الصوم مغفرة للذنوب
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1] ( رواه البخاري ومسلم) .
الحديث دليل على فضل صوم رمضان وعظيم أثره حيث كان من أسباب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات.
وعنه أيضاً رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) [2].
وقد ورد أن الصيام وكذا الصلاة والصدقة كفارة لفتنة الرجل في أهله وماله وجاره، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)) [3].
وقد دلت النصوص على أن المغفرة الموعود بها مشروطة بأمور ثلاثة:
الأول : أن يصوم رمضان إيماناً أي: إيماناً بالله ورسوله وتصديقاً بفرضية الصيام وما أعد الله تعالى للصائمين من جزيل الأجر.
الثاني : أن يصومه احتساباً أي : طلباً للأجر والثواب. بأن يصومه إخلاصاً لوجه اله تعالى، لا رياء ولا تقليداً ولا تجلداً لئلا يخالف الناس، أو غير ذلك من المقاصد، يصومه طيبة به نفسه غير كاره لصيامه، ولا مستثقل لأيامه. بل يغتنم طول أيامه لعظم الثواب.
الثالث : أن يجتنب الكبائر. وهي جمع كبيرة. وهي كل ذنب رتّب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو رتب عليه غضب ونحوه، وذلك كالإشراك بالله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والزنا، والسحر، والقتل، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم ، وشهادة الزور، واليمين الغموس[4] ، والغش في البيع، وسائر المعاملات، وغير ذلك. قال الله تعالى: ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً)) (النساء : 5) .
فإذا صام العبد رمضان كما ينبغي، غفر الله له بصيامه الصغائر والخطيئات التي اقترفها، إذا اجتنب كبائر الذنوب، وتاب مما وقع فيه منها.
وقد أفاد الحديث الثاني أن كلّ نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للذنوب ، كالوضوء وصيام رمضان وصيام يوم عرفة، وعاشوراء وغيرها.
أن المراد به الصغائر؛ لأن هذه العبادات العظيمة وهي الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إذا كانت لا تكفّر بها الكبائر، فكيف بما دونها من الأعمال الصالحة؟
ولهذا يرى جمهور العلماء أن الكبائر لا تكفّرها الأعمال الصالحة، بل لابد لها من توبة أو إقامة الحد فيما يتعلق به حد. والله أعلم.
فعلى المسلم أن يبادر بالتوبة في هذا الشهر الفضيل من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، عسى الله أن يتوب عليه، ويغفر ذنبه.
ومن لوّث حياته بالمعاصي والآثام في سمعه أو بصره أو لسانه أو جوراحه فقد أضاع على نفسه في هذا الشهر فرصة التطهير ومغفرة الذنوب. فلم يستحق المغفرة الموعد بها، بل ربما أصابه ما دعا به جبريل ، وأمّن عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي لنا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه سلم (( صعد المنبر فقال : آمين، آمين ، آمين. قيل: يا رسول الله: إنك صعدت المنبر فقلت آمين، آمين ، آمين فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله. قل آمين فقلت آمين)) [5].
فعلى الصائم أن يحرص على أسباب المغفرة والرضوان بالحفاظ على الصيام والقيام وأداء الواجبات.
وأن يبتعد عن أسباب الطرد والحرمان من المعاصي والآثام في رمضان وبعد رمضان؛ ليكون من القائزين .
وإن من علامة ذلك الاستفادة من أوقات رمضان بالطاعة تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن القيم رحمه الله : وكان من هدية صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات. وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان. يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن ، والصلاة والذكر والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة [6].
اللهم اغفر لنا جميع الزّلات. واستر علينا كل الخطيئات ، وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، واغفر ذنوبنا وآثامنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
________________________________________
[1]البخاري (1/92) , ومسلم (759) ، وقوله: (من ذنبه) ظاهره غفران الصغائر والكبائر، وفضل الله واسع، لكن المشهور من مذاهب العلماء أن المراد الصغائر كما سيأتي.
[2] رواه مسلم (233) .
[3] رواه البخاري (4/110) ، ومسلم (144) ، وانظر: لشرحه فتح الباري (6/605).
[4] اليمين الغموس: هي اليمين الفاجرة التي يقتطع بها مال امرئ مسلم سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم في النار.
[5] رواه أحمد (2/246، 254)، وابن خزيمة (3/192)، والبيهقي (4/204) من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، وأصله عند مسلم رقم (2551)، والحديث مروي عن عدد من الصحابة منهم ابن عباس وأنس وجابر بن سمرة، ومالك بن الحويرث، وغيرهم رضي الله عنهم.
[6] زاد المعاد (2/32) .
ــــــــــــــــــــ(1/216)
رمضان فرصة للتغيير
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالأيام تمر مر السحاب، وتمضي السنون سراعاً، وجلنا في غمرة الحياة ساهون ، وقل من يتذكر أو يتدبر واقعنا ومصيرنا مع أننا نقرأ قول الله تعالى: ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)) (الفرقان: 62).
والمسلم في عمره المحدود وأيامه القصيرة في الحياة قد عوضه الله تعالى بمواسم الخير، وأعطاه من شرف الزمان والمكان ما يستطيع به أن يعوض أي تقصير في حياته إذا وفق لاستغلالها والعمل فيها، ومن تلك المواسم: شهر رمضان المبارك .
يقول الله تعالى: ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة: 183) .
(إنه نداء رباني حبيب لعباده المؤمنين يذكرهم بحقيقتهم الأصيلة ، ثم يقرر بعد ذلك النداء: أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد القلوب للتقوى والخشية من الله، هكذا تبرز الغاية الكبرى من الصوم.. والتقوى هي التي توقظ القلوب لتؤدي هذه الفريضة طاعةً لله وإيثاراً لرضاه.
والمخاطبون بهذا القرآن من الرعيل الأول ومن تبعهم بإحسان يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها) .
ولهذا الشهر الكريم من الخصائص التي ميزه الله بها دون غيره من الشهور ما يساعد على أن يكون فرصة لزيادة معدلات التغيير والتصحيح في حياة كل فرد، بل في حياة الأمة جمعاء، يقول الرسول : ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين)) (اخرجه الترمذي)،
وفي رواية أخرى: ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة)) .
هذه الفرصة العظيمة سانحة في هذا الشهر المبارك حيث تصفو النفوس، وترق القلوب، فيؤوب العباد إلى ربهم ويقومون بين يديه.
وليعلم كل منا أنه يساهم بقسط وافر في تردي الحال وتأخر النصر إذا لم ينتهز فرصة رمضان لزيادة رصيده من الصالحات، وتصفية ما عليه من الآثام، حيث هو لبنة في بناء الأمة التي وعد الله بتغيير واقعها إلى أحسن وحالها إلى أفضل إن هم غيروا ما بأنفسهم: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) (الرعد: 11).
ما أحوجنا معشر المسلمين كافة إلى وقفة محاسبة، كل منا مع نفسه في هذه الأيام الفاضلة، نراجع أحوالنا لا سيما من أسرف وفرط في جنب الله ومن قصّر في حق أهله أو حق من ولاه الله رعايته، ومن زلت به القدم وفرط في حقوق إخوانه المسلمين فلم يسلموا من أذاه.
إنها فرصة لأن يتساءل فيها كل منا مع نفسه: حتى متى يبقى ضالاً عن صراط الله المستقيم، وهو يعلم أن الطريق الصحيح هو ما دعا إليه البشير النذير وأن خلافه ونقيضه هو الضلال المبين؟، لماذا أكون ((كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)) [النحل: 92] ؟!.
إن الاستمرار على الحق والعض عليه بالنواجذ، والعودة إلى رحاب الله، وترك ما ألفته النفس من لهو وهوى قد يكون الفكاك منه صعباً كما قال الشاعر:
النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لكنْ لا بد من إرادة قوية واستشعار لواجب التغيير، وبخاصة إذا آمنا إيماناً جازماً أننا معرضون للخطر وسوء الخاتمة إن لم يتداركنا الله برحمته، فما أحوجنا إلى الصبر والمصابرة حتى نلقى الله وهو عنا راضٍ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من ورائكم أياماً الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله خمسين منهم أو خمسين منا؟ قال خمسين منكم)) [رواه أبو داود].
إننا معشر المسلمين حكاماً ومحكومين يجب أن نصطلح مع الله، وهذا الشهر الكريم فرصة وأي فرصة.
فمن الحاكمين بأمرهم اليوم من يحارب الله ورسوله جهاراً نهاراً، فأنّى له أن يوفق وأنّى له أن يمكّن، وأنّى له أن يختم له بخير، فإن كانوا مسلمين حقّاً؛ فليعلنوا حقيقة إسلامهم، وليحكِّموا شريعة الله، وليوطدوا العزم على السير بهدي الإسلام، وليغيروا وفق منهاجه، فليس الأمر مجرد دعوى.
الدعاوى إذا لم يقم عليـ ها دليل فأصحابها أدعياء
وهنا أيضاً دعوة لكل جماعة أو فئة تنتمي إلى الإسلام وتدعو إلى ذلك أن تحقق ولاءها لله تعالى وأن تجرد متابعتها للرسول صلى الله عليه وسلم، فكم رأينا في الواقع من يزعمون أنهم من الداعين إلى الإسلام، بينما هم في العقيدة منحرفون، وعن السنة زائغون، وعن آداب وأخلاق الإسلام متخلون.
وقصارى ما عندهم: الكلام والخصام والحزبية المقيتة واللدد في الخصومة، فما أحوج المنتمين إلى سلك الدعوة إلى الله لتمثل الإسلام في منطلقاتهم وتعاملاتهم والولاء للمسلمين والبراء من أعداء الدين.
فهل يكون هذا الشهر فرصة للعودة إلى الله وسلوك صراط الله المستقيم؟! عسى ولعل.
وأخيراً :
ندعو كل مفكر وكاتب مسلم ممن اتخذ الكتابة مهنة ومصدر رزق ألا يزل به القلم ويتبنى الأطاريح المنحرفة والآراء الفجة فيما يزعمونه علاجاً للمشكلات، لأننا قَلّ أن نجد من هؤلاء الكتاب من يسلك السبيل السوي فيما يسود به الصفحات؛ لكثرة ما يقولون بلا علم، ولجُل ما ينقدون بلا فهم؛ فضلاً عن هجومهم المتوالي على الدعاة والطعن في نواياهم واتهامهم بما هم منه براء.
فهؤلاء إن كانوا غير مسلمين فليس بعد الكفر ذنب؛ وإن كانوا مسلمين فعليهم أن يتوبوا إلى الله؛ وأن يستشعروا الأمانة الملقاة على عواتقهم؛ وعليهم ألا يتسببوا في أذى إخوانهم والإساءة لهم والتحريض ضدهم بلا دليل؛ وعند الله تجتمع الخصوم.
فلعل في هذا الشهر المبارك ما يوضح الرؤية الشاملة في الموقف من الإسلام ودعاته ؛ وألا يكونوا أذناباً لأعداء الله في الهجوم على الإسلام والتخويف منه بمناسبة وغير مناسبة.
ولعل في هذه الأيام الفاضلة ما يعين على تجاوز الأخطاء وتناسي الإحن، والعودة إلى الحق وعدم التمادي في الباطل، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟.
والله أسأل أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلم على البشير النذير وعلى آله وصحبه وسلم ,,,
ــــــــــــــــــــ(1/217)
استقبال شهر رمضان
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102). (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1) . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:7071) .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ? وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيها المسلمون :
فقدْ أظلكم شهرٌ عظيم, وموسمٌ كريم, شهرٌ تضاعفُ فيه الدرجات، وتقالُ فيه العثرات, شهرُ الاستعلاءِ على ضروراتِ الجسدِ كلِّها, واحتمالِ ضغطِها وثقلِها, إيثاراً لما عند اللهِ من الأجر ِوالمثوبة .
فالصومُ بلا منازع هو مجالُ تقريرِ الإدارةِ الحازمة, والعزيمةِ الصادقة, شهرُ الاستعلاءِ على ضروراتِ الجسدِ كلِّها, واحتمالِ ضغطِها وثقلِها, إيثاراً لما عند اللهِ من الأجرِ والمثوبة, فالصومُ بلا منازع هو مجالُ تقريرِ الإدارةِ الجازمة, والعزيمةِ الصادقة, الضروريتان في إعدادِ النفوس، لتحملِ مشاقِ الطريق المفروشِ بالعقباتِ والأشواك تارة, والمملوءِ بالرغباتِ والشهواتِ تارة أخرى تهتفُ بالسالكين,أن حيّهلا إلى حيثُ الفتنةُ والمتاعُ الرخيص(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:183) .
لعلكم تتقون قف عندها وتأمل, فالقضيةُ أيها المباركُ ليستْ قضيةَ طعامٍ وشرابٍ, يؤجلُ بضعَ ساعاتٍ إلى الليل, القضية ليست قضيةَ تجويعٍ, أو حرمانٍ من الوطءِ الحلال, إنَّها أكبرُ من ذلك بكثير. إنَّها مسألةُ إيمانٍ وتقوى، وعزيمةٍ وإرادةٍ تحيى بها الضمائرُ، وتسعدُ لها النفوسُ فالتقوى: هي الرادعُ القوي, والحارس الأمين من مضلاتِ الفتنِ ووساوسِ الشياطينِ, والمتدبرون لهذا القرآنِ، يدركون مقامَ التقوى عند الله, ويعرفونَ وزنَها وحقيقَتها, فهي غايةٌ تتطلعُ إليها أرواحُهم, وتشتاقُها نفوسُهم, فما قيمةُ الإنسانِ بلا تقوى, وما وزنهُ بلا إيمان, أو يقين ؟! وما قيمةُ الصومِ إن لم يثمرْ خشيةً ومراقبه, وتوبةً وإنابة ؟! ما قيمةُ الصوم إن لم يثمرْ إرهافاً في الشعور، وشفافيةً في الحس، ومجانبةً للخطيئة ؟!
ما قيمتهُ إن لم يكن ندماً على أعمارٍ أُهدرت, وسنواتٍ ضُيعت, فيما لا طائلَ من ورائهِ ولا عائدَ من جَرَّائه, ما قيمةُ الصوم إنْ لم يكنْ عزماً صادقاً ؟! ويقيناً واثقاً ؟! بحتميةِ الاستقامةِ والتوبة ؟!
واستدراكُ ما بقي من الأجل, بإصلاحِ الأوضاعِ المنحرفة, والممارساتِ الخاطئة, وحملَ النفس على الالتزامِ بشرعِ الله، والخضوعِ لأمرِ الربِ جلَّ جلاله, ما قيمةُ الصوم إنْ لم يكنْ محاكمةً للضمير, ومحاسبةً للنفس, ومراجعةً للماضي, واستحضارٍ واعترافٍ دائمٍ معناه ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً , وإلاّ تغفرْ لي وترحمني أكنْ من الخاسرين
أيها المسلمون : لقد أساءَ الكثيرونَ فهمَ الإسلام، واتخذوا شعائرَه هزواً ولعباً, وفي أحسنِ الأحوال جعلوها شعائرَ جوفاء, وعباداتٍ جرداء لا روحَ فيها ولا تأثيرَ لها, وإلاّ فما معنى أن يكون أعظمُ شُهور هم, وأنفسُ دُهُور هم وأغلى أوقاتهم ؟! ما معنى أن يتحولَ ذلكَ الشهرُ المقدسُ إلى شهرِ الأسواقِ المزدحمةِ, والموائدِ الممتدةِ بألوانِ الإسرافِ, والتبذير ؟!
وما معنى أن يتحولَ أعظمَ شُهُور ِهم إلى شهرٍ لمطالعةِ الفتنةِ, وإثارةِ الغرائزِ وهدم الفضائل ؟! وما معنى أنْ يظلَّ الشبابُ عمادُ الأمةِ وأملُها سادرينَ في غيهِم, ممعنينَ في ضلالِهم, مستسلمين لشهواتِهم, منكبينَ في ملذاتِهم؟! لا يُراعون للشهرِ حرمةً، ولا يرجونَ لله وقاراً, يذرعونَ الشوارعَ بسياراتِهم اللامعةِ, ووجوههمِ المصقولةِ، وهيئاتِهم البغيضة, يؤذونَ العبادَ, ويفسِدونَ البلادَ، ولا يَسلمُ من شرِّهم حاضرٌ ولا باد, وما معنى أن يتحولَ شهرُ بدرٍ وفتحِ مكة, إلى شهرِ الخمولِ, والتثاؤب, والتثاقلِ عن أداءِ الضروريِّ الواجب؟! بل حتَّى عن الصلاةِ المفروضةِ أحياناً, واعجباً لصوَّامِ آخرِ الزمان هؤلاء.
بل وأعجبُ منهم ! من لا يسجدُ للهِ سجدةً لا في رمضانَ ولا في غيرِ رمضان, وهو مع ذلكَ صائمٌ محتسبٌ, يظنُ أنَّه قد بلغَ مرتبةَ أبي بكر وعمر , إنَّهم يسيئونَ فهمَ الإسلام, ويتعاملونَ معهَ مشوهاً ممزقاً, مجزاءً, فوا غربةَ الإسلامِ! ويا حسرةً على العباد!!
أيها المسلمون : ولنا مع هذا الشهرِ المميزِ هذه الوقفاتُ السريعةُ.
الأولى : وقفةٌ مع أعظمِ حدثٍ عرفتهُ البشرية في هذا الشهرِ المبارك, يومَ نزلَ القرآنُ الكريم، فكان حدثاً باهراً غيَّر مسارَ التاريخ، وأنشأَ خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، وصنعَ رجالاً فاجئوا العالم, وأذهلوا الدنيا بعلومِهم وجهادهم وفتوحاتِهم، وبهروا العقولَ بمعجزاتِهم الخارقة، وبطولاتِهم الفذة.
ذلك القرآنُ الذي أصبحَ اليوم يُقرأُ في السنةِ مرَّة, ثم يُركنُ في الأدراج حتى إشعارٍ آخر, وإنْ أحسنوا أزاحوا عنه الغُبار بين الفينةِ والأُخرى، باعتبارهِ كتاباً مُقدساً وكفى, ولعمر الله! فلقد أفرزتْ هذه الرعونةُ في معاملةِ الكتابِ العزيز مظاهر شتى.
أولُها : ما تعانيهُ الأمةُ اليوم من ذلٍ وهوانٍ, وتسلطِ أعدائِها عليها يسومونها سوءَ العذاب, يسفكونَ دمائها, ويستبيحونَ بيضَتها, ويدنِّسون عقائدَها, ويُميِّعون أخلاقَها, بل إنَّهم ليمارسونَ وصايةً ذليلةً على شعوبِها , حتى صدقَ فيهم:
ويقُضى الأمرُ حين تغيبُ تَيمٌ *** ولا يستأ مرون وهم شهودُ
وأما المظهرُ الثاني: الذي أفرزتهُ رعونةُ التعاملِ مع الكتابِ العزيز، فتلمسُها بوضوحٍ من خلالِ التخبطاتِ العقدية، والانحرافاتِ السلوكية, والنعراتِ العصبيةِ, والتدهوراتِ الأخلاقية, فكلُ هذه الشذوذات أفرزها غيابُ القرآن ، وعزلهُ عن التربية والتوجيه, بحيث أصبحتْ جماهيرُ المسلمين في العالمِ الإسلامي طريحة تحتَ تأثيرِ الثقافاتِ الأجنبيةِ الوافدة, والغزو الفكريِ المُنظم, مصطليةً بنارِ التغريبِ والتعجيم .
حتى كانتْ ثالثةُ الأثافي، بنشأةَ تلكَ الأجيالِ الهزيلة من الفتيانِ والشباب ذوي الاهتماماتِ التافهة, والهواياتِ السخيفة, التي لا تتجاوزُ نطاقَ الفن والسفرِ والسياحة ونحوِها من هاتيكَ القضايا .
ألا إنَّ رمضان فرصةٌ سانحةٌ للأمة، شعوباً وأفراداً, كي يُعيدوا للقرآنِ هيبتَه وينقلوهُ بأيدٍ متوضئة، وقلوبٍ تائبة، من أرففِ المساجد ليحكمَ كلَّ صغيرةٍ وجليلةٍ في حياتهم، ويهيمن على كلِّ شاذةٍ وفاذة من أمورهم .
أيها الأحبة في الله : وأما الوقفةُ الثانية فنقفها سوياً, بصحبةِ جملةٍ من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يُقدمُ للأمةِ دروساً بالمجان,في منهجيةِ التعاملِ مع شهرٍ عظيم كهذا، فقد أخبرَ عليه الصلاة و السلام وهو الصَّادق المصدوق, عن فتحِ أبوابِ الجنةِ في رمضان ([1]) وإغلاقِ أبوابِ النيران, وما أعظمَها من بشارة لو تأملنا ها بوعيٍ وإدراك, لو تدبَّر المسلمونَ هذا الخبرَ العجيب, الذي فيه من معانيِ الرحمةِ والإحسانِ ما فيه, لوجدتَهم مسارعينَ في الخيرات, متنافسينَ في القُربات, راحمينَ للضعفاء, محسنينَ للفقراء .
لو تأملَ المسلمون هذا الخبرَ العظيم, لوجدتَهم هاجرينَ للموبقات, تاركينَ للشهوات, عافِّين عن الحرام, زاهدينَ في الآثام, لو تخيلَ المسلمون أبوابَ الجنةِ المشرعة, ومصا ريعها المفتوحةِ, لهبَّوا من رقدتِهم, وانتفضوا انتفاضةَ الأسد يبتدرونَ تلكَ الأبواب, علَّهم يلجونها وينعمونَ بدخولِها, ألا إنَّ أبوابَ الجنة لا تدركُ بالأمانيِ الكاذبة, ولا تولجُ بالأحلامِ الزائفة,ولكنَّها تولج بأداءِ الصلاةِ المكتوبة، وأداءِ الفرائضِ المفروضة, أبواب الجنة تولجُ بصنائعِ المعروف، وتفطيرِ الصائمين، وتفقدِ الأراملِ واليتامى, والضعفاءِ والزمنى, أبوابُ الجنَّة تولجُ بصلاةِ التهجدِ خلفَ الإمام، وكفَ اللسان وحبسِ المداد عن شتمِ الناسِ وثلبهم، وتتبعِ عوراتِهم, وتصيدِ زلاَّتهم وهفواتِهم, إنَّها تولجُ بحسنِ الدعوةِ إلى الله، والصبرِ على الأذى في ذاتِ الله ، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والتصدي للباطل وكشفِ الأباطيل ، وتمعر الوجهِ غيرةً على محارم الله, أبوابُ الجنَّة مفتوحةٌ لمن قامَ بحقِّ النصيحةِ مخلصاً للهِ ولكتابهِ ولرسولهِ ولأئمةِ المسلمينَ وعامتهِم, بأدبِ قرآنيٍ جم, ومنطقٍ نبويٍ مهذب .
أيها الأحبة في الله : ويخبرنا رسولُنا صلى الله عليه وسلم : (( بأنَّ من لم يدعْ قولَ الزورِ والعملَ به فليس للهِ حاجةٌ بأنْ يدعَ طعامَه وشرابه )) [2] .
صلَّى عليك الله يا علمَ الهدى, صلَّى عليك الله, صلَّى عليك اللهُ أبا القاسم فما أوجزَها من عبارة, وما أبلغَها من إشارة!
إنَّه عليه السلام يُلخصُ حقيقةَ الصومِ, ويُجلي ثمرتَه, فالقضيةُ كما أسلفنَا ليستْ قضيةَ تجويعٍ وحرمانٍ من الوطء الحلال!
إنَّها قبل ذلك، كفٌ للسانِ عن قالةِ السَوء, من غيبةٍ ونميمة وثلبٍ لأعراضِ المسلمين, وخوضٍ في نواياهم, وبثٍ للفرقةِ والتناحرِ في أوساطِهم .
إنَّها قبل ذلك كبحٍ لجماحِ الهوى وحظوظِ النفسِ، من التلطخِ بقذارةِ الخطيئةِ, وشؤمِ المعصيةِ، وجُرمِ الانغماس في وحلِ المخالفةِ, ومجاوزةِ الحدِّ الذي حدَّه الله .
إنَّ الصومَ قبلَ أن يكونَ تأجيلاً لطعامِ الغداة, وتأخيراً لرشفةِ الظهيرةِ, هو قبلَ ذلك امتناعُ الأصابعِ عن العبثِ بأزرَّةِ قنواتِ البثِّ الفضائي, وحفظِ الحواسِ عن مطالعةِ ما حرَّم اللهُ، أو الاستماعِ إلى ما يغضبُ الله, إنَّهُ صومُ الجوفِ عن أكلِ الحرامِ من الرشوةِ والربا، أوالغلولِ والسرقة, إنَّه صومُ الجوف عن أكلِ أموالِ اليتامى، ومرتباتِ الأجراء وتسويقِ المعازفِ, وترويجِ المخدراتِ وبيعِ الدخانِ والمجلاتِ وغيرها، ممَّا حرمهُ اللهُ ورسوله, إنَّه صومُ الجوارحِ كلِّها عن انتهاكِ الحدود, وتجاوزِ السدودِ في هجمةٍ غيرِ بريئةٍ, على ما لا يُجيزُه شرعٌ , أو يسوِّغُه عقلٌ, أو يتلائمُ مع خُلقٍ ومبدءٍا ودين, وأما الخبرُ الأخير من أخبارِ رسولنا ? في شأنِ رمضان, فهو إخبارهُ الأمة بأنَّ (( للصائمِ عند فطرهِ دعوةً لا ترد))[3].
فهلاَّ اغتنمتَ يرحمُك الله هذه الفرصةَ النادرة المسوقةَ إليك فوقَ طبقٍ من ذهب, هلاَّ اغتنمتَ - يا رعاك الله - فرصةً كهذه, ودعوتَ ملكَ الملوكِ أنْ يَفيضَ عليك من رحما تهِ، ويُنزّلَ عليكَ من بركاتهِ, هلاَّ دعوتَ الرؤوفُ الرحيم أن يقيكَ مُضلاتِ الفتن، التي أصبحتْ اليومَ يرققُ بعضها بعضاً, ويُهونُ بعضها بعضاً, هلاّ دعوتَ اللهَ أن يقيكَ شرَّ نفسكَ, وشر الشيطانِ وشركه ؟!وأنْ يأخذَ بيدكَ إلى حيثُ البرُ والتقوى , وحلاوةُ الإيمانِ وبرد المتقين ؟! إنَّ للصائمِ عند فطرهِ دعوةً لا تُرد, بشارةٌ لا ينبغي أنْ يفرطَ فيها لبيبٌ, أو يغفلَ عنها من لديهِ مسكةٌ من عقل .
واعجباً كيفَ يُفرطُ بها أقوامٌ وهمْ في أمسِّ الحاجةِ إليها ! فلا يخُصَّون بها أنفسَهم وقد علموا شدَّة افتقارِها إلى عونِ الله، ومسيسِ حاجتها إلى تأييدهِ وتسديده, ولا يُخصونَ بها إخوانَهم المستضعفين المضطهدينَ في أماكنَ شتى, تحتَ مطارقِ الإلحادِ والزندقة في الشيشانِ, وكشمير وغيرها، حذاري أيها اللبيبُ أن تنسيكَ فرحةُ الفطرِ حرارةَ الدعاء للعراق, وفلسطين, بأنْ يعجّلَ اللُه للأمةِ فرجَها، وينفسَ كربتَها, ويبعثَ عزَّتها, ويشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين .
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ وما تدري ما صنعَ الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكنْ لها أجلٌ وللأجلِ انقضاءُ
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وأيا كم بالذكر الحكيم .واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله يعطي ويمنع, ويخفض ويرفع, ويضر وينفع, ألا إلى الله تصيرُ الأمور. وأصلي وأسلم على الرحمةِ المهداة, والنعمة المسداة, وعلى آله وأصحابه والتابعين,
أما بعدُ:
فأما الوقفةُ الثالثة فهي وقفةٌ مع المعتمرين وزوارَ المسجدِ الحرامِ، فوا الله إنَّه ليثلجُ صدورَنا, ويسعدُ نفوسَنا، تلك الألوفُ المؤلفة التي تملأُ أروقةَ المسجدِ وساحاتِه. بيدَ أنَّ ذلك لا ينبغي أنْ يمنعنَا من التذكيرِ بأهميةِ الاعتناءِ بالذريةِ والمحارم, وإحاطتِهم بالرعايةِ والتوجيه, إذ لا ينبغي أنْ ينشغلَ الأبُ بصلاتهِ, وطوافهِ عن أقربِ الناسِ إليه وألصقهِم به, فيتركُ لهم الحبلَ على الغارب، يذرعونَ الأسواقَ جيئةً وذهاباً، ممَّا قد ينتجُ عنه ما لا تُحمدُ عواقبهُ، ولا تُسعدُ نتائجهُ, لا ينبغي أن يكونَ رمضان مدعاةٌ لإهمالِ الأسرِ ، وتقويضِ البيوتِ، وإفراطَ الثقةِ بالمراهقينَ والمراهقاتِ, لقد اعتادَ الكثيرون اصطحابَ أُسرِهم إلى البيت الحرام، لكنَّهم يَغفلُون عنهم ساعاتِ الليل وأطرافَ النهار، ممَّا جعلَها فرصةً يرتكبُ خلالها بعضُ الأبناء تصرفاتِهم المشينة, وحماقاتِهم المزرية, في أطهر البقاعِ وأشرفِها عند الله, ناهيكَ عمنْ يسافرُ لمكةَ وحدَهُ ويهملُ أولادَهُ وبناتِهُ، وفيهم ضعيفُ العقلِ وناقصِهِ، وفيهم المراهقُ والسفيه, يتركهُم بلا حسيبٍ أو رقيب, ونسيَّ أنَّ في الشرع حسناً وأحسن, وفاضلاً وأفضل, وواجباً وأوجب.
فحذاري يرحمُك الله أنْ تُلهيكَ لذةُ العبادةِ وحلاوةُ المناجاةِ عن رعايةَ أبناءِكَ,, وتفقدِ أهلِكَ وأولادك ، فالشيطانُ حيٌ لم يمتْ بعد، والنفسُ أمارةٌ بالسوء، والفتنةُ ضاربةُ بحرارتها فوق الأرض .
وأخيراً فهذا تذكارٌ سريع، لبعضِ أحكامِ الصوم .
أولُها : وجوبُ تبييتِ نيةِ الصومِ من الليل، وتكفي نية واحدةٌ لصومِ الشهرِ كلِّه على الصحيحِ الراجح.
وثانياً: سقوطُ الصومِ عن المريضِ، فإنْ كان المرضُ ملازماً للمريضِ لا يُرجى زوالُه، فيطعمُ عن كلِّ يومٍ مسكيناً ومثلهُ الكبيرُ الهرمُ العاجزُ عن الصوم , وأمَّا المسافر فيجوز له الفطرُ مطلقاً حتى لو لم يشقْ عليه الصوم.
أمَّا الذين يتحايلونَ بالسفر من أجل الفطر على طريقةِ لأقطعنه بالأسفار, ففطرُهم حرامٌ لا يجوزُ, وأما مفسداتُ الصومِ فستة :
أولُها: الجماعُ في النهار .
وثانيها : إنزالُ المني بمباشرةٍ ونحوها .
وثالثُها : الأكلُ والشربُ ولو بطريقِ المغذيات .
ورابعُها : التقيؤ عمداً .
وخامسُها : إخراجُ الدمِ بحجامةٍ ونحوها .
وسادسُها : ممَّا تختص به النساء من خروجُ دمِ الحيضِ, والنفاسُ ولو قبلَ المغربِ بقليل .
وكل هذه المفطراتُ ، لا تفسدُ الصومَ ، إلا بشروطٍ ثلاثة :
الأول : أن يكونَ عالماً بالحكم، عالماً بالوقت .
الثاني : أنْ يكونَ ذاكراً غيرَ ناسي .
الثالث : أن يكونَ مُختاراً غيرَ مكره .
اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى أله وصحابته أجمعين .
وأرضي اللهم عن الخلفاء الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهم آمنا في الأوطانِ والدور وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
ــــــــــــــــــــ(1/218)
[1] السنن الكبرى (2409) من حديث أبي هريرة ? .
[2] رواه البخاري (1903) من حديث أبي هريرة ? .
[3] مصباح الزجاجة ، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي.
ــــــــــــــــــــ(1/219)
من فضائل رمضان وتناقضاتنا في شهر الصيام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ..
إخوة الإسلام : ولا زالت سحائب الخير تُضللنا في رمضان، ومن ذا الذي ينكرُ ما لشهرِ رمضان من فضائل ومزايا حَريةٌ بالوقفةِ والبيان.
وفي المقابل ألا يوجدُ في حياتنا تناقضاتٌ ربما تظهر أكثر في رمضان، وهذه كذلك حريةٌ بالوقفة والبيان .
أيها المسلمون : نسائمُ رمضان أكثرُ من أن تُحصى في القديم والحديث، وعلى الفرد والمجتمع والأمة، ولكن دعونا نخاطبُ أنفسنا، ونتلمسُ شيئاً من نسمات رمضان وفضائله في واقعنا، أليست الفرحة والبشرى عمَّت الصغير والكبير، والذكر والأنثى بحلولِ شهر رمضان؟ وتلك علامة خيرٍ، والله يقول: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) (يونس:58).
أليس سوقُ المراقبة لله يروج ويشتدُّ في رمضان، والصائمُ يمتنع عما أحل الله له، ولا رقيب عليه في ذلك إلا الله، والصائمون يضربون في ذلك أروع الأمثلة حتى عاد ذلك ديدناً للصغير والكبير، والمسافر والمقيم، والصحيح والسقيم، إلا من عُذر بالإفطار فتلك رخصةٌ من رخُص الله (( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )) (الحج:78).
إن مساجدنا تُعمر بالمصلين أكثر في رمضان، وقد يعود فيها شاردٌ إلى ربه، وقد يألف المسجد على الدوام من كان هاجراً له في بعض الزمان.
وإن بيوتنا أضحت موئلاً للملائكةِ لكثرة ما يُتلى فيها من القرآن، أو زيادة النوافل في رمضان، ولربما بات البعضُ منها موئلاً للشياطين حيناً من الدهر لكثرة الصور، أو لتعالي أصوات الغِناء، أو لقلة الذكر وكثرة الغفلة فيها.
أيها الصائمون : ألستم تجدون في أنفسكم لذَّة الصيام وإن مُنعتم الشهوات؟ إنها المجاهدة على الطاعة ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)) (العنكبوت: من الآية69).
أولستم تخافون الله وتطيعونه حين تتقربون إليه بالصيام؟ فأبشروا بالعوض والله يقول : ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) (الرحمن:46)، ويقول: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات:4041).
العمرة في رمضان تعدل حجة، والريان بابٌ خاص بالصائمين في الجنة.
أولستم تفرحون عند الإفطار في الدنيا ؟ فلَفرحتكم حين تلقون ربَّكم في الآخرة أشدُّ وأبقى ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ)) .
يا معاشر المسلمين : كيف يجهل أحدٌ منكم نسماتِ رمضان وخيرية شهر رمضان؟ والدعواتُ تنطلقُ من أفواه الصائمين وقلوبهم فتعتلجُ في السماء، فتردُّ قضاءً، أو تحققُ مطلباً، أو تكفُّ سوءاً، أو تصلحُ فاسداً، أو تنصرُ مظلوماً، أو تشفي مريضاً، أو تغني فقيراً، أو تفكُّ أسيراً، أو تنكأ عدُوَّاً.
إن للصائم دعوةً لا ترد لاسيما عند فطره، وللمسلم دعوةٌ لا ترد لاسيما في الهزيع الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي حال السجود، وآخر ساعةٍ من الجمعة...إلى غير ذلك من مواطن إجابة الدعاء، فألحوا على الله بالدعاء، واستجيبوا لأمره، وآمنوا به، فتلك بوابةُ الدعاء، وعلامة الرشد ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ))(البقرة:186) .
قال المفسرون: فليستجيبوا لي إذا دعوتُهم للإيمان والطاعة، كما أني أُجيبهُم إذا دعوني لحوائجهم (تفسير النسفي 1/95).
وأمرٌ آخرُ لابد من التَّفَطُّنِ له حين الدعاء ألا وهو: إن إجابة الدعاء وعدُ صِدقٍ من الله لا خُلف فيه، لكن إجابةَ الدعوة تُخالفُ قضاءَ الحاجة، فإجابةُ الدعوة أن يقول العبدُ: يا ربِّ، فيقول الله: لبيك عبدي، وهذا أمرٌ موعود موجودٌ لكل مؤمن، وقضاءُ الحاجة إعطاءُ المراد، وهذا قد يكون ناجزاً، وقد يكون بعد مدةٍ، وقد يكون في الآخرة، وقد تكون الخيرةُ له في غيره (تفسير النسفي 1/95).
أيها الصائمون : وهل يجهل أحدٌ أثر الصيام في وحدة الأمة وتآلفها وانقيادها، أجل إنهم جميعاً يلزمون حين طلوع الفجر ثم يُتمّون صومهم إلى الليل، يستوي في ذلك الكبير والصغير، والغني والفقير، والأميرُ والمأمور، والذكرُ والأنثى، والعربي والأعجمي.
وكم تتجلى هذه الوحدة في تجمعات المسلمين الكبرى كالحرمين الشريفين والمسلمون من مختلف البلاد والأعراق واللغات والألوان يجلسُ بعضهم إلى بعض، وكلُّهم ممسكٌ عن الطعام والشراب، حتى إذا ارتفعُ صوتُ المؤذن مُشعراً بحلول الليل أفطر الصائمون، إنها لونٌ من ألوان وحدة الأمةِ وترابطها، يُذكرنا بها شهر رمضان، وتتجدد مع كل سحور وإفطارٍ في رمضان، ويُدعى لها المسلمون على الدوام .
أيهاالمسلمون : ولئن نسينا فما نَسي الفقراءُ والمحتاجون والأراملُ والأيامى واليتامى والمنكوبون والمشردون وأصحابُ الحوائج الأخرى، ما نسي هؤلاء وأولئك أعطياتنا في رمضان، نعم إن أيدي الإحسان تمتدُ أكثر في رمضان والصدقاتُ والزكواتُ يروج سوقها أكثر في رمضان، كم ينتظر الفضل من محروم في شهر رمضان وكم تُسدد من ديون تثقل الكواهل وتجلب الهمَّ والغمَّ في شهر الصيام، كم تُكفكفُ من دموعٍ في شهر الإحسان، وكم يشعر بالأمان إخوانٌ لنا عاشوا فترةً من النسيان والحرمان، حتى إذا حلَّ شهرُ الصيام ذكرناهم فأعطيناهم وآويناهم فابتهجوا وتقشعت عنهم سحبُ الكآبة، ولسان حالهم يقول :
وعسى أن يكون في شهر رمضان فرصةٌ للذكرى والوصال على الدوام حتى تتغير الحال وتقضى الحوائج ويُنتصر للمظلوم ويُردُّ الصائل، وينكفيء الغشوم .
إخوة الإيمان: ولا تكادُ تُخطئ العين أثر الصيام في تهذيب النفوسِ على البر، وفطامها عن رديُ القول وسماعِ الزور، أوَليس الصائم الموفق يجاهدُ نفسه على حسن التعامل مع الآخرين حتى وإن سابَّهُ أحدٌ وقاتله ردَّ عليه: ((إِنِّي امرؤ صَائِمٌ)) .
هل رأيتم صائماً يحترم صومه يسمعُ أو ينظر للحرام، إن سوق الغناءِ والخنا، والكذب والغشّ والخداع ونحوها من منكرات الأقوال والأعمال، يضعف في رمضان، أوليس تلك نسمةً عظمى من نسمات رمضان؟ حتى وإن تخلف نفرُ عن ركب الإيمان، بل إن الصائم يُعطي نفسه حظهّا من البر والإحسان والذكر والدعاء وتلاوة القرآن، والمكث في المساجد، وهذه وتلك حَريةٌ بأن تكون ديدناً للمسلم في شوال وشعبان وسائر الشهور والأيام.
إنها فضائل ومزايا لابد أن نتبينها ونستزيد منها، ونشكر الله عليها، ولابد أن نربي أنفسنا ونجاهدها على الصبر والمداومة عليها فتلك قيمة الصيام، وتلك مدرسة رمضان ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:183).
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون : ومع ما في الصوم من تهذيب، وما لرمضان من مزايا إلا أنه يُوجِدُ فينا معاشر المسلمين خللٌ، ولدينا تناقضاتٌ، ما أحرانا أن نتنبه لها وأن نستفيد من مدرسة الصوم.
أليس فينا من يجادل ويخاصمُ حتى في رمضان وهو جدلٌ لا لجلب مصلحة ولا لدرء مفسدة ؟ لكنه لدد وخصومة وإظهارٌ للقوة، والتشفي من الآخرين، أفلا نربي أنفسنا على ترك الخصومة والجدل في شهر يُقال لنا فيه: ((وإذا كَانَ صَومُ أَحدكم فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ)) (متفق عليه) .
وفي رواية: ((فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يُجَادِل)) ( لسعيد بن منصور، انظر: محمد الحمد، رمضان، دروس وعبر 27).
قال ابن عباس رضي الله عنه : كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً ألا تزال مماريا .
وقال الأوزاعي : إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل.
وإذا كان ثمَّ خلاف حول أمر ما فلتقمْ فينا روحُ الإنصاف، ولنعوِّد أنفسنا على العدلِ مع غيرنا، فذلك أقربُ للتقوى، وأنفى للوحشة والبغضاء.
أيها الصائمون : وثمة تناقض صارخ، وذلك حين ينام بعض الصائمين عن الصلاة المكتوبة، ويتكرر هذا بشكل يفقد الصائم تقوى الصيام، إن الطاعة ينبغي أن تقود إلى طاعة أخرى، ورمضان فرصةٌ للكسالى والمقصرين في أمر الصلاة ليراجعوا أنفسهم، فإذا وجد التراخي والكسلُ عن الصلاة في شهر الصيام، فذلك خلل في الصيام، وتناقض في سلوكيات الصائم عليه أن ينتهِ ويُسارعَ بالعلاج .
عباد الله : أليس الغشُّ والفحش والكذبُ والزور والغيبة والنميمة والتعدي على حقوق الآخرين محرماً على المسلم على الدوام ؟ لكن ما رأيكم في مَنْ يمارس هذا حتى وهو صائم ؟ أليس هذا تناقضاً مع حقيقة الصيام، وخروجاً عن سمت الصائمين ؟ ((ومن لم يدع الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه )) .
أما التعامل بالربا، وأكلُ أموال الناس بالباطل، فذلك محرم في شريعة الإسلام على الدوام، ولكن ممارسته في رمضان تَعدٍ على حرمة الصيام، وانتهاكٌ لقدسية رمضان، وهو تناقضٌ بين العبودية لله والعبودية لغيره.
أما الذين يعكفون سحابة النهار على تلاوة القرآن ، فإذا جنَّ عليهم الليل رأيت منهم عكوفاً مُناقضاً على مشاهدة القنوات الهابطة، أو متابعة للمواقع المشبوهة في الإنترنت، فأولئك حريون بتدبرِ ما قرءوا من القرآن، وأولئك خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم ، وأن يفتح عليهم ليعلموا أن صيام النهار جُنةٌ عن آثام الليل، وأن سماع الغناء أو مشاهدة الخنا، لا يجتمعان مع سماع القرآن وتقدير شهر رمضان .
أيهاالصائمون : أما رسائل الجوال وصورُه فكم هي مؤشرات على السَّفه حين تحمل عباراتٍ يستحي العقلاءُ من ذكرها ، أو صوراً لا يليق نشرها ، وحين تمارس هذه الرسائل والصورُ الهابطة في شهر رمضان فما فَقِه أولئك فقهَ الصيام ، وأين هم من حكمة الصيام وقدسية رمضان ؟
عباد الله : ألا نشعر جميعاً بالإسراف في تناول الكثير من الأطعمة في رمضان، أليس في الصوم تربية على الصبر والجوع والاقتصاد في المطعم والمشرب، ومحاربةٌ للتخمة، وموازنة مشروعة لأثلاث الطعام والشراب والنفس، لكنا حين نسرف في الفطر ونعوّض ما فات في الصوم، فما استفدنا كثيراً من حكمة الصوم.
أيها المدخنون : كان الله في عونكم على ترك التدخين، ورمضان فرصةُ مهمة لكم للإقلاع عن هذا الداء المستشري، ألا تشعرون بشيءٍ من التناقض وأنتم تصومون النهار عما أحل الله لكم طاعة لله وقربةً له، فإذا كان الليلُ أفطرتم على الحرام، وربما عوّضتم ما فاتكم من النهار، إنها طاعة ومعصية، واستجابة لله في النهار لكنها استجابة للهوى وانهزامٌ أمام الشهوة في الليل، أين ذهبت قوةُ إرادتكم في النهار فهلا واصلتموها في الليل؟ إن القرار قد يبدو عند بعضكم صعبٌ، ولكن ذلك من تخويف الشيطان، وإلا فقافلة المقلعين عن التدخين سائرة، وأنت لست أضعف ممن ترك وأقلع، ولكنك محتاجٌ إلى الجرأة والصبر قليلاً، والعاقبةُ حميدة ، والخطوة موفقة، فاستعن بالله ولا تعجز، وقل لنفسك: هذا أوان التوبة، ومهلتك الأخيرة شهرُ رمضان، وستجد من ربك عوناً ومن أقاربك مشجعاً، ومن مجتمعك مثنياً ومباركاً، ولك أن تتصور فرحتنا بك مقلعاً تائباً، ومن حقك بل ومن حقِّ كل مبتلى أن ندعو وأن نُؤمن على الدعاء، اللهم عافِ كلَّ مبتلى بسوء، اللهم أبدل سيئاتهم حسنات، اللهم ثبتهم على الحقِّ إلى لقياك .
عباد الله كلَّنا يُدعى إلى التوبة النصوح، وكلنا مطالبٌ بالتغيير للأحسن، وكلنا يكره التناقض، فلنجعل من رمضان فرصةً للمراجعة والمحاسبة والتوبة والإنابة، ففي الشهر عونٌ على الطاعة وفرصٌ لا تعوض، ومكاسبٌ جلية للدنيا والآخرة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه، وغداً يكشف الستار ويتبين من تأخر ومن فاز وحينها لا ينفع الندم ، ولا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل .
اللهم أعِنَّا على ذكرك وعلى شكرك وحسن عبادتك ، واجعلنا من السابقين للخيرات، الفائزين بالجنات ، اللهم اعصمنا من الزلل واحفظنا من الفتن ، اللهم أفء من بركات هذا الشهر على المسلمين كافة ، وعلى المظلومين والمشردين والُمحاصرين خاصة .
ــــــــــــــــــــ(1/220)
الصوم
* عن ابن أبي مليكة قال : كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ، ويصبح يوم السابع ، وهو ألثينا .
(1/335)
* عن أبي هريرة t قال : ألا أدلكم على غنيمة باردة ؟ قالوا : ماذا يا أبا هريرة ؟ قال : الصوم في الشتاء .(1/381)
* وعنه ، أنه كان وأصحابه : كانوا إذا صاموا : قعدوا في المسجد ؛ وقالوا : نطهر صيامنا .
(1/382)
* عن سعيد بن المسيب قال : رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق ، ثم يأتي أهله ، فيقول : هل عندكم من شيء ؟ فإن قالوا : لا ، قال : فإني صائم .(1/382)
* عن عباس بن فروخ قال : سمعت أبا عثمان النهدي يقول : تضيفت أبا هريرة سبع ليال ؛ فقلت له : كيف تصوم ـ أو : كيف صيامك ـ يا أبا هريرة ؟ قال : أما أنا ، فأصوم أول الشهر ثلاثاً ، فإن حدث لي حدث ، كان لي أجر شهري .(1/382)
* عن أبي عثمان النهدي : أن أبا هريرة كان في سفر ، فلما نزلوا ، وضعوا السفرة ، وبعثوا إليه وهو يصلي ، فقال : إني صائم ؛ فلما كادوا يفرغون ، جاء ، فجعل يأكل الطعام ؛ فنظر القوم إلى رسولهم ، فقال : ما تنظرون ؟ قد والله أخبرني أنه صائم ؛ فقال أبو هريرة : صدق ، إني سمعت رسول الله r يقول : « صوم شهر رمضان ، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر : صوم الدهر » وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر ، فأنا مفطر في تخفيف الله ، صائم في تضعيف الله .(1/382)
* عن أبي موسى t قال : خرجنا غازين في البحر ، فبينما نحن والريح لنا طيبة ، والشراع لنا مرفوع ؛ فسمعنا مناديا ينادي : يا أهل السفينة ، قفوا أخبركم ، حتى والى بين سبعة أصوات ؛ قال أبو موسى : فقمت على صدر السفينة ، فقلت : من أنت ، ومن أين أنت ؟ أو ما ترى أين نحن ، وهل نستطيع وقوفاً ؟ قال : فأجابني الصوت : ألا أخبركم بقضاء قضاه الله عز وجل على نفسه ؟ قال : قلت : بلى ، أخبرنا ؛ قال : فإن الله تعالى قضى على نفسه : أنه من عطش نفسه لله عز وجل في يوم حار ، كان حقاً على الله : أن يرويه يوم القيامة ؛ قال : فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الحار ، الشديد الحر ، الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان فيصومه .(1/260)
* عن ابن شوذب قال : كان ابن سيرين : يصوم يوماً ، ويفطر يوماً ؛ وكان الذي يفطر فيه : يتغدى ، فلا يتعشى ؛ ثم يتسحر ، ويصبح صائماً .(2/272)
* عن الزهري قال : دخلنا على علي بن الحسين بن علي ، فقال : يا زهري ، فيم كنتم ؟ قلت : تذاكرنا الصوم ، فأجمع رأيي ورأى أصحابي : على أنه ليس من الصوم شيء واجب ، إلا شهر رمضان ؛ فقال : يا زهري ، ليس كما قلتم ، الصوم على أربعين وجهاً ، عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان ، وعشرة منها حرام ، وأربعة عشرة خصلة ، صاحبها بالخيار : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ؛ وصوم النذر واجب ، وصوم الاعتكاف واجب ؛ قال : قلت : فسرهن يا ابن رسول الله ؛ قال : أما الواجب : فصوم شهر رمضان ، وصيام شهرين متتابعين ـ يعني : في قتل الخطأ ـ لمن لم يجد العتق ، قال تعالى : } وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً { [النساء: 92] الآية . وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين ، لمن لم يجد الإطعام ، قال الله عز وجل : } ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ { [المائدة: 89] . وصيام حلق الرأس ، قال الله تعالى : } فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ { [البقرة: 196] الآية . صاحبه بالخيار : إن شاء صام ثلاثاً ؛ وصوم دم المتعة ، لمن لم يجد الهدي ، قال الله تعالى : } فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ { [البقرة: 196] الآية . وصوم جزاء الصيد ، قال الله عز وجل : } وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ { [المائدة: 95] الآية . وإنما يقوم ذلك الصيد قيمة ، ثم يقص ذلك الثمن على الحنطة .
وأما الذي صاحبه بالخيار : فصوم يوم الاثنين والخميس ، وصوم ستة أيام من شوال بعد رمضان ، ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء ؛ كل ذلك صاحبه بالخيار : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ؛ وأما صوم الإذن : فالمرأة لا تصوم تطوعاً ، إلا بإذن زوجها ، وكذلك العبد والأمة .
وأما صوم الحرام : فصوم يوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وأيام التشريق ، ويوم الشك : نهينا أن نصومه كرمضان ، وصوم الوصال حرام ، وصوم الصمت حرام ، وصوم نذر المعصية حرام ، وصوم الدهر حرام ، والضيف : لا يصوم تطوعاً ، إلا بإذن صاحبه ؛ قال رسول الله r : « من نزل على قوم ، فلا يصومن تطوعاً ، إلا بإذنهم » ويؤمر الصبي بالصوم إذا لم يراهق ، تأنيسا ، وليس بفرض ؛ وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ، ثم وجد قوة في بدنه : أمر بالإمساك ، وذلك تأديب الله عز وجل ، وليس بفرض ؛ وكذلك المسافر : إذا أكل من أول النهار ، ثم قدم : أمر بالإمساك .
وأما صوم الإباحة : فمن أكل ، أو شرب ، ناسياً من غير عمد ، فقد أبيح له ذلك ، وأجزأه عن صومه .
وأما صوم المريض ، وصوم المسافر : فإن العامة اختلفت فيه ، فقال بعضهم : يصوم ، وقال قوم : لا يصوم ؛ وقال قوم : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ؛ وأما نحن ، فنقول : يفطر في الحالين جميعاً ؛ فإن صام في السفر والمرض ، فعليه القضاء ، قال الله عز وجل : } فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ { [البقرة: 184] .
(3/141142)
* عن يونس بن عبد الأعلى قال : قيل لوكيع : أنت رجل تديم الصيام ، وأنت كذا ، فعلى ماذا ؟ قال : بفرحي على الإسلام .(8/369)
* عن إبراهيم بن أدهم ، أنه كان إذا دعي إلى طعام : أكل وهو صائم ، ولم يقل : إني صائم .(8/10)
* عن الحسن قال : السائحون هم الصائمون .(9/44)
* عن إبراهيم النخعي قال : الكذب : يفطر الصائم .(4/227)
* عن هنيدة ـ امرأة إبراهيم النخعي ـ ، أن إبراهيم : كان يصوم يوماً ، ويفطر يوماً .(4/224)
* عن مكحول قال : الطيب : غذاء الصائم .(5/184)
* عن عون بن عبد الله بن عتبة قال : الصوم من الحلال : أن تدخله ، ومن الحرام : أن تخرجه .(4/252)
* وعنه قال : أفضل الصيام ، الصيام من أربع : من المطعم ، والمأثم ، والمحرم ، وأن تفطر على صدقة .(4/252)
* عن عطاء بن السائب قال : كان عبد الرحمن بن أبي نعم يواصل خمسة عشر يوماً : لا يأكل ، ولا يشرب .(5/69)
* عن سعيد بن جبير : أنه سئل عن القبلة لصائم ، قال : قيل : فإنه بريد سوء . (4/289)
* كان عبد الله بن عون : يصوم يوماً ، ويفطر يوماً .(3/40)
* عن إسحاق قال : قد كبرت وضعفت ، ما أصوم : إلا ثلاثة من الشهر ، والاثنين والخميس ، وشهور الحرم .(9/339)
* عن يزيد بن عبد ربه قال : عدت مع خالي علي بن مسلم أبا بكر بن أبي مريم وهو في النزع ، فقلت له : رحمك الله ، لو جرعت جرعت ماء ، فقال بيده : لا ، ثم جاء الليل ، فقال : أذن ؟ فقلت : نعم ، فقطرنا في فمه قطرة ماء ، ثم غمضناه ، فمات رحمه الله ؛ وكان لا يقدر أحداً ينظر إليه ، من خوى فمه من الصيام .(6/89)
* عن يزيد بن عبد ربه قال : عدت مع خالي علي بن مسلم أبا بكر بن أبي مريم وهو في النزع ، فقلت له : رحمك الله ، لو جرعت جرعة ماء ، فقال بيده : لا ، ثم جاء الليل ، فقال : أذن ؟ فقلت : نعم ، فقطرنا في فمه قطرة ماء ، ثم غمضناه ، فمات رحمه الله ؛ وكان لا يقدر أحداً ينظر إليه ، من خوى فمه من الصيام .(6/89)
* عن عمرو بن قيس : أن معاذ بن جبل لما طعن ، فجعلت سكرات الموت تغشاه ، ثم يفيق الإفاقة ، فيقول : اخنقني خنقاتك ، فوعزتك ، إنك لتعلم أن قلبي يحب لقاءك ، اللهم إنك تعلم : أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا، لجري الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكن لمكابدة الساعات ، وظمأ الهواجر ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .(5/103)
* عن أشعث بن سوار قال : دخلت على يزيد الرقاشي في يوم شديد الحر ، فقال : يا أشعث ، على الماء البارد في يوم الظمأ ؛ ثم قال : والهفاه ، سبقي العابدون ، وقطع بي ؛ قال : وكان قد صام ثنتين وأربعين سنة .(3/50)
* عن كعب الأحبار قال : كان داود عليه السلام يصوم يوماً ويفطر يوماً ؛ فإذا هو وافق صيامه يوم جمعة ، أعظم فيه الصدقة ؛ ثم يقول : صيامه ، كصيام خمسين ألف سنة ، كطول يوم القيامة ؛ وكذلك سائر الأعمال ، الأجر فيه مضعف .(5/382)
* عن شفى بن ماتع الأصبحي قال : إن الرجلين ليكونان في الصلاة ، مناكبهما جميعاً ؛ ولما بينهما ، كما بين السماء والأرض ؛ وإنهما ليكونان في بيت ، صيامهما واحد ؛ ولما بين صيامهما ، كما بين السماء والأرض . (5/167)
* عن سعيد بن جبير قال : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر ؛ تعجبه العبادة . وكان يقول : أيقظوا خدمكم يتسحرون ، لصوم يوم عرفة .(4/281)
* عن أبي إسحاق قال : قد كبرت وضعفت ، ما أصوم : إلا ثلاثة من الشهر ، والاثنين والخميس ، وشهور الحرم (4/339
ــــــــــــــــــــ(1/221)
أحكام صيام الست من شوال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فهذه لمحة مختصرة عن أحكام صيام الست من شوال أسأل الله أن ينفع بها الجميع ، فأقول وبالله التوفيق :
أولاً : حكمها :
صيام الستة من شوال سنة لما ثبت عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر) رواه أحمد(5/417) ومسلم (2/822) وأبو داود (2433) والترمذي (1164) . قال ابن قدامة في المغني : (صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم ) .وجاء في الموسوعة الفقهية : (ذهب جمهور الفقهاء المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، ومتأخرو الحنفية إلى أنه يسن صوم ستة أيام من شوال بعد صوم رمضان ... ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كراهة صوم ستة من شوال ، متفرقا كان أو متتابعا . وعن أبي يوسف : كراهته متتابعا ، لا متفرقا . لكن عامة المتأخرين من الحنفية لم يروا به بأسا . قال ابن عابدين ، نقلا عن صاحب الهداية في كتابه التجنيس : والمختار أنه لا بأس به ، لأن الكراهة إنما كانت لأنه لا يؤمن من أن يعد ذلك من رمضان ، فيكون تشبها بالنصارى ، والآن زال ذلك المعنى ، واعتبر الكاساني محل الكراهة : أن يصوم يوم الفطر ، ويصوم بعده خمسة أيام ، فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه ، بل هو مستحب وسنة . وكره المالكية صومها لمقتدى به ، ولمن خيف عليه اعتقاد وجوبها ، إن صامها متصلة برمضان متتابعة وأظهرها ، أو كان يعتقد سنية اتصالها ، فإن انتفت هذه القيود استحب صيامها . قال الحطاب : قال في المقدمات : كره مالك رحمه الله تعالى ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه من أهل الجهالة والجفاء ، وأما الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها )
ثانياً : فضلها :
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من صام الست من شوال كان كصيام الدهر كما في الحديث السابق ، وقد فسّر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة : (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) . " وفي رواية : " جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر بعشرة أشهر وصيام ستة أيام تمام السنة " النسائي وابن ماجة وهو في صحيح الترغيب والترهيب 1/421 ورواه ابن خزيمة بلفظ : " صيام شهر رمضان بعشرة أمثالها وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة " . يقول الإمام النووي رحمه الله : قال العلماء: (وإنما كان كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين..).
ثالثاً : ثمراتها
إليك هذه الفوائد أسوقها إليك من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله :
1 ـ إن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله.
2 ـ إن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص، فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة.. وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره من الأعمال.
3 ـ إن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد، وفقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.
4 ـ إن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب، كما سبق ذكره .
5 ـ أن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، كان النبي يقوم حتى تتورّم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟! فيقول: {أفلا أكون عبداً شكورا}. وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان، وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقيب ذلك.
كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائماً، ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام.
وكان وهيب بن الورد يسأل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه، فيقول: لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سلوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه.
كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم. وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر.
رابعاً : مسائل متفرقة
1 ـ يستحب البدء بها بعد العيد مباشرة ؛ لأن ذلك من باب المسارعة إلى الخير . قال تعالى ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران
وقوله تعالى ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد
2 ـ يجوز تفريقها في شهر شوال كاملاً ولا يلزم التتابع فيها ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أطلق صيامها ولم يذكر تتابعاً ولا تفريقاً ، حيث قال - صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر "
3 ـ من صامها في عام لا يلزمه أن يصومها في عام آخر لكنه يستحب له ذلك ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم : " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها .
4 ـ يلزم في الست من شوال ونحوها من النفل المقيد من تبييت النية من الليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من لم يبيت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له) رواه النسائي وصححه الألباني .
5 ـ لا يلزم إتمام الست من شوال ، فمن استطاع الإتمام فقد أحسن ومن لا فلا حرج عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) قال النووي في المجموع ( 6/395) : ( إسناده جيد ) .
6 ـ الأولى لمن عليه قضاء من رمضان أن يبدأ به لأنه أبرأ لذمته ؛ ولأن الفرض مقدم على النافلة ، واختلف أهل العلم فيمن قدم الست من شوال على صيام الفرض على قولين :
القول الأول: أن فضيلة صيام الست من شوال لا تحصل إلا لمن قضى ما عليه من أيام رمضان التي أفطرها لعذر. واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري: من صام رمضان ثم أتبعه ستّاً من شوال كان كصيام الدهر. وإنما يتحقق وصف صيام رمضان لمن أكمل العدة. قال الهيتمي في تحفة المحتاج (3/457): ((لأنها مع صيام رمضان أي: جميعه، وإلا لم يحصل الفضل الآتي وإن أفطر لعذر)). وقال ابن مفلح في كتابه الفروع (3/108): (( يتوجه تحصيل فضيلتها لمن صامها وقضى رمضان وقد أفطره لعذر, ولعله مراد الأصحاب, وما ظاهره خلافه خرج على الغالب المعتاد, والله أعلم)). وبهذا قال جماعة من العلماء المعاصرين كشيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد العثيمين رحمهما الله.
القول الثاني: أن فضيلة صيام الست من شوال تحصل لمن صامها قبل قضاء ما عليه من أيام رمضان التي أفطرها لعذر؛ لأن من أفطر أياماً من رمضان لعذر يصدق عليه أنه صام رمضان فإذا صام الست من شوال قبل القضاء حصل ما رتبه النبي صلى الله عليه وسلم من الأجر على إتباع صيام رمضان ستاً من شوال. وقد نقل البجيرمي في حاشيته على الخطيب بعد ذكر القول بأن الثواب لا يحصل لمن قدم الست على القضاء محتجاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتبعه ستاً من شوال (2/352) عن بعض أهل العلم الجواب التالي: ((قد يقال التبعية تشمل التقديرية لأنه إذا صام رمضان بعدها وقع عما قبلها تقديراً, أو التبعية تشمل المتأخرة كما في نفل الفرائض التابع لها ا هـ. فيسن صومها وإن أفطر رمضان)). وقال في المبدع (3/52): ((لكن ذكر في الفروع أن فضيلتها تحصل لمن صامها وقضى رمضان وقد أفطر لعذر ولعله مراد الأصحاب، وفيه شيء)).
والذي يظهر أن ما قاله أصحاب القول الثاني أقرب إلى الصواب؛ لا سيما وأن المعنى الذي تدرك به الفضيلة ليس موقوفاً على الفراغ من القضاء قبل الست فإن مقابلة صيام شهر رمضان لصيام عشرة أشهر حاصل بإكمال الفرض أداء وقضاء وقد وسع الله في القضاء فقال:{ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (البقرة: 185)، أما صيام الست من شوال فهي فضيلة تختص هذا الشهر تفوت بفواته. ومع هذا فإن البداءة بإبراء الذمة بصيام الفرض أولى من الاشتغال بالتطوع. لكن من صام الست ثم صام القضاء بعد ذلك فإنه تحصل له الفضيلة إذ لا دليل على انتفائها، والله أعلم.
7 ـ استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على استحباب صيام الدهر ،
وقالوا : لو كان صوم الدهر مكروها لما وقع التشبيه به , بل هذا يدل على أنه أفضل الصيام.
وأجاب عن ذلك ابن القيم فقال : ( هذا الاستدلال فاسد جدا من وجوه :
أحدها : أن في الحديث نفسه أن وجه التشبيه هو أن الحسنة بعشر أمثالها , فستة وثلاثون يوما بسنة كاملة ومعلوم قطعا أن صوم السنة الكاملة حرام بلا ريب والتشبيه لا يتم إلا بدخول العيدين وأيام التشريق في السنة وصومها حرام فعلم أن التشبيه المذكور لا يدل على جواز وقوع المشبه به فضلا عن استحبابه فضلا عن أن يكون أفضل من غيره . نظير هذا : قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن عمل يعدل الجهاد ؟ فقال " لا تستطيعه . هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم فلا تفتر , وتصوم فلا تفطر ؟ قال : لا . قال : فذلك مثل المجاهد " ومعلوم أن هذا المشبه به غير مقدور ولا مشروع .
فإن قيل : يحمل قوله " فكأنما صام الدهر " على ما عدا الأيام المنهي عن صومها .
