتى ليشغلكم هذا الهذر عن ذكر الله , ويباعد بينكم وبين التدبر والتفكر في دلائل الإيمان المبثوثة في صفحات الوجود . . فانظروا اليوم أين مكانكم ومكان أولئك الذين كنتم تسخرون منهم وتضحكون: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) . .
وبعد هذا الرد القاسي المهين , وبيان أسبابه , وما في هذا البيان من ترذيل وتبكيت . . يبدأ استجواب جديد: (قال:كم لبثتم في الأرض عدد سنين ?) . .
وإن الله - سبحانه - ليعلم . ولكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض , واستقصار أيامهم فيها , وقد باعوا بها حياة الخلود . . وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها . وإنهم ليائسون ضيقو الصدر , لا يعنيهم حسابها وعدتها: (قالوا:لبثنا يوما أو بعض يوم . فاسأل العادين) . .
وهي إجابة الضيق واليأس والأسى والقنوط !
والرد:إنكم لم تلبثوا إلا قليلا بالقياس إلى ما أنتم عليه مقبلون لو كنتم تحسنون التقدير:
(قال:إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) . . ثم عودة إلى الترذيل والتعنيف على تكذيبهم بالآخرة , مع التبصير بحكمة البعث المكنونة منذ أول الخلق:
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ; وإنكم إلينا لا ترجعون ? . .
فحكمة البعث من حكمة الخلق . محسوب حسابها , ومقدر وقوعها , ومدبر غايتها . وما البعث إلا حلقة في سلسلة النشأة , تبلغ بها كمالها , ويتم فيها تمامها , ولا يغفل عن ذلك إلا المحجوبون المطموسون , الذين لا يتدبرون حكمة الله الكبرى ; وهي متجلية في صفحات الكون , مبثوثة في أطواء الوجود . .
ــــــــــــ(1/25)
5- عذاب النار :
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (12) سورة محمد
وَفي يَوْمِ القِيَامةِ يُدخِلُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بهِ ، وَبِكُتَبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَعَمِلُوا الأعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، جَنَّاتٍ تَجرِي في أرْضِها الأنهَارُ جَزاءً لَهُم عَلَى إيمَانِهِمْ . أمَّا الكَافِرُونَ الذِين كَفَرُوا باللهِ وبِكُتُبهِ ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ ، فَإِنَّهُم يَتَمَتَّعُونَ بما في هذهِ الدُّنيا مِنْ مَتَاعٍ زَائِلٍ ، وَيَأكُلُونَ فِيها كَالأنعَامِ ، غَيرَ مُفَكِّرِينَ في عَواقِب أمُورِهِمْ ، وَلا مُعْتَبِرِينَ بِما أقَامَهُ اللهُ لِلْعِبَادِ منَ الأدِلَّةِ على وُجُودِهِ ووَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالى ، وَسَيَصِيرُونَ في الآخِرَةِ إلى جَهَنَّمَ فَتَكُونُ مَسْكَنَهُمْ وَمَأوَاهُمْ .
والذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون في الأرض أحيانا من أطيب المتاع ; ولكن الموازنة هنا إنما تقوم بين النصيب الحقيقي الضخم للمؤمنين - وهو نصيبهم في الجنة - والنصيب الكلي للكافرين الذي لا نصيب لهم سواه .
ونصيب المؤمنين يتلقونه من يد الله في جنات تجري من تحتها الأنهار . فالله هو الذي يدخلهم . وهو إذن نصيب كريم علوي رفيع . وهم ينالونه من بين يدي الله في علاه جزاء على الإيمان والصلاح , متناسقا في رفعته وكرامته مع الارتفاع المنطلق من الإيمان والصلاح .
ونصيب الذين كفروا متاع وأكل (كما تأكل الأنعام) . . وهو تصوير زري , يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه ; ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره , والمتاع الحيواني الغليظ . بلا تذوق , وبلا تعفف عن جميل أو قبيح . . إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة , ولا من اختيار , ولا حارس عليه من تقوى , ولا رادع عنه من ضمير .
والحيوانية تتحقق في المتاع والأكل , ولو كان هناك ذوق مرهف للطعوم , وحس مدرب في اختيار صنوف المتاع , كما يتفق هذا لكثير من الناشئين في بيوت النعمة والثراء . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو حساسية الإنسان الذي يملك نفسه وإرادته , والذي له قيم خاصة للحياة ; فهو يختار الطيب عند الله . عن إرادة لا يخضعها ضغط الشهوة , ولا يضعفها هتاف اللذة . ولا تحسب الحياة كلها مائدة طعام , وفرصة متاع ; بلا هدف بعد ذلك ولا تقوى فيما يباح وما لا يباح !
إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان:أن للإنسان إرادة وهدفا وتصورا خاصا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة , المتلقاة من الله خالق الحياة . فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه , وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله .
ــــــــــــ(1/26)
6-حشرهم عميان :
قال تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} سورة طه
وَمَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَكَفَرَ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى رُسُلِي ، وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وَتَنَاسَاهُ فَسَتَكُونُ مَعِيشَتُهُ فِي الدُّنْيَا ضَنْكاً لاَ طُمَأنِينَةَ لَهُ فِيهَا ، وَلاَ يَنْشَرِحُ فِيهَا صَدْرُهُ ، بَلْ يَبْقَى صَدْرُهُ ضَيِّقاً حَرِجاً ، بِسَبَبِ ضَلاَلِهِ . وَمَا لَمْ يَخْلُصِ الهُدَى وَاليَقِينُ إِلَى قَلْبِهِ ، فَإِنَّهُ سَيَبْقَى فِي قَلَقٍ وَحِيرَةٍ وَشَكٍّ ، وَيَحْشُرُهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى البَصَرِ وَالبَصِيرَةِ ، قَدْ عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيءٍ إِلاَّ جَهَنَّمَ ، لأَنَّ الجَهَالَةَ التِي كَانَ فِيهَا فِي الدُّنْيا تَبْقَى مُلاَزِمَةً لَهُ فِي الآخِرَةِ .
فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا المُتَسَائِلِ مُبَيِّناً : لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْكَ رُسُلَنَا بِآيَاتِنَا فَأَعْرَضْتَ عَنْهَا ، وَتَنَاسَيْتَهَا ، فَكَذَلِكَ نُعَامِلُكَ اليَوْمَ مُعَامَلَةَ المَنْسِيِّ ، فَتُتْرَكَ فِي النَّارِ .
(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) . . فهو في أمان من الضلال والشقاء باتباع هدى الله . وهما ينتظران خارج عتبات الجنة . ولكن الله يقى منهما من اتبع هداه . والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع . فهذا المتاع ذاته شقوة . شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة . وما من متاع حرام , إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه . وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه . والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع ! ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء . ومن اتبع هدى الله فهو في نجوة من الضلال والشقاء في الأرض , وفي ذلك عوض عن الفردوس المفقود , حتى يؤوب إليه في اليوم الموعود .
(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة , ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع . إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه . ضنك الحيرة والقلق والشك . ضنك الحرص والحذر:الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت . ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت . وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله . وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . . إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة , والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان .
(ومن أعرض عن ذكري) وانقطع عن الاتصال بي (فإن له معيشة ضنكا) . . (ونحشره يوم القيامة أعمى) . . وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا . وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى . حتى إذا سال: (رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ?) كان الجواب: (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه . ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) !
ولقد أسرف من أعرض عن ذكر ربه . أسرف فألقى بالهدى من بين يديه وهو أنفس ثراء وذخر , وأسرف في إنفاق بصره في غير ما خلق له فلم يبصر من آيات الله شيئا . فلا جرم يعيش معيشة ضنكا ! ويحشر في يوم القيامة أعمى !
اتساق في التعبير . واتساق في التصوير . . هبوط من الجنة وشقاء وضلال , يقابله عودة إلى الجنة ونجوة من الشقاء والضلال . وفسحة في الحياة يقابلها الضنك , وهداية يقابلها العمى . . ويجيء هذا تعقيبا على قصة آدم - وهي قصة البشرية جميعا - فيبدأ الاستعراض في الجنة , وينتهي في الجنة , كما مر في سورة الأعراف , مع الاختلاف في الصور الداخلة في الاستعراض هنا وهناك حسب اختلاف السياق . .
-------------------
وقال تعالى : { وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (97) سورة الإسراء
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِي خَلْقِهِ ، وَنُفُوذِ حُكْمِهِ فِيهِمْ ، لاَ مُعَقِّبَ عَلَيْهِ فِيهِ ، فَمَنْ هَداهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ . وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ يَحْشُرُ الكَافِرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُمْ يَسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ، عُمْياً لاَ يُبْصِرُونَ ، وَبُكْماً لاَ يَنْطِقُونَ ، وَصُمّاً لاَ يَسْمَعُونَ . وَذَلِكَ جَزَاءٌ لَهُمْ لِمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي الدُّنْيا مِنَ العَمَى وَالصَمَّمِ وَالبَكَمِ ، لاَ يُبْصِرُونَ الحَقَّ ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ . وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ التِي يُعَذَّبُونَ فِيهَا كُلَّمَا سَكَنَتْ وَخَفَّ لَهِيبُهَا ( خَبَتْ ) ، زَادَ اللهُ فِي تَأَجُّجِهَا وَسَعِيرَهَا عَلَيْهِمْ ، لِيَزْدَادَ أَلَمُهُمْ وَعَذَابُهُمْ .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ الكُفَّارَ وَقُودُ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا أَحْرَقْتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ شَيءٌ مِنْهُمْ صَارَتْ جَمْراً تَتَوهَّجُ ، فَذلِكَ خُبُوُّها ، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقاً جَدِيداً عَاوَدْتُهُمْ ) .
ولقد جعل الله للهدى وللضلال سننا , وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها , ويتعرضون لعواقبها . ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى وللضلال , وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال . فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله ; وهذا هو المهتدي حقا , لأنه اتبع هدى الله . والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله: (فلن تجد لهم أولياء من دونه) ويحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة مزعجة: على وجوههم يتكفأون (عميا وبكما وصما) مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام . جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى . و (مأواهم جهنم) في النهاية , لا تبرد ولا تفتر (كلما خبت زدناهم سعيرا) .
وهي نهاية مفزعة وجزاء مخيف . ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله: (ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا) واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه:(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ?)
والسياق يعرض هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن , وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضيا بعيدا . . وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية , تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان .
ثم يعود ليجادلهم بالمنطق الواقعي الذي يرونه فيغفلونه .
أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم ? فأية غرابة في البعث ; والله خالق هذا الكون الهائل قادر على أن يخلق مثلهم , فهو قادر إذا على أن يعيدهم أحياء . (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه) أنظرهم إليه , وأجلهم إلى موعده (فأبى الظالمون إلا كفورا) فكان جزاؤهم عادلا بعد منطق الدلالات ومنطق المشاهدات , ووضوح الآيات .
ــــــــــــ(1/27)
7-من كان في الدنيا أعمى عن طريق الحق فهو يوم القيامة أعمى وأضلُّ سبيلا:
قال تعالى : {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (72) سورة الإسراء
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ أَعْمَى القَلْبِ ، لاَ يُبْصِرُ سَبِيلَ الهُدَى وَالرَّشَادِ ، وَلاَ يَتَأَمَّلُ حُجَجَ اللهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ ، فَهُوَ كَذَلِكَ أَعْمَى فِي الآخِرَةِ لاَ يَرَى طَرِيقَ الخَيْرِ وَالنَّجَاةِ ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ أَشَدَّ ضَلاَلاً مِنْهُ فِي الدُّنْيَا .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته , أو الرسول الذي اقتدت به , أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه , ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة ! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . وأشد ضلالا . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل , أعمى ضالا يتخبط , لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به , ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا , لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ; يؤثر في القلوب !
