شهر رمضان شهر الهدى والفرقان
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع متاحة لجميع الهيئات العلمية والخيرية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في محكم كتابه العزيز : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة
والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد الذي كان أجود الناس ، وأجود ما كان في يكون في رمضان
وعلى آله وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذه ومضات رمضانية التقطتها من هنا وهناك في أوقات مختلفة ، ومن مواقع كثيرة ، ولاسيما
الشبكة الإسلامية
نور الإسلام
http://www.islamlight.net/index.php
وغيرها ...
وكل قول معزو لصاحبه
وكنت أود كتابة كتاب مفصل عن فقه الصيام ولكن حالت الظروف دونه ، فأحببت أن أتحفكم بهذه الشحنات الإيمانية ، وقسمتها للموضوعات الرئيسة التالية :
عبادة الصيام
في ظلال رمضان
فقه الصيام
فتاوى رمضانية
حوارات رمضانية
رمضان في حياتهم
حدث في رمضان
شعر وأدب
أطفال رمضان
فتاوى الصيام قبل شهر رمضان
أعيادنا
نفحات رمضان
خطب رمضانية منوعة
وقد قمت بفهرستها على الورد بشكل دقيق ،ووضعتها في الشاملة 3 ، ليعم النفع بها .
أسأل الله تعالى أن يجعل شهر رمضان القادم شهر خير وبركة وسعادة ونصر ومغفرة لذنوبنا جميعاً ، وأن ينفع بها جامعها ،وقارئها، وناشرها ،والدال عليها في الدارين .
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
24 شعبان 1429 هـ الموافق ل 26/8/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - - - -
عبادة الصيام
... حكمة مشروعية الصيام
... أسرار الصيام
... من ثمرات الصيام
... يسر الإسلام ورحمته في فرض الصيام
... صيام الأمم السابقة
... نظرات نفسية في الصيام
... الفوائد الطبية لصيام رمضان
حكمة مشروعية الصيام
لفضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف سابقًا :
على ضوء الحكمة العامة للتشريع، وهي ربط المخلوق بالخالق، وإعداد الإنسان لتحقيق خلافته في الأرض بالأخلاق الشخصية والاجتماعية يمكن توضيح الحكمة من الصيام فيما يأتي:
1 ... ... الصيام فيه تقديم رضا الله على النفس، وتضحية بالوجود الشخصي بالامتناع عن الطعام والشراب، وبالوجود النوعي بالإمساك عن الشهوة الجنسية، وذلك ابتغاء وجه الله وحده، الذي لا يتقرب لغيره من الناس بمثل هذا الأسلوب من القربات، ومن هنا كان ثوابه عظيمًا، يوضحه ويبين علته قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" رواه البخاري ومسلم.
وفي الصوم إحساس بمقدار نعمة الطعام والشراب والمتعة الجنسية عندما يحرم منها ونفسه تائقة إليها، فيكون شكره عليها بالإطعام المتمثل في كثرة الصدقات في فترة الصيام.
وفي توقيت الصيام بشهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن تذكير للإنسان بنعمة الرسالة المحمدية، ونعمة الهداية القرآنية التي يكون الشكر عليها بالاستمساك بها "لعلكم تشكرون"، وفي فترة إشراق الروح بالصيام وتلاوة القرآن تتوجه القلوب إلى الله بالدعاء الذي لا يُردّ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تُرد دعوتهم، الصائم حتى يفطر أو حين يفطر والإمام العادل، ودعوة المظلوم" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان، وحسنه الترمذي ولعل مما يشير إلى الإغراء في الصيام توسط قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ..) بين آيات الصيام سورة البقرة.
2 ... ... في الصيام تخليص للإنسان من رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم، هذا جهاد شاق يعوِّد الصبر والتحمل، ويعلم قوة الإرادة ومضاء العزيمة، ويعد الإنسان لمواجهة جميع احتمالات الحياة بحلوها ومرها وسائر متقابلاتها ليجعل منه رجلاً كاملاً في عقله ونفسه وجسمه، يستطيع أن يتحمل تبعات النهوض بمجتمعه عن جدارة. وقد شرعه النبي صلى الله عليه وسلم علاجًا لقوة الشهوة لمن لا يستطيع الزواج، ففي الحديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء" أي قاطع. رواه البخاري ومسلم.
والإنسان إذا تحرر من سلطان المادة اتخذ لنفسه جُنَّةً قوية تحصنه ضد الأخطار التي ينجم أكثرها عن الانطلاق والاستسلام للغرائز والأهواء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصوم جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم" رواه البخاري ومسلم.