قيل : تعليله صلى الله عليه وسلم حكمة هذه المقابلة , وذكره الحسنة بعشر أمثالها , وتوزيع الستة والثلاثين يوما على أيام السنة : يبطل هذا الحمل .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن صام الدهر , فقال " لا صام ولا أفطر , وفي لفظ لا صام من صام الأبد " فإذا كان هذا حال صيام الدهر فكيف يكون أفضل الصيام ؟
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه قال " أفضل الصيام صيام داود " وفي لفظ " لا أفضل من صوم داود : كان يصوم يوما ويفطر يوما " فهذا النص الصحيح الصريح الرافع لكل إشكال , يبين أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصوم . مع أنه أكثر عملا . وهذا يدل على أنه مكروه لأنه إذا كان الفطر أفضل منه لم يمكن أن يقال بإباحته واستواء طرفيه . فإن العبارة لا تكون له بالإبطال , فتعين أن يكون مرجوحا , وهذا بين لكل منصف . ولله الحمد .
8 ـ هل يمكن أن تُصام هذه الست في غير شوال وتحصل نفس المزية ؟
أجاب عن ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في تعليقه على سنن أبي داود فقال : (اختصاص شوال ففيه طريقان :
أحدهما : أن المراد به الرفق بالمكلف , لأنه حديث عهد بالصوم , فيكون أسهل عليه ففي ذكر شوال تنبيه على أن صومها في غيره أفضل , هذا الذي حكاه القرافي من المالكية , وهو غريب عجيب .
الطريق الثاني : أن المقصود به المبادرة بالعمل , وانتهاز الفرصة , خشية الفوات . قال تعالى { فاستبقوا الخيرات } وقال { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } وهذا تعليل طائفة من الشافعية وغيرهم .قالوا : ولا يلزم أن يعطي هذا الفضل لمن صامها في غيره , لفوات مصلحة المبادرة والمسارعة المحبوبة لله .
قالوا : وظاهر الحديث مع هذا القول . ومن ساعده الظاهر فقوله أولى . ولا ريب أنه لا يمكن إلغاء خصوصية شوال , وإلا لم يكن لذكره فائدة .
وقال آخرون : لما كان صوم رمضان لا بد أن يقع فيه نوع تقصير وتفريط , وهضم من حقه وواجبه ندب إلى صوم ستة أيام من شوال , جابرة له , ومسددة لخلل ما عساه أن يقع فيه . فجرت هذه الأيام مجرى سنن الصلوات التي يتنفل بها بعدها جابرة ومكملة , وعلى هذا : تظهر فائدة اختصاصها بشوال , والله أعلم .
9 ـ هناك فرق بين أن يقول " فكأنما قد صام الدهر " وبين قوله " فكأنما صام الدهر " هو أن المقصود تشبيه الصيام بالصيام . ولو قال : فكأنه قد صام الدهر , لكان بعيدا عن المقصود , فإنه حينئذ يكون تشبيها للصائم بالصائم . فمحل التشبيه هو الصوم , لا الصائم , ويجيء الفاعل لزوما , ولو شبه الصائم لكان هو محل التشبيه , ويكون مجيء الصوم لزوما , وإنما كان قصد تشبيه الصوم أبلغ وأحسن لتضمنه تنبيه السامع على قدر الفعل وعظمه وكثرة ثوابه , فتتوفر رغبته فيه .قاله ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود .
وفي الختام أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه المبحث المختصر وأن يجعله في موازين الحسنات وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه محمد بن عبدالله بن صالح الهبدان
3/10/1425هـ
ــــــــــــــــــــ(1/222)
صوم السلف
* دخل موسى بن عبد الله يوماً على الرشيد ، ثم خرج من عنده فعثر بالبساط ، فسقط فضحك الخدم وضحك الجند ، فلما قام التفت إلى هارون ، فقال يا أمير المؤمنين : إنه ضعف صوم لاضعف سكر. ( 13 / 26 ، 27 )
* كان محمد بن عبد الله الأسدي يصوم الدهر , وكان إذا تسحر برغيف لم يصدع , فإذا تسحر بنصف رغيف صدع من نصف النهار إلى آخره , فإن لم يتسحر صدع يومه أجمع .( 5 / 404 )
* صام داود الطائي أربعين سنة ما علم به أهله , وكان خرازاً , وكان يحمل غداءه معه , ويتصدق به في الطريق , ويرجع إلى أهله يفطر عشاء لا يعلمون أنه صائم .( 8 / 350 )
* عن زر بن جيش قال : ليلة القدر ليلة سبع وعشرين مضين وثلاث بقين .( 9 / 103 )
* كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة , فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منه , وفي كل يوم ختمة , فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة .( 2 / 63 )
* دخل رجل على معروف في مرضه الذي مات فيه , فقال له : يا أبا محفوظ أخبرني عن صومك . قال : كان عيسى عليه السلام يصوم كذا . قال : أخبرني عن صومك . قال : كان داود عليه السلام يصوم كذا . قال : أخبرني عن صومك . قال : كان النبي يصوم كذا . قال : أخبرني عن صومك . قال : أما أنا فكنت أصبح دهري كله صائماً , فإن دعيت إلى طعام أكلت , ولم أقل إني صائم .
( 13 / 202 )
* عن محمد بن صبيح قال : مر معروف على سقاء يسقي الماء , وهو يقول : رحم الله من شرب ، فشرب , وكان صائماً . وقال : لعل الله أن يستجيب له .( 13 / 208 )
* عن أبي عبد الرحمن سفيان بن وكيع بن الجراح قال : حدثني أبي قال : كان أبي وكيع يصوم الدهر , فكان يبكر , فيجلس لأصحاب الحديث إلى ارتفاع النهار , ثم ينصرف , فيقيل إلى وقت صلاة الظهر , ثم يخرج , فيصلي الظهر , ويقصد طريق المشرعة التي كان يصعد منها أصحاب الروايا , فيريحون نواضحهم , فيعلمهم من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر , ثم يرجع إلى مسجده , فيصلي العصر , ثم يجلس فيدرس القرآن , ويذكر الله إلى آخر النهار , ثم يدخل إلى منزله فيقدم إليه إفطاره , وكان يفطر على نحو عشرة أرطال من الطعام , ثم يقدم له قربة فيها نحو من عشرة أرطال نبيذ فيشرب منها ما طاب له على طعامه , ثم يجعلها بين يديه , ويقوم فيصلي ورده من الليل , وكلما صلى ركعتين أو أكثر من شفع أو وتر شرب منها حتى ينفذها , ثم ينام .( 13 / 471 )
* قال ابن عمار : كان وكيع يصوم الدهر , وكان يفطر يوم الشك والعيد . قال : فأخبرت أنه كان يشتكي إذا أفطر في هذه الأيام . قال : وولد إما قال : لوكيع , وإما قال لابن وكيع ولد . قال : فأطعم وكيع الناس الخبيص . قال : و أخرج ثمان جفان خبيص في المسجد , وأراه قال : في البيت . قال : فجعل يدخل يده فيه , ويسويه كما يسوي اللقمة , ويقول : كل يا موصلي , ولا يذوق منه شيئاً لأنه كان صائماً , وكان يصوم الدهر .( 13 / 472 )
ــــــــــــــــــــ(1/223)
وقفات مع آيات الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اختص شهر رمضان بفضيلة الصيام من بين سائر الشهور ، وفتح فيه أبواب الجنان بما فيها من السرور والحبور ، وكملها بأنواع الكرامات ، وهيأها لكل موحد شكور ، وأغلق فيه أبواب النيران ، وأعدها لكل مشرك كفور ، وسلسل فيه مردة الشياطين فكل منهم مسلسل مأسور ، ووفق بعض عباده باستغلال هذا الشهر ، وكف عن قلوبهم الحجب والستور ، فنصبوا في خدمته الأقدام ، ولازموا الصيام والقيام ، وأنصبوا الأبدان ، وبادروا الوقت والزمان ، وهرم آخرين فحرموا الأنس بالرحمن ، وابعدوا عن التدبر لكلام الواحد الديان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يفرح بتوبة التائبين ، ويقبل دعاء الداعين ، ويحب من عباده المخبتين المنيبين المفكرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الذي أمره ربه فأجاب ، ونهاه فما خالف نهيه وما ارتاب ، وأخبت إلى ربه وأناب ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أحيوا أيام رمضان بتلاوة القرآن ، وبالتهجد والقيام ، علموا أنها أيام ، فعمروها بطاعة الحي الذي لا ينام ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنهم وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) ..
أما بعد :
فيا معاشر المسلمين فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا ، فقد قال الله تعالى في سورة البقرة في آيات الصيام ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون
فدعونا نتأمل في هذه الآيات العظيمات ، ونجول في معانيها ، ونأخذ الدروس منها ..
أيها الأخوة :
الوقفة الأولى : إن الناظر في آيات الصيام في هذه السورة ، يجد ولأول وهلة ، أن التعقيب بقوله تعالى ( لعلكم تتقون ) ، قد تكرر في أكثر من مرة .. فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، وقال تعالى ( تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) .. بينما غيره من التعقيبات لم تتكرر ، بل أن التعقيبات الأخرى لتصب في معنى التقوى وفي معانيها ، فجاء لعلكم تشكرون ، لعلهم يرشدون ، وهذه وتلك لولا التقوى ما شكر العبد وما رشد ..
فما الحكمة من تكرار لفظ التقوى ههنا ؟؟
أيها الأخوة : إن تكرار التقوى في ثنايا آيات الصيام ، لأن الصوم من أعظم العبادات الجالبة للتقوى ، فالذي يهجر الطعام والشراب ، ويترك الاستمتاع بأهله ، لله عز وجل وتقرباً إليه ، فسوف يُوهب التقوى ويوفق إليها ، ولذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي ( كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي
فأعظم مقاصد الصوم هي التقوى الجالبة لكل خير ، الصارفة عن كل شر .. فحين نهاك الله عن الأكل والشرب مدة صومك والأكل والشرب مباح لك في الأصل ، لتعتاد نفسك على ترك الحرام ، فالذي قدر أن يمنع نفسه من المباح ، لهو أقدر أن يمنعها من الحرام ، وهذا سر من أسرار التقوى الجالب للتقوى !!
وأما الذين لا يفهمون من الصوم إلا ترك الطعام والشراب ، فهؤلاء ما فهموا حقيقة الصيام عن الله شيء ، ولا انتفعوا بالصيام ، ولذا فأنت تجد أحدهم يمسك عن الطعام والشراب ، ولكن قد أفطر لسانه بالحرام ، ونطق بالحرام ، وأفطرت عينه بالنظر إلى الحرام ، وأفطر سمعه على سماع الحرام ، ولأمثال هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ) رواه البخاري .
وقول الزور كل قول باطل من الغيبة والنميمة ، والسب والشتم ، وكل قول باطل ، والعمل به كل باطل يعمل ، ولذلك أيها الأخوة : فقد ذكر أهل العلم في مفطرات الصائم أنها على نوعين : حسية ، ومعنوية ، أما الحسية كالأكل والشرب والجماع وغير ذلك .. أما المعنوية فكالغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به ، فإن أجر الصائم ينقص بحسب ما ألم به من الزور والعمل به ، فبعض الصائمين تستغرق ذنوبه أجر صومه كله ، فلا يكون له من صومه إلا الجوع والعطش ، أعاذنا الله وإياكم من الزور وأهله ..
أيها الأخوة : ومن معاني التقوى التعود على شظف العيش ، وترك ملاذ الحياة ، والإقلال منها ، وليحس المسلمون الصائمون بأن لهم إخواناً يعيشون الصيام طيلة عامهم ، فلا يجدون الطعام والشراب الذي يكفيهم من شدة الخصاصة والفقر ، ليبذلوا المال بعد ذلك سخية ببذله نفوسهم ..
أيها الأخوة ..
( الوقفة الثانية ) : وقال تعالى ( أياماً معدودات ) فمن رحمة الله بعباده أن جعل الصيام أياماً معدودات ، فليس فريضة العمر ، وتكليف الدهر ، ومع هذا أعفى من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرين حتى يقيموا ، رحمة وتيسيرا ..
أياماً معدودات ، ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، وأيضاً فثمة أمر جليل تؤديه هذه الآية فقد قال تعالى وهو أعلم بمن خلق ، قال عن أيام رمضان ( أياماً معدودات ) لأنها سريعة التقضي ، سريعة الأفول ، فحري بعبد يرجوا ما عند الله ألا تفوته هذه الأيام القليلة ، باستغلالها بطاعة الله عز وجل ، فقد جاء في الصحيحين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ويقول ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ويقول ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) رواه أهل السنن بإسناد صحيح ..
فلا يفوتك هذا الفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، فبمجرد قيامك مع الإمام ساعة أو أقل تكتب عند الله قائماً لليل كله ، فمن يزهد في هذا العطاء الإلهي والمنحة الربانية ..
أيها الأخوة :
الوقفة الثالثة : قال تعالى في ثنايا آيات الصيام ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان ... ) .. فرمضان شهر القرآن وكان السلف رحمهم الله إذا أقبل رمضان أقبلوا على القرآن ، وتركوا كتب أهل العلم .. ، قال الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول ( إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام ) ، وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ، ترك قراءة الحديث ومجالس العلم ، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف ، وكان قبلهم المعلم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل القرآن في كل رمضان ، فيعرض عليه ، حتى إذا كان سنة وفاته عليه الصلاة والسلام عرض عليه مرتين ، فما أحوجنا أيها الإخوة لهذا القرآن العظيم ، وخاصة في هذا الشهر الكريم ، فأكثروا فيه من تلاوة القرآن وتأمل معانيه وتدبره والعمل به ..
آيات من القرآن يلين بها ما قسى من القلوب ، وسيشهد بها ما جف من المآقي ، فوا عجباً لنفوس لا تستعذب تلاوة كلام الله ولا ترق لكلام الله ، ولا تلين جلودها وقلوبها لكلام الله ، لقد أثنى الله على عباده المؤمنين فقال ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) نعم .. هذا توفيق وهداية لا يوفق إليها كل واحد .. ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ) ووا عجباً من قلوب كيف تعيش وليس لها ورد من كتاب الله ، وواعجباً من قلوب ما أقساها وهي لا تحرك قلوبها بتلاوة كلام الله ، لقد عاتب الله الصحابة وهم حدثاء عهد بإسلام ، فقال ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )
فحرب بك أخي المسلم أن تجعل لك ورداً من كتاب الله تتأمل فيه ، وتتلوه تحرك به قلبك ، وتدر به دمعك ، وتغير ب
ه حياتك ، ولا يكن همك آخر السورة بل اتلوا بتمعن وتدبر ..
الوقفة الرابعة ..أيها الأخوة : ومما جاء في آيات الصيام .. قال تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) فعلى كل من أدرك شهر رمضان وهو قادر على صومه فواجب عليه الصوم ، فيمسك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، متعبداً لله عز وجل بذلك ، فمن تناول شيئا من المفطرات مختاراً غير مكره ، ذاكراً غير ناسٍ ، عالماً غير جاهل ، لم يصح صومه ..
أما المريض فإن كان مرض يرجى برؤه وشفاءه ، فهذا يفطر مدة مرضه ويقضي مكان الأيام التي أفطرها ، وإن كان مرضه لا يرجى شفاءه فهذا يطعم عن كل يوم مسكين ، لكل مسكين نصف صاع أي : كيلو ونصف من الأرز ونحوه ، أو إن شاء جمع فقراء بعدد الأيام التي أفطرها وأطعمهم ، فإن ذلك يجزئه ..
وأما المسافر فإن كان الصوم لا يشق عليه فالصوم أولى إبراء للذمة ، وأما إن كان يشق عليه الصوم أو يضره ، فإنه يجب عليه الفطر ..
واعلموا أيها الإخوة .. أن المريض الذي يضره الصوم لا يجوز له الصوم ، والصوم في حقه حرام ، فإذا قرر الأطباء أن هذا المريض يضره الصوم ، فلا يجوز له الصوم بل يطعم ولا شيء عليه ، ومن يغسل الكلى فهؤلاء لا صوم لهم ، ولا يصح منهم حال غسيلهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أفطر الحاجم والمحجوم ) ، وغسيل الكلى إخراج للدم من البدن ، فإن كان يستطيع الصوم في أيام التي لا يغسل فيها صامها ، وقضى مكان الأيام التي أفطرها ، وإن كان لا يطيق الصوم فإنه يطعم عن كل يوم مسكين ..
واعلموا أيها الإخوة .. أنه كل ما كان في معنى الأكل والشرب ، كحقن الدم ، والإبر المغذية فإنها مفطرة لأنها تقوم مقام الأكل والشرب من حيث استغناء الجسم بها .. ومن أراد البسط في هذا فليرجع لكتب أهل العلم ، وليسأل عما أشكل عليه ..
الوقفة الخامسة : قال تعالى ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) لقد جاءت هذه الآية في ثنايا آيات الصيام ، يا لها من آية عجيبة ـ آية تسكب في قلب المؤمن النداوة والطمأنينة ، والراحة والأنس ، فللصيام أثر في إجابة الدعوات ، فاعرضوا حاجاتكم على مولاكم وخالقكم ، اعرضوا عليه سؤالكم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله تعالى ليستحي من أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيها خيرا فيردهما خائبتين ) ..
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من مسلم يدعوا بدعوة ليست بإثم ولا قطيعة رحم إلا كان له إحدى ثلاث ، إما أن يستجيب الله له ، أو أن يصرف عنه السوء مثلها وإما أن يدخرها له يوم القيامة ) ، فقال الصحابة يا رسول الله إذا نكثر ؟ فقال ( الله أكثر ) ..
تقبل الله منا صيامنا وقيامنا ، اللهم أعنا على القيام بطاعتك في هذا الشهر الكريم ، واجعلنا من المقبولين ، ومن المعتوقين من النار ..
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم .....
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ....
الوقفة السادسة : قال تعالى بعد ما ذكر فرض الصوم على عباده ، وإنه وضعه عن المسافر والمريض ، قال ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، إنها القاعدة الثابتة الراسخة في كل ما فرض الله علينا ، فليس فيما فرض الله علينا أراده علينا به العسر .. كلا ، فلقد أراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الصلاة ، فجعلها خمس صلوات في اليوم والليلة ، ولم يجعلها خمسين صلاة ، وأراد بنا اليسر يوم أن فرض علينا الزكاة ، فجعلها في جزء بسيط من المال ، وهي مع ذلك تزكية وتنمية ، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم افترض علينا الصيام ، فقد جعله شهراً في السنة ، وخفف على المسافر والمريض ، وجعل الصوم مدة النهار ، ويعود الصائم في ليلة كأيام فطره فيباح له كل شيء مما أباحه الله عز وجل ..
ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الحج ، فهو واجب في العمر مرة ، ولمن استطاع إليه سبيلا ، ولم يكلف العباد ما لا يطيقون في ذلك ، ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن فرض علينا الجهاد في سبيله ، فالجهاد مشقة ما في ذلك شك ، كما قال تعالى ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) ، فالجهاد مشقة على النفوس ، مشقة على الأبدان ، لكن من وراءه عز للإسلام ، وتمكين للمسلمين ، وحماية بيضة المسلمين ، وحفظ أعراضهم ، وإرغام الكافر المنتفش ، وإصغار الباطل المسيطر ، فمن هنا فالجهاد يسير ..
ويوم أن تركت الأمة الجهاد في سبيل الله واعتبرته تطرفاً حاق عليها الذل والصغار ، فكانت تنشد من وراء ذلك اليسر ، فإذا هي واقفة في العسر ، إنما اليسر في إمضاء ما أمضاه الله ، وتطبيق ما أمر الله به ، فبهذا يتحقق اليسر ، ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ..
ولقد أراد الله بنا اليسر يوم أن أمر المرأة أن تتحجب عن الرجال ، ولا تبدي زينتها ، ولا يظهر منها شيء للرجال الأجانب ، وليس هذا من العنت الذي فرض الله علينا ، وها نحن نرى البلدان الغربية يوم أن أخرجوا المرأة عن مكانها الذي جعله الله لها ، جروا ويلات لا تحصى ، وأصبحوا يعانون من مشاكل اجتماعية ، تخالف الفطرة السليمة ، فقبل أيام أجري حوار عبر الإذاعة لعلاج ظاهرة ، ويستقبل البرنامج اتصالات المتابعين ، أتدرون أيها الإخوة ما موضوع الحوار ؟؟ إنه موضوع لا يدور في خاطر ( أحد ) إلا من عاش واقع مساواة المرأة بالرجال ، وكانت المرأة فيه لها ما للرجال تماماً ، ولم يراعوا أنوثتها ، والله يقول ( وليس الذكر كالأنثى ) ، إن موضوع الحوار أيها الإخوة عن ظاهرة بدأت تظهر وتستشري عندهم ، وهي ظاهرة ( ضرب المرأة للرجل ) ، وكانت هذه الإذاعة تستقبل اتصالات المستمعين ، ويقترحون حلولاً لهذه الظاهرة !! وهذا خلاف الفطرة ، ولكن لما أن ترك الناس أمر الله جرى عليهم العسر ، وقد كانوا يظنون أنهم يطلبون اليسر ، فليس عسر على المرأة أن تكون تحت عناية الرجال ، وتحت ولايتهم ، أما الذين يريدون أن تستقل المرأة بكل شيء ، ومن ذلك البطاقة الرسمية ، فهؤلاء ما أرادوا لها اليسر ، إنما حملوها مشاقة ما هي بحاجتها ، فأي عسر في أن تكون المرأة مخدومة مكفية عن كل عناء ، محفوظة عن كل عين أجنبية ، إن هذا لهو عين اليسر ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ..
ــــــــــــــــــــ(1/224)
رمضان المبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه , ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيِّئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ? ]آل عمران:102[ .
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? ]النساء:1[ .
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ? يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ? ]الأحزاب:7071[ .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتابُ الله , وخير الهدي هدي محمد ? وشرَّ الأمور محدثاتها , وكلَّ محدثة بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعد ، أيها المسلمون :
فقد أظلَّكم شهرٌ عظيم , ومَوسمٌ كريم , تُضاعفُ فيه الدرجات , وتُقالُ فيه العثرات , شهرُ الاستعلاء , على ضروراتِ الجسدِ كلِّها , واحتمالِ ضغطِها وثقلِها , إيثاراً لما عند اللهِ من الأجرِ والنعيمِ المقيم , وفي هذا الشهرِ العظيم نتذكرُ قولَ ربِّنا جل جلاله وهو يبينُ الغايةَ العظمى , التي من أجلها شُرع الصيامُ وفُرض , ألا وهي تحقيقُ التقوى في القلوب , وعمارتُها بالخشيةِ واليقينِ الثابت , وتعويدُ النفسِ على الصبرِ ومكابدةُ المشاق , والإحساسِ بمعاناةِ الآخرين , وأنَّها إنْ استطاعت أن تؤمنَّ لذَّاتِها ومطعوماتِها طِوالَ العام , فإنَّ ثمةَ أنفساً كثيرة , تكابدُ الجوعَ والعطشَ العامَ كلَّه ,!
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? ]البقرة:183[ , فالصوم أيها المسلمون لم يُشرعْ عبثاً , ولم يفرضْ سفهاً , حاشا وكلا , وليستْ القضية , قضيةُ تركٍ للطعامِ أو زهدٍ في الشراب , القضيةُ أكبرُ من ذلك بكثير يا مسلمون ,
فما فُرضَ الصيامُ يومَ فُرض , إلاَّ لكي يعلمَ المسلم أنَّ هناك رباً , يُشرِّعُ الصومَ متى شاء , ويبيحُ الفطرَ متى شاء , وليعلمَ كذلك أن هناك رباً يعدُ ويَتوعد , يُعطي ويَمنع , ويَخفض ويَرفع , ويَضر ويَنفع , ألا إلى الله تصيُر الأمور ,! وليعلمَ علمَ يقيٍن لا يعتريه شكٌ , أنَّ هناكَ موتاً وقبراً , وأنَّ هناك بعثاً وحشراً , وأنَّ هناك جنةً وناراً , ونعيماً وجحيماً , فإذا استشعر الصائمُ هذه المعانيَ العظيمة , فتغلغلتْ في روحه , وجرتْ في دمه , أيقنَ بضرورةِ إصلاحِ أوضاعه , والتخلي عن كبريائه , وجرأته على انتهاكِ محارمِ الله , وسارعَ إلى الالتزامِ بشرعِ الله , وانطلقَ ينشدُ التقوى بأي ثمن , وحملِ النفس على تلمسِ رضا مولاه جلَّ جلالهُ وتقدستْ أسماؤهُ .
أيها المسلمون : وفي رمضان نتذكرُ قوله تعالى ? شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ? ]البقرة: 185[, نتذكرُ هذه الآيةَ الكريمة , فنتذكرُ معها ذلكَ الحدثَ الباهر , , الذي اهتزَ له الخافقان , وغيَّرَ مسارَ التاريخ وصاغَ الحياةَ البشرية بشكلٍ جديد ,
فقد كانَ نزولُ القرآنِ , إيذاناً بنشأةِ أمةٍ جديدة , هي تاجُ الأممِ قاطبةً , أمةٌ أنجبت رجالاً ولا كلُ الرجال , أدهشوا الدنيا بعلومِهم وجهادِهم وفتوحاتِهم , وبهروا العقولَ والنفوس , بصنائعِهم ومنجزاتِهم ,
به فتحوا القلوب , ومصَّروا الأمصار , ودكَّوا العروش , وقهروا الطغاة وأدبّوا البغاة , , ذلك القرآن , الذي أصبحَ اليوم يقرأُ في السنةِ مرةً واحدة ,, واكتفوا بتذهيبِ وريقاته , وصقلِ صفحاتِه , ثم ركنوه في الأدراج , ومسحوا عنه الغبار , بين الفينة والأخرى , باعتبارهِ كتاباً مقدساً والسلام ,, أمَّا أنْ يُتخذُ القرآنُ تشريعاً للأمة , ومنهجَ حياةٍ لها , فذلك أمرٌ مستحيلٌ مستحيل ,! إذ أنَّ هناك كتاباً آخر يُسمونه الدستور , ويُضفونَ عليه قداسةً وهيبة فيركعونَ له ويسجدون , ويوالون ويعادون , ويغضبون ويرضون , فويلٌ لهم مما كتبتْ أيديِهم وويلٌ لهم ممَّا يكسبون ,!
وفي رمضان ، نتذكرُ جملةً من أخبارِ رسولنا الحبيب صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه الذي ما تركَ شاردةً ولا واردة ولا طائراً يطيرُ بجناحيه , إلاَّ أنبأنا شيئاً من نبأهِ ، وأخبرنا شيئاً من خبرهِ ، يخبرنا نبيُنا صلى الله عليه وسلم عن تصفيدِ مردةِ الشياطين في رمضان فلا يصلونَ إلى ما كانوا يصلونه في غيرِ رمضان ، لكنْ من يصفدُ لنا مردةَ شياطينِ الإنس الذين لا يرعونَ في رمضانَ ولا غيرهِ ؟! فمناسبةِ رمضان يحيّ (الفنان الكبير !) فلان حفلةً غنائيةً في مسرحِ كذا وكذا .
وبمناسبة رمضان تُقيم فرقةُ الأبالسة بقيادةِ الشيطان الكبير فلان مسرحيتها الماجنةِ ابتداءً من الواحدةِ صباحاً كلِّ ليلة , فالعجل العجل .. الأماكنُ محدودةٌ ..والليالي معدودة ,! ألا شاهتْ تلك الوجوه ما أجرأهَا على انتهاكِ حُرماتِ الله وما أعظمَ استخفافِها بالله الواحدِ القهار , . ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا وافتح بيننا و بينهم بالحق وأنت خير الفاتحين ,
أيها المسلمون ويخبرُنا رسولنُا صلى الله عليه وسلم عن فتحِ أبوابِ الجنةِ في رمضان ، وإغلاقِ أبوابِ النار ،وما أعظمَها من بشارة .. لو تأملنَّا بوعيٍ وإدراك ,
ولو أمعنَ المسلمون النظرَ في هذا الأحاديث وأمثالها وما فيها من معاني الرحمةِ والإحسان ،لوجدتهم مسارعينَ في الخيرات ، متنافسينَ في القُربات ، راحمينَ للضعفاء ،. محسنينَ للفقراء ،
ولو أمعنَ المسلمون النظر في حديثٍ كهذا لوجدتهم عافَّين عن الحرام معرضينَ عن الآثام ، هاجرينَ للموبقات ، تاركينَ للشهوات ,
ولو تخيل المسلمون أبوابَ الجنةِ مفتوحةً باباً باباً ، وقصورها متلألأة قصراً قصراً ،وأنهارها جارية ً نهراً نهراً ، لطاروا شوقاً إلى تلكَ الجنانِ العاليات , والباقياتِ الصالحات , والتمسوا كلَّ سببٍ وحيلة ، تُمكنهم من ولوج هاتيك الناعماتِ الخالدات ,! ألا إنَّ جناتِ ربي ، إنَّما تولجُ بأداءِ الصلاةِ جماعةً في المساجد في رمضانَ وغيرِ رمضان . ألا إنَّ جناتِ ربي إنَّما تولجُ بأداءِ فرائض الإسلام تامةً غيرَ منقوصةٍ , ألا إنَّ جناتِ ربي إنَّما تولجُ بالإحسانِ إلى الخلق بصنائعِ المعروفِ ، وبذلِ الإحسان ، وتفقد المحاويج ، وأنَّها تُولجُ بالدعوةِ إلى الله والصبرِ على الأذى في ذات الله ، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر ، والتصدي للباطل وكشف الأباطيل ,,
ويُخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم « أنَّ من لمْ يدعْ قولَ الزورِ والعملَ به فليس للهِ حاجةٌ بأنْ يدعَ طعامَه وشرابَه »([1]) وهنا تتضحُ القضيةُ الكبرى وتتجلى حقيقةُ الصيامِ كالشمسِ في رابعةِ النهار ,
فالقضيةُ يا مسلمون ، ليست قضيةَ تجويعٍ وحرمان ,
القضيةُ يا هؤلاء كفُ للسانِ عن الغيبةِ والنميمةِ والكذبِ والبهتان والسبِ واللعان , وكبحٌ للنفسِ من التلطخِ برجس المعاصي ، ووحلِ الموبقاتِ المهلكات ، فهلاَّ تذكرت أيها الأخُ الحبيب هذا الخبرَ الرهيب ، قبلَ أن تُطلق للسانكِ الزمام ، تخوضُ به مع الخائضين ، وتتهكمُ معهم بالآخرين وتسخر ، هلاَّ تذكرتَ يرحمك الله ، هذا الخبرَ الجليل قبل أنْ تحركَ بأصابعك التي خُلقتْ ، مسبحةً لله وذاكرة ، هلا تذكرتَ هذا الحديث قبلَ أنْ تحرك بأصابعك تلك ، أزرةَ تشغيلَ قنوات البثِ الفضائي وغيرِ الفضائي ، وعلمتَ يقيناً أنَّ الله ليس بغافلٍ عمَّا تعملُ ويعملون , وعمَّا تُشاهد ويُشاهدون ,! وعمَّا تسمعُ ويسمعون ,!
فإتق الله - يرحمُك الله - وأعلمْ بأنَّك راحلٌ عمَّا قريب ، وأنَّك موقوفٌ بين يديِ قاهرِ الجبابرةِ ، ومهلكِ القياصرة ، وأنَّك مسؤولٌ عن النقيرِ والقطمير ، والصغيرِ والكبير ? فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ? عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? ]الحجر:9293[ فسارع - يرحمك الله - إلى التوبة النصوح وقل ربي أني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين .
ويخبرُنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أنَّ للصائمِ عند فطرهِ دعوةً لا تُرد فهلا اغتنمتَ - يرحمُك الله - هذه الفرصةَ النادرة ودعوتَ ملكَ الملوك ، أنْ يَفيضَ عليكَ من رحماتِه ، ويُنزلَ عليك من بركاتِه ، هلاَّ دعوتَ الله أن يقيكَ شرَّ نفسك وشرَّ الشيطان وشركه ، وأنْ يأخذَ بيدكَ إلى حيثُُ البرُ والتقوى ,!
وهلاَّ اغتنمتَ أيُّها المبارك هذه الفرصةَ النادرة ، فدعوتَ الله ، أنْ يخلصَ الأمةَ من هذا الذِّل والهوان الذي آلت إليه ، يوم غيَّرت وتنكرت ، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير ,! وهلاَّ اغتنمت تلكَ الدعوةَ التي لا تُرد فخصصتَ بها المضطهدين في كلِّ مكان ، هلاَّ تذكرتهم في الشيشان وأفغانستان ، وفي كشمير وفي البوسنة ، والفلبين والعراق ,!
حذاري - يرحمُك الله - أنْ تُنسيكَ فرحةُ الإفطارِ حرارةَ الدعاء ، بأنْ يعجلَ العزيزُ الجبار بهلاكِ الظالمين ، وزوالِ الجبابرةِ المتسلطين ، فإنَّه سبحانه لا يُعجزهُ شيءٌ في الأرضِِ ولا في السماءِ وهو القوي المتين .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله مالك الملك رب العالمين ، بيده مقاليد السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
أما بعد أيها المسلمون:فمن أحكامِ الصيام التي ينبغي الإلمامُ بها ما يلي:
أولاً : وجوبُ تبييتِ نيةِ الصيام مِن الليل ، وتكفي نيةٌ واحدة ، لصيامِ الشهرِ كلِّه ، على الصحيحِ من قول العلماء في هذه المسألة .
ثانياً : سقوطُ الصيامِ على المريض فإن كان المرضُ ملازماً للمريض ولا يُرجى زوالُه ،فيطعمُ عن كلِّ يومٍ مسكيناً ومثلُ المريض ، الكبيرُ الهرم والعاجزُ عن الصوم ، وأمَّا إنْ كانَ المرضُ يُرجى زوالُه ويُنتظرُ الشفاءُ منه فيلزمُ القضاء ، من غيرِ إطعام ، وممَّا يجبُ معرفتهُ ، أنَّ المرض ، ما لم يكنْ شاقاً أو ضاراً بالمريض ، فلا يجوزُ له الفطرُ بتاتاً .
وأما المسافرُ ؛ فيجوزُ له الفطرُ حتى وإنْ لم يكن ثمةَ مشقة ، وأمَّا الذين يتحايلونَ بالسفر ، من أجلِ الفطر على طريقةِ ( لأقطعنَّه بالأسفار ! ) ففطرُهم حرامٌ لا يجوز .ومن أحكام الصيام ، استحبابُ تعجيلِ الإفطار وتأخيرُ السحور ، ويستحبُ الإفطار على رُطبات فإنْ لم يتيسر فتمرات ، و إلاَّ حسا حسواتٍ من ماء
أمَّا مفسداتُ الصومِ فسبعة :
أحدها الجماعُ في نهارِ رمضان ، فمن جامعَ امرأته بَطَلَ صومُه ، ولزمته الكفارةُ المغلظة ، وهي عتقُ رقبة ، فإنْ لم يجد ، فصيامُ شهرين متتابعين ، فإنْ لم يستطيع أطعم ستين مسكيناً .
وثاني مفسداتِ الصوم ، إنزالُ المني بمباشرةٍ أو نحوها .
وثالثُ مفسداتِ الصوم ، الأكلُ أو الشرب سواءٌ بطريقةٍ طبيعية أو صناعية
ورابعُ مفسداتِ الصوم ، ما كان بمعنى الأكلِ والشربِ كالإبرِ المغذية ونحوها وأمَّا غيرُ المغذية فلا تفطرُ مطلقاً .
وخامسُ مفسداتِ الصوم ، التقيؤُ عمداً فإنْ لم يتعمدْه صحَّ صومُه ولا شيء عليه .
وسادسُ مفسداتِ الصوم ، إخراجُ الدمِ بالحجامةِ ونحوها .
وسابعُ مفسداتِ الصوم ، وتختص به النساء خروجُ دمِ الحيضِ أو النفاس ، ولو قبلَ المغربِ بيسير .
وهذه المفطراتُ كلُها لا تفسدُ الصوم إلاَّ بثلاثةِ شروط :
الأول : أنْ يكونَ عالماً بالحكمِ وعالماً بالوقت .
الثاني : أنْ يكونَ ذاكراً غير ناسي .
الثالث : أنْ يكونَ مختاراً غير مكره .
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفقهنا في دينه وأن يتقبل صيامنا وقيامنا اللهم نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا ...
ــــــــــــــــــــ(1/225)
دواعي التوبة في رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، يتوفى الأنفس حين موتها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بقدرته يتعاقب الجديدان، وتتكرر المواسم، وتطوى الأيام والليالي، وتفنى أمم وشعوب، وتنشأ أمم وشعوب أخرى، وما يعقل ذلك إلا العالمون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أزكى البشرية وأبرها وأسبقها إلى الخيرات، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى الآل والأصحاب الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين فشهر الصيام موسم للبر والتقوى، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}[ هود : 114].
إخوة الإيمان : حل الضيف الكريم المنتظر، ومتع الله من شاء من عباده حتى بلغ شهر الصيام، وطويت صحائف أقوام، فغيبتهم اللحود، واخترمتهم المنايا قبل حلول هذا الشهر الكريم، ولن تزال المنايا تخترم النفوس، وقد قضى الله على أقوام استكمال هذا الشهر وقضى على آخرين بالموت قبل بلوغ الشهر أجله، ولكل أجل كتاب، ومن أدركه هذا العام وإذا كانت تلك جزء من أقدار الله وتدبيره في العبيد فالمغبون حقا من يدخل عليه الشهر ويخرج ولم يستفد شيئا، ألا وكلنا ذاك المخطئ الذي يرجو مغفرة ربه وتكفير سيئاته، ورمضان فرصة لتكفير السيئات، ويجد المرء فيه من العون مالا يجده في الأشهر الأخرى، ففرص الطاعة تتوفر، وأبواب الجنة تفتح، ودواعي الشر تضيق، وأبواب النار تغلق، به تنشرح صدور المؤمنين، وبه تصفد مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره من الشهور، وهذه وتلك تعين المرء على تكفير سيئاته وتدفعه إلى عمل الصالحات التي بها يكفر الله السيئات، قال تعالى:{ إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [ هود :144] ومحروم من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين جبريل عليه السلام، وقد جاء فيها:"من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين" .
وإذا كان الله يدعو عباده إلى التوبة النصوح الصادقة في كل زمان، ويقول جل ذكره: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} ويقول تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.فإن التوبة في رمضان أحرى وأولى، فهو شهر تسكب فيه العبرات، وتقال فيه
العثرات، ويحصل به العتق من النار، ومن منا لا يتلبس بخطأ هو أدرى به من غيره، ومن منا لا يصر على معصيته كبرت أو صغرت.. أو ليس حريا بنا في رمضان أن نتخفف من الأوزار، ونقلع عن المعاصي والموبقات فيستشعر لذة رمضان ونحس بأثره في نفوسنا وسلوكياتنا، ولا يكن رمضان وغيره سواء.
إن رمضان فرصة لمحاسبة النفس، وينبغي أن يكون رمضان مذكرا لنا بما اقترفنا طيلة العام فما وجدنا من خير حمدنا الله وازددنا، وما وجدنا عملنا فيه من سوء تبنا إلى الله واستغفرنا وتصدقنا، وأكثرنا من عمل الصالحات حتى تعفوا على السيئات، ووعدنا أنفسنا ألا تتكرر أخطاؤنا، وألا نرخي العنان لشهواتنا، فإذا حافظنا على ذلك وحافظنا قبله على الصلوات الخمس، والجمعة والجماعة، كنا ممن فقه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر "([1]).
ومن دواعي التوبة في رمضان الصبر، فالصوم كما جاء في الحديث "نصف الصبر" ([2])
والصوم يربي النفس على الصبر وتحمل المشاق، وإذا كان الصائم يصبر نفسه عن ما أحل الله له من الطعام والشراب والمنكح، فلا شك أن صبره عن ما حرم الله عليه من باب أولى. وهكذا يخرج المسلم من شهر الصيام وقد تدرب على الصبر، وانتهى في حسبانه أي شيء كان يظنه مستحيلا، أو ليس المدمن على التدخين مثلا كان لا يطيق الصبر عنه بضع سويعات فإذا به في شهر الصيام يصبر عنه الساعات الطوال.. أو ليس في ذلك فرصة للإقلاع منه والخلاص من أسره بدءا من شهر الصيام.. وهكذا فكل من فتن بشيء محرم وصبر نفسه عنه في شهر الصيام فجدير به أن يقلع عنه ويتوب إلى مولاه، وهذا من المستفيدين حقا من حكم الصيام ومثله يفقه حقيقة التقوى في الصيام، كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
وينبغي أن يترفع الإنسان المكرم بصبره عن صبر البهائم التي تأكل حين تجد المرعى، وتصوم إجبارا حين يعز المرعى، فما بالله حاجة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه دون جدوى، لكنه السر العظيم يراد للإنسان أن يدركه فيشكر ربه على أن هيئ له ما يأكل منه ويشرب، وقد حرم منه آخرون، ويتوب إلى بارئه ويستغفره ويعبده حق عبادته.
وفي شهر الصيام دعوة للصائم لا ترد، كما قال عليه الصلاة والسلام: " ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم"([3]).
وليحرص المسلم على الدعاء عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، كما صح بذلك الحديث ([4]).
كما يحرص على الاستغفار بالأسحار قال تعالى: {والمستغفرين بالأسحار}ولا يخص أن حضور القلب والإلحاح في الدعاء والبدء بحمد الله والثناء عليه، والختم بالصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم كل ذلك من آداب الدعاء.. وهل غاب عن ذهنك أيها المقصر أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا مع التوبة وصدق التوجه، وأن لله تعالى نفحات في رمضان حري بك أن تستفيد منها، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة".
وفي الحديث الآخر عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لله عند كل فطر عتقاء"
فتذكر ذلك جيدا يا أخا الإسلام وادع الله بالتوبة النصوح، واسأله من خيري الدنيا والآخرة، وأرجه أن تكون من عتقائه من النار. وإنه لفرق بين من يتصور هذه المعاني وهو عند لحظات الإفطار، وبين من هو غافل شارد، لا يقطع حديثه المعتاد إلا سماع الأذان، وربما كان الكلام في محرم، فكانت الخسارة أعظم، فاستفيدوا من الصيام يا معاشر الصوام، وانتبهوا للحظات قبول الدعاء فهي حرية بالاهتمام.
إخوة الإيمان.. وثمة أمر يدعو إلى التوبة في كل حال، وهو في رمضان أحرى وأولى، ألا وهو كثرة الذكر وكثرة الصدقة، فكثرة الذكر تشرح الصدور تطمئن بها القلوب، وتصبح النفوس متهيأة للتوبة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} والذكر طارد للشيطان جالب لملائكة الرحمن، هذا فضلا عما في الذكر من تكفير الخطايا والذنوب وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"([5])
أما الصدقة فهي برهان على الرغبة في الخير، ولاسيما صدقة السر، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها "صدقة السر تطفئ غضب الرب" ([6]). والصدقة بشكل عام تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.. كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ([7]).
وإذا كانت الصدقة الأخرى مستحبة في كل زمان، فلها في شهر الصيام مزية على سائر العام، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وقال الإمام الشافعي رحمه الله ((أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم ([8]).
وهكذا يكون الذكر وتكون الصدقة من أسباب التوبة وتكفير السيئات، ولا تبقي الخطيئة في حس المسلم عقدة تقعد به عن المغفرة كحال أصحاب العقائد الفاسدة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربو بيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الأطهار وارض اللهم عن الصحابة الأخيار، وعن التابعين بإحسان ما تجدد الليل والنهار وتلاحقت المواسم والأعوام.
أيها الصائمون فمن دواعي التوبة في شهر رمضان كثرة تلاوة القرآن، من أسباب التوبة في رمضان لاشك أن تلاوة القرآن مستحبة في كل زمان، ولاشك أن للقرآن أثره على قارئه في كل حال، كيف لا وهو الكتاب العظيم المعجز الذي حكى الله أثره على صم الجبال لو أنزل عليها {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} وتبقى القلوب التي لا تلين أو تتأثر بالقرآن {كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منهما لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما هبط من خشية الله وما الله بغافل تعملون}[البقرة : 74].
وللقرآن في رمضان مزية خاصة، ففيه أنزل، وبه كان جبريل عليه السلام يلقى النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ([9]) وبه تزدان المساجد في رمضان تلاوة وصلاة، وخشوعا، وبه يتهيء لكثير من الناس القراءة أكثر من غيره، وإن كان حريا بالمسلم أن يداوم على قراءة القرآن في رمضان أو غير رمضان، لكن فضل الزمان يدعو إلى كثرة التلاوة والتدبر للقرآن، وفي رمضان يجتمع الصيام مع تلاوة القرآن فيكون أسمى للروح وأخف للجوارح لعدم امتلاء البطن في الطعام.
وقارئ القرآن بتدبر وتمعن لابد أن ينتهي إلى التوبة، ولابد أن يعود إلى ربه ويستغفره من ذنوبه لعدة دواع منها: أنه يقرأ ما أعده الله للمتقين من النعيم والحبور الدائم مما تطرب له النفوس وتتعلق به القلوب، ويزداد شوقه إذا قرأ أن في ذلك النعيم مالا يستوعبه الخيال أو تحيط به العيون والأسماع {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم لن قرة أعن جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة :17].
ولا يكاد ينتهي من الأنس والشوق حتى تمر به المشاهد المغيبة للكافرين والفجار مما لا تطيق بعض النفوس سماع وعده ووعيده فضلا على أن تصبر على شدة العذاب أو تطيق أن تكون من أهل النار والعياذ بالله وبين هذه المشاهد وتلك تأتي الدعوة الإلهية للتوبة فضلا من الله وإحسانا وإلا فربك الغني القهار، وجهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، وحين يقال لها: هل امتلأت؟ تجيب: "من مزيد؟..
وقارىء القرآن يستشعر التوبة لأنه يقرأ أخبار وقصص التائبين وفي مقدمتهم
آدم عليه السلام، فلم تقعد به الخطيئة عن التوبة والإستغفار، ولم يتجبر أو يتكبر كحال إبليس الذي كان مصيره إلى النار وبئس القرار، ويستشعر من هذا أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فيتأمل في نفسه ويعقد العزم على التوبة، ويكون هذا الشهر بداية عتقه من النار، ويكون القرآن دليله إلى النجاة، وقاربه إلى بر الأمان .
بل إن قارئ القرآن يجول بطرفه ويسرح بفكره في أحوال الأمم الغابرة بين الطاعة والعصيان، وبين الرجوع إلى الله والجبروت والطغيان.. ويهديه القرآن إلى نهاية هؤلاء وأولئك، ويبصره كيف كانت العاقبة ولمن كانت النهاية في كل حال، فيدعوه ذلك إلى أن يكون من حزب الله المفلحين، وينأى بنفسه أن يكون ممن أخذهم الله بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون.
إخوة لإيمان: وقارىء القرآن لا يخدعه عن التوبة طول الأمل أو نضرة الشباب، أو توفر النعم فيسوف في التوبة حتى تقترب النهاية وتكون المفاجأة {وليست التوبة للذين يعملون ا السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء :18].
ويهدي القرآن أصحابه كيف يتوبون وكيف يستغفرون {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} [آل عمران : 135136].
أيها المسلمون توبوا إلى ربكم واستغفروه، واستفيدوا من تلاوة القرآن وشهر الصيام، ولا تتعاظموا على الله ذنبا، فقد أذن لأهل الكفر بالمغفرة إن هم تابوا وانتهوا {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال :38].
ودعا أهل التثليث وقتلة الأنبياء عليهم السلام إلى التوبة فقال {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم}[المائدة :74].
وفي الحديث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
أحدنا يذنب، قال "يكتب عليه "، قال: ثم يستغفر منه، قال: "يغفر له وتاب عليه قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب قال: يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا" ([10]).
وقيل للحسن يرحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم
يعود ثم يستغفر ثم يعود فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا فلا تملوا من الاستغفار ([11]).
ومع التوبة والاستغفار تجنبوا الموبقات، وأكثروا من الطاعات، عسى ربكم أن يرحمكم ويغفر لكم إن في ذلك لذكرى لمن عقل شهر الصيام، وأدرك ما فيه والقرآن من أسرار ودعوة إلى الخير والإيمان، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
________________________________________
(1) رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وفي إسناده موسى بن عبيدة ، متفق على ضعفه، رمضان مدرسة الأجيال ، ناصر العمر ص30
(1) رواه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن، عبدالله الفوزان ، أحاديث الصيام ص97
(1) المرجع السابق ص97 .
(1) رواه أحمد وصحح إسناده المنذري والألباني ، الصيام ص89
(1) الأذكار للنووي ص12، 13
(2) صحيح الجامع 3/240
(3) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه،الفوزان ص68
(1) معرفة السنن والآثار للبيهقي عن أحاديث الصيام للفوزان ص69
(1) متفق عليه، البخاري 1/30 ، مسلم 2308 .
(1) أخرجه الحاكم ، توجيهات وذكرى 2/ 249
(1) السابق 1/ 250
ــــــــــــــــــــ(1/226)
حال السلف مع الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوة في الله : لقد كان سلفُنا الصالحُ قمماً في الاقتداءِ ، ونبراساً في التأسي والاهتداءِ بهدي ربِ الأرضِ والسماء ، ففي كلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أمورِ حياتِهم ، وشؤونِ عيشهِم ، يتحرون سنةَ نبيِّهم ? ، ويتلمسون منهاجَ رسولِهم ، فنالوا بذلك وِسامَ خيرِ القرون ، وفازوا بصحبةِ الرسولِ ? ، وحققوا بهذا الاتباعِ الانجازاتِ الباهرة ، والانتصاراتِ الرائعة .
لذا كان علينا أحبتي الكرام أن نقرأَ سيرَهم ، ونتلمسَ أخبارَهم ، حتى نسيرَ سيرَهم ونبلغَ المجدَ الذي بلغوه ، والخيَر الذي سطروه ،وسيروا هؤلاءِ العظماءِ متنوعةٌ ؟؟لكننا سنتطرقُ لما يخصُنا في هذه الأيامِ فنتعرفُ على أحوالهِم في الصيامِ ..وأحوالُهم من أحسنِ الأحوال ، فما كانت وجُوههم تكفهُر لبلوغِ شهرِ الصيام ، وما كانت نفوسهُم تنقبضُ لإدراكِ شهرِ الصيامِ ..وما كانواَ يتَضايقونَ لعبادةِ الصيام ، لأنَّ السنَة كلهَّا عندهم صيام..نعم لقد أدركوا فضلَ الصيامِ وما له من الأجرِ الكبيرِ من المليكِ العلامِ فهو القائلُ كما في الحديثِ القدسي : « كلُ عملِ بنِ آدمَ له إلا الصيامُ فإنه لي وأنا أجزي به[1] »" رواه البخاري ..فلماذا لا يفرحون بالصيامِ واللهُ يقولُ : إنه لي وأنا أجزي به " فأيُ تكريمٍ كهذا ؟ وأي شرفٍ مثلُ هذا ؟ ولهذا أصبحوا يتنافسون في عبادةِ الصيام ..والمداومةِ عليه طوالَ العام ..سوى ما حرمَ عليهمُ الكريمُ العلام ..فهذا ابنُ عمرو رضي الله عنهما يقولُ :" أنكحني أبي امرأةً ذاتَ حسبٍِ فكان يتعاهدُ كَنّته ـ وهي زوجةُ الولدِ ـ فيسألُها عن بعلِها فتقولُ: نِعْمَ الرجلُ من رجل ، لم يطأْ لنا فراشاً ولم يُفتشْ لنا كنفا مذ أتيناه ، فلما طال ذلك عليه ذكرَ للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:" القني به " فلقيتُه بعد ، فقال : كيف تصوم ؟ قلتُ : كلَ يوم ..قال : وكيف تختمُ ؟ قلت ..كلَ ليلة ..قال : " صم في كلِ شهرٍِ ثلاثةً واقرأْ القرآنَ في كلِ شهرٍ " قال : قلتُ أُطيقُ أكثرَ من ذلك.. قال :" صمْ ثلاثة أيامٍ في الجمعةِ" قلت : أُطيقُ أكثرَ من ذلك ..قال :" أفطرْ يومينِ وصمْ يوما " قال : قلت : ُأطيقُ أكثرَ من ذلك ..قال : "« صم أفضلَ الصومِ صومُ داودَ صيامُ يومٍِ وإفطارُ يومٍ واقرأ في كلِ سبعِ ليالٍ مرةٍ " فليتني قبلتُ رخصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وذاك أني كبرتُ وضعفتُ فكان يقرأُ على بعضِ أهلِه السبعَ من القرآنِ بالنهار والذي يقرؤُه يعرضُه من النهارِ ليكونَ أخفَّ عليه بالليلِ وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام أياما مثلهن كراهية أن يترك شيئا فارق النبي ? [2]». رواه البخاري ..
لقد شغلَهم حبُ الصيام ..عن مضاجعةِ النساءِ على الفرش ..نعم لقد أدركوا أن من أظمأَ نفسه في هذه الحياة ..فلن يظمأ في الآخرةِ في دارِ القرارِ بإذنِ الواحدِ القهار ..لقد أدركوا أن الصائمين يدخلون من بابٍ خاصٍ إلى جناتِ النعيم ..يُسمى بابَ الريان .. يقولُ النبيُّ ? :« " للصائمين بابٌ في الجنةِ يُقالُ له : الريان ..لا يدخلُ منه أحدٌ غيرهُم ..فإذا دخلَ آخرهُم ..أُغلق ..من دخلَ شربَ ..ومن شربَ لم يظمأْ أبدا[3]» " رواه ابنُ خزيمة .. ولماذا لا يصومون ..وصوتُ رسولِ الله ? يجلجلُ في آذانِهم :"« من صامَ يوماً في سبيلِ الله باعدَ الله وجهَه عن النارِ سبعين خريفا[4]» " رواه البخاري ..ولماذا لا يعشقون الصيامَ ونبيُهم قد أعلمهم :" «إن في الجنةِ غرفةً ..يُرى ظاهرُها من باطنِها ، وباطنُها من ظاهِرها ..أعدها الله لمن أطعمَ الطعام ، وألانَ الكلام ، وتابعَ الصيام ، وصلى والناسُ نيام[5] »" رواه أحمد وحسنه الألباني ..الغرفاتُ معدةٌ للصائمين يا أُخي ..وما أدراكَ ما الغرفات ؟ يقولُ النبيُّ ? : "« إن أهلَ الجنةِ ليتراءون أهلَ الغرفِ من فوقهِم كما تراءَون الكوكبَ الدرَي لبعدِهم في الأفقِ من المشرقِ أو المغربِ لتفاضلِ ما بينهِم[6] "» رواه البخاري ومسلم وما ذلك إلا لرفعتهِم وصفاءِ لونِهم وخلوصِ نورِهم ..يقولُ اللهُ تعالى :? كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ? (الحاقة:24) قال مجاهد : نزلت في الصائمين ..من ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه للهِ يرجو ما عنده ..عُوِضَ ذلك في الجنة ..من ترك شيئاً للهِ عوضه اللهُ عنه خيراً مما تركه ..فكيف بمن قَلَصتْ شفاهُه عطشا ..قال يعقوبُ بنُ يوسف الحنفي : بلغَنا أن اللهَ تعالى يقولُ لأوليائهِ يومَ القيامةِ : يا أوليائي طالما نظرتُ إليكمْ في الدنيا وقد قَلُصتْ شفاهُكم عن الأشربةِ ، وغارت أعينُكم ، وجفتْ بطونُكم ، كونوا اليومَ في نعيمِكِم ، وتعاطوا الكأسَ فيما بينَكم ..وقالَ الحسن : تقولُ الحوراءُ لوليّ اللهِ وهو متكئٌ معها على نهرٍ العسلِ تُعاطيه الكأسَ : إن اللهَ نظرَ إليكَ في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بين الطرفين وأنتَ في ظمأِ هاجرةٍ من جهد العطشِ فباهي بك الملائكةَ وقال : انظروا إلى عبدي ترك زوجتَه وشهوتَه ولذتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي رغبةً فيما عندي اشهدوا أني قد غفرتُ له فغفر لك يومئذٍ وزوْجنيكَ [7] فيا قومِ ألا خاطب في الصوم إلى الرحمن ، ألا راغبٌ فيما أعدَه اللهُ للطائعين في الجنان ، ألا طالبٌ لما أخبرَ به من النعيمِ المقيمِ مع أنه ليس الخبرُ كالعيان .
من يُرِدْ مُلكَ الجنانِ فليدعْ عنه التواني وليقمْ في ظلمةِ الليلِ إلى نورِ القرآن
وليَصلْ صوماً بصومٍ إن هذا العيشَ فاني إنما العيشُ جوارُ اللهِ في دارِ الأمان
لذلك كان السلفَ رحمهم الله يتحسرون لفراقِ الحياة ...لا حباً بأشجارِها وأنهارِها ..ولا شوقاً إلى نسائِها وبهرجِها ..ولكن لظمأِ الهواجر ..وقيامِ الليل .. لما حضرتْ معاذاً الوفاةُ قال : اللهم إن كنتَ تعلمُ أنى لم اكنْ أُحبُ الدنيا وطولَ البقاءِ فيها لكرى الأنهارِ ..ولا لغرسِ الشجر.. ولكن لظمأِ الهواجر ..ومكابدةِ الساعات ..ومزاحمةِ العلماءِ بالركبِ عند حِلقِ الذكر [8]..فيا لله من هذه القلوبِ .. التي أصبح حرمانُ النفسِ من الطعامِ والشرابِ ..أشهى إليها من جري الأنهار ..وغرسِ الأشجار ، وعن عبيد الله بنِ محمدٍ التيمي قال حدثني بعضُ أشياخِنا أن رجلاً من عامةِ هذه الأمةِ حضرتُه الوفاةُ فجزعَ جزعاً شديدا وبكى بكاءً كثيراً ..فقيل له في ذلك فقال :ما أبكي إلا على أن يصومَ الصائمون للهِ ولستُ فيهم .. ويصلي المصلون ولستُ فيهم..ويذكره الذاكرون ولستُ فيهم..فذاك الذي أبكاني [9].. أرأيتُم كيف اشتياقُهم لفعلِ الطاعات ..وتهافتَهم لعملِ الخيرات ..لقد فارقوا الملذاتِ ..وهجروا المباحاتِ ..وما حصل منهم ذلك إلا لأنهم ذاقوا طعمَ الإيمانِ ..فبكوا لفراقِ الحياة ..لا حباً فيها ..ولكن لفواتِ تلك الأعمال ..فلا إله إلا الله ..من لم يدخلْ جنةَ الدنيا لم يدخلْ جنةَ الآخرة .. يقول بعضُ العارفين : إنه ليمرُ بالقلبِ أوقاتٌ أقولُ : إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ هذا ..إنهم لفي عيشٍ طيب ..ويقولُ بعضُ المحبين : مساكين أهلُ الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيبَ ما فيها ..قالوا: وما أطيبُ ما فيها ..قال : محبةُ اللهِ والأنسُ به ..والشوقُ إلى لقائهِ..والإقبالُ عليه..والإعراضُ عما سواه [10].
ولم يكنْ صيامُ السلفِ رحمهم اللهُ عن الطعامِ والشرابِ فحسب ..وأطلقوا ألسنتَهم بالغيبةِ والنميمةِ والكذبِ والبهتانِ ..والتندرِ بالناسِ والاستهزاءِ بهم ..ولم يكن صيامُهم كسلاً ونوم ..وسهراً بالليلِ إلى قبيلِ الفجر ..كلا ..لم يكنْ من ذلك شيءٌ ..بل كانوا يُحافظون على صيامِهم ..عن كلِ ما يخدشُه ..فهم صاموا نهارَه فأحسنوا الصيام ..وقاموا ليله فأحسنوا القيام ..وبين هذا وذاك تلاوةٌ للقرآن ، وذكرٌ واستغفار ، وندمٌ وبكاء ، وخوفٌ ورجاء ، أولئك هم الذين انتفعوا برمضانَ حقَّ الانتفاع ..يقول ابنُ رجبٍ رحمه الله : ( كان السلفُ يتلون القرآنَ في شهرِ رمضانَ في الصلاةِ وغيرِها ) وكان التابعيُ الجليلُ قتادةُ رحمه الله يختمُ القرآنَ في كلِ سبعِ ليالٍ مرة ، فإذا جاءَ رمضانُ ختمَ في كلِ ثلاثِ ليالٍ مرةً ، فإذا جاءَ العشرُ ختمَ في كلِ ليلةٍ مرةً ، وكان الإمامُ الزهريُ إذا دخلَ رمضانُ قال : إنما هو قراءُة القرآنِ وإطعامُ الطعامِ ..أما عن قيامهِم بالأسحارِ ، ومناجاتهِم للواحدِ الغفار ..فيقول السائبُ بنُ يزيد أَمر عمرُ بن الخطابِ أبيَّ بنَ كعبٍ وتميماً الداريَ أن يقوما بالناسِ بإحدى عشرَ ركعةٍ ، قال : وقد كان القارئُ يقرأُ بالمئين ، حتى كنا نعتمُد على العصيِ من طولِ القيام ، وما كنا ننصرفُ إلا في فروعِ الفجر " خشيةَ أن يفوتَنا الفلاحُ ـ أي السَحور ـ . [11]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أيها الأخوةُ الأكارم : لقد كان كثيٌر من السلفِ يُواسون من إفطارهِم أو يُؤثرون به فكان ابنَ عمر يصومُ ولا يفطرُ إلا مع المساكين ، فإذا منَعه أهلُه عنهمْ لم يتعشَّ تلك الليلةَ ، وكان إذا جاءَه سائلٌ وهو على طعامهِ أخذَ نصيبهَ من الطعامِ وقامَ فأعطاهُ للسائلِ فيرجعُ وقد أكلَ أهلُه ما بقي في الجفنةِ فيصبحُ صائماً ولم يأكلْ شيئا ، وكان يتصدقُ بالسكرِ ويقول :" سمعت الله يقول :?لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ? (آل عمران: من الآية92) والله يعلمُ أني أحبُ السكر ..وكان الحسنُ يُطعم إخوانَه وهو صائمٌ تطوعاً ويجلسُ يروحُهم وهم يأكلون ..وكان ابنَ المبارك يطعمُ إخوانُه في السفرِ الألوانَ من الحلواءِ وغيرهِا وهو صائم ..فسلامٌ اللهِ على تلك الأرواحِ ، رحمةُ الله على تلكَ النفوسِ ، لم يبقْ منهم إلا أخبارٌ وآثار ، كم بين من يمنُع الحقَ الواجبَ عليه وبين أهلِ الإيثار
لا تقعُدَّن لذكرِنا في ذكرهِم ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعَدِ
ولقد كانوا يحفظون صيامَهم عن قبيحِ الكلام ، فلا سبابَ ولا خصام ..ولا غيبةَ ولا بهتان، بل امتثلوا هديَ نبيِّهم ? في قولِه : "« الصيامُ جنةً فلا يرفثْ ولا يَجهلْ وإن امرؤٌ قاتلَه أو شاتَمه ..فليقلْ : إني صائم »[12]" رواه البخاري ..وحفظُ اللسانِ يكونْ في سائرِ الأحوالِِ ويتأكدُ في حالِ الصيام .. لأن الذي استطاعَ أن يمنعَ نفسَه من الطعامِ والشرابِ والشهوةِ ..لماذا يعجزُ عن كفِ لسانهِ عن السبِ و الشتائم ، ويحفظُ لسانَه عن سيءِ الكلام.
ومن اهتمامِ السلفِ بالصيامِ ..وحرصُهم على هذه العبادةِ أنهم كانوا يُمرنون أطفالَهم عليه ..ويُسلونُهم باللعبِ حتى لا يشعروا بطولِ النهار ..أخرجَ البخاريُ ومسلمْ عن الرَبَيعِ بنتِ مُعَوّذ قالت: أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراءَ إلى قرى الأنصارِ التي حولَ المدينةِ من كان أصبحَ صائماً فليتمْ صومَه ،ومن كان أصبحَ مفطراً فليتمْ بقيةَ يومهِ، فكنا بعد ذلك نصومُه ونُصَوّمُ صبيانَنا الصغارَ منهم ..ونذهبُ إلى المسجدِ فنجعلُ لهم اللعبةَ من العُهن ،فإذا بكى أحدُهم على الطعامِ أعطيناهم إياه ، حتى يكونَ عند الإفطار ..رواه مسلم ..فهذا الموقفُ يكشفُ لنا حالَ السلفِ مع الصيام ..وكيف كانوا يُربون أولادَهم عليه ..وهذا الذي ينبغي أن نكون عليه بأن نربيَّ أبناءَنا على الصيامِ ..وألا يَتسربَ إلى قلوبنَا تلك الحيلةَ ..ها هؤلاءِ صغار ..ألا ترحمُهم ..
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ منا على ما كان عودَه أبوه
إذن أحبتي في الله : هكذا كان حالُ السلفِ مع الصيام ..ما كانوا يُضيعون أوقاتَهم باللعبِ ..وما كانواَ يقضون صيامَهم بالنومِ ..نعم هم ينامون لكن ليس كما ننامُ ..نحن ننامُ الكثيرَ من الوقتِ في النهار ..ونسهرُ في الليل ..ولكن هم على العكس من ذلك ..فأين نحن من أخلاقِ السلف ؟ وأين نحنُ من هذه الصورِ الرائعة ؟!!
ونحن أيها المسلمون : قادرون على أن نكونَ مثلَهم ، وأن نحذوَّ حذوَهم ، لأنهم بشرٌ ونحنُ بشر ، هم لهم شهواتٌ ونحن لنا شهوات ، هم لهم عزائمُ وهممٌ ونحن يجبُ أن تكونَ لنا هممٌ وعزائم ، ما بيننا وبينَهم إلا خطواتٌ ونصلُ إليهم بإذن الله تعالى ..فالفارقُ يسيرٌ والأمرُ ليس بالعسيرِ ..فعليك ببذلِ الأسبابِ من قطعِ أسبابِ الفسادِ عنكَ والإقبالِ على الله تعالى ، وصحبةِ من يُعينُكَ على الخيرِ والدعاءِ للهِ تعالى أن يفتحَ عليك أبوابَ رحمتِه وأن يتولاك بواسعِ فضلهِ ، وأن يرزقَك الإنابَة والهدايَة ، والتوبةَ والاستقامة .