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثالث
? علاج العمى
1. عدم قبول أي كلام بلا دليل ولا برهان :
قال تعالى : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) } [البقرة/111، 112]
ادَّعَى اليَهُودُ ، وَادَّعَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إَلاَ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَتِهِمْ هُمْ . فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : تِلْكَ أَشْيَاءُ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللهِ بِغَيرِ وَجْهِ حَقٍّ ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلاَ حُجَّةٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ . فَإِنْ كَانَ لِدَعْوَاهُمْ هذِهِ أَسَاسٌ فَلْيأتُوا بِبُرْهَانٍ عَلَيها . وَبِمَا أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فَهُمْ إِذاً كَاذِبُونَ مُتَخَرِّصُونَ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَعْوَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى تِلْكَ فَيَقُولُ لَهُمْ : بَلَى سَيَدْخُلُ الجَنَّةَ الذِين يُسْلِمُونَ وُجُوهَهُمْ للهِ . وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِ مُطِيعِينَ مُخْلِصِينَ ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فُهؤُلاءِ يُوَفِّيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ ، وَيُذْهِبُ عَنْهُمُ الخَوْفَ وَالحَزَنَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الأَمْرِ ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنيا . فَرَحْمَةُ اللهِ لاَ يَخْتَصُّ بِهَا شَعْبٌ دُونَ شَعْبٍ ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ لَهَا ، وَأَخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ، كَانَ مِنْ أَهْلِهَا .
وهذه حكاية قوليهم مزدوجة . وإلا فقد كانت اليهود تقول:لن يدخل الجنة إلا من كان هودا - أي من يهود - وكانت النصارى تقول:لن يدخل الجنة إلا من كان من النصارى . .
وهذه القولة كتلك , لا تستند إلى دليل , سوى الادعاء العريض ! ومن ثم يلقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجبههم بالتحدي وأن يطالبهم بالدليل:
(قل:هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) . .
وهنا يقرر قاعدة من قواعد التصور الإسلامي في ترتيب الجزاء على العمل بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد . إنما هو الإسلام والإحسان , لا الاسم والعنوان:
(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن , فله أجره عند ربه , ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . .
ومن قبل قرر هذه القاعدة في العقاب ردا على قولهم: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) . . فقال:(بلى ! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . .
إنها قاعدة واحدة بطرفيها في العقوبة والمثوبة . طرفيها المتقابلين: (من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) . . فهو حبيس هذه الخطيئة المحيطة , في معزل عن كل شيء وعن كل شعور وعن كل وجهة إلا وجهة الخطيئة .
و (من أسلم وجهه لله وهو محسن) . . فأخلص ذاته كلها لله , ووجه مشاعره كلها إليه , وخلص لله في مقابل خلوص الآخر للخطيئة . . (من أسلم وجهه لله) . . هنا تبرز سمة الإسلام الأولى:إسلام الوجه - والوجه رمز على الكل - ولفظ أسلم يعني الاستسلام والتسليم . الاستسلام المعنوي والتسليم العملي . ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام: (وهو محسن) . . فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك , بين العقيدة والعمل , بين الإيمان القلبي والإحسان العملي . . بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها ; وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها ; وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله:
فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . .
الأجر المضمون لا يضيع عند ربهم . . والأمن الموفور لا يساوره خوف , والسرور الفائض لا يمسه حزن . . وتلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها الناس جميعا . فلا محسوبية عند الله سبحانه ولا محاباة !
ولقد كانوا - يهودا ونصارى - يطلقون تلك الدعوى العريضة , بينما يقول كل منهما عن الفريق الآخر إنه ليس على شيء ; وبينما كان المشركون يجبهون الفريقين بالقولة ذاتها:
(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء , وقالت النصارى ليست اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم , فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) . .
والذين لا يعلمون هم الأميون العرب الذين لم يكن لهم كتاب ; وكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من الفرقة ومن التقاذف بالإتهام , ومن التمسك بخرافات وأساطير لا ترتفع كثيرا على خرافات العرب وأساطيرهم في الشرك ونسبة الأبناء - أو البنات - لله سبحانه ; فكانوا يزهدون في دين اليهود ودين النصارى ويقولون:إنهم ليسوا على شيء !
والقرآن يسجل على الجميع ما يقوله بعضهم في بعض ; عقب تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة ! ثم يدع أمر الخلاف بينهم إلى الله:(فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) .
فهو الحكم العدل , وإليه تصير الأمور . . وهذه الإحالة إلى حكم الله هي وحدها المجدية في مواجهة قوم لا يستمدون من منطق , ولا يعتمدون على دليل , بعد دحض دعواهم العريضة في أنهم وحدهم أهل الجنة , وأنهم وحدهم المهديون !
------------------
وقال تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} (24) سورة الأنبياء
هل اتخذ هؤلاء المشركون مِن غير الله آلهة تنفع وتضر وتحيي وتميت؟ قل - أيها الرسول - لهم: هاتوا ما لديكم من البرهان على ما اتخذتموه آلهة، فليس في القرآن الذي جئتُ به ولا في الكتب السابقة دليل على ما ذهبتم إليه، وما أشركوا إلا جهلا وتقليدًا، فهم معرضون عن الحق منكرون له.
فهذا هو القرآن يشتمل على ذكر المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم وهناك ذكر من سبقه من الرسل . وليس فيما جاءوا به ذكر الشركاء . فكل الديانات قائمة على عقيدة التوحيد . فمن أين جاء المشركون بدعوى الشرك التي تنقضها طبيعة الكون ، ولا يوجد من الكتب السابقة عليها دليل : وهي إحدى مقولات الجاهلية السخيفة :
{ وقالوا : اتخذ الرحمن ولداً . سبحانه! بل عباد مكرمون ، لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشيته مشفقون . ومن يقل منهم : إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم . كذلك نجزي الظالمين } . .
ودعوى البنوة لله سبحانه دعوى اتخذت لها عدة صور في الجاهليات المختلفة . فقد عرفت عند مشركي العرب في صورة بنوة الملائكة لله . وعند مشركي اليهود في صورة بنوة العزيز لله . وعند مشركي النصارى في صورة بنوة المسيح لله . . وكلها من انحرافات الجاهلية في شتى الصور والعصور .
والمفهوم أن الذي يعنيه السياق هنا هو دعوى العرب في بنوة الملائكة . وهو يرد عليهم ببيان طبيعة الملائكة . فهم ليسوا بنات لله كما يزعمون { بل عباد مكرمون } عند الله . لا يقترحون عليه شيئاً تأدباً وطاعة وإجلالاً . إنما يعملون بأمره لا يناقشون . وعلم الله بهم محيط . ولا يتقدمون بالشفاعة إلا لمن ارتضاه الله ورضي أن يقبل الشفاعة فيه . وهم بطبيعتهم خائفون لله مشفقون من خشيته على قربهم وطهارتهم وطاعتهم التي لا استثناء فيها ولا انحراف عنها . وهم لا يدعون الألوهية قطعاً . ولو ادعوها جدلاً لكان جزاؤهم جزاء من يدعي الألوهية كائناً من كان ، وهو جهنم . فذلك جزاء الظالمين الذين يدعون هذه الدعوى الظالمة لكل حق ، ولكل أحد ، ولكل شيء في هذا الوجود .
وكذلك تبدو دعوى المشركين في صورتها هذه واهية مستنكرة مستبعدة ، لا يدعيها أحد . ولو ادعاها لذاق جزاءها الأليم!
وكذلك يلمس الوجدان بمشهد الملائكة طائعين لله ، مشفقين من خشيته . بينما المشركون يتطاولون ويدعون!
----------------
وقال تعالى : { أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (64) سورة النمل
وَاسْأَلْهُمْ هَلِ الذينَ تُشْرِكُونَهُمْ بالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ خيرٌ أَمِ اللهُ الذي يَبْدَأُ الخَلْقَ ، بِقُدْرَتِهِ وَسُلطَانِهِ ، وَيَبتَدِعُهُ عَلى غيرِ مِثَالٍ سَبَقَ ، ثُمَّ يُفْنِيهِ إِذا شَاءَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَهُوَ الذِي يَرزُقُكُمْ بِإِنزالِ المَطرِ مِنَ السَّماءِ فَيُخرجُ لكُم منَ الأَرضِ زُرُوعاً وَثِماراً ونَبَاتَاتٍ ، وثِمَاراً ونَبَاتَاتٍ ، تَنْتَفِعُ بِها الأَنْعَامُ والمَخلُوقَاتُ والبَشَرُ ، فَهلْ إٍِلهٌ آخرُ مَعَ اللهِ فَعَلَ هذا؟ أَمْ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؟ فإِذا ادَّعيُتُمْ أَنَّ آلِهَةً أُخْرى فَهَاُوا بُرْهَانَكُم عَلَى صِحَّةِ مَا تَقُولُونَ مِنْ وُجُودِ هذِهِ الآلِهَةِ الأُخْرَى التِي تَستَطيعُ أَنْ تَخلُقَ وَتَرْزُقَ؟
وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها , ولا يمكن أحدا تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته . وجوده لأن وجود هذا الكون ملجىء للإقرار بوجوده ; وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله . ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته ; فعليها آثار التقدير الواحد , والتدبير الواحد ; وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد .
فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون . ولكن الإقرار ببدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق ملجىء كذلك للتصديق بإعادة الخلق , ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء , التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء . فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء . وهذا لا يتم في الحياة الدنيا . فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال . . أما لماذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء ? فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير . وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته . وسر الصنعة عند الصانع . وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا !
ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدىء الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال: أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? . . (أإله مع الله ?) . .
والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء . ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان , والماء والهواء , للطعام والشراب والاستنشاق ; ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات ; وكنوز البحر من طعام وزينة . ومنها القوى العجيبة من مغناطيسة وكهرباء , وقوى أخرى لا يعلهما بعد إلا الله ; ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن .
وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا:الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات . ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم - وهو من السماء بمدلولها المعنوي , الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة ; وهو معنى الارتفاع والاستعلاء .
وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة , لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة فهو الذي يعيش عليه العباد . وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا . . وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة . فهو في الدنيا للحياة , وهو في الآخرة للجزاء . . وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب .
والبدء والإعادة حقيقة والرزق من السماء والأرض حقيقة . ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق , فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام:
(أإله مع الله ?) . . (قل:هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) . .
وإنهم ليعجزون عن البرهان , كما يعجز عنه من يحاوله حتى الأن . وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة . يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس ; فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب ; ويوقظ به الفظرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط ; ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان , ويحجبها الجحود والكفران . . ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس ; والتي لا تقبل المراء الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد , الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي , وفشا فيما يسمى علم التوحيد , أو علم الكلام !
------------------
وقال تعالى : { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (75) سورة القصص
وَيومَ القِيامَةِ يَنْزِعُ اللهُ تَعَالى مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَاهِداً عَلَيها ، هُوَ نَبيُّها ، فَيشْهَدُ عَلَيها بما أَجَابَتهُ بهِ أُمَّتُهُ حينَ دَعَاها إِلى اللهِ ، وأَبلَغَها رَسَالاَتِ رَبِّهِ ، ويَقُولُ اللهُ تَعَالى لِلمُخَالِفينَ مِنْهُم : هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرهَانٍ على صِحَّةِ ما ادَّعيتُمُوهُ مِنْ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ . وَحِينئذٍ يَعلَمُونَ أَنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ المَلِكُ الحَقُّ ، وَلا حَقَّ غَيرُهُ ، فَلا يَنطِقُونَ ، ولا يُجِيبُونَ بِشَيءٍ عَنْ سُؤالِ الرَّبِّ العَظيمِ ، وَيَتَلاشَى باطِلُهُمْ ، وَمَا كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دُون اللهِ .
وتصوير يوم النداء , وما فيه من سؤال عن الشركاء , قد سبق في جولة ماضية . فهو يعاد هنا لتوكيده وتثبيته بمناسبة المشهد الجديد الذي يعرض هنا . مشهد نزع شهيد من كل أمة . وهو نبيها الذي يشهد بما أجابته وما استقبلت به رسالته . والنزع حركة شديدة , والمقصود إقامته وإبرازه وإفراده من بينهم ليشهده قومه جميعا وليشهد قومه جميعا . وفي مواجهة هذا الشاهد يطلب منهم برهانهم على ما اعتقدوا وما فعلوا . وليس لديهم برهان ; ولا سبيل لهم يومئذ إلى المكابرة: (فعلموا أن الحق لله) . . الحق كله خالصا لا شبهة فيه ولا ريبة .