والصائم الذي يمتنع عن المحرمات وعن الحلال الذي تدعو له الشهوة إنسان عزيز كريم، يشعر بآدميته وبامتيازه عن الحيوانات التي تسيِّرها الغرائز. والصيام أيضًا يعوِّد التواضع وخفض الجناح ولين الجانب، وبالتالي يعرف الإنسان قدره ويحس بضعفه، ومن عرف قدر نفسه تفتحت له أبواب الخير واستقام به الطريق.
إن الصيام إلى جانب ما فيه من صحة النفس فيه صحة بدنية أسهب المختصون في بيانها وتأكيد آثارها الطيبة، ففي الحديث: "صوموا تصحوا" رواه الطبراني عن رواة ثقات، والصوم يعوِّد النظام والتحري والدقة، وذلك بالتزام الإمساك عند وقت معين وحرمة الإفطار قبل حلول موعده، قال تعالى (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)، كما أن في الصيام الصادق اقتصادًا وتوفيرًا يفيد منه الصائم، وتفيد أسرته وتفيد الأمة.
3 ... ... الجوع والعطش حين يحس بهما الصائم تتحرك يده فتمتد بالخير والبر للفقراء الذين عانوا مثل ما عانى من ألم الجوع وحر العطش، ومن هنا كانت السمة البارزة للصيام هي المواساة والصدقات وعمل البر، وكانت شعيرة يوم العيد هي زكاة الفطر للتوسعة على الفقراء، وهي بمثابة امتحان للصائم بعد الدروس الطويلة التي تلقاها في شهر رمضان، وبهذا كانت زكاة الفطر جواز المرور لقبول الصوم كما يقول الحديث: "صوم رمضان معلق بين السماء والأرض لا يرتفع إلا بزكاة الفطر" رواه أبو حفص بن شاهين، وهو يقبل في فضائل الأعمال. الصيام بهذا المظهر يُعد للحياة الاجتماعية القائمة على التعاون على البر، وعلى الرحمة الدافعة لعمل الخير عن طيب نفس وإيمان واحتساب، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم "أجود بالخير من الريح المرسلة" رواه البخاري ومسلم.
والصيام الكامل عن كل المشتهيات يكف الإنسان عن الكذب والزور والفحش والنظر المحرم والغش وسائر المحرمات، وفي الحديث الشريف: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري، والزور هنا معناه الباطل بكل مظاهره وألوانه، وقد رأى بعض العلماء أن الغيبة والنميمة يفسدان الصوم كما يفسده تناول الطعام، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الصائمتين المغتابتين: "صامتا عما أحل الله الطعام وأفطرتا على ما حرم الله" رواه أحمد وأبو داود. وفي بيان أثر الصيام في العلاقات الاجتماعية قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المرأة التي تؤذي جيرانها بلسانها: "إنها في النار" بالرغم من كثرة صلاتها وصيامها رواه أحمد والحاكم وصححه.
هذا.. والصيام يعوِّد الإخلاص في العمل ومراقبة الله في السر والعلن، وإذا كان هذا طابع الإنسان في كل أحواله أتقن عمله، وأنجز ما يوكل إليه من المهمات على الوجه الأكمل، وعف عن الحرام أيًا كان نوعه، وعاش موفقًا راضيًا مرضيًا عنه، وأفادت منه أمته إفادة كبيرة
ــــــــــــــــــــ(1/1)
أسرار الصيام
للإمام أبو حامد الغزالي:
في الواجبات والسنن الظاهرة واللوازم بإفساده
أما الواجبات الظاهرة فستة:
الأول: مراقبة أول شهر رمضان، وذلك برؤية الهلال، فإن غم فاستكمال ثلاثين يومًا من شعبان.
الثاني: النية، ولابد لكل ليلة من نية مبيتة معينة حازمة، فلو نوى أن يصوم شهر رمضان دفعة واحدة لم يكفه.
الثالث: الإمساك عن إيصال شي إلى الجوف عمدًا مع ذكر الصوم، فيفسد صومه بالأكل والشرب والسعوط والحقنة.
الرابع: الإمساك عن الجماع، وحدُّه مغيب الحشفة، وإن جامع ناسيًا لم يفطر، وإن جامع ليلاً او احتلم فأصبح جنبًا لم يفطر.
الخامس: الإمساك عن تعمد إخراج القيء، وإن غلبه القيء لم يفسد صومه.
وأما لوازم الإفطار فأربعة:
القضاء، والكفارة، والفدية، وإمساك بقية النهار تشبهًا بالصائمين.
أما القضاء: فوجوبه عام على كل مسلم مكلف ترك الصوم بعذر أو بغير عذر.