اللهم تب على التائبين ، واغفر ذنوب المستغفرين ...
________________________________________
[1] رواه البخاري(1904) من حديث أبي هريرة ?
[2] رواه البخاري (5052) من حديث عبد الله بن عمرو ?
[3] رواه النسائي (2236) من حديث سهل بن سعد ?
[4] ورقمه (2840) أبي سعيد الخدري ?
[5] وراه أحمد (1340) من حديث علي ?
[6] ورقمه (3256) من حديث أبي سعيد الخدري ?
[7] ـ لطائف المعارف ص 177
[8] ـ الزهد لابن أبي عاصم (1/181)
[9] ـ شعب الإيمان (3 / 414) .
[10] ـ مدارج السالكين (1/454) .
[11] ـ رواه مالك(251) وصححه الألباني .
[12] ورقمه (1904) من حديث أبي هريرة
ــــــــــــــــــــ
http://www.islamlight.net/index.php(1/227)
خطب رمضانية
من يجب عليه صوم رمضان والمفطرات
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
- الأمر بتقوى الله وشكره على مواسم الطاعات واغتنامها - من فضائل شهر رمضان - استقبال رمضان وحكم صيام يوم الشك - وجوب صوم رمضان , ومن يُرخّص لهم في الفطر وأحكام ذلك - الحث على قيام شهر رمضان وآداب ذلك - أنواع المفطرات وحكم من فعل شيئاً منها ناسياً - بعض المباحات للصائم - وجوب حفظ الصوم من النواقص والنواقض
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخيرات وما حباكم به من الفضائل والكرامات، وعظموا تلك المواسم وأقدروها قدرها بفعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والموبقات، فإن تلك المواسم ما جعلت إلا لتكفير سيئاتكم وزيادة حسناتكم ورفعة درجاتكم.
عباد الله: لقد استقبلتم شهرا كريما وموسما رابحا عظيما لمن وفقه الله فيه للعمل الصالح، استقبلتم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهرا تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات، أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، جعل الله صيام نهاره فريضة من أركان إسلامكم، وقيام ليله تطوعا لتكميل فرائضكم، من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن أتى فيه بعمرة كان كمن أتى بحجة، فيه تفتح أبواب الجنة، وتكثر الطاعات من أهل الإيمان، وتغلق أبواب النار، فتقل المعاصي من أهل الإيمان وتغل الشياطين، فلا يخلصون إلى أهل الإيمان بمثل ما يخلصون إليهم في غيره.
أيها الناس: صوموا لرؤية هلال رمضان ولا تقدموا عليه بصوم يوم أو يومين لأن النبي نهى عن ذلك إلا من كان عليه قضاء من رمضان الماضي فليقضه أو كان على عادة بصوم فليصمه، مثل من له عادة بصوم يوم الاثنين أو الخميس فصادف قبل الشهر بيوم أو بيومين، أو كان له عادة بصيام أيام البيض ففاتته فليس عليه بأس بصيامها قبل رمضان بيوم أو يومين.
ولا تصوموا يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في ليلته ما يمنع رؤية الهلال من غيم أو فتر أو نحوهما، ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ومن حديث أبي هريرة عن النبي : ((فإن غبى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وقال عمار بن ياسر : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم .
ومن رأى الهلال يقينا فليخبر به ولاة الأمور ولا يكتمه. وإذا أعلن في إذاعتكم ثبوت دخول رمضان فصوموا وإذا أعلن فيها ثبوت دخول شوال فأفطروا لأن إعلان ولاة الأمور ذلك حكم به.
جاء أعرابي إلى النبي فأخبره أنه رأى الهلال فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فقال النبي : فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)).
صوم رمضان أحد أركان الإسلام فرضه الله على عباده فمن أنكر فريضته فهو كافر، لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183]. وقال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه [البقرة:185].
فالصوم واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم ذكرا كان أم أنثى ليست حائضا ولا نفساء، فلا يجب الصوم على كافر، فلو أسلم في أثناء رمضان لم يلزمه قضاء ما مضى منه، ولو أسلم في أثناء يوم من رمضان أمسك بقية اليوم ولم يلزمه قضاؤه.
ولا يجب الصوم على صغير لم يبلغ، لكن إن كان لا يشق عليه أُمر به ليعتاده فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصوِّمون أولادهم، حتى إن الصبي ليبكي من الجوع فيعطونه لعبة يتلهى بها إلى الغروب.
ويحصل بلوغ الصغير إن كان ذكرا بواحد من أمور ثلاثة: أن يتم له خمس عشرة سنة أو تنبت عانته أو ينزل منيا باحتلام أو غيره، وتزيد الأنثى بأمر رابع وهو الحيض.
فمتى حصل للصغير واحد من هذه الأمور فقد بلغ ولزمته فرائض الله وغيرها من أحكام التكليف إذا كان عاقلا.
ولا يجب الصوم على من لا عقل له كالمجنون والمعتوه ونحوها فالكبير والمهذري لا يلزمه الصوم ولا الإطعام عنه ولا الطهارة ولا الصلاة لأنه فاقد التمييز فهو بمنزلة الطفل قبل تمييزه، ولا يجب الصوم على من يعجز عنه عجزا دائما كالكبير والمريض مرضا لا يرجى برؤه، ولكن يطعم بدلا عن الصيام عن كل يوم مسكينا بعدد أيام الشهر، لكل مسكين ربع صاع نبوي من البر أي أن الصاع يكفي لأربعة فقراء عن أربعة أيام، والأحسن أن يجعل مع الطعام شيئا يأدمه من لحم أو دهن.
وأما المريض بمرض يرجى برؤه فإن كان الصوم لا يشق عليه ولا يضره وجب عليه أن يصوم لأنه لا عذر له، وإن كان الصوم يشق عليه ولا يضره فإنه يفطر، ويكره له أن يصوم وإن كان الصوم يضره فإنه يحرم عليه أن يصوم، ومتى برئ من مرضه قضى ما أفطر، فإن مات قبل برئه فلا شيء عليه.
والمرأة الحامل التي يشق عليها الصوم لضعفها أو ثقل حملها يجوز لها أن تفطر ثم تقضي إن تيسر لها القضاء قبل وضع الحمل أو بعده إذا طهرت من النفاس، والمرضع التي يشق عليها الصوم من أجل الرضاع أو ينقص لبنها من الصوم نقصا يخل بتغذية الولد تفطر ثم تقضي في أيام لا مشقة فيها ولا نقص.
والمسافر إن قصد بسفره التحيل على الفطر فالفطر حرام عليه، ويجب عليه الصوم.
وإن لم يقصد بسفره التحيل على الفطر مخير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويقضي عدد الأيام التي أفطر، والأفضل له فعل الأسهل عليه.
فإن تساوى عنده الصوم و الفطر فالصوم أفضل لأنه فعل النبي ولأنه أسرع في إبراء ذمته وأخف من القضاء غالبا، وإن كان الصوم يشق عليه بسبب السفر كره له أن يصوم، وإن عظمت المشقة به حرم أن يصوم لأن النبي خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر،فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب والناس ينظرون إليه،فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: ((أولئك العصاة. أولئك العصاة)).
ولا فرق في المسافر بين أن يكون سفره عارضا لحاجة أو مستمرا في غالب الأحيان مثل أصحاب السيارات الأجرة (التكاسي) أو غيره من السيارات الكبيرة، فإنهم متى خرجوا من بلدهم فهم مسافرون يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين والجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء عند الحاجة، والفطر لهم أفضل من الصيام إذا كان الفطر أسهل لهم ويقضونه في أيام الشتاء لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها وأهل فيها يأوون إليهم، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون وإذا خرجوا منها فهم مسافرون، لهم ما للمسافرين وعليهم ما على المسافرين، ومن سافر في أثناء اليوم في رمضان وهو صائم، فالأفضل أن يتم صوم يومه، فإن كان فيه مشقة فليفطر ثم يقضيه، ولا يتقيد السفر بزمن، فمن خرج من بلده مسافرا فهو على سفر حتى يرجع إلى بلده ولو أقام مدة طويلة في البلد التي سافر إليها إلا أن يقصد بتطويل مدة الإقامة التحيل للفطر، فإنه يحرم عليه الفطر ويلزمه الصوم لأن فرائض الله تعالى لا تسقط بالتحيل عليها.
ولا يجب الصوم على الحائض والنفساء، ولا يصح منهما إلا إن تطهرا قبل الفجر ولو بلحظة، فيجب عليهما الصيام، ويصح منهما وإن لم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر، ويلزمهما قضاء ما أفطرتا من الأيام.
أيها المسلمون لقد رغّب النبي في قيام هذا الشهر وقال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))، وإن صلاة التراويح من قيام رمضان، فأقيموها وأحسنوها وقوموا مع إمامكم حتى ينصرف، فإن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة تامة وإن كان نائما على فراشه.
وإن على الأئمة أن يتقوا الله عز وجل في هذه التراويح فيراعوا من خلفهم ويحسنوا الصلاة لهم فيقيمونها بتأن وطمأنينة ولا يسرعوا فيها فيحرموا أنفسهم ومن وراءهم الخير، أو ينقروها نقر الغراب لا يطمئنون في ركوعها وسجودها وقعودها والقيام بعد الركوع فيها.
وعلى الأئمة أن لا يكون همّ الواحد منهم أن يخرج قبل الناس أو أن يكثر عدد التسليمات دون إحسان الصلاة فإن الله تعالى يقول: ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك:2]. لم يقل أيكم أسرع نهاية أو أكثر عملا.
وقد كان نبيكم وهو أحرص الناس على الخير والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قام بأصحابه في رمضان ثم ترك ذلك خشية أن تفرض على الناس فيعجزوا عنها .
وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما في الناس بإحدى عشرة ركعة فهذا العدد الذي قام به النبي وواظب عليه واتبعه فيه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب هو أفضل عدد تصلى به التراويح، ولو زاد الإنسان رغبة في الزيادة لا رغبة عن السنة بعد أن تبينت له لم ينكر عليه لورود ذلك عن بعض السلف، وإنما ينكر الإسراع الفاحش الذي فعله بعض الأئمة فيفوت الخير عليه وعلى من خلفه.
وفقني الله وإياكم لاغتنام الأوقات بالطاعات، وحمانا من فعل المنكر والسيئات، وهدانا صراطه المستقيم، وجنبنا صراط الجحيم، وجعلنا ممن يصوم رمضان ويقومه إيمانا بالله واحتسابا لثواب الله إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب.
ـــــــــــــــ
رمضان شهر التوحيد (غزوة بدر)
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
سبب الغزوة - مشاهد من الإعداد للغزوة - هزيمة قريش - دروس : 1- رمضان والجهاد 2- النصر بيد الله 3- خطأ المعايير المادية 4- أهمية الشورى 5- أهمية الدعاء
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد قال الله عز وجل ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون [آل عمران:123].
في شهر رمضان المبارك من السنة الثانية من الهجرة وقعت أولى الغزوات النبوية الكبرى , غزوة بدر الكبرى وكان سببها أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بقافلة تجارية كبيرة لقريش عائدة من الشام إلى مكة يقودها أبو سفيان, فأمر أصحابه بالخروج للاستيلاء عليها وقال لهم: لعل الله يمكنكموها , فقد كانت قريش إذ ذاك حربا على رسول الله وحربا على المسلمين وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه, خرجوا لا يريدون الحرب ولا يظنون أن سيكون قتال ولكن أبا سفيان أفلت ونجى بالقافلة أما قريش فلما أتاها الصارخ خرجت بأشرافها عن بكرة أبيهم في نحو ألف رجل معهم مائة فرس وسبعمائة بعير , خرجوا كبرا ورءاء الناس ويصدون عن سبيل الله معهم القيان يغنين بهجاء المسلمين , فلما علم أبو سفيان بخروج قريش أرسل إليهم يخبرهم بنجاته وإفلات القافلة ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب , فأبوا وقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نبلغ بدرا فنقيم فيه ثلاثا ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر فتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا .
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علم صلى الله عليه وسلم بأمر قريش جمع من كان معه من أصحابه استشارهم , فقام المقداد بن عمرو رضي الله عنه وهو من المهاجرين فقال : يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله فو الله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك. فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : أشيروا علي أيها الناس . فقام سعد بن معاذ من الأنصار وهو سيد الأوس فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله . فقال : أجل . فقال سعد : كأنك يا رسول الله خشيت أن تكون الأنصار ترى أنه ليس من حقها أن تنصرك إلا في ديارهم وأنا أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن متى شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا منها ما شئت والذي تأخذه منا كان أحب إلينا مما تتركه وما أمرت فيه بأمر فأمرنا فيه تبع لأمرك فسر بنا فو الله لو سرت بنا إلى برك الغماد لنسيرن معك ولو استعرضت هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , والله لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدا فإننا صبر في الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
فسر النبي صلى الله عليه وسلم مما سمع من كلام المهاجرين والأنصار وقال لأصحابه : سيروا وأبشروا فو الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم .
و سار النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى نزل بأدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة . فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل هو الحرب والرأي والمكيدة .
فقال الحباب : فليس هذا بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من الآبار , فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم رأي الحباب ومضى بأصحابه حتى نزل بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة وجيش قريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة , وأنزل الله مطرا كان شديدا ووحلا زلقا على المشركين وكان طلا خفيفا على المسلمين , طهرهم به ووطأ لهم الأرض وثبت به الأقدام وبنى المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا على تل مشرف على موضع المعركة .
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوى صفوف أصحابه ومشى في أرض المعركة يشير إلى مصارع القوم إلى المواضع التي سيقتل فيها زعماء المشركين يقول هذا مصرع فلان إن شاء الله فو الله ما جاوز أحد منهم الموضع الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم, قتلوا في تلك المواضع التي عينها النبي صلى الله عليه وسلم .
والتقى الفريقان وقام النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ربه يدعو ويلح في الدعاء ويتضرع بين يدي ربه ويستغيث به , يقول اللهم أنجز لي ما وعدتني , اللهم هذه قريش قد أتت بخيلها وخيلائها تصد عن دينك وتحارب رسولك ,ثم يقول عن أصحابه : اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض .
واستجابة من الرب سبحانه وتعالى لاستغاثة نبيه واستغاثة الصحابة أنزل عليهم نصره , أنزل الملائكة فهزموا عدوهم , هزمت قريش وولوا الدبر , قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون وجمع من القتلى أربعة وعشرون من صناديد المشركين فألقي بهم في قليب من قلبان بدر , منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من رؤوس الكفر وصناديد المشركين .
وبعد ثلاث ليال أقامها النبي صلى الله عليه وسلم ببدر , انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند انصرافه وقف علي القليب ونادى أولئك الصناديد بأسمائهم وأسماء آبائهم , يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا .
فقال له عمر الفاروق : أتنادي أجساداً قد بليت يا رسول الله . فقال : والله ما أنتم بأسمع لكلامي منهم ,ذلك أن الله عز وجل أسمعهم نداء نبيه في تلك اللحظة(1)[1].
وفي هذين الفريقين فريق الإيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفريق الكفر والشرك قريش وصناديدها أنزل الله تبارك وتعالى قوله: هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم [الحج:19].
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب رسولك وحب من يحب رسولك وحب عمل يقربنا إليك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد فما أكثر الدروس وما أعظمها في هذه الغزوة النبوية الكبرى غزوة بدر الكبرى :
أولا : هذه الغزوة وقعت في شهر رمضان, هذا الشهر الكريم شهر العمل وشهر الصبر والجهاد في سبيل الله , تتضاعف فيه همة المؤمن ويقرب من ربه الكريم الرحيم وتفتح فيه أبواب الجنان فهو أثمن وأنفس فرصة للمؤمن لكي يضاعف فيها نشاطه وعمله في سبيل الله عز وجل وأكثر المعارك الإسلامية الكبرى في تاريخ المسلمين وقعت في هذا الشهر الكريم.
ثانيا : هذه الغزوة تبين بجلاء ما يعرفه كل مؤمن أن النصر كله بيد الله يؤتيه من يشاء , فالصحابة رضوان الله عليهم لما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يريدون الحرب وما ظنوا أن سيكون قتال ولذلك لم يتهيؤوا للحرب والقتال ولم يعدوا ما يكفي من العدة ومع ذلك أظفرهم الله ونصرهم على عدوهم لما صدقوا ما عاهدوا الله عليه وامتثلوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم, فببركة إيمانهم وبصدقهم مع الله وطاعتهم لرسوله نصرهم الله وأظفرهم وأظهرهم على عدوهم .
ثالثا : حينما تكون المعركة بين الإيمان والكفر فإن النتائج لا تقاس بالمقاييس البشرية التي تبنى عادة علي الأسباب المادية وحدها , فإن الله عز وجل يؤيد جند الإيمان , يؤيد المؤمنين على الكافرين وإن كان الميزان المادي بينهم وبين عدوهم ليس متكافئا فإن الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده المؤمنين يعوض ما عساه نقص من استعداداتهم بما شاء من جنوده وما يعلم جنود ربك إلا هو .
فالصحابة رضوان الله عليهم في بدر كان عدوهم أكثر منهم عددا وأقوى عدة , كان جيش المشركين ثلاثة أضعاف جيش المؤمنين ولكنهم لما لجأوا إلى ربهم واستغاثوا به نصرهم الله عز وجل علي عدوهم رغم هذا الفارق المادي الكبير في العدد والعدة .
رابعا : لم يكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوانى عن مشاورة أصحابه في جلائل الأمور وخاصة في المواقف الخطيرة كغزوة بدر وغزوة أحد وغزوة الخندق كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بمبدأ المشاورة امتثالا لأمر ربه عز وجل ولذلك كانت بركات هذا المبدأ تنزل عليه وعلى أصحابه نجاحا وفلاحا وفوزا في الأمور ونصرا وظفرا في المعارك .
خامسا : الأمر كله لله المُلك ملكه والخلق عبيده , فالخلق مفتقرون كلهم إلى الخالق وهذه هي حقيقة العبودية وهي حقيقة عرفها المؤمن وامتثل لها وعاندها الكافر وتمرد عليها وهذا هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم يعلمنا هذا الدرس الجليل مهما كانت الأحوال فان إظهار الافتقار إلى الرب عز وجل والتضرع بين يديه والتذلل له سبحانه وإظهار الضعف بين يديه والحاجة إليه والاستغاثة به , هذه كلها أمور مطلوبة من المؤمن مهما كانت الأحوال فالنبي صلى الله عليه وسلم مع يقينه بالنصر حتى إنه حدد المواضع التي سيقتل فيها زعماء المشركين ومع ذلك يقف بين يدي ربه يدعو ويلح في الدعاء والتضرع والاستغاثة وببركة هذه الاستغاثة من النبي صلى الله عليه وسلم وببركة استغاثة الصحابة الكرام استجاب لهم الرب فنصرهم وأيدهم على الرغم من ذلتهم والمقصود بالذلة ضعف القوة وقلة العدد, يقول تعالى: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [الأنفال:9].
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا ))(2)[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين .
__________
(1) صحيح البخاري (1370، 3976، 4026) ، صحيح مسلم (2873، 2875) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ــــــــــــــــ
استقبال رمضان
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
22/8/1406
ابن حسن
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- رمضان ضيف حلّ فينبغي أن نكرمه. 2- الاستعداد لاستقبال شهر رمضان. 3- الحث على تعلم الأحكام الخاصة بالصيام. 4- العزم على ترك الخصال الذميمة في رمضان. 5- حكم صيام أواخر شعبان.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: معشر المسلمين:
فإن لكل غائب طالت غيبته نوع استقبال، ولكل حبيب أوشكت رجعته اهتماماً يتناسب مع مكانته ، ويتوافق مع منزلته في نفس من يستقبل ذلك العزيز الحبيب الغائب. فإذا جفوت حبيبك الغائب جفاك وأخفى عنك هداياه وعطاياه، وادخرها ليعطيها لغيرك ممن يحسن استقباله ويعد العدة للحفاوة به وإكرامه.(1/228)
وإن أعظم مسافر أوشك أن ينزل ديارنا ، ويحط رحاله فى أوطاننا شهر رمضان العظيم ، سيد شهور السنة، هذا الشهر الكريم الذي يأتي حاملا معه النفحات الربانية، والعطاءات الإلهية، فتنبه الغافل وتذكر الناسي وتجدد همة الذاكر وتجمع شتات الناس وتجمع من تفرق من أهل الحي الواحد خلف إمام يقرأ لهم آيات ربهم يخاطبهم بها: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم [الزمر:53]. فتذرف دموع الحسرة على التفريط ودموع الألم على ما مضى من العمر فى معصية الله، ثم يقرأ إمامهم قول الله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً [مريم:96-97].
ليتذكر أهل الحي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي : (( إن العبد ليلتمس مرضاة الله، ولا يزال كذلك فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه فيقول جبريل: رحمة الله على فلان ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السماوات السبع ثم تهبط له إلى الأرض ))(1).
ثم يسبح المصلون فى أنحاء السماوات وجنبات الأرض وبين الآيات الكونية العظيمة وهم واقفون لا تبرح أقدامهم مكانهم وذلك عندما يتلو إمامهم قول الله: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران:90-91].
وهكذا كلما مر إمامهم بآية قام في نفوسهم من الفيوضات الربانية، والأحاسيس الإيمانية، ما يناسب تلك الآية الرحمانية.
معشر المسلمين: سؤال أراه يفرض نفسه أمامنا أجمعين يقول هذا السؤال: كيف نعد العدة لاستقبال هذا الحبيب الذي أوشك أن يصل من غيبته ؟ وكيف نهتم باستقبال هذا الشهر الكريم شهر رمضان؟ فأقول وبالله التوفيق: إن الفرد منا يجب أن يوطن نفسه وأهله على تلاوة القرآن في شهر رمضان ، ومراجعة ما حفظه منه ، ثم النية الأكيدة والعزم الصادق على الالتزام بصلاة التروايح بقدر الإمكان .
ثانيا: تعلم أحكام الصيام الفقهية وسننه وآدابه إن كان جاهلا بها ، أو مراجعتها وتذكرها إن كان عالما بها ، وملازمة حلق العلم التي تقام فى شهر رمضان من أجل هذا الغرض.
ثالثاً: العزم على التوبة في هذا الشهر الفضيل، فأبواب رحمة الله وأبواب التوبة لا تزال مفتوحة .
رابعاً: العزم على ترك العادات الرذيلة والخصال القبيحة كالسباب والشتم والغيبة والنميمة وغير ذلك من الخصال السيئة الأخرى وإن في شهر رمضان لأعظم فرصة على ترك قبيحة جالبة للأمراض ألا وهي عادة التدخين .
ومن الناس من يتقدم صيام شهر رمضان بصوم يوم أو يومين من آخر شعبان وهو يفعل ذلك عن حسن نية، ولكن هذا محرم ومخالف لسنة المصطفى إذ يقول فى الحديث المتفق عليه: (( لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم ))(2). وروى الترمذي وأبو داود عن عمار بن ياسر قال: (( من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم ))(3). ويكره الصوم بعد منتصف شعبان لما رواه الترمذي عن أبي هريرة: (( إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا ))(4).
-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد.
__________
(1) المسند 5/ 279 .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الصوم باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم أو يومين 2/230 .
(3) سنن الترمذي: كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك 3/70.
(4) سنن الترمذي: كتاب الصوم باب ما جاء فى كراهية الصوم فى النصف الثاني من شعبان لحال رمضان 3/115.
ـــــــــــــــــ
فضائل شهر رمضان
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
27/8/1405
ابن حسن
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- خطبة رسول الله في استقبال رمضان. 2- الصيام عبادة اختص الله نفسه بمضاعفة أجرها. 3- رمضان شهر الصبر. 4- رمضان شهر الإنفاق في سبيل الله. 5- النهي عن صيام يوم الشك. 6- متى يباح الفطر في رمضان.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد : أيها المسلمون اتقوا الله وأطيعوه واستبشروا خيراً فقد أظلكم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ففيه تفتح أبواب الرحمة، وتغلق أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين ومردة الجن، وفي هذا الشهر الكريم تضاعف الحسنات، وتقال العثرات، وتجاب الدعوات، وهو شهر الصبر والمواساة والصدقات، فقد سئل رسول الله : (( أي الصدقة أفضل، فقال: صدقة في رمضان ))(1)، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: (( خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان فقال : يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فرضا وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قلنا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ))، فقال رسول الله : (( يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مزقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن أشبع صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة. وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ))(2) فانظروا رحمكم الله إلى هذه الخطبة النبوية البليغة، بشر فيها النبي أصحابه بشهر رمضان وأخبرهم بفضله ومضاعفة الأعمال الصالحة فيه وأنه شهر عظيم مبارك وقال : (( ما مر بالمسلمين شهر قط خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر قط أشر لهم منه ))(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: (( كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ))(4).
وسماه شهر الصبر لما فيه من صبر على الصيام وصبر على ألم الجوع والعطش وضعف النفس ، وعن ابن عمر مرفوعا: (( الصيام لا يعلم ثوابه إلا الله عز وجل ))(5).
ولا يخفى أن مضاعفة ثواب الأعمال الصالحة تكون بأسباب منها شرف المكان كمكة المكرمة والمدينة المنورة، كما ثبت في الصحيح أن النبي قال: (( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيها سواه إلا المسجد الحرام ))، وفي رواية أنه قال: (( أفضل )) (6) .
ومن خصائص هذا الشهر المبارك مضاعفة ثواب الأعمال الصالحة فيه إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك لمن حسنت نيته وأخلص أعماله لله وبذل الميسور من الصدقات وكانت من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا: (( فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ))(7)متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع عنه ميتة السوء)) (8)، وورد: (( إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته ))(9)وصدقة السر أفضل لقوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمون خبير [البقرة:271].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بالآيات والذكر الحكيم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له فرائض الدين ، اللهم صل عليه وسلم تسليما كثيرا وبعد :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلا كان يصوم صوما، فليصم ذلك اليوم))(10) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا))(11) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح .
وعن أبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: ((من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم ))(3)رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضا أن النبي قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))(12) ويباح الفطر في رمضان لأربعة أصناف :
أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له القصر، فالفطر لهما أفضل وعليها القضاء، وإذا صاما أجزأهما .
الثاني: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان وإن صامتا، والحامل والمرضع إن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا.
وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير، إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فإن لم يجد سقطت عنه، فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة، وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية (13)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً))(14) متفق عليه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه : كتاب الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة 3/52 .
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 7/216 .
(3) أخرجه أحمد في المسند 2/524 .
(4) أخرجه أحمد في صحيحه : كتاب الصيام باب فضل الصيام 8/31 .
(5) وأخرج البيهقي عن زيد مرفوعا بلفظ ( .. والعمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله الصيام ) الجامع لشعب الإيمان 7/197 .
(6) صحيح البخاري : باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 2/57 .
(7) صحيح البخاري كتاب الزكاة باب الصدقة من كسب طيب 2/113 .
(8) أخرجه الترمذي في سننه : كتاب الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة 3/52 .
(9) أخرجه أحمد في مسنده 4/233 .
(10) صحيح البخاري : كتاب الصوم باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم أو يومين 2/230 . وصحيح مسلم كتاب الصوم باب النهي عن تقديم رمضان بصوم يوم أو يومين 7/194 .
(11) سنن الترمذي: كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان 3/115 ، وسنن أبي داود : كتاب الصوم باب في كراهية ذلك 2/301 .
(12) صحيح مسلم : كتاب الطهارة باب فضل الوضوء والصلاة عقبه 3/119 .
(13) نقلا من كتاب (العدة في شرح العمدة ) .
(14) صحيح البخاري : كتاب الجهاد باب فضل الصيام في سبيل الله 3/123 وصحيح مسلم : كتاب الصوم باب فضل الصيام في سبيل الله 8/33 .
ــــــــــــــ
رمضان وأحكام الصيام
إسماعيل الخطيب
تطوان
3/9/1418
الحسن الثاني
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- فضل شهر رمضان وذكر الذين يُباح لهم الفطر فيه 2- متى يؤمرالصبي بالصوم وشأن الحائض وما يتعلّق بها من أحكم الصيام 3- المخالفات التي تقع في رمضان
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة، ولقد كان سلفنا الصالح يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكان من دعائهم إذا دخل شهر رجب : اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، وكان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا، وكان النبي يبشر أصحابه بقدوم رمضان، وكيف لا، وهو شهر يفتح الله فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، شهر فرض الله صيامه كما فرضه على الأمم السابقة، ومن رحمة الله تعالى ولطفه وتيسيره أن سهل الصوم على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بعدة أشياء، منها:
أن الصوم إنما يكون في نهار رمضان، قال تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل وجاءت السنة تدعوا إلى تعجيل الإفطار وتأخير السحور، وثبت أن أصحاب رسول الله كانوا أسرع الناس إفطارا وأبطأهم سحورا.
وفي أحكام الصيام يتجلى اليسر والتخفيف فالإفطار يباح لسبعة: للمسافر، والمريض، والحامل والمرضع، والهرم، ومن أرهقه الجوع والعطش، والمكره.
فالمرأة الحامل إن خافت على نفسها أو على ولدها أفطرت، وقضت، وكذلك المرضع، أما الشيخ الكبير والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى شفاؤه، فهم يفطرون ويطعمون مسكينا بنحو صاع أو مد أو ما تيسر إن كانوا قادرين على الإطعام، وإلا فالله تعالى كريم جواد لا رب سواه.
ومن اليسر والتخفيف في الصيام أن قطرة الدواء في العين أو في الأذن لا تفطر وكذلك الطيب والكحل، وأخذ الدم للتحليل، والرعاف والحقنة، والشرجية (القوالب) والإبر غير المغذية والغبار، وذوق الطباخ للطعام دون دخوله إلى جوفه، ودواء الربو الذي يؤخذ بطريق الاستنشاق، وتنظيف الأسنان بمعجونها جائز طيلة النهار.
ومن أحكام الصيام التي يجب معرفتها: متى يؤمر الصبي بالصيام، إن الصبيان أمانة في أعناق مربيهم ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، لذلك كان على المربي أن يكلف الطفل ما يطيق وأن يزرع في نفسه الشعور بمسؤولياته تجاه ربه ودينه وقد أرشدنا الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أمر الطفل بالصلاة وهو في سن السابعة تدريبا له على تحمل مسؤوليات العبادة، وقد ذكر العلماء أن الطفل إذا بلغ عشر سنين وأطاق الصيام، أي كانت حالته الصحية تسمح له بالصوم، أخذ به، واستدلوا بأن النبي أمر بالضرب عندها على الصلاة، واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى، ولقد كان الصحابة يصوّمون أطفالهم فإن بكوا من العطش أو الجوع شغلوهم بلعب يتلهون بها، وذلك لتنغرس العبادة في قلوبهم ويتعودوا عليها.
ومن أحكام النساء في الصيام أن المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل وجب عليها أن تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد الفجر، وكذلك النفساء متى انقطع عنها دم النفاس لعشرة أيام أو أكثر أو أقل تبادر إلى الاغتسال وتصلي وتصوم، فإذا اغتسلت الحائض والنفساء ثم رأت شيئا من الصفرة أو الكدرة فلا تبالي به بل تصلي وتصوم والحامل إذا رأت شيئا من الدم فإن ذلك الدم ليس بحيض وإنما هو دم فساد، فتصوم وتصلي وتسأل الله تعالى أن يحفظها ويعافيها، ويعينها، ويهبها ذرية صالحة بمنه وفضله وكرمه.
عباد الله: أقسم النبي أنه ما مر بالمسلمين شهر خير لهم من رمضان، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب تنافس الناس في العبادات والإكثار من الصلوات، وبذل الصدقات والإكثار من تلاوة كتاب الله والذكر والدعاء، إنه شهر القرآن لذلك كان على المؤمن أن يجتهد فيه في تلاوة القرآن، وأن ينظر إليه باعتباره شهرا للجد والاجتهاد، وتطهير القلوب من الفساد.
إنه شهر الصيام و((الصيام جُنّة)) كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، أي وقاية وسترة من الإجرام والآثام، من السب واللعن والغيبة والنميمة والكذب، فالمسلم إذا صام، صام سمعه وبصره ولسانه.
ولقد عمل الشيطان على إفساد ليل رمضان على من أطاعه وعصى الرحمان، فدعاهم إلى جعل ليله مناسبة للسهر على اللهو واللعب وزين لهم تقديم السحور مخالفة للسنة، وترك صلاة الفجر في وقتها، وما ذلك إلا من عدم معرفتهم بجلال هذا الشهر ومكانته وفضله وأنه شهر للعبادة والطاعة يتمنى أهل القبور أن لو مد الله في أعمارهم ليملأ ساعاته بما يرضي الله، وما يجدون ثوابه عند الله.
لقد عمل طائفة من الناس على إفساد شهر رمضان عندما جعلوا منه شهرا لاختيار ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وعندما حولوا لياليه إلى ليالي للسهر في اللهو واللعب، ثم جاء عصر التلفاز والفضائيات فزادت الفساد فسادا بأشغال الناس بكل ما يصدهم عن ذكر الله.
رمضان شهر عبادة، فاستقبلوه بالتوبة واحرصوا فيه على الزيادة من كل أعمال الخير: من تلاوة القرآن وصلاة النوافل والذكر والصدقة وزيارة الأقارب وصلة الرحم، لتنالوا من عفوا الله ورحمته.
ـــــــــــــــ
انتصاف رمضان
عز الدين عوير
الجزائر
11/9/1413
الرحمة
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- إذا خسرنا في رمضان فمتى نربح ؟ 2- العبد مسئول عن عمره وعلمه وماله وجسمه 3- التحذير من تضييع الوقت في رمضان 4- اغتنام الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى 5- حال المسلمين المزري في رمضان 6- نعمتا الصحة والفارغ 7- حرص السلف الصالح على اغتنام أوقاتهم 8- الحث على صيام رمضان وقيامه وإخلاص النية في ذلك
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن شهر رمضان قد اقترب أن ينتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وهل تشوقت أنفسنا لنيل الشرف؟ أيها المحسن فيما مضى منه دم على طاعتك وإحسانك، وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولمها، إذا خسرنا في هذا الشهر متى نربح؟ وإذا لم نسافر فيه نحو الفوائد متى نبرح؟
كان قتادة رحمه الله يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له؛ لما في هذا الشهر المبارك من أسباب المغفرة والرحمة.
فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان، فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه))(1)[1].
نعم إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟ أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها في المقاهي وأمام التلفزيون وفي لعب الكرة أو في غير ذلك مما لا يعود علينا بكبير فائدة، بل قد يباعدنا عن الله تعالى وعن مرضاته، ويقربنا مما يسخطه والعياذ بالله تعالى؟
فالعجب لنا، نعرف ما في هذا الشهر من الخيرات والبركات، ثم لا تطمئن أنفسنا إلا بتضييع أوقاتنا فيما لا يزيدنا إلا بعداً عن الله تبارك وتعالى، وكأن صحفنا قد ملئت بالحسنات، وضمنا دخول الجنات، إلى متى نرضى بالنزول في منازل الهوان؟ هل مضى من أيامنا يوم صالح سلمنا فيه من الجرائم والقبائح؟ تالله لقد سبق المتقون الرابحون، ونحن راضون بالخسران، أعيننا مطلقة في الحرام، وألسنتنا منبسطة في الآثام، ولأقدامنا على الذنوب إقدام، ونغفل أن الكل مثبت عند الملك الديّان.
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي أنه قال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))(2)[2].
فالرؤوف الرحيم يوصينا بمبادرة خمسة أشياء قبل حصول خمسة أخرى، نغتنم حال حياتنا قبل موتنا، وحال صحتنا قبل مرضنا، وحال فراغنا قبل انشغالنا، وحال شبابنا قبل كبرنا، وحال غنانا قبل فقرنا، نغتنمها في طاعة الله والتقرب إليه قبل أن يحل بنا ما يمنعنا من ذلك فنندم على ما فرّطنا في جنب الله ولا ينفع يومئذ الندم.
عباد الله، إننا لا نعرف قدر وقيمة نعمة الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى إلا بعد زوالها وفقدها، فلنغتنم فرصة وجودها، ولنسخرها في كل ما يوصلنا إلى جنات ربنا عز وجل ويباعدنا عن عذابه. هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهرنا، ويتردد في أسماعنا، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيناه خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلوبنا تخشع، ولا عيوننا تدمع، ولا صيامنا يبعد عن الحرام فينفع، ولا قيامنا استقام، فقلوبنا خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا من رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم وزادتهم إيمانا، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار؟! أوليس لنا فيهم اقتداء وأسوة؟! كلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأعمال، سيشهد علينا رمضان، وسيشار لكل واحد منا يوم القيامة: شقي فلان وسعيد فلان، اللهم لا تجعلنا من أهل الشقاء، واجعلنا من أهل السعادة والرضوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )). شبّه النبي في هذا الحديث الإنسان بالتاجر، والصحة والفراغ أي: عدم الشواغل برأس المال لكونهما من أسباب الأرباح ومقدمات النجاح، فمن استعمل صحته وقوته وفراغه ووقته في طاعة الله تعالى ربح في تجارته مع الله عز وجل، ومن استعمل صحته وفراغه ووقته في معصية الله تعالى خسر رأس ماله، فهو مغبون لا يحسن تدبير أموره.
لأجل هذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد الناس حرصًا على اغتنام أوقاتهم في ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وتعلّم دينه والإحسان إلى خلقه، فمن ذلك عامر بن عبد قيس إذ قال له رجل: قف أكلمك، قال: أمسك الشمس، أي إن استطعت أن تمسك الوقت فلا يمر فسأقف، وكان داود الطائي يستف الفتيت، يأكل فتات الطعام، ويقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية، وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدّثتم.
هكذا كانوا عليهم رحمه الله، كانوا أشد الناس بخلا فأوقاتهم، فماذا يقولون لو اطلعوا علينا ورأوا كيف نضيع أوقاتنا، في هذا الشهر المبارك خاصة، وفي سائر أيام السنة عامة؟ فكثير منا من يلهي نفسه في رمضان باللعب واللغو، ويقول: نقتل الوقت حتى يصل الإفطار. وما ندري أننا بتضييع أوقاتنا فيما لا يرضي الله تعالى نقتل أنفسنا، وليس الوقت لأن الوقت محسوب من أعمارنا وحياتنا.(1/229)
فلنستيقظ من غفلتنا أيها المسلمون، ولنستدرك ما فاتنا من رمضان، ولنجعل ما بقي من شهرنا أحسن مما فات، ولنتذكر قوله : ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(3)[1]، وقوله أيضا: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(4)[2].
فمن صام رمضان لله تعالى، وطاعة له ليس لأجل أنه رأى الناس صاموا فصام، ورجاء ثوابه، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام لياليه مصليا مخلصا لله تعالى ورغبة في مثوبته غفر له ما تقدم من ذنبه وخرج من رمضان كيوم ولدته أمه، بل لقد قال : ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة))(5)[3]، فمن صلى صلاة التراويح مع الإمام حتى ينتهي من آخر ركعة منها، كتب له أجر قيام ليلة بأكملها، هذا من فضل الله على عباده المؤمنين، ولكن أكثر الناس عن شكر هذه النعمة غافلون.
فمن أراد الفوز بالجنة والنجاة من النار، فما عليه إلا اغتنام وقته وصحته وماله في هذا الشهر المبارك خاصة، في طاعة الله تعالى والتقرب إليه، فلعل الواحد منا يكون هذا الشهر آخر رمضان يعيشه، فيكون ممّن أعتق فيه من النار.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
__________
(1) أخرجه الترمذي وهو صحيح.
(2) أخرجه الحاكم وهو صحيح ، صحيح الجامع [1077].
(3) متفق عليه عن أبي هريرة.
(4) مسلم عن أبي هريرة .
(5) الأربعة عن أبي ذر وهو صحيح.
ــــــــــــــــ
فضائل شهر رمضان
أحمد فريد
الإسكندرية
غير محدد
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- موعظة في استقبال رمضان. 2- خصوصيات شهر رمضان. 3- تعريف الصوم. 4- فوائد الصوم. 5- صيام الجوارح. 6- رمضان شهر القرآن والقيام والإنفاق.
-------------------------
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
قال الله عز وجل: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [البقرة:185].
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة.
يا من دامت خسارته، قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.
من لم يربح في هذا الشهر، ففي أي وقت يربح.
من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.
عباد الله هبت على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق .
لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل ،فلم يبق للعاصي عذر، يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، قد مدت في هذه الأيام، موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعى: يا قومنا أجيبوا داعي الله [الأحقاف:31].
فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعى.
قال المعلّى بن الفضل: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وقال يحي بن أبي كثير: كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلا .
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنة ))(1)[1]).
وله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ))(2)[2]) وفي رواية عند مسلم ((فتحت أبواب الرحمة)).
قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره، وحقيقته أن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر، وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين.
قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن إعجازهم عن الإغواء وتزيين الشهوات.
وهذا الشهر عباد الله مدرسة ربانية رحمانية تفتح أبوابها كل سنة شهرا كاملا يتدرب فيه العباد على طاعة الله عز وجل والإمساك عن معاصيه، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والعمرة وسائر الطاعات .
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : قال الله: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه ))(3)[3]).
والصيام في اللغة هو الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة، فهو إمساك المكلف بالنية عن الطعام والشراب والشهوة من الفجر إلى المغرب.
وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:
منها كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
ومنها تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد يقسي القلب ويعميه، وخلو البطن من الطعام والشراب، ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للفكر والذكر.
ومنها أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بامتناعه عن هذه الشهوات في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك بتذكر من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك.
ومنها أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي الصوم وجاءً؛ لقطعه عن شهوة النكاح.
ولا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك الشهوات المباحة في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال، من الكذب والظلم والاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ))(4)[4]).
قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام.
وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا.
والصائمون على طبقتين: أحدهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح، فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24].
قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين .
وفي الصحيحين عن النبي قال: ((إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم))(5)[5]). وفي رواية: ((فإذا دخلوا أغلق)) وفي رواية: ((من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا)).
والطبقة الثانية من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته .
أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم أجلّ من ذلك .
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت [العنكبوت:5].
وقوله عز وجل في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) معناه أن الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة، بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
وقيل الحكمة في إضافة الصيام إلى الله عز وجل، أن الصيام هو ترك حظوظ النفوس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها، من الطعام والشراب والنكاح، ولا يوجد ذلك في غيره من العبادات.
قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، وقيل: لأن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها دائما، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، والله عز وجل يحب من عباده أن يعاملوه سرا.
وشهر رمضان له خصوصية بالقران كما قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [البقرة:185].
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنزل جملة واحدة من اللوح الحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر ويشهد لذلك قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر [القدر:1].
كان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
والشهر عباد الله مجاهدة بالليل والنهار، فكما أن العبد يجاهد نفسه بالصيام ويلزمها بأخلاق الصائمين، يجاهد نفسه كذلك بالقيام تشبها بالصالحين. قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))(6)[6]).
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يؤما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا قرب الفجر.
والشهر كذلك عباد الله تدريب على الإنفاق وكثرة الجود، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة (7)[7]).
فقد كان النبي أجود الناس وكان جوده لله وفي ابتغاء مرضاته، وكان جوده يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضا، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة.
ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك، فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود.
وفي تضاعف جوده في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:
منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، فإن العمل يشرف ويزداد ثوابه لشرف الزمان، أو المكان، أو لشرف العامل وكثرة تقواه.
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا.
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء.
كما قال : ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (8)[8]).
فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم الجنازة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة ))(9)[9]).
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وقد قال : ((الصيام جنة))(10)[10]). وقال : ((الصدقة تطفئ الخطيئة))(11)[11]).
قال أبو الدرداء: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
ومنها: ما قاله الشافعي رحمه الله: أَحِبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان، اقتداء برسول الله ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم عن مكاسبهم، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا.
اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وحاضرنا وغائبنا.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد .
__________
(1) البخاري (4/112) الصوم : هل يقال رمضان أو شهر رمضان ومسلم (7/87) أول كتاب الصوم رقم (1898).
(2) البخاري (4/112) الصوم ، رقم 1899.
(3) البخاري (4/103) الصوم : باب فضل الصوم ومسلم (8/32) في الصيام : باب فضل الصيام.
(4) رواه البخاري (4/16) في الصوم : باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم وفي الأدب باب قول الله تعالى: واجتنبوا قول الزور ورواه أبو داود (6/488) في الصوم ك باب الغيبة والترمذي (3/226) باب ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم .
(5) البخاري (4/111) في الصوم : باب الريان للصائمين ومسلم (8/32) في الصيام : باب فضل الصيام.
(6) رواه البخاري (4/250) التراويح : باب فضل من قام رمضان.
(7) رواه البخاري (4/116) الصوم : باب أجود ما كان النبي يكون في رمضان ، ومسلم (15/68،69) الفضائل : جوده .
(8) رواه الطبراني في الكبير عن جرير. وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 317، (2/293).
(9) أخرجه مسلم في صحيحه (3/92) ، (7/110) والبخاري في الأدب المفرد (75) - أحكام الجنائز 69.
(10) 10])رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وتقدم تخريجه .
(11) 11])لم أقف على لفظه وقد روى الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء)) وحسنه الترمذي ولكن ضعفه الألباني في الإرواء حديث 885 (3/390) وذكره الألباني في الصحيحة رقم 1908(4/535) لفظ ((صدقة السر تطفئ غضب الرب)) وقال حفظه الله بعد أن ذكر طرق الحديث : وجملة القول أن الحديث بجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب بل يلحق بالمتواتر عند بعض المحدثين المتأخرين.
ــــــــــــــــ
التذكرة فيما بعد رمضان
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- موعظة في الإقبال على العمل الصالح 2-علامات قبول العمل 3- أعمال صالحة بعد رمضان
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله ربكم، فإنه عفو غفور جواد شكور، وهو وحده مصرف الشهور، ومقدر المقدور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهو عليم بذات الصدور. وقد جعل لكل شيء أسبابًا، ولكل أجل كتابًا، ولكل عمل حسابًا، وما ربك بغافل عما تعملون، وجعل الدنيا سوقًا يغدو إليها الناس ويروحون منها، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، وإنما يظهر الفرقان ويتجلى الربح من الخسران يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التغابن:9،10].
أيها المسلمون:تذكروا أن الأيام أجزاء من العمر، ومراحل في الطريق إلى المستقر، تفنونها يومًا بعد آخر، ومرحلة تلو الأخرى، ومضيها في الحقيقة استنفاذ للأعمار، واستكمال للآثار، وقرب من الآجال، وغلق لخزائن الأعمال، إلى حين الوقوف بين يدي الكبير المتعال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
فاتقوا الله عباد الله في سائر أيامكم، وراقبوه في جميع لحظاتكم، وتقربوا إليه بصالح أعمالكم، والتوبة إليه من معاصيكم وسيئاتكم.
أيها المسلمون: في الأيام القليلة الماضية كنتم في شهر رمضان شهر البركات والخيرات، شهر مضاعفة الأعمال والحسنات، تصومون نهاره، وتقومون ما تيسر من ليله، وتتقربون إلى ربكم سبحانه بفعل الطاعات، وهجر المباح من الشهوات، وترك السيئات الموبقات، ثم مضت تلك الأيام وقطعتم بها مرحلة من مراحل العمر، والعمل بالختام، فمن أحسن فليحمد الله وليواصل الإحسان، ومن أساء فليتب إلى الله وليصلح العمل ما دام في وقت الإمكان.
واعلموا أن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، وإن الله تعالى إذا أراد بعبده الخير فتح له بين يدي موته باب عمل صالح يهديه إليه، وييسره عليه، ويحببه إليه، ثم يتوفاه عليه، وكل امرئ يبعث على ما مات عليه، فالزموا ما هداكم الله له من العمل الصالح، واحذروا الرجوع إلى المنكرات والقبائح، فليس للمؤمن منتهى من العباد دون الموت، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
فنهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته ليست مقصورة على رمضان، بل لا ينقطع مؤمن من صالح العمل إلا بحلول الأجل؛ فإن في استدامة الطاعة وامتداد زمانها نعيمًا للصالحين، وقرة أعين المؤمنين، وتحقيقًا لأمل المحسنين، يعمرون بها الزمان ويملأون لحظاته بما تيسر لهم من خصال الإيمان التي يثقل بها الميزان، ويتجمل بها الديوان، وفي الحديث: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)) (1)[1]. وفي الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يتمنَّين أحدكم الموت؛ إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب)) (2)[2]. وفي رواية لمسلم عنه عن رسول الله قال: ((لا يتمن أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)) (3)[3].
أيها المسلمون: ألا وإن لقبول العمل علامات، وللكذب في التوبة والإنابة أمارات، فمن علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة عمل السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامة على قبولها، وتكميلاً لها، وتوطينًا للنفس عليها، حتى تصبح من سجاياهم وكرم خصالها، وأتبعوا السيئات بالحسنات تكن كفارة لها، ووقاية من خطرها وضررها: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ [هود:114]. وفي الحديث الصحيح عن النبي قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (4)[4]. وفي لفظ: ((وإذا اسأت فأحسن)) (5)[5]. وقال : ((من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)) (6)[6]. أي لتكن كفارة لحلفه بغير الله.
وإن الله تعالى قد شرع لكم بعد رمضان أعمالاً صالحة تكن تتميمًا لأعمالكم، وقربًا لكم عند مليككم، وعلامة على قبول أعمالكم، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) (7)[7]. وكان يصوم الاثنين والخميس ويقول: ((تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) (8)[8]. وفي الصحيحين عن النبي قال: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله)) (9)[9]. وقال : ((أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) (10)[10].
فاغتنموا هذه الأعمال العظيمة وداوموا عليها ؛ فإن عمل نبيكم كان ديمة، واسألوا الله من فضله فإنه ذو الفضل العظيم، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وسلك بنا سبيل أولي التقى، وثبتنا على الحق في الحياة الدنيا وفي الآخرة: سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد.
__________
(1) صحيح، أخرجه أحمد (4/188، 190)، والترمذي ح (2329، 2330) وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
(2) صحيح البخاري ح (5349)، صحيح مسلم ح (2680) بمعناه.
(3) صحيح مسلم ح (2682).
(4) حسن، أخرجه أحمد (5/153، 157)، والترمذي ح (1987) وقال: حسن صحيح.
(5) أخرجه الإمام أحمد (5/181) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ستة أيام ثم اعقل يا أبا ذر ما أقول لك بعد)) فلما كان اليوم السابع قال: ((أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدًا شيئًا وإن سقط سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا تقضي بين اثنين)). قال البنا في "بلوغ الأماني" (19/194): والحديث ضعيف لأن في إسناده دراج عن أبي الهيثم" ودراج هو: دراج بن سمعان السهمي قال ابن حجر: صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعْف. التقريب (1833).
(6) أخرجه البخاري ح (4579)، ومسلم ح (1647).
(7) صحيح مسلم ح (1164).
(8) صحيح، أخرجه أحمد (5/201)، والترمذي ح (747) وقال: حسن غريب، والنسائي ح (2358).
(9) أخرجه البخاري ح (1878) واللفظ له، ومسلم ح (1159).
(10) 10] صحيح، أخرجه الترمذي (2485) وقال: حديث صحيح، وابن ماجه ح (1334).
ـــــــــــــــ(1/230)
انبثق الوليد ( رمضان )
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- انقضاء الأعمال من غير بركة. 2- رمضان شهر البطولة والأمجاد. 3- رمضان شهر القرآن ، وحال السلف فيه مع القرآن. 4- الإنفاق والإطعام في رمضان. 5- رمضان شهر القيام.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن عظم رمضان وجماله، وبهاء الشهر العظيم وروعته، بدا ظاهرا جليا فيما يلتزمه المسلمون في شهرهم هذا من مظاهر الطاعة في كل اتجاهاتها، طاعة فيها كل معاني السمو الروحي، التي تكبح جماح النفس عن نزواتها، وتحد من هفواتها وشهواتها، تتغلب فيه الروح على البدن والجسد، وتكون النفس المؤمنة، أكثر استعدادا لقبول نفحات خالقها ـ جل وعلا ـ.
عباد الله، قبل ليال، انبثق في كبد السماء، هلال رمضان الوليد، انبثق ذلك الوليد؛ ليعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، أن خالقهم قد آذنهم بشهر، له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظ، وكأنه لهم موسم ربيع، انبثق ذلك الوليد بعد أن ظلوا أحد عشر شهرا، وهم سائرون في مسالك الحياة، ينالون منها، وتنال منهم. انبثق ذلك الوليد، فتساءل الناس في دهشة وذهول، ما أسرع ما عادت الأيام، ورجعت الذكريات!.
إن الزمن، يجري بسرعة عجيبة، فهو دائب الحركة ليلا ونهارا، يتساءل الناس من كان بلغ العشرين من عمره، أو الثلاثين، أو أكثر أو أقل يتساءل عن تلك الأيام التي عاشها، والليالي التي قضاها، فلا ينفك يراها ماضيا تركه خلفه، لن يعود له مرة أخرى.
يشعر الناس جميعا بذلك صغيرهم وكبيرهم لا سيما عند لقاء ربهم حفاة عراة غرلا قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ [المؤمنون:112، 113].
على هذه البسيطة، يشب الطفل، ويشيخ الشاب، ومع ذلك ينظر المرء إلى عمره، فلا يجد إلا ماضيا لا يدري ما أوله وآخره، ولكن المرء الذي لا يدري ما كان، يجب أن يعلم، أن الله سجل عليه كل ما كان هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].
أيها المسلمون، تعارف كثير من الناس، على أن يتخذوا من رمضان، شهرا للتراخي والكسل، والتخفف من الجد في العمل، مع أن رمضان في تاريخ الإسلام، شهر جد واجتهاد، بل هو شهر بطولات وأمجاد، بطولات وأمجاد بكل ألوانها وأنماطها، بطولة الصراع في الميدان، بين الكفر والإسلام، وبطولة اليقين والإيمان، وبطولة التأبي على الشهوات، وبطولة الترفع عن خسيس الملذات. ولرمضان من كل هذه البطولات، حظه الوافر، في الماضي والحاضر، من تاريخ الأمة الإسلامية.
رمضان شهر مبارك يلمح فيه المسلم عدة خصال، فهو شهر القرآن إنزالا ومدارسة، شهر القرآن يوم يلقى جبريل ـ عليه السلام ـ رسول الله فيدارسه القرآن، شهر القرآن، وما أدراك ما شهر القرآن؟! إن الإنسان بلا قران، كالحياة بلا ماء ولا هواء، بل إن الإفلاس، متحقق في حسه ونفسه، ذلك أن القرآن، هو الدواء والشفاء وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44].
شفاء القلوب وشفاء الأبدان، فكلما ضاقت أمام المرء مسالك الحياة وشعابها، وافتقد الرائد عند الحيرة، والنور عند الظلمة، وجد القرآن خير الملجأ، لا يمل حديثه، وترداده يزداد به تجملا وبهاء، وجد في القرآن الملجأ والمعتصم إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
كان بعض السلف، يختم في رمضان، في كل ثلاث ليال، وبعضهم في سبع، وبعضهم في عشر. وكان للشافعي ـ رحمه الله ـ، ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وكذا عن أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ، وكان مالك ـ رحمه الله ـ، إذا دخل رمضان، أقبل على تلاوة القرآن، وترك قراءة الحديث، وإنما ورد النهي عن النبي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، وهذا قول الإمام أحمد وإسحاق، وغيرهما من الأئمة.
هذا الشهر المبارك، شهر القرآن، يشد الناس إلى الدين، يذكرهم بحق الله، تشم رائحة الدين في كل مجلس تجلس فيه، تحس بإقبال الناس على كتاب الله، يقرؤونه، ويسمعونه، ويتدبرون آياته، إنه يرفع في نفوس الناس درجة الاستعداد، لتغيير ما في النفس، حتى يغير الله ما بهم إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
يشعرهم القرآن بضرورة هذا الدين لهم، كضرورة الماء والهواء، وإن كل أمة تهمل أمر دينها وتعطل كلمة الله في مجتمعها، فإنما تهمل أعظم طاقاتها، وتعطل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة، وكل أمة يفقد التدين في مجتمعها، تضطرب أمورها، ويموج بعضها في بعض، ويقلب الله عزها ذلا، وأمنها خوفا، وإحكامها فوضى.
وشهر رمضان: شهر الجود وسعة العطاء: ففي الصحيحين من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ((كان النبي أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة))(1)[1].
فرسول الله أجود بني آدم على الإطلاق، وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله ـ تعالى ـ في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم.
ومن هنا نعلم أن هذا الشهر المبارك، عون للمسلم على الجود، فسكون النفس، وخفتها في المأكل والمشرب، وكثرة المدارسة للقرآن، الذي يحث على المكارم والجود، كل ذلك له تأثير في الواقع.
فالجمع بين الصيام والصدقة، موجب من موجبات الجنة قال رسول الله : ((إن في الجنة غرفا، يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)) قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)) [رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه](2)[2].
فيا أيها الأغنياء في كل قطر، ويا أيها الأثرياء في كل مصر، إن كان الله ـ تعالى ـ قد تفضل عليكم ورزقكم من الطيبات، وأغناكم عن الحاجة، وصان وجوهكم عن مذلة السؤال، فقد وجب عليكم أن تشكروه على ما منحكم لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
اتقوا الله في البؤساء، الذين أصابتهم الشدائد، والفقراء المحتاجين، من أرباب العيال.
فمن القسوة أن تمنعوا المعونة، وتقبضوا أيديكم شحا وبخلا، أمن الرحمة أن تكونوا في رغد من العيش، وسعة من الرزق، ومن أبقت عليهم صروف الحياة، في شدة من الضيق، وألم من الإعسار؟ أمن المروءة أن تتمتعوا بملابس الزينة، وأخوكم المسلم، يحرقه حر الصيف، ويقرصه برد الشتاء.
إن الغني الذي لا يحس بأن عليه للفقراء حقوقا وواجبات، لقاسي القلب، خال من الشفقة، بعيد من رحمة الله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]. ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح](3)[3].
إن من الأغنياء، من لا يئن لمتألم، ولا يتوجع لمستصرخ، ولا يحن لبائس، تجرد من العاطفة وحنان الإخاء، يقع أمامه من الحوادث، ما يؤلم القلب ويدمع العين، فلا يتأثر ولا يلين، بل تجده كالصخرة الصماء، وما علم أولئك أن مالك الملك، وخالق الخلق، قادر على أن ينزع عن الغني لباس الغنى، ويعطي البائس الفقير ما يرضيه من متاع الحياة قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:26].
فاتقوا الله أيها الأغنياء، واصنعوا المعروف في أهله ما استطعتم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، واعلموا أن ما يضيعه البعض منكم في الكماليات لكثير، وقد ينفق في لحظة قصيرة ما يكفي البائس الفقير زمنا طويلا، فأدخلوا السرور على المساكين بالبر والإحسان، لعل الله أن يرحم الجميع، ويكشف ما بهم من ضيق وشدة، وذل وبلاء.
عباد الله، كما أن شهر رمضان، شهر جود وإنفاق، فهو كذلك شهر قيام لله ـ تبارك وتعالى ـ، قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه](4)[4].
ياأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ % قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً % نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً % أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً % إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً % إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:1-6].
وناشئة الليل هي أوقاته وساعاته. والمقصود، أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، وأوقات المعاش.
وكان عمر بن الخطاب ، قد أمر أبي بن كعب، وتميما الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر، وهذا كله عن رغبة منهم، وحرص وعزيمة.
ومن أم قوما يستثقلون الإطالة، فليخفف القراءة على ما يحتمله الناس، فقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله لبعض أصحابه، وكان يصلي بهم في رمضان: "هؤلاء قوم ضعفى، اقرأ خمسا، وستا، وسبعا" يعني من الآيات.
قال رسول الله : ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)) والمعنى: يكتب له قنطار من الأجر. [رواه أبو داود بإسناد حسن][5].
أيها المسلمون، هذا شهر رمضان، أتى ليكون فترة تأديبية، تعلم المرء كيف يهدأ، وكيف يخفف من جماح رغباته، وإسراف شهواته، فها هي المفطرات تكون من حوله، وليس عليه من رقيب أو حسيب، سوى خالقه ومولاه، المطلع على الضمائر والسرائر، قال رسول الله : ((قال الله ـ عز وجل ـ: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)) [رواه البخاري][6].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك، فإن لله نفحات، من حرمها حرم خيرا كثيراً.
اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
---------------
[1] أخرجه البخاري ح (6)، ومسلم ح (2308).
[2] حسن، مسند أحمد (1/156)، سنن الترمذي ح (2527) وقال: حديث غريب. مستدرك الحاكم (1/80 ـ 81) وقال: صحيح على شرطهما. ووافقه الذهبي.
[3] صحيح، سنن أبي داود ح (4941)، سنن الترمذي ح (1924).
[4] صحيح البخاري ح (37)، صحيح مسلم ح (759).
[5] صحيح سنن أبي داود ح (1398).
[6] صحيح البخاري ح (5927)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1151).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا كما أن لشهر رمضان حوافز ومرغبات، فإن هناك مزعجات ومنغصات، بدت جلية ظاهرة، سببها قصور بعض الناس، الذين يستثقلون هذا الشهر المبارك، ويستعظمون مشقته، فهو كالضيف الثقيل عندهم، يرتقبون خروجه بفارغ الصبر، ويتطلعون إلى انقضائه مشرئبين، اعتادوا على التوسع في الملذات والشهوات من المآكل والمشارب، يأكلون الأرطال، ويشربون الأسطال، وينامون النهار ولو طال، أغرقهم طوفان السُّعار[1] المادي، فجعلهم يطلبون ولا يعطون، ويشتهون ولا يصبرون، ويحسنون الجمع ولا يعرفون القسمة، حتى حطم فيهم روح المغالبة والمقاومة، تراهم ذئابا في الليل، جيفا في النهار، فلا عجب ألا يجد هؤلاء من اللذة والراحة، بهذا الشهر المبارك، ما يجده المؤمنون الصادقون.
ومنغص آخر من منغصات الناس في رمضان، تلكم الحركة النشطة، التي تبثها قنوات الأقمار المرئية، التي تنشر الإثم عاريا، وتحلق الدين قبل أن تحلق العفاف والحياء، جعلوا من رمضان موسم طرب وسهر، تبث فيه الأفلام الرخيصة، والدعايات المضللة، وإن كان للإسلام نصيب في تلك القنوات، فهو إسلام مشوه الصورة، ترى معه القبلات واستجداء اللحظات، صارت وباء كاملا، فاحتلت كل مكان، وجذبت إليها الرشيد والسفيه، والقويم والفاسد، وبذلك تخسر الأمة في كل لحظة مواطنا صالحا، يضل ضلالة، يغش بها ويخدع، ويسرق ويحتال، تمتعا بهذا الترف المرئي، والداء المستشري، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنغص ثالث من تلك المنغصات، المرأة المسلمة؛ ما دورها في رمضان؟ أيكون شغلها الشاغل، التفنن في المأكل والمشرب؟ ماذا أدت لخالقها في هذا الشهر؟ كيف يطيب لها إن تسامت إلى الخير، أن تختلي بأجنبي دون محرم؟ كيف يطيب لها أن تخرج إلى المسجد مع سائقها متعطرة متبرجة، قد اصطحبت أطفالها في سذاجة وبلادة، وكأن المصلي هي وحدها؟ آذت وآنت، فما صلت ولا صامت، تحملت الوزر من حيث أرادت الأجر، ربما اعتمرت فطافت وسعت، ثم قصرت فحلت إحرامها، خرجت إلى الأسواق كاشفة الوجه أو العينين، أثارت كوامن الشهوة بعينيها، فعلت بألباب الرجال كما تفعل الخمرة بالعقول، فهي خراجة ولاجة، زرعت بتبرجها دروب الناس ألغاما، طافت بالأسواق، وسعت بين الغادي والرائح، ثم قصرت عن طاعة الله فحلت حياءها، فقارنوا - رحمكم الله - بين هاتين العمرتين!!.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية محمد بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة...
[1] السُّعار: شدة الجوع ، وحر النار (لسان العرب ، مادة سعر).
((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)) الأعراف-199
ـــــــــــــــ
شهر رمضان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
"رمضان موسم عظيم -العمر كله موسم - مضاعفة الأجر في رمضان أعظم الأعمال : الصيام - القيام - القرآن - الصدقة - العمرة "
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد فقد قال الله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [البقرة:185]. هذا الشهر المبارك موسم عظيم للخير والبركة والعبادة والطاعة والمؤمن الصادق كل الشهور عنده مواسم للعبادة والعمر كله عنده موسم للطاعة , ولكنه في شهر رمضان تتضاعف همته للخير وينشط قلبه للعبادة أكثر ويقبل على ربه سبحانه وتعالى , وربنا الكريم من جوده وكرمه تفضل علي المؤمنين الصائمين فضاعف لهم المثوبة في هذا الموقف الكريم واجزل لهم العطاء والمكافئة على صالح الأعمال , واعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أعظم الأعمال في هذا الشهر الكريم الصيام نفسه ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ))(1)[1]. أي سبعين سنة , فإذا كان صيام يوم واحد يباعد العبد عن النار سبعين سنة فما بالك بصيام شهر رمضان كله , والصيام طريق إلى الجنة وباب من أبوابها فعن سهل بن سعد الساعدي رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إن للجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه أحد غيرهم ))(2)[2], والصيام مثل القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام أي رب منعته الشراب والطعام في النهار فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه, قال: صلى الله عليه وسلم يشفعان أي فيشفعان ))(3)[3].