(وضل عنهم ما كانوا يفترون) . . من شرك ومن شركاء , فما هو بواجدهم وما هم بواجديه ! في وقت حاجتهم إليه في موقف الجدل والبرهان !
بهذا تنتهي التعقيبات على قصة موسى وفرعون . وقد طوفت بالنفوس والقلوب في تلك الآفاق والعوالم والأحداث والمشاهد وردتها من الدنيا إلى الآخرة , ومن الآخرة إلى الدنيا . وطوقت بها في جنبات الكون وفي أغوار النفس , وفي مصارع الغابرين , وفي سنن الكون والحياة . متناسقة كلها مع محور السورة الأصيل . ومع القصتين الرئيسيتين في السورة:قصة موسى وفرعون . وقصة قارون . وقد مضت الأولى . فلنستعرض الثانية بعد تلك التعقيبات وهذه الجولات .
ــــــــــــ(1/28)
2.وجوب التفكر والتدبر في خلق السموات والأرض :
قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) } آل عمران
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ، وَمَا فِيها مِنْ مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ ، وَكَوَاكِبَ وَسَيَّارَاتٍ ، وَفِي خَلْقِ الأَرْضِ ، وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ ، وَأَنْهَارٍ وَجِبَالٍ وَأَشْجِارٍ وَنَبَاتْ ، وَفِي تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَتَقَارُضِهِمَا الطُّولَ وَالقِصَرَ ، وَيَطُولُ هَذا تَارةً ، وَيَطُولُ الآخَرَ تَارَةً أخْرَى . . . لآيَاتٍ وَبَرَاهِينَ وَحُجَجَاً وَدَلائِل عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ ، وَعَظِيمَ قُدْرَتِهِ ، لأهْلِ العُقُولِ وَالأَلْبَابِ الزّكِيَّةِ .
وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى أُوْلِي الأَلْبَابِ فَيَقُولُ عَنْهُمْ : إِنَّهُمُ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَلاَ يَقْطَعُونَ ذِكْرَ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ ، بِسَرَائِرِهِمْ ، وَأَلْسِنَتِهِمْ . . . وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لِيَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ ، وَمِنْ حِكَمٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ ، تَدُلُ عَلَى الخَالِقِ ، وَقُدْرَتِهِ ، وَحِكْمَتِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً ، رَبَّنَا تَنَزَّهْتَ عَنِ العَبَثِ وَالبَاطِلِ ، وَإنَّمَا خَلَقْتَهُ بِالحَقِّ ، وَالإِنْسَانِ مِنْ بَعْضِ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقْهُ عَبَثاً ، وَإِنَّمَا خَلَقْتَهُ لِحِكْمَةٍ . وَمَتَى حُشِرَ الخَلْقُ إلَيكَ حَاسَبْتَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، فَتَجْزِي الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا ، وَتَجْزِي الذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . ثُمَّ يُتِمُّونَ دُعَاءَهُمْ سَائِلِينَ رَبَّهُمْ أنْ يَقِيَهُمْ عَذابَ النَّارِ .
ثُمَّ يُتَابِعُونَ دُعَائَهُمْ وَرَجَاءَهُمْ لِرَبِّهِمْ قََائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَهَنْتَهُ وَأَذْلَلْتَهُ ، وَأَظْهَرْتَ خِزْيَهُ لأَهْلِ الجَمْعِ يَوْمَ القِيَامَةَ ، وَالظَّالِمُونَ لاَ يَجِدُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللهِ .
وَبَعْدَ أَنْ عَرَفُوا اللهَ حَقَّ المَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ وَالفِكْرِ ، عَبَّرُوا عَنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ سِرَاعاً ، فَقَالُوا : رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا دَاعِياً يَدْعُو النَّاسَ إلَى الإِيمَانِ بِكَ ( وَهُوَ الرَّسُولُ ) ، وَيَقُولُ : آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، فآمَنَّا مُسْتَجِيبِينَ لَهُ ، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ، وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِئَاتِنَا ، فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ، وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارَ الصَّالِحِينَ وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ ، وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَمَامَ الخَلْقِ ، إنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيْعَادَ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ رُسُلُكَ الكِرَامُ ، وَهُوَ قِيَامُ الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ ، وَإنَّكَ تَجْزِي العَامِلِينَ الصَّالِحِينَ بِالخَيْرِ وَالحُسْنَى ، وَتَجْزِي الذِينَ أسَاؤُوا بِمَا يَسْتَحِقُونَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ .
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ? ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار) . .
إلى نهاية ذلك الدعاء ?
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون , بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ; الذي لا تفتأ صفحاته تقلب , فتتبدى في كل صفحة آية موحية , تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب , وفي "تصميم" هذا البناء , ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق , ومودعه هذا الحق , مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان !!! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ; ولا يقيمون الحواجز , ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم , فتتفتح بصائرهم , وتشف مداركهم , وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه , وتدرك غاية وجوده , وعلة نشأته , وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض , ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف , وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا , ولاهتزت له مشاعرنا , ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ; ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ; ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا , ولا يمكن أن يكون جزافا , ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار , ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى "الجاذبية " أو غير الجاذبية . . هذه فروض تصح أو لا تصح , وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية , واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة , وآية الحق , في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا , وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي , يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح , في التعامل مع الكون , وفي التخاطب معه بلغته , والتجاوب مع فطرته وحقيقته , والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب "معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله , وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: (قياما وقعودا وعلى جنوبهم) . . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة , ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين .
الحقيقة الأولى:أن التفكر في خلق الله , والتدبر في كتاب الكون المفتوح , وتتبع يد الله المبدعة , وهي تحرك هذا الكون , وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة , وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية , التي تبحث في تصميم الكون , وفي نواميسه وسننه , وفي قواه ومدخراته , وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره , والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر , يقطع ما بين الكون وخالقه , ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ; ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان , وتحيل حياته إلى جحيم منكرة , وإلى حياة قلقة مهددة , وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار !
والحقيقة الثانية:أن آيات الله في الكون , لا تتجلى على حقيقتها الموحية , إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . . فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا , ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار , ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد , وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان , تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب , وشفافية الروح , وتفتح الإدراك , واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال , ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ; وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , ملهما للحقيقة الكامنة فيها , ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة , للخطة الواصلة .
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك !) . . ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة , فهو ليس "عدما" كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس , فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية , فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى , التي تمس قلوب (أولي الألباب) من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون , فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا: (ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك !) . .
ثم تتوالى الحركات النفسية , تجاه لمسات الكون وإيحاءاته . (. . . فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . . .) . .
فما العلاقة الوجدانية , بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق , وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ?
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره , معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا , وأن هناك حكمة وغاية , وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة , تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار , فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها , هو الخاطر الأول , المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل , الخاشع الواجف الراجف المنيب , ذي النغم العذب , والإيقاع المنساب , والحرارة البادية في المقاطع والأنغام !
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) . . (وما للظالمين من أنصار) . .
إنها تشي بأن خوفهم من النار , إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله , فهم أشد حساسية به من لذع النار ! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله , وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) . .
فهي قلوب مفتوحة ; ما إن تتلقى حتى تستجيب . وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة , فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها , فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات , والوفاة مع الأبرار .
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها , في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية , في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة . المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان , مع أعداء الله وأعداء الإيمان . . والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال .
وختام هذا الدعاء . توجه ورجاء . واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد) . .
فهو استنجاز لوعد الله , الذي بلغته الرسل , وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد , ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة , يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء , ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي , وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه . مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله .
والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة , لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه , في القلوب السليمة المفتوحة . .
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء , من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء . .
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر , فيه ليست حرفا متحدا , ولكنها إيقاع متشابه - مثل:"بصير . حكيم . مبين . مريب" . . "الألباب , الأبصار , النار . قرار" . . "خفيا . شقيا . شرقيا . شيئا . " . . . إلخ .
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير . والثانية في مواضع الدعاء . والثالثة في مواضع الحكاية .
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى . ولم تبعد عنها إلا في موضعين:أولهما في أوائل السورة وفيه دعاء . والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد . .
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني . . فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية , وعذوبة صوتية . تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال .
وهناك ظاهرة فنية أخرى . . إن عرض هذا المشهد:مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم , عميق النبرات . فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته , على الأعصاب والأسماع والخيال , فيؤثر في الوجدان , بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف . . وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني , ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته . ثم . . طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى - بعضكم من بعض - فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي , وقاتلوا وقتلوا , لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب . . لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار) . .
وهي استجابة مفصلة , وتعبير مطول , يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ; وفق مقتضى الحال , ومتطلبات الموقف , من الجانب النفسي والشعوري .
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية , ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته , ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .
إن أولي الألباب هؤلاء , تفكروا في خلق السماوات والأرض , وتدبروا اختلاف الليل والنهار , وتلقوا من كتاب الكون المفتوح , واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه , فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم , على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ?
لقد كانت قبولا للدعاء , وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) . .
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو "العمل" . العمل الإيجابي , الذي ينشأ عن هذا التلقي , وعن هذه الاستجابة , وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر , والذكر والاستغفار , والخوف من الله , والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة , والذي يقبل من الجميع:ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان . .
ثم تفصيل للعمل , تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ; كما تتبين منه طبيعة المنهج , وطبيعة الأرض التي يقوم عليها , وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك , وضرورة مغالبة العوائق , وتكسير الأشواك , وتمهيد التربة للنبتة الطيبة , والتمكين لها في الأرض , أيا كانت التضحيات , وأيا كانت العقبات:
(فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله , والله عنده حسن الثواب) .
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة , وأخرجوا من ديارهم , في سبيل العقيدة , وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه , وقاتلوا وقتلوا . . ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . . في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور , وتتأذى بها الأطماع والشهوات , وتتعرض للأذى والمطاردة , وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . . ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى , وعلى الرغم من المطاردة , ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال , ويكون القتل . . وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات , ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . . طريق هذا المنهج الرباني , الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري , وعن طريق هذا الجهد , وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج , ومقوماته , وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية , وطريقته في التوجيه , للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ; إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله . . التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة , حتى لا يكون فتنة لأصحابه , ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين , الذي يعانون ما يعانون , من أذى وإخراج من الديار , وقتل وقتال:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار) . .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . . وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . . وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله: (جنات تجري من تحتها الأنهار) . . (خالدين فيها) . . (نزلا من عند الله) . . (وما عند الله خير للأبرار) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !(1/29)
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه صلى الله عليه وسلم على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
-------------------
وقال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى إلَيْكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا القُرْآنِ ، وَفِيهِ خَيرٌ وَبَرَكَةٌ ، وَنَفْعٌ وَهُدىً لِلنَّاسِ ، لِيُرْشدَهُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ ، وَلِيَتَدَبَّرَهُ أُولُو الأَفْهَامِ والعُقُولِ والأَلْبَابِ . وَتَدَبُّرُ القُرْآنِ لاَ يَكُونُ بِحُسْنِ تِلاَوَتِهِ ، وَإِنَّما يَكُونَ بِالعَمَلِ بِمَا فِيهِ ، واتِّبَاعِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ ، وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ .
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون . وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس . وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي , لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف . وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض ; وهو أمر عظيم إذن وشر كبير , واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق . فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود . . ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة , ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة !
وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب . .
--------------------
وقال تعالى : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (50) سورة الأنعام
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ ، الذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ الآيَاتِ تَعْجِيزاً لِجَهْلِهْم بِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ ، وَلِظَنِّهِمْ أنَّ النَّبِيَّ لاَ يَكُونُ نَبِيّاً إلاّ إذَا أَصْبَحَ قَادِراً عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ البَشَرُ عَلَيْهِ : إنِّي لاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي أَمْلِكُ خَزَائِنَ اللهِ ، وَلاَ أَتَصَرَّفُ بِهَا ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنَّي أَعْلَمُ غَيْبَ اللهِ ، فَعِلْمُ الغَيْبِ عِنْدَ اللهِ وَحْدَهُ وَلا أَطَّلِعُ مِنْهُ إلاَّ عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ رَبِّي ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَلاَ أَدَّعِي أنِّي مَلَكٌ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ يُوحِي إِليهِ اللهُ ، وَقَدْ شَرَّفَنِي سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ ، وَإِنَّنِي أَتَّبِعُ مَا يُوحِيهِ اللهُ إلَيَّ ، وَلاَ أَخْرُجُ عَنْهُ مُطْلَقاً . قُلْ لَهُمْ : هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الحَقَّ وَهُدِيَ إلَيهِ ، مَعَ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ ، وَلَمْ يَنْقَدْ إِلَيهِ؟ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ فِي أنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ؟
لقد كان المعاندون من قريش يطلبون أن يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من الخوارق يصدقونه بها - وهم كانوا كما أسلفنا يعلمون صدقه ولا يشكون فيه - وتارة كانوا يطلبون أن تكون هذه الآية تحويل الصفا والمروة ذهبا ! وتارة تكون إبعادهما عن مكة ليصبح مكانهما خصبا مخضرا بالزروع والثمار ! وتارة تكون إنباءهم بما سيقع لهم من أحداث مغيبة ! وتارة تكون طلب إنزال ملك عليه ! وتارة تكون طلب كتاب مكتوب في قرطاس يرونه يتنزل عليه من السماء . . إلى آخر هذه المطالب التي يوارون وراءها تعنتهم وعنادهم !
ولكن هذه المطالب كلها إنما كانوا يصوغون فكرتها من تلك الأوهام والأساطير التي أحاطت بصورة النبوة وصورة النبي في الجاهليات من حولهم , وأقربها إليهم أوهام أهل الكتاب وأساطيرهم حول النبوة , بعدما انحرفوا عما جاءتهم به رسلهم من الحق الواضح في هذه الأمور . .
ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من "النبوءات" الزائفة , يدعيها "متنبئون" ويصدقها مخدوعون . . ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون ! حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب , والاتصال بالجن والأرواح , وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى والتعاويذ , أو بالدعوات والصلوات , أو بغيرها من الوسائل والأساليب . وتتفق كلها في الوهم والضلالة , وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب .
"فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء . ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة "بالأرباب ! " لا تطيع الكاهن , ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه , وترشده بالعلامات والأحلام , ولا تلبي سائر الدعوات والصلوات ! ولكنهما - نبوءة السحر ونبوءة الكهانة - تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس . لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان , ويريدان قصدا ما يطلبانه بالعزائم والصلوات , ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره , ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها , ولعله لايعيها . ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه , ولحن رموزه وإشاراته . وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب "مانتي" "" ويسمون المفسر:"بروفيت" "" أى المتكلم بالنيابة عن غيره . ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها . وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون , إلا أن يكون الكاهن متوليا للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب , ومضامين رموزه وإشاراته . ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة . فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها , والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده . وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة ; ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة , لأنه قد يعتري صاحبه في البرية , كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد" .
"وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار , ودراويش الطرق الصوفية , لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود , واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد , وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب .
"جاء في كتاب صموئيل الأول: أن شاول أرسل لأخذ داود رسلا . . "فرأوا جماعة الأنبياء يتنبأون , وشاول واقف بينهم رئيسا عليهم . فهبط روح الله على رسل شاول , فتنبأوا هم أيضا . وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء . . . فخلع هو أيضا ثيابه , وتنبأ هو أيضا أمام صموئيل , وانتزع عاريا ذلك النهار كله وكل الليل"
"وجاء في كتاب صموئيل كذلك: " . . أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة , وأمامهم رباب ودف وناي وعود , وهم يتنبأون , فيحل عليهم روح الرب , فتتنبأ معهم , وتتحول إلى رجل آخر .
"وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني:"إذ قال بنو الأنبياء يا ليشع:هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا , فلنذهب إلى الأردن" .
"وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواضع , كما جاء في سفر الأيام الأول . حيث قيل:إن داود ورؤساء الجيش أفرزوا للخدمة بني أساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج" . . .
وهكذا حفلت الجاهليات - ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية - بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي . وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور ; ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة ; وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة . . ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول . . ومنها هذا التقرير: (قل:لا أقول لكم عندي خزائن الله , ولا أعلم الغيب , ولا أقول لكم:إني ملك . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . قل:هل يستوي الأعمى والبصير ? أفلا تتفكرون ?) . .
إنه صلى الله عليه وسلم يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشرا مجردا من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة . وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء . . لا ثراء . ولا ادعاء . . إنها عقيدة يحملها رسول , لا يملك إلا هداية الله , تنير له الطريق !
ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم . . إنه لا يقعد على خزائن الله , ليغدق منها على من يتبعه , ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن ; ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكا . . إنما هو بشر رسول ; وإنما هي هذه العقيدة وحدها , في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة . .
إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة , وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة , وإلى الله . فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف . . من أرادها لذاتها فهو بها حقيق , وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة . ومن أرادها سلعة في سوق المنافع , فهو لا يدرك طبيعتها , ولا يعرف قيمتها , وهي لا تمنحه زادا , ولا غناء . .
لذلك كله يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدمها للناس هكذا , عاطلة من كل زخرف , لأنها غنية عن كل زخرف ; وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال , ولا إلى وجاهة دنيا , ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى . إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى .
قل:لا أقول لكم عندي خزائن الله , ولا أعلم الغيب , ولا أقول لكم:إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي . .
ثم ليعلموا أنهم حينئذ إنما يفيئون إلى النور والبصيرة , ويخرجون من الظلام والعماء:
(قل:هل يستوي الأعمى والبصير ? أفلا تتفكرون ?) . . ثم . . إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر , والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى . . هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة . . فما شأن العقل البشري في هذا المجال ?
سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط . . إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي , وإدراك مدلولاته . . وهذه وظيفته . . ثم هذه هي فرصته في النور والهداية ; وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي , فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف , وسوء الرؤية , ونقص الرؤية , وسوء التقدير , وسوء التدبير .
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدا . تجربة بعد تجربة , وحادثةبعد حادثة , وصورة بعد صورة . . حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة , ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاما , ويضع على أساسها نظاما , ملحوظا فيه الشمول والتوازن . . ومن ثم يظل - حين ينعزل عن منهج الله وهداه - يرتاد التجارب , ويغير الأحكام , ويبدل النظام , ويضطرب بين الفعل وردود الفعل , ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال . . وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة , وأجهزة إنسانية كريمة . . ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله ; وجعل التجارب والتقلبات في "الأشياء" وفي "المادة " وفي "الأجهزة " وفي "الآلات" . . وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه . والخسارة في النهاية مواد وأشياء . لا أنفس وأرواح !
ويتعرض لهذا كله - بعد طبيعة تركيبه - بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات , لا بد لها من ضابط , يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها , ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها ! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده ; فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات - وهي شتى - من ضابط آخر يضبطه هو ذاته ; ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا , ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة , وكل حكم - في مجال الحياة البشرية - ليقوم به تجربته وحكمه , وليضبط به اتجاهه وحركته .
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي , باعتبار أن كليهما - العقل والوحي - من صنع الله فلا بد أن يتطابقا . . هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر , ولم يقل بها الله سبحانه !
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي - حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر - إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله . . فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة , ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري , ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به . لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل , وأن الفطرة وحدها تنحرف . وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة , إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي , وهو النور والبصيرة . والذي يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين ; أو أن العلم - وهو من منتجات العقل - يغني البشرية عن هدى الله ; إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك . . فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم , هي أبأس حياة يشقى فيها "الإنسان" مهما فتحت عليه أبواب كل شيء ; ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد ; ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق . . وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية ! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون ! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي , وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات . ثم يقيم له الأسس , ويضع له القواعد , التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة ; كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة الله - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك !
والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير , وبترك وحي الله وهداه أعمى , واقتران الحديث عن تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي وحده , بالإشارة إلى العمى والبصر , بالسؤال التحضيضي على التفكير: إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل:هل يستوي الأعمى والبصير:أفلا تتفكرون ? . .
اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق , أمر ذو دلالة في التعبير القرآني . . فالتفكر مطلوب , والحض عليه منهج قرآني ; ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي , الذي يمضي معه مبصرا في النور ; لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى , بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير . .
والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق , إنما يتحرك في مجال واسع جدا . . يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله , الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضا ; كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث , ومجالات الحياة جميعا . . فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج , وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات ! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعا . فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان . . العقل . . إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني . . فلا تضل إذن ولا تطغى . .
ــــــــــــ(1/30)
3. تحريم التقليد الأعمى :
قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (170) سورة البقرة
وَإِذَا قِيلَ لِلْكَفَرَةِ الذِينَ يَتَّبِعُونَ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَاتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الجَهْلِ وَالضَّلاَلِ ، أَجَابُوا قَائِلِينَ : بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنا آبَاءَنا عَلَيهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ . وَيَرُدُّ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَيهِمْ قَائِلاً : أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ حَتَّى وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْْقِلُونَ شَيْئاً مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ وَعِبَادَاتِهِ ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إِلَى سَبيلِ الحَقِّ وَالرَّشَادِ؟
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام , وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه , وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام . أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلا . . سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله ; وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) . أولو كان الأمر كذلك , يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم ? فأي جمود هذا وأي تقليد ?!
ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود , صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها , بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني ! بل هم أضل من هذه البهيمة , فالبهمية ترى وتسمع وتصيح , وهم صم بكم عمي: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون) !
صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان والسنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها , وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون .
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره , ويغلق منافذ المعرفة والهداية , ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .
-----------------
وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (21) سورة لقمان
وهؤلاءِ الذينَ يُجَادِلُونَ في اللهِ بغَيرِ عِلْمٍ ، وَلاَ كِتابٍ ، لا مَطْمَعَ فِي هِدَايَتِهم ، فإِنَّهُمْ إِذا دُعُوا إِلى اتِّبَاعِ مَا أَنزَلَ اللهُ على رَسُولِهِ مِنْ شَرْعٍ وهُدى قَالُوا : إِنّهُم يُفَضِّلُونَ اتِّبَاعَ مَا وَجَدُوا عَليه آباءَهُمْ مِنْ دِينٍ ، لأنَّ آباءَهُمْ ، وَأَسْلافَهُمْ لاَ يَقَعُونَ جَميعاً فِي الخَطَأِ .
ويَرُدُّ اللهُ تَعَالى عليهم قَائِلاً : أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وأَسْلاَفَهُمْ حَتَّى وَلَو كَانُوا عَلَى خَطَأٍ وَضَلاَلٍ فيما يَعْبُدُونَ؟ وَحَتَّى وَلَوْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ ما زَيَّنَتْ لَهُمْ الشَّياطِينُ؟ وَمَنِ اتَّبَعَ الشَّيطَانَ أَوْصَلَهُ إِلى نَارِ جَهَنَّمَ وَسَعِيرهَا .
فهذا هو سندهم الوحيد , وهذا هو دليلهم العجيب ! التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير . التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه ; وأن يطلق عقولهم لتتدبر ; ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور , فيأبوا هم الانطلاق من إسار الماضي المنحرف , ويتمسكوا بالأغلال والقيود .
إن الإسلام حرية في الضمير , وحركة في الشعور , وتطلع إلى النور , ومنهج جديد للحياة طليق من إسار التقليد والجمود . ومع ذلك كان يآباه ذلك الفريق من الناس , ويدفعون عن أرواحهم هداه , ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . . ومن ثم يسخر منهم ويتهكم عليهم , ويشير من طرف خفي إلى عاقبة هذا الموقف المريب:
أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ? . .