وأما الكفارة: فلا تجب إلا بالجماع.
وأما إمساك بقية النهار: فيجب على من عصى بالفطر إن قربه، ولا يجب على الحائض إذا طهرت إمساك بقية نهارها، ولا على المسافر إذا قدم مفطرًا من سفر.
وأما الفدية: فتجب على الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفًا على ولديهما، لكل يوم مُدُّ حنطة لمسكين واحد مع القضاء والشيخ الهرم إذا لم يصم تصدق عن كل يوم مدًا.
أما السنن فست؛ تأخير السحور، وتعجيل الفطر بالتمر أو الماء قبل الصلاة، وترك السواك بعد الزوال، والجود في شهر رمضان لما سبق من فضائل في الزكاة، ومدارسة القرآن، والاعتكاف في المسجد؛ لا سيما في العشر الأواخر، فهو عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا دخل العشر الأواخر طوى الفراش، وشد المئزر، ودأب وأدأب أهله، أي أداموا النصب في العبادة؛ إذ فيها ليلة القدر.
في أسرار الصوم وشروطه الباطنة
أعلم أن الصوم ثلاث درجات؛ صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.
وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا، إلا دنيا تراد للدين.
في التطوع بالصيام وترتيب الأوراد فيه
أعلم أن استحباب الصوم يتأكد في الأيام الفاضلة، وفواضل الأيام بعضها يوجد في كل سنة، وبعضها يوجد في كل شهر، وبعضها في كل أسبوع.
أما في السنة بعد أيام رمضان فيوم عرفة، ويوم عاشوراء، والعشر من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم، وجميع الأشهر الحرم مظان الصوم، وهي أوقات فاضلة و"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من صوم شعبان حتى كان يظن أنه في رمضان". والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب؛ واحد فرد وثلاثة متواليات.
وأما ما يتكرر في الشهر: فأول الشهر وأوسطه وآخره، وأوسطه الأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
أما في الأسبوع فالاثنين والخميس والجمعة، فهذه الأيام هي الأيام الفاضلة، فيستحب فيه الصيام وتكثير الخيرات، لتضاعف أجورها ببركة هذه الأوقات.
وأما صوم الدهر فإنه شامل لكل زيادة: وللسالكين فيه طرق؛ فمنهم من كره ذلك؛ إذ وردت أخبار تدل على كراهيته، والصحيح أنه إنما يكره لشيئين:
أحدهما: ألا يفطر في العيدين وأيام التشريق فهو صوم الدهر كله.
والآخر: أن يرغب عن السنة في الإفطار، ويجعل الصوم حجرًا على نفسه، لأن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه، فإذا لم يكن شي من ذلك، ورأى صلاح نفسه في صوم الدهر فليفعل ذلك، فقد فعله جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
ــــــــــــــــــــ(1/2)
من ثمرات الصيام
لفضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله :
لعل أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما..
كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح : أثَم ما يفطر به؟ فيقال : لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأنه لم يحدث..
ويذهب فيلقى الوفد ببشاشة ويبت في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة ! وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)
قلت: لو جاءني إفطاري دون شاي لسخت!! ولرفضت إمضاء ورقة على مكتبي، بَلْهَ كتابة مقال!!.
إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر، والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت!.
وأعتقد أن أسباب غلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوفر. يضع الواحد منهم تمرات في جيبه وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإن العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا توقفوا ...
وقد اعتمد غاندي على هذا السلاح عندما حارب "بريطانيا" العظمى.. كان الإنتاج البريطاني يعتمد على الاستهلاك الهندي.. وقرر غاندي أن ينتصر بتدريب قومه على الاستغناء نلبس الخيش ولا نلبس منسوجات "مانشيستر"، نأكل الطعام بدون الملح ما دامت الدولة تحتكره، نركب أرجلنا ولا نركب سياراتهم
وقاد حركة المقاطعة رجل نصف عار جائع، يتنقل بين المدن والقرى مكتفيًا بكوب من اللبن.
واستجابت الجماهير الكثيفة للرجل الزاهد، وشرعت تسير وراءه فإذا الإنتاج الإنكليزي يتوقف، والمصانع تتعطل، وألوف مؤلفة من العمال الإنجليز يشكون البطالة. واضطرت الحكومة إلى أن تطلب من "غاندي" المجيء إلى لندن كي يتفاوض معها، أو يملي شروطه عليها!!.
وحياة أحمد شوقي وهو ذاهب إلى لندن بقصيدته التي يقول فيها محذرًا من ألاعيب الساسة:
وقل: هاتوا أفاعيكم أتى "الحاوي" من الهند ... إن الإنسان الذي يملك شهواته قوة خطيرة، والشعب الذي يملك شهواته قوة أخطر، فهل نعقل؟؟..