و صيام شهر رمضان خصوصاً يمحو الذنوب ويكفر السيئات ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))(4)[4], وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ما اجتنب الكبائر ))(5)[5] فدل هذا الحديث على أن المراد تكفير ما سوى الكبائر من الذنوب أما الكبائر فلا يمحوها إلا التوبة الصادقة, واعلموا أن من أجل الأعمال أيضاً وأعظمها في هذا الموسم العظيم القيام أو صلاة الليل سواء كان مع الإمام في صلاة التراويح أو كان القيام في البيت منفرداً وحده في أخر الليل وهذه أفضل من تلك كما قال عمر الفاروق رضى الله عنه: " والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون " , قال الله تعالى لنبيه ومصطفاه يأيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً [المزمل:1-4], وقال سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أمراً أو نادباً أمته إلى قيام الليل (( يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ))(6)[6], وقال صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان على وجه الخصوص (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))(7)[7], وقال عن القيام مع الإمام في صلاة التراويح على وجه الخصوص أيضاً (( من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ))(8)[8] من قام مع الإمام حتى ينصرف أي ينتهي من صلاته كتب له قيام ليلة كأنما قام تلك الليلة كلها في الفضل والأجر والثواب , ولقد صلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح بأصحابه ولكنه لم يزد علي إحدى عشر ركعة وصلاها الصحابة بعده في عهد الصديق إحدى عشرة ركعة وكذلك في أول عهد الفاروق عمر ثم صلوها إحدى وعشرين وفي رواية ثلاث وعشرين فدل ذلك على أن كلاً سنة وعلى أن هذا الأمر فيه سعة.
و اعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أجل الأعمال وأعظمها أيضاً في هذا الموسم الكريم قراءة كتاب الله عز وجل وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار فهذا شهر القرآن شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن , وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل هذا الشهر الكريم شمر وأيقظ أهله وكان يلتقي فيه بأمين وحي رب العالمين جبريل يدارسه القرآن ويعرض عليه القرآن , وقال صلى الله عليه وسلم (( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ))(9)[9], والقرآن كما سبق أن ذكرنا يشفع لصاحبه يوم القيامة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف البقرة وآل عمران بالزهراوين وقال (( إنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان يحاجان عن صاحبهما ))(10)[10] أي عن الذي يحفظهما ويقرأ بهما دائماً يأتيان يذبان عنه ويدافعان ويحاجان عنه يوم القيامة , وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أن سورة الملك: تبارك الذي بيده الملك تذب عن صاحبها في القبر من يحفظها ويقرأ بها تذب عنه وتدافع عنه عذاب القبر(11)[11]. فعليكم بهذا الكتاب العظيم اقرؤوا كتاب الله عز وجل واتلوه آناء الليل وأطراف النهار فإن من أراد أن يناجي ربه فليقرأ هذا القرآن العظيم فإنه كلام الله ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [القمر:32-40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد فاعلموا أن من أجل الأعمال أيضاً وأعظمها وخاصة في هذا الموسم العظيم البذل والإنفاق علي الأهل والعيال والأرحام والصدقة علي الفقراء والمساكين والمحتاجين فهذا الشهر شهر البذل والإنفاق والجود والكرم وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأعظمهم جوداً وكرماً وبذلاً وسخاءً وإنفاقاً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر قط وقد أعطى رجل من أصحابه ما بين جبلين من الماشية(12)[1] وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاء هذا الشهر الكريم يكون أعظم ما يكون جوداً وكرماً يصير مثل الريح المرسلة كما قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما(13)[2] , والصدقة من أعظم أبواب البر قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (( والصدقة برهان ))(14)[3] أي دليل على صدق إيمان العبد لأنه بذلك يكون قد تغلب علي الطبيعة المغروسة في الإنسان وهي الشح: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9], وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصدقة فقال: (( أيها الناس تصدقوا )) وقال: (( اتقوا النار ولو بشق تمرة )) وأمر النساء على وجه الخصوص بالإكثار من الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: (( تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار )).(1/231)
واعلموا أيضاً أن من أعظم الأعمال صدقة السر الصدقة التي تنفقها بيمينك فلا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك مبالغة في السر بحيث تكون أبعد عن الرياء والسمعة هذه الصدقة تطفئ غضب الرب كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (( صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر )), أما الصدقة المعلنة في الجرائد وأعمال الخير التي يطبلون لها ويزمرون مع وصف صاحبها بمختلف الأوصاف " المحسن الكبير " " صاحب أعمال الخير " فلان وفلان هذه صدقة الرياء والسمعة تذهب هباء منثوراً لا تنفع صاحبها عند الله عز وجل, لا تطفئ غضب الرب بل ربما تزيد غضبه عز وجل.
و اعلموا أيها المؤمنون الصائمون أن من أعظم الأعمال وأجلها في هذا الموسم الكريم العمرة إلي بيت الله الحرام فإنها تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (( لما رجع من حجة الوداع قال لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان : ما منعك أن تحجي معنا؟ فقالت: أبو فلان تعني زوجها أبو فلان له ناضحان حج على أحدهما والأخر نسقي عليه. فقال لها صلى الله عليه وسلم: فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة معي ))(15)[4]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على صيام هذا الشهر الكريم وعلى قيام هذا الشهر الكريم وعلى الطاعة والعبادة فيه . أن تعيننا فيه وفي غيره على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وعلى تلاوة كلامك العظيم آناء الليل وأطراف النهار ونسألك أن تتقبل منا ذلك كله يا كريم يا رحيم .
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(16)[5]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
__________
(1) صحيح البخاري (2840) صحيح مسلم (1153).
(2) صحيح البخاري (1896) صحيح مسلم (1152).
(3) مسند أحمد (2/174).
(4) صحيح البخاري (1901) صحيح البخاري (760) من أبي هريرة رضي الله عنه .
(5) صحيح مسلم (233).
(6) سنن الترمذي (2485) وقال : حديث صحيح ، سنن ابن ماجة (1334) عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
(7) صحيح البخاري (2009) صحيح مسلم (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) سنن الترمذي (806) وقال : حسن صحيح ، سنن النسائي (1605) سنن ابن ماجة (1327) عن أبي ذر رضي الله عنه.
(9) سنن الترمذي (2910) وقال : حسن صحيح غريب. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(10) 10] صحيح مسلم (804) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
(11) 11] سنن الترمذي (2890) عن ابن عباس ، وقال : حديث حسن غريب.
(12) صحيح مسلم (2312) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(13) صحيح البخاري (1902)، صحيح مسلم (2308).
(14) صحيح مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(15) صحيح البخاري (1863) ، صحيح مسلم (1256).
(16) صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــ
وداع رمضان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
5/10/1411
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
درس من وداع رمضان - دوام انفتاح أبواب الخير - أنواع من نوافل الصيام - القيام بعد رمضان - أهمية السنن الرواتب
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
إن من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين توفيقهم للطاعات وفعل الخيرات من صيام وقيام وقراءة للقرآن وصدقة وغير ذلك ومن أعظم هذه النعم أن يبلغهم شهر رمضان ذلك الموسم العظيم الحافل بالبركات والهدى والنور والفرقان, ذلك الموسم العظيم الذى تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران, ولله فيه عتقاء من النيران نسأل الله أن يجعلنا منهم. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان, فإذا ما بلغوه وصاموه وأحيوا ليله حتى أتموه سألوا الله تعالى ستة أشهر أن يتقبله منهم.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل منا أجمعين ويتوب علينا أجمعين وأن يبلغنا رمضان سنوات كثيرة عديدة عامرة بطاعته سبحانه مزدهرة بعبادته.
أيها المؤمنون: هذا هو رمضان ولى وانصرم كأنما هو طيف عابر مر ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. هكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر, يكون بعضنا غارقاً في شهواته حتى يغزو الشيب مفرقيه نظير أجل محتوم قد يحل بساحته, قد يحل الأجل والغافل لم يستقر بعد للرحيل, فإذا حانت ساعة الميعاد, فلات حين مناص, يحمل الغافل على الأعواد ويدس بين الإلحاد والذنب كثير والعمل قليل وحينئذ لا ينفعه أي عض على أصبع الندم ولا أن يهتف وينادي يا ليتنى أرد فأعمل غير الذى كنت أعمل, فالعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة, فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود.
فاغتنم أيها المؤمن هذه الفرصة قبل أن تموت, فإن أبواب الخير مفتحه أمامك في رمضان وغير رمضان, أبواب الخير والطاعات والعباده مفتحه أمامك في رمضان وفي غير رمضان.
فالصيام مثلاً ليس قاصرا على شهر رمضان, فقد سن لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله))(1)[1] وسن لنا أيضا صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله))(2)[2] رواه مسلم.
والأفضل أن يصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا ذر إذا صمت ثلاثة من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر))(3)[3] رواه أحمد والنسائي.
وسن لنا أيضا صيام يوم عرفة وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وصيام يوم عاشوراء وأخبرنا أنه يكفر السنة الماضية, وسن لنا صيام الإثنين من كل أسبوع وقال إنه يوم ولدت فيه وفيه أنزل علي.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصيام بعد رمضان فقال: ((أفضل صيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم))(4)[4] وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الإثنين والخميس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس وأحب أن يعرض عملى وأنا صائم))(5)[5].
وعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: ((ما أكمل رسول الله شهراً قط إلا شهر رمضان وما رأيته أكثرصياماً منه في شعبان))(6)[6] فالحمد الله رب العالمين ذلك الصيام, وهو من أعظم العبادات, أبوابه مفتحه مشروعة في كل الشهور طوال السنة, فاغتنم الفرصه أيها المؤمن, فإن من صفات المؤمنين والمؤمنات أنهم صوامون قوامون قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17]. فصلتهم بربهم عز وجل الذى يحبهم ويحبونه, صلتهم لا تنقطع أبدا, فهم دائما وفي كل حين يذكرونه سبحانه وتعالى ويناجونه أما ذلك الذي لايعرف ربه إلا في رمضان, فإذا ما خرج من رمضان, أعرض عن ربه ونسي ذكره, ذلك في حبه لربه شك وارتياب, هذا ليس من شأن المحب أنه لا يذكر حبيبه إلا شهرا واحدا في السنة.
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعمروا أيامكم وشهوركم عمركم كله بذكر الله عز وجل ومناجاته وعبادته.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب رسولك وحب من يحب رسولك وحب عمل يقربنا إليك.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ونعوذ بك من سخطك والنار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد فإن من بركات شهر رمضان قيام الليل ولكنه أيضا ليس خاصا برمضان, فربنا عز وجل كما أخبرنا النبي ينزل في كل ليلة من ليالى السنة إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر فيقول: ((هل من تائب فأتوب عليه, هل من مستغفر فأغفر له, هل من سائل فأعطيه سؤله))(7)[1] ولذلك سن لنا النبي القيام والصلاة في هذا الوقت الجليل المبارك.
وصلاة الليل مثنى مثنى أي ركعتين ركعتين, يصلي المؤمن ما تيسر له, وبما تيسر له من القرآن حتى إذا خشي أن يدركه الصبح صلى واحدة توتر له صلاته.
لقد حثنا ربنا على التقرب إليه بهذه النافلة وبمثلها من النوافل صيام أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك. فقال تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) أداء الفرائض أولا ثم قال: ((ومازال يتقرب إلي عبدي بالنوافل حتى أحبه)) لازال المؤمن يتزلف إلى ربه بما تيسر له من نوافل من صيام وصلاة وصدقة وقراءة للقرآن وغير ذلك حتى يحوز على تلك الدرجة العظيمة أن يحبه الله عز وجل وهذه الدرجة معناها وميزتها النور, إن من أحبه الله يمتلأ نورا كما امتلأ قلبه بنور الإيمان, فإن النور يفيض على جوارحه كلها: (( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى عليها, ولئن سألنى لأعطينه, ولئن استعاذنى لأعيذنه))(8)[2].
وحثنا سيدنا رسول الله على صلاة الليل على وجه الخصوص فقال: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام))(9)[3] ولكن من لم يقدر على صلاة الليل وقيامه فعليه أن يحافظ على هذه السنن الرواتب التابعة للفرائض وهي اثنتا عشرة ركعة, قبل الظهر أربع وبعده ركعتان, وبعد المغرب ركعتان, وبعد العشاء ركعتان, وقبل صلاة الفجر ركعتان, قال الرسول : ((ما من مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتا عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة))(10)[4].
واعلموا أيها المؤمنون أن أداء النوافل, أداؤها في البيوت أفضل من المسجد وذلك لأنه بالصلاة وقراءة القرآن تعمر البيوت وتزدهر وتفر منها الشياطين وأما بدون ذلك فإن البيوت تظلم وتصبح قبورا وتمتلئ بالشياطين.
قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا, صلوا في بيوتكم))(11)[5]، وقال: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة))(12)[6].
فاتقوا الله أيها المؤمنون واغتنموا العمر, اعمروا أيامكم وعمركم كله بطاعة الله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(13)[7] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
__________
(1) مسلم: كتاب الصيام (1164).
(2) مسلم: كتاب الصيام (1162).
(3) الترمذي: كتاب الصيام (761).
(4) مسلم: كتاب الصيام (1163).
(5) النسائي: في الصيام (2358).
(6) أخرجه النسائي بنحوه في الصيام (2354).
(7) البخاري: التهجد (1094).
(8) البخاري: الرقاق (6136).
(9) ابن ماجة: أبواب إقامة الصلاة (1334).
(10) رواه مسلم: كتاب صلاة المسافرين (103).
(11) أخرجه أحمد (2/367).
(12) أخرجه أبو داود في الصلاة (1044).
(13) صحيح مسلم (408).
ــــــــــــــــ
نعمة رمضان
منصور الغامدي
الطائف
1/9/1420
أبو بكر الصديق
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
مشاعر المسلمين عند استقبال شهر رمضان - فضل شهر رمضان - بعض الطاعات المطلوبة في شهر رمضان : التوبة ,الدعاء ,الإنفاق ,العمرة ,القيام - أصناف الناس في رمضان
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون، كم هي مشاعر الفرحة والغبطة التي تغمر المسلمين في أنحاء الأرض كلها، تخالط قلوبهم وهم يترقبون دخول هذا الشهر الكريم، شهر رمضان الكريم الذي أنزل فيه القرآن، لعلمهم أنه يحمل بين جنباته سعة رحمة الله ومغفرته ورضوانه قال : ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفرت الشياطين))(1)[1]، وفيه ليلة القدر خير من ألف شهر، قال ـ تعالى ـ: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ.
إن رمضان انبثاقة فجر جديد للعالم، إنه تشرف أن يكون فيه تبديد ظلام الشكر والضلال الذي خيم على الأرض قرونا، بنزول القرآن فيه، والصيام فيه يربي العبد على التطلع إلى دار الآخرة، فهو يترك طعامه وشرابه وشهوته انتظارا للجزاء الحسن يوم القيامة.
والصيام استسلام وعبودية لله، فالعبد يأتمر بأمر ربه في مواعيد الإمساك، ومواعيد الأكل والشرب، لا يتقدّم عنها ولا يتأخر. والصوم تربية للمجتمع على التلاحم والشعور بحاجة الآخرين.
أيها المسلمون، إن من رحمة الله ـ تبارك وتعالى ـ أن أخرَنا لبلوغ هذا الشهر، وأمهلنا فلم يتخطّفنا الموت كما تخطّف أناساً غيرنا، ولو تأمّلنا قليلاً في حال بعض أقربائنا أو جيراننا أو أصحابنا في ساعة ما، فكم هي نعمة أن يبلّغنا ربنا هذا الشهر الكريم، ومنْ يدري هل سوف نبلغه العام القادم أم لا؟ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ.
إنك ـ أخي الكريم ـ ترى في هذا الشهر صنفاً مسارعاً إلى طاعةالله، لقد حنّوا في مسيرهم الدنيا إلى الله العلي الكبير، فكلّما تذكروا ما أعدّ الله للصائمين من عظيم الأجر قالوا:
يا حبذا الجنة واقترابها ... ... طيبةٌ وباردٌ شرابها
إنك تراهم يحملون همماً عالية في الخير، وهمماً في الإحسان إلى الناس، وهمماً في البر والمعروف، لقد استعد أهل الدنيا لاستقبال هذا الشهر الكريم، فكيف استعدوا هم له وبم يستقبلونه، ومن أعمالهم فيه التوبة والاستغفار، فرمضان فرصة عظيمة وساحة واسعة للتفكير الصادق في العودة إلى الله ـ تعالى ـ، وترك أكل الحرام وشهادة الزور، والتوبة الصادقة من الظلم والغيبة والنميمة، وقد قال الله ـ تعالى ـ: وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
فإن لم نبت في رمضان فليت شعري متى نتوب؟ ولله ـ سبحانه ـ في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار.
ثانيا: الدعاء: قال ـ تعالى ـ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ وقال : ((لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان))(2)[2]، وعلى المسلم أن يتخير أوقات في أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الأذان والإقامة، وفي الساعة الأخيرة من يوم الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تنقضي صلاة الجمعة، وعند إفطار الصائم وغيرها.
صرفت إلى رب الأنام مطالبي ... ... ووجهت وجهي نحوه وقالبي
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه ... مليك يرجى شيبه وفي المتاعب
فما زال يوليني الجميل تلطفا ... ... ويدفع عني في صدور النوائب
إذا أغلق الأملاك دوني قصورهم ... ... ونهنه عن غشيانهم زجر حاجب
فزعت إلى باب المهيمن طارقا ... ... مدلا أنادي باسمه غير هائب
فلم أنف حجابا ولم أخش منعة ... ... ولو كان سؤلي فوق هام الكواكب
كريم يلبي عبده كلما دعا ... ... نهارا وليلا في الدجى والغياهب
سأسله ما شئت إن يمينه ... ... تسح رفاقا باللهى والرغائب
ثالثا: الإنفاق:
النفقة من أسباب القرب من الله ـ تعالى ـ ودخول الجنة أو سارعوا إلى مغفرة قال : ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه))(3)[3]، وإنها لفرصة ثمينة أن ينال العبد الأجر العظيم، بصدقة لا تنقص ماله، وقال : ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر))(4)[4].
رابعا: العمرة: قال : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))(5)[5] وهذا الفضل العظيم للعمرة عام في كل حين وأما في رمضان فإن فضلها يتضاعف، فقد قال لامرأة من الأنصار: ((فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة، أو قال: حجة معي))(6)[6].
بارك الله لي ولكم...
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
أما بعد:
فمن أعمالهم الصالحة الموفقة كذلكم:
خامسا: القيام، كما أن شهر رمضان شهر الصيام، فهو كذلك شهر القيام قال ـ تعالى ـ: قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً.
وقال ـ تعالى ـ في صفة عباده المحسنين: كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وقل : ((من قام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(7)[1]، وكانوا لا يقتصرون على هذه الأعمال بل كل شيء يقربهم إلى الجنة ويباعدهم عن النار. جعلنا الله وإياكم من هذه الصنف من الناس الذي عرف حقيقة الوقت وعمل لما بعد الموت، وهناك صنفان من الناس، لم يتكيف مع رمضان كما ينبغي بل كان واقعه مختلفا عن هدي السلف الصالح ولعلي أقص عليك طرفا منها:
فمنهم من يغلق مجاري الابتسامة على شفتيه، فما تراه إلا معبس الوجه مقطب الجبين، وإن حصل بينه وبين إنسان اخر شيء من الخلاف، سمعت السب والشتم ورفع الصوت، أو يكون نهاره إفطارا على لحوم إخوانه المسلمين وتتبعاً لعوراتهم، بل لا يكاد يسلم منه المسلم الذي يصلي بجواره في المسجد. ونقول لهذا الصنفان من الناس رويدك فما هكذا يكون خلق الصائم، وما هكذا يقضي يومه.
ومنهم من يجعل شهر رمضان شهر النوم والكسل والبطالة، فيقضي جل نهاره نائما وربما تجد البعض لا يستيقظ إلا قبيل المغرب بلحظات، وقد فاتته صلاة الظهر والعصر.
ومنهم من يمضي ليله أمام أجهزة الإفساد إلى قبيل الفجر عند نزول الرب إلى السماء الدنيا، فهو يطيع الله في النهار ويعصيه في الليل.
ومنهن من تقض ليالي رمضان في التجول في الأسواق وأمام نوافذ المشاغل، وفي أماكن أخرى، وربما خرجن بدون محرم، أو متبرجات سافرات، فيرجعن مأزورات غير مأجورات.
عجيب هذا الصنف من الناس، كيف لم يقدروا هذا الشهر حق قدره ولم يستشعروا حديث النبي : ((أتني جبريل فقال: يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، فقلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله فقلت: آمين))(8)[2].
فنسأل الله ـ عز وجل ـ في هذه الساعة المباركة أن لا يجعلنا منهم نحن ولا أهلونا.
إن هؤلاء القوم يخشى عليهم ينتهي أن رمضان وقد حرموا خيرا عظيما، اللهم لا تجعل حظنا من صيامنا الجوع والعطش، ولا من قيامنا النصب والتعب.
ألا وصلوا وسلموا...
__________
(1) أخرجه البخاري : كتاب الصوم - باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟... حديث (1899) ، ومسلم : كتاب الصيام - باب فضل شهر رمضان ، حديث (1079).
(2) قال الهيثمي في المجمع (3/143): عن أبي سعيد قال : قال رسول الله : ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة - يعني في رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة)). رواه البزار وفيه أبان بن أبي عياش ، وهو ضعيف. اهـ. قلت: لم أجده في المطبوع من مسند البزار ن وقال ابن حجر في أبان : متروك ، التقريب (ص87) ، فإسناده ضعيف. وأخرج أحمد (2/254) عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد - شك الأعمش - قال : قال رسول الله : ((إن لله عتقاء في كل يوم وليلة ، لكل عبد منهم دعوة مستجابة)) قال الهيثمي في المجمع (10/216) : ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2165).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب البر والصلة - باب استحباب العفو والتواضع ، حديث (2588).
(4) أخرجه الطبراني في الكبير (8014) ، قال الهيثمي في المجمع (3/115) : إسناده حسن ، وصححه الألباني في الصحيحة (1908).
(5) أخرجه مسلم : كتاب الحج - باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ، حديث (1349).
(6) أخرجه البخاري : كتاب العمرة - باب عمرة في رمضان ، حديث (1782) ، وكتاب جزاء الصيد - باب حج النساء ، حديث (1863) ، ومسلم : كتاب الحج - باب فضل العمرة في رمضان ، حديث (1256).
(7) أخرجه البخاري : كتاب الإيمان - باب تطوع قيام رمضان من الإيمان ، حديث (37) ، ومسلم : كتاب صلاة المسافرين - باب الترغيب في قيام رمضان ، حديث (759).
((1/232)
8) أخرجه الطبراني (2022) ، وابن حبان : كتاب البر والإحسان - باب حق الوالدين ، حديث (409) ، قال الهيثمي في المجمع (8/139): رواه الطبراني بأسانيد ، وأحدها حسن. وانظر كلام محقق صحيح ابن حبان ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (75) ، فالحديث صحيح بمجموع طرقه.
ـــــــــــــــــ
ختام شهر رمضان
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- الهمة العالية بعد رمضان علامة قبوله 2- دعوة للمداومة على الطاعة في سائر الشهور 3- صيام السِّتِ من شوال 4- صيام النافلة وأفضله صيام داود 5- أحكام خاصة بصيام المرأة 6- دعوة للمداومة على قراءة القرآن 7- مقدار زكاة الفطر وأحكامها 8- سنن صلاة العيد
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فهذا شهر رمضان هذا الشهر الكريم الذي أظلنا بظله الوافر المبارك، قد آذن بالرحيل وأعلن الفراق، فسلوا الله تعالى أن يجعله فراقا إلى تلاقي، وأن يعيده علينا وعليكم باليمن والبركة وأن يجعلنا من عتقاء رمضان، ومن المقبولين الفائزين عند توزيع الجوائز يوم الدين، اللهم تقبل منا طاعتنا أجمعين، تقبل منا صلاتنا وقيامنا وصيامنا وقراءتنا يا كريم يا غفور يا رحيم.
ثم اعلموا أيها الصائمون أن من علامات القبول في هذا الشهر الكريم أن تجد نفسك أيها المسلم بعد رمضان وهمتك متواصلة بالطاعة ورغبتك مستمرة في العبادة.
ومن علامات الخذلان والعياذ بالله أن تفتر النفس بعد رمضان تفتر النفس عن الطاعة بعد رمضان وتنصرف عن العبادة وتعود إلى ما كانت تقترفه من أنواع المعاصي، العمر ليس رمضان والزمان أوسع من رمضان والحساب مستمر في رمضان وغير رمضان والثواب والعقاب على رمضان وشوال وشعبان، والسؤال آت عن عمرك كله فيم أتممته وكيف قضيته، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبد، وفي رواية لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه))(1)[1].
فيا أيها المسلم لا يكن آخر عهدك بالصيام وقراءة القرآن وغيرهما من العبادات هو رمضان، واعلم أن سيدنا رسول الله قد ندبك إلى الاستمرار في الطاعة والعبادة. اجعل عمرك كله عبادة وعبودية لله الواحد القهار، سبحانه وتعالى ندبك رسول الله إلى صيام ست من شوال يبدأ من اليوم التالي بعد العيد قال رسول الله : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر كله))(2)[2]، ثم بعد ذلك تخير لنفسك أيها المسلم ما تطيقه وتحتمله من صيام التطوع، فالخير كثير وأبواب الخير كثيرة طوال العام بل طوال عمرك كله فهناك ثلاثة أيام من كل شهر كان سيدنا رسول الله لا يدع صيامهن أبدًا والأفضل أن يكن الأيام البيض(3)[3] من كل شهر الثالث عشر ويومان بعده، وهناك يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال كان رسول الله يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسُئل عن ذلك فقال: ((إن أعمال الناس تُعرض على الله يوم الاثنين ويوم الخميس وأُحب أن يُعرض عملي على ربي وأنا صائم ))(4)[4].
وأفضل صوم التطوع أن تصوم يومًا وتفطر يومًا إذا كنت تطيق ذلك. قال رسول الله : ((أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا))(5)[5].
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فأني أطيق أكثر من ذلك.
قال رسول الله لعبد الله بن عمرو: ((لا أكثر من ذلك))(6)[6] متفق عليه.
فأفضل الصيام إذا تطوعت هو هذا الصيام أن تصوم يومًا وتفطر يومًا، ويُكره بل يُقال يحرم أن تواصل الصيام ولو كنت تطيق ذلك، وحث رسول الله على صيام أيام معينة من السنة كيوم عرفة حث غير(7)[7] الحاج على صيامه، وأخبر أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله(8)[8] والسنة التي بعدها. ويوم التاسع والعاشر من محرم حث رسول الله على صيامهما وأخبرنا بأن صيامهما يكفر السنة التي قبله.
فهذه أيام معينة من السنة حثنا رسول الله على صيامها وأخبرنا بهذه المنقبة العظيمة في ذلك، واعلم أيها المسلم أن صوم يومي العيدين محرم، يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى حرم الله صيامهما(9)[9]، وحرم الله صيام يوم الشك وهو آخر يوم من شعبان، وحرم الله على المرأة أن تصوم إلا بإذن زوجها، وإذا لم يأذن زوجها لا يكون لها الصوم تطوعًا أو إذا علمت أنه كاره لقول رسول الله : ((لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه))(10)[10]متفق عليه.
ولا يصح صيام الحائض والنفساء فإن صامتا في رمضان فلم يجزئهما وعليهما القضاء وكذلك المريض الذي يخشى على نفسه من الصيام يحرم عليه الصيام تطوعًا أو غير تطوع لقول الله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا [النساء:29].
أيها المسلم هذا القرآن الكريم كلام الله تعالى لا تتخذه طوال العام مهجورًا ولا يكن آخر عهدك به رمضان، فأنت إذا تلوت القرآن الكريم فأنت تناجي ربك وتحادثه لأن هذا القرآن كلام الله تعالى فكيف تعرض عنه وكيف تهجره اقرأ هذا القرآن إن استطعت كل سبع ليالٍ مرة وهذا هو الورد الأعظم والأفضل، ورد النبي ، فإن لم تستطع فاقرأه كل شهر مرة، فإن لم تستطع فاقرأ كل يوم ما تيسر لك من القرآن واقرأ القرآن في بيتك واجهر به وارفع به صوتك فذلك طرد للشيطان من البيت.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن رسول الله علينا زكاة الفطر على الناس على الذكر والأنثى والصغير والكبير، صاعًا من طعام أي صاعًا من قمح أو صاعًا من تمر أو صاعًا زبيب، أو صاعًا من شعير أو صاعًا من أقط، فهذه(11)[11]الزكاة مفروضة على كل قادر على إخراجها كل مسلم فضل عنه شيء من قوت يومه أو قوت عياله عليه أن يخرج هذه الزكاة عن نفسه وعن من يعولهم، والصاع يساوي هذا اليوم ثلاثة آلاف وثمانمائة غرام وقيل ألفين وسبعمائة وواحد وخمسين غرام.
فخذ الحيطة لدينك وأخرج هذه الصدقة، واعلم أن وقت خروجها يبدأ من غروب شمس ليلة العيد وينتهي بانتهاء صلاة العيد، فمن أخرجها إلى ما بعد ذلك فهي صدقة من الصدقات كما قال ولكنها لا تسقط عنه ويلزمها إخراجها، ويجوز تعجيل هذه الزكاة قبل يوم العيد بيوم أو يومين، ولكن لا يجوز تعجيلها أكثر من ذلك لأن المقصود بها كما أخبرنا إغناء الفقراء عن المسألة يوم العيد، هذا هو المقصود من هذه الصدقة أو من أهم مقاصد هذه الصدقة قال عبد الله بن عباس(12)[12] رضي الله عنهما فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم ثم من اللغو والرفث وفعلة للمساكين.
ثم اعلموا أيها المسلمون أن من سنن رسول الله يوم العيد أن تخرج إلى صلاة العيد ماشيًا إن استطعت وإن ذهبت راكبًا فلا حرج.
ومن سنته أن تعود من غير الطريق التي سلكتها في الذهاب وإن عدت من نفس الطريق فلا حرج، ومن سنته(13)[13] أن تفطر فجر يوم العيد قبل الصلاة، قبل أن تغدو إلى الصلاة تأكل ثلاث تمرات فأكثر، فقد كان لا يغدو(14)[14] يوم الفطر إلى صلاة العيد حتى يأكل تمرات وترًا.
ومن سنته يوم العيد أن تغتسل قبل(15)[15] صلاة العيد وتتطيب وتلبس أحسن(16)[16] ثيابك وتذهب إلى صلاة العيد في أحسن هيئة وتكثر من التكبير.
هذه هي سنن رسول الله في شأن يوم العيد أعاده الله علينا جميعًا باليمن والبركات نسأله تعالى أن يحيينا أجمعين على طاعته، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم اجعلنا من المقبولين المرحومين وفي هذا الشهر الكريم من الفائزين الغانمين أجمعين يا أرحم الراحمين.
-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد.
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/612) والدارمي (1/144-145) وابو نعيم في الحلية (10/232).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (13) باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعاً لرمضان (2/822) رقم (1164).
(3) أخرجه في البخاري في صحيحه في كتاب الصوم (59) صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة (2/699).
(4) أخرجه أحمد في مسنده (5/201) والنسائي في سننه (4/202) ومسنده حسن.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (25) التهجد (7) باب من نام عند السحر (1/380).
(6) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم، باب صوم الدهر (2/697) ومسلم يف صحيحه في كتاب الصيام (35) باب النهي عن صوم الدهر (2/812) .
(7) أخرجه أحمد (2/304و446) وابو داود (1/741) برقم (2440) والنسائي في الكبرى (2/155).
(8) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام (36) باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس (2/818-819) برقم (1162).
(9) أخرجه البخاري في صحيحه في الصوم (65) باب صوم يوم الفطر (2/702).
(10) 10] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (70) النكاح (84) باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعاً (5/1993).
(11) 11] أخرجه البخاري في صحيحه (31) أبواب صدقة الفطر (2/547).
(12) 12] أخرجه أبو داود (1/505-506) وابن ماجة (1/585) ومسنده لا بأس به وقال الألباني حسن.
(13) 13] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العيدين (24) باب من خالف الطريق (1/334).
(14) 14] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (19) العيدين (4) باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج (1/325).
(15) 15] أخرجه ابن ماجة في سننه (1/417) (والبيهقي في الكبرى (3/278) وهو حديث ضعيف الاسناد.
(16) 16] أخرجه البخاري في كتاب العيدين (1) باب في العيدين والتجمل فيهما (1/323).
ـــــــــــــــــ
خطبة عيد الفطر: الإحسان بعد رمضان
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
مكة المكرمة
1/10/1405
ابن حسن
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- حمد الله على منّة تمام رمضان. 2- دعوة للاستقامة على العمل الصالح بعد رمضان. 3- دعوة لإخلاص العبادة لله. 4- دعوة لصلة الأرحام والإحسان للوالدين. 5- التحذير من التبذير في العيد. 6- الدعوة إلى تيسير زواج البنات. 7- تذكير بمصائب المسلمين في العالم. 8- التحذير من تبرج النساء. 9- دعوة لصيام ستة أيام من شوال.
-------------------------
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لهنتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي فضل شهر رمضان المبارك على سائر الشهور وجعله موسما عظيما من مواسم الخيرات، فيه يتنافس المؤمنون على الطاعات والبذل والمعروف والحسنات، تضاعف فيه الأعمال الصالحات، وتقال فيه العثرات، وترفع فيه الدرجات، وتجاب الدعوات، وهو شهر الخيرات والبركات، وشهر المواساة، يزاد فيه رزق المؤمن، ويزداد المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم، فيتنافسون فيه على التراويح وقيام الليل وتلاوة القرآن العظيم وبذل الصدقات والإحسان إلى ذوي الحاجات من الأقارب والجيران والمعوزين عملا بقوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]. وقوله تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
والآيات التي تدعو إلى الإحسان كثيرة كثيرة، ألا فلنواصل الإحسان في رمضان بالإحسان في شوال وبقية الشهور، فرب الزمانين واحد، واعلموا رحمكم الله أن علامة قبول الحسنة عمل الحسنة بعدها، ومن علامة ردها عمل السيئة بعدها، إن هذا مما ينبغي أن يعلمه العبد الذي يفرح برحيل رمضان ثم يبادر إلى مبارزة ربه بالتمرد والعصيان.
الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، وكلما أورق الشجر وأثمر، وكلما هلل هلال وأقمر، وكلما هطل المطر وانهمر، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، أنيبوا إلى الله وادعوه مخلصين له الدين، أخلصوا العبادة، وأخلصوا الدعاء، وأخلصوا الخوف والرجاء، وتوكلوا في كل أموركم عليه، واستعينوا به فهو المعين وهو نعم الوكيل، وهو المغيث وهو القريب المجيب لمن دعاه بصدق وإخلاص قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، فلنستجب لله ولنؤمن برسوله ولنتذكر باجتماعنا هذا اجتماع الأمم بين يدي الله يوم القيامة في ساحة المحشر وهم حفاة عراة، كما بدأهم الله يعودون ويحشرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فالمؤمنون تتلقاهم الملائكة بالبشارات والتهاني بالأمان من العذاب، يقول الملائكة للناجين يوم القيامة: أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. ويصف الله المؤمنين في ذلك اليوم فيقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38، 39].
أما الكفار فيصفهم بقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:40-42].
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر عدد ذنوبنا حتى تغفر.
سبحان من تعطف بالعز وتكرم به، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17، 18]. اللهم كما بعثت فينا نبيك محمدا فاعمر لنا منازلنا ولا تؤاخذنا بسوء أفعالنا وارحمنا يا أرحم الراحمين، اللهم كما لطفت بعظمتكم فوق اللطفاء، وعلوت بعزتك على العظماء، اجعل لنا من كل هم وغم أصبحنا فيه فرجا ومخرجا، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد بن عبد الله نبي الرحمة ورسول الهدى عدد من صلى عليه منذ بعثته إلى يوم القيامة، اللهم صل وسلم عليه عدد من يصلي عليه من يومنا هذا إلى يوم القيامة، اللهم شفعه فينا واحشرنا تحت زمرته وتحت لوائه واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا، اللهم ارزقنا عيشا قارا ورزقا دارا وعملا بارا، الله اجعل اجتماعنا هذا مرحوما وتفرقنا بعده معصوما.
عباد الله، جملوا عيدكم بالطاعات وبمواصلة فعل الخيرات، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والعطف على الأقارب والفقراء والأيتام، وسارعوا إلى إصلاح ذات البين، فهذا العيد أعظم مناسبة لذلك، وأوفوا الكيل والميزان، وقدموا حكم الله على هوى النفس فلا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول واعلموا أن: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) [حديث متفق عليه] (1)[1]، وقال رسول الله : ((من ضار ضار الله به، ومن شاق شق الله عليه)) [رواه الترمذي] (2)[2].
ألا فلنربِّ أولادنا على الإسلام، ولنعلمهم الاقتصاد في الإنفاق وحسن التدبير، وصرف الأموال في مواضعها في العيد، ولنحصن البالغين بالزواج عملا بقوله : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج))(3)[3]، فيا أيها الشباب المستطيع للزواج هلا بادرت إلى ذلك؟؟.
ويا أيها الولي الذي ائتمنك الله على البنات هلا سارعت إلى تزويجهن وتيسير مهورهن؟ لا يأتي العيد المقبل إلا وقد زوجتهن بالأكفاء الذين يحافظون عليهن.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، أحمده سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه المرجع والمآب وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً إمام الأتقياء وسيد الأولياء، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.
اعلموا عباد الله أن الصدقة تمحو الخطيئة وتطفئ غضب الرب وتقي مصارع السوء، فلا ينبغي للمؤمن أن ينسى من حرم من إخوانه المسلمين من فرحة العيد بمجاعة أهلكت أو حرب دمرت، واعلموا أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، فلنتذكر الفقراء والمحتاجين ولا سيما إخواننا المتضررين بالجفاف في أفريقيا، ولنتذكر المجاهدين في سبيل الله في كل مكان ولا سيما في بلاد الأفغان، اللهم أيدهم بنصرك وأعزهم بقدرتك، اللهم سدد سهامهم، وزلزل الأرض تحت أقدام أعدائهم، وألف ذات بينهم يا سميع الدعاء.
ألا فليحذر المسلمون من التكبر ومظاهره، فإن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يدوسهم الناس بأقدامهم، ولتحافظ الحرة المسلمة على زينتها فلا تتبرج ولا تتعطر ولا تظهر زينتها لغير المحارم فالله يقول: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى [الأحزاب:33].
فلنفرح بدون بطر، ولنتنزه دون تكشف واختلاط، ولنكبر الله فإن التكبير شعار المسلمين في أعيادهم.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ولا ننسى صيام ستة أيام من شوال فالرسول يقول: ((من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله)) [رواه مسلم] (4)[1].
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة (2447)، ومسلم في: البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2579) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في الخيانة والغش (1940)، وأبو داود في: الأقضية، باب: من القضاء (3635)، وابن ماجه في: الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر بجاره (2242)، من طريق لؤلؤة عن أبي حرمة، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وفيه لؤلؤة مقبولة كما في التقريب (8775) ولم يرو عنها سوى محمد بن يحيى، لكن له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم (2/57-58) والبيهقي (6/69)، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترمذي (1584).
(3) أخرجه البخاري في: النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، ومسلم في: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(4) أخرجه مسلم في: الصيام، باب: استحباب صوم ستة من شوال إتباعاً لرمضان (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
ـــــــــــــــ
رمضان شهر الطاعات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
"من فضائل رمضان - من أخطاء الناس في رمضان - مع حديث : " إلا الصوم فإنه لي .." الصيام الحق - الرسول في رمضان "
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فرمضان شهر الطاعات والقربات وشهر الخيرات والبركات فيه تضاعف الحسنات وتغفر السيئات ولأجل ذلك ينبغي على المسلم التشمير عن ساعد الجد والطاقة من صيام وصلاة وقيام وصدقة وغير ذلك من أنواع البر بعض الناس ممن لا يفقهون معنى الصوم لم يدرك من رمضان إلا الجوع والعطش يقضي نهاره نائماً وليله لاهياً قد اتخذه موسماً للكسل وفرصة لمضاعفة اللهو واللعب فهؤلاء محرومون والعياذ بالله. فهذا الشهر المبارك موسم كريم لك أيها المسلم لتضاعف العمل, هذا شهر العمل والعبادة, هذا شهر تضاعف فيه الحسنات وتضاعف فيه الأعمال الصالحات:(1/233)
فأولاً: هذا الصيام إذا أديته على وجهه ولم تخل به فهو أعظم عبادة تؤديها في هذا الموسم الكريم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به إنه إنما ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)), قال سفيان بن عيينة رحمه الله في بيان معنى هذا الحديث العظيم: (المسلم قد يأتي يوم القيامة وعليه حقوق للناس فتؤخذ من حسناته وثواب أعماله فتعطى لأهل تلك الحقوق على سبيل القصاص منه إلا الصيام فإنه لا يؤخذ من ثوابه شيء) هذا هو معنى أن الصوم لله وهو يجزي به كما ذكر ذلك سفيان بن عيينة رحمه الله. وإنما بلغ الصائم هذه الدرجة الرفيعة ونال هذه الفضيلة العظيمة لأنه في صومه يحقق أشياء , يحقق معنى الصبر بجميع أنواعه وللصبر ثلاثة أنواع: أولها الصبر على طاعة الله والصائم قصر نفسه على الصيام طاعة لله تعالى, وثانيها الصبر عما حرم الله وهذا الصائم امتنع عن الطعام والشراب والنكاح لأن الله حرم ذلك في نهار رمضان فامتنع عن هذه الشهوات خوفاً من الله تعالى, وثالث أنواع الصبر, الصبر على أقدار الله وهذا الصائم يصيبه من جراء الصوم من آلام الجوع أو شدة العطش وربما من خور الجسم وخموله وضعف الصحة ما يصيبه ومع ذلك هو صابر على هذا كله محتسباً لله تعالى فالصائم من أجل الصابرين الذين حققوا معنى الصبر بأنواعه والله سبحانه وتعالى يقول: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وكذلك الصائم نال هذه الدرجة الرفيعة لأنه منع نفسه من حظوظها وشهواتها لله تعالى ومن أجل الله, منع نفسه من شهوات الطعام والشراب والنكاح وهي من الصفات الأصلية التي جبلت النفس البشرية عليها, قال بعض السلف: (طوبا لمن ترك شهوة حاضرة من أجل موعد غائب لم يره) فالصائم يترك شهوته الحاضرة طمعاً فيما عند الله تعالى وما عند الله تعالى غيب عنه في الوقت الحاضر. والصيام الحقيقي الذي أداه صاحبه دون أن يخل به دون أن يغتاب أحداً أو يرفث أو يجهل أو يساب أحداً أو يقاتله الصيام الحقيقي من أعظم علامات الإيمان فهذا الصائم يمتنع عن هذه الشهوات في نهار رمضان لأن الله تعالى حرمها عليه في النهار يمتنع عنها حتى في خلوته لا يطلع عليه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى فما الذي منعه من مقارفة هذه الشهوات إلا خوف الله تعالى وهذا من علامات صحة الإيمان وإليه أشار في الحديث بعد قوله: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))، قال: ((إنما ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)) أي ما منع الصائم من مقارفة هذه الشهوات الثلاث وغيرها إلا خوفه مني وطمعه فيما عندي وإلا فلو قارف شيء من تلك الشهوات في خلوته لم يطلع على ذلك أحد من المخلوقين وهذا من أسرار كون الصوم أو جعل الصوم لله تعالى فإن الله شكر للصائم ذلك فاختص الصوم من سائر عمله لنفسه سبحانه وتعالى فهو يجزي به فهذا درس عظيم تتعلمه أيها الصائم من مدرسة الصوم والدرس الآخر الذي يجب أن تتعلمه من مدرسة الصوم أن هذا الشهر المبارك الكريم فرصة لك لتضاعف حركتك في سبيل الله ونشاطك في طاعة الله وعملك في سبيل دين الله تعالى, هذا الشهر الكريم موسم للعمل ومضاعفة العمل وليس موسم للكسل تأمل هذه النصوص النبوية تلمح فيها هذا المعنى واضحاً جلياً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عمرة في رمضان تعدل حجة فيما سواه)) وفي لفظ تعدل حجة معي , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شمر ثوبه وأيقظ أهله صلى الله عليه وسلم وأحيا ليله وكان صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة فإذا دخل رمضان كان أجود ما يكون صلى الله عليه وسلم في رمضان وهنا وقفة قليلة نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكرماء جواد كريم صلى الله عليه وسلم، قال أنس بن مالك رضى الله عنه: ((ما سأل رسول الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ولقد سأله رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه يقول لهم: يا قوم أسلموا فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة)) هذا كرم رسول الله وجوده وعطاءه ليس ككرم أهل الدنيا وعطائهم فأهل الدنيا يعطون ابتغاء ثناء الناس والصيت الحسن بينهم ويودون شهوة من شهوات النفس أما سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فجوده وكرمه كان لأمرين اثنين أولهما أن الدنيا بما فيها من زينة وزخرف ومتاع وأموال لم تكن تزن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فقد عرضت عليه الدنيا وأعرض من قوة إيمانه وكمال عبوديته لربه وتواضعه لخالقه صلى الله عليه وسلم وإلا فهذا النبي الكريم الذي يعطي هذا العطاء الجزيل كان يمر عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار وهو يعطي الرجل غنماً بين جبلين صلى الله عليه وسلم والأمر الثاني أنه صلى الله عليه وسلم إنما يعطي بسخاء لمصلحة شرعية إسلامية وليس عن هوى وشهوة ولا عن محاباة إنما يعطي لخدمة الإسلام , يقول أنس بن مالك رضى الله عنه: إن الرجل كان ليسلم وليس به إلا طمع الدنيا لما يعلم من كرمه صلى الله عليه وسلم فما يمسي الرجل إلا والإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. انظر إلى هذه المصلحة الشرعية العليا التي كان يحققها صلى الله عليه وسلم بعطائه وجوده , هذا صفوان بن أمية رضي الله عنه يقول: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطاني وهو أبغض الناس إلي وما برح يعطيني حتى أصبح أحب الناس إلي وقد أعطاه يوم حنين وادي بأكمله مملوء إبلاً ونعماً فلما رأى صفوان ذلك قال: أشهد أنه ما طابت بهذا إلا نفس نبي صلوات الله وسلامه عليه. هكذا جود رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرمه لم يكن عن محاباة ولا هوى نفس فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعطى صفوان وادياً بأكمله مملوء إبلاً ونعماً مر عليه يوم من الأيام وقد جاءه سبي فجاءته فلذة كبده رضى الله عنها فاطمة تشكو إليه ما تعاني من عناء وجهد ومشقة في عمل البيت , فاطمة بنت محمد تشققت قدماها وهي تدير البيت تطحن وتعجن وتقوم بمؤنة البيت وخدمته فجاءت تشكو إلي أبيها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً يقوم عنها بمؤنة البيت ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة كان يعلم أن المسلمين يمرون بظرف عصيب لا يسمح له بأن يلبى حاجة فلذة كبده فأمرها بأن تستعين بما هو أفضل من ذلك بالتسبيح والتحميد والتكبير عند نومها وقال لها: ما كنت لأعطيك وأدع فقراء المسلمين في الصفة تطوى بطونهم على الجوع , هكذا جود رسول الله صلى الله عليه وسلم حركة دائبة طوال العام في خدمة الإسلام ولمصلحة الإسلام حتى إذا أقبل رمضان تضاعفت حركة هذا الجهد النبوي.
فيا أيها المسلمون يا أيها الصائمون ليكن هذا الموسم الكريم وهذا الشهر المبارك فرصة لنا جميعاً لنضاعف نشاطنا في الطاعة والعبادة ولنزيد حركتنا في سبيل الله مقتدين في ذلك بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلم لا تكن في رمضان ولا في غير رمضان جثة خاملة وعبئاً على المسلمين بل كن عضواً متحركاً نشيطاً عاملاً بناء , كن بسعيك وحركتك وعقلك وعلمك إن كنت ذا علم ومالك إن كنت ذا مال كن عضواً نافعاً فعالاً في مجتمعك, أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر علي شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .
-------------------------
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد:
فان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فان يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار وأعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل:إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
ـــــــــــــــ
استقبال شهر رمضان
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1 - البشارة والتهنئة بشهر رمضان . 2 - بعض المنكرات التي تقع في رمضان 3 - أصناف الناس في استقبال رمضان 4 - فضل رمضان 5 - شكر الله على بلوغ رمضان
-------------------------
الخطبة الأولى
وبعد:
عباد الله: لقد أهلّ علينا شهر من أعظم الشهور، فهو شهر عبادة يتقرّبُ بها العبد إلى ربه. بترك محبوباته من طعام وشراب لينال رضا ربه، ولو يعلم العباد ما في هذا الشهر الكريم من الأجر والثواب لتمنّت الأمة أن تكون السنة كلها رمضان. يقول الله عزّ وجل: ((يترك شهوته وطعامه وشرابه لأجلي، فالصوم لي وأنا أجزي به)).
هذا الشهر الكريم كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبشِّر أصحابه بقدومه فيقول: ((أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبوب جهنم، وتُغلّ فيه مَرَدة الشياطين، لله فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم)) قال العلماء هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بدخول الشهر، فالشقي من حُرِم فيه رحمة الله، وكيف لا يكون شقياً وخاسِراً وهو لم تدركه رحمة الله في شهر التوبة والغُفران ولذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبعد والهلاك والشقاء والخسران لمن أدرك رمضان ولم يُغفر له. فعن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُحضِروا المنبر فحضرنا فلما ارتقى درجة قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين)) فلما نزل قُلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كُنا نسمعه قال: ((إن جبريل عرَض لي فقال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يُغفَر له. قلت: آمين. فلما رقيت الثانية قال: بَعُد من ذُكِرتَ عنده فلم يُصَل عليك. فقلت: آمين. فلما رقيت الثالثة قال: بعُد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يُدخلاه الجنة قلت: آمين)).
ولله عزّ وجل أيها الصائمون في هذا الشهر عتقاء من النار وذلك كل ليلة من ليالي رمضان، فعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة - يعني من رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة - أي لا تُرَد -)) فانتبهوا عباد الله لهذا الوقت واشغلوه بدَعوات صالحات. كم من مؤمن أيها الأحباب لم يُدرك هذا الشهر، بالأمس القريب مات جارٌ أو قريبٌ أو أخ أو صديق ولم يُدرك رمضان، فاحمَدوا الله عزّ وجل أن أبقاكم أحياءً ومنحَكم فرصة، فاغتنموها ولا تُضيِّعوها، ولينظر أحدنا ماذا أعدّ لرمضان، وكيف استعدَّ له؟ أنستعدّ له في تضييع أوقاته في السهر على المُحرّمات من شُربٍ للمُخدِّرات والتمتّع بالأفلام والمُسلسلات الساقطات والجري وراء الشَهَوات، أو نستقبله بالإسراف والتبذير في المأكولات والتّلهُّفِ على الملذّات. أم نستعدّ له بالحفلات والأغاني أم نستقبله بالمعاصي والحرام ومحاربة الملك الديّان.
إن الناس في استقبالهم لرمضان على صنفين اثنين.
أما الصنف الأول: فهم الذين يفرحون بهذا الشهر ويُسرُّون بقدومه، لأنهم عوَّدوا أنفسهم على الصيام ووطّنوها على تحمُّله، ولهذا جاء في السنة النبوية استحباب صيام الاثنين والخميس وأيام البيض ويوم عرفة ويوم عاشوراء مع يوم قبله وصيام شعبان وغير ذلك من أنواع الصيام المُستحب الذي سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ليعتادوا الصوم ويتزوَّدوا من التقوى. وأثر ذلك واضح في الواقع، فإنّك تجد الذي يصوم النفل لا يستثقل صيام رمضان بل هو عنده أمر يسير لا كُلفة فيه ولا عناء، وأما الذي لا يصوم شيئاً من النافلة فإنّ رمضان يكون عليه ثقيلاً شاقاً. ولقد كان السلف مِثالاً رائعاً في الحرص على النوافل، ورُوي عنهم في ذلك قصص عجيبة، من ذلك أن قوماً من السلف باعوا جاريةً لهم لأحد الناس فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان كما يصنع كثير من الناس اليوم، فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا لاستقبال شهر رمضان فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان، والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كأنّها كلُّها رمضان، لا حاجة لي فيكم رُدّوني إليهم ورجعت إلى سيدها الأول.
ويروى أن الحسن بن صالح وهو أحد الزّهاد العُبّاد الأتقياء كان يقوم الليل هو وأخوه وأمّه ثلاثاً أي يقوم هو الثلث الأول، وأخوه الثلث الثاني، وأمّه الثلث الثالث فلما ماتت أمه صار يقوم هو نصف الليل وأخوه النصف الآخر، فلما تُوفي أخوه صار يقوم الليل كلّه. وكان لدى الحسن بن صالح هذا جارية، فاشتراها منه بعضهم فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد قامت تصيح في الدار: الصلاة الصلاة. فقاموا فَزعين وسألوها هل طلع الفجر؟ فقالت: وأنتم لا تُصلّون إلا المكتوبة؟ فلما أصبحت رجعت إلى الحسن بن صالح وقالت له: لقد بِِعتني إلى قوم سوء لا يُصلّون إلا الفريضة ولا يصومون إلا الفريضة، فردّني فردّني.
هؤلاء كانوا فرحين برمضان لأنهم يعلمون أن منع النفس وكفّها عن المَلذات في هذه الدنيا سبب نيلها في الآخرة فإنّ امتناع الصائم عن الأكل والشرب والجماع وسائر المُفطرات في نهار رمضان طاعة لله عزّ وجل يكون سبباً في حصوله على ألوان الملذّات الخالدة في الجنة فيقوى يقين المُتقين بذلك، تراهم يفرحون بقدوم هذا الشهر الكريم، وعلى العكس من ذلك حال المُنغمسين في الملذّات المّحرّمة في هذه الدنيا فإن انغماسهم فيها يكون سبباً في حرمانهم منها يوم القيامة. ألم يقل رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب)) وإنما يُحرم من شربها يوم القيامة - وإن دخل الجنة - عقاباً له على تمتّعه بخمر الدنيا وهي مُحرّمة عليه. وما يُقال في الخمر يقال في لبس الحرير للرجال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) كذلك يفرح هؤلاء بهذا الشهر لأنهم يُدركون أنه من أعظم مواسم الطاعات والتنفس في القُربات، ويعلمون أن الله يُجري فيه من الأجور ما لا يُجري في غيره من الشهور، فلا عجب أن يفرحوا بقدومه فرح المشتاق بقدوم حبيبه الغائب أو أعظم من ذلك. هذا هو الصنف الأول من الناس في استقبال شهر رمضان.
وأما الصنف الثاني: الذين يستقبلون هذا الشهر ويستعظمون مشقّته، فإذا نزل بهم فهو كالضيف الثقيل، يَعُدّون ساعاته وأيامه ولياليه، منتظرين رحيله بفارغ الصبر، يفرحون بكل يوم يمضي منه حتى إذا قرُب العيد فرحوا بِدُنوّ خروج هذا الشهر، وهؤلاء إنما استثقلوا هذا الشهر وتطلّعوا إلى انتهائه لأنهم اعتادوا التوسُّع في الملذات والشهوات من المآكل والمشارب فضلاً عن ارتكابهم للذات المُحرّمة كالنظر إلى النساء وعدمِ غضّ البصر وغيرها. فوجدوا في هذا الشهر مانعاً وقيداً يَحبِسهم عن شهَواتهم، ويَحول بينهم وبين ملذّاتهم، لذلك ثَقُل عليهم رمضان ولأنهم قوم عظُم تقصيرهم في الطاعات حتى إنّ منهم من قد يُفرِّط في الفرائض والواجبات، كالصلاة فإذا جاء هذا الشهر التزموا ببعض الطاعات، فترى مَثلاً بعض المُفرِّطين والمُقصّرين يتردّدون في هذا الشهر على المساجد ويشهدون الجُمَع والجماعات ويواظبون على الصيام والصلاة، فبسبب هذا الالتزام الذي لم يألَفوه ولم يتعوَّدوا عليه استعظموا حِمْل هذا الشهر، هكذا حال الذين يستقبلون رمضان لأنهم سيفارقون ما ألِفوه من الشهوات ويلتزمون ببعض العبادات هذا مع ضعف يقينهم بما أعدّه الله تبارك وتعالى للمؤمنين وعدم استحضارهم لِفضل هذا الشهر وما فيه من الأجور العظيمة، فلا عجَب ألا يجدوا من اللذة والفرح والسرور بهذا الضيف الكريم ما يجده الصادقون المؤمنون.
جعلني الله وإياكم ممن يَفرح بقدوم رمضان ويجتهد فيه للتقرُّب إلى الله عزّ وجل إنّه وليّ ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
وماذا عن شهر رمضان، إنه شهر أنزل الله فيه كتابه وفتح فيه للتائبين أبوابه، فلا دعاء فيه إلا وهو مسموع، ولا خير إلا وهو مجموع، ولا ضُر إلا وهو مدفوع، ولا عمل إلا وهو مرفوع، الظافر الميمون من اغتنم أوقاته، والخاسر المَغْبون من أهمله ففاته، شهر جعله الله لذنوبكم تطهيراً ولسيئاتكم تكفيراً، ولمن أحسن منكم صُحبته ذخيرة ونوراً. ولمن وفّى بشرطه وقام بحقِّه فرحاً وسروراً، شهرٌ تَورَّع فيه أهل الفسق والفساد، وازداد فيه إلى الرغبة إلى الله أهل الجدّ والاجتهاد، شهر عمارات القلوب، وكفّارات الذنوب واختصاص المساجد بالازدحام والتحاشر، شهر فيه المساجد تُعمر، والمصابيح تزهر، والآيات تُذكر، والقلوب تُجبَر، والذنوب تُغفَر، شهر تُكثِر فيه الملائكة لصوّامه بالاستغفار ويَعتق فيه الجبّار في كل ليلة ويوم، وتنزل فيه البركات وتعظُم فيه الصدقات، وتكفر فيه النكبات، وتُرفع فيه الدرجات وتُرحم فيه العبَرات، وتنادي فيه الحور الحِسان من الجنّات: هنيئاً لكم يا معشر الصائمين والصائمات، والقائمين والقائمات بما أعدّ الله لكم من الخيرات، فقد غمرتكم البركات واستبشر بكم أهل الأرض والسماوات. فيا ليت شعري مَن المقبول منّا فنهنّئه بحسن عمله؟ أم ليت شعري من المطرود منّا فنعزّيه بسوء عمله؟
عباد الله: أوصيكم ونفسي في هذا الشهر الكريم بوصيتين أرجو الله أن ينفعنا بهما، أما الوصية الأولى: فهي أن تَحمَد الله أيها الصائم على نعمة الله التي أسبغَها عليك، ومنها أن كتَب لك الحياة حتى بلغت رمضان فتذكّر أولئك الذين حنّت أرواحهم واشتاقت أنفسهم لبلوغ رمضان، قد مضى بهم القدَر وانقطع عنهم الأثر فهم اليوم في الأعماق تحت التراب. كانوا يتمنّوَن لقاء هذا الشهر فما بلغوا مُناهم، وما حقّقوا رَجاهم، وأنت أيها العبد قد وفّقك الله لذلك، فاذكر نعمة ربّك عليك، وقُل بلسان الحال والمقام: اللهم لك الحمد أن بلّغتني رمضان، وتذكّر أيضاً أيها الصائم إخواناً لك على الأَسِرّة البيضاء في المُستشفيات - شفاهم الله - قد منعَتهم الأمراض وحالت بينهم وبين الصيام والقيام تَذكّر هؤلاء الناس الذين ودّوا أن يصوموا فما استطاعوا وودّوا أن يقوموا فما تمكّنوا، فاذكر أيها العبد ما تتمتّع به من العافية، وانظر إلى جسدك وهو تغمرُه الصحة الغالية فإذا تَذكرْت ذلك فاسأل الله دوام العافية، واسأله أن يعينك على دوام الطاعة والإنابة إليه. ثم تذكّر أيها العبد أنّ صيامك إنما هو لله فإن جُعت لله وعطشت لله فلا تؤثِّر فيه نزَغات الشيطان من الجن والإنس، وتذكّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرفُث ولا يَصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)). فكُن على حذر من هذا حتى لا تُضيع صيامك.
وأما الوصية الثانية: فهي للقائمين. إذا وفّقَك الله لأن تقوم ليالي رمضان فاحرص على أن يكون خروجك من بيتك لصلاة التراويح لله عزّ وجل لا تُريد إلا وجهه، ولا يكون في قلبك إلا ما أعدّه الله للقائمين فقد قال نبيّك صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)). واعلم أنه ما رَفعتَ خطوة وأنت ذاهب إلى المسجد إلا رفعَك الله بها درجة وما وضعت قدَماً إلا حطّت عنك سيئة، فكم من أُناس وقفوا بين يدي الملك العلاّم وهم في القيام أوجب الله لهم دار السلام. وكم من أناس اجتهدوا في القيام في جوف الليل فما كان حظُّهم إلاّ التعب والسهر. فالإخلاص الإخلاص عباد الله، وإيّاك أيها العبد أن تَمَلَّ وأنت قائم فكم من أُناس يستثقلون آية يسمعونها وهم قيام خَلف إمامهم ولكنهم لا يَملُّون الحديث وهم في مجالس الغيبة والنميمة فإيّاك أن تَبْخَس أعمالك وأنت لا تَشعر. فاصبروا على قيامكم وتَذكّروا أنه أهون وأخف من قيامكم يوم الحشر بين يدَي ربكم. واحتسبوا أجر القيام عند ربّكم. كما أُوصيكم وأنتم قائمون أن تسمعوا وتُنصِتوا وتتدبّروا في الآيات التي تسمعونها واعرضوها على أعمالكم، فإن وجدتم أنفسكم معها طائعين فاحمَدوا الله واسألوه الثبات على ذلك، وإن وجدتم أنفسكم مُخالفين أو مُقصِّرين فتوبوا إلى ربكم وأصلحوا ما أفسدتم وتداركوا ما فاتكم فَفُرصة هذا الشهر بين أيديكم، فاللهم وفِّقنا لاغتنامها والإكثار من العمل الصالح فيها وانفعنا بالصيام والقيام وبما نقول وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أنّ لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
ـــــــــــــــ
لقد استعدّ رمضان للرحيل
صدّوق الونّاس
برج الكيفان
الرحمة العتيق
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------(1/234)
ملخص الخطبة
1- بشرى لمن أحسن في هذا الشهر (شهر رمضان). 2- دعوة إلى التوبة لمن قصّر في هذا الشهر. 3- ختم صيام رمضان بالاستغفار. 4- ختم صيام رمضان بعتق الرقاب. 5- التوحيد والاستغفار سرّ النجاة.
-------------------------
الخطبة الأولى
إن الذين اتقوا وأحسنوا في هذا الشهر فصاموا عن الطعام والحرام، وقاموا بالليل والناس منهم نيام، ومنهم المكبّون على الشهوات كالأنعام، وهؤلاء الصالحون أطعموا الطعام، وألانوا الكلام، قد فازوا بالرحمة والإحسان، من الله ذي الجلال والإكرام، قال الله تعالى: إن رحمة الله قريب من المحسنين، وقال: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون، وقال: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
لقد أعدّ الله لهم عظيم الأجر، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جزاء على إحسان العبادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، رزقنا الله وإياكم لذة النظر إلى وجهه لمنّه وكرمه.
أما نحن فقد أثقلتنا الأوزار، وارتكبنا الذنوب الكبار التي توجب النار، وكبلتنا خطايانا عن الطاعات، ودفعتنا إلى الزلات، وجلبت علينا الويلات، فماذا نصنع حتى نتدارك ما فات؟ ورمضان قد تهيّأ للرحيل فلم يبق منه إلا ليلة أو ليلتان.
علينا - يا عباد الله - بالاعتراف بذنوبنا، وبالتوبة الصادقة النصوح، وبالتوجه إلى الله تعالى بالدعاء بالمغفرة والعتق من النار.
فاغفر لنا يا ربّنا وأعتقنا من النار، ألم تقل يا ربّنا: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ألم تقل يا ربنا: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.
يا رب عبدك قد أتاك ... وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه ... ... من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنوب ... الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك ... من عقابك ملحفا
رب اعف وعافه ... فلأنت أولى من عفا
وأما من استغفر بلسانه وقلبهُ على المعصية معقود، وهو عازم بعد الشهر إلى المعاصي أن يعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود، كيف لا؟ وقد قابل نداء الله: ((يا عبادي..)) بالإعراض والصدود.
فكم بين من حظّه في رمضان القبول والغفران، ومن حظّه فيه الخيبة والخسران.