فهذا الموقف إنما هو دعوة من الشيطان لهم , لينتهي بهم إلى عذاب السعير . فهل هم مصرون عليه ولو قادهم إلى ذلك المصير ? . . لمسة موقظة ومؤثر مخيف , بعد ذلك الدليل الكوني العظيم اللطيف .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين :
ذِكْرُ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي التَّقْلِيدِ وَانْقِسَامِهِ إلَى مَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ فِيهِ وَالْإِفْتَاءُ بِهِ , وَإِلَى مَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ , وَإِلَى مَا يَسُوغُ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ . [ أَنْوَاعُ مَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ ] فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : الْإِعْرَاضُ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ . الثَّانِي : تَقْلِيدُ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْمُقَلِّدُ أَنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ . الثَّالِثُ : التَّقْلِيدُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُقَلَّدِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَوَّلَ قَلَّدَ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ , وَهَذَا قَلَّدَ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ لَهُ ; فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَمَا فِي قوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَذُمُّ فِيهِ مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَهُ وَقَنَعَ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا ذَمَّ مَنْ قَلَّدَ الْكُفَّارَ وَآبَاءَهُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ , وَلَمْ يَذُمَّ مَنْ قَلَّدَ الْعُلَمَاءَ الْمُهْتَدِينَ , بَلْ قَدْ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ , وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ , وَذَلِكَ تَقْلِيدُهُمْ , فَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَهَذَا أَمْرٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ بِتَقْلِيدِ مَنْ يَعْلَمُ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَهُ إلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ , وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّقْلِيدِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ذَمِّهِ وَتَحْرِيمِهِ , وَأَمَّا تَقْلِيدُ مَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ فِي اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَخَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ فَقَلَّدَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ , وَمَأْجُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ , كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ التَّقْلِيدِ الْوَاجِبِ وَالسَّائِغِ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَالتَّقْلِيدُ لَيْسَ بِعِلْمٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا سَيَأْتِي , وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْمُنَزَّلِ خَاصَّةً , وَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَزَّلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ فِي خِلَافِ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَقْلِيدَهُ فِي خِلَافِهِ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ الْمُنَزَّلِ , وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَمَنَعَنَا سُبْحَانَهُ مِنْ الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِ رَسُولِهِ , وَهَذَا يُبْطِلُ التَّقْلِيدَ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } وَلَا وَلِيجَةَ أَعْظَمُ مِمَّنْ جَعَلَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ مُخْتَارًا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ الْأُمَّةِ , يُقَدِّمُهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ , وَيَعْرِضُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِهِ فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا قَبِلَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا تَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ وَتَطَلَّبَ لَهُ وُجُوهَ الْحِيَلِ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ وَلِيجَةً فَلَا نَدْرِي مَا الْوَلِيجَةُ , وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } وَهَذَا نَصٌّ فِي بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا فِيهِ ذَمُّ مَنْ قَلَّدَ مَنْ أَضَلَّهُ السَّبِيلَ , أَمَّا مَنْ هُدَاهُ السَّبِيلَ فَأَيْنَ ذَمَّ اللَّهُ تَقْلِيدَهُ ؟ قِيلَ : جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ , فَإِنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُهْتَدِيًا حَتَّى يَتْبَعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ; فَهَذَا الْمُقَلِّدُ إنْ كَانَ يَعْرِفُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ مُهْتَدٍ , وَلَيْسَ بِمُقَلِّدٍ , وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ , فَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى فِي تَقْلِيدِهِ ؟ وَهَذَا جَوَابُ كُلِّ سُؤَالٍ يُورِدُونَهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَنَّهُمْ [ إنْ كَانُوا ] إنَّمَا يُقَلِّدُونَ أَهْلَ الْهُدَى فَهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ عَلَى هُدًى . فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُقَلِّدِينَ فِي الدِّينِ عَلَى هُدًى , فَمُقَلَّدُوهُمْ عَلَى هُدًى قَطْعًا ; لِأَنَّهُمْ سَالِكُونَ خَلْفَهُمْ . قِيلَ : سُلُوكُهُمْ خَلْفَهُمْ مُبْطِلٌ لِتَقْلِيدِهِمْ لَهُمْ قَطْعًا ; فَإِنَّ طَرِيقَتَهُمْ كَانَتْ اتِّبَاعَ الْحُجَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَمَنْ تَرَكَ الْحُجَّةَ وَارْتَكَبَ مَا نَهَوْا عَنْهُ وَنَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ قَبْلَهُمْ فَلَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهُوَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ . وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مَنْ اتَّبَعَ الْحُجَّةَ , وَانْقَادَ لِلدَّلِيلِ , وَلَمْ يَتَّخِذْ رَجُلًا بِعَيْنِهِ سِوَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُهُ مُخْتَارًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْرِضُهُمَا عَلَى قَوْلِهِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ فَهْمِ مَنْ جَعَلَ التَّقْلِيدَ اتِّبَاعًا , وَإِيهَامَهُ وَتَلْبِيسَهُ , بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِتْبَاعِ . وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَتْ الْحَقَائِقُ بَيْنَهُمَا , فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْمُتَّبِعِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ . [ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ ] . قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي الْجَامِعِ : بَابُ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَنَفْيِهِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِتْبَاعِ , قَوْلُ أَبُو عُمَرَ : قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } } رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ قَالَ : لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ , وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ . وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ , فَقَالَ : { يَا عَدِيُّ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِك , وَانْتَهَيْت إلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ : فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا , قَالَ : بَلَى , أَلَيْسَ يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أُحِلَّ لَكُمْ فَتُحَرِّمُونَهُ ؟ فَقُلْت : بَلَى , قَالَ : فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ } . قُلْت : الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا . وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } أَمَّا إنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ , وَلَكِنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرِّبَوِيَّةُ . وَقَالَ وَكِيعٌ : ثنا سُفْيَانُ وَالْأَعْمَشُ جَمِيعًا عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ : قِيلَ لِحُذَيْفَةَ فِي قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } : أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ كَانُوا يَحِلُّونَ لَهُمْ الْحَرَامَ فَيَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } فَمَنَعَهُمْ الِاقْتِدَاءَ بِآبَائِهِمْ مِنْ قَبُولِ الِاهْتِدَاءِ , فَقَالُوا : إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ , وَفِي هَؤُلَاءِ وَمِثْلِهِمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِنْ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى مُعَاتِبًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَذَامًّا لَهُمْ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } وَقَالَ { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ ذَمِّ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ , وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ كُفْرُ أُولَئِكَ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَةِ كُفْرِ أَحَدِهِمَا وَإِيمَانِ الْآخَرِ , وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلْمُقَلِّدِ , كَمَا لَوْ قَلَّدَ رَجُلًا فَكَفَرَ وَقَلَّدَ آخَرَ فَأَذْنَبَ وَقَلَّدَ آخَرَ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ وَجْهَهَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَلُومًا عَلَى التَّقْلِيدِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْآثَامُ فِيهِ , وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } . قَالَ : فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ التَّسْلِيمُ لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا , وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا بِدَلِيلٍ جَامِعٍ , ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي إلَّا مِنْ أَعْمَالِ ثَلَاثَةٍ , قَالُوا : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَخَافُ عَلَيْهِمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ , وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ , وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { تَرَكْت فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا : كِتَابَ اللَّهِ , وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم } " .
ــــــــــــ(1/31)
4.أن يكونوا من أولي الألباب :
قال تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) } الرعد
لا يَسْتَوِي المُهْتَدِي مِنَ النَّاسِ ، الذِي يَعْلَمُ أَنَّ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقُّ ، الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ ، مَعَ الضَّالِّ ، الذِي لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ ، لأنَّهُ يَكُونُ كَالأَعْمَى لاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ ، وَلاَ يَفْهَمُهُ ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ إِلَيْهِ ، وَلاَ صَدَّقَ بِهِ وَلاَ انْتَفَعَ . ؟ فَالذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ ، وَالبَصَائِرِ المُدْرِكَةِ ( أُولُو الأَلْبَابِ ) .
وَالمُهْتَدُونَ الذِينَ سَتَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَى ، هُمُ الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدُوا ، وَلاَ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ مَعَ عِبَادِهِ ، وَلاَ يَغْدُرُونَ بِذِمَّةٍ ، وَلا يَفْجُرُونَ وَلاَ يَخُونُونَ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصِلُونَ الأَرْحَامَ التِي أَمَرَ اللهُ بِوَصْلِهَا ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى الأَقْرِبَاءِ وَالفُقَرَاءِ ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالمَودَّةِ وَالحُسْنَى ، وَيَبْذُلُونَ المَعْرُوفَ ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِيمَا يَأْتُونَ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي ذَلِكَ ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، وَعَدَمِ الصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ .
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصْبِرُونَ عَنِ ارْتِكَابِ المَحَارِمِ وَالمَآثِمِ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ مُقَارَفَتِهَا طَاعةً للهِ ، وَتَقَرُّباً إِلَيْهِ ، وَطَمَعاً بِمَرْضَاتِهِ وَجَزيلِ ثَوَابِهِ ، وَيُؤَدُّونَ الصَّلاةَ حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ عَلَى مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ ، مِنْ أَقْرِبَاءَ وَمُحْتَاجِينَ وَسَائِلِينَ . . فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ ، لاَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الأَحْوَالِ ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالجَمِيلِ صَبْراً ، وَاحْتِمَالاً وَحِلْماً وَعَفْواً ، فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ حُسْنُ العَاقِبَةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .
وَتِلْكَ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ هِيَ دُخُولُ جَنَاتِ عَدْنٍ ، وَالإِقَامَةُ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا . وَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ مِنَ الآبَاءِ وَالأَزْوَاجِ وَالأَبْنَاءِ الصَّالِحِينَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ ، لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ؛ وَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ مُسْلِمِينَ مُهَنِّئِينَ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، وَبِرِضْوَانِ اللهِ عَلَيْهِمْ
وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ، وَأَمْنٌ دَائِمٌ لَكُمْ ، لَقَدْ صَبَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَاحْتَمَلْتُمُ المَشَاقَّ وَالآلاَمَ ، فَفُزْتُمْ بِرِضْوَانِ اللهِ ، فَنَعِمَتْ عَاقِبَتُكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .
أَمَّا الذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ الذِي أَلْزَمَ بِهِ عِبَادَهُ ، وَأَقاَمَ الأَدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ عَلَى صِحَّتِهِ ( كَالتَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ وَالقَدَرِ ) إِمَّا بِإِهْمَالِهِم النَّظَرَ فِيهِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يَنْظُرُوا فِيهِ وَيَعْلَمُوا صِحَتَّهُ ، وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ فِيهِ ، وَالذِينَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ( مِنْ صِلَةِ الأَرْحَامِ ، وَالتَّحَابِّ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ . . . ) ، وَالذِينَ يَخُونُونَ أَمَانَاتِهِمْ ، وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ، وَيَرْتَكِبُونَ المُوبِقَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ . . . فَأُولَئِكَ هُمُ المُشْرِكُونَ الذِينَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ، وَيُبْعِدُهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُعِدُّ لَهُمْ سُوءَ العَاقِبَةِ وَالمَآلِ .
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد , وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق . والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان ; والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان .
وعهدالإيمان قديم وجديد . قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ; المدركة إدراكا مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود , ووحدة الخالق صاحب الإرادة , وأنه وحده المعبود . وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير . . ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه , ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه , مع العمل الصالح والسلوك القويم , والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم . .
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر . سواء مع الرسول أو مع الناس . ذوي قرابة أو أجانب . أفرادا أم جماعات . فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود , لأن رعايتها فريضة ; والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس , لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق .
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله . يقررها في كلمات .
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل , ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب) . .
هكذا في إجمال . فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه . أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة , والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء . لهذا ترك الأمر مجملا , ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل , لأن هذا التفصيل يطول , وهو غير مقصود , إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي , والطاعة المطلقة التي لا تتفلت , والصلة المطلقة التي لا تنقطع . . ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
(ويخشون ربهم , ويخافون سوء الحساب) . .
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء قي يوم لقائه الرهيب . وهم أولوا الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب .
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) . . والصبر ألوان . وللصبر مقتضيات . صبر على تكاليف الميثاق . من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد . . . الخ وصبر على النعماء والبأساء . وقل من يصبرعلى النعمة فلا يبطر ولا يكفر . وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور . . وصبر وصبر وصبر . . كله ابتغاء وجه ربهم , لا تحرجا من أن يقول الناس:جذعوا . ولا تجملا ليقول الناس:صبروا . ولا رجاء في نفع من وراء الصبر . ولا دفعا لضر يأتي به الجزع . ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله , والصبر على نعمته وبلواه . صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع . .
وأقاموا الصلاة . . وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه , ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء , ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله , ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب , الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه .
(وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) . . وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل , وفي الوفاء بتكاليف الميثاق . ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله , التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة . والتي تزكي نفس معطيها من البخل , وتزكي نفس آخذها من الغل ; وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله . والإنفاق سرا وعلانية . السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة , وتتحرج النفس من الإعلان . والعلانية حيث تطلب الأسوة , وتنفذ الشريعة , ويطاع القانون . ولكل موضعه في الحياة .
ويدرأون بالحسنة السيئة . . والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله . ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس , وتوجهها إلى الخير ; وتطفيء جذوة الشر , وترد نزغ الشيطان , ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية . فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة . ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع , ويحتاج الشر إلى الدفع , فلا مكان لمقابلتها بالحسنة , لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين . فأما في دين الله فلا . . إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم . والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم . والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف , واستشارة الألباب , والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب .
(أولئك لهم عقبى الدار:جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ; والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم , فنعم عقبى الدار) . .
(أولئك) في مقامهم العالي لهم عقبى الدار:جنات عدن للإقامة والقرار .
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم . ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم , وتلاقي أحبابهم , وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم , في حركة رائجة غادية:
(يدخلون عليهم من كل باب) . . ويدعنا السياق نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . .
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام .
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا . ولا بصيرة لهم فيبصروا . وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . أولئك لهم اللعنة , ولهم سوء الدار) . .
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي ; وينقضون من بعده كل عهد , فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس . والذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق . ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق . ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء السيئة بالحسنة . فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله , وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد .
(أولئك) . . المبعدون المطرودون (لهم اللعنة) والطرد في مقابل التكريم هناك (ولهم سوء الدار) ولا حاجة إلى ذكرها , فقد عرفت بمقابلها هناك !
ــــــــــــ(1/32)
5.أن يكونوا من عباد الرحمن :
قال تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْو مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) } سورة الفرقان
يَصِفُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المؤمنينَ المُتَقَّينَ بأَنهُمْ مُتواضِعُون ، يَسيروُن على الأرضِ بسَكِينةٍ ووَقَارٍ ورِفْقٍ ( هَوْناً ) مِنْ غير تَجَبُّرٍ ولا اسْتِكْبارٍ ، وإذات سَفِه عليهِمُ الجاهلونَ بالقَولِ لم يُقابِلُوهم عليهِ إلا حِلْماً وقَوْلاً مَعْروفاً ، ويَرُدُّونَ عليهم قائلينَ : سلامٌ عليكمٌ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلينَ . وهُمْ يَبيتُونَ قِيَاماً في طَاعَةِ اللهِ تَعالى وعبادَتِهِ ويذكُرونَه ذِكْراً كَثيراً في رُكُوعِهِمْ وسُجُودِهمْ .
( وقالَ تَعالى في صِفَةِ عِبَادِ الرَّحمنِ في سُورةٍ أُخْرى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . } يَبيتُونَ - أَيْ يُدْرِكُهُمْ الليلُ .
وهُمُ الذين يَغْلِبُ عليهِم الخَوفُ منَ اللهِ فيدْعُونهُ ، ويسأَلُونَهُ أَنْ يَصرِفَ عنهمْ عَذابَ جَهَّنمَ ، فإنَّ عذَابَها مؤلمٌ ملازمٌ للإِنسَانِ ، لا يَزولُ عنهُ ، ولا يَحُولُ ، ولا يُفارِقُهُ .
وإنَّ جَهَنَّمَ بئسَ المنزلُ ، وَبئْسَ المَقِيلُ والمقَامُ .
ومِنْ صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ أَيضاً الاعتدَالُ في الإِنفَاقِ على أَنْفُسِهِمْ ، وأَهليهمْ ، فهُمْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرينَ في إنفاقِهِمْ فيَصْرِفُون فوقَ الحَاجَةِ ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِمْ فَيُقَصِّرُون في حقِّهِمْ ، فلا يَكْفُونَهُمْ ، بلْ همْ مُعْتَدِلُونَ في أمورِهِمْ .
وهمْ مُخْلِصُون في عِبادَتِهِم للهِ تَعالى وحدَهُ ، لا يُشْرِكُون بهِ شَيئاً ، ولا يَدْعُونَ معهُ أحَداً ، ولا يَعْبُدُونَ سِوَاهُ ولا يقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَها إِلا بِحَقِّها ، وَفْقاً لما شَرَعَهُ اللهُ تَعالى ، ولا يَرْتَكِبُون الزِّنى ، ولا يَأْتُونَ ما حَرَّمَ اللهُ من الفُروجِ . ومَنْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الكبائرَ فإِنَّهُ يَلْقَى عَذاباً ألِيماً يومَ القيامةِ ، جَزَاءً لَهُ على ما ارْتَكَبَ .
وَيُزَادُ في عذابهِ يومَ القيامةِ ، ويُغْلَظُ لهُ فيهِ ، وَيخْلُدُ في جهنمَ مُهَاناً ذَلِيلاً حَقِيراً ، جَزَاءً لهُ على ما ارْتَكَبَ من الأعمالِ المُنْكَرَةِ .
إلا مَنْ تَابَ في الدُّنْيا ، وأخْلَصَ التوبةَ وهو مُؤْمنٌ ، وقدْ عَمِلَ الصالحاتِ ، ورجَعَ إلى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً ، فإنَّ اللهَ تَعالى يتوبُ عليه ، ويُحْسِنُ عاقِبَتَهُ ، ( وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ توبةِ القَاتل ) ، وهؤلاءِ هُمُ المُؤمنون ، كانُوا قبلَ إيْمَانِهِمْ يَعْمَلُونَ السَّيّئاتِ ، فَحَوَّلَهُمُ اللهُ تَعالى إلى الحَسَناتِ ، وأبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيئاتِ الحَسَنَاتِ ، واللهُ غفورٌ لذُنُوبِ عِبادِه ، رَحيمٌ بِهمْ .
ويَعِدُ اللهُ التَّائِبينَ إليهِ وَعْدَاً جَميلاً ، فيقولُ تَعالى : إنَّهُ مَنْ تَاب عَنِ المَعَاصي التي عَمِلَها ونَدِمَ على ما فَرَطَ منهُ ، وأكْمَلَ نفسَهُ بصَالِحِ الأعْْمَالِ ، فإِنَّهُ يتوبُ إلى اللهِ تَوبةً نَصُوحاً مَقْبُولَة لَدَيْهِ ، ماحِيةً للعِقَابِ ، مُحَصِّلَةً لِجَزِيلِ الثوابِ .
ومنْ صفاتِ عبادِ الرحمنِ أنهمْ لا يَشْهَدونَ الزُّورَ ، ولا يَحْضرُونَ مَجَالِسَ الفِسْق واللَّغْوِ والبَاطِلِ ، ومَجَالِسَ السُّوءِ ، وإذا مَرُّوا بمَنْ يَلْغُونَ ويَهْذُرُونَ ويَفْسُقُونَ لم يتوقَّفوا عليهِمْ واسْتَمَرُّوا في سيْرِهِمْ مُسْرِعِين .
ومنْ صِفاتِ المؤمنينَ أنهمْ إذا ذَكَرُوا اللهَ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتَهُ زادَتْهُم إيماناً ويَقِيناً بِصِدْقِ ما جاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُّواتُ ، ولم يكُونُوا كالكُفَّارِ الذين لا يَتَأَثَّرُون بما يَسْمعُون ويُبْصِرُونَ من آياتِ اللهِ ومُعْجِزَاتِه ، ويَسْتَمِرُّونَ وكأنهمْ صُمٌّ لا يَسْمعونَ ، وعُمْيٌ لا يُبْصِرونَ .
ومن صِفَاتِ المُؤمنينَ أَيضاً أنهمْ يَسْألُونَ اللهَ تَعالى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أصْلاَبِهمْ وذُرِّياتهمْ مَنْ يُطيعُ الله ويعبُدُهُ وحْدَه لا شريكَ له ، لِتَقَرَّ بِهِ أعيُنُهُمْ في الدنيا والآخرةِ ، وأنْ يجعلَ لهمْ مِنْ أزواجِهِمْ منْ يطيعُ الله تعالى ، ويَهْتَدي بِهُدَاه ، ويسألونَ ربَّهُمْ أن يجْعَلَهم أَئِمَّةً يُقْتَدى بِهم في الخَيرِ .
وهؤُلاءِ المؤمِنُونَ المُتَّصِفُون بالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ ، يُجْزَوْنَ ، يومَ القِيامةِ ، بالدَّرَجاتِ العَالية ، والمنَازِلِ الرَّفيعةِ ، في الجَنَّةِ ، لصَبْرِهِمْ على القِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ ، وتَتلقاهُمُ المَلائِكَةُ في الجَنَّةِ بالتَّحِيةِ والسَّلامِ ، فلهُمُ السَّلامُ ، وعليهمُ السَّلامُ .
ويَبْقَوْنَ في الجَنَّةِ خَالدينَ في مُقَامِهِمْ ، لا يَحُولُونَ عَنها ولا يَزولُونَ ولا يَرْتَحِلُونَ ، ونِعْمَتِ الجَنَّةُ مُسْتَقراً ومُقاماً .
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا:سلاما) . .
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن:أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة , ليس فيها تكلف ولا تصنع , وليس فيها خيلاء ولا تنفج , ولا تصعير خذ ولا تخلع أو ترهل . فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية , وعما يستكن فيها من مشاعر . والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة , تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها , فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة . فيها وقار وسكينة , وفيها جد وقوة . وليس معنى: (يمشون على الأرض هونا) أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس , متداعي الأركان , متهاوي البنيان ; كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى تكفأ تكفيا , وكان أسرع الناس مشية , وأحسنها وأسكنها , قال أبو هريرة:ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه , وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوي له - وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب . وقال مرة إذا تقلع - قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب , وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة .
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة , لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء , ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك , ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا:سلاما) لا عن ضعف ولكن عن ترفع ; ولا عن عجز إنما عن استعلاء , وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع .
هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله , والشعور بجلاله , والخوف من عذابه
(والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما . والذين يقولون:ربنا اصرف عنا عذاب جهنم . إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما) . .
والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن , في جنح الليل والناس نيام . فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما , يتوجهون لربهم وحده , ويقومون له وحده , ويسجدون له وحده . هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ , بما هو أروح منه وأمتع , مشغولون بالتوجه إلى ربهم , وتعليق أرواحهم وجوارحهم به , ينام الناس وهم قائمون ساجدون ; ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن , ذي الجلال والإكرام .
وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى , والخوف من عذاب جهنم . يقولون: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما) . . وما رأوا جهنم , ولكنهم آمنوا بوجودها , وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم . فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق , وثمرة التصديق .
وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم . لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ; فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم , ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار , إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته , فيصرف عنهم عذاب جهنم .
والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد , متصدية لكل بشر , فاتحة فاها , تهم أن تلتهم , باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد ! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما , يخافونها ويخشونها , ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها , وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها !
ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا: (إن عذابها كان غراما) :أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله ; فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا . . (إهنا ساءت مستقرا ومقاما) وهل أسوأ من جهنم مكانا يستقر فيه الإنسان ويقيم . وأين الاستقرار وهي النار ? وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار !
وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا , وكان بين ذلك قواما) . . وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ; ويتجه إليها في التربية والتشريع , يقيم بناءه كله على التوازن والإعتدال .
والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء - كما هو الحال في النظام الرأسمالي , وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان . إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير . فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع ; والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي , وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب . ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق .
والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد , فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وكان بين ذلك قواما) . .
وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله , ويتحرجون من قتل النفس , ومن الزنا . تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر , ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق , ولا يزنون . ومن يفعل ذلك يلق أثاما . يضاعف له العذاب يوم القيامة , ويخلد فيه مهانا . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا , فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات , وكان الله غفورا رحيما . ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) .
وتوحيد الله أساس هذه العقيدة , ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد ; والغموض والالتواء والتعقيد , الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة .
والتحرج من قتل النفس - إلا بالحق - مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن ; وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء .
والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ , ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم , والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار .
ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ; والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان . . من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن . أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله . وعقب عليها بالتهديد الشديد: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) أي عذابا . وفسر هذا العذاب بما بعده(يضاعف له العذاب يوم القيامة . ويخلد فيه مهانا) . . فليس هو العذاب المضاعف وحده , وإنما هي المهانة كذلك , وهي أشد وأنكى .
ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) . وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال , وثاب إلى حمى الله , ولاذ به بعد الشرود والمتاهة . (وكان الله غفورا رحيما) .
وباب التوبة دائما مفتوح , يدخل منه كل من استيقظ ضميره , وأراد العودة والمآب . لا يصد عنه قاصد , ولا يغلق في وجه لاجى ء , أيا كان , وأيا ما ارتكب من الآثام .
روى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة , أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة , فهل له من توبة ? فقال:" أسلمت ? " فقال:نعم . قال:" فافعل الخيرات واترك السيئات , فيجعلها الله لك خيرات كلها " قال:وغدراتي وفجراتي ? قال:" نعم " . فما زال يكبر حتى توارى .
ويضع قاعدة التوبة وشرطها:(ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) . . فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية , وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية . وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية . فالمعصية عمل وحركة , يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة , وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع . وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة , تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة . ومن أخبر من الخالق بما خلق ? سبحانه تعالى !
وبعد هذا البيان المعترض يعود إلى سمات (عباد الرحمن) : (والذين لا يشهدون الزور , وإذا مروا باللغو مروا كراما) . .
وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب , أنهم لا يؤدون شهادة زور , لما في ذلك من تضييع الحقوق , والإعانة على الظلم . وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه , ترفعا منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات . وهو أبلغ وأوقع . وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) لا يشغلون أنفسهم به , ولا يلوثونها بسماعه ; إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه ! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر , وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ , وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل .
ومن سماتهم أنهم سريعو التذكر إذا ذكروا , قريبو الاعتبار إذا وعظوا , مفتوحو القلوب لآيات الله , يتلقونها بالفهم والاعتبار: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) .
وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان ; لا يسمعون ولا يبصرون , ولا يتطلعون إلى هدى أو نور . وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى . فأما عباد الرحمن , فهم يدركون إدراكا واعيا بصيرا ما في عقيدتهم من حق , وما في آيات الله من صدق , فيؤمنوا إيمانا واعيا بصيرا , لا تعصبا أعمى ولا انكبابا على الوجوه ! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير .
وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ; وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها , بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم , وأن تكون لهم أزواج من نوعهم ; فتقر بهم عيونهم , وتطمئن بهم قلوبهم , ويتضاعف بهم عدد (عباد الرحمن) ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه: (والذين يقولون:ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين , واجعلنا للمتقين إماما) . .
وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق:شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله . وفي أولهم الذرية والأزواج , فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال . والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير , يأتم به الراغبون في الله . وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله .
فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا , ويلقون فيها تحية وسلاما , خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) . .
والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة , أو المكان الخاص في الجنة , كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض , عندما يستقبلون الأضياف . وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم , يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام , جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات . وهو تعبير ذو دلالة . فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس , ومغريات الحياة , ودوافع السقوط . والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر . الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان .
وفي مقابل جهنم التي يتضرعون إلى ربهم أن يصرفها عنهم لأنها ساءت مستقرا ومقاما , يجزيهم الله الجنة(خالدين فيها . حسنت مستقرا ومقاما) فلا مخرج لهم إلا أن يشاء الله . وهم فيها على خير حال من الاستقرار والمقام .
والآن وقد صور عباد الرحمن . تلك الخلاصة الصافية للبشرية . يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء . فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام .
(قل:ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) . .
وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها ; ومساقها للتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم , وتطاولهم عليه , وهم يعرفون مقامه ; ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون . . فما قومه ? وما هذه البشرية كلها , لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله . وتتضرع إليه . كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون ?
من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل . والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض . والأمة واحدة من أمم هذه الأرض . والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله ?
وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا ; ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه ! وهو هين هين , ضعيف ضعيف , قاصر قاصر . إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد , وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله ; وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان . فضلا من الله الذي كرم هذا الإنسان وأسجد له الملائكة , ليعرفه ويتصل به ويتعبد له , فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة ; وإلا فهو لقي ضائع , لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان !
(قل:ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) . . وفي التعبير سند للرسول صلى الله عليه وسلم وإعزاز: (قل:ما يعبأ بكم ربي) . فأنا في جواره وحماه . هو ربي وأنا عبده . فما أنتم بغير الإيمان به , والانضمام إلى عباده ? إنكم حصب جهنم (فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) . .
ــــــــــــ(1/33)
6. وجوب الإتباع على بصيرة :
قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هِيَ سَبِيلُهُ وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ وَيَقِينٍ ، هُوَ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ، مِنْ حَقِيقَةِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ ، وَمَا يَقُولُونَ بِهِ ، وَأَنَّهُ يُنْزِّهُ اسْمَ اللهِ ، وَيُقَدِّسُهُ عَنِ الشِّرْكِ وَالوَلَدِ وَالصَّحَابَةِ ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً
(قل:هذه سبيلي) . . واحدة مستقيمة , لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة .
(أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) . .فنحن على هدى من الله ونور . نعرف طريقنا جيدا , ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة , لا نخبط ولا نتحسس , ولا نحدس . فهو اليقين البصير المستنير . ننزه الله - سبحانه - عما لا يليق بألوهيته , وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به: (وما أنا من المشركين) . .
لا ظاهر الشرك ولا خافيه . هذه طريقي فمن شاء فليتابع , ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم . وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز , لا بد لهم ان يعلنوا أنهم أمة وحدهم , يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم , ولا يسلك مسلكهم , ولا يدين لقيادتهم , ويتميزون ولا يختلطون ! ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم , وهم متميعون في المجتمع الجاهلي . فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة ! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية ; وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة , وعنوانه القيادة الإسلامية . . لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي ; وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا !
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي , وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية , يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم , وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم , وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة .
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين . . إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس . . وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة , وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ !
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية , والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام . . هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب ! . . إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم ! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص ? وطريقهم الخاص ? وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين :
فَصْلٌ [ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ ] وَلَمَّا كَانَتْ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَالتَّبْلِيغُ عَنْ رَسُولِهِ شِعَارُ حِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ , وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْعَالَمِينَ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ , وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } وَكَانَ التَّبْلِيغُ عَنْهُ مِنْ عَيْنِ تَبْلِيغِ أَلْفَاظِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَتَبْلِيغِ مَعَانِيهِ كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أُمَّتِهِ مُنْحَصِرِينَ فِي قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُفَّاظُ الْحَدِيثِ , وَجَهَابِذَتُهُ , وَالْقَادَةُ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةُ الْأَنَامِ وَزَوَامِلُ الْإِسْلَامِ , الَّذِينَ حَفِظُوا عَلَى الْأَئِمَّةِ مَعَاقِدَ الدِّينِ وَمَعَاقِلَهُ , وَحَمَوْا مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّكْدِيرِ مَوَارِدَهُ وَمَنَاهِلَهُ , حَتَّى وَرَدَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى تِلْكَ الْمَنَاهِلَ صَافِيَةً مِنْ الْأَدْنَاسِ لَمْ تَشُبْهَا الْآرَاءُ تَغْيِيرًا , وَوَرَدُوا فِيهَا { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } , وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى , وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى , وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْتَى , وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى , فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسٍ قَدْ أَحْيَوْهُ , وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ , فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ , يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ , وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ , وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ , الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ , وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ , فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ , مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ , مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ , يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ , يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ , وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ ; فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُضِلِّينَ فَصْلٌ [ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَمَنْزِلَتُهُمْ ] الْقِسْمُ الثَّانِي : فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ , وَمَنْ دَارَتْ الْفُتْيَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ بَيْنَ الْأَنَامِ , الَّذِينَ خُصُّوا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ , وَعَنَوْا بِضَبْطِ قَوَاعِدِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; فَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ , بِهِمْ يَهْتَدِي الْحَيْرَانُ فِي الظَّلْمَاءِ , وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ , وَطَاعَتُهُمْ أَفْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ بِنَصِّ الْكِتَابِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : أُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ : هُمْ الْأُمَرَاءُ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ [ طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَابِعَةٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ ] وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأُمَرَاءَ إنَّمَا يُطَاعُونَ إذَا أَمَرُوا بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ ; فَطَاعَتُهُمْ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ ; فَإِنَّ الطَّاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَعْرُوفِ وَمَا أَوْجَبَهُ الْعِلْمُ , فَكَمَا أَنَّ طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ فَطَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ , وَلَمَّا كَانَ قِيَامُ الْإِسْلَامِ بِطَائِفَتَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ , وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَهُمْ تَبَعًا , كَانَ صَلَاحُ الْعَالَمِ بِصَلَاحِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ , وَفَسَادُهُ بِفَسَادِهِمَا , كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : صِنْفَانِ مِنْ النَّاسِ إذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ , وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ , قِيلَ : مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : الْمُلُوكُ , وَالْعُلَمَاءُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ :
رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
ــــــــــــ(1/34)
7.وجوب الإتباع بإحسان :
قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، ( وَهُمُ الذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ) ، وَمِنَ الأَنْصَارِ ( وَهُمُ الذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعَتَي العَقَبَةِ وَالرِّضْوَانِ ) ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَيُخْبِرُ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُمْ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَمَغْنَمٍ وَهُدًى ، وَبِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ، مِنْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَوَانِبِهَا ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً . وَالفَوْزُ الذِي فَازَ بِهِ هَؤُلاَءِ الكِرامُ البَرَرَةُ هُوَ أَعْظَمُ الفَوْزِ .
وهذه الطبقة من المسلمين - بمجموعاتها الثلاث: (السابقون الأولون من المهاجرين . والأنصار . والذين اتبعوهم بإحسان) - كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة , وفي كل رخاء كذلك:فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة !
والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر , وكذلك السابقون من الأنصار . أما الذين اتبعوهم بإحسان - الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك - فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك , وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني - وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر , وهي أشد الفترات طبعاً .
وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار . فقيل:هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل:هم الذين صلوا للقبلتين . وقيل:هم أهل بدر . وقيل:هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية . وقيل:هم أهل بيعة الرضوان . . . ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية , أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح . . واللّه أعلم . .
"لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة , فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة:"أن لا إله إلا اللّه , وأن محمداً رسول اللّه" وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه ; ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه . ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه ولرسول اللّه ; ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية .
"لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة . . وعلى التجمع الجديد , وعلى القيادة الجديدة ; وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة . .
"لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه . وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين , في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد ; وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد , يتبع في تحركه قيادة جديدة , ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض . .
"وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها , إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان . . ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه , والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد , والدينونة لقيادته الجديدة , إلا كل من نذر نفسه للّه ; وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب , والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان .
"بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي ; فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى ; وكان هذا النوع قليلاً ; فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل ; فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام , وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب ; إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين .
"وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة , ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ; ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار ,الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون , إلا أن بيعتهم لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ بيعة العقبة ] قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين . . قال ابن كثير في التفسير:"وقال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ يعني ليلة العقبة ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا:فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . قالوا:ربح البيع , ولا نقيل ولا نستقيل" .
"ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة ; ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة ; ويوثقون هذا البيع , فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين ; بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم , وأن العرب كلها سترميهم ; وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة , وبين ظهرانيهم في المدينة " . .