أيها المسلمون: إن الاستغفار هو ختام الأعمال كلّها. فيختم به في الصلاة كما في صحيح مسلم أن رسول الله كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا.
ويختم به في الحج، قال الله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، بعد هذه الشعيرة العظيمة وهي الوقوف بعرفة والحج عرفة، ينطلق الحاج إلى مزدلفة وهو يستغفر الله تعالى.
ويختم به قيام الليل، يمدح الله تعالى عباده المتقين ويصفهم فيقول: الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار، وقال تعالى كذلك في وصفهم: وبالأسحار هم يستغفرون.
قال الحسن رحمه الله: قاموا الليل إلى وقت السحر ثم جلسوا يستغفرون، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر.؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.
ويختم به كذلك في المجالس، فإن كانت ذكراً كان كالطابع لها، وإن كانت لغوا كان كفّارة لها.
وكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.
فمن أحب منكم أن يحطّ الله عنه الأوزار، ويعتقه من النار، فليكثر من الاستغفار بالليل والنهار، لا سيما في وقت الأسحار.
ومما يستحسن ختم هذا الشهر به أيضاً عتق الرقاب.
فقد كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجوا بعتقها العتق من النار.
وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما دل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي ابن الحسن قال: قال أبو هريرة : قال النبي : ((أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من اللنار)). قال سعيد من مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن الحسين، فعمد علي بن الحسين رضي الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه .
ومن فاته عتق الرقاق لانعدامها فليكثر من شهادة التوحيد فإنها تقوم مقام عتق الرقاب.
قال : ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشراص كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل)) [أخرجه البخاري].
وقال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل ممّا جاء به إلا أحدٌ عمِل أكثر من ذلك)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة].
واعلموا عباد الله أن الجمع بين شهادة التوحيد والاستغفار من أعظم أسباب المغفرة والنجاة من النار، وكشف الكربات قضاء الحاجات. لهذا جمع الله تعالى بينهما في قوله: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك. وفي قوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
فأكثر أخي المسلم من طاعة الله لا سيما من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأكثر من الاستغفار وغيرها من الأذكار والأعمال الصالحة قبل فوات هذه الفرصة العظيمة، فإنه إن لم يغفر لك في هذا الشهر فمتى يغفر لك؟
قال قتادة رحمه الله: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه.
غفر الله لنا ولكم في هذا الشهر العظيم. وجعلنا من عباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــ
وماذا بعد رمضان
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
ماذا بعد رمضان , وأهمية المداومة على الطاعة - فضل الصيام والقيام والسنة في ذلك والنوافل والمحافظة عليها , والصدقة - تعظيم الله عز وجل بتعظيم شعائره وحرماته أهمية العمل الصالح - سرعة انقضاء العمر وزواله - علامات قبول الطاعة
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله لقد انقضى رمضان لكن الصيام لم ينقضِ , وانقضى رمضان لكن القيام لم ينقضِ وانقضى رمضان ولم تنقضِ تلاوة القرآن . من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , بئس العبد لا يعرف الله إلا في رمضان , إن كان الصوم المفروض قد انقضى فإن من نافلة الصوم صيام ست من شوال , ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من صام رمضان ثم اتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر ))(1)[1], وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بثلاثمائة والست بستين, وهذه عدة أيام السنة , ولئن كانت التراويح قد انقضى وقتها فإن قيام الليل ما يزال مشروعاً مرغباً فيه , صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (( من قام في ليلة بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام في ليلة بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ))(2)[2]، وفي رواية ((كتب من الذاكرين الله كثيراً))(3)[3] , والله إنه لغافل من غفل عن القيام بعشر آيات. صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل ))(4)[4]. فيا عباد الله لا تكونوا كمن كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل , فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل )) (5)[5], عباد الله دونكم الرواتب فالزموها وهي اثنتا عشرة ركعة , ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء , صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم:((من صلى لله اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة ))(6)
ثم ذكر هذه. والوتر يا عباد الرحمن فلا تضيعوه , صح عنه صلى الله عليه وعلي آله وسلم: (( اوتروا يا أهل القرآن ))(7), وكتاب الله فلا تضيعوه: وقال الرسول يا ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً وتدبروا معاني الله فيه. وفعل الخير فلا تعدموه: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون , أنفقوا من مال الله الذي آتاكم وجعلكم مستخلفين فيه فإن لله ملائكة يقولون: (( اللهم أعطِ منفقاً خلفاً وأعطِ ممسكاً تلفاً )) 3, وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين .
3 صحيح البخاري (1442) صحيح مسلم (1010).عظموا الله بتقديره وإجلاله: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه , عظموه بتعظيم شعائره, ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب , عظموه بتعظيم حرماته: ذلك ومن يعظم شعائر الله فهو خير له عند ربه , إن خيراً لكم عند ربكم أن تغضوا أبصاركم وتحفظوا فروجكم ذلك أزكى لكم إن الله خبير بما تصنعون , إن خيراً لكم عند ربكم أن تكفوا عن أكل الحرام من الربا والرشوة والغش وأكل مال اليتيم وأكل أموالكم بينكم بالباطل , إن خيراً لكم عند ربكم أن تنكروا على من فعل ذلك وتدعوه إلى الكف عنها والتوبة منها , إن خيراً لكم عند ربكم أن تعظموا حرماته بمعرفتها واجتنابها والتحذير منها والإنكار على الواقع فيها: ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم , رب واقع في الحرام قد دنا أجله ولم يتب , رب غافل لاهي قد حان موته ولم يتب: (( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه))(8) , ومن قعدت به فعلته لم ينهض به جميل صورته,(( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))(9).
دعوا الأماني والزموا الجادة فعلاً وتركاً: ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً فأسلموا وجوهكم لله وأحسنوا واتبعوا ملة الحنيف إبراهيم فبذلك أمر نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم , وما أنتم إلا اتباعه: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون .
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه , أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلى وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله فدع الكسل وانشط لترضي الله فما العمر إلا أيام إذا انقضى بعضها فقد انقضى بعضك كل يوم يأتي عليك فقد نقص من عمرك يوم , فعمرك حقاً هو ما بقي من أيام في أجلك أما ما قد مضى فقد فات بما فيه من خير ومن شر: وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير .
إن من علامات قبول الطاعة الطاعة بعدها , فواصلوا الطاعات وأوصلوا القربات ولا يكن آخر عهد أحدكم بالقرآن خاتمة رمضان ولا بالقيام آخر لياليه ولا بالبر والجود أيامه الخوالي , فالرقيب مطلع والكرام الكاتبين لا يبخسونك حقك: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً , فما شيء من عملك بضائع بل ستجازى علي الفتيل: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان , من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها , من جاء بالحسنة فله خير منها. فارغبوا إلى الله فيما عنده من الجزاء , وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
__________
(1) صحيح مسلم (1164).
(2) سنن أبي داود (1398).
(3) سنن الدارمي(3458).
(4) صحيح البخاري (1152).
(5) صحيح البخاري (1122) صحيح مسلم (2479).
(6) 1 صحيح مسلم (728).
(7) 2 مستد أحمد (1/100) سنن الترمذي (453) سنن ابن ماجه (1170).
(8) 4 صحيح مسلم (2699).
(9) 5 صحيح مسلم (2567).
ـــــــــــــــ
ماذا استفاد المسلمون من رمضان؟
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- حكم وأسرار العبادات. 2- حقيقة التوحيد. 3- حقيقة الصلة والزكاة والحج. 4- فوائد الصيام. 5- هل استفدنا من رمضان. 6- التحذير من التشبه بالكفار. 7-التحذير من المعاصي. 8- الصيام مدرسة.
-------------------------
الخطبة الأولى
وبعد:
يقول ربكم في كتابه: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات.
قال الإمام ابن كثير: "يقول تعالى مخاطباً المؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنيّة خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة"أ.هـ. فهل حققنا معاشر المسلمين هذه الثمرات في نفوسنا بعدما انقضى رمضان؟ ولا ندري أيعيش إلى قابل، فنستدرك ما ضيعناه في هذا الشهر الكريم أم لا؟!.
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من صام رمضان إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. وفي رواية صحيحة: ((ما تأخر من ذنبه)).
وقال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [رواه البخاري].
أيها المسلمون:
إن المسلم الحاذق هو الذي ينظر في حقائق وأسرار وحكم العبادات، ولا ينظر فقط إلى رسومها وحركاتها، فمن الناس من تراه يجهد نفسه في عبادات متنوعة، وليس له منها إلا التعب، لأنه نظر إلى رسوم العبادات ولم ينظر إلى حقائقها ونتائجها التي تعبر بحق عن حقيقية الدين قال تعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم، إن هذه الشريعة جاءت بحكم وأسرار عظيمة لأنها ببساطة صدرت من إله حكيم خبير لطيف، فشرائعه تعالى وأحكامه مبنية على علل وحكم وأسرار، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وفوق كل ذي علم عليم، فها هو التوحيد الذي هو قطب رحى هذا الدين وأساسه الذي بني عليه؟ قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وقال كذلك: فاعلم أنه لا إله إلا الله وقال كذلك: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين.
ليس التوحيد فقط كلمات تردد باللسان، وإنما هو حياة مبنية على كلمة التوحيد، فلا يتحرك المسلم ولا يسكن إلا في إطار التوحيد كما قال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، فالتوحيد جاء لتحرير الإنسان كل الإنسان من عبودية غير الله لعبودية الله وحده، فالإنسان الحر المتحضر الطليق هو من يعبد الله وحده لا شريك له، وأما الإنسان العبد الخسيس فهو من ترك عبادة الله وعبد غيره من شهوات وهوى وبدع وتقليد للآباء والأعراف الخارجة عن شريعة الله تعالى، قال تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير.
وهاهي الصلاة عمود الدين، فهل حققنا آثارها في حياتنا؟ هي صلة بين العبد وربه، ليست كلمات ولا حركات جوفاء، بل هي خشوع لله رب العالمين وقرب منه سبحانه وتعالى، قال : ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)).
والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فهل انتهينا عن ذلك، والصلاة تنهى عن الأخلاق الفاسدة والحيوانية قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال: إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون.
وهاهو الصوم من أعظم أسراره تقوى الله تعالى، وها هي الزكاة جاءت لتطهر صاحبها من البخل والشح الذي أهلك الأمم من قبلنا، والزكاة تبارك في المال وتزيد فيه قال تعالى: خذ من أمالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وقال كذلك: وما أنفقتهم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين والزكاة ترجمة عملية على التعاون بين المسلمين وسد حاجات الفقراء.
وها هو الحج عبادة فرضها الله مرة في العمر على من استطاع إلى ذلك سبيلاً، فالحج ليس فقط سياحة أو تجارة، ولكنه قدوم على الرحمن ليغفر الذنوب ويستر العيوب؟ إن الحج تذكير بالموقف الكبير في المحشر يوم القيامة إن الحج موعد لاجتماع المسلمين عربهم وعجمهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم قد أتوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله تعالى شكراً على نعمه.
هذا وكل أحكام الإسلام أنزلها الله لحكم وأسرار من أهمها أنها جاءت لجلب المصالح ودفع المفاسد قال العزّ بن عبد السلام:
الشريعة كلها مصالح إما دفع مفاسد أو جلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فتأمل وصيته بعد ندائه فلا يجد إلا خيراً يحثك عليه أو شراً يزجرك عنه)) أهـ .
قال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
أيها المسلمون: إن شهر رمضان شهر التقوى والبركات الألهية فهل حققنا ثمراته الزكية وفوائده الجلية، إن شهر رمضان نفعله يعود على صاحبه، فلا يعود على الله في شيء، فالله غني حميد، قال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز.
إن فوائد وأسرار رمضان كثيرة منها:
1- تزكية النفوس بطاعة الله، وتدريب النفوس على العبودية لله والصبر عليها قال : ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، بترك طعامه وشرابه من أجلي كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به)) [متفق عليه].
2- إن الصوم فيه إعلاءٌ ورفع للجانب الروحي المهم في الإنسان، فالإنسان ليس مادة فقط بل هو روح كذلك، فالصوم يعزز هذا الجانب فيجعله في الملكوت العلوي قريباً من مرتبة الملائكة وصدق من قال:
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته ... ... أتطلب الربح مما فيه خسران ...
أقبل على الروح وإستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
3- إن الصوم يعلم الإخلاص لصاحبه فهو شهر الإخلاص، لأن الصائم يمكنه أن يفطر خفية عن الناس ولكنه يمنعه إخلاصه لله تعالى، والصوم يعلم الصبر، والصبر بمنزلة الرأس من الجسد، فهو قاعدة التكاليف ولولا الصبر ما شرع الصوم ولا شرع الجهاد في سبيل الله، ولهذا أجر الصابر والصائم بغير حساب قال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
4- إن الصوم جاء ليكسر الشهوة الجنسية التي هي أخطر الغرائز في الإنسان إذا لم تنظّم وفق الفطرة الإسلامية، فإن هذه الغريزة هدمت أمماً بأكملها وتهدم آخرين، واسألوا التاريخ واعتبروا يا أولي الأبصار.
ونحن نتعجب كل العجب فالإسلام جاء ينظم هذه الغريزة ويهذبها ويضع لها حدوداً، أما هذه الحضارة الغربية الساقطة فأعطتها كل الحرية وقدستها بحجة أن الإنسان خلق حراً. لابد أن يستجيب لكل غريزة فيه استجابة بيولوجية، وصدق رسول الله إذ قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض البصر وأحصن الفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [رواه البخاري ومسلم].
5- وللصوم ثمرة اجتماعية هي التكافل والشعور بالوحدة لأن الصوم يسوي بين الحاكم والمحكوم والغنى والفقر والقوي والضعيف في الشعور بأنهم على صفة واحدة توجب عليهم التعاون على الخير.
6- إن من أعظم فوائد الصوم تقوى الله تعالى، فله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة من الآثام.
لكن أيها المسلمون هل حققنا هذه الفوائد في نفوسنا وأسرنا ومجتمعنا في رمضان وما بعد رمضان؟ أم نافقنا وصرنا أصحاب مناسبات ورسوم وحفلات؟ فهناك صائمون ولكن يقلدون أهل الكتاب في أعيادهم والله عزم علينا ألا نتشبه بهم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [رواه أحمد]. وهناك صائمون ولكن يلعبون القمار وينظرون إلى ما حرّم الله، وصائمون ولكن يغتابون الناس ويشعلون الفتن، وصائمون ولكن يغشون في البيع ولا ينصحون في وظائفهم ويأكلون الربا والرشوة، وصائمون ويقضون ليلهم باللهو والغناء الفاحش وبالنهار نائمون.
والحق يقال، إن صيام رمضان مدرسة متميزة يفتحها الإسلام كل عام للتربية العملية ليعلم الناس القيم وأرفع المعاني، فمن اغتنم الفرصة وصام كما أمر الله وشرع فقد نجح في الامتحان، ومن تكاسل وخالف فهو الخاسر ولا يضر الله شيئا، وصدق رسول الله حيث قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [البخاري].
وقال عمر بن الخطاب : ليس الصوم من الشراب والطعام وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو.
وقال جابر بن عبد الله : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأتم، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء).
ــــــــــــــــ
العشر الأوسط من رمضان
عبد الحميد التركستاني
الطائف
طه خياط
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- دعوة لاغتنام فضيلة الزمان (رمضان). 2- تقسيم الشهر بين المحسنين والمقتصدين والمذنبين. 3- شفاعة الصيام القرآن للعبد يوم القيامة. 4- صيام الجوارح.
-------------------------
الخطبة الأولى
ثم أما بعد أيها المسلمون:(1/235)
اتقوا الله تعالى واجتهدوا في الأعمال الصالحة في بقية شهركم وكم من الناس حتى يومنا هذا لم يستفد من شهر رمضان قد ضيع نهاره في النوم ولياليه في السهر المحرم، حتى متى يعيش الإنسان للذاته وشهواته، وحتى متى يسير في طريق النار ومع ركب إبليس، ألا ينزجر هذا المسكين، ألا يصبحوا من سبات الغفلة وضياع العمر.
تولى العمر في سهر و في لهو وفي خسر
فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري
أما يعلم المفرط في الطاعة أن شهر رمضان شهر مليء بأسباب المغفرة فمن فرّط في هذه الأسباب كان محروما غاية الحرمان .
وفي الحديث ((من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله)) .
وقال سعيد عن قاتدة، كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له في ما سواه، وفي أثر آخر: (إذا لم يغفر له من رد في ليلة القدر؟ متى يصلح من لا يصلح في رمضان، فمن فرط في الزرع في وقت البذار لم يحصد يوم الحصاد إلا الندم والخسار).
فيا من تريد العتق من النار ومغفرة الذنوب ورضا الرحمن، ينبغي لك أن تأتي بأسباب توجب لك الرحمة والمغفرة والعتق من النار وهي كما ذكرنا متيسرة في هذا الشهر من الصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر ومساعدة الفقراء والمحتاجين وإطعامهم والصدقة والاستغفار وغير ذلك من الأعمال الصالحة .
وقد ورد في الترمذي وغيره بسند صحيح ((إن لله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة))، ولكن الأغلب على أول الشهر الرحمة وهي للمحسنين المتقين الذين قاموا بالصيام والقيام وقراءة القرآن قال تعالى إن رحمة الله قريب عن المحسنين فيفاض على المتقين في أول الشهر خلع الرحمة والرضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان، وأما وسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة، فيغفر للصائمين، وإن ارتكبوا بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم ذلك من المغفرة إذا ارتكبوا بعض الذنوب كما قال تعالى وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم .
وأما آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أوبقته الأوزار، وصار مستوجبا للنار .
ليت شعري من فيه يقبل منا
فيهنا يا خيبة المردود
من تولى عنه بغير قبول
أرغم الله أنفقه بخزي شديد
ماذا فات من فاته خير رمضان؟ وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان .
أيها الاخوة: اعلموا أن المؤمن يجتمع له في رمضان جهادان لنفسه جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين، ووفى بحقوقهما وصبر عليهما، وفي أجره بغير حساب قال كعب: ينادي يوم القيامة مناد: إن كل حارث يعطي يحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصيام، يعطون أجورهم بغير حساب ويشفعان له أيضا عند الله عز وجل، كما في المسند بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، فيقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)) .
فيا من ضيع عمره في غير الطاعة! يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه ويا من بضاعته التسويف والتفريط! وبئست البضاعة، أيا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجوا من خصمك الشفاعة.
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه
والصور في يوم القيامة ينفخ
رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حظه من قيامه والسهر، كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعدا، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتا وردا.
يا قوم أين آثار الصيام؟ وأين أنوار القيام؟
إن كنت تنوح يا حمام البان
للبين فأين شاهد الأحزان
أيها المسلمون : ها نحن في بداية العشر الأوسط من رمضان وقد انقضت العشر الأوائل منه بما عملناه من طاعات فنسأل الله عز وجل أن يتقبل منا مصالح الأعمال وأن يغفر لنا التفريط والتقصير.
ابن آدم : يا من تكاسلت عن القيام بواجب الطاعة في أول الشهر لا تكن من المحرومين ففي الوقت فسحة وفي الشهر بقية هل لك الآن أن تبادر وتستقبل بقية الشهر أم تزيد أن تكون من المحرومين؟ أيها العبد الفقير إلى ربك لو عرفت قدر نفسك ما أمرضتها بالمعاصي، لأنك أنت المختار من المخلوقات، ولك أعدت الجنة، إن اتقيت وعملت صالحا، فهي إنما أعدت للمتقين، فكيف ترضى أن تكون من أتباع إبليس، وأن تكون معه في النار غدا من جملة أتباعه، وإنما طرد اللعين عن الجنة من أجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، ثم بعد ذلك ترضى لنفسك أن تكون من حربه وإنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون .
أيها المسلمون : هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب في نفسه لله وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟ من منكم عزم قبل علق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفا من فوقها غرف ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟
تنصف الشهر وا لهفاه و انهمر
واختص بالفوز بالجنات من حزما
وأصحب الغافل المسكين منكسرا
مثلي فيا ويحه يا عظيم ما حرما
من فاته الزرع في وقت النذار فما
تراه يحصد إلا الهم و الندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
في شهره و بحبل الله معتصما
يا قوم آلا خاطب في هذه الشهر إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان؟ ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان ؟
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التواني
و ليقم في ظلمة الليل إلى نور القران
وليصل صوما بصوم إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار الله في دار الأمان
معشر المؤمنين : لقد كان سلفنا الصالح يصومون عن كل محرم وعن كل شهوة من شهوات الدنيا ولسان حال الواحد منهم:
وقد صمت عن لذات الدهر كلها
ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
رؤى بشر الحافي رحمه الله في المنام، فسئل عن حاله، فقال : علم الله قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه. نعم لقد كانت أماني أولئك الصالحين هو دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم وذلك لأن النظر إلى وجه الله من أعظم نعيم الجنة كلها على الإطلاق كما قال تعالى ولدينا مزيد فالمزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم .
من كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت وقد قيل للحافظ عبد الغني النابلسي رحمه الله عندما أتته الوفاه ما تشتهي قال : أشتهي النظر إلى وجه الله الكريم، وقيل لبعضهم : أين نطلبك في الآخرة؟ قال : في زمرة الناظرين إلى الله، قيل له : كيف عملت ذلك؟ قال : بغض طرفي له عن كل محرم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه. هذه هي أماني الصالحين ولسان حالهم:
قال الشاعر:
هجرت الخلق طرا في هواك وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا لما حن الفؤاد إلى سواكا
فالعارفون لا يسليهم عن رؤي مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم كما ذكرنا أجل من ذلك.
عباد الله هذا شهر رمضان الذي أنزل فهي القرآن وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى فيه صاحبه أن يشفع، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمت الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكمم يتوالى علينا شهر رمضان وما لنا فيه كحال أهل الشهوة، ألا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة وإذا تليت عليهم آياته جلت قلوبهم جلوه، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أما لنا فيهم أسوة، كم بيننا وبين حال أهل الصفّا أبعد مما بيننا وبين الصفاء المروة.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى
وأبصروا الحق وقلبي قد تممي
ويحك يا نفس ألا تيقظ
ينفع قبل أن تزل قدمي
مضى الزمان في توان وهوى
فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
-------------------------
الخطبة الثانية
أيها المسلمون: ما أشبه الليلة بالبارحة!! بالأمس كنا نستقبل رمضان وها نحن نودع أسبوعا كاملا مضى العشر الأوائل منه مضت منه بما فيها من طاعات وأعمال صالحة من صيام وقيام وتلاوة قران وهاهي أيامه الجميلة ولياليه الطاهرة تمشي الهويني لكي تطوي علينا هذا الشهر المبارك.
إذا تم أمر بدا نقصه تأمل زوالا إذا قيل تم
أيها الاخوة: إنه والله من العجيب أن نرى أناسا ليس لهم هم في هذه الدنيا إلا تضييع الأوقات في اللهو والغفلة تمر عليهم المواسم والفرص ولا يحرصون على استغلالها في طاعة الله انظروا مثلا للناس في صلاة العشاء يملؤن المسجد حتى إذا فرغوا من صلاة العشاء خرجوا من المسجد بحيث أنهم لا يفكروا مجرد تفكير يتبعه عمل، في صلاة التراويح ويحرمون أنفسهم أجر مغفرة الذنوب، وكأن الدنيا فائتة وسوف تذهب عليهم فلماذا العجلة إذاً؟
والبعض يفرط أصلا في صلاة الجماعة حتى في رمضان لا ينصلح حاله، ويترك صلاة الجماعة يعرض نفسه للعقوبة ومشابهة المنافقين، والبعض لا يصون صومه عن الكذب والغيبة والنميمة والغش وسماع الأغاني والموسيقى وغير ذلك من الأعمال التي تخدش أجر الصوم.
لولا الذين له ورد يصلونا
وآخرون لهم سرد يصومونا
فاحذروا أيها المسلمون من نواقض الصوم ونواقضه، وصونوه عن قول الزور والعمل به فقد ورد في الحديث الصحيح إن النبي قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري.
فالصائم الحقيقي هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش والغيبة والنميمة وقول الزور وبطنه عن الأكل والشرب وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه ون فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه نافعا صالحا، وكذلك أعماله هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب كما جاء في الحديث ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) رواه الإمام أحمد وهو صحيح .
فالصوم الحقيقي إذن هو صوم الجوارح عن الآثام وصوم البطن عن الطعام والشراب، فكما أن الطعام والشراب يقطعه فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسر ثمرته، فتصيّره بمنزلة من لم يصم.
قال جابر بن عبد الله : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء).
ـــــــــــــــ
الخاسرون في رمضان
عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
غير محدد
غير محدد
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- مزية رمضان على سائر الشهور 2- الخاسرون في رمضان هم الذين لا يفيدون من خصائصه 3- الخاسرون هم أهل الكبائر ولمّا يتوبوا منها 4- دعوة للتوبة 4- تشريعات الإسلام تأمر بكل ما يُوثّق الأخوة من إفشاء للسلام وسعي في الإصلاح و.. 5- الولاء حق للمسلمين 6- المرء يوم القيامة مع من أحب
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
الحمد لله على ما يسر من مواسم الخيرات، وأفاض فيها على عباده من النعمات، ومكنهم بفضله من تكفير السيئات، وزيادة الحسنات، قال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))، ((ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))(1)[1]!! ما أعظم البشارة! وما أسهل العمل المطلوب لها! وهل في المسلمين أحد عاقل لا يهمه أن يغفر له ما تقدم من ذنبه أو لا يغفر؟! وهل في المسلمين أحد عاقل يريد أن يلقى ربه غدًا ولو لم يغفر له من ذنوبه شيء؟!
لقد فزع كثير من المسلمين لصيام رمضان المبارك وقيامه، وقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا ابتغاء ذلك الأجر العظيم، والخير العميم، فامتلأت المساجد بالمصلين، وضجت بأصوات التالين، وجعل الناس يهنئ بعضهم بعضًا بإدراك هذا الشهر الكريم!
ولكن هل هذا هو كل ما في رمضان أم هناك أشياء أخرى غير هذا؟! أما من ضيع رمضان وأهمله وقصر فيما شرع له فأولئك هم الخاسرون، ولا مرية في خسرانهم وشقاوتهم - نسأل الله العافية -، ولكن كيف بمن تحرى الخير في رمضان فأحيا ليله بالقيام، وعمر نهاره بالصيام، وجعل يتلو القرآن آناء الليل، وأطراف النهار، ابتغاء ذلك الوعد النبوي الصادق، والله لا يخلف الميعاد؟ هل فيهم خاسر أيضًا؟! أيخسر منهم أحد وقد كان منه مثل ما ذكرنا؟، نعم فيهم خاسرون كثير استفادوا من رمضان قليلاً، وخسروا فيه كثيرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:2-4]. فمع عملها وتعبها هي في النار - عياذًا بالله من ذلك -، فأي خسارة أعظم من تلك الخسارة.
غدًا توفى النفوس ما عملت ... ... ويحصد الزارعون ما زرعوا ...
إن أحسنوا أحسنو لأنفسهم ... ... وإن أساءوا فبئسما صنعوا
لقد صح عن رسول الله أنه صَعِد المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين فسئل عن ذلك، فقال: إن جبريل أتاني، فقال: خاب وخسر من أدرك أبويه فلم يدخلاه الجنة فمات، فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين، قال: ومن أدرك رمضان، فلم يغفر له فمات، فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده، فلم يصل عليك فمات، فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين))(2)[2]، أو كما قال ، فمن هؤلاء الخاسرون الذين يدعو عليهم رسول الله وجبريل - عليهما الصلاة والسلام -، فيكون شهر رمضان نقمة عليهم، وسببًا لحرمانهم الثواب، ودخولهم النار - عياذًا بالله من ذلك-؟
إن هذا الصنف من الناس هم أهل القلوب القاسية، الذين لا يزيدهم رمضان من الله إلا بعدًا، ولا تزيدهم بشائر الرحمن إلا صدًا، وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].
إنهم الذين إذا أدركوا رمضان، بادروا ببعض الأعمال، ولكنها لا تتغير منهم الأحوال، فيصبح الواحد منهم في شوال كما كان في شعبان، فحق عليه ذاك الدعاء العظيم بدخول الناس إذا أدرك رمضان فلم يغفر له.
إن هذا الصنف هو الذي بينه رسول الله حين قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر))(3)[3]، فمن اجتنب الكبائر، وسلم من الموبقات، فانحسر عنها، وقسر نفسه على الابتعاد منها، فسيكون رمضان مكفرًا لما سواها من الذنوب، والصلوات الخمس والجُمع وسيكون هذا الصنف - امرأة كان أم رجلاً - ممن أدرك رمضان فغفر له، فدخل الجنة بإذن الله تعالى، ولكن من كان ذا كبيرة أو كبائر، فحافظ عليها أشد المحافظة، وأصر عليها أعظم إصرار، وتعاهدها من نفسه، حتى لا يرجع عن عصيان ربه قيد أنملة، فذلك هو الخاسر الذي أدرك رمضان فلم يغفر له؛ لأن ما هو فيه من كبائر الذنوب لا وعد عليه بالمغفرة لمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ولا لمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ولا لمن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، فالكبائر لا تكفرها تلك المكفرات، التي ذكرها رسول الله في قوله: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر))(4)[4]، وليس ثمة شيء يكفر الكبيرة عن صاحبها إلا التوبة الصادقة النصوح، التي يتحقق فيها الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، وعصيان الله به، والعزم الصادق الأكيد على ألا يعود التائب إليه، فالوعد لأولئك فوق التكفير أن تبدل سيئاتهم حسنات، ترفع بها درجاتهم في الجنة، وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68،69]. وأي شيء أعظم من الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله بغير حق والزنا فذلك مصير من يفعله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً [الفرقان:70،71]. فما أعظم فضل الله وما أكرمه وما أسعد التائبين الصادقين بهذا الوعد الرباني الذي لا يماثله وعد وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111]، بل إن الله تعالى وعد من يجتنب كبائر الذنوب بتكفير السيئات والمدخل الكريم في الجنات فقال جل وعلا: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31]. وقال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [النجم:31،32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . .
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما أمر، وأشكره سبحانه وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، على رغم أنف من جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغير، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على رسوله الأمين فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا))(5)[1]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]. ولا يفوتنكم هذا الشهر الكريم، ولم يخش صاحب كبيرة أصر عليها أن يكون ممن أدرك رمضان فلم يغفر له، ودعا عليه بذلك رسول الله وجبريل - عليهما الصلاة والسلام - فتبينوا - رحمني الله وإياكم - قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58]. فتجاب بقول الله تعالى: بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59].
إن حلق اللحى، وإسبال الثياب، والمداومة على النظر المحرم، والسماع المحرم، كبائر عظيمة، ومجاهرة خطيرة، توشك أن تدخل صاحبها في قول رسول الله : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون))(6)[2]، ولابد لها أولاً من نفوس صادقة مؤمنة بربها، معترفة بخطئها وزللها، ثم عزائم جادة، غير وانية، تعزم إجابة الله ورسوله، مهما كلفها ذلك من مخالفة الهوى، وترك مألوف العادات، فيتحقق للعبد بذلك توبة صادقة نصوح، والتوبة تجُبُّ ما قبلها، فيخرج من شهره مغفورًا له ما تقدم من ذنبه، طامعًا أن يقال له عند فراقه: يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
ـــــــــــــــ
بعض خصائص رمضان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/9/1418
النور
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- خصائص شهر رمضان : أ- تكفير السيئات ب- شهر القيام 3- تُفتح فيه أبواب الجنة 4- تُغلق فيه أبواب النار 5- شهر القرآن
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:-
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون .
إن شهر رمضان أيها الأحبة، له في قلوب المسلمين معانٍ خاصة.
فقد ميزه المولى جل وتعالى عن باقي الشهور بعدة خصائص. وميزه بعدة سمات، فهذه بعضها:-
أولاً: رمضان شهر تكفير السيئات:
أنعم الكريم سبحانه على الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهرها هذا مخصوصاً بعميم غفرانه. فيا أيها الأحبة، أيام رمضان أيام محو ذنوبكم فاستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم، هي أيام الإنابة، فيها تفتح أبواب الإجابة، فأين اللائذ بالجناب، أين المتعّرض بالباب، أين الباكي على ما جنى، أين المستغفر لأمر قد دنا. كم من منقول في هذه الليلة من ديوان الأحياء، عن قريب يفاجأ بالممات، وهو مقيم على السيئات. ألا رُبّ غافل عن تدبير أمره قد انفصمت عُرَى عمره، ألا رُبّ معرض عن سبيل رشده، قد آن أوان شق لحده، ألا رُبّ رافل في ثوب شبابه قد أزف فراقه لأحبابه، ألا رُبّ مقيم على جهله، قد قرب رحيله عن أهله، ألا رُبّ مشغول بجمع ماله، قد حانت خيبة آماله، ألا رُبّ ساع في جمع حطامه، قد دنا تشتت عظامه. أين المعتذر مما جناه فقد اطلع عليه مولاه، أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره.(1/236)
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال يا محمد: من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت آمين)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
يا من كان يجول في المعاصي قبل رمضان، ها قد أعطاك الله الفرصة، لا تكن كمن كلما زاد عمره زاد إثمه.
فيا أيها الغافل، اعرف نفسك، وانتبه لوقتك، يا متلوثاً بالزلل، إغسل بالتوبة أدرانك، يا مكتوباً عليه كل قبيح، تصفح ديوانك.
لو قيل لأهل القبور تمنّوا، لتمنوا يوماً من رمضان. وأنت كلما خرجت من ذنب دخلت في آخر، أنت، نعم أنت الآن في رمضان كما كنت في سفر، أما تنفعك العبر؟ أصُمّ السمع أم عُشَى البصر؟ آن الرحيل وأنت على خطر، وعند الممات يأتيك الخبر.
قال بعضهم: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمراتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قُطّافها".
يا من قد ذهبت عنه هذه الأشهر، وما تغير، أقولها لك صريحة: أحسن الله عزاءك.
أنا العبد الذي كسب الذنوبا ... وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا ... على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد المسئ عصيت سراً ... ... فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري ... ... ... فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحر ... ... ... أصيح لربما ألقى مجيبا ...
أنا العبد السقيم من الخطايا ... ... ... وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا الغدّار كم عاهدت عهداً ... ... ... وكنت على الوفاء به كذوبا ...
فيا أسفي على عمر تقضى ... ... ... ولم أكسب به إلا الذنوبا ...
ويا حزناه من حشري ونشري ... ... ... بيوم يجعل الولدان شيبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي ... ... ... اذا ما أبدت الصحف العيوبا
ويا حذراه من نار تلظى ... ... ... اذا زفرت أقلقت القلوبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا ... ... ... خطاه أما آن الأوان لأن تتوبا
ثانياً: رمضان شهر التراويح، شهر التهجد والمصابيح:
عجباً لأوقاته ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها، طوبى لعبد صام نهاره، وقام أسحاره.
إليك يا أخي الحبيب بعض فوائد صلاة التراويح:
منها أن قيام رمضان من الإيمان ومغفرة لسالف الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
ومن فوائد التراويح أن مصليها يستحق اسم الصديقين والشهداء، وهذا من فيض الكريم سبحانه وتعالى. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته فمِمّن أنا؟ قال: ((من الصديقين والشهداء)) رواه البزار وابن خزيمة وهو صحيح.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل أول ليلة من رمضان يصلي المغرب ثم يقول: "أما بعد، فإن هذا الشهر كتب عليكم صيامه ولم يكتب عليكم قيامه فمن استطاع منكم أن يقوم فليقم، فإنها نوافل الخير التي قال الله".
ومن فوائد وبركات صلاة التراويح أن من قام مع إمامه كتب له قيام ليلة. عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ان الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة)).
تصلي مع الإمام حتى ينصرف وتتصبر هذه الدقائق يكتب لك قيام ليلة كاملة.
فاتق الله يا عبدالله في عمرك الذي مضى أكثره وأقبل على صلاة التراويح يُقبل الله عليك وانظر إلى سلفك من الصحابة، عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة، قال وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح - أي السحور -.
وما صلاح الأجساد إلا بإنتصابها لربها، في القيام والتراويح، وهو شفاء من أمراض الأجساد والقلوب ورفعة للدرجات عند علام الغيوب وهذا طريق الصالحين من قبلنا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم، وتكفير السيئات، ومطردة للداء عن الجسد)) حديث صحيح رواه الترمذي وغيره.
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها من طول القيام في التراويح.
فرحم الله رجلاً قدم لآخرته، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وقدم مهره، فإنما مهر الحور الحسان طول التهجد بالقرآن، ولا تكن يا أخي ممن يعظم الخِطبة ويسهى المهر.
بادر يا أخي فإنه مبادر بك.
كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير".
وقل ساعدي بانفس بالصبر ساعةً ... ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلاً
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ... ويصبح ذا الأحزان فرحان جاذلا
ثالثاً: رمضان شهر فتح أبواب الجنان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) رواه البخاري ومسلم.
إن فتح أبواب الجنة في رمضان حقيقة، لا تحتاج إلى تأويل، وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر.
إنها الجنة يا عباد الله التي غرس غراسها الرحمن بيده.
إنها الجنة التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها.
إنها الجنة دار كرامة الرحمن فهل من مشمر لها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها. ...
إنها الجنة التي اشتاق إليها الصاحون من هذه الأمة، فسلوا عنها جعفر الطيار وعمير بن الحمام وحرام بن ملحان وأنس بن النضر وعامر بن أبي فهيرة، وعمرو بن الجموح وعبدالله بن رواحة.
نعم إنها الجنة التي فتحت أبوابها هذه الأيام ولكن يا عجباً لها كيف نام طالبها، وكيف لم يدفع مهرها في رمضان خاطبها، وكيف يطيب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، إنها الجنة، دار الموقنين بوعد الله، المتهجدين في ليالي رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين لعباد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قالوا لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى باليل والناس نيام)).
إنها الجنة ما حُليت لأمة من الأمم، مثلما حُلّيت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن نبي الله موسى عليه السلام خدم العبد الصالح عشر سنوات، مهراً لزواجه من ابنته. فكم تخدم أنت مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان.
إن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، وهم حُراسها، فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة قال الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقره .
فحي على جنات عدن فإنها ... ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى ... ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
فلله أبصار ترى الله جهرة ... ... فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرةً ... ... ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
أجئتنا عطفاً علينا فإننا ... ... بنا ظمأً والمورد العذب أنتم
رابعاً: رمضان شهر غلق أبواب النيران:
قال الله تعالى: أن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأيم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)).
النار التي رأها رسول الله صلى الله عليه وسلم يحطم بعضها بعضاً، والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم لما رآها، لم أر منظراً كاليوم قط أفظع من النار.
هذه النار هي مخلوقة الآن، موجودة الآن، إنها معدة، فإياك ثم إياك أن تكون من وقودها.
لقد أُخبرت بأن النار مورد الجميع، وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً .
فأنت من الورود على يقين، لكنك من النجاة في شك. استشعر يا أخي في قلبك هول ذلك المورد، فعساك أن تستعد للنجاة منه، تأمل في حال الخلائق، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها، ينتظرون حقيقة أبنائها، وتشفيع شفعائها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة، تفصح عن شدة الغيظ والغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، حتى أشفق البريء من سوء المنقلب، وخرج المنادي من الزبانية قائلاً: أين فلان بن فلان، المسوّف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامع من حديد، ويستقبلونه بعظائم التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، ثم ينكسونه في قعر الجحيم، ويقولون له: ذق إنك أنت العزيز الكريم فَأُسكنوا داراً ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قد شُدّت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان، ولا خروج لكم من دار الهوان.
يا عبدالله: إن القضية جد، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل، نار، غمٌّ قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، عقابها عميم، عذابها أليم، بلاؤها شديد، وقعرها بعيد، سلاسل وأغلال، مقامع وأنكال، زمانهم ليل حالك، وضجيجهم ضجيج هالك، يصطرخون فيها فلا يجيبهم مالك، ومقامع الحديد تهشم جباههم، ويتفجر الصديد من أفواههم، وينقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم، لهيب النار سار في بواطن أعضائهم، وحيات الهاوية وعقاربها تأخذ بأشفارهم.
نعوذ بالله أن نكون من قوم لباسهم نار، ومهادهم نار، لُحُفٌ من نار، ومساكن من نار، وهم والعياذ بالله في شر دار.
فيها غلاظ شداد من ملائكة ... ... ... قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة ... ... ... وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء مظلمة شعثاء موحشة ... ... دهماء محرقة لواحة البشر
يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم ... ... فالموت شهوتهم من شدة الضجر
ضجوا وصاحوا زمانا ليس ينفعهم ... ... دعاء داع ولا تسليم مصطبر
وكل يوم لهم في طول مدتهم ... ... نزع شديد من التعذيب في سقر
فيا أخي الكريم، إذا كانت النار بهذه المثابة بل أشد، فإني أسألك أيها العاقل، أليست فرصة أن تغلق أبوابها هذه الأيام فإن لم تنتهز الفرصة الآن، فمتى يكون؟
فيا عجباً ،ـدري بنار وجنة وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر
إذا لم يكن خوف وشوق ولا حيا ... فماذا بقى فينا من الخير يذكر
وليس لحر صابرين ولا بلى فكيف على النيران يا قوم نصبر
وفوق جنات الخلد أعظم حسرة على تلك فليستحسر المتحسر
بارك الله لي ولكم . . .
-------------------------
الخطبة الثانية
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه. . .
أما بعد:-
الميزة الخامسة لهذا الشهر المبارك، أنه شهر القرآن، بل هو شهر الكتب السماوية كلها.
عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنزلت صحف ابراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، و أنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)) حديث حسن رواه الطبراني وأحمد.
أما القرآن خاصة فيقول الله جل وتعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .
إن للصيام علاقة خاصة بالقرآن، فإذا علم هذا فلعله يتضح سرّ إقبال الناس على القرآن في رمضان قراءةً وحفظاً واستماعاً دون بقية الطاعات والقربات.
قال ابن رجب: كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها.
وقال أيضاً: وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام.
وقال ابن الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم.
وقال عبدالرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
أسأل الله جل وتعالى للجميع القبول والإعانة.
ـــــــــــــــ
التلفزيون في رمضان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- كثرة الإقبال على الطاعات في رمضان. 2- نشاط برامج التلفزيون في رمضان. 3- ذكر بعض الحرام الذي يعرض على الناس في التلفاز. 4- التقوى هي الهدف من تشريع الصيام. 5- خطر النظرة الحرام على قلب الصائم. 6- أثر التلفاز في حياتنا الاجتماعية.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
ها نحن أيها الأحبة ،نعيش هذه الأيام أياماً مباركات ،صيام وتراويح قرآن وتسابيح صدقة ودعاء ،وبر وإحسان ،وغيرها كثير مما يتقرب بها المسلمون إلى ربهم في هذا الشهر ،لقد ازدحمت المساجد ،وكثر المصلون ،وهذا أمر طبيعي نشاهده في كل رمضان ،وأقبلت الأسر على ربها ،ويحرص كثير من الناس على العمرة في رمضان ،وكل هذا وغيره أمر طيب يحبه الله عز وجل.
لكن ثمة أمر آخر يتناقض مع كل ما سبق ذكره ،يقع أيضاً من الكثيرين في رمضان ،وهذا الأمر يعكس الأمور السابقة يبغضها المولى جل وتعالى. وأظن أنه لا بد من المصارحة بالحديث فيه. وهو قضية التلفاز في رمضان.
أيها المسلمون الصائمون: إن البرامج التلفزيونية كما هو مشاهد أنها تنشط في رمضان بشكل عجيب ،ويتضاعف جهود المحطات وقنوات البث.وهذا لا يتعارض مع حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم ،وسلسلت الشياطين)). وفي رواية مسلم: ((وصفدت الشياطين)) لأن الذي يسلسل هو الشياطين من الجن كما جاء في رواية الترمذي وابن ماجه-ومردة الجن-، لكن الذي وراء هذه البرامج هم مردة شياطين الإنس.
وكأنه والله أعلم أن هذا النشاط المكثف لأمر مقصود ،وهو إزالة الأجر والثواب الذي حصل عليه العبد في نهار رمضان فتأتي هذه البرامج وتقضي عليه بالليل.
لكن هؤلاء الشياطين لم يدعوا الصائمين من جمع الحسنات حتى في النهار ،فالتلفاز يعمل طوال ساعات الليل والنهار ،فانشغل الكثيرون حتى في نهار رمضان عن الذكر والاستغفار وقراءة القرآن ،وجلسوا أمام هذا الجهاز ،واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط.
أيها المسلمون: هل ينكر أحد منا أن الله حرم علينا معاشر الرجال النظر إلى المرأة الأجنبية ،ولا أتكلم عن الخلاف المعروف بين الفقهاء في وجه المرأة ،لأن الذي يعرض في التلفاز وجه المرأة وشعرها وصدرها وذراعيها ،وساقيها وربما أعظم من هذا هل ينكر أحد منا أن الإسلام قد حرم علينا الاستماع إلى الغناء وآلات الطرب واللهو. ولا يمكن أن يخلو برامج التلفاز من أصوات الموسيقى المحرمة.
كل هذا أيها الأحبة ،لو سلّمنا بأن ما يعرض على الناس هو النساء والموسيقى ولكن الواقع أن الأمر أعظم من هذا.
إن الذي يعرض على الناس الآن الشرك والكفر بالله تعالى ،يعرض على الناس السحر والشعوذة والزندقة ،يعرض على الناس تمثيليات الجنس ومسلسلات العشق والغرام ،يعرض على الناس الزنا الصريح ،يعرض على الناس صور الجريمة وأساليب النصب والاحتيال ،يعرض على الناس برامج منتجة في بلاد عربية ،مثل، وأغلب القائمين على الإنتاج اللبناني نصارى ،يحاربون الله ورسوله ،يعرض على الناس الخمر والمخدرات.
لقد تبلد أحاسيسس الناس ،وماتت الكثير من الفضائل الإسلامية في نفوسهم حتى صاروا يتقبلون أن ينظروا في الشاشة رجلاً يحتضن بنتاً شابة ،لأنه يمثل دور أبيها ،ونحن مطالبون أن نأخذ الأمر بعفوية وطبيعية.
وصرنا لا ننكر وجود رجل وامرأة في وضع الزوجين ،ونصف الرجل بأنه ممثل محترم وأنها ممثلة قديرة ،وصرنا لا ننكر على أن تظهر المرأة حاسرة الرأس ،كاشفة الشعر والرقبة، والذراعين والساقين.
تعودنا مناظر احتساء الخمور والتدخين والاغتصاب والسرقات والقتل والسباب بأقذع الألفاظ ،وتقبلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل. وكل هذا متفقون جميعاً على أنه حرام ،مصادم لأمر الله عز وجل.
أيها الصائمون: أسألكم وأنتم تعرفون الجواب، هل يتناسب كل ما ذكر مع رمضان ،شهر جمع الحسنات ،وشهر نزول الرحمات والبركات كيف تنزل الرحمات على البيوت؟ ما هذه التناقضات التي نعيشها. نمسك عن الطعام والشراب ،ولا نمسك عن النظر والاستمتاع، هل الصيام فقط الامتناع عن الأكل والشرب؟ من كان لا يعرف الصيام إلا بهذه الصورة مخطئ وجاهل ،الصيام هو صيام الجوارح كلها لكي يخرج في النهاية - لعلكم تتقون.
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
وهل مشاهدة هذه البرامج تكسب التقوى ،إنها تقضي على البقية الباقية من إيمان العبد ،كيف نرضى لأنفسنا أن نرتكب المحرم ونحن صائمون كيف نرضى أن نخالف ونطيع في نفس الوقت ،إنها لمن المتناقضات العجيبة.
إذا كان لابد من التلفاز في حياتك أخي المسلم ووصلت إلى قناعة ،أنك لا يمكنك الاستغناء عنه ،وهو في حياتك بمثابة الهواء والماء ،فلا أقل من أن تتركه في رمضان ،لكي لا تجرح صيامك وتنقص الأجر.
فاتقوا الله أيها الصائمون ،إننا نخاطب الإيمان الذي في قلوبكم ،ونخاطب الصيام الذي تصومون ،أن تتقوا الله جل وتعالى وأن يستحي الواحد منا من ربه ،فلا يعصيه ويخالفه وهو صائم ،ولا يعصيه بنعمه التي أنعمها عليه.
يا عبد الله ،يا من أيام عمره في حياته معدودة ،يا من عمره يُقضى بالساعة والساعة فيما لا فائدة منه ،يا كثير التفريط في قليل البضاعة ،يا شديد الإسراف، يا قوي الإضاعة ،كأني بك عن قليل تُرمى في جوف قاعة ،مسلوباً لباس القدرة ،وبأس الاستطاعة وجاء منكر ونكير في أفظع الفظاعة ،كأنهما أخوان من الفظاظة من لبان الرضاعة ،وأمسيت تجني ثمار هذه الزراعة ،وتمنيت لو قدرت على لحظةٍ لطاعة ،وقلت: رب ارجعون ،ومالك كلمة مطاعة ،يا متخلفاً عن أقرانه قد آن أن تحلق الجماعة.
أيها المسلمون الصائمون: إننا نخاطب الإيمان الذي في قلوبكم أن تحفظوا نعمة البصر ،ولا تطلقوها في النظر إلى ما حرم الله، فإن النظر سهم من سهام إبليس. إن النظر بمنزلة الشرارة في النار ،تُرمى في الحطب اليابس ،فإن لم تحرقه كله ،أحرقت بعضه ،وكما قيل:
ومعظم النار من مستصغر الشرر
فعل السهام بلا قوس ولا وتر
في أعين الغيد موقوف على خطر
لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
كل الحوادث مبدؤها من النظر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
يسر مقلته ما ضرّ مهجته
إن من غضّ بصره عما حرم الله عليه ،عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه ،فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره في محارم الله ،وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه ،فإن القلب كالمرآة ،والذنوب كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي. وإذا صدأت لم تنطبع فيها صور المعلومات ،فيكون علمه وكلامه من باب الخوض والظنون.
ثم بعد هذا كله أيها الآباء ما ذنب الأبناء أن نربيهم منذ الصغر ،وفي هذا الشهر على مسلسلات الخلاعة والمجون ،ويكبرون على التناقضات ،فيتربى منذ الصغر في نفسه أن لا مانع من النظر في النساء ،ولا مانع من رؤية الفواحش ،ولا مانع من رؤية مناظر الخمور والدعارة ،ومع هذا كله لا مانع أن يصوم ويمسك عن الطعام والشراب ،لكنه لا يطلق بقية جوارحه. والله المستعان.
ما ذنب الأبناء؟ ثم يشتكي الواحد منا بعد ذلك من ولده أنه يدخن أو..
أيها المسلمون: إن التلفاز في حياة الناس تدخل في كل شيء، إن التلفاز غيرّ ترتيب وجبات الطعام عند الناس فصارت الوجبات ملتزمة بمواعيد البرامج ،وأحياناً يأتي موعد الوجبة الغذائية ويمضي ،والمشاهدون مشدودون للتلفاز دون اهتمام بحاجة الجسم للطعام ودون شعور بالجوع في بعض الأحيان وذلك عندما يبلغ سكر الفم منتهاه.
لقد غيرّ التلفاز طريقة تجمع الناس ،لقد كان هناك تزاور بين الجيران في السابق وكانت هناك أحاديث جميلة وتسامر نظيف واهتمام بمشاكل بعض ،أما الآن ،فكل ليل الأسر مشغول بمتابعة الأفلام، وتعدى الأمر حتى إلى العجائز والله المستعان.
بل إن الأسرة الواحدة اسأل نفسك أيها الأب ،كم مرة تلتقي في الأسبوع بكامل أفراد البيت على غير الطعام والتلفاز ،لتتحدثوا حول موضوع معين ،أو على الأقل تجلس معهم أيها الأب لكي يكتسبوا من أخلاقك ،ومتى سوف يتعلمون منك التعقل والحكمة والاتزان ،ومتى يقتبسون من أفكارك وآرائك أيها الوالد.
إذا كنت الآن وفي هذا السن لا تجلس معهم فمتى يكون إذن ،فبعد أن يكبر الأولاد، الالتقاء معهم يكون في المناسبات ،فالتلفاز لم يترك وقتاً للالتقاء الأسري ،ولا للتجمع العائلي ،وليس هناك مجال لتبادل الخبرات والتجارب، الجواب أتركه لكل والد.
أين هدوء ليالي رمضان التي كنا نعرفها قديماً، إن ليالي رمضان كان له جوه الخاص ،وشفافيته الفياضة ،وروحانيته الخاصة ،بين قارئ لكتاب الله ،ومستغفر بالأسحار ،وقائم يصلي لصدره أزيز كأزيز المرجل ،الكل في هدوء وسكينة ،فجاء التلفاز في رمضان وحرم الناس تلك السكينة وذاك الهدوء ،بأفلام رعاة البقر ،ومسلسلات العنف والجريمة ،وجولات المصارعة الحرة ،ومباريات كرة القدم. والأدهى من ذلك كله ،أن يُخدع الناس في رمضان ببعض الأفلام التي يسمونها الإسلامية أو (المسلسلات الدينية) ،فالمخنثين من الممثلين الذين كانوا في شعبان يمثلون أفلام الخلاعة والزنا والدعارة ،إذا جاء رمضان ،مثلوا أدوار الصحابة في تمثيلياتهم. والممثلة الساقطة التي كانت في شعبان ،تُقبل على شاشات التلفاز ،ويُمارس معها الخنا والفجور تخرج في رمضان بحجاب وجلباب طويل لتمثل دور الصحابيات ،أو زوجة أحد الشخصيات الإسلامية، أي مغالطة أعظم من هذا ،بل أي منكر أعظم من هذا ونحن ننظر ونتقبل الأمر بشكل طبيعي ،ماتت الغيرة عندنا حتى على أصحاب رسول الله.(1/237)
فلنتق الله أيها المسلمون ،ولنعرف لرمضان حقه وحرمته ،ولنترك المعاصي والذنوب ،ونتوب إلى الله توبة صادقة في هذا الشهر فإنها والله فرصة، والمحروم من حرم ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً وهو العزيز الحكيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها المسلمون الصائمون: بقيت كلمة تتعلق بجهاز التلفاز في رمضان. تتعلق بالقنوات الفضائية التي تستقبل عن طريق الأقراص ،التي تسمى بالدش. إن الشر الذي يعرض في المحطات القريبة حولنا ،لكافٍ في هدم دين وأخلاق المجتمع. فما بالكم لو سُهّل للناس رؤية محطات فرنسا وبريطانيا وأمريكا ،وقد سُهّل ذلك ،إنه باب من الشر لا يعلمه إلا الله.
ـــــــــــــــ
أبواب الخير في رمضان
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- كثرة ذنوبنا وخطايانا تدعونا لتوبة نصوح في رمضان. 2- صيام الجوارح مع الصيام عن الطعام والشراب. 3- رحمة الفقراء والمحتاجين في رمضان. 4- نعمة إدراك رمضان وبلوغه. 5- رمضان شهر القيام وشهر قراءة القرآن. 6- تزكية عمل المؤسسات الخيرية التي تهتم بأحوال المسلمين. 7- الحث على التبرع لجمعية تحفيظ القرآن الكريم.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عن أبي هريرة وأرضاه أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة))(1)[1].
فتحت أبواب الرحمات، فتحت أبواب الخيرات والبركات، فتحت أبواب المغفرات. فما أحوجنا إلى رحمة من ربنا، ما أحوجنا إلى رحمة من رحماته ومغفرة من واسع مغفراته.
وقفنا على أبواب رمضان، وكلنا أمل في عفو الحليم الرحمن. وقفنا وقد أثقلتنا ذنوبنا وعظمت علينا عيوبنا وإساءتنا، وفي الله رجاؤنا وأملنا، فبباب الله أنخنا، ولرحمته وحلمه وعفوه تعرضنا، فيا أرحم الراحمين لا تجعلنا عن بابك مطرودين، ولا من فضلك وإحسانك ـ بما كان منا من إساءة ـ محرومين، اللهم إنا نسألك من واسع رحمتك.
الأمل في الله كبير، الأمل في الله عظيم، فما منا إلا ومذنب ومسيء, وما منا إلا وهو مخطئ ولكن رجاؤنا فيمن يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومن يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
((يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي))(2)[2]. استغفروا الله؛ فإن الله غفور رحيم، واستفتحوا شهركم بتوبة نصوح يأمن العبد بها الخزي والفضوح، فكم لله جل وعلا في هذه الأيام من نفحات ورحمات.
ما أحوجنا أن نستفتح هذا الشهر الكريم وقد ألقيت عن ظهورنا الأحمال والأوزار، وما ذلك على الله بعزيز.
نقف اليوم على مشارف شهر رمضان ، شهر الرحمات والبركات والخيرات، ونحن أحوج ما نكون إلى أسباب رحمة الله.
ألا وإن من أسباب رحمته صفاء قلوبنا ونقاء صدورنا من الشحناء والبغضاء.
كفى أيها المتهاجرون، كفى أيها المتقاطعون، كفى أيها المتباعدون.
إلى متى ونحن متعادون؟ إلى متى ونحن مختلفون؟ إلى متى ونحن متباغضون؟ هل لنا أن نستفتح هذا الشهر الكريم وقد ملئت قلوبنا بالصفاء والمودة والإخاء؟
فيا أيها الأحبة في الله: دعوة أن تصوم قلوبنا عن الشحناء والبغضاء، كفى ما مضى فما قلتم ولا قلنا ولا كان بينكم بيننا. كفى، فلا كان منكم ولا كان منا، ولا فعلتم ولا فعلنا. فلتجتمع قلوبنا ولتلتحم صفوفنا ولنرض الله جل وعلا.
صفحًا عن الأبناء والبنات، صفحًا عن الإخوان والأخوات، صفحًا عن المؤمنين والمؤمنات.
ما أحوجنا أن نصوم صيام الصالحين فنستفتح هذا الشهر المبارك وقد زال ما بيننا وبين المؤمنين، ما أحوجنا في هذا الشهر المبارك أن ننظر إلى البائسين، وأن نرحم البائسين، وأن نحسن إلى المحتاجين، فالله يرحم من عباده الرحماء.
ألا عطفًا على البائسين والمحتاجين والمنكوبين, فمن رحم عباد الله رحمه الله، والصدقة تطفئ غضب الله، فكم من حسنة إلى منكوب، وكم من صدقة إلى مكروب غفر الله بها الذنوب، وستر بها العيوب، فاحتسبوا عند الله.
إن الصيام يذكركم بالجائع الذي لا يجد طعامه. إن الصيام يذكركم بإخوان لكم في الدين عاشوا بائسين منكوبين، يذكركم بتلك الأمعاء والأحشاء التي ظمئت وجاعت فاحتسبوا عند الله، فمن فرج كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، يسروا على المعسرين، وأحسنوا إلى المحتاجين. فكم غابت شمس رمضان فغابت معها ذنوب العباد من الله الرحمن. ارحموا عباد الله فإن الله يرحم من عباده الرحماء.
عباد الله ما أحوجنا ونحن نعيش هذه الأيام أن نلهج بالثناء والشكر لله فاطر الأرض والسماء. بلغنا رمضان وما كنا لنبلغه بحولنا وقوتنا. كم من قلوب تمنت, وكم من نفوس حنت أن تبلغ هذه الساعات واللحظات دهمهم هادم اللذات، فهم غرباء سفر لا ينتظرون، وسكان لحد وشق إلى الحشر يساقون. فيا عباد الله اشكروا نعمة الله عليكم بالحياة وبلوغ شهر رمضان, واسألوه التوفيق للطاعة؛ فإنه الموفق والمسدد لمن شاء من عباده، واحمدوا نعمة الله على عافية الأبدان، وأمن الأوطان، وما كان من الله من إحسان، فمن شكر نعمة الله آذنه بالمزيد. اللهم لك الحمد كالذي نقول ولك الحمد خيرًا مما نقول.
عباد الله: شهر الصيام صامت فيه الجوارح والأركان عن الآثام والعصيان، فطوبى لمن صامت أحشاؤه وأمعاؤه, وطوبى لمن صام بصره عن الحرام، وصام لسانه عن الفحش والآثام، طوبى لمن صام الشهر واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر. أخذ رمضان كاملاً وسلمه للملائكة كاملاً، فلا غيبة ولا نميمة ولا أذية للمؤمنين صام فصامت جوارحه وأركانه قانتًا آناء الليل ساجدًا وقائمًا يرجو رحمة ربه ويخشى من عذابه.
الصيام إقبال على الله، مدرسة الصالحين ومنازل الأخيار والمتقين، فلمثل هذا فليعمل العاملون. جعلنا الله وإياكم منهم أجمعين.
عباد الله: إن قيام شهر رمضان حسنة من الحسنات وطاعة من أجلَّ الطاعات.
عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين, وخُلق عباد الله المتقين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17-18].
وأكثروا من تلاوة القرآن؛ فإنه يأتي شفيعًا لأهله يوم القيامة. أكثروا من قراءة القرآن في شهر رمضان؛ فإنه نعمة ورحمة وهداية وموعظة, وقفوا أمام الآيات وتدبروا تلك العظات البالغات، وأتبعوها العمل تحببًا إلى الله فاطر الأرض والسموات.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا وسائقنا وقائدنا إلى رضوانك وجناتك جنات النعيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الديان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى والبيان، فشرح به الصدور وأنار به القلوب. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما آذنت شمس بغروب، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله إن المؤسسات الخيرية والجماعات الخيرية تقوم بأمر عظيم، تحملت الأمانة وقامت بتلك المسئولية العظيمة التي رعت فيها أبناء المسلمين وبناتهم. فالله أعلم كم فرجت بهم من كربات, وكم زالت بهم من نكبات. الله أعلم كم كان من هذه الجمعيات والمؤسسات الخيرية من خير وبر. أسأل الله العظيم أن يعظم أجرهم وأن يثقل في موازين الحسنات حسناتهم.
عباد الله: ووراء هذه الجمعيات أقوام يحتسبون الأجر عند الله ومحسنون بذلوا لوجه الله فكم كان لهم من فضل بعد الله عز وجل في بقائها وحسن أدائها وعظيم رعايتها.
فيا عباد الله: القيام بأمر هذه الجمعيات يحتاج إلى معونة ومساعدة ومواساة من المسلمين يحتاج إلى كل واحد منا أن يقف مع إخوانه ويعينهم على الطاعة والبر. فمن أعان ذا خير على خيره أُجر كأجره، فتعاونوا على البر والتقوى، واحتسبوا ـ عباد الله ـ في مد يد العون لهم فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ومن هذه الجمعيات والمؤسسات تلك المؤسسة الخيرية والجمعية المباركة التي قامت على تحفيظ كتاب الله لأبناء المسلمين وبناتهم. كم حبرت من آيات، وسمعت من تلاوات وكم من جاهل عُلِم، وكم من ضال قُوِّم. كم كان فيها من خير. كم كان فيها من نفع للمسلمين والمسلمات فاحتسبوا ـ عباد الله ـ في معونتها وأداء الخير إليها. وما يدريك فلعل هذا المال الذي تدفعه أن يكون سببًا في حفظ كتاب الله جل وعلا. وما يدريك فلعل هذا المال الذي تعطيه يكون سببًا في حفظ آية أو سورة، ما تلفظ بها صاحبها إلا كان لك كأجره، ما يدريك لعل الله عز وجل أن يرحمك بما كان منك من خير لكتابه، ومن أعان على حفظ كتابه، وإن إخوانكم ينتظرون منكم العون فأعينوهم أعانكم الله. تقبل الله منا ومنكم.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ فقد أمركم الله بذلك....
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصوم،
(2) هذا حديث قدسي رواه الترمذي في كتاب الدعوات عن أنس، ورواه أحمد (5/167) من حديث أبي ذر بمعناه.
ـــــــــــــــ
كيف نستقبل رمضان
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- اغتنم رمضان فلا تدري لعلك لا تدركه ثانية. 2- الاستعداد لشهر رمضان بتصحيح السلوك وتحقيق كمال الإيمان والتوبة من الذنوب. 3- بعض فضائل رمضان. 4- بعض الأحكام المتعلقة بالصيام والقيام. 5- القنوت في صلاة الوتر.
-------------------------
الخطبة الأولى
أيها الإخوة: ما أشبه الليلة بالبارحة هذه الأيام تمر بسرعة وكأنها لحظات، لقد استقبلنا رمضان ثم ودعناه، وما هي إلا فترة من الزمن وإذا نحن نستقبل رمضان مرة أخرى.
أيها الإخوة: ولو نظرنا حولنا لوجدنا أن بعضاً ممن أدرك رمضان الماضي أصبح من أهل القبور وربما البعض منا في هذا العام ممن يقدر الله له أن يصوم رمضان كاملاً. فيقدر الله ألا يكون من أهل الدنيا بعده فيكون آخر رمضان يصومه ويقومه، ولو استشعر كل منا هذا الأمر واستعد للموت بعد رمضان أو في أثنائه وصام رمضان إيماناً واحتساباً وقامه أيضاً إيماناً واحتساباً لنال السعادة والفوز بالجنة، فرغم أنف ثم رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له.
أيها الإخوة: إن الاستعداد في رمضان يكون بمحاسبة النفس على تقصيرها سواء بالتقصير في تحقيق الشهادتين أو التقصير في الواجبات أو التقصير في عدم ترك ما نقع فيه من الشهوات أو الشبهات .. فيقوم العبد سلوكه ليكون في رمضان على درجة عالية من الإيمان .. فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأول طاعة يحققها العبد هي تحقيق العبودية لله وحده وينعقد في نفسه ألا معبود بحق إلا الله فيصرف جميع أنواع العبادة لله لا يشرك معه أحداً في عبادته، ولا يرائى بعبادته، ومنها العبادات القلبية من خشية ورهبة وخوف ورجاء وتوكل وإنابة وإخبات ورغبة واستعانة واستغاثة وأيضاً وكل أنواع العبادة الظاهرة، ويستيقن كل منا أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن كل شيء بقدر.
ونمتنع عن كل ما يناقض تحقيق الشهادتين وذلك بالابتعاد عن البدع والإحداث في الدين. وبتحقيق الولاء والبراء، بأن نوالي المؤمنين ونعادي الكافرين والمنافقين، ونفرح بانتصار المسلمين على أعدائهم، ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونستن بسنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ونحبها ونحب من يتمسك بها ويدافع عنها في أي أرض وبأي لون وجنسية كان.
بعد ذلك أيها الإخوة نحاسب أنفسنا على التقصير في فعل الطاعات كالتقصير في أداء الصلوات جماعة وذكر الله عز وجل وأداء الحقوق للجار وللأرحام وللمسلمين وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق، والصبر على ذلك، وبالصبر عن فعل المنكرات، أو بالصبر على فعل الطاعات، أو بالصبر على أقدار الله عز وجل.
ثم تكون المحاسبة على فعل المعاصي واتباع الشهوات بمنع أنفسنا من الاستمرار عليها، أي معصية كانت صغيرة أو كبيرة، سواء كانت معصية بالعين، بالنظر إلى ما حرم الله أو بالسماع للمعازف أو بالمشي فيما لا يرضي الله عز وجل، أو بالبطش باليدين في ما لا يرضي الله، أو بأكل ما حرم الله من الربا أو الرشوة أو غير ذلك مما يدخل في أكل أموال الناس بالباطل.
ويكون نصب أعيننا أيها الإخوة أن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وقد قال سبحانه وتعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين.
وقال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم. وقال تعالى: ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً.
بهذه المحاسبة وبالتوبة والاستغفار يجب علينا أن نستقبل رمضان، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها الإخوة: إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح والتاجر الحاذق يغتنم المواسم ليزيد من أرباحه فاغتنموا هذا الشهر بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والعفو عن الناس والإحسان للغير والتصدق على الفقراء.
ففي شهر رمضان تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد فيه الشياطين وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغي الخير أقبل هلم، ويا باغي، الشر أقصر.
فكونوا عباد الله من أهل الخير متبعين في ذلك سلفكم الصالح مهتدين بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم حتى نخرج من رمضان بذنب مغفور وعمل صالح مقبول.
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا جميعاً لذلك ويعيننا على الصيام والقيام وفعل الطاعات وترك المنكرات إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
قال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريدُ الله بكمُ اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
أيها الإخوة: أخلصوا النية لله في صيامكم وقيامكم، وبيتوا النية بالصيام، ويصح أن تنووا صيام الشهر كله إذا لم تخرموه بإفطار بعذر. لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)). ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)). فمن أفطر بعذر لسفر أو لمرض أو لغيره فعليه تجديد النية.
وعلى المسلم أن يتحلى بالصبر حتى وإن سابه أحد أو شاتمه كما جاء في الحديث الصحيح: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)).
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تأخير السحور وتعجيل الإفطار، ويكون تأخير السحور إلى ما قبل الفجر بما يقدر بقراءة خمسين آية، وعلى المسلم أن يتسحر ولو بقليل من الماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تسحروا فإن في السحور بركة)).
وإذا أصبح الصائم وهو جنب من الليل فليغتسل ولا شيء عليه، وكذلك من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وساقاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والمسافر مخير بين الصوم والإفطار أثناء سفره كما جاء في صحيح مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)). هذا في السفر المباح أما من سافر بقصد الإفطار أو سافر في معصية فأفطر فهو آثم وعليه وزر وعليه القضاء مع التوبة والاستغفار.
وقد شرع في رمضان الاعتكاف في العشر الأواخر منه استعداداً وتحرياً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يحظون بالقيام والدعاء والاستغفار في ليلة القدر إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أنه يشرع قيام رمضان وأن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة .. فلله الحمد والمنة، يقوم المصلي ساعة من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله.
ولا ننسى أيها الإخوة الاهتمام بالفرائض أولاً والمواظبة عليها في المساجد جماعة، فالله عز وجل يحب التقرب إليه بالفرائض .فلا ننسى الأصل والفرض ونهتم بالنوافل والمستحب.
وصلاة القيام أيها الإخوة ليس لها أذان ولا إقامة، وقد سئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت: لم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) إذاً الأفضل أن تكون صلاة الليل إحدى عشرة ركعة بقراءة مرتلة وخشوع واطمئنان في جميع الأركان ومن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا بأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى))، سواء صلى المصلي ثلاثاً وعشرين أو ثلاثاً وثلاثين أو غير ذلك المهم أن تكون الصلاة بقراءة مرتلة وخشوع واطمئنان وسواء صلاها المسلم مع الإمام في المساجد أو صلاها منفرداً في بيته.
أما دعاء القنوت في الوتر فلم يثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في رمضان ولا في غيره، لا منفرداً ولا في جماعة حيث قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في رمضان في عدة رمضانات وفي ليالي متفرقة من كل رمضان صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة ولم ينقل عنه أنه قنت في الوتر، ولذلك أخذ المالكية بهذا الأمر فهم لا يقنتون لا في رمضان ولا في غيره وأهل بلاد المغرب يتمسكون بعدم القنوت طوال العام.
ولكن أيها الإخوة حيث ثبت أن الصحابة قد قنتوا في النصف الأخير من رمضان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلذلك رأى بعض أهل العلم أن القنوت في الوتر لا يشرع طوال العام إلا في النصف الأخير من رمضان، وبهذا أخذ الشافعية فهم لايقنتون في الوتر طوال العام إلا في النصف الأخير من رمضان ودليلهم قوي لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك.
وأما من يقنت في الوتر طوال العام بحجة الحديث الذي يروى عن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه دعاء القنوت المشهور، فقد قال بعض أهل العلم لا بأس بذلك. إذاً فمن قنت أوترك. أو اقتصر على النصف الأخير من رمضان فلا بأس. ولا ينكر على أحد منهم، فالأمر واسع والحمد لله.
ولكن الأرجح هو أن يكون دعاء القنوت في النصف الأخير من رمضان، والدعاء في القنوت ينبغي أن يكون موافقاً لما ثبت عن إجماع الصحابة، مع البعد عن التعدي في الأقوال والبعد عن الإطالة والتنغيم تشبهاً بقراءة القرآن والأولى إخشاع القلوب بالقرآن وبحسن التلاوة مع تطبيق السنن في الصلاة من خشوع وطمأنينة، وقراءة دعاء الاستفتاح الذي يتهاون به كثير من أئمة التراويح هذه الأيام، نسأل الله لنا ولهم الهداية والإخلاص في القول والعمل إنه سميع مجيب.
ــــــــــــــــ
تحقيق التقوى في صيام رمضان
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- فضل الصوم ومكانته. 2- فضل شهر رمضان وحال السلف فيه. 3- حال الناس هذه الأيام في رمضان. 4- الحكمة من مشروعية صوم رمضان هي تحقيق التقوى.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المؤمنون: قد أظلنا شهر الرحمات والبركات شهر الطاعات والصدقات، شهر يجازي فيه الله على القليل بالكثير، ويضاعف فيه الحسنات شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
قال : ((أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين،لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)).
وقال : ((ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً)).
وقال : ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)). أي أن أجره عظيم تكفل الله به لعباده الصائمين المخلصين.
عباد الله: شهر رمضان عند سلفنا الصالح ليس شهر النوم والبطالة والبدانة، إنه شهر عظيم عرفوا قدره ومكانته وعلموا أن من حرم الخير والرحمة فيه فهو المحروم حقاً.(1/238)
شهر رمضان عندهم هو شهر الجد والنشاط والاستعداد للدار الآخرة، فشهر رمضان عندهم هو شهر جميع الطاعات، فهو شهر الصلاة والقيام حيث كانوا يحيون ليله كله قياماً وتهجداً، وهو شهر القرآن حيث كانوا يختمون في كل يوم مرة أو مرتين، فكان لبعضهم في رمضان ستون ختمة، وهو شهر الصدقات حيث كانوا يطعمون الطعام ويفطرون الصوام،ورمضان عندهم هو شهر الجهاد حيث وقعت فيه أعظم فتوحات الإسلام، فيه معركة الفرقان الكبرى معركة بدر التي فرق الله فيها بين التوحيد والشرك،وفي رمضان كذلك كان الفتح الأعظم فتح مكة الذي فيه أزهق الباطق وهدمت قلاعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
إذاً شهر رمضان عند أسلافنا ليس شهر النوم والكسل والعبث بل شهر ملؤوا ساعاته ولياليه بالطاعات والعبرات والبكاء والانطراح بين يدي الله يرجون رحمته ومغفرته. إذا كان هذا حالهم في رمضان فما هي حالنا في رمضان كيف هو حال الأمة يدخل عليها هذا الشهر الكريم هل استعدت للقائه؟ هل عزمت على استثماره واغتنامه؟ هل أعطته حقه من التكريم والتعظيم؟نعم قد استعد سفهاء هذه الأمة لهذا الشهر الكريم بقنواتهم الفضائية وبرامجهم التي يصدون بها عن دين الله عز وجل. نعم قد استعدت الأمة بأسواقها لتلقي أفواج الناس الذين تمتلئ بهم الأسواق أضعاف ما يكون في صلاة التراويح، قد استعدت الأمة لإعداد أصناف المأكولات بخاصة برمضان، بل إنك لتعجب أن يأخذ الطعام في رمضان من الهم والوقت والجهد أكثر مما تأخذه العبادة عند كثير من الناس، وبالأخص النساء.
إن حال الأمة في استقبالها لهذا الشهر حال يرثى له فصنف منها يستثقل هذا الشهر وقدومه لأنه سيفقد فيه ما اعتاده من الشهوات المباحة وغير المباحة في النهار، ولذا لو تسنى له السفر عن بلاد المسلمين لسافر وتخفف من هذا الشهر وتكاليفه، فتجده يقضي نهاره كله بالنوم وتضييع الصلوات، وليله بالسهر والعبث، وصنف آخر من هذه الأمة لا يستثقل هذا الشهر الكريم لكنه أيضاً لم يستعد له بالقيام وتلاوة القرآن وبذل المعروف، فمثل هذا قد استعد ببطنه وجسمه لا بروحه وقلبه.
وصنف آخر من هذه الأمة أولو بقية قد استقبلوا هذا الشهر الكريم بالفرح والاستبشار وحمد الله أن بلغهم رمضان،قد عقدوا العزم على اغتنام نهاره ولياليه بالطاعات والقربات والبعد عن المحرمات قد امتلأت بمثل هؤلاء المساجد وخلت منهم الأسواق، فهؤلاء هم صلة السلف الذين عرفوا لهذا الشهر قدره ومنزلته، فعمروه بطاعة الله وطلب رضوانه.
أيها المؤمنون: هذه وقفتان نقفهما عند آية وحديث.
الوقفة الأولى: عند قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون فهذه الآية دلت على أن الغاية الكبرى من هذا الصيام هو حصول تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالصائم الذي لم يحقق تقوى الله في صيامه قد خسر الثمرة من هذا الصيام الذي لم يشرعه الله لمجرد الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) والمعنى من لم يترك الكذب والميل عن الحق.
إذاً هل حقق التقوى من يدخل عليه الشهر الكريم ويخرج ولم يحرك فيه ساكناً، فصلاته مضيعة، ومنكراته مستمرة، فإن لم يزده رمضان بعداً عن الله فلم يزده قرباً. أم هل حقق التقوى ونال ثمرة الصيام من حافظ على الصلوات وتصدق وقرأ القرآن وتخفف من المنكرات لكنه ما إن يهلَّ شهر شوال حتى يعود كما كان في شعبان.
وهل حقق التقوى من يصوم ويصلي ويقرأ القرآن لكنه لا يتورع عن تضييع ليالي هذا الشهر الكريم في جلسات وسهرات منكرة قد امتلأت بالغيبة والمشاهد المحرمة.
الوقفة الثانية: عند قوله : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
ومعنى قوله: ((إيماناً واحتساباً)) أي مصدقاً بوجوبه راغباً في ثوابه طيبة به نفسه غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه.
ولا نعجب أيها المؤمنون ممن يصوم ويصلي مع الناس ومع ذلك لا نجد أثراً للصيام في أعماله وتصرفاته بل يوم صومه وفطره سواء، وسر ذلك أن كثيراً من الناس يصومون ويصلون التراويح مع الناس، لكن فعلهم هذا قد غلبت فيه العادة نية العباد، ولذلك لا نجد للصيام والقيام أثراً في حياتهم قال جابر : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الجار، وليكن عليكم وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء).
فإذاً قوله في صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً هو سبب حصول ثمرة الصيام، وهو غفران الذنوب وحصول الرضى من الله. وأما من صام لأن الناس يصومون وقام لأن الناس يقومون غافلاً عن إصلاح النية واحتساب الأجر على الله، فهذا قد خسر الخسران المبين.
أيها المؤمنون: هذا الشهر الكريم قد هل علينا وما أسرع ما تنقضي أيامه ولياليه، وصدق الله إذ يقول عن هذا الشهر أياماً معدودات. فبادروا فيه بالأعمال الصالحة والتوبة إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، فهو فرصة للتوبة والدعاء والعتق من النيران، فمن لم يتب فيه فمتى يتوب؟ ومن لم يدع فيه المعصية ولم يستجب له فمتى يدع؟ ومن لم يعتق من فيه من النار فقد خسر أعظم الخسارة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.
بارك الله لي ولكم. .
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها المؤمنون: تستقبل الأمة الإسلامية شهر رمضان الكريم بجراحها وآلامها، فكم لها في بقاع الأرض من جريح وصريع وشريد، فأمتنا بحاجة لأن يلتفت إلى جراحها وآلامها المخلصون من أبنائها، وبالأخص من أنعم الله عليهم بالمال والسعة في الرزق، فتذكروا أيها المؤمنون في هذا الشهر الكريم وفي هذا الشتاء البارد إخواناً لكم قد ألمّت بهم مصائب الحروب والمجاعات والفقر، لا يجدون الطعام واللباس والمأوى، في حين أنك في بيتك آمن دافئ طاعم كاسي، فوالله لتسألن عن هذا النعيم.
عباد الله: أبشروا بموعود الله، فربنا غفور رحيم يقبل التوبة من عباده ويغفر الذنب العظيم ويجازي على العمل اليسير بالأجر العظيم، قد أعد جنة عرضها السماوات والأرض، فتحت أبوابها في هذا الشهر الكريم وجرت أنهارها وتزينت حورها واكتمل نعيمها وأعدت للمتقين.
اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه وتقبله منا يا أرحم الراحمين.
عباد الله صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه. .
ــــــــــــــ
رمضان شهر القرآن
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- خصوصية شهر رمضان. 2- حال السلف مع القرآن في رمضان. 3- أهمية القرآن الكريم في إصلاح حياتنا. 4- صور مزرية في التعامل مع القرآن والمصاحف.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم به ونفسي بتقوى الله عز وجل وأساس التقوى اتباع القرآن قال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: يقول الله تعالى في محكم كتابه: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منك الشهر فليصمه. لقد خص الله جل شأنه شهر رمضان من بين سائر الشهور بإنزال القرآن الكريم فيه، وخصه كذلك بوجوب الصيام شكراً لله على نعمة القرآن، والقرآن الكريم كتاب السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، وهو الحافظ لمن تمسك به من الرذيلة، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، ولتحولوا من حياة الذل والهوان وصاروا به كرماء، فهو يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، فهو يهدي للعبادة الأقوم، والخلق الأقوم، والتربية الأقوم، والمعاملة الأقوم، والموعظة الأقوم والحكم الأقوم، ومن أجل ذلك كان جبريل عليه السلام يدارس الرسول القرآن في رمضان فيزيد جوده وكرمه بالعبادة والصدقة والإحسان قدراً زائداً على سائر الزمان.
وكان السلف الصالح من هذه الأمة من الصحابة والتابعين يتدارسون القرآن في رمضان ويقومون به الليل بما يسمى بقيام رمضان، ولهذا كان من الواجب على المسلمين جميعاً أن يتخذوا من القرآن مائدة رحمانية يتحلقون حولها ويحفون بها طلباً لنفحات القرآن وحلاوة ذكره، لأن مجلس القرآن هو مجلس لذكر الله، ومجلس الذكر روضة من رياض الجنة قال عبد الله بن مسعود : (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله وهو النور والشفاء النافع لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه)، وقال بعض السلف الصالح: ما جالس أحد القرآن فقام سالماً: إما له، وإما عليه، وقال أبو موسى الأشعري : (إن هذا القرآن كائن لكم أجراً وكائن عليكم وزراً فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به رياض الجنة ومن اتبعه القرآن قذف به في النار) والعياذ بالله.
عباد الله:إن ضرورة القرآن للحياة كضرورة الماء والهواء والغذاء فلا تستقيم حياة الإنسان على هذه الأرض إلا بهذه العناصر الأساسية، وكذلك لا يمكن أن يعرف قيمة هذه النعم المسخرة في الكون إلا بمعرفة القرآن والسير على نهجه الذي رسمه الله تعالى فيه، لأن القرآن الكريم أنزله الله تعالى لينظم سير الإنسان في هذه الحياة، فمثلاً سخر الله للإنسان الشمس لتضيء الكون، وأثناء هذا الضوء اليومي ينادي القرآن الإنسان ويذكره بلقاء ربه، ويوجب عليه عبادات مثل الصلوات المفروضة وهي تختلف من حيث الأوقات بطلوع الشمس وغروبها كما يأمره بالصيام والزكاة والحج وقال سبحانه: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج. قال تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
كما بين الحق سبحانه في القرآن ما أحله للإنسان وما حرمه عليه من نبات وحيوان وغيرهما، والهدف من التحليل والتحريم هو صيانة الإنسان وهدايته إلى ما فيه خيره وصلاحه، وخلق الله الإنسان - بل سائر المخلوقات - ذكراً وأنثى، وجعل المرأة تكمل حياة الرجل والرجل يكمل حياة المرأة، وبين القرآن الصداقة بينهما وكيف يجب أن تكون، وذلك عن طريق الزواج الشرعي الذي هدفه الطمأنينة والسكينة والمودة والرحمة قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. ثم بين تعالى في القرآن الكريم تنظيم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان كالبيع والشراء والجوار وغيرها.
وهكذا نستفيد أيها المسلمون الصائمون أن الحكمة من إنزال القرآن الكريم هو تنظيم حياة الإنسان على وجه هذه الأرض حتى تنجح الحياة العامة والخاصة، الدنيوية والأخروية قال تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
معشر الصائمين والصائمات: إن تلاوة كتاب الله عبادة من أجل العبادات، إذ كل حرف يقرأه المسلم بعشر حسنات، ولكن ليست تلاوة القرآن غاية، وإنما هي وسيلة إلى فهم القرآن وتدبر آياته ثم العمل به وتبليغه، وتلك هي الغاية المطلوبة من قراءة القرآن، ذلك أن القرآن رسالة الله إلى الناس كافة، وإلى المسلمين خاصة، والقاعدة المعروفة في الرسائل هو قراءتها للتوصل إلى فهم ما فيها وما يطلب صاحبها من المرسل إليه.
وعليك أيها المسلم أن تذكر إذا جاءتك رسالة من محبوب كريم كم يكون فرحك بها، وإذا جاءتك رسالة من حاكم أو رئيس كم يكون تقديرك لها حيث تقرؤها بإمعان لتنفذ كل ما جاء فيها من أمر ونهي هذا إذا كانت الرسالة من بشر مثلك، فكيف برسالة خالقك وخالق المخلوقات كلها وملك الملوك وإله العالمين يخاطبك في رسالته في كل وقت وحين: يا أيها الإنسان، يا بني آدم، يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا، سواء كنت قارئاً أو مستمعاً، وهذه النداءات كلها تشتمل على أوامر ونواهي، فهل أديت الأوامر واجتنبت النواهي كما أمرك ربك في رسالته، وأنت تشهد دائماً أنك توصلت بها وآمنت بها وصادقت عليها بقولك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله .
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين آمين.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
عباد الله: لقد نسي كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام هذه الشهادة بل أصبحوا يستهزئون بآيات القرآن حيث وضعوه في موضع غير لائق بكلام الله تعالى، فتحول القرآن عند بعضهم إلى زخرفة البيوت ونقش بالحروف على أبواب المتاجر والسيارات والمقاهي والشوارع، ويقصدون بذلك جلب البركة أو دفع الشر ثم لا يطبقون منه شيئاً فصاحب المتجر يعلق آيات القرآن وهو يتعامل بالربا وينقص الكيل والوزن ويحتكر السلع ويخلط صالحها برديئها، ويحلف بالأيمان الغليظة كاذباً، والقرآن يحرم ذلك ويناقضه تماماً، وتشاهد المرأة المتبرجة العارية تحمل في عنقها صورة مصحف من الذهب وهي مكشوفة الرأس والصدر والذراعين، والقرآن يقول: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وتشاهد الآيات في السيارات، وأصحابها يحملون الخمر والحشيش وعلبة السجائر وينطلق مع آيات القرآن الكريم، الكل في سيارته، وهذا استهزاء بالقرآن.
وتشاهد سيارة نقل المسافرين مكتوباً عليها آيات القرآن كقوله تعالى: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، بسم الله مجريها ومرساها وركابها يقطعون المسافات القصيرة والطويلة ثم لا يصلون.
وأما الحفلات والولائم والمناسبات فالأمر أفظع وأفحش فالقرآن يقرأ والناس يلهون ويلعبون وقد يغنون ويرقصون ويدخنون وتذهب إلى الإدارات فتجد آيات مكتوبة مثل يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين وبين جدران هذه الإدارة أناس يتعاملون بالرشوة والوساطة، أهكذا يكون موقفنا مع القرآن؟ استهزاء ونسيان، وعدم العمل به.
إننا في شهر القرآن فلنعد إلى القرآن ولنتدبر آياته ولنفهم معاينه ولنبلغها الناس اللهم عد بنا وبالمسلمين إلى كتابك واحملنا على أوامره واجتناب نواهيه واجعلنا من أهل القرآن واحشرنا في زمرة تاليه واجعله شفيعاً لنا غداً بين يديك آمين.
ـــــــــــــــ
استقبال رمضان بالتوبة
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
28/8/1416
العميري
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- البشارة بقدوم رمضان. 2- استقبال الناس اليوم لرمضان. 3- استقبال السلف لرمضان. 4- شروط التوبة. 5- سعة رحمة الله تعالى. 6- التذكير بالموت.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً. ويقول جل في علاه: وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ويقول سبحانه: نَبّئْ عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]. ويقول أيضاً رب العزة والجلال في حديث قدسي: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
نستقبل في هذه الساعات القادمة ضيفا كريما، وشهرا عظيما، لم يبق بيننا وبينه إلا ساعات معدودة، فماذا أعددنا لهذا الضيف؟ وكيف سنستقبل هذا الشهر العظيم؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
إن كثيراً من الناس يستعدون لشهر رمضان المبارك بتوفير ما يحتاجونه من مستلزمات الحياة من طعام وشراب، وكأن شهر رمضان أصبح شهراً للطعام وللأكل والشراب والنوم والخمول والكسل، لا شهراً للطاعة والعبادة والجهاد والعمل، هذا هو حالنا في هذه الأيام إلا من رحمه الله، أما صحابة محمد وسلف هذه الأمة الصالح فكانوا يستقبلون رمضان ويستعدون له ويتهيئون لقدومه قبل أن يأتي بستة أشهر يقولون: "اللهم بلغنا رمضان"، فإذا جاء رمضان أجهدوا أنفسهم في طاعة الرحمن، وفي التقرب إلى الله الواحد الديان، فإذا انقضى الشهر الكريم ودعوه بقية العام يقولون: "اللهم تقبل منا رمضان"، فكان عامهم كله رمضان، وكانت حياتهم كلها رمضان. فرضي الله عنكم يا أيها السلف يوم علمتم أن الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في مرضاة الله، ويوم علمتم أن الحياة ليست حياة الأكل والشرب والشهوة إنما هي حياة الطاعة والعبودية والاتصال بالله الواحد جل في علاه.
يا متعب الجسم كم تشقى لراحته ... أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً ... بالله هل لخراب الدين عمران
فزاد الروح أرواح المعاني ... ... وليس بأن طعمت ولا شربت
فأكثر ذكره في الأرض دأباً ... لتذكر في السماء إذا ذكرت
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً ... بما ناداه ذو النون ابن متى
معاشر الأحبة:
إن علينا أن نستقبل شهر رمضان بتوبة صادقة خالصة نصوحٍ، نقلع فيها عن كل معصية، ونندم على ما مضى من أعمارنا في معصية الله، ونعاهد الله ألا نعود لمعصية.
قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وربّه ولا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إلى الذنب أبداً، وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف شرط رابع لهذه الشروط الثلاثة وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً رده إليه، وإن كانت غيبة استحله منها ونحو ذلك.
يا نفس توبي قبل أن لا ... تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن ... غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك ... دائمة الهبوب
كلنا ذوو خطأ يا عباد الله، وكلنا ذاك المذنب، والخطأ من طبيعة البشر والمعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، والكمال لصاحب الكمال سبحانه وتعالى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وأرضاه عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم)).
فلا بد من الخطأ والتقصير، فكلنا ذو خطأ، وكلنا ذاك المذنب.
ومن الذي ما ساء قط ... ... ومن له الحسنى فقط
تريد مبرأ لا عيب فيه ... ... وهل نار تفوح بلا دخان
ومن الذي ترضى سجاياه كلها ... ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
ولكن المصيبة يا عباد الله أن نبقى على الخطأ، وأن ندوم على الذنب، وأن نصر على المعصية التي هي والله شؤم، وهي والله وحشة وعذاب من الله الواحد الديان.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... ... من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها ... ... لا خير في لذة من بعدها النار
المعصية يا عباد الله قد تكون سبباً في أن يحبس الله سبحانه وتعالى عن الأمة الخير، ولو كانت من فرد واحد من الأمة لم يؤمر ولم ينه نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
ها هم بنو إسرائيل يلحق بهم قحط شديد على عهد موسى عليه السلام، فيجتمعون إلى نبي الله موسى عليه السلام فيقولون: يا نبي الله ادع لنا ربك أن يغيثنا الغيث، فقام معهم وقد خرجوا إلى الصحراء وعددهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع. فما زادت السماء إلا تقشعاً، والشمس إلا حرارة، فتعجب نبي الله موسى من ذلك وسأل الله عن ذلك، فأوحى الله إليه أن فيكم عبداً يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة، فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم.
فقال موسى: إلهي وسيدي، أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف، فأين يصل صوتي ويظهر وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فأوحى الله إلى موسى أن منك النداء ومنا البلاغ، فقام نبي الله موسى عليه السلام منادياً في الناس قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله بالمعاصي منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا، منك ومن ذنوبك منعنا القطر من السماء، فقام العبد العاصي ونظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً خرج فعلم أنه المقصود، فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا القطر من السماء بشؤمي وشوم ذنبي ومعصيتي، فما كان من هذا العبد العاصي إلا أن أدخل رأسه في ثيابه نادماً ومتأسفاً على فعاله ثم قال: يا إلهي ويا سيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً تائباً نادماً فاقبلني ولا تفضحني يا كريم، فما أكمل كلامه حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأمثال القرب حتى ارتوت الأرض وسالت الأودية، فقال موسى عليه السلام: إلهي وسيدي، سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد، فقال الله: يا موسى أسقيتكم بالذي به منعتكم، فقال موسى: إلهي أرني هذا العبد الطائع التائب، فقال الله: يا موسى لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني؟!!
فلا إله إلا الله ما أعظم شأن التوبة، ولا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله بعباده، وحلمه سبحانه وتعالى.
فيا أيها المذنب وكلنا ذاك المذنب، ويا من زل وأخطأ وأذنب، ويا من بارز الله بالمعصية وبكره الله، تب إلى الله وعد إلى رحابه قبل أن تفضح في يوم الفضائح، وتندم حين لا ينفع الندم يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].(1/239)
من أعظم الأمور المعينة على التوبة - يا عباد الله - أن يستحضر العبد سعة رحمة الله سبحانه وتعالى فهو القائل: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. وهو القائل جل في علاه في حديث قدسي أخرجه الترمذي يقول سبحانه: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لآتيتك بقرابها مغفرة)).
وهو القائل سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
وفي الصحيحين أن رجلاً أسرف على نفسه في الخطايا فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً ثم احرقوني بالنار ثم اسحقوني وذروني مع الريح، فلما توفي هذا الرجل وفعل أولاده بوصيته قال له الله: يا عبدي، ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال: يا رب، خفتك وخشيت ذنوبي، فقال الله: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
وفي صحيح البخاري أن سبياً جاء إلى الرسول ، وإذا بامرأة من نساء السبي جاءت تبحث عن صبي لها فقدته، فأخذت تقلب الأطفال واحداً واحدا، ثم وجدت طفلها بعد مشقة وعناء، فألصقته في بطنها وأخذت ترضعه، والرسول وصحابته يرقبون الموقف ويرقبون المرأة وهي تذرف الدموع رحمة بوليدها، فيقول الرسول لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟))، قالوا: لا يا رسول الله، فقال : ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)).
فلا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله، وما أوسع رحمة الله، رحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، ورحمته جل وعلا سبقت غضبه، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، له سبحانه مائة رحمة، أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق كلهم، صغيرهم وكبيرهم، مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وأعجمهم، حتى إن الدابة لترفع رجلها ليرضع منها وليدها ثم يذهب بهذه الرحمة، فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، حتى إن إبليس ليتطاول في ذلك اليوم، ويظن أن رحمة الله ستشمله.
فيا من رحمتك وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك.
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرمٍ لديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه
يروى أن رجلاً من بني إسرائيل أطاع الله أربعين سنة، ثم عصى الله أربعين سنة، فلما نظر في المرآة رأى الشيب في لحيته فقال: يا رب، أطعتك أربعين سنة، وعصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني؟ فقيل له: أطعت ربك فقبلك، وعصيته فأمهلك، وإن عدت إليه قبلك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... ... في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً ... ... قد شبت في الرق فأعتقني من النار
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
إن الحمد لله. .
أما بعد:
فمن أعظم أسباب التوبة - عباد الله - تذكر الموت والقدوم إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى.
ذكر ابن قدامة في كتاب التوابين أن امرأة بغيا زانية كانت بارعة الجمال ولا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، رآها عابد ما عصى الله، فلما رآها أعجبته وفتنت قلبه وسلبت لبه، فذهب وعمل وكدَّ حتى جمع المائة الدينار، ثم جاء إليها في بيتها وقال لها: لقد أعجبتيني فاشتغلت واجتهدت في العمل حتى جمعت لك المائة الدينار، وها أنا ذا جئت بها، فقالت له: ادخل، وأخذت منه المائة الدينار، فدخل إلى غرفتها وكان لها سرير من ذهب، فجلست على سريرها ثم قالت له: هلم إليّ، فتذكر ذاك العابد مقامه بين يدي الله وقدومه إلى الله فأخذته رعدة ورعشة، وقال لها: اتركيني لأخرج ولك المائة الدينار، فقالت له البغي: عجباً لك زعمت أنك تكد وتكدح لتجمع هذه المائة الدينار، فلما قدرت عليّ فعلت ما فعلت!! قال: فعلته والله خوفاً من الله ومن مقامي بين يديه، فرق قلب تلك المرأة وخافت وارتعدت وتذكرت القدوم على الله، فقالت له: لا أدعك حتى آخذ عليك عهداً أن تتزوجني، فأعطاها العهد، وأعطاها مكانه وهو يريد الخلاص منها، فخرج من عندها نادماً على ما فعل، وهو لم يقارف الفاحشة، وتابت تلك المرأة وكان سبباً في توبتها، ولا زال في نفس تلك المرأة أن تتزوج بمن كان سبباً في توبتها، فذهبت وبحثت عن مكان ذلك الرجل، فلما وصلت إلى بيته طرقت عليه الباب وفتح لها الباب ذلك الرجل، فلما رآها تذكر ذلك اليوم الذي كاد أن يقدم فيه على عمل الفاحشة بهذه المرأة، وتذكر موقفه أمام الله وقدومه على الله فشهق شهقة عظيمة ومات، فحزنت عليه هذه المرأة التائبة حزناً عظيماً، وقالت: أما هذا فقد فاتني، فهل له من قريب أتزوجه؟ فقالوا لها: له أخ فقير تقي، فقالت: أتزوجه إن رضي حباً لأخيه، فتزوجته فكان من نسله ونسلها سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.
وها هو شاب في الثلاثين من عمره في أوج شبابه وشهوته وقوته لكنه يخاف الله، واسمه الربيع بن خثيم، وكان في بلده فساق وفجار يتواصون على إفساد الناس، وهم في كل مكان وزمان يصدون عن سبيل الله، أتوا بزانية وقالوا لها: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قبلة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، فذهبت إليه وتعرضت له في ساعة خلوة، وأبدت له مفاتنها فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يدي الرب العظيم؟ أم كيف بك إن لم تتوبي يوم ترمين في الجحيم؟ فصرخت وولت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله، قائمة لليل صائمة للنهار، حتى لقبت بعابدة الكوفة.
معاشر المسلمين:
إن من أعظم فرص الحياة أن بلغنا الله هذه الساعات التي نتهيأ فيها لاستقبال شهر رمضان، ونسأله سبحانه أن يبلغنا هذا الشهر العظيم، فكم نعرف من الأهل والإخوان والأقارب والجيران صاموا معنا في العام الماضي، وهم الآن تحت الجنادل والتراب وحدهم، أتاهم الموت، أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وآخذ البنين والبنات، فاختطفهم من بين أيدينا، أسكتهم والله فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، كأنهم والله ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.
كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو ... حياً فما أقرب القاصي من الداني
الموت - يا عباد الله - يقصم الظهور ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور ويسكنهم القبور.
الموت لا يستأذن شاباً ولا شيخاً ولا طفلاً، ولا يستأذن غنياً ولا أميراً ولا ملكاً ولا وزيراً ولا سلطاناً.
أتيت القبور فناديتها ... ... أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ ... ... وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا ... ... أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدوا بنات الثرى ... ... فتمحو محاسن تلك الصور
الموت يا عباد الله أسرع وأقرب إلينا من شراك النعل، وما أسرعه هذه الأيام، وما أسهله، والحياة قصيرة - والله - جد قصيرة، إذا ولد الإنسان أذن في أذنه اليمنى أذان بلا صلاة، فإذا مات الإنسان صليت عليه صلاة الجنازة بلا أذان، فكأن حياة الإنسان قصيرة قصيرة، وكأنها كالوقت الذي بين الأذان والإقامة.
أذان الطفل في الميلاد دوماً ... ... وتأخير الصلاة إلى الممات
دليلاً أنّ محياه قليلٌ ... ... كما بين الإقامة والصلاة
فهل من تائب إلى الله؟ وهل من عائد إلى رحاب الله؟ وهل من توبة صادقة؟ وهل من عودة حميدة؟
يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره، ودنا أجله، ماذا أعددت للقاء الله؟ وماذا بقي لك في هذه الدنيا؟ يقول سفيان الثوري: "إذا بلغ العبد ستين سنة فليشتر كفناً وليهاجر إلى الله".
ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل، ماذا أعددت للقاء الله؟ متى تستفيق إن لم تستفق اليوم؟ ومتى تتوب إن لم تتب في هذه الساعات؟ ومتى تعمل إن لم تعمل في هذه اللحظات؟
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
يا من يرى مد البعوض جناحها ... ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في مخها ... ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لجميع من تاب من زلاته ... ... ما كان منه في الزمان الأول
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين
ـــــــــــــــــ
استقبال رمضان
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
العميري
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
البشارة بشهر رمضان. 2- فضائل رمضان. 3- صفة الجنة. 4- صفة النار. 5- خصائص الصيام. 6- خيبة من أدرك رمضان ولم يغفر له. 7- الاجتهاد في رمضان.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه، ثم أما بعد:
فيقول المولى سبحانه: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ويقول جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
وقال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)). وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
لقد أظلنا شهر كريم وموسم عظيم، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، شهر الخيرات والبركات، شهر المنح والهبات، شهر النفحات والنسمات، شهر محفوف بالرحمة والمغفرة والعتق من النار.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم قبلها)) الخصلة الأولى: ((خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) والخلوف هو الرائحة الكريهة التي تنبعث من فم الصائم نتيجة خلو المعدة من الطعام، ولكن لما كانت هذه الرائحة ناتجة عن عبادة الله تعالى وطاعته كانت هذه الرائحة المستكرهة عند الناس أطيب من رائحة المسك.
الخصلة الثانية: ((وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا))، ملائكة الرحمن، عباد الله المكرمون الذين لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يستغفرون لك - يا عبد الله - حتى تفطر، فأيُّ منزلة أعظم من هذه المنزلة؟! وأيُّ مكانة أفضل من هذه المكانة؟!!.
الخصلة الثالثة: ((ويزين الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك))، الجنة - يا عباد الله - تتزين لعباد الله المؤمنين العاملين في كل يوم من أيام هذا الشهر، فهل من عامل كريم، وهل من مشمر لها؟!!.
الجنة - يا عباد الله - لبنة ذهب ولبنة فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، لها ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون، وموضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها أي خمارها خير من الدنيا وما فيها.
وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة، عن النبي قال: ((سأل موسى عليه السلام ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة فقال الله سبحانه وتعالى: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب وكيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكُ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول الله: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيت رب، فيقول موسى عليه السلام: رب فأعلاهم منزلة، قال أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر))، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
وذكر أن سفيان الثوري رحمه الله تعالى وكان من العلماء العاملين الزاهدين العابدين كان كثير الاجتهاد فقال له تلاميذه: يا إمام، هوِّن على نفسك، فقال سفيان: كيف لا أجتهد وقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم، فيتجلى لهم نور تضيء له الجنان الثمان، فيظنون أن ذلك نور من عند الرب سبحانه وتعالى فيخرون ساجدين، فينادون أن ارفعوا رؤوسكم ليس الذي تظنون إنما هو نور جارية تبسمت في وجه صاحبها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
منازلك الأولى وفيها المخيم
الجار أحمد والرحمن بانيها
والزعفران حشيش نابت فيها
فحيّ على جنات عدن فإنها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها
قصورها ذهب والمسك طينتها
هذه الجنة يا عباد الله فكيف بالنار؟ النار يا عباد الله أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة. نار الدنيا جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم.
وبينما صحابة رسول الله جلوس عنده، وإذا بهم يسمعون صوتاً منكراً فقال لهم الرسول : ((أتدرون ما هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال : ((هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً - أي منذ سبعين سنة - فانتهى إلى قعرها الآن)). ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لو أن قطرة من الزقوم قُطِّرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه الزقوم؟!)).
أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً.
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
أنسته هذه الصبغة في نار جهنم كل نعيم مر به في حياته الدنيا، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عتقائه من النار في هذا الشهر الكريم.
الخصلة الرابعة: ((تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره)).
الخصلة الخامسة التي خص بها أمة محمد في هذا الشهر الكريم: ((يغفر لهم في آخر ليلة))، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفَّى أجره إذا قضى عمله)).
إخوة الإسلام:
ومن خصائص الصيام أن جعل الله سبحانه وتعالى جزاءه وأجره عليه سبحانه وتعالى، فكل عبادة من العبادات جعل الله سبحانه وتعالى أجرها محدودا كالصلاة والزكاة والحج إلا الصوم فأجره غير محدود، لأنّ الصوم يتجلى فيه الصبر، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)).
إخوة الإسلام، وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
الصوم مدرسة يتربى فيها الصائم طيلة هذا الشهر الكريم، بل جعل الله سبحانه وتعالى علة الصوم تحقيق التقوى كما قال سبحانه: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فجعل الله سبحانه وتعالى علة الصوم والحكمة من فرضيته هو تحقيق هذه الكلمة العظيمة، فالصائم يجهد نفسه في نهار رمضان بالصيام وترك الأكل والشراب والجماع مما أباحه الله له، فالمحرمات من باب الأولى، كل ذلك إيماناً بالله واحتساباً لما عند الله من الأجر والثواب، وكذلك فإن الصائم يستشعر عظمة الخالق سبحانه وتعالى ومراقبته في كل جارحة من جوارحه، وفي كل عضو من أعضائه، فكما أنه صام عمَّا أباحه الله من طعام وشراب وجماع، فكذلك يصوم عمَّا حرَّمه الله من كذب وغيبة ونميمة ونظرة آثمة.
ولذلك يقول الله عز وجل كما في الحديث القدسي: ((الصيام جُنَّة - أي وقاية للصائم من الوقوع في أي معصية أو ذنب - الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم)).
وهكذا يا عباد الله إذا حقق الصائم هذه الكلمة الدينيّة - كلمة التقوى -، واستشعر عظمة الله ومراقبة الله، واتقى الله في كل جارحة من جوارحه، وفي كل عضو من أعضائه، فاز في الدنيا والآخرة، وفرح في الدنيا والآخرة، يقول رسول الله : ((للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).
وأما إذا لم يحقق العبد هذه الكلمة فقد أتعب نفسه، وليس له حظ من صيامه إلا الجوع والعطش، كما قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، ويقول : ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
صعد النبي المنبر فارتقى الدرجة الأولى فقال: ((آمين))، ثم ارتقى الدرجة الثانية فقال: ((آمين))، ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال: ((آمين))، فلما نزل الرسول من المنبر قال الصحابة: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه فقال : ((إن جبريل عرض لي في الدرجة الأولى فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين)).
هذه دعوة من أفضل أهل السماء جبريل عليه السلام، ويؤمِّن عليها أفضل أهل الأرض محمد .
فهل من مشمر لعمل الطاعات في هذه الشهر الكريم؟ وهل من مستثمر لهذا الموسم العظيم؟ كان رسول الله من أكثر الناس اجتهاداً في هذا الشهر العظيم، وكان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة.
وهكذا كان سلف هذه الأمة، كان السلف رحمهم الله يعتمدون على العصي من طول القيام في هذا الشهر الكريم، وكانوا إذا دخل هذا الشهر الكريم تفرغوا لقراءة القرآن وعبادة الرحمن، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان السلف يسمون هذا الشهر شهر القطيعة من الخلق والإقبال على الخالق، فلنتسابق عباد الله إلى الخيرات ولنتنافس على الطاعات وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:27].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ــــــــــــــ
في استقبال رمضان
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
29/8/1419
محمد الفاتح
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- أصناف الناس في استقبالهم شهر رمضان. 2- استقبال النبي شهر رمضان. 3- خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان. 4- خصائص شهر رمضان. 5- فضل عبادة الصوم. 6- الاختبارات وشهر رمضان. 7- بعض أحوال المسلمين في رمضان. 8- دعوة لاغتنام شهر رمضان قبل فواته.
-------------------------
الخطبة الأولى
قفوا يا رجال!
وسط سواد الدخانْ
هنا بذرة الوعد تنمو، وإشراقة الفجر تبدو
ويهوي الهوانْ
وما بين حر اللهيب ونزف الحريق يكون الأمانْ!
إذا لم ترد الحقوق الخطبْ
فلن يفهم الخصم إلا كلام اللهبْ
نعم وحده كلام اللهب يفهم المعتدين.
ومع اقتراب هذا الشهر المبارك شهر الفداء والجهاد تجددت صور التضحيات والبطولة، كأنما جاء رمضان ليهز الأمة من غفوتها ويذكرها بمجدها وواجبها.
مع اقتراب هذا الشهر العظيم الذي تنزل فيه القرآن تنزلت الصواعق على رؤوس يهود تقول لهم: نحن هنا، في كل ذرة رمل، وتحت كل شجرة ليمون، وفوق كل غصن زيتون.
مع اقتراب هذا الشهر بدأ إخواننا ينشدون بأفعالهم قول من قال:
لغة الخصوم من الرجوم حروفها ... فليقرؤوا منها الغداة فصولا
لما أبوا أن يفهموا إلا بها ... رحنا نرتلها لهم ترتيلا
فلله دره من شهر مبارك ...
إيه يا شهرنا العظيم شموخا ... ... قد تنسمت من شميم الوادي
ضمنا ضمنا إليك فإنا ... ... لم نزل من بنيك والأحفاد
أطلق الروح من عقال التوابيت ... ... وزين أيامنا بالجهاد
يا أخوتاه ...
لم يعد يفصل بيننا وبين رمضان غير ساعات معدودات تمر مر البرق وتنقضي انقضاء الحلم، ويا للعجب العجاب كيف تصرم عام كامل بكل مافيه فإذا بنا مرة أخرى نستقبل هذا الشهر العظيم.
فهنيئاً لي ولكم ولأمة الإسلام هذا الموسم العظيم والشهر الكريم.
وحيهلا بأيامه المباركات وساعاته الطيبات.
أتى رمضان مزرعة العباد ... ... لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً ... ... وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها ... ... تأوه نادماً يوم الحصاد
وأريدك أيها الأخ الحبيب أن تقف مع نفسك قليلاً.
ذلك أن الناس في استقبال هذا الشهر العظيم على ثلاثة أصناف:
فمنهم من هو إليه بالأشواق، يعد الأيام والساعات شوقاً ورغبة إلى لقاء رمضان، الشهر الذي أحبه وأنس به، ولسان حاله يقول:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام ... يا حبيبا زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم ... كل حب في سوى المولى حرام(1/240)
إن بالقلب اشتياقاً كاللظى ... ... وبعيني أدمع الحب سجام
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان))، وقال المعلى بن الفضل يقول: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان!! وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلاً.
ومن الناس ناس لا فرق عندهم بين رمضان وغيره فهم يستقبلونه بقلب بارد ونفس فاترة لا ترى لهذا الشهر ميزة عن غيره إلا أنها تمتنع فيه عن الطعام والشراب. فهم يصبحون فيه ويمسون كما يصبحون ويمسون في غيره، لا تتحرك قلوبه شوقاً ولا تخفق حباً، ولا يشعرون أن عليهم في هذا الشهر أن يجدوا أكثر مما سواه.
ومن الناس ناس ضاقت نفوسهم بهذا الشهر الكريم، ورأوا فيه حبساً عن المتع والشهوات، فتبرموا به وتمنوا أن لم يكن قد حل، وقد روت لنا كتب الأدب خبر واحد من هؤلاء أدركه شهر رمضان فضاق به ذرعاً فجعل يقول:
أتاني شهر الصوم لا كان من شهر
ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلوكان يعديني الأنام بقوة
على الشهر لاستعديت قومي على الشهر
فابتلاه الله عز وجل بمرض الصرع فصار يصرع في كل رمضان.
وصدق عليه الصلاة والسلام إذ قال عن شهر رمضان: ((بمحلوف رسول الله ما أتى على المسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه؛ وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، وغنم للمؤمن ونقمة للفاجر)) [رواه أحمد وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وضعفه الألباني، وهو عند البيهقي وصدره عند ابن خزيمة].
فتأمل حالك أيها الأخ المسلم، وانظر من أي الأقوام أنت!
لقد كان الرسو ل صلى الله عليه وسلم يهنئ أصحابه بحلول هذا الشهر الكريم، ويعلن لهم عن فضائله شحذاً لهممهم وعزائهم، وتشويقاً لهم لاستغلال أيامه وساعاته فعن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: ((يا أيها الناس قد أظلكم شهر مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن ومن فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً)) قالوا يا رسول الله: ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم! قال: ((يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائماً سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة ... وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة ألا إله إلا الله وتستغفرونه. وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار)) [رواه ابن خزيمة والبيهقي بسند فيه مقال].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين وفتحت أبواب الجنة)) [رواه الشيخان].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) [النسائي والبيهقي بسند حسن، صحيح الترغيب:418].
قال ابن رجب: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان، من أين يشبه هذا الزمان زمان" [لطائف المعارف].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يبق منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) [الترمذي والنسائي والحاكم].
عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب واحد الشهر كله، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب الشهر كله، وغلت عتاة الجن ونادى مناد من السماء كل ليلة إلى انفجار الصبح: يا باغي الخير يمم وأبشر، ويا باغي الشر أقصر وأبصر، هل من مستغفر نغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ولله عز وجل عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفاً، فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفاً ستين ألفاً)) [البيهقي، وهو حديث حسن لا بأس به، الترغيب:1476].
وعن أنس بن مالك: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ماذا يستقبلكم وتستقبلون؟)) ثلاث مرات، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله وحي نزل؟ قال: لا. قال: عدو حضر؟ قال: لا. قال: فماذا؟ قال: ((إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة)) وأشار بيده إليها. [ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي، الترغيب:1478].
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة (يعني في رمضان) وإن لكل مسلم في يوم وليلة دعوة مستجابة)) [البزار].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [الشيخان].
بمثل هذه الأحاديث العظيمة كان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه إذا أظلتهم بشائر شهر رمضان ليحرك من هممهم إلى الطاعة والعبادة، وليصرفهم عن دنياهم إلى أخراهم، ومن متاع فان إلى تجارة رابحة دائمة.
فهل لنا في ذلك متعظ؟
إن كثيرا من المسلمين اليوم لا يعرفون هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المآكل والمشارب، فيبالغون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي ويكثرون من شراء الكماليات التي لا داعي لها.
والبعض الآخر لا يعرف من رمضان إلا أنه وقت السهر في الليل على اللهو واللعب والغفلة، ووقت النوم والبطالة في النهار فتجده معظم نهاره نائماً، فينام حتى عن الصلاة المفروضة.
والبعض لا يعرف من رمضان إلا انه موسم للتجارة وعرض السلع فينشطون في البيع والشراء ويلازمون الأسواق ولا يحضرون المساجد إلا قليلاً على عجل، فصار رمضان عندهم موسماً للدنيا لا للآخرة، يطلب العرض الفاني ويترك النافع الباقي.
وآخرون لا يعرفون من رمضان إلا أنه وقت التسول في المساجد والشوارع فيمضي أوقاته بين ذهاب وإياب ويظهر نفسه بمظهر الفاقة والفقر وربما كان مخادعاً.
وبعض إخواننا وأحبابنا لا يعرفون عن رمضان إلا أنه شهر الأرصفة والشلل والتجمعات الرصيفية! فهم أبداً من رصيف إلى رصيف، ومن مباراة إلى أخرى، ومن ملعب إلى أخيه.
وبعض الأحباء ظنوا أن مجيء الاختبارات في شهر رمضان يرخص لهم في التفريط في صلاة التراويح والجماعة في المسجد وقراءة القرآن، ومادروا أن المؤمن الجاد يجد في دروسه حتى يتفوق، ويجد في عبادته حتى يتألق وإنه لقادر على الجمع بينهما بإذن الله.
ورحم الله المناوي إذ يقول: "رغم أنف من علم أنه لو كف نفسه عن الشهوات شرها في كل سنة، وأتى بما وظف له فيه من صيام وقيام غفر له ما سلف من الذنوب، فقصر ولم يفعل حتى انسلخ الشهر ومضى".
يا عباد الله: السنة شجرة، والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها وأنافس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشهر شعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها، إن هذه الأشهر الثلاث كالوقفات الثلاث فرجب أولاها تحمى فيها العزائم، وشعبان ثانيتها تذوب فيها مياه العيون، ورمضان ثالثتها تورق فيها أشجار المجاهدات، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب، فيامن قد ذهبت عنه هذه الأشر وما تغير أحسن الله عزاءك!
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
أي أخي ...
أتذكر كم كانت ندامتك وحسرتك حين تصرمت آخر ليلة من رمضان الفائت؟
أتذكر كم من عبرة سكبتها، وأنت تتندم على أوقات من شهر رمضان ضاعت، وليال لم تحسن استغلالها؟
أتذكر أنك عاهدت نفسك يوم ذاك أن تستقبل رمضان القادم بنفس عازمة، وهمة قائمة؟
فها أنت ذا أمام رمضان جديد، وها قد كتب الله لك الحياة لتدرك فرصة أخرى تختبر فيها صدقك ورغبتك في الخير، فماذا ستفعل؟ هل ستبادر؟ أم تفرط في أوقات شهرك حتى يغادر؟ ثم تندم ولا ينفع الندم؟
يا إخوتاه ... هل أدركنا مقدار النعمة العظيمة حين من الله علينا ببلوغ هذا الشهر؟ ماذا لو طويت أعمارنا قبله؟ أكنا قادرين على الطاعة والعبادة؟ أكنا قادرين على الركوع والسجود؟
إن الله أعطانا فرصة عظيمة حرمها غيرنا ممن فارق الحياة وأفضى إلى ما قدم ... وكم من رجل صلى معنا في هذا المسجد في رمضان الماضي، وسمع حديثاً كهذا الحديث عن فضائل رمضان، ثم هاهو الآن موسد في الثرى يتمنى لحظة يسبح فيها تسبيحة فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.
لقد وقفت طويلاً عند حديث عجيب رواه أحمد وابن ماجه، وقفت عنده طويلاً لأنه أشعرني جلال نعمة إدراك رمضان جديد، وأشعرني أيضا بعظيم المسؤولية الملقاة على كل مسلم يكتب الله له عمراً ليدرك شهر رمضان.
عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بلي قدما على رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي قال طلحة فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ثم خرج فأذن للذي استشهد ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنه لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وحدثوه الحديث فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله!! فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: ((أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)) [ابن ماجه:3925].
أفرأيت كيف سبق أقل الرجلين اجتهاد لما أتيح له من فرصة العمل في العمر الممتد؟
"فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي" [نداء الريان:1/169].
ـــــــــــــــ
رمضان والقرآن
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
6/9/1421
محمد الفاتح
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- نبوة النبي في رمضان وهو في الغار. 2- تنزلات القرآن الكريم. 3- ليلة القدر. 4- حال النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن في رمضان. 5- حال السلف مع القرآن في رمضان. 6- أيهما أفضل الإكثار من التلاوة أم الاقتصاد مع التدبر. 7- اختصاص رمضان بالقرآن دون سائر الشهور.
-------------------------
الخطبة الأولى
بشرى من الغيب ألقيت في فم الغار ...
في ليلة السابع عشر من رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره أذن الله عز وجل للنور أن يتنزل، فإذا جبريل عليه السلام آخذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اقرأ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ [العلق:1-3]. فرجع بها رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرجف فؤاده)) [البخاري:3].
وهكذا نزلت أول آية من هذا الكتاب العظيم على النبي الرؤوف الرحيم في هذا الشهر العظيم.
وهكذا شهدت أيامه المباركة اتصال الأرض بالسماء، وتنزل الوحي بالنور والضياء، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء.
ومن قبل ذلك شهد هذا الشهر الكريم نزولاً آخر، إنه نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [الدخان:2]. قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة [النسائي والحاكم]. وقال ابن جرير: نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه.
إنها تلك "الليلة الموعودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وانبهار، ليلة الاتصال بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً.
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود نور الله المشرق في قرآنه إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]. ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]. ونور الفجر سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]." [في ظلال القرآن].
"وأي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن؟ نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف:1].
أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ إنها منة الله على الإنسان في هذه الأرض، المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً ونشأ بها الإنسان نشأة جديدة، المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية لترقى بها في الطريق الصاعدة إلى القمة السامقة على المنهج الرباني الفريد" [الظلال].
وهكذا إذن، شهد شهر رمضان هذا النزول الفريد لكتاب الله، ومن يومذاك ارتبط القرآن بشهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ومن يوم ذاك أصبح شهر رمضان هو شهر القرآن.
عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) [البخاري:6، مسلم:2308].
لقد كان القرآن أنيسه وسميره في رمضان.
نعم السمير كتاب الله إن له ... ... حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما ... ... تفتر من عجب إلا إلى عجـ،ب
أمر ونهي وأمثال وموعظة ... ... وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتنيها كل ذي أدب ... ... وحكمة أودعت في أفصح الكتب
قال ابن رجب: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له. [لطائف المعارف:354]. وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين. [البخاري:3624، ومسلم:2450]، [لطائف المعارف:355].
قال رحمه الله: وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6]. [لطائف المعارف:355].
وقد كان للسلف رحمهم الله اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان بل لم يكونوا يشتغلون فيه بغيره.
وكان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام.
وقال ابن الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم.
وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه.
وكان لهم مجاهدات من كثرة الختمات رواها الأئمة الثقات الأثبات رحمهم الله.
فقد كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان كل ست ليال.
وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث.
وقال ربيع بن سليمان: كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة ما منها شيء إلا في صلاة.
وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الرجوي يختم كل يوم.
وروى ابن أبي داود بسند صحيح أن مجاهداً رحمه الله كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل.
وكان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء في كل ليلة من رمضان.
قال مالك: ولقد أخبرني من كان يصلي إلى جنب عمر بن حسين في رمضان قال: كنت أسمعه يستفتح القرآن في كل ليلة. [البيهقي في الشعب].
قال النووي: وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله ختمة في كل ركعة في الكعبة. [التبيان:48].
قال الذهبي: قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة. [سير أعلام النبلاء].
قال القاسم عن أبيه الحافظ ابن عساكر: كان يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم. [سير أعلام النبلاء].
فإن قلت أي أفضل؟ أن يكثر الإنسان التلاوة أم يقللها مع التدبر والتفكر؟
قال النووي رحمه الله: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني وكذا من كان له شغل بالعلم وغيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة. [الفتح:8/715].
ومعنى ذلك أن الإكثار ـ وإن كان مطلوباً لذاته ـ لا ينبغي أن يطغى على الفهم والتدبر، فلايكن هم المرء كثرة الختم دون أن يعقل مما قرأ شيئاً.
وأما حديث ابن عمر: ((ما فقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)) فقد أجاب عنه الأئمة رضي الله عنهم.
قال ابن رجب: إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصاً في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره. [لطائف].
وقال ابن حجر: وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، وعرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق ... وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة، فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والله أعلم. [الفتح:8/716].
وإن قال قائل: هذا الذي ذكر لا يقبله عقل ولا يقره منطق، فإنني أقول له ما قاله الإمام اللكنوي رحمه الله. قال: فإن قلت بعض المجاهدات مما لا يعقل وقوعها؟ قلت: وقع مثل هذا وإن استبعد من العوام فلا يستبعد من أهل الله تعالى، فإنهم أعطوا من ربهم قوة وصلوا بها إلى هذه الصفات، ولا ينكر هذا إلا من ينكر صدور الكرامات وخوارق العادات.
وإن الذاكرين لهذه المناقب ليسوا ممن لا يعتمد عليه أو ممن لا يكون حجة في النقل بل هم أئمة الإسلام وعمد الأنام ... كأبي نعيم وابن كثير والسمعاني وابن حجر المكي وابن حجر العسقلاني والسيوطي والنووي والذهبي ومن يحذو حذوهم. [إقامة الحجة:101].
وقد سبق أن ذكرت كلمة الإمام ابن رجب التي قرر فيها أن مثل هذا الاجتهاد سائغ في الأزمنة المفضلة والأماكن المفضلة وأما طوال العام فالأولى للمؤمن ألا يختمه في أقل من ثلاث وإن لم يكن ذلك ممنوعاً، قال الذهبي رحمه الله: ولو تلا ورتل في أسبوع ولا زم ذلك لكان عملاً فاضلاً، فالدين يسر، فوالله إن ترتيل سبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة والضحى وتحية المسجد مع الأذكار المأثورة الثابتة والقول عند النوم واليقظة ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصاً لله مع الأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل وتفهيمه وزجر الفاسق ونحو ذلك ... لشغل عظيم جسيم ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب فمتى تشاغل العبد بختمة في كل يوم فقد خالف الحنيفية السمحة ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه. [السير:3/84-86].
قال نافع: لما غسل أبو جعفر القاري نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف فما شك من حضره أنه نور القرآن. [معرفة القراء الكبار].
وفي رمضان يجتمع الصوم والقرآن، فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان، يشفع له القرآن لقيامه، ويشفع له الصيام لصيامه، قال صلى الله عليه وسلم: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)) [أحمد]. وعند ابن ماجه عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك)).(1/241)
"واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه، جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وُفي أجره بغير حساب" [لطائف المعارف:360].
ومن صور اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم صلاة التراويح، فهذه الصلاة أكثر ما فيها قراءة القرآن، وكأنها شرعت ليسمع الناس كتاب الله مجوداً مرتلاً، ولذلك استحب للإمام أن يختم فيها ختمة كاملة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره [لطائف المعارف:356]. ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة من رمضان فقام يصلي، فلما كبر قال: الله أكبر، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها ثم ركع يقول: ((سبحان ربي العظيم)) مثل ما كان قائماً ثم رفع رأسه فقال: ((سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد)) مثل ما كان قائماً ثم سجد يقول: ((سبحان ربي الأعلى)) مثل ما كان قائماً ثم رفع رأسه فقال: ((رب اغفر لي)) مثل ما كان قائماً ثم سجد يقول: ((سبحان ربي الأعلى)) مثل ما كان قائماً ثم رفع رأسه فقام، فما صلى إلا ركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة [أحمد، مسند باقي مسند الأنصار رقم:22309].
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر، وفي رواية أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها [لطائف المعارف:356]. وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع منهم قتادة، وبعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي. [لطائف المعارف:358].
كل هذا التطويل والقيام من أجل تلاوة القرآن وتعطير ليالي شهر القرآن بآيات القرآن.
وإذا كان هذا شأن القرآن في رمضان فما أجدر العبد المؤمن أن يقبل عليه، ويديم النظر فيه، وإني أقترح على الأخ المؤمن الصادق أن يجعل له مع القرآن في هذا الشهر ثلاثة مسارات:
المسار الأول: مسار الإكثار من التلاوة وتكرار الختمات، فيجعل الإنسان لنفسه جدولاً ينضبط به، بحيث يتمكن من ختم القرآن مرات عديدة ينال خيراتها وينعم ببركاتها.
المسار الثاني: مسار التأمل والتدبر، فيستفتح الإنسان في هذا الشهر الكريم ختمة طويلة المدى يأخذ منها في اليوم صفحة أو نحوها مع مراجعة تفسيرها وتأمل معانيها، والتبصر في دلالاتها واستخراج أوامرها ونواهيها ثم العزم على تطبيق ذلك ومحاسبة النفس عليه، ولا مانع أن تطول مدة هذه الختمة إلى سنة أو نحوها شريطة أن ينتظم القارئ فيها ويكثر التأمل ويأخذ نفسه بالعمل، ولعل في هذا بعض من معنى قول الصحابي الجليل: (كنا نتعلم العشر آيات فلا نجاوزهن حتى نعلم ما فيهن من العلم والعمل).
المسار الثالث: مسار الحفظ والمراجعة، فيجعل لنفسه مقدارا يومياً من الحفظ ومثله من المراجعة، وإن كان قد حفظ ونسي فهي فرصة عظمى لتثبيت الحفظ واسترجاع ما ذهب، ولست بحاجة إلى التذكير بجلالة منزلة الحافظ لكتاب الله ورفيع مكانته، وحسبه أنه قد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى له.
أخي الكريم ... ها قد عرفت من فضل القرآن ما قد عرفت، وعلمت من ارتباط هذا الشهر الكريم بالقرآن العظيم ما قد علمت، فلم يبق إلا أن تشمر عن ساعد الجد، وتأخذ نفسك بالعزم، وتدرع الصبر، وتكون مع القرآن كما قال القائل:
أسرى مع القرآن في أفق ... ... فذ تبارك ذلك الأفق
وسرى به في رحلة عجب ... ... من واحة الإيمان تنطلق
وارتاد منه عوالماً ملئت ... ... سحراً به الأرواح تنعتق
يامن يريد العيش في دعة ... ... نبع السعادة منه ينبثق
"عباد الله هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع ولاعين تدمع ولا صيام يصان عن الحرام فينفع ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع". [لطائف المعارف:364ا/365].
فهل للنفس إقبال؟ وهل للقلب اشتياق؟ وهل نملأ شهر القرآن بتلاوة القرآن؟
ـــــــــــــــ
معذرة يا رمضان!!
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
1/9/1417
محمد الفاتح
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- صورة مخزية لاستعداد الناس لرمضان. 2- صور من صنيع السلف في رمضان. 3- رمضان شهر المواساة.
-------------------------
الخطبة الأولى
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فقد أمرنا الله بذلك في قوله: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
وبعد:
معذرة يا رمضان!!!
معذرة يا شهر الخير والعزة والبركة والانتصارات!!!
معذرة إليك إذا لم تجد عندنا ما كنت تأمل وترجو ...
لقد كنت تشرق على أمة الإسلام وهي عزيزة لم تقف على الأبواب، ولم تستعطف الأعداء ولم تخضع للكافرين.
كنت تشرق عليها وإن في كل أرض منها أذانا يعلو، ومنائر ترتفع، وشعائر يعالن بها الناس.
كنت تشرق عليها وإنها لسيدة العالم، وقائدة الدنيا.