. . . "فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة ; وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة . . ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها . . فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة . .
"ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء . . لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم . . حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء:عبد اللّه بن أبي بن سلول:هذا أمر قد توجه ! وأظهر الإسلام نفاقا . ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه . . مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني , ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية . "
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد , بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ; ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد .
"وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم ; وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ; ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة
"ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف والنفاق والتردد , والشح بالنفس والمال , والتهيب من مواجهة المخاطر . . وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية . . والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .
. . . "إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار ; وما تحدثه من تماسك وصلابه في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً , والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها .
"وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة , ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين , ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين . حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة , وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد . .
"نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها ; فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها . . تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . وتميز أهل بدر . وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية . ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية , والأوضاع العملية في المجتمع المسلم , تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة , وتنص عليها . . . " . . . . "ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية , لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح ; وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف , والكثير من ظواهر الضعف والتردد , والشح بالنفس والمال , وعدم الوضوح العقيدي , والنفاق . . . من ذلك المجتمع . بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية .
"إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري , وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف - وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة - قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون ; وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ; وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية . . . " .ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك(بإحسان) يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي . وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقي مؤثراً في التاريخ البشري كله , كما نستشرف حقيقة قول اللّه سبحانه فيهم: (رضي اللّه عنهم ورضوا عنه) . . ورضي اللّه عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة , وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة ; ورضاهم عن اللّه هو الاطمئنان إليه سبحانه , والثقة بقدره , وحسن الظن بقضائه , والشكر على نعمائه , والصبر على ابتلائه . . ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر , المتبادل الوافر , الوارد الصادر , بين اللّه سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده ; ويرفع من شأن هذه الصفوة - من البشر - حتى ليبادلون ربهم الرضى ; وهو ربهم الأعلى , وهم عبيده المخلوقون . . وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أنتعبر عنه ; ولكن يُتنسم ويُستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول !
ذلك حالهم الدائم مع ربهم: (رضي اللّه عنهم ورضوا عنه) . وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى: (وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً) . . (ذلك الفوز العظيم) . .
وأي فوز بعد هذا وذلك عظيم ? ? ?
ــــــــــــ(1/35)
8. وجوب الاتباع على هدى :
قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } سورة الأنعام
أُولَئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ ، بِأنْ آتَاهُمُ الكِتَابَ ( صُحُفَ إِبْرَاهِيم ، وَتَوْرَاةِ مُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ ، وَإِنْجِيلَ عِيسَى ) كَمَا آتَاهُمُ العِلْمَ وَالفِقْهَ فِي الدِّينِ ( الحُكْمَ ) ، وَآتَاهُمُ النُّبُوَّةَ لِيَهْدُوا النَّاسَ إلى اللهِ ، وَذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ ، وَلَطْفٌ مِنْهٌ بِخَلْقِهِ ، فَإنْ يَكْفُرْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ فِي الأَرْضِ مِنَ البَشَرِ ( هَؤلاءِ ) بِالكِتَابِ وَالحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بِرِعَايَتِهَا قَوماً مُؤْمِنِينَ ، لاَ يَجْحَدُونَ مِنْهَا شَيْئاً ، وَلاَ يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفاً . ( وَهُمُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَاُر وَالمُؤْمِنُونَ - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا المَقْطَعِ مِنَ الآيَةِ ) .
وَهَؤُلاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ، الذِينَ وَرَدَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الآيَاتِ السَّابِقَةِ ، وَالذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ آتَاهُمُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، هُمُ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ هِدَايَةً كَامِلَةً ، فَاهْتَدِ ، يَا مُحَمَّدُ ، بِهُدَاهُمْ ، وَاقْتَدِ بِهِمْ ، فِي الأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ ، وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ ، وَالعَفْوِ عَنْهُم ، وَقُلْ لِقَوْمِكَ إنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً عَلَى إِبْلاغِ رِسَالَةِ رَبِّي إلَيْكُمْ ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيَّ مِنَ القُرْآنِ ، فَهَذَا القُرْآنُ هُوَ تَذْكِيرٌ ( ذِكْرَى ) لِلْعَالَمِينَ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ فَيَرْشُدُونَ مِنَ الجَهَالَةِ وَالضَّلاَلَةِ .
وهذا هو التقرير الثاني . . فقرر في الأول مصدر الهدى , وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل . وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم , هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة -(والحكم) يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية . فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى , والزبور مع داود , والإنجيل مع عيسى . وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان - وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله , وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور . فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا , وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط , كما جاء في الآيات الأخرى . وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة . . وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه , يحملونه إلى الناس , ويقومون عليه , ويؤمنون به ويحفظونه . . فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب:(هؤلاء) فإن دين الله غني عنهم ; وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين ! . . إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها , وموكب موصول تماسكت حلقاته ; ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول ; وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية ; بما يعلمه من استحقاقه للهداية ! . . وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن , وفي قلوب العصبة المسلمة - أيا كان عددها - إن هذه العصبة ليست وحدها . ليست مقطوعة من شجرة ! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء , وحلقة في موكب جليل موصول , موصولة أسبابه بالله وهداه . . إن المؤمن الفرد , في أي أرض وفي أي جيل , قوي قوي , وكبير كبير , إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني , وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور .
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل:لا أسألكم عليه أجرا . إن هو إلا ذكرى للعالمين) . .
وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان , هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه , وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلا لمن يدعوهم:
(لا أسألكم عليه أجرًا) . . (إن هو إلا ذكرى للعالمين) . . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . .
إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله !
-------------------
وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4) سورة الممتحنة
أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ ، حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ : إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ ، وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ ، وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ ، فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ ، وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .
وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا ، وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ ، وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ ، فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ : إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ ، وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ . وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا ) ، وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا ، وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ . فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ .
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق , وماض طويل , وأسوة ممتدة على آماد الزمان . وإذا هو راجع إلى إبراهيم , لا في عقيدته فحسب , بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله , الواقفين تحت راية الله , قد مرت بمثل ما يمر به , وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديدا ولا مبتدعا ولا تكليفا يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها , إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .
مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة: (إذ قالوا لقومهم:إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله , كفرنا بكم , وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) . .
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه - وهو مشرك - ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: (لأستغفرن لك) . .
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) . . كما جاء في سورة أخرى .
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله , وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال:
(وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) . .
وهذا التسليم المطلق لله , هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه , وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) . .
فلا تسلطهم علينا . فيكون في ذلك فتنة لهم , إذ يقولون:لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم ! وهي الشبهة التي كثيرا ما تحيك في الصدور , حين يتمكن الباطل من الحق , ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان - لحكمة يعلمها الله - في فترة من الفترات . والمؤمن يصبر للابتلاء , ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور .
وبقية الدعاء: (واغفر لنا) . . يقولها إبراهيم خليل الرحمن . إدراكا منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه , وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه , ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه , ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده .
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء: (ربنا إنك أنت العزيز الحكيم) . . العزيز:القادر على الفعل , الحكيم:فيما يمضي من تدبير .
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه , وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها ; مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) . .
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . وهؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم , ويجدون فيها أسوة تتبع , وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . . وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه - سبحانه - (فإن الله هو الغني الحميد) .
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد , ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض ; وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة , ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة ; ووجدوها طريقا معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين , فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك - ولو كان وحده في جيل ! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق!
ــــــــــــ(1/36)
9.وجوب التعلق بالمنهج لا بالأشخاص :
قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران
لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ ، ضَعْفَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ، أوْ قُتِلَ ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً ، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
إن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ليس إلا رسولا . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ?
إن محمدا رسول من عند الله , جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت , وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !
إن البشر إلى فناء , والعقيدة إلى بقاء , ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس , من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم , وبكل مشاعرهم , حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره صلى الله عليه وسلم . . هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب , مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده , باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت .
إن الدعوة أقدم من الداعية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن , العميقة في منابت التاريخ , المبتدئة مع البشرية , تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية , وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون , وتبقى هي على الأجيال والقرون , ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول , الذي أرسل بها الرسل , وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه , ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت: ومن ثم هذا الاستنكار , وهذا التهديد , وهذا البيان المنير:
(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا . وسيجزي الله الشاكرين) . . وفي التعبير تصوير حي للارتداد: (انقلبتم على أعقابكم) . . (ومن ينقلب على عقبيه) . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة , كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة , ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف:إن محمدا قد قتل , فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين , وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين , وانتهى أمر الجهاد للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا , فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب , كارتدادهم في المعركة على الأعقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم , وقالوا له:إن محمدا قد مات:" فما تصنعون بالحياة من بعده ? فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) . . فإنما هو الخاسر , الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئا . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم , ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق , وتعوج الأمور كلها , ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة , وتستقيم في ظله النفوس , وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها , والسلام مع الكون الذي تعيش فيه . (وسيجزي الله الشاكرين) . . الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج , فيشكرونها باتباع المنهج , ويشكرونها بالثناء على الله , ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم , ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة , وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة , وبهذه الآية , أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جاء فقط ليومىء إليه , ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق , كما أومأ إليه من قبله من الرسل , ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم , فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر , ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة , وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة , وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة , التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتل , فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !
وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب , وأن يصلهم به هو , وبدعوته الباقية , قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه , يهدد به من يقول:إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر , الموصول القلب بصاحبه , وبقدر الله فيه , الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع , فإذا هم يثوبون ويرجعون !
- - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
? ... تعريف العمى ... 4
الباب الأول ... 6
صفات العميان ... 6
1. ... لا يتذكرون : ... 6
2. ... سكرت أبصارهم : ... 8
3. ... لا يسمعون ولا يرون : ... 14
4. ... العمى والصمم : ... 17
5. ... الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام : ... 19
6. ... الاستكبار في الأرض واستحباب العمى على الهدى : ... 20
7. ... عدم اهتدائهم بالقرآن : ... 24
8. ... مقلدون لمن سبقهم تقليدا أعمى : ... 30
9. ... أضل من الأنعام : ... 36
10. ... اتباع الهوى : ... 40
11. ... قصر النظر : ... 43
12. ... لا يرجعون إلى الحق: ... 47
13. ... لا يعقلون : ... 49
14. ... العمى هو عمى القلوب لا الأبصار ... 50
15. ... اتباع الشهوات : ... 52
16. ... لا يؤمنون بالآخرة : ... 54
17. ... التعلق بالحياة الدنيا : ... 59
18. ... لا يؤمنون إلا بالخوارق : ... 61
قصة السحرة : ... 61
وكذلك في قصة أصحاب الأخدود : ... 65
19. ... السخرية من المؤمنين اتهامهم بالأكاذيب : ... 67
20. ... البطش بالمؤمنين : ... 72
الباب الثاني ... 74
نتائج العمى ... 74
1-عدم الاهتداء للحق : ... 74
2-عدم الاستواء بين الأعمى والبصير: ... 78
3- عدم الاغترار بتقلبهم في الحياة الدنيا : ... 89
4- الهلاك في الدارين والخسارة : ... 92
5- عذاب النار : ... 97
6-حشرهم عميان : ... 99
7-من كان في الدنيا أعمى عن طريق الحق فهو يوم القيامة أعمى وأضلُّ سبيلا: ... 102
الباب الثالث ... 103
? ... علاج العمى ... 103
1. ... عدم قبول أي كلام بلا دليل ولا برهان : ... 103
2. ... وجوب التفكر والتدبر في خلق السموات والأرض : ... 110
3. ... تحريم التقليد الأعمى : ... 126
4. ... أن يكونوا من أولي الألباب : ... 131
5. ... أن يكونوا من عباد الرحمن : ... 136
6. ... وجوب الإتباع على بصيرة : ... 144
7. ... وجوب الإتباع بإحسان : ... 147
8. ... وجوب الاتباع على هدى : ... 152
9. ... وجوب التعلق بالمنهج لا بالأشخاص : ... 157
الفهرس العام ... 160(1/37)