واليوم على ماذا تشرق؟؟
على جرح فلسطين الدامي؟ أم على آلام أفغانستان؟ أم على مذبحة الإسلام في البوسنة والهرسك؟ أم على فجيعة الشاشان؟ أم على مصيبة كشمير؟
معذرة يا رمضان لقد أطرقت رؤوسنا خجلا، وعدت إلينا وقد غرقنا في ذلنا ..
رمضان عدت وهذه أوطاننا ... عم الفساد بها وزاد وطالا
ضاعت مقاييس الفضيلة بيننا ... وتبدلت أحوالنا أوحالا
وما فتئ الزمان يدور حتى ... مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي ... وقد كانوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر ... سؤال الدهر أين المسلمونا؟
معذرة يا رمضان!!!
كنت تأتي قوما أعدوا العدة لاستقبالك، وفهموا سرك، وعرفوا مغزاك، فهم ينتظرونك ويترقبونك، ويتهيأون لك بالصلاة والصيام والتهيئة العبادية، كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يدركوا فضيلتك، ثم يدعونه باقي العام أن يتقبل، كانوا يقولون: اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا.
لقد علم هؤلاء أنك جئت لتعلمهم كيف يترفعون عن المظاهر الحيوانية التي غاية أكلها الأكل والشرب وإشباع الغريزة، وعلموا أنك جئت لتعلمهم كيف يخرجون من شهواتهم النفسانية.
هذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يؤتى له بإفطاره وقد كان صائما وفيه نوعان من الطعام، فيبكي! فيسأله أهله: ما يبكيك؟ فيقول: تذكرت مصعب بن عمير مات يوم مات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إذا غطينا رأسه بدت قدماه، وإذا غطينا قدميه بدا رأسه، ونحن اليوم نأكل من هذه الأنواع، وأخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا!!!
واليوم يا رمضان إلى من تأتي؟
إلى قوم ما عرفوا عنك إلا أنك شهر الجوع في النهار والشبع في الليل؟ إلى قوم ما عرفوا عنك إلا أنك شهر التنويع في الأطعمة والإكثار منها؟ إلى قوم لم يكن زادهم لاستقبالك إلا طعاما وشرابا؟ وكأنك يا رمضان جئت تعلمهم فنون الطبخ، وطرائق الأكل !!!
معذرة يا رمضان!!!
كنت تطل على قوم أسهر لك ليلهم، وأظمأوا نهارهم، وأدركوا أنك موسم لا يعوض فبذلوا الغالي والنفيس.
سمعوا قول الله: أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ [البقرة:184]. فأرادوا ألا تضيع منهم.
كنت تنظر إليهم، وهم بين باك غلبته عبرته، وقائم غفل عن دنياه، وساجد ترك الدنيا وراء ظهره، وداع علق كل أمله في الله.
ـ سجد مرة بن شراحيل لله حتى أكل التراب جبهته. [نزهة:335].
ـ كان صفوان بن سليم يقوم من الليل حتى ترم قدماه وتظهر فيها عروق خضر. [نزهة:498].
ـ وصلى عبد الله بن الزبير في الحرم وإن حجارة المنجنيق لتتساقط بين يديه وخلفه م يشعر بها!
ـ وبكى عمر رضي الله عنه حتى صار في خديه خطان أسودان من أثر الدمع!
ـ وسمع عبد الله بن الفضيل قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]. فبكى حتى غشي عليه، ثم حمل ميتا!
لقد صدق فيهم قول الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].
واليوم على من تطل يا رمضان؟
هل تطل إلا على مساكين ليس في ليلهم إلا اللهو واللعب.
هل تطل إلا على حمقى تركوا الصلاة وانشغلوا بهذه القنوات الفضائية؟
هل تطل إلا على كسالى غاية جهد أحدهم أن يصلي مع الإمام ثمان ركعات ثم ينصرف معجبا مزهوا وكأنه قضى حق العبادة، وفرغ من واجب الله عليه؟
هل تطل إلا على قساة القلوب، الذين يتولج القرآن سمعهم بكرة وعشية فلا تهتز له قلوبهم ولا تدمع له أعينهم؟
سامحنا يا رمضان ... لقد قست قلوبنا! تحجرت أفئدتنا! قحطت أعيننا! لم نعد نحس بحلاوة الطاعة، ولا بجمال العبادة، ولا بأنس المناجاة!!!
معذرة يا رمضان!!!
لقد كنت تفد إلى قوم تآخوا على غير أرحام بينهم، عرفوا قيمة الإخاء فلزموه، وفهموا قدره فقاموا بحقوقه وواجباته، وعرفوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم)) فكانوا بحق إخوة وأحبابا.
كانوا جسدا واحدا، يرحم الكبير الصغير، ويحترم الصغير الكبير، يعيشون بالود، ويتعاملون بالحب، حياتهم صفاء، وعيشهم وفاق، لا تباغض، ولا تحاسد، ولا حقد.
يألم أحدهم لألم أخيه، ويأسى لأساه، يقضي حوائجه، ويسد خلته، ويتلمس مصالح ليقضيها.
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو معتكف يسأله قضاء حاجة له، فقام ابن عباس ليخرج معه، فقالوا له: إنك معتكف! فقال: لأن أسعى في قضاء حاجة أخي أحب إلى من اعتكاف شهرين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واليوم يا رمضان ... هل تفد إلا على قوم استبدلوا العداوة بالإخاء، والخصومة بالصفاء، ورضوا بالتباغض والشحناء؟! وكأنه لم ينته إليهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ترفع الأعمال إلى الله كل اثنين وخميس فيغفر لمن شاء إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا)).
هل تفد إلا على قوم ضمر فيهم حس الأخوة الإيمانية، والرابطة الربانية، فهم لا يشعرون بمصاب إخوانهم في شرق الأرض وغربها، ولا يهتزون للأعراض المنتهكة والأراضي المغتصبة، والحقوق المهدرة، وكأنهم لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)).
هل تفد إلا على مجتمع لا يكاد يعرف فيه الجار جاره، والقريب قريبه؟
معذرة يا رمضان ...
هذه جراحنا ... هذا واقعنا الذي نعيشه.
هكذا تبدلت الدنيا، وتغير الناس، واستحال الزمن زمنا آخر.
هكذا نحن ...
فهل نجد في أيامك هذه المباركات ما يغير الحال؟
وهل تكون لنا محطة نخرج منها بوجه غير الوجه الذي دخلنا به؟
نرجو ذلك ...
ـــــــــــــــ
في وداع رمضان
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
عثمان بن عفان
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- حسرة في وداع رمضان. 2- تجديد ليلة القدر. 3- فضل ليلة القدر. 4- فضل الاستغفار والدعوة له في نهاية الشهر. 5- شهر عتق الرقاب. 6- حذار من الغرور. 7- بعض أحكام زكاة الفطر.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المؤمنون، هذا هو رمضان ولى وانصرم، كأنما هو طيف عابر، مر ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. هكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر, يكون بعضنا غارقاً في شهواته حتى يغزو الشيب مفرقيه، نذير أجل محتوم قد يحل بساحته, قد يحل الأجل والغافل لم يستعدَّ بعد للرحيل, فإذا حانت ساعة الميعاد, فلات حين مناص, يحمل الغافل على الأعواد، ويُدَس بين الألحاد، والذنب كثير، والعمل قليل، وحينئذ لا ينفعه أن يعض على أصبع الندم، ولا أن يهتف وينادي: يا ليتنى أردّ فأعمل غير الذي كنت أعمل, فالعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة, فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود.
وبقيت مظان ليلة القدر، وأصح الأقوال أنها في العشر الأواخر، بل في الوتر من العشر الأواخر, كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))(1)[1], وأصح أقوال أهل العلم والإيمان أنها تتنقل في الوتر من العشر، فسنة تكون ليلة إحدى وعشرين، وسنة تكون في غيرها من ليالي الوتر, كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أريت ليلة القدر فنسيتها, وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين))، يقول الصحابي راوي الحديث: (فمطرنا ليلة إحدى وعشرين فخر المسجد، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فسجد في ماء وطين)(2)[2]. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تحرّوا ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين))(3)[3], وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين))(4)[4], وقوله: ((تحروا ليلة القدر، فمن كان متحريها فليتحرَّها في ليلة سبع وعشرين))(5)[5]، وقد قال أبي بن كعب رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره إني لأعلم أي ليلة هي, هي الليلة التي جمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم أهله والناس أجمعين فصلى بهم حتى الصبح، ليلة سبع وعشرين)(6)[6], ففي تلك السنة كانت ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من ليالي رمضان))(7)[7], أي ليلة تسع وعشرين.
فكل تلك الروايات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم تدل بوضوح أنها لا تلزم ليلة السبع والعشرين في كل السنين، بل ربما كانت في سنة في ليلة إحدى وعشرين، وفي سنة أخرى في ليلة ثلاث وعشرين، وهكذا إلى تسع وعشرين.
ولما كان دخول شهر رمضان يختلف فيه الناس، فرب ليالٍ نعدها أوتاراً هي في واقع الأمر شفع ليست بوتر, وإذا كان الأمر كذلك فإن العبد المسدد لا يقصر نشاطه على الأوتار من العشر، بل يجتهد في العشر كلها مقتدياً في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وليلة القدر سميت بذلك لشرفها وعلو قدرها، فعبادة فيها تعدل عبادة في ثلاثة وثمانين سنة, وسميت بذلك أيضا لأنها تقدَّر فيها مقادير العام الذي يليها، فيفصل من اللوح المحفوظ إلى كل ملك ما وكِّل إليه القيام به في كل عام, فملك الموت يعلم الأرواح التي يقبضها في كل عام, وهكذا يفرق في هذه الليلة من اللوح المحفوظ كل أمر محكم، فيعلم به من سينفذه من العباد المكرمين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون, قال الله سبحانه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4].
وسماها الله جل وعلا مباركة كما قال سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]. ومن بركاتها أن الملائكة تتنزل فيها من السماء, كما قال سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]، والروح هو جبريل عليه السلام، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى))(8)[8]، ومن بركاتها ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))(9)[9].
فيا من فرط استدرك.
ماذا نصنع حتى نتدارك ما فات؟ ورمضان قد تهيّأ للرحيل فلم يبق منه إلا ليال.
علينا - يا عباد الله - أن نعترف بذنوبنا، وأن نتوب التوبة الصادقة النصوح، وأن نتوجه إلى الله تعالى بالدعاء بالمغفرة والعتق من النار.
فاغفر لنا يا ربّنا وأعتقنا من النار، ألم تقل يا ربّنا: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]؟! ألم تقل يا ربنا: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد:6]؟!
وأما من استغفر بلسانه وقلبهُ على المعصية معقود، وهو عازم بعد الشهر إلى المعاصي أن يعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود، كيف لا؟ وقد قابل نداء الله: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بالإعراض والصدود.
أيها المسلمون، إن الاستغفار هو ختام الأعمال كلّها، فيختم به في الصلاة كما في صحيح مسلم أن رسول الله كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا(10)[10]. ويُختم به في الحج، قال الله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:199]. بعد هذه الشعيرة العظيمة وهي الوقوف بعرفة والحج عرفة، ينطلق الحاج إلى مزدلفة وهو يستغفر الله تعالى. ويختم به قيام الليل، يمدح الله تعالى عباده المتقين ويصفهم فيقول: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ [آل عمران:16، 17]، وقال تعالى كذلك في وصفهم: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، قال الحسن رحمه الله: "قاموا الليل إلى وقت السحر، ثم جلسوا يستغفرون"(11)[11]، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: (يا نافع هل جاء السحر؟) فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح(12)[12]. ويختم به كذلك في المجالس، فإن كانت ذكراً كان كالطابع لها، وإن كانت لغوا كان كفّارة لها. وكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار، فمن أحب منكم أن يحطّ الله عنه الأوزار، ويعتقه من النار، فليكثر من الاستغفار، بالليل والنهار، لا سيما في وقت الأسحار.
ومما يستحسن ختم هذا الشهر به أيضاً عتق الرقاب، فقد كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار. وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما دل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي بن الحسن قال: قال أبو هريرة: قال النبي : ((أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار))، قال سعيد من مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن الحسين، فعمد علي بن الحسين رضي الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه(13)[13].
ومن فاته عتق الرقاق لانعدامها فليكثر من شهادة التوحيد، فإنها تقوم مقام عتق الرقاب، قال : ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل)) [أخرجه البخاري](14)[14]، وقال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل ممّا جاء به إلا أحدٌ عمِل أكثر من ذلك)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة](15)[15].
واعلموا عباد الله أن الجمع بين شهادة التوحيد والاستغفار من أعظم أسباب المغفرة والنجاة من النار، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات. لهذا جمع الله تعالى بينهما في قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِك [محمد:19]، وفي قوله: لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين [الأنبياء:87].
فأكثر ـ أخي المسلم ـ من طاعة الله لا سيما من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأكثر من الاستغفار وغيرها من الأذكار والأعمال الصالحة قبل فوات هذه الفرصة العظيمة، فإنه إن لم يُغفر لك في هذا الشهر فمتى سيغفر لك؟!
قال قتادة رحمه الله: "كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما بقي".
فيا من جد، واصل ولا تغتر، حذار من الاغترار بما صنعت، وكن كمن قال الله جل وعلا فيهم: كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]، ما استغفروا إلا لاستشعارهم تقصيرَهم في جنب الله، رغم قيامهم أكثر الليل, وكن كمن قال الله جل وعلا فيهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون:60]. وتذكر أن ما أنت فيه إنما هو بفضل الله وتوفيقه لك, فالذي أعطاك ووفقك هو الذي حرم غيرك ومنعه، فقل كما قال الصالحون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. واعتبر بما قاله الله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا [الأنبياء:86، 87]، حتى عدها بعض السلف أعظم تهديد في كتاب الله.
فكن خافض الجناح، مجتهداً في الطاعة، خائفاً من عدم القبول، فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. ولا تدري أتكون منهم أم لا؟(1/242)
ثم اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم سألته إن هي أدركت ليلة القدر ما تقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني))(16)[16].
اعلموا أيها المسلمون أن رسول الله فرض زكاة الفطر على المسلمين، على الذكر والأنثى والصغير والكبير، صاعًا من طعام أي صاعًا من قمح، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا زبيب، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، فهذه الزكاة مفروضة على كل قادر على إخراجها، كل مسلم فضَل عنه شيء من قوت يومه وقوت عياله عليه أن يخرج هذه الزكاة عن نفسه وعمَّن يعولهم، والصاع يساوي هذا اليوم كيلوين ومائتي غرام تقريبا.
واعلموا أن وقت خروجها يبدأ من غروب شمس ليلة العيد، وينتهي بانتهاء صلاة العيد، فمن أخرها إلى ما بعد ذلك فهي صدقة من الصدقات كما قال المصطفى ، ولكنها لا تسقط عنه، ويلزمه إخراجها، ويجوز تعجيل هذه الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين، ولكن لا يجوز تعجيلها أكثر من ذلك؛ لأن المقصود بها كما أخبرنا إغناء الفقراء عن المسألة يوم العيد، هذا هو المقصود من هذه الصدقة، أو من أهم مقاصد هذه الصدقة، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات(17)[17].
-------------------------
الخطبة الثانية
لم ترد.
__________
(1) أخرجه البخاري في صلاة التراويح [2017]، ومسلم في الصيام [1169] من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري في صلاة التراويح [2016،2018]، ومسلم في الصيام [1167] من حديث أبي سعيد رضي الله عنها.
(3) أخرجه بنحوه أحمد (25/439)[16046]، وأبو داود في الصيام [1380] من حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة [2185،2186]، وهو في صحيح الجامع [2923].
(4) أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في الكبير (19/349-350) من حديث معاوية رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع [1240].
(5) أخرجه أحمد (8/426)[4808] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع [2920].
(6) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين [1272] بنحوه.
(7) أخرجه ابن نصر في قيام الليل (ص 106) من حديث معاوية رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/330)، وكذا الألباني.
(8) أخرجه الطيالسي [2545]، وعنه أحمد [10734] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة [2194]، وقال ابن كثير في تفسيره (4/535): "إسناده لا بأس به"، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة [2205].
(9) أخرجه البخاري في الصوم [1768]، ومسلم في صلاة المسافرين [1268] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(10) 10] أخرجه مسلم في المساجد [931] عن ثوبان رضي الله عنه.
(11) 11] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/47)، والطبري في تفسيره (13/200) بنحوه.
(12) 12] أخرجه الطبري في تفسيره (6/266)[6756].
(13) 13] أخرجه البخاري في العتق [2333]، ومسلم في العتق [2778].
(14) 14] أخرجه البخاري في الدعوات [5925]، ومسلم في الذكر [4859] من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
(15) 15] أخرجه البخاري في بدء الخلق [3050]، ومسلم في الذكر [4857].
(16) 16] أخرجه أحمد [25384]، والترمذي في الدعوات [3513]، وابن ماجه في الدعاء [3840]، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/530)، وأقره الذهبي،وصححه النووي في الأذكار (ص 2487)، وهو في صحيح الترغيب [3391].
(17) 17] أخرجه أبو داود في الزكاة [1376]، وابن ماجه في الزكاة [1817]، وقال الدارقطني في السنن (2/138): "ليس فيهم مجروح"، وصححه الحاكم (1/409) على شرط البخاري، وأقره الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب [1085].
ــــــــــــــ
المنجيات من الفتن واستقبال رمضان
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
24/8/1422
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- ظهور الفتن من أشراط الساعة. 2- العقوبات التي تنزل زمن الفتن. 3- أعظم الفتن فتنة الدين. 4- ما كل أحد يثبت في الفتنة. 5- الأسباب المعينة على مواجهة الفتن. 6- كلمة في استقبال رمضان.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أخبر النبي أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة، التي يلتبس فيها الحق بالباطل، فتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، كلما ظهرت فتنة قال المؤمن: هذه مهلكتي، ويظهر غيرها فيقول: هذه هذه، ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة.
ومن الصحابة رضوان الله عليهم اهتم حذيفة بن اليمان بأحاديث الفتن، وكان يقول عن نفسه: (إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه)(1)[1].
ونحن في عصر أخذت أمواجها تتلاطم بألوان من الأحوال العجيبة، موجات فتن تترى، ومصائب تتوالى، وتقلبات وتغيرات تلوّث العقائد والأفكار والأخلاق، تسعّر القوم شراً، كلما تعاظم الناس فتنة تلتها أعظم منها، فتن الشهوات المحرقة، وفتن الشبهات المضلة، وفتن تضارب الآراء، سيما عند تفاوت المشارب. فتن هذا الزمان لا تموج بالناس فحسب، بل بهم وبأفكارهم، وربما كان موج الأفكار والحقائق سمة فتن هذا العصر، فترى الناس في الفتن كالورق اليابس تسفّه الريح يمنةً ويسرةً.
نعم، للفتن ضحايا تصرعهم، وفي ذلك يقول الوزير ابن هبيرة: "احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات". ويقول حذيفة بن اليمان: (إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن) (2)[2].
لقد حذر الله الأمة المسلمة إن هي خالفت ربها ونبيها، وبعدت عن شريعتها أن يفتنها، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
هذه الفتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات، كانتشار القتل فيما بينهم، أو الزلازل والبراكين، أو تسلط السلطان الجائر عليهم، أو ظهور أنواع من الأمراض، أو الفقر، أو الشدة في الحياة، إلى غير ذلك.
هذه الفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع، فلا يستثنى منها أحد لقوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، يقول المفسرون في معناه: "واحذروا فتنة إذا نزلت بكم، لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعاً، وتصل إلى الصالح والطالح، أما الطالح فهو عقوبة لذنبه، وأما الصالح فلأنه سكت ولم ينكر على الظالم ظلمه".
الفتن - عباد الله - خطرها عظيم، وشرها مستطير، تهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس، تحيّر العقلاء، وترمّل النساء، وتيتم الأطفال، وتسيل أنهار الدماء، تنزل الويلات والنكبات بالمجتمعات التي تغشاها، نار وقودها الأنفس والأموال، ومصير أهلها ومآلهم - عياذاً بالله - شر مآل.
وأعظم الفتن ما كان في الدين، يرى المرء أمامه سبلاً متشعّبة، وفتناً مترادفة، لا تزلزل وجدان الإنسان فحسب، لكنها تفعل فعلها في جعل حياته تضطرب مهما تحصّن، ويبقى المرء في حيرة من أمره، وخشية من عاقبته. هناك من تصيبه حالة من اليأس القاتل، وآخرون يحسنون أنفسهم على هامش الحياة، وصنف يلعب الشيطان برأسه، ويجلب على نفسه الوبال، نتيجة فهم قاصر، أو نقل كاذب، أو غرض فاسد، أو هوى متّبع، أو عمى في البصيرة وفساد في الإرادة، قال تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191].
لذا عُنيت الشريعة بموضوع الفتن، ووضعت أمام المسلم معالم واضحة يهتدي بها، ليخرج غير مسخط ربه عليه، يقول الحسن البصري رحمه الله: "الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل"(3)[3]. الفتن سنة ربانية لا تتبدل، كما في قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة، ومنها تمحيص الصف المسلم، فالدعوة ينضوي تحت لوائها الصادق والكاذب، والمتجرد والنفعي، وطريق الدعوة يأبى المهازيل والممثلين دور الأصفياء، ولا صفاء، وفي الفتن تنكشف حقائق النفوس، فالذي يرصد مصلحته ومنفعته، ولا يعنيه حق ولا باطل، عبد الدرهم والدينار، لا يكون أمثال هؤلاء أصحاب مبادئ وحملة أمانات.
والفتن تظهر خبايا نفوسهم، لتعرف الأمة قدرهم فتنبذهم، وصنف من الناس في الفتن تقوى رجولته، وتسمو همته، ويستدرك ضعفه، فيزداد صلابة لدور أكبر، ومهمة أجل وأكرم، قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
كم من أناس يُظن أنهم سيثبتون في الفتن فلا يثبتون، وأناس يظن أنهم لن يثبتوا فيثبتون.
الفتن تنساق لمن لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه)) أخرجه البخاري ومسلم(4)[4]، أي من تطلع إليها، وتعرض لها، وأتته وقع فيها.
لذا يرمي المسلم إلى تبين الأسباب المعينة على مواجهة الفتن، ليعد للأمر عدته، ويأخذ أهبته، ويحصّن النفس من الانزلاق، ومن ذلك إقبال المسلم على كتاب ربه بقوله وعمله واعتقاده، تعلماً وتعليماً، تلاوة وتدبراً، ففيه العصمة لمن اعتصم به، وفيه الثبات لمن طلبه فيه، قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى [طه:123]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِالْحَقّ لِيُثَبّتَ الَّذِينَ ءامَنُواْ [النحل:102]، وقال تعالى: وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].
السلاح الأول لرفع الفتن عن الأمة اتباع هدى الله، وفي ظل هذا الاتباع يتربى المسلمون، ويتولد سلاح العزائم، وتتحد الأمة تحت راية لا إله إلا الله.
لا ينجي من الفتن إلا تجريد اتباع الرسول ، وتحكيمه في دقّ الدين وجلّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، العلم المخلص في تحصيله، المتقى الله في تطبيقه، نورٌ يضيء الطريق إذا ادلهمت الخطوب، وتشابكت الدروب، وعصفت بالناس الفتن، قال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله، فهو المثبت والمعين، ولولاه ما رفع المسلم قدماً، ولا وضع أخرى، ولا ثبت على الخير لحظةً واحدة، اللجوء إلى الله بالدعاء من أهم الأسباب، فهذا رسول الله كان عظيم الشعور بالافتقار إلى ربه، كان يكثر في دعائه أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) (5)[5]، وكان يكثر الاستعاذة من الفتن، ويدعو أصحابه لذلك: ((تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)) أخرجه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه(6)[6].
إصلاح النفس وتزكيتها بالطاعة والعبادة من أسباب التثبيت، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66]. الأعمال الصالحة مصادٌّ للفتن ووقاية منها، وبها يدخر المسلم رصيداً من الخير في الرخاء، فإذا ما نزلت الفتن كانت النجاة بفضل الله، يُوضّح هذا قول الرسول : ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) أخرجه مسلم(7)[7].
لقد وجه القرآن الكريم بالصبر والتقوى لمواجهة الكيد، والتحصين من الفتن، قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ [آل عمران:186]. يوسف عليه السلام نجّاه الله من الفتن بالإخلاص، قال تعالى: كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]. وأهل الكهف نجاهم الله وحماهم حين لجؤوا إليه سبحانه: رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
إن دفاع الله سبحانه عنا وحمايته لنا من الفتن والمكايد، إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا، قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وكان السلف يقولون: "على قدر العبودية تكون الكفاية"، يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]. وفي قراءة يَدْفَعُ(8)[8] فيقول رحمه الله: "فدفعه سبحانه ودفاعه عنهم - أي عن المؤمنين - بحسب إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وأكثر ذكراً، كان دفع الله تعالى عنه ودفاعه أعظم، ومن نقص نقص"(9)[9]، أي من نقص إيمانه نقص الدفع والدفاع عنه.
ورمضان - عباد الله - موسم خير قادم، وهو فرصة سانحة لنطلب من الله التثبيت، ولنقبل على ربنا، ونغترف من بحر الخيرات، ونزيد من عبوديتنا وطاعتنا، في زمن الفتن المدلهمة، لتتحقق حماية الله لنا ويتحقق دفعه ودفاعه عنا، والإنسان محكوم عليه بالوبال والخسران، ما لم يسلك طريق الإيمان والإحسان، ويصبر على طريق الهدى، قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
قتادة بن دعامة رحمه الله أحد التابعين، عاصر فتنة من الفتن، ويضع بين يدي الأمة نتائجها فيقول: "قد رأينا والله أقواماً يسارعون إلى الفتن وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت الفتن إذا الذين أمسكوا أطيب نفساً وأثلج صدوراً، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها، وأيم الله، لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير"(10)[10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان سيد الشهور، وضاعف فيه الحسنات والأجور، أحمده سبحانه وأشكر إنه غفور شكور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الفوز بدار القرار والسرور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أشرف آمر ومأمور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم النشور.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله .
بعد أيام قلائل يبشر المؤمنون بإذن الله بشهر رمضان الذي يُفتِّح الله فيه أبواب الجنة، ويُغلّق أبواب النار، بشهر لا تحصى فضائله، ولا يحاط بفوائده، والأمة بحاجة إلى هذا الموسم لينسلخوا منه بعد تمامه مجلوّة قلوبهم، منوّرة بصائرهم، قوية عزائمهم.
يستقبل رمضان بتهيئة القلوب، وتصفية النفوس، وتطهير الأموال، والتفرغ من زحام الحياة، وأعظم مطلب في هذا الشهر إصلاح القلوب، فالقلب الذي ما زال مقيماً على المعصية يفوت خيراً عظيماً، فرمضان هو شهر القرآن، والقلوب هي أوعية القرآن ومستقر الإيمان، فكيف بوعاء لُوّث بالآثام؛ كيف يتأثر بالقرآن؟!
ويُستقبل رمضان بتهيئة النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد، التي خلخلت العرى، وأنهكت القوى، ومزقت المسلمين شر ممزق، فالذي يُطل عليه رمضان عاقاً لوالديه، قاطعاً لأرحامه، هاجراً لإخوانه، أفعاله قطيعة، دوره في المجتمع النميمة، هيهات هيهات أن يستفيد من رمضان.
ومن حكم رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع، ويتجاوب مع نداء الفقراء والضعفاء، متجاوزاً بمشاعره كل الفواصل، متسلقاً بمبادئه كل الحواجز، يتألم لآلامهم، يحزن لأحزانهم، يشعر بفقرائهم.
ويُستقبل رمضان بتطهير الأموال من الحرام، فما أفظعها من حسرة وندامة أن تلهج الألسن بالدعاء ولا استجابة، وربنا يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
اللهم بلغنا شهر رمضان، ووفقنا فيه للصيام والقيام، اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
__________
(1) أخرجه البخاري في الفتن باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ (7084) ، ومسلم في الإمارة باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (1847).
(2) أخرجه معمر في جامعه (11/359- مصنف عبد الرزاق -) ، ومن طريقه نعيم بن حماد في الفتن (1/140، 177) وأبو نعيم في الحلية (1/273) ، وصححه الحاكم (4/495) ، وفي سنده عمارة بن عبدٍ - الراوي عن حذيفة - لم يرو عنه غير أبي إسحاق ، قال الذهبي في الميزان (3/177) : "مجهول لا يحتج به". والدِّمن : السرقين المتلبّد والبعر كما في القاموس.
(3) أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/166) ، والبخاري في التاريخ الكبير (4/321) ، وأبو نعيم في الحلية (9/24).
(4) أخرجه البخاري في الفتن باب : تكون الفتنة القاعد فيها خير من القائم (7081) ، ومسلم في الفتن باب : نزول الفتن كمواقع القطر (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) أخرجه أبو داود الطيالسي (1/224) وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/113) ، والإمام أحمد (6/294) والترمذي في الدعوات باب منه (3522) من حديث أم سلمة ، وقال الترمذي : "في الباب عن عائشة والنواس بن سمعان وأنس وجابر وعبد الله بن عمرو ونعيم بن همار ، وهذا حديث حسن " ، وصححه الحاكم (1/706).
(6) رواه مسلم في الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (2867).
(7) أخرجه مسلم في الإيمان باب : الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) قرأ به ابن كثير المكي ، وأهل البصرة ، انظر: تفسير البغوي (5/388).
(9) الوابل الصيب (ص100).
(10) 10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/337).
ـــــــــــــــ
خصائص رمضان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/8/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- حكمة الله في الخلق. 2- أنواع العبادات. 3- ركنية صوم رمضان. 4- الحكمة من شرعية الصوم. 5- الصوم سرّ بين العبد وبين ربه. 6- الصوم يبيّن قيمة النعم ويذكر بالفقراء والمعوزين. 7- إدراك رمضان نعمة. 8- خصائص رمضان.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن لله جل وعلا الحكمة البالغة في شرعه وخلقه، فهو الحكيم فيما شرع وخلق، لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سُدى، ولم يشرع لهم الشرائع لعباً، إنما خلقهم لأمر عظيم، وهيّأهم لخطب جسيم، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39].
خلقهم لأمر عظيم، وهيأهم لخطب جسيم، شرع لهم من العبادات ما يزداد به إيمانهم، وتكمل به عباداتهم.
أيها المسلمون، وإن شرع الله ابتلاء وامتحان للمكلّفين، الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، ففيها ابتلاء للعباد، ليظهر من هو صابرٌ لشرع الله، مستجيب منقاد، عبدٌ لمولاه، سامعٌ مطيع، ممن هو عبدٌ لهواه، إنما يتبع ما يوافق هواه. إن الله تعالى شرع العبادات ونظّم المعاملات ابتلاءً وامتحاناً، فمن قبل بشرع الله، وانشرح بذلك صدره، وطابت نفسه، دل على صدق إيمانه، وعظيم يقينه، ومن قبل من الشرائع بعضاً، ورد بعضاً، قبل ما يوافق هواه، ورد سوى ذلك، فهو دليل على أنه عابدٌ لهواه، ليس مطيعاً لمولاه، يريد أن يكون متبوعاً، ولا يريد أن يكون تابعاً، يريد أن يُخضِع الأمور كلها لما تهواه نفسه فقط، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاواتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون:71].
أيها المسلم، إن الله تعالى نوّع العبادات على العباد، فمنها عبادة تتعلق بالبدن، كأداء الصلوات، وعبادة تتعلق بالمال كإخراج الزكاة، وعبادة ما بين المال والبدن جميعاً، بالمال والبدن جميعاً، كحج بيت الله، والجهاد في سبيل الله، وعبادة مطلوبٌ بها الكفّ عن مشتهيات النفس، كعبادة الصيام، والمسلم يقبل شرع الله كله إيماناً ويقيناً، وقد رد الله على من قبلوا بعضاً وردوا بعضا، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].
أيها المسلمون، من تلكم العبادات عبادة الصوم فإن الصوم عبادةٌ لله، عبادة يتقرب بها العباد إلى الله، الصوم - أيها المسلمون - عبادة يتقرب بها العباد إلى الله، ولما كان الصيام عبادة لله، وطاعةً لله، وعنوان الخضوع والذل لله، تعبد الله به الأمم قبلنا، وتعبدنا به كما تعبد من قبلنا، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ [البقرة:183، 184].(1/243)
أيها المسلمون، صيام شهر رمضان أحد أركان الإسلام، ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام))(1)[1]. وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً قطعياً لا شك فيه، فمن أنكر وجوب الصيام، أو شك في وجوب الصيام، من أنكر صيام رمضان أو شك في فرضية صيام رمضان، فذاك غير مسلم، مرتدّ عن دينه والعياذ بالله.
فرض الله صيام رمضان على أمة الإسلام، في العام الثاني من الهجرة، فصام محمد تسع رمضانات، قال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين، السامعين المستجيبين، المنقادين لشرع الله: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:183، 184]، هذا الخطاب لأهل الإسلام، ليبين لهم وجوب صيام رمضان، وأنه كُتب وفُرض عليهم كما كُتب على من قبلهم لكونه عبادة محبوبة إلى الله، دالة على الإخلاص الحقيقي لله، فتعبّد الله به من قبلنا، وتعبدنا به جل وعلا.
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، يبين تعالى حكمته من فرض صيام رمضان على أمة الإسلام قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أي أنكم تنالون بالصيام التقوى، ويتحقق لكم بصيامكم رمضان تقوى الله جل وعلا، كيف يكون ذلك؟ نعم، يكون ذلك بأن المسلم يتعبّد لله بترك الطعام والشراب، ومواقعة النساء، وتلك من الأمور المحببة إليه، المغروس حبّها في نفسه، يتركها طاعة لله، مع ميل النفس وحبها لها، لكنه يترك ذلك طاعة لله، وعبادةً يتقرب بها إلى الله، فيحصل الخضوع والطاعة لرب العالمين.
إن الصائم يتعبد بالصيام لله فيما بينه وبين الله، فيكون في بيته، امرأته بجواره، والطعام والماء قريب، وفي موضع لا يعلمه إلا الله، لكنه يترك ذلك طاعة لله، يعلم أن الله يرضى منه ترك المشتهيات، فيدعها طاعةً لربه، ويعلم أن الله مراقب عليه، وعالم بسره وعلانيته، الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:218-220]، باستطاعته أن يأكل ويشرب، ويأتي امرأته، ويكذب على المسلمين، وما كأنه فعل شيئاً، ومن يعلم الغيب إلا الله، لكن ما في قلبه من خوف الله، وعلمه باطّلاع الله عليه، كافٍ في ترك تلك المشتهيات، طاعةً لله، وقربة يتقرب بها إلى الله.
إن النعم لا تعرف إلا بفقدها، الصائم عندما يشتد به الظمأ، ويؤلمه الجوع، يعرف قدر نعمة الله عليه، هو الآن في شدة الجوع والعطش، والماء والطعام قريب منه، لكن السبب في تركه طاعة الله، فيعرف عند ذلك قدر نعم الله عند فقدها، فيزداد شكراً لله، وثناءً عليه بما متّعه بهذه النعم في كل عامِه.
إنه يتذكر أناساً فقراء ومعوزين، يمرّ بهم الشهر وهم في العراء والجوع وقلة المؤونة، فيؤدي به ذلك إلى مواساتهم، وتضميد جروحهم.
إن قلبه عندما يقل تناول الشهوات يعظم تفكيره، ويكثر اتعاظه واعتباره، فالقلب عندما تقل الشهوات، يعظم فيه الفكر والتفكّر والتدبر في آلاء الله، فيزداد إيماناً ويقيناً، إنها عبادة لله.
أيها المسلم، إن إدراكك رمضان نعمة من الله عليك، فاشكر الله أن بلّغك رمضان، واسأله أن يمدّك بعونه وتأييده لأن تصومه وتقوم ليله، طاعةً لله، وإخلاصاً لله، كان سلفكم الصالح يدعون الله قائلين: (اللهم سلمنا لرمضان، وسلّم لنا رمضان، وتسلّم منا رمضان متقبلاً) (2)[2].
أيها المسلمون، لهذا الشهر العظيم خصائص عظيمة، تفضل الله بها علينا، فمنها أن صيامه وقيامه سبب لمغفرة ما مضى من الذنوب، يقول : ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه))(3)[3].
وكان يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ثم يقول: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه))(4)[4].
وأخبر أن الله خصّ هذه الأمة في هذا الشهر بخصائص خمس لم تكن للأمم قبلهم، فقال: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، يزيّن الله جنته كل ليلة، ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يصيروا إليك، تُصفّد فيه مردة الجن، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، يغفر لهم في آخر ليلة)) قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)) (5)[5].
من خصائص هذا الشهر ما بيّنه بقوله: ((إذا كان أول ليلة من رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسُلسلت الشياطين)) (6)[6].
أيها المسلم، من خصائص هذا الشهر ما بيَّنه بقوله، لما أهل رمضان: ((أتاكم شهر رمضان، ما مرّ بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يُدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يُدخله، وذلك أن المؤمن يُعد فيه القوت للعبادة، ويُعد فيه الفاجر اغتنام غفلات المسلمين، وتتبع غفلاتهم)) (7)[7].
وبين من خصائص هذا الشهر بقوله: ((من صام رمضان وتحفّظ مما ينبغي التحفظ منه كفّر ما كان قبله))(8)[8]، هو شهر يباهي الله بعباده ملائكته يقول يوماً: ((أتاكم رمضان شهر خير وبركة، يغشاكم الله فيه، فينزل السكينة، وينزل الرحمة، ويحط الخطيئة، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله)) (9)[9].
أيها المسلم، أقبل رمضان فعلى أي شيء العزم؟ هل على نية طيبة وتوبة نصوح، وعزيمة صادقة، وتنافس في صالح العمل؟ إنه شهر في السنة كلها، فاغتنم أيامه ولياليه، واستعن بالله على ذلك، وكن مجتهداً، وكن صادق العزيمة، صادق التوبة، قويَّ الرغبة في هذا الشهر، فرِحاً به، مستبشراً به، مستأنساً به، ترجو أن يكون لك فيه نصيب عند ربك، بتوبة نصوح، ودعوات مرفوعة إلى الله، وإقلاع من الخطأ، وعزيمة على الاستمرار في الطاعة، ورجاء من الله أن يحقق لك ما وعد به الصائمين، وما ذاك على الله بعزيز.
فاستقيموا على طاعة ربكم، واسألوا الله إذ قربكم من هذا الشهر أن يبلغنا جميعاً صيامه وقيامه، وأن يجعل لنا فيه حظاً ونصيباً، وأن يعيننا فيه على كل خير، وأن يعيذنا فيه من نزغات الشيطان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن نبيكم إذا أقبل رمضان بشّر به المسلمين، وهنَّأهم بمقدمه، وبين لهم فضائله وخصائصه، يدعوهم إلى الجد والنشاط فيه، يدعوهم إلى التسابق لفعل الخير، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان فقال: ((أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له من الأجر مثل أجورهم، من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيء)) قالوا: يا رسول الله، ليس كل منا يجد ما يفطر الصائم ؟ قال: ((يعطي الله هذا الثواب من فطّر صائماً على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف فيه عن مملوكه غفر الله له، وأعتقه من النار، ومن سقى فيه صائماً شربة سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، فأما اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار))(10)[1].
فارغبوا - عباد الله - فيما عند الله من الثواب، واغتنموا أيامه ولياليه، وحافظوا على صلاة التراويح فيه، ولا تخلّوا بها ما دام المسلم في صحة وسلامة من بدنه، فليحمد الله على هذه النعمة، وليؤدِّ شكرها بطاعة الله، والتقرب إليه بما يرضيه.
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ...
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان ، باب: بني الإسلام على خمس (8) ، ومسلم في الإيمان ، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) من حديث ابن عمر بنحوه.
(2) روي عن علي كما في مسند الفردوس (1/483) بنحوه.
(3) أخرجه البخاري في الصوم ، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية (1901) واللفظ له ، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري في الإيمان ، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37) ، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها ، باب: الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة.
(5) أخرجه أحمد (2/292) ، والبزار (1/458- كشف الأستار)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112) ، والبيهقي في الشعب (3602) ، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعاً إلا بهذا الإسناد ، وهشام بصري يقال له : هشام بن زياد أبو المقدام ، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140) : "رواه أحمد والبزار ، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف". وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جداً".
(6) أخرجه البخاري في بدء الخلق ، باب: صفة إبليس وجنوده (3277) ، ومسلم في الصيام ، باب: فضل شهر رمضان (1079) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(7) أخرجه أحمد (2/374) وابن خزيمة (3/188) ، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة ، ولم أجد من ترجمه". وفي إسناده أيضاً عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302) : "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد ، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260) : "لا يتابع عليه".
(8) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98) ، ومن طريقه أحمد (3/55) ، وأبو يعلى (1058) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان (3433) ، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب ، وأورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال : "مجهول" ، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).
(9) عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال : "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل" ، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير ، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته" وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
(10) رواه الحارث في مسنده (318- بغية الباحث) ، وابن خزيمة (3/191-1887) ، وابن أبي حاتم في العلل (1/249) ، وابن عدي في الكامل (5/293) ، قال أبو حاتم : هذا حديث منكر.
ــــــــــــ
وظائف رمضان
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
8/9/1422
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- فضل رمضان. 2- حقيقة الصيام. 3- عبادات رمضان. 4- الإحسان في رمضان. 5- الاستعداد لرمضان. 6- حال المحرومين في رمضان. 7- رمضان شهر التوبة والغفران. 8- أسباب المغفرة وعلامة التوبة. 9- نصائح للمرأة المسلمة. 10- اغتنام مواسم الخيرات.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، فالتقوى زاد الأبرار، ومتاع الأخيار.
أيها المسلمون، لقد حلّ بالمسلمين موسمٌ عظيم، مخصوص بالتشريف والتكريم، أنزل الله فيه كتابه، وفرض صيامه، شهر القيام وتلاوة القرآن، زمن العتق والغفران، موسم الصدقات والإحسان، تتوالى فيه الخيرات، وتعمُّ البركات، يقول النبي : ((أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تُفتّح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم)) [رواه النسائي](1)[1].
أشرف الشهور وأزكاها عند الله، جعله تعالى ميداناً لعباده يتسابقون فيه بأنواع الطاعات والقربات، شهر رمضان منحة لتزكية النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد، التي خلخلت العرى، وأنهكت القوى، ومن استقبل رمضان بالآثام وهو عاقّ لوالديه، وقاطع لأرحامه، هاجرٌ لإخوانه، وأقواله فيها غيبة ونميمة، فهيهات أن يستفيد من رمضان، يقول المصطفى : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) [رواه البخاري] (2)[2].
وأهون الصيام ترك الطعام والشراب، وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً(3)[3].
في هذا الشهر يشمّر الجادون في طاعة ربهم، أداءٌ للصلوات جماعة في بيوت الله، قيامٌ بالليل مع الإمام، وقراءة للقرآن قراءةً مرتلة خاشعة بتدبر، صدقةٌ بالمال ولو بالقليل، على أهل الحاجة من الأقارب والجيران، تفطير الصائمين، يقول النبي : ((من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) [رواه الترمذي] (4)[4].
اعتكافٌ في بيت من بيوت الله، أداءٌ لمناسك العمرة: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) [متفق عليه] (5)[5].
إكثار من الذكر والدعاء والاستغفار، يتأكد ذلك عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، وفي الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟
زيادةٌ في بر الوالدين، والقرب منهم، والتودد إليهم، إحسانٌ إلى الزوجة والأولاد والأهل بالتوجيه الرشيد، والكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، صلةُ الأرحام، والصدقة على المحتاج منهم، تفقد الجيران وزيارتهم، والتعرف على أحوالهم، مدُّ يد العون للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، هذا دأب الصالحين في شهر الخيرات.
وإن من أفضل الأعمال بعد إصلاح الإنسان لنفسه أن يقوم بالدعوة إلى الله والاجتهاد في هداية الناس، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم وسلوكهم: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وميادين الدعوة رحبة، نصيحةٌ مخلصةً، وكلمةٌ صادقة، وقدوةٌ حسنة، علماً وعملاً، تقوًى وأخلاقاً، ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً)) [رواه مسلم] (6)[6].
فاعزم بصدق على الارتقاء نحو درجات الاستقامة والهداية، واستقبل رمضان بتطهير المال من الحرام، فالمال الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، فلا يستجاب معه الدعاء، ولا تُفتّح له أبواب السماء.
فبادر - رعاك الله - وانظر في نفسك، وابحث في بيتك، وتطهر من كل مال حرام، حتى تقف بين يدي الله بقلب خاشع، فيُسمع لك الدعاء.
وفي رياح الأسحار، ولحظات أنين المنيبين يهفو بعض المحرومين إلى المحرمات، ليتخذ رمضان موسماً للعصيان، إطلاقٌ للبصر في المحظورات، وإرخاءٌ للأذنين للأغنيات، ومشاهدةٌ للمحموم من الفضائيات، تتبعٌ لعورات المسلمات في الأسواق والطرقات، وفيهم أصحاب الجلسات الفارغة، وأصدقاء الزيارات القاتلة، لهوٌ ولعبٌ، هزلٌ ومرحٌ، لم يعرفوا للزمان قدراً، ولا لرمضان شرفاً، جلبوا لأنفسهم الشقاء، وأذاقوا أرواحهم العناء، أما علموا أنْ لا لذة في غير الطاعة، وأنَّ كل متعة بمحرم تؤدّي إلى حسرة وندامة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].
أيها المسلمون، اليأس والقنوط سلاحٌ لإبليس ليمضيَه في العاصي حتى يستمر على عصيانه، مهما عمل العبد من المعاصي والفجور، فالإسلام لا يأس فيه من رحمة الله، فالتوبة تهدم ما قبلها، والإنابة تجب ما سلفها، فمن كان مبتلى بمعصية، فرمضان موسم التوبة والإنابة، الشياطين مصفّدة، والنفس منكسرة، والله تعالى ينادي: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ويقول في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) [رواه الترمذي] (7)[7].
إن من أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربه، يقول لقمان لابنه: (يا بني، عوّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً) (8)[8].
وعلامة التوبة البكاء على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار.
في هذا الشهر قوافل من التائبين يقصدون عفو الله، فكن أحدهم، فما أجمل أن يكون رمضان بداية للتوبة والإنابة، فكم فيه من التائبين إلى الله، وكم من المستغفرين من ذنوبهم، النادمين على تفريطهم.
أيتها المرأة المسلمة، كوني في هذا الشهر المبارك مركز إشعاع، ومشعل هداية، حارسة للفضيلة، نابذة للرذيلة، معتزةً بدينك، شامخة بشرفك، صائنة عفافك، لا تستمعي إلى سقيم الأفكار، وقبيح الأقوال، الداعية إلى نبذ الستر والحياء، أو تقليد الكافرات والفاجرات، اللاتي نبذن صفات الأنوثة والخجل، واحذري أن تكوني من حبائل الشيطان في هذه الأيام الفاضلة، أو تتّصِفي بالتبرج والسفور، وابتعدي عن قرينات السوء، فسكنُ المرأة في قرارها، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، والله تعالى يغار على حرماته، وبطشه شديد، وإذا رفع ستره عن أمته فضحها، فتزيَّني بزينة الدين، وتجملي بجمال الستر، فالعمر قليل، والحشر أمره عسير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار بطولها أو قصرها، ويعود الناس ـ وأنت منهم ـ إلى ربهم، فكم من إنسان انتظر رمضان بأقوى الأمل، فباغته الأجل، فأكثر في رمضان من عمل الصالحات، فقد أتى إليك رمضان بعد طول غياب، ووفد إليك بعد فراق، فافتح فيه صفحة مشرقة مع مولاك، واسدل الستار على ماضٍ نسيته، وأحصاه الله عليك، وتب إلى التواب الرحيم من كل ذنب وتقصير وخطيئة، وفي اغتنام مواسم الخير بالجد في العمل الصالح والتوبة مما سلف من القبائح ما يعوِّض الله به العاملين عما مضى من نقص العمل، ويصرف به عقوبة ما اقترف المرء من الزلل.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
__________
(1) أخرجه أحمد [7148]، والنسائي في الصيام (4/129) من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب: "لم يسمع منه فيما أعلم"، وصححه الألباني لشواهده، انظر: صحيح الترغيب [999].
(2) أخرجه البخاري في الصوم [1903] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) انظر: المغني لابن قدامة (3/59).
(4) رواه أحمد [16585]، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في فضل من فطر صائماً [807]، وابن ماجه في الصيام، باب: في ثواب من فطر صائماً [1746] من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة [2064]، وابن حبان [3429]، وأورده الألباني في صحيح الترغيب [1078].
(5) أخرجه البخاري في الحج [1782]، ومسلم في الحج [1256] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
(6) أخرجه مسلم في العلم [2674] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه الترمذي في الدعوات [3540] وقال: "حديث حسن غريب"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/400): "إسناده لا بأس به"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [127].
(8) أخرجه البيهقي في الشعب (2/56) من طريق سنيد بن داود عن المعتمر عن أبيه قال: قال لقمان لابنه ... وذكر نحوه، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص394) بصيغة التمريض.
ــــــــــــــ
رمضان: ما أعظمه من فرصة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
15/9/1422
المسجد الحرام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- حاجة الإنسان إلى ملاذات يرجع إليها. 2- مواسم الخير وفرص العمر. 3- من حكم الصوم. 4- الصوم مدرسة. 5- اغتنام ما بقي.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:(1/244)
فيا عباد الله، اتقوا الله وحذار من إضاعة العمر الشريف، والزمان الغالي، والوقت النفيس في كل زبد؛ فإنه يذهب جُفاء، واصرفوها في كل نافع؛ فإنه يمكث في الأرض ويكتب الله لكم به الرضوان.
أيها المسلمون:
بين لهو الحياة ولغوها، وفي غمرة خطوبها وأحداثها، ووسط سعير صراعها وهجير مطامعها، يشعر المرء بأنه في حاجة إلى ملاذات يتوب إليها، ويتفيَّأ ظلالها، ويأخذ الأهبة، ويعدّ العدة لتجديد العزم، وشحذ الهمة، وتقوية الإرادة، حتى يمضي على الطريق موفورَ الحظ من التوفيق، سالمَ الخطى من العِتْار، بالغًا المرام، وإذا كانت القوة للمسلم زادًا لا غناء له عنه، ورصيدًا لا مناص له منه؛ لأنه عونٌ على الحق، وسبيل إلى التمكين، وطريق إلى الظفر، وباب إلى رضوان الله ومحبته، كما أخبر رسول الله في الحديث بقوله: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) [أخرجه مسلم في صحيحه](1)[1]، فإن مما لا يرتاب فيه أولو النهى أن كلَّ ما تتحقق به هذه الغاية يتعين الأخذ به، والدأب في طلبه، ولقد كان من وافر نِعَم الله السابغة أن هيأ لعباده من فرص العمر ومواسم الخير ما يبلغ بهم إلى هذا المراد، وإن فرصة الصيام وموسم رمضان هما في الطليعة من هذه الفرص والمواسم التي يجب على أولي الألباب اغتنامها، والسعي الحثيث إلى اهتبالها، فإن في الصيام مجالاً رحيبًا ومضمارًا واسعًا لإعداد لبنات القوة في مختلف ميادينها ودروبها، فالإمساك بالنهار عن الأكل والشرب والشهوة، وما يصحبه من صبر على رهق الحرمان ومرارة الفقد، وإحياء الليل بالقيام في صبر على نصبه واستدامة على ذلك تنتظم أيام هذا الشهر ولياليَه إلى منتهاها، كل أولئك من أظهر عوامل الدربة على تقوية الإرادة في تغيير هو مطمح أولي الأبصار، ومبتغى الذين أخبتوا إلى ربهم، وابتغوا إليه الوسيلة بكل سبيل، إنه تغيير في المسار، وتصويب في المسلك، فمن ذُلِّ الخطيئة إلى عِز الطاعة، ومن مهابط العجز والكسل إلى ذُرا الجدّ والعزم، ومن أدران العوائد المقبوحة والسنن المنكورة إلى طُهر وطيب العوائد القويمة والسنن الجميلة والخصال الجليلة. وهكذا فإن في الصيام ـ يا عباد الله ـ بعْثاً للقوة التي وهنت أو خمدت، والإرادة التي استنامت أو ذوت(2)[2]، والعزيمة التي خارت أو استكانت، لتكون خير عدة يعتدّ بها لبلوغ الدرجات العلا، والظفر بسعادة العاجلة والعقبى في الحياة الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، إنها أيام هذا الشهر تمضي سراعًا، حتى شارفت على انقضاء، وآذنت برحيل، ألا فليستدرك المفرطون ما فات، وليعملوا فيما هو آت، فإن الشقي من حُرم في هذا الشهر رحمةَ الله عز وجل، فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد..
__________
(1) صحيح مسلم كتاب القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أي: ذبُلت.
ــــــــــــــ
توديع رمضان وحال الأمّة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
6/10/1422
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- تسارع انقضاء الزمان. 2- حاجة الأمة إلى وقفات للمحاسبة. 3- دروس رمضان. 4- من مقاصد الصوم. 5- الثبات على الخير. 6- حال الأمة المؤلم. 7- نصرة الدين وقضايا الأمة. 8- ضرورة إدراك مخاطر الأعداء. 9- الحملات الإعلامية الماكرة. 10- من السعيد؟ 11- صيام ست من شوال.
-------------------------
الخطبة الأولى
إخوة الإسلام، ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تنصرم الشهور والأعوام، وهكذا حال الدنيا، سريعةُ الزوال، قريبةُ الاضمحلال، لا يدوم لها حال، ولا يطمئنّ لها بال، وهذه سُنة الله في خلقه، أدوارٌ وأطوارٌ تجري بأجل مسمى ولِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38].
وإن أهل التفكر والتعقل، وأصحاب التبصر والتأمُّل ليدركون تلك الحقائق حقَّ الإدراك، فيأخذون من تعاقب الأزمان أعظم معتبر، ويستلهمون من انصرام الأيام أكبرَ مزدجر، يقول الله جل وعلا: إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِى الألْبَابِ [آل عمران:190].
أمة الإسلام، عن قريب ودّعنا رمضان، وكأنّه طيف خيال، ما أعجلَ ما انقضى، وما أسرعَ ما انتهى، ولله الحمد على ما قضى وأبرم، وله الشكر على ما أعطى وأنعم، انطوت صحيفته، وقد ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:9، 10].
ذهب منتقلاً، وولى مرتحلاً، ذهب بأعمالكم شاهدًا بما أُودع فيه، فيا تُرى هل رحل حامدًا الصنيع أو ذامًا التضييع؟ فمن أحسن فعليه بالتمام، ومن كان فرَّط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.
إخوة الإسلام، ما أحوج الأمة إلى وقفات للمحاسبة الدائمة والمراقبة المستمرة، ما أحوجها إلى فُرص للتأمل ووقفات للنظر في الأحوال، والتفكر في الشؤون والأوضاع، وقفاتٍ تستلهم منها الأمة العبر والعظات، فتبصرها بواقعها، وخطوات مستقبلها، ومعالم حاضرها وغدها، وإن في مثل مناسبةٍ كرمضان لأعظم الفُرص التي يجب على الأمة أفرادًا ومجتمعات حكامًا ومحكومين أن تتخذ منها جسرًا لتقييم الجهود، وإصلاح الأوضاع قبل فوات الأوان وانقلاب الأزمان.
إن في رمضان عطاءات وافرة ودروسًا عظيمة يجب أن تتحقق منها الأمة العزم على المجاهدة الحقة للشيطان، وأن تقودها للمسيرة الصحيحة على الصراط المستقيم، وأن تنأى بها عن كل بغي وفساد بشتى صوره واختلاف أشكاله.
عباد الله، إن تشريعات الإسلام تتضمن أسرارًا لا تتناهى، ومقاصد عالية لا تُجارى، وإن من فقه مقاصد الصوم كونه وسيلة عظمى لبناء صفة التقوى في وجدان المسلم، التقوى بأوسع معانيها وأدق صورها، فكن ـ أيها المسلم ـ آخذًا من صومك مدرسة تستلهم منها شدة العزم، وقوة الإرادة على كل خير، تعظيمًا للسلوك، وتقويمًا للنفوس، وتعديلاً للغرائز، وتهذيبًا للظواهر والبواطن، وصفاءً ونقاءً للأعمال والضمائر، إرادة مستقيمة على الدوام، في قوة على الفضائل لا تعرف لينًا، وفي صلابة على المحاسن لا يدخلها استرخاء، فهل من سعي في إصلاح ما فسد، ومعالجةٍ لما اختل، وتقوية لما ضعف من جوانب الصلاح والخير والهدى؟! يقول الله جل وعلا: وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:78].
أخي المسلم، مطالب القرآن تترى في الدعوة إلى الاستقامة على الخير، والثبات على الهدى، يقول ربنا جلا وعلا: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ [هود:112]، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. وصايا ربانية تتوجه للأفراد والمجتمعات تنتظم الإقامة على أمور الإسلام، والدوام على منهج الدين، والاستمرار في التقيد بقيوده، والوقوف عند حدوده، والاستجابة لأوامره، والانتهاء عن زواجره، على الوجه الأكمل، والطريق الأقوم.
استمع إلى مشكاة النبوة وهي تلخص لك وصية عظيمة ذات عبارات جميلة المبنى، جليلة المعنى، قليلة العبارة، كثيرة الإشارة، إنها وصية رسولنا محمد ، وصية للأمة جمعاء، وصية تقضي بالأخذ بمجامع الإيمان التام، ولزوم الاعتقاد الصحيح، والتمسك بالصبر على الطاعات، واجتناب المحظورات، واتباع محاسن الفضائل ومكارم المعاملات، يقول للرجل حينها قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال عليه الصلاة والسلام: ((قل: أمنت بالله، ثم استقم))(1)[1].
إنها وصية تضمن بإذن الله جل وعلا للأمة على شتى أنواعها ومختلف مسؤولياتها، تضمن لهم حياة طيبة، وعيشة راضية، تحقق للمؤمنين سعادة أبدية، وعاقبة آمنة، إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14].
أمة الإسلام، تمر هذه المناسبات العظيمة والأمة يحيط بها عوائق شتى، وأدواء عظمى، تقاسي بلايا ورزايا، وضراءَ ولأواء، وتعاني من تفرق وضعف، وتشتت وهوان، أمورٌ مؤلمة، وأحوال مبكية في الأمة، فهل آن الأوان لمراجعة الواقع المؤلم، والمسار الخاطئ؟! هل حان الوقت لإدراك الأسباب الحقيقية للضعف، ومعرفة العوامل الرئيسة للأدواء والشكوى؟! يقول الله جل وعلا: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ [الحديد:16].
وما أجدر الأمة اليوم وقد ودعت رمضان العزيز أن تودع أوضاعها المأساوية، وجراحاتها المتعددة في مواضع كثيرة من جسدها المثخن بالجراحات والآلام، ولن تجد لذلك سبيلاً ناجحًا وعلاجًا ناجعًا إلا بمنطلقٍ من منطلقات دينها، وتمسكٍ بمنهاج متكامل من كتاب ربها وسنة نبيها محمد ، وإن من هذا المنهج العمل الجاد والصدق مع الله جل وعلا في نصرة دينه في كل مكان، والقيام بالواجب المحتَّم في رد الظلم والضرر عن عباده المضطهدين، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
إخوة الإسلام، إن الواجب على أبناء الأمة الوعي الكامل والإدراك الشامل بمخاطر الأعداء ومخططاتهم في استهداف عقائد المسلمين، وزعزعة استقرارهم، وتهديد مقدراتهم، فكم من أمور غامضة تجري، وتخطيط ضخم يُرتب في الخفاء، الله أعلم بما يحوي وعليه يأوي، فالصهيونية العالمية اليوم تقود العالم إلى الكوارث والمحن، تريد بأمة محمد القلاقل والفتن، والأضرار والإحن، فالحذر الحذر أيتها الأمة، والحرصَ الحرصَ على هذا الدين.
إخوة الإسلام، من مشمولِ مخططات الأعداء حملات إعلامية مسعورة تُشَنّ على البلد الذي انطلقت منه الرسالة المحمدية، بلاد الحرمين التي قدمت الكثير للإنسانية، وضحت بالكثير في سبيل الأمن والأمان والاستقرار ونشر سبل الخير والسلام، فالواجب على المسلمين أن يدركوا أن الهدف والغاية النهائية من كل تلك المحاولات هو ضرب الأمة في عمقها، والتأثير عليها في أكبر ركيزة من ركائز وجودها، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
فعلى الأمة المحمدية أن تدرك مقاصد دينها، وأغراض وأهداف كلام خالقها، وأن تستبصر مبادئ وتعاليم إسلامها، وإلا فستكون ـ لا قدر الله ـ ضحية تخاذلها، وبعدها عن مشاعل هداية ربها، والله جل وعلا يقول: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:205].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، السعيد من عمر وقته باستصلاح آخرته، ولم تَذهله مطالب الحياة عن حقوق خالقه، ولم تشغله رغائب الدنيا العاجلة عن حقائق الآخرة الباقية.
فيا من ذاق حلاوة الطاعة، احذر من مقارفة مرارة المعصية، كن برًا تقيًا في غير رمضان كما كنت في رمضان.
ثم اعلم ـ أيها المسلم ـ أن من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر، كما صح ذلك عن رسول الله (2)[1]، فيستحب صيام ستٍ من شوال، ومن كان عليه قضاءٌ من رمضان فالمبادرة بالقضاء أوجب، فالواجب أحق وأولى.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد ...
__________
(1) أخرجه مسلم في : الإيمان ، باب : جامع أوصاف الإيمان (38) من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه.
(2) هو في صحيح مسلم كتاب : الصيام ، باب : استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
ــــــــــــــ
ماذا بعد رمضان؟!
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
29/9/1422
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- نعمة بلوغ شهر رمضان وصيامه. 2- شكر الله تعالى. 3- سرعة انقضاء الأيام. 4- الاستغفار ختام الأعمال الصالحة. 5- لا توديع للطاعة والعبادة. 6- آثار الطاعة. 7- استحباب صيام ست من شوال. 8- ما استفدناه وتعلمناه في مدرسة رمضان. 9- فرحتا الصائم. 10- صفة الجنة. 11- حال الأمة المؤلم. 12- ما يستحب فعله أو قوله ليلة العيد. 13- زكاة الفطر. 14- استحباب التهنئة بالعيد. 15- حقيقة العيد.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، سعادةٌ غامرة تملأ جوانحنا إذ بُلِّغنا هذا الشهر العظيم، فالقلوب يتجاذبها خوفٌ ورجاءٌ، والألسن تلهج بالدعاء أن يتقبّل الله الصيام والقيام لنا ولكم ولجميع المسلمين، أن يتقبل الله منا ما مضى، ويبارك لنا فيما بقي، فطوبى لمن اغتُفِرت زلتهُ، وتُقُبّلت توبتُه، وأقيلت عثرته. في نهاية الشهر العظيم نشكره سبحانه شكر من أنعم على عباده، بتوفيقهم للصيام والقيام، وإعانتهم عليه، ومعونته لهم، وعتقهم من النار، قال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
هكذا مضت الليالي مسرعة، بالأمس كنا نستقبل رمضان، واليوم نودِّعه، ولا ندري هل نستقبله عاماً آخر أم أن الموت أسبق إلينا منه، نسأل الله أن يعيده عليها وعليكم أعواماً عديدة وأزمنة مديدة.
الاستغفار - عباد الله - ختام الأعمال الصالحة، تختم به الصلاة والحج وقيام الليل والمجالس، وكذلك ينبغي أن يُختم به الصيام، لنقوّم به غمرات الغفلة والنسيان، ونمحو به شوائب التقصير والانحراف، فالاستغفار يدفع عن النفس الشعور بالكبر والزهو بالنفس والعجب بالأعمال، ويورثها الشعور بالتقصير، وهذا الإحساس يدفع لمزيد عملٍ بعد رمضان، فتزداد الحسنات ويثقل الميزان، يبين ابن القيم رحمه الله حاجةَ الطائعين إلى الاستغفار فيقول: "الرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفاراً عقب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده"(1)[1] انتهى كلامه.
إذا كنا نودّع رمضان فإن المؤمن لن يودّع الطاعة والعبادة، بل سيوثِّق العهد مع ربه، ويقوي الصلة مع خالقه ليبقى نبع الخير متدفقاً، أما أولئك الذين ينقضون عهد الله، ويهجرون المساجد مع مدفع العيد، فبئس القوم: لا يعرفون الله إلا في رمضان، قد ارتدوا على أدبارهم، ونكصوا على أعقابهم، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163].
لا قيمة لطاعة تؤَدَّى دون أن يكون لها أثر من تقوى أو خشية، أين أثر رمضان بعد انقضائه إذا هُجر القرآن، وتُركت الصلاة مع الجماعة، وانتُهكت المحرمات؟! أين أثر الطاعة إذا أُكل الربا، وأُخذ أموال الناس بالباطل؟! أين أثر الصيام إذا أُعرض عن سنة رسول الله إلى العادات والتقاليد، وحُكّمت القوانين الوضعية؟! أين أثر الصيام والقيام إذا تحايل المسلم في بيعه وشرائه، وكذب في ليله ونهاره؟! أين أثر رمضان إذا لم يقدّم دعوة إلى ضال، ولقمة إلى جائع، وكسوة إلى عارٍ، مع دعاء صادق بقلب خاشع أن ينصر الله الإسلام والمسلمين، ويدمّر أعداء الدين؟!
حريّ بنا - أيها الصائمون - أن نتأمل كلام ابن القيم رحمه الله إذ يقول: "فبين العمل والقلب مسافة، في تلك المسافة قطاعٌ تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثير العمل، وما وصل منه إلى قلبه محبّة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل"(2)[2] انتهى كلامه رحمه الله.
يا أهل الطاعة، اللهُ لا يريد من سائر عباداتنا الحركات والجهد والمشقة، بل طلب سبحانه ما وراء ذلك من التقوى والخشية له، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وقال تعالى: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [الحج:37].
من الأعمال الصالحة بعد رمضان صيام ست من شوال، قال : ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه](3)[3].
لقد غرس رمضان في نفوسنا خيراً عظيماً، صقل القلوب، أيقظ الضمائر، طهّر النفوس، ومن استفاد من رمضان فإن حاله بعد رمضان خير له من حاله قبله، ومن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامات بطلان العمل وردّه العودة إلى المعاصي بعد الطاعات، فاجعل - أخي الصائم - من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير سائر العام، ومنهج حياة في كل الأحوال، احرص على بر الوالدين، وصلة الجيران، وزيارة الإخوان، انصر المظلومين، وتلذذ بمسح رأس اليتيم، أصلح ذات البين، وأطعم المحرومين، واجبر نفوس المنكسرين، ساهم في زرع السعادة على شفاه المصابين والمبتلين، صل رحمك، احفظ عرض إخوانك، كن نبعاً متدفقاً بالخير كما كنت في رمضان.
لقد تعلمنا في مدرسة رمضان أنجع الدروس وأبلغ المواعظ، تعلّمنا كيف نقاوم نزغات الشيطان، تعلمنا كيف نقاوم هوى النفس الأمارة بالسوء، تعلمنا كيف ننبذ الخلاف وأسباب الفرقة. لقد تراصَّت الصفوف في رمضان كالسجد الواحد، فينبغي أن لا تتناثر بعد رمضان، لقد سكبت العيون الدموع في رمضان، فاحذر أن يصيبها القحط والجفاف بعد رمضان، لقد اهتزت جنبات المساجد، ولهجت الألسن بالتهليل والتحميد والدعاء، فليدم هذا الجلال والجمال بعد رمضان، لقد علا محياك في رمضان سمت الصالحين، ذلٌّ وخضوع، إخباتٌ وسكينة، وقارٌ وخشية، فلا تمحه بعد رمضان بأخلاق الزهو والكبر والبطر والسفه، لقد امتدت يداك في رمضان بالعطاء، وأنفقت بسخاء، فلا تقبضها بعد رمضان.
عباد الله، للصائم فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فرحة في الدنيا العاجلة، وفرحة في الآخرة الباقية، لمن داوم على العبادة والطاعة، حيث ينال المتعة الكبرى والنعمة العظمى، ألا وهي الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكأني بأقوام من بيننا سينادون: كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، وينادون: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63]، جعلني الله وإياكم من أهلها.
هؤلاء رُفع لهم عَلَم الجنة فشمَّروا إليه، ووُضِّح لهم طريقها فاستقاموا عليه، علموا أن الربح كل الربح إذا حشروا إلى الرحمن وفدا، فوقفوا اللحظات والسكنات ووجيف القلوب والأنفاس على الجنة أن يدخلوها، فنالوها جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً [مريم:61].
إنها جنات إقامة دائمة، لا كجنات الدنيا، وقد وعد الله بها المتقين، ووعد الله لا يخلف، فهم آتوها لا محالة. هي الجنة التي إذا غمس فيها العبد غمسة واحدة زال بؤسه، ونسي همّه وغمّه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ، وفيه: ((ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيُصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟! هل مر بك شدة قط؟! فيقول: لا والله، يا رب ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) (4)[4].(1/245)
جعلها الله مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وأودعها الخير بحذافيره، وطهّرها من كل عيب وآفة ونقص، إن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجواهر والمرجان، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أنهارها فأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّةٍ للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وإن سألت عن شرابهم فالزنجبيل والكافور، وإن سألت عن آنيتهم فهي آنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن فُرُشهم فبطائنها من إستبرق في أعلى الرتب، وإن سألت عن أهلها وحسنهم فعلى صورة القمر ليلة البدر، وإن سألت عن أسنانهم فأبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام أبي البشر. اللهم اجعلنا من أهلها يا أرحم الراحمين.
أيها الصائمون، هاهي الأمة تودّع رمضان، لكنها لم تودِّع مآسيها الدامية وآلامها المبرحة، وهي تمر اليوم بمحن عظيمة، وجراح عميقة، ترى جراحها في القدس وفي مواقع أخرى ملتهبة، حربٌ شرسة لتنحية الإسلام، وتجفيف منابعه من أعداء الإسلام، متجاوزين كل الحدود والأعراف. لقد امتُحنت الأمة بصنوف المكر وأثقال المصائب، وكان بعض ذلك كافياً للقضاء على غيرها من الأمم إلا أن قوة العقيدة والإيمان ينابيع عذبة تتجدد رغم المصاعب، وأن الغد المأمول لهذه الرسالة، والواجب على المسلمين نصرة قضايا أمتهم، والتحلي بالصبر وضبط النفس، والإخلاص في الدعاء، والاستعانة بالله أمام العواصف العاتية حتى تنقشع الغمة وينكشف الكرب، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أودع شهر رمضان مزيد فضل وأجر، أحمده سبحانه وأشكره على التوفيق للصيام والقيام وليلة القدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه كلما أضاء قمر وانشق فجر.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
تحتفل الأمة قريباً بنعمة إتمام شهر رمضان، فتفرح بالعيد.
وهناك أمور يُستحب فعلها أو قولها في ليلة العيد ويومه، يشرع التكبير من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) (5)[1].
يُسنّ جهر الرجال في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً بتعظيم الله، وإظهاراً لعبادته وشكره.
أخي المسلم، شرع لك مولاك عز وجل زكاة الفطر وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، وتكون صاعاً من شعير أو تمر أو زبيب أو أرز أو نحوه من الطعام، عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين، وأفضل وقتٍ لإخراجها قبل صلاة العيد، ويجوز قبل يوم العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد بغير عذر.
ويستحب الاغتسال والتطيب للرجال قبل الخروج للصلاة، صح عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: (سنة العيد ثلاث: المشي والاغتسال والأكل قبل الخروج). وكذا التجمل بأحسن الملابس، وكان للنبي جبة يلبسها في العيد وفي يوم الجمعة(6)[2]، وصح أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يلبس للعيد أجمل ثيابه.
أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن، لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب، وكذا يحرم على من أرادت الخروج أن تمسّ الطيب أو تتعرض للرجال بالفتنة، فإنها ما خرجت إلا لعبادة وطاعة، فكيف تعصي الله بالتبرج والسفور والتطيب أمام الرجال؟!
وأكل تمرات وترا قبل الذهاب إلى المصلى، لما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، وفي لفظ: وترا(7)[3].
النساء يشهدن العيد مع المسلمين حتى الحُيّض، ولكن الحيّض يعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.
ويستحب التهنئة بالعيد لثبوت ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم(8)[4] كقوله: تقبّل الله منا ومنكم، وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة.
إن العيد لمن صام وقام لله، إن العيد لقلوب شعَّ فيها نور الإيمان، وتطهرت من المعاصي والآثام.
عيد المسلمين - إخوة الإسلام - مناسبة لنبذ الشحناء والبغضاء، والانتصار على المشاعر والأحاسيس التي ينزغ بها الشيطان، فهل جعلنا العيد منعطفاً حقيقياً في علاقتنا مع أقاربنا وجيراننا وإخواننا؟! هلا تجاوزنا المظاهر والطقوس ليكون عيداً وفرحة بقلوب صادقة ونفوس طاهرة؟! قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
ألا وصلوا - عباد الله - على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...
__________
(1) مدارج السالكين (1/175).
(2) مدارج السالكين (1/349).
(3) صحيح مسلم كتاب : الصيام ، باب : استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164).
(4) صحيح مسلم كتاب : صفة القيامة ، باب : صبغ أنعم أهل الدنيا في النار (2807).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/488-5633) ، والطبراني في الكبير (9/307-9538).
(6) أخرج البخاري في : الجمعة ، باب : يلبس أحسن ما يجد (886) ، ومسلم في : اللباس والزينة ، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال (2068) أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال : يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك ... الحديث.
(7) أخرجه البخاري في : الجمعة ، باب : الأكل يوم الفطر قبل الخروج (953).
(8) انظر: فتح الباري لابن حجر (2/446).
ـــــــــــــــ
وداع رمضان
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
29/9/1422
المسجد الحرام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- انقضاء الليالي والأيام. 2- حرقة وداع شهر القرآن. 3- السعيد برمضان. 4- اهتمام السلف بالقبول. 5- طاعات وعبادات رمضان. 6- فرصة رمضان. 7- الدوام على الطاعة. 8- آثار الصيام في النفوس. 9- حال الأمة المؤلم. 10- الحملات الإعلامية ضد الإسلام والمسلمين. 11- لا خلاص إلا بالعقيدة الصحيحة. 12- أعمال ختام الشهر. 13- زكاة الفطر.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله؛ فإنها عروة ليس لها انفصام، وجذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يبلغ إلى دار السلام، من تحلى بها بلغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمون العواقب، وعُفي من شرور النوائب.
أيها المسلمون، المستقرئ لتأريخ الأمم، والمتأمل في سجل الحضارات يدرك أن كلا منها يعيش تقلبات وتغيرات، ويواكب بدايات ونهايات، وهكذا الليالي والأيام، والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتدبل، ويُقَلّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبْصَارِ [النور:44].
إخوة الإسلام، أرأيتم لو أن ضيفًا عزيزًا ووافدًا حبيبًا حلَّ في ربوعكم، ونزل بين ظهرانيكم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه، وأحبكم وأحببتموه، وألفكم وألفتموه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودعوه؟! وبأي شعور أنتم مفارقوه؟! كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي المُقل والعيون، وتنكأ الالتياع، ولا سيما وداع المحب المُضنَّى لحبيبه المُعنَّى، وهل هناك فراق أشد وقعًا ووداعًا، وأكثر أسى والتياعاً من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب، شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك، فالله المستعان.
عباد الله، لقد شمر الشهر عن ساق، وأذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامه، وتصرمت أيامه، وأزف رحيله، ولم يبق إلا قليله. وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأله الله قبوله.
مضى هذا الشهر الكريم، وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهد للمشمرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات.
ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك من وُفق لإتمام العمل وإخلاصه، ومحاسبة النفس والاستغفار والتوبة النصوح في ختامه، فإن الأعمال بالخواتيم.
إخوة الإيمان، لقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]؟!)(1)[1]، ويقول مالك بن دينار رحمه الله: "الخوف على العمل ألا يُتقبل أشد من العمل"(2)[2]، وقال فضالة بن عبيد رحمه الله: "لو أني أعلم أن الله تقبل مني حسنة واحدة لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها"(3)[3].
الله أكبر، هذه حال المشمرين، فرحماك ربنا رحماك، وعفوَك ـ يا الله ـ لحال المقصرين، ألا فسلام الله على شهر الصيام والقيام، سلام الله على شهر التراويح والتلاوة والذكر والتسبيح، لقد مر كلمحة برق أو غمضة عين، كان مضمارًا للمتنافسين، وميدانًا للمتسابقين، ألا وإنه راحل لا محالة فشيِّعوه، وتمتعوا فيما بقي من لحظاته ولا تضيِّعوه، فما من شهر رمضان في الشهر عوض، ولا كمفترضه في غيره مفترض، شهر عمارات القلوب، وكفارات الذنوب، وأماني كل خائف مرهوب، شهر العبرات السواكب، والزفرات الغوالب، والخطرات الثواقب، كم رُفِعت فيه من أكفٍّ ضارعة، وذرفت فيه من دموع ساخنة، ووجلت فيه من قلوب خاشعة، وتحركت فيه من مشاعر فياضة، وأحاسيس مرهفة، وعواطف جياشة. هذا، وكم وكم يفيض الله من جوده وكرمه على عباده، ويمنّ عليهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في آخره.
عباد الله، متى يُغفر لمن لم يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟! أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: (يا ليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه).
أيها المقبولون هنيئًا لكم، وأيها المردودون جبر الله مصيبتكم، ماذا فات من فاته خير رمضان؟! وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟! كم بين من حظه فيه القبول والغفران ومن حظه فيه الخيبة والخسران؟! متى يصلح من لم يصلح في رمضان؟! ومتى يصحُّ من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟!
ترحَّل الشهر والهفاه وانصرما ... واختصَّ بالفوز بالجنان من خدما
فيا أرباب الذنوب العظيمة، الغنيمةَ الغنيمةَ في هذه الأيام الكريمة، فمن أعتق فيها من النار فقد فاز ـ والله ـ بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، أين حَرَق المهتمين في نهاره؟! أين قلق المجتهدين في أسحاره؟! فيا من أعتقه مولاه من النار، إياك ثم إياك أن تعود بعد أن صرت حرًا إلى رق الأوزار، أيُبعدُك مولاك من النار وأنت تقترب منها؟! وينقذك وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها؟! وهل ينفع المفرطَ بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟!
فبادروا ـ يا رعاكم الله ـ فلعل بعضكم لا يدركه بعد هذا العام، ولا يؤخره المنون إلى التمام، فيا ربح من فاز فيه بالسعادة والفلاح، ويا حسرة من فاتته هذه المغانم والأرباح، لقد دنا رحيل هذا الشهر وحان، وربَّ مؤمِّلٍ لقاء مثله خانه الإمكان، فاغتنم - أيها المفرط - في طاعة المنان الفرصة قبل فوات الأوان، وتيقظ أيها الغافل من سنة المنام، وانظر ما بين يديك من فواجع الأيام، واحذر أن يشهد عليك الشهر بقبائح الآثام، واجتهد في حسن الخاتمة فالعبرة بحسن الختام.
أمة الإسلام، ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟! لننظر في حالنا، ولنتأمل في واقع أنفسنا وأمتنا، ونقارن بين وضعنا في أول الشهر وآخره، هل عُمرت قلوبنا بالتقوى؟ هل صلحت منا الأعمال وتحسنت الأخلاق واستقام السلوك؟ هل اجتمعت الكلمة وتوحدت الصفوف ضدَّ أعداء الأمة؟ هل زالت الضغائن والأحقاد وسُلَّت السخائم من النفوس؟ هل تلاشت المنكرات والمحرمات عن المجتمعات؟
أيها المسلمون، يا من استجبتم لربكم في الصيام والقيام، استجيبوا له في سائر الأعمال وفي كل الأيام.
أما آن أن تخشع لذكر الله القلوب؟! وتجتمع على الكتاب والسنة الدروب لتدرأ عن الأمة غوائل الكروب وقوارع الخطوب؟!.
إخوة الإسلام، أمة الصيام والقيام، ما أجدر الأمة الإسلامية وهي تودع هذه الأيام موسمًا من أعز وأحلى وأفضل وأغلى أيام وليالي العمر ما أحراها وهي تودع شهرها أن تودع الأوضاع المأساوية، والجراحات الدموية، التي أصابت مواضع عديدة من جسدها المثخن بالجراح، ما أحراها أن تتخذ الخطوات الجادة والعملية لوقف نزيف الدم المسلم المتدفق على ثرى الأرض المباركة فلسطين المجاهدة، وفي بلاد الشيشان وكشمير المسلمة، فهل يعجز المسلمون وهم أكثر من مليار مسلم أن يتخذوا حلا عادلاً يحقن دماء المسلمين، ويعيد لهم أمنهم ومجدهم وهيبتهم بين العالمين؟! هل تودع الأمة الإسلامية - وهي تودع شهرها - التخاذلَ الكبير تجاه قضيتها الأولى، قضية أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين، المسجد الأقصى المبارك - أقر الله الأعين بفك أسره وقرب تحريره - الذي يرزح تحت وطأة العدوان الصهيوني الغاشم، ويستنجد ولا مجيب، ويستغيث ولا ذو نخوه يتحرك، فإلى الله المشتكى، ومنه وحده الفرج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعلى صعيد القضية الأفغانية، هل تودِّع الفصائل الأفغانية خلافاتها، وتتحد على من يحكمها بكتاب الله وسنة رسوله حقناً لدماء المسلمين، وحفظًا على أمن بلادهم، وسلامة الشعب الأفغاني المسلم من التشرد والتهجير؟! هل تودع الأمة الإسلامية في وداع شهرها مآسي الأقليات الإسلامية في بقاع شتى من العالم؟! نرجو أن يكون ذلك قريبًا بإذن الله، وهذا - والله - ليس بعزيز، فالآمال معقودة بعد الله على قادة المسلمين وعلمائهم، وأهل الحل والعقد فيهم لبذل المزيد من الجهود لإعزاز دين الله، ونصرة قضايا المسلمين في كل مكان، لا سيما بعدما شهد المتابعون أحداثًا عالمية، ومجريات دولية، كان لها أثر بالغ على أوضاع المسلمين في العالم، فهل تودِّع الأمة تلك الحملات الإعلامية المغرضة ضد الإسلام وأهله وبلاده ومقدساته، لا سيما بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله؟! وهل تستثمر الطاقات العلمية والدعوية والتقانات المعاصرة الإعلامية لنشر محاسن الإسلام، ورعايته لحقوق الإنسان، وإرسائه معاني الحق والعدل والسلام، ومجانبته مسالك العنف والإرهاب، في ظل تداعيات العولمة العارمة، التي توشك أن تأتي على بنيان ثوابت أمتنا من القواعد، وفي ظل ما يسمى بصراع الحضارات، والتلاعب بالمصطلاحات؟! هل يوضع حد للإرهاب على مستوى الدولة الذي تمارسه الصهيونية العالمية على مرأى ومسمع من العالم؟!
يا زعماء العالم، يا صناع القرار، يا أهل الرأي العام الإسلامي والعالمي والدولي، أيها العقلاء والمنصفون، لقد أكدت الأحداث أن من لم يتعظ بالوقائع فهو غافل، ومن لم تقرعه الحوادث فهو خامل.
يا أهل الإسلام، يا أمة محمد ، نحن أمة عُرفت عبر تأريخها المشرق بعز ومجدٍ يطاول الثريا رفعة وسناءً فحرام أن نضعف ونستكين ونتحسى كأس المذلة مُترعاً، لا بد أن تأخذ الأمة الإسلامية مكانتها بين الأمم، لتحقيق ما تنشده البشرية المضطهدة والإنسانية الحيرى من حق وعدل وسلام، وانتشالها مما غرقت فيه من أوحال الضلال والشقاء، ومستنقعات الاضطراب والفوضى، وإذا كان أعداؤهم سادوا العالم وهم على مادية وضلال وباطل، فما أحراكم بالقيادة والسيادة والريادة وأنتم على منهج الشهد الزلال، منهج الإيمان والحق والتقوى، لا بد من صياغة الجيل المعاصر على منهج الوسطية والاعتدال، ووضع دراسات استراتيجية واتخاذ آليات عملية للنهوض بمستوى الدعوة الإسلامية، ووقاية الأمة من شرور التشرذم والخلافات الجانبية التي عانت الأمة منها طويلاً، والمشكلات المفتعلة التي تمثل طعنة نجلاء في خاصرة هذه الأمة.
إن حقًا على أهل الإسلام جميعًا أن يعلموا أنه لا صلاح لأحوالهم التي يطلبون لها الحلول العاجلة إلا بالتمسك بالعقيدة الإسلامية الصحيحة في عالم يموج بالإلحاد والوثنيات والانحراف والمغيرات، ووالله وبالله وتالله إن فساد العقائد والأخلاق والتخلي عن الثوابت العقدية والمناهج الشرعية لهو سبب هزائم الأمم، وانتكاسات الشعوب، وتدهور الحضارات، وتلك مسؤولية الأمة بأسرها، فهل يعي المسلمون مكانة عقيدتهم، ويتَّحدوا على ما كان عليه سلفهم الصالح رحمهم الله ليتحقق الخير للبلاد والعباد؟!
هذا هو الأمل، وعلينا الصدق والعمل، فنسأل الله عز وجل أن يتقبل منا جميعًا صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يمن علينا بالقبول والمغفرة والعتق من النار بمنّه وكرمه، وأن يجبر كسرنا على فراق شهرنا، ويعيده علينا أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، وعلى الأمة الإسلامية وهي ترفل في حلل العز والنصر والتمكين، وقد عاد لها مجدها وهيبتها بين العالمين، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل الآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفورًا.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله ترفع الدرجات وتكفر السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قاضي الحاجات، والعالم بالخفايا والمكنونات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستودعوا شهركم عملاً صالحًا يشهد لكم عند الملك العلام، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وأوفر سلام، قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحِنّ، ومن ألم فراقه تأسي وتئِنّ، كيف لا يجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟! إن قلوب المحبين لألم فراقه تشقَّق، ودموعهم للوعة رحليه تدفَّق، فالله المستعان وهو وحده الموفِّق.
أيها الإخوة الصائمون، لقد شرع لكم مولاكم في ختام شهركم أعمالاً عظيمة، تسدُّ الخلل، وتجبر التقصير، وتزيد المثوبة والأجر، فندبكم في ختام شهركم إلى الاستغفار والشكر والتوبة وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
كما شرع لكم زكاة الفطر شكرًا لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وتحريكًا لمشاعر الأخوة والألفة بين المسلمين، وهي صاع من طعام من برّ أو نحوه من قوت البلد كالأرز وغيره، فيجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى، كما في حديث أبي سعيد(4)[1] وابن عمر(5)[2] رضي الله عنهم.
ويستحب إخراجها عن الحمل في بطن أمه، والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج إن شاء الله.
والسنة أن يخرجها طعامًا كما هو نص حديث المصطفى وعمل السلف الصالح رحمهم الله.
وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يكتب في نهاية شهر رمضان إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر.
فأدوا ـ رحمكم الله ـ زكاة الفطر طيبة بها نفوسكم، فقد أعطاكم مولاكم الكثير وطلب منكم القليل.
أيها الإخوة في الله، اللهَ اللهَ في الثبات والاستمرار على الأعمال الصالحة في بقية أعماركم، واصلوا المسيرة في عمل الخير، وحثّوا الخطى في العمل الصالح، لتفوزوا برضا المولى جل وعلا، فلديكم من الأعمال الصالحة ما يُعدّ من المواسم المستمرة، هذه الصلوات الخمس المفروضة، وهذه نوافل العبادات من صلاة وصيام وصدقة، وهكذا سائر الأعمال الصالحة، واعلموا أنه لئن انقضى شهر رمضان المبارك فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، ورب الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب مشاهد، وبئس القوم: لا يعرفون الله إلا في رمضان.
ألا وإن من التحدث بآلاء الله ما نعم به الصائمون والمعتمرون من أجواء آمنة، وخدمات متوفرة، وأعمال مذكورة، وجهود مشكورة، لم تكن لتحصل مع هذا العدد الهائل لولا توفيق الله أولاً وآخرًا، ثم ما منَّ به سبحانه على الحرمين الشريفين وروادهما من هذه الولاية المسلمة التي بذلت وتبذل كل ما من شأنه تسهيل أمور العمار والزوار، جعله الله خالصًا لوجهه الكريم، وزادها خيرًا وهدى وتوفيقًا بمنه وكرمه، وأدام عليها خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما، ورعاية قضايا المسلمين في كل مكان، والشكر لله أولاً وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا، شكرًا كثيرًا دائمًا أبدًا إلى يوم الدين.(1/246)
هذا، واعلموا - رحمكم الله - أن من خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله...
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/75) من غير ذكر الآية.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/377).
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص19 ، رقم 78) بنحوه.
(4) قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب. أخرجه البخاري في : الزكاة ، باب : صدقة الفطر صاعاً من طعام (1506) ، ومسلم في : الزكاة ، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (985).
(5) قال ابن عمر رضي الله عنهما: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير... الحديث. أخرجه البخاري في: الزكاة ، باب : صدقة الفطر على الحر والمملوك (1511).
ــــــــــــــ
رمضان ونصرة المسلمين
هاني سليم
غزة
12/9/1422
مسجد السدرة
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- مذبحة إسرائيلية في فلسطين وأخرى في أفغانستان. 2- خذلان المسلمين لإخوانهم في أرض الجهاد. 3- موقف رسول الله من قريش حين غدرت بحليفه بني خزاعة. 4- أبو سفيان يحاول تجديد الصلح. 5- فتح مكة في رمضان. 6- فتح عمورية في رمضان. 7- دعوة لنصرة المظلومين في أرض فلسطين. 8- الخير واعد في أمة الإسلام. 9- العزة مرهونة بالاستمساك بالكتاب والسنة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الإخوة، نحن في شهر رمضان، في شهر أحبة الله ورسوله والمؤمنون، في شهر الجهاد والتضحية والفداء، في شهر التوبة والمغفرة، في شهر الصدقة والزكاة، شهر لو عرف المسلمون ما فيه من خير لتمنوا أن يكون العام كله رمضان، شهر عزيز على قلوبنا، ونحن في هذا الشهر العظيم لا بد أن يصدق المسلمون ما جاء في كتاب الله كاملا دون نقصان، الله عز وجل يقول: "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم أن الله يحب المتقين"، شهر الجهاد والاستشهاد، شهر ذبح فيه بالأمس في مذبحة خطيرة والعالم كله ينظر إلى هذه الأرض كيف يذبح الأطفال على يد أعداء الله سبحانه وتعالى، خمسة أطفال يذبحون بقذيفة واحدة غير الذين أصيبوا، فمن لهم إخوة الإيمان؟! فمن لنا غير الله عز وجل؟! متى تفيق الأمة؟! متى تستيقظ الأمة من سباتها العميق والمسلمون يحتفلون في هذه الأيام بشهر كله ذكريات؟!
شهر رمضان فيه ذكريات عزيزة على قلوب الأمة الإسلامية، فتحت فيه عمورية، شهر الجهاد، شهر يتسابق فيه المسلمون إلى الموت في سبيل الله عز وجل، شتان بين من كان يشحذ سلاحه يريد أن يلاقي الله عز وجل وهو عنه راض وبين من يرفع سلاحه على المجاهدين في سبيل الله حتى في شهر رمضان، ماذا نقول لله عز وجل؟! ماذا يقول حكام المسلمين لله عز وجل يوم القيامة؟! ماذا يقول المسلمون لله تعالى يوم القيامة؟! ماذا تقولون والمسلمون يذبحون هنا على يد الصهيونية العالمية، وهناك إخواننا يذبحون في أفغانستان مذابح شتى في كل مكان والمسلمون يغطون في نوم عميق، لقد حالف رسول الله بني خزاعة أي دخلت بنو خزاعة في حلف مع رسول الله ، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، هذا ما صالح عليه رسول الله يوم الحديبية، وكان هناك ثأر عظيم بين بني بكر وبني خزاعة، فليعلم العالم كيف كان يحترم رسول الله الحلف، أتدرون ما المقصود بالحلف؟ المقصود بالحلف ـ إخوة الإيمان ـ هو الدفاع المشترك، لقد خذلت الباكستان طالبان، وكانا على حلف مع بعضهما، فلنعلم كيف كان رسول الله يحافظ على الحلف، وكان الحلف مع بني خزاعة، ذهبت بنو بكر بمساعدة قريش، أمدت قريش بني بكر بالسلاح والعتاد والرجال لقتال بني خزاعة الذين كانوا على حلف مع رسول الله فأصابوا منهم مقتلا عظيما، وذهب عمرو بن سالم الخزاعي ليخبر رسول الله في المدينة المنورة ما حدث لقومه، فماذا قال له رسول الله عندها، قال له: ((نصرت يا عمرو، نصرت يا عمرو))، لم يتخل رسول الله عن حلفه، وأخذ يكون الجيش لأن قريشا قد نقضت العهد، فلتسمع الحكومات عندما ينقض العهد ماذا كان يفعل رسول الله، ما زال العرب متمسكين بالسلام المزعوم، واسمع رسول الله يقول لعمرو: ((نصرت يا عمرو))، فقامت قريش من سباتها العميق، فأرسلت أبا سفيان ليذكر المسلمين بالعهد، هل نسي المسلمون العهد؟ لا، إنما يريدون أن يستمعوا خاطر رسول الله أيُقتل الأبرياء ويقف محمد مكتوف الأيدي؟! لا، إنما أرسلت أبا سفيان ليفاوض رسول الله، وصل المدينة فاستحى أن يقابل رسول الله، نقضوا العهد، كيف يقابل رسول الله ، لا بد له من واسطة، فذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فرفض الخروج معه، فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: والله لو لم يكن معنا إلا الذر لجاهدناكم به، أتعلمون ما معنى الذر؟ النمل، لو لم يكن مع المسلمين إلا النمل لقاتل المسلمون قريشا، لأنهم نقضوا العهد مع رسول الله ، فتعب أبو سفيان، فطرق باب ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها وهي أم المؤمنين زوجة رسول الله ، ففتحت له الباب، ثم أراد أن يجلس على فراش الرسول، فترفع أم حبيبة الفراش من تحت أبيها، فيقول لها: لماذا تفعلين هذا؟ فتقول: ما ينبغي لمثلك أن يجلس على فراش رسول الله ، إنك نجس، هذه المفاصلة يفاصل المسلمون ولا يداهنون ولا يكذبون، إنما يقفون موقف المفاصلة، فعاد أبو سفيان بخفي حنين ولم ير وجها طلقا ينظر في وجهه، فعاد بخفي حنين، وماذا فعل رسول الله ؟ أخذ يكوِّن الجيش، ورفع يديه إلى السماء، وكان ذلك في شهر رمضان ويقول: ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في ديارها))، كان يستعين بالدعاء لقضاء حوائجه، ويأتي الإمام يخطب الجمعة فتجد في المسجد ثلاثة صفوف والباقي في البيت، فماذا تفعلون؟ إذا أردنا نصرا وتمكينا لا بد أن نكون صادقين مع الله عز وجل، وأن نملأ بيوت الله، نملأها بالطاعة لله عز وجل: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَقَامَ الصلاةَ وَءاتَى الزكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، فبدأ الرسول بتكوين الجيش، وطلب النصرة، ممن؟ من الله، طلب النصرة من الله، ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في ديارها))، فكون جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل، لماذا؟ لكي تنصر الفئة المستضعفة التي قتل رجالها ونساؤها، فأين حكام الأمة من أطفال يقتلون ويذبحون في نهار شهر رمضان؟! أين هم؟! إنهم يلهون ويعبثون ولا يعلمون شيئا عن حال أمتنا إخوة الإيمان، فانطلق الرسول حتى يفتح مكة، ففتح الله عز وجل على يديه دون قتال، لقد ضعفت قريش أمام رسول الله ، فعندما حط رسول الله في مر الظهران على بعد ثلاث كيلومتر تقريبا من مكة، فعسكر هناك، ووقع أبو سفيان في الأسر، فرأى قوة المسلمين، ثم تركه رسول الله، فماذا يقول لقومه؟ لقد جاءكم محمد بجيش لا قبل لكم به، فوقع الرعب في قلوبهم، ورفعوا الرايات البيضاء عالية مستسلمين أمام قوة المسلمين، صدقوا الله فصدقهم الله، عندما نصدق الله عز وجل يصدقنا الله عز وجل، وعندما نتخلى عن الله يتخلى الله عنا.
إخوة الإيمان، لا بد أن تستيقظ الأمة وإلا فإن بوش كما نرى كل يوم يهدد دولةً، وصدق القائل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، لو هبت الأمة ـ إخوة الإيمان ـ قاطبة فهل تستطيع أمريكا أو غير أمريكا أو أي قوة على وجه الأرض أن تقف أمام قوة المسلمين؟ ألا والله ـ إخوة الإيمان ـ فعندما ضعفت الأمة واستكانت وأرادت الدنيا وطلقت الأخرى فنرى بأن أعداء الله تمكنوا من رقابهم، ولذلك لا بد أن تستيقظ الأمة.
فتح مكة في جيوش وعرة، وفتح عمورية كان كذلك في شهر رمضان، نعم كانت في شهر رمضان، أنا لا أدري أما يقرأ حكام الأمة تاريخنا؟! أما يقرؤون كتاب الله عز وجل؟! ومن أصدق قيلا: الله أم نحن؟ الله هو أصدق من أي إنسان على ظهر الأرض، فلا بد أن نصدق الله ونكذب ما يقول البشر إذا خالف كلام الله عز وجل، فتح عمورية كان بسبب امرأة مسلمة لطمت على خدها كفا واحدا قالت: وامعتصماه أين عمورية؟ عمورية في تركيا إخواني في الله، وأين المعتصم؟ كان في بلاد العراق حيث الخلافة الإسلامية، لم يسمع المعتصم نداء هذه المرأة المكلومة، لم تذبح، لم يفتح بطنها، لم تمسك من شعرها وتسحب على الأرض، لم يقتل أطفالها أمامها إنما لطمت كفا واحدا قالت: وامعتصماه، فكون جيشا جرارا فقال المستشارون له: لا تتحرك، نصحوه بعدم التحرك لأن عوامل الجيش لا تسمح، فرفض وتحرك بجيش الإسلام، ونحن في شهر رمضان في هذه الذكرى التي ذبح فيها كذلك بالأمس خمسة من أطفال المسلمين أبرياء، ذهبوا إلى مدارسهم فما عادوا إلا لحما، فما عادوا إلا مقطعين، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل في كل من ظلمنا وكل من تآمر على شعبنا، تحرك المعتصم بالجيش وحاصر عمورية، وأحرق عمورية بمن فيها، وفتح عمورية، وهزم الروم، امرأة لطمت على خدها كفا فانتصر المعتصم، فرحم الله أبا تمام وهو ينشد في قصيدته الموزونة:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
السيف أصدق إنباء من الكتب، السيف أفضل من تلك المباحثات، ها نحن طوال الفترات في مباحثات، فماذا صنعنا؟ ما هي المكتسبات التي اكتسبناها؟ إخوة الإيمان، ارجعوا إلى تاريخكم، ارجعوا إلى ماضيكم، هذا التاريخ العظيم الذي يحدثنا عن بطولات أمتنا، وكيف وقف الصحابة رضي الله عنهم صفا واحدا، وكيف كانت قيادة الأمة، كان الواحد منهم لا يذوق طعم النوم، لا يذوق النوم ـ إخوة الإيمان ـ وهو يبحث عن حال الأمة، لن يستقيم حال الأمة ـ إخوة الإيمان ـ إلا بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسول الله .
شهر رمضان هو شهر التضحيات والبطولات، هو شهر الشهداء، قضيتان اثنتان أراحنا الله منهما وهما إخوة الإيمان: الرزق والأجل، قضيتان أراحنا الله منهما: لا تموت نفس إلا بعد أن تستوفي رزقها وأجلها، فلماذا الخوف؟ لم الخوف؟ لا بد أن نعلم بأن الأجل محدود، والرزق محدود، فلا بد أن تستيقظ الأمة من سباتها، وأن تتحد تحت راية واحدة ألا وهي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه الراية لها النصر والتمكين، وبغيرها نرى بأن الناس يتسكعون بين اليمين والشمال.
راية ـ أيها الإخوة ـ ما زال فيها الخير، وسيبقى فيها الخير إن شاء الله، ولكن لا بد من العودة الصحيحة إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسول الله ، ففيهما العزة والتمكين.
إخوة الإيمان، هذه الأمة أمة خير، لا تقنطوا من رحمة الله، لا تيأسوا من رحمة الله، فمهما أصاب هذه الأمة فإنها ستستقيم، ولكننا ننحرف نحن الشعوب وما في القلوب حتى تبقى الهمم عالية وحتى نكون دائما مستيقظين، وهذا ما لا يريده أعداء الله.
أيها الإخوة، أعداؤنا يخافون إذا تحرك المارد الإسلامي، إذا تحرك الإسلام ـ إخوة الإيمان ـ تحرك الأعداء جميعا من كل حدب وصوب، أفغانستان المسلمة المسكينة، أفغانستان ليس لها حول ولا قوة، تدك بقنابل زنة القنبلة خمسة عشر طنا، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل، الله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم أقواما طغوا وبغوا وتعالوا وتجبروا فما المصير إخوة الإيمان؟ الزوال الزوال، وأقول لكم: إن النصر آتٍ إن شاء الله، وسوف تزول أمريكا بإذن الله عز وجل، وأقول ـ إخوة الإيمان ـ بأن حضارتهم بإذن الله عز وجل إلى زوال، ولكن تمسكوا بكتاب الله عز وجل ففيه نصركم وعزتكم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ناصر المؤمنين ومؤيد الموحدين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا وقائدنا وعظيمنا وحبيبنا محمد رسول الله يقول في حديث ما معناه: "تركت فيكم ما إن تمسكتم بها لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي" كتاب الله وسنة رسول الله فيها عزكم وفيها نصركم ويغيرهما لا تقوم للأمة قائمة إذا تخلت عن كتاب الله وعن سنة رسوله.
إخوة الإيمان، نحن في شهر التوبة، شهر فتحنا فيه صفحة جديدة مع الله عز وجل، نطلب منه المغفرة، نطلب منه الرحمة، ولكن ما زال الناس يقصرون، وأهمس في آذانكم بأنه لا بد أن نملأ بيوت الله وأن نأتي مبكراً إلى بيوت الله بدلاً من أن نبقى في البيوت نعافس الأبناء والنساء، فلنجلس في بيوت الله نقرأ آية نتدبر فيها معنى، نسبح الله، بدلاً من أن يعكر صفوك أحد من الأبناء، هذه البيوت لا بد أن نعمرها كما ذكر الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَقَامَ الصلاةَ وَءاتَى الزكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
إخوة الإيمان، هذا الشهر شهر الدعاء فاستغلوا هذه الأوقات في الدعاء لله عز وجل، تطلبون منه النصر والتمكين، تطلبون منه أن ينزل عليكم الرحمات لأن الأمر قد ضاق ـ إخوة الإيمان ـ قد ضاقت الأرض بنا وضاقت الأرزاق بنا، فلا بد أن نتوجه إلى الله عز وجل في هذا الشهر الفضيل الكريم، اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.
إن في يوم الجمعة ساعة يستجاب فيها الدعاء فأسأل الله عز وجل أن تكون هذه الساعة.
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
ـــــــــــــــ
هل نعود ثانية إلى رمضان؟
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
2/10/1423
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- كلمة في وداع رمضان. 2- دعوة للاستقامة على الطاعة بعد رمضان. 3- صيام ستة أيام في شوال. 4- الصيام لظمأ يوم القيامة. 5- صلة الرحم في العيد. 6- مظاهر مؤلمة في مجتمعاتنا للغش والخداع.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه من تقصيركم، وأنيبوا إليه، وإياكم والمجاهرة في الأعياد بقبيح الإثم والفساد، واحذروا طاعة الشيطان، فإنها مقرونة بغضب الرحمن، ويحذركم الله نفسه.
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا كرباً إلا فرجته، ولا عيباً إلا سترته، ولا دَيناً إلا أديته، ولا مريضاً إلا وشافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا إلى أهله رددته.
اللهم استر العورات وآمن الروعات وأحسن الختام يا رب العالمين.
ويا شهر رمضان غير مودع ودعناك، وغير مقلي فارقناك، كان نهارك صدقة وصياماً، وليلك قراءة وقياماً، فعليك منا تحية وسلاماً، يا شهر الصيام أتراك تعود بعدها علينا أو تدركنا المنون فلا تؤول إلينا، مصابيحنا فيك مشهورة، ومساجدنا فيك معمورة، فالآن تنطفئ المصابيح، وتنقطع التراويح.
عباد الله، من كان منع نفسه في شهر الصيام من الحرام فليمنعها فيما بعده من الشهور والأعوام، فإن إلهكم واحد، وهو مطلع عليكم وشاهد.
واعلموا أن يوم العيد يوم سعيد، يسعد فيه أناس ويشقى فيه عبيد، فطوبى لعبد قبلت فيه أعماله، والويل لمن عمله عليه مردود، وباب التوبة عنه مسدود، وهو يوم يهنئ فيه المقبول ويعزى فيه المطرود، فيا أيها المقبول هنيئاً لك بثواب الله عز وجل وغفرانه، وتعساً لك يا مطرود بإصرارك على عصيانه، لقد عظمت مصيبتك، فأين دمعتك وتوبتك، فلأي يوم أخرت توبتك؟ ولأي عام ادخرت عدتك؟ أإلى عام قابل أو حول زائل؟ كلا فما إليك مدةُ الأعمار ولا معرفة المقدار، فكم من أعد طيباً لعيد، جُعل في تلحيده، وثياباً لتزيينه صارت لتكفينه، ومتأهبا لفطره صار مرتهلاً في قبلاه.
فاحمدوا الله على بلوغ ختام الشهر الفضيل، وسلوه قبول الصيام والقيام والصدقات، لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الحق يدعو فأجابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا وما خابوا.
فبادروا بالتوبة إلى الله عز وجل من جميع الذنوب والآثام، واعلموا أن الله تبارك وتعالى قد خلقنا لعبادته فقال جل من قائل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون كان السلف رضي الله عنهم يرون أن من مات عقب عمل صالح كصيام أو حج أو عمرة يرجى له أن يدخل الجنة، وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت وفي كل وقت.
وتذكروا يا عباد الله أن يومكم هذا أعظم الله قدره، وأفاض عليكم فيه من النعم ما يوجب شكره، جعله عيداً لما أديتم قبله من فريضة الصيام، وأباح لكم ما مُنعتم في صيامكم من شراب وطعام، فاحمدوا الله على إتمام الصيام، وسلوه التوفيق والقبول للتمسك بالدين وشرائع الإسلام.
وتذكروا واعتبروا يا عباد الله بمن كان معكم في مثل هذه الأيام من الأقارب والأهل والأحباب والجيران والأصدقاء والخلان، كيف جرعتهم المنية كؤوس الحِمام، وأودعتهم بطون القبور، لا يقدرون على زيادة حسنة، ولا ينتفعون في مضي يوم ولا سنة، تجردوا من هذه الحياة، والتحقوا التراب، وسكنوا بعد القصور العالية القبور الواهية البنيان، فلو رأيتم تحت التراب أحوالهم لرأيتم أموراً هائلة وأعناقاً من الأبدان زائلة، وعيوناً على الخدود سائلة، ونحن إلى ما صاروا إليه صائرون، وعلى ما قدتم من العمل قادمون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله، عندما ينقضي رمضان كان للرسول صلى الله عليه وسلم ستة أيام يصومها في شوال، ولا يشترط في صيامها أن تكون بعد رمضان مباشرة، بل إنها جائزة طوال شهر شوال، ولا يشترط أن تصومها متتابعة، وإنما يجوز أن تفرقها تيسيراً من الله الواحد العلام، وقد يسأل سائل ويقول: ما فضل هذه الأيام؟ وما فضل صيامها؟ يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله))(1)[1].
وبيان ذلك أن صيام يوم واحد من رمضان يعدل عشرة أيام، فصيام رمضان بثلاثمائة يوم، وصيام يوم واحد من شوال يعدل عشرة أيام كذلك، فصيام الستة بستين يوماً، فإذا ما صمت رمضان والأيام الستة من شوال، فكأنك صمت ثلاثمائة وستين يوماً، كأنك صمت السنة كلها، فإذا لقيت الله تبارك وتعالى على ذلك أعطاك ثواب من صام العمر كله.
سيدي يا رسول الله، يا خير من صام وأفطر وهلل وكبر وبشر وأنذر، وبدين الحنيف أمر، أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فما ولى ولا كلَّ ولا أدبر، هو صاحب الجبين الأقمر والوجه الأزهر، صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، ومن كان من النساء عليه قضاء، فالواجب في الأصل أن تقدم المرأة المسلمة القضاء على صيام الأيام الستة من شوال، وكذلك من كان مريضاً فليقدم الأيام الأخر على صيام الأيام الستة، لأن القضاء مقدم على النافلة.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أياماً أخر يصومها في غير رمضان، صيام ثلاثة أيام من كل شهر مع رمضان، يقيك الله تبارك وتعالى من شر الظمأ يوم القيامة.
أتدرون يا عباد الله ما يوم الظمأ؟ إنه يوم يقول الله تبارك وتعالى فيه كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً [المعارج:4، 5]، في ذلك اليوم يشتد الظمأ بالعباد وتدنو الشمس من الرؤوس، وليس هناك من يسقي الماء إلا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول عليه الصلاة والسلام: ((حوضي على مقدار مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وريحه أطيب من ريح المسك، وطعمه أحلى من العسل، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً))(2)[2] اللهم إنا نسألك أن تسقينا من حوض نبيك شربة من يده الشريفة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين.
عباد الله ومن الواجب عليكم في هذه الأيام السعيدة صلة الأرحام، فينبغي على العاقل أن يبادر إلى صلة الرحم، وأن يدفع ما عنده من البغضاء بالإحسان والإغضاء، فصل رحمك أيها المسلم ليرضى مولاك، وخالف بذلك نفسك وهواك، واصبر على أذاهم، فإنه بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أوصاك، وبالغ بالإحسان إلى من أساء إليك منهم، تحمد بذلك عقباك، وحسِّن أخلاقك معهم تنل راحتك ويطيب مثواك.
وتذكروا أيها المؤمنون أن الرحمة لا تتنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وأن قطيعة الأرحام من الفساد عند الله تبارك وتعالى، اسمعوا قول الباري جل في علاه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]، ومعنى هذه الآية الكريمة: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وتقطيع الأرحام.
اللهم اجعلنا وإياكم ممن يصلون أرحامهم.
عباد الله، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، فكن ما شئت كما تدين تدان))(3)[3]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))(4)[4].
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مصرف الأمور كما يشاء ويختار، نحمده على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، ونشهد أن لا إله إلا الله عالم الغيب والشهادة، وكل شيء عنده بمقدار، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله الذي رفع عنا ببعثته الأغلال والآصار، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأبرار ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:(1/247)
أيها المؤمنون، فئات مارقة ضالة تنتسب إلى الإسلام لفظاً، غير أن تصرفاتها وأعمالها لا تمُتّ للإسلام والتعاليم الدينية بصلة، هذه الفئات المارقة تعيث في الأرض فساداً دون رقيب ولا حسيب ولا نوازع من دين أو خلق، تنتهج أساليب قذرة وطرائق ملتوية لسلب وابتزاز أموال الأبرياء من أبناء شعبنا المسلم، فتزداد الهوة ارتفاعاً بين أفراد أمتنا، لقد عمد بعض الأشخاص من عديمي الإيمان إلى ابتزاز أموال إخوة لنا دفعوا أموالهم من أجل أداء سنة العمرة، فتبين لهم بعد ذلك أن المكاتب التي سجلت فيها الأسماء مكاتب وهمية، فضاعت أموالهم، ومُلئت نفوسهم حسرة ومرارة، وعيونهم دموعاً لعدم تمكنهم من أداء العمرة وزيارة مسجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
اللهم انتقم ممن يسعون في الأرض فساداً، فحذار ثم حذار من اعتماد مكاتب غير رسمية وغير معتمدة، سيما ونحن مقبلون على موسم الحج، وحذار ثم حذار مرة أخرى من التسجيل بما يسمى بالحج المميز قبل التأكد من إمكانية الحج والسفر.
أيها المؤمنون، وفئات أخرى ضالة أيضاً عمدت إلى ابتزاز أموال شعبنا بأساليب ساقطة من أناس كانوا بأمس الحاجة لعمل معاملات جمع شمل أو الحصول على البطاقات الشخصية أو مخصصات التأمين الوطني.
وفئات أخرى أيضاً عملت على تزوير أوراق ثبوتية أو وكالات دورية لوضع اليد على عقارات وأراض لأشخاص متوفَين أو قهرهم الاحتلال، فهُجِّروا وأبعدوا عن الوطن، فتقوم هذه الفئات بسلب أراضيهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
وفئات أخرى تزعم أنها تصلح ذات البين فتبتز أموال الناس بالباطل بدعوى الإصلاح.
نعم أيها المؤمنون، هذه بعض مظاهر الفساد في مجتمعنا، فالمطلوب منا توحيد الصفوف للوقوف بحزم أمام هذه الفئات المارقة، لردعها عن التمادي في غيها وضلالها.
إن غياب الإسلام عن واقع أمتنا يتيح لهذه الفئات الفرصة لتفشي الفساد وتنشره، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))(5)[1].
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بقلوب مخلصة منكسرة، فالنفاق ليس من عمل المؤمنين، وإنما هو من عمل المفسدين، توجهوا إلى الله، وصلوا على نبينا المصطفى، وحبيبنا المجتبى، فهذا خير لكم.
__________
(1) رواه أبو داود في سننه (2078)، وابن ماجه في سننه (1706).
(2) رواه بلفظ مقارب البخاري(6093)، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ومسلم(4244) في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم.
(3) رواه البيهقي في الزهد الكبير، من حديث أبي قلابة(2/277)، وضعف إسناده الألباني في السلسلة الضعيفة(4124).
(4) رواه أحمد في مسنده (12576)، والترمذي في جامعه (2423)، وابن ماجه في سننه (4241) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2029).
(5) رواه مسلم في صحيحه (70)، في كتاب الإيمان، بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
عبادة الصيام ... 4
حكمة مشروعية الصيام ... 5
أسرار الصيام ... 7
من ثمرات الصيام ... 8
يسر الإسلام ورحمته في فرض الصيام ... 11
صيام الأمم السابقة ... 12
نظرات نفسية في الصيام ... 14
الفوائد الطبية لصيام رمضان ... 21
في ظلال رمضان ... ... 24
الإخلاص ... 24
آثار التقوى وبشائرها ... 26
أمَّنْ يجيب المضطر؟ ... 27
طول الأمل ... 29
ألم يأن؟؟ ... 30
آثار الذنوب ... 31
محبة الله تعالى ... 33
مراقبة الله تعالى ... 34
العبد بين جيوش الدنيا وجيوش الآخرة ... 35
خشية الله تعالى ... 36
البكاء من خشية الله تعالى ... 37
التوبة ... 39
فضيلة التفكر ... 41
في ذكر القبر ... 42
في فضل الصبر ... 43
فضل الشكر ... 45
فضل التوكل ... 45
في سعة رحمة الله تعالى ... 46
فضل الرجاء ... 47
ذكر الموت والاستعداد له ... 48
فضل الدعاء ... 50
في الاستقامة ... 52
في طعم الإيمان ... 52
في المعنى الإيماني للمسجد ... 54
فضل الصدق ... 55
آثار الخصومة في القلب ... 57
فقه الصيام ... ... 60
الصيام ... 60
الصيام وفضله: ... 60
أقسامه: ... 61
صيام رمضان ... 61
حكمه: ... 61
بم يثبت الشهر؟ ... 63
اختلاف المطالع: ... 63
أركان الصيام ... 64
على من يجب؟: ... 65
صيام الكافر والمجنون ... 65
صيام الصبي ... 65
من يجب عليه الفطر والقضاء معًا: ... 69
الأيام المنهي عن صيامها ... 69
صيام التطوع ... 72
صيام المحرم وتأكيد صوم عاشوراء ويوم قبلها ويوم بعدها: ... 72
جواز فطر الصائم المتطوع ... 75
آداب الصيام ... 75
مباحات الصيام ... 78
ما يبطل الصيام ... 81
قضاء رمضان ... 85
من مات وعليه صيام ... 85
ليلة القدر ... 86
العشر الأواخر من رمضان ... 87
أسباب المغفرة في رمضان ... 89
رمضان شهر العتق من النيران ... 90
وداعًا رمضان ... 90
زكاة الفطر ... 91
فتاوى رمضانية ... 94
مفطرات الصوم و مسائل القضاء ... 94
الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان : ... 99
مشاهدة القنوات الفضائية في رمضان ... 101
تقدم رمضان بالصوم ... 102
الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي ... 104
تبييت النية في الصوم وحكم التلفظ بها ... 105
الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار ... 107
عتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي ... 109
صيام التطوع بنيتين: نية قضاء، ونية سنة ... 110
هل الحج يكفر ترك الصلاة والصوم؟ ... 111
صيام التطوع بنيتين: نية قضاء، ونية سنة ... 112
صيام التطوع قبل قضاء الصوم الواجب ... 113
متى يؤمر الصبي بالصيام؟ ... 113
لا يلزم رؤية الهلال بنفسه لوجوب الصوم وتكفي رؤية الواحد العدل ... 116
التتابع في صيام كفارة اليمين ... 117
عمل العزاء ووصية الميت والنيابة عن الميت في الصلاة والصوم ... 117
صوم كفارة القتل للمرضى ... 118
صوم كفارة القتل للسائقين ... 119
ما هي كفارة القتل وهل هناك بديل عن الصوم؟ ... 120
هل يجوز الإطعام بدلا من الصوم في كفارة القتل؟ ... 121
السنة في حق من سافر إلى العمرة في شهر رمضان أن يفطر ... 122
يصوم رمضان ولا يصلي ... 123
هل يجوز الإطعام بدلا من الصوم في كفارة القتل؟ ... 124
تارك الصلاة لا يؤمر بقضاء الصوم ... 125
الجماع من وراء حائل في نهار رمضان لا يمنع من وجوب القضاء والكفارة ... 125
صلاة المحتلم إذا نسي الاغتسال ... 126
من أغمي عليه مدة طويلة هل يقضي الصلاة والصوم ؟ ... 127
هل يكفر الحج ترك الصوم والصلاة؟ ... 128
هل يعاقب المجنون على ترك الصلاة والصوم والزكاة وغيرها؟ ... 129
لا صيام على من عاهدت زوجها المتوفي بقضاء ما أفطر وهو مريض ... 129
صيام الحامل والمرضع، واستخدام حبوب لمنع الحيض في رمضان ... 130
قضاء الصوم بعد زوال المرض ... 131
حكم الكفارة بدلا من قضاء الصوم ... 132
الحامل والمرضع في الصيام وحبوب منع الحيض ... 133
هل يجوز الإطعام بدلا من الصوم في كفارة القتل؟ ... 133
الفطر أفضل من الصوم في السفر إلا في عرفة وعاشوراء ... 134
الصوم في بلاد يستمر فيها طلوع الشمس ... 135
الصوم في بلاد لا تطلع فيها الشمس شتاء ... 136
مات قبل قضاء الصوم فماذا أفعل؟ ... 137
تقبيل الزوجة ... 137
التتابع في صيام كفارة اليمين ... 138
صوم وفطر المسافر ... 139
تبييت النية في الصوم وحكم التلفظ بها ... 140
الحكمة من الصوم، وكم صام النبي صلى الله عليه وسلم، ... 142
وصية الميت بالصوم عنه ... 143
قضاء الصوم عن الميت ... 144
وصية الميت بالصوم عنه ... 145
قضاء الزوج الصيام عن زوجته المتوفاة ... 145
لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من القضاء ... 146
السكن في منطقة حارة ليس عذراً في ترك قضاء الصوم ... 147
أشياء لا تفسد الصوم ... 148
نزول المني بدون احتلام ولا استمناء لا يفسد الصوم ... 149
الروائح مطلقاً عطرية وغير عطرية لا تفسد الصوم ... 149
دخول الماء في الجوف أثناء المضمضة للوضوء لا يبطل الصوم ... 150
خروج الدم من الأنف والفم فجأة لا يبطل الصوم ... 150
النزيف في الحلق لا يفسد الصوم ... 151
الدم الذي يخرج من اللثة لا يضر بالصوم ... 152
كيفية النية في شهر رمضان ... 152
تبدل النية ... 153
حول المفطرات في رمضان ... 154
صيام الصغار ومتى يكون؟ ... 156
الصوم والإفرازات المهبلية ... 158
حبوب تأخير الحيض في رمضان ... 158
صوم القضاء والكفارات ... 159
وجوب القضاء ووقت القضاء ... 160
الصلاة والصيام عند أهل القطبين ... 162
نقل الدم في نهار رمضان ... 163
الصوم وأسلوب القرآن في فرضيته ... 164
ثبوت شهر رمضان بالرؤية أو بالإخبار عنها ... 165
رؤية الهلال ... 167
هل يصوم من رأى الهلال وحده؟ ... 167
حكم إثبات الهلال بالحساب الفلكي في هذا العصر ... 175
فتاوى الدكتور القرضاوي ... 182
الترفيه في رمضان ... 182
]أكل الصائم أو شربه ناسيًا ... 183
قضاء الصيام ... 183
استعمال السواك ومعجون الأسنان للصائم ... 184
صيام الصغار ومتى يكون ؟ ... 185
هل تختلف زكاة الفطر من عام إلى آخر ... 185
قضاء رمضان بعد مرور رمضان آخر ... 186
استحباب الصوم في شعبان ... 187
الاحتلام والغسل للصائم ... 187
استعمال الحقنة الشرجية واللبوس ونحوها للصائم ... 188
إفطار بعض الأيام عمدًا في رمضان ... 189
المضمضة والاستنشاق للصائم ... 189
خروج المرأة لصلاة التراويح ... 190
الإسراع في صلاة التراويح ... 191
هل تقبل صيام تارك الصلاة ؟ ... 193
المسافة التي يجوز للمسافر فيها الإفطار ... 193
المرأة وصلاة التراويح ... 195
قضاء ما فات من رمضان في شعبان ... 195
السحور للصائم ... 196
إفطار الكبير والحامل والمرضع والمريض ... 196
حكم أخذ الإبر أو الحقن في الصيام، ووضع الدواء في الأذن والاكتحال ... 199
تأثير المعاصي على الصيام ... 201
السحور عند أذان الفجر ... 202
زكاة الفطر لمن صام في بلد وعيَّد في آخر ... 202
حوارات رمضانية ... 203
علمنة رمضان ... 203
سلوكياتنا في رمضان ... ... 204
الصيام ... والسمو الإيماني ... 205
توحيد المطالع.. بين النظرية والضرورة ... 205
تجميد مشروع لإنتاج قمر صناعي إسلامي يوحِّد الشهور العربية ... 206
القمر الصناعي.. مرصد جوال للأهلّة ... 209
رمضان في حياتهم ... ... 214
رمضان شهر الأعياد والخير والإيمان ... 218
هادي خشبة نجم المنتخب المصري يتحدث عن فضل رمضان ... 221
د.صالحة عابدين -رئيسة اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل ... 224
الشيخ محمد جبريل -التراويح في رمضان تؤكد أن المسلمين بخير ... 227
رمضانيات بريطانية ... 229
مدفع الإفطار عمره 560 عامًا ... 233
الأديبة الإسلامية سهيلة زين العابدين ... 235
رمضان في ماليزيا ... 239
رمضان في أرض الشمس المشرقة ... 242
رمضان في حياة الدكتورة هاجر سعد الدين ... 245
الشيخ أحمد ياسين -المؤمن يشحن بالتقوى في رمضان كما تشحن البطارية بالكهرباء ... 247
الدكتور يحيى الرخاوي ... 250
الشيخ عكرمة صبري "مفتي فلسطين"و الشيخ رائد صلاح"شيخ الأقصى"على مائدة رمضان ... 253
رمضان في تركيا ... 257
المستشار القاضي فيصل المولوي -في رمضان نصل إلى قلوب الناس ... 261
السيد محمد حسن الأمين-أخشى أن تتحول العبادات إلى طقوس مجردة ... 263
الدكتور أحمد صدقي الدجاني -يا لروعة ليالي رمضان في باحة الأقصى ..! ... 266
رمضان في الشيشان .. أرض الصمود والمقاومة ... 271
رمضان في السويد.. شمال أوربا الباردة ... 277
حدث في رمضان ... ... 283
غزوة بدر -ويقطع دابر الكافرين ... 283
" دروس من غزوة بدر " ... 292
الله أكبر.. في حرب رمضان ... 297
فتح مكة -الفتح المبين ... 301
دروس من فتح مكة ... 307
معركة البويب -وقعت في السنة الثالثة عشر من الهجرة. ... 311
وفاة خالد بن الوليد ... 312
وفاة عمرو بن العاص ... 313
بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن ... 314
وفاة فاطمة رضي الله عنها ... 315
قطز قاهر التتار -في معركة عين جالوت ... 316
قطز ... الصائح: "وا إسلاماه" ... 327
غزوة تبوك ... 329
فتح جزيرة رودس ... 332
مذبحة الحرم الإبراهيمي 15 رمضان 1414هـ ... 333
شعر وأدب ... ... 339
أهلاً رمضان ... 339
في نور الصيام ... 340
إني صائم..! ... 341
زين الشهور ... 343
هلَّ الصيام ... 344
رمضان شهر الرحمة ... 345
شهر الحق والخير ... 345
ليلة القدر ... 346
بدر ... 347
رمضان في الشعر العربي ... 348
أطفال رمضان ... ... 352
الفرحة وهلال رمضان ... 352
لماذا نصوم ؟! ... 355
أول سنة صوم ... 357
قرآني في رمضان ... 359
شهر رمضان المبارك ... 360
صيام الأنبياء ... 361
الفتح الأكبر ... 363
بلاط الشهداء (بواتييه) ... 365
شهر الخيرات ... 367
عين جالوت ... 368
يوم عمورية ... 370
منيب في رمضان ... 372
التراويح ... 374
حوت يونس عليه السلام ... 376
أصحاب الغار ... 377
اصح يا نائم ... 379
العشر الأواخر والاعتكاف ... 382
العابد والشجرة ... 384
ليلة القدر ... 386
معركة المنصورة ... 387
فتح بلاد البلقان ... 389
زكاة الفطر ... 391
أول قيام ليل ... 392
كيف نشكر الله؟ ... 394
بر الوالدين ... 395
فتاوى الصيام قبل شهر رمضان ... 398
قضاء ما فات من رمضان في شهر شعبان ... 398
التتابع في صيام رجب وشعبان رمضان ... 398
قضاء الصيام عن سنوات ماضية ... 399
حكم تأخير القضاء فى الصيام ... 401
أعيادنا ... 403
في بيوت الانتفاضة.. عيد مختلف جدًّا ... 403
زكاة المشاعر ... 406
في العيد.. هل ننساها؟؟ ... 408
المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية ... 409
الزمن وقصة التقاويم ... 411
صوموا لرؤيته.. وأفطروا لرؤيته ... 417
الحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور العربية ... 419
جانا العيد ... 424
عيد الفطرالفاطمي موائد عامرة.. وحلل جديدة ... 425
ليلة عيد صورة قلمية ... 428
خطبة العيد.. زمان ... 429
العيد في الفضاء ... 430
غِبْ يا هلال! ... 432
نفحات رمضان ... 436
مشاريع رمضانية ... 436
الاعتكاف: فضله وآدابه وأحكامه ... 441
ما أحوج المسلمين إلى أمر جامع! ... 454
الإسلام والمجتمع المُتحضِّر * ... 457
بطولات إسلامية -بطولة إنكار الذات ... 459
الدين الصناعي ... 462
المدينة الفاضلة في الإسلام ... 464
الصيام وبناء الضمير وتزكية النفس ... 468
العيد ... 469
نهاية رمضان ... 479
رحيل رمضان ... 486
وكان أجود ما يكون في رمضان ... 493
وأن تصوموا خيراً لكم ... 498
من أسرار شهر الصيام ... 499
شهر الصوم ... 503
أي رمضان رمضانك ؟! ... 507
الصوم مغفرة للذنوب ... 514
رمضان فرصة للتغيير ... 517
استقبال شهر رمضان ... 519
من فضائل رمضان وتناقضاتنا في شهر الصيام ... 525
الصوم ... 529
أحكام صيام الست من شوال ... 533
صوم السلف ... 538
وقفات مع آيات الصيام ... 539
رمضان المبارك ... 544
دواعي التوبة في رمضان ... 548
حال السلف مع الصيام ... 553
خطب رمضانية ... 559
من يجب عليه صوم رمضان والمفطرات ... 559
رمضان شهر التوحيد (غزوة بدر) ... 562
استقبال رمضان ... 567
فضائل شهر رمضان ... 569
رمضان وأحكام الصيام ... 572
انتصاف رمضان ... 574
فضائل شهر رمضان ... 578
التذكرة فيما بعد رمضان ... 583
انبثق الوليد ( رمضان ) ... 586
شهر رمضان ... 592
وداع رمضان ... 596
نعمة رمضان ... 600
ختام شهر رمضان ... 605
خطبة عيد الفطر: الإحسان بعد رمضان ... 609
رمضان شهر الطاعات ... 612
استقبال شهر رمضان ... 616
لقد استعدّ رمضان للرحيل ... 620
وماذا بعد رمضان ... 623
ماذا استفاد المسلمون من رمضان؟ ... 626
العشر الأوسط من رمضان ... 630
الخاسرون في رمضان ... 635
بعض خصائص رمضان ... 638
التلفزيون في رمضان ... 645
أبواب الخير في رمضان ... 649
كيف نستقبل رمضان ... 653
تحقيق التقوى في صيام رمضان ... 657
رمضان شهر القرآن ... 661
استقبال رمضان بالتوبة ... 664
استقبال رمضان ... 670
في استقبال رمضان ... 674
رمضان والقرآن ... 680
معذرة يا رمضان!! ... 686
في وداع رمضان ... 690
المنجيات من الفتن واستقبال رمضان ... 695
خصائص رمضان ... 701
وظائف رمضان ... 707
رمضان: ما أعظمه من فرصة ... 711
توديع رمضان وحال الأمّة ... 713
ماذا بعد رمضان؟! ... 716
وداع رمضان ... 722
رمضان ونصرة المسلمين ... 728
هل نعود ثانية إلى رمضان؟ ... 733(1/248)