أحفظ للشيخ الكبير "محمد الخضر حسين" شيخ الأزهر الأسبق كلمة عظيمة:
"لست أنا الذي يهدَّد؛ إن كوبًا من اللبن يكفيني أربعًا وعشرين ساعة"!.
ومن قبله قال الشيخ عبد المجيد سليم وقد حذروه من غضب جهات عالية:
"أيمنعني ذاك من التردد بين بيتي والمسجد؟ قالوا: لا.. قال: لا خطر إذن؛ ليس هناك ما يُخاف"..
من أركان العظمة أن يجعل الرجل مآربه من الدنيا في أضيق نطاق مستطاع ... إنه يعيي عدوه بذلك الاستعفاف أو الاستغناء.
وذاك نهج الشرف الذي خطه علي بن أبي طالب عندما قال: "استغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره".. وما يستقيم على هذا النهج إلا امرؤ يحسن الصيام..
أعجبتني هذه الوصية لأبي عثمان النوري لابنه، وأثبتها الجاحظ، وليس لي في كتابتها إلا فضل النقل..
"يا بني: كلْ مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة أو شيء مستطرف فإنما ذلك للشيخ المعظَّم أو الصبي المدلَّل، ولست واحدًا منهما. يا بني عوِّد نفسك مجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش كالسباع، ولا تقضم كالبغال، ولا تلقم لقم الجمال، فإن الله جعلك إنسانًا فلا تجعل نفسك بهيمة، واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره. يا بني: والله ما أدى حق الركوع والسجود ممتلئ قط! ولا خضع لله ذو بطنة، والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين. يا بني: قد بلغت تسعين عامًا ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فتلك سبيل الموت، ولا أبعد الله غيرك"..
هذه وصية رجل لا يعرف عبادة الجسد التي تهاوى فيها أبناء هذا العصر، والتي جاء فيها قوله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، وقوله(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ).
وتجتاح الناس بين الحين والحين أزمات حادة تقشعر منها البلاد، ويجف الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مرغمين أو يصومون كارهين، وملء أفئدتهم السخط والضيق.. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله. إنها تحمل للمرء منه مندوحة لو شاء ولكنه يخرس صياح بطنه، ويرجئ إجابة رغبته، مدخرًا صبره عند ربه، كيما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب ... (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ).
وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"!..
إن كلمتي "إيمانًا واحتسابًا" تعنيان جهدًا لا يستعجل أجره، ولا يطلب اليوم ثمنه؛ لأن باذله قرر حين بذله أن يجعله ضمن مدخراته عند ربه.. نازلاً عن قوله (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا).
وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون لرمضان حرمة ولا لصيامه حكمة، إذا اشتهوا طعامًا أكلوا، وإذا شاقهم شراب كرعوا.. ماذا يجدون يوم اللقاء؟..
إنهم يجدون أصحاب المدخرات في أفق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع، ويحدثنا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ* الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)
إن الصيام عبادة مضادة لتيار الحياة الآن، لأن الفلسفات المادية المسيطرة في الشرق والغرب، تعرف الأرض ولا تعرف السماء، تعرف الجسم ولا تعرف الروح، تعرف الدنيا ولا تعرف الآخرة ...
ليكن للقوم ما أرادوا، ذلك مبلغهم من العلم!.. بيد أننا نحن المسلمين يجب أن نعرف ربنا، وأن نلزم صراطه، وأن نصوم له، وأن ندخر عنده!..
على أن هناك حقيقة مؤسفة هي أن الصوام قلة وان امتنع عن الطعام كثيرون!
ــــــــــــــــــــ(1/3)
يسر الإسلام ورحمته في فرض الصيام
لفضيلة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله:
قد استقر في ضمير المؤمنين أن ما ثبتت فرضيته أو حرمته ليس محلاً للرأي، ولا مجالاً للاجتهاد الذي أباحه الله للعباد، واستقر كذلك في ضميرهم أن من يعبث بشيء من الأحكام القطعية، ويتخذ ذلك العبث باسم "الرأي وحريته" قنطرة يعبر عليها إلى فتنة الناس في دينهم، أو زعزعة إيمانهم، أو الحصول على شهرة زائفة مفتعلة، أو متاع زائل حقير كان هو ومن يتبعه ويصدقه ومن يقويه وينفخ فيه، كان "ثلاثتهم" في الخروج عن دين الله سواءً، وكان جديرًا بالمؤمنين الصادقين أن ينبذوهم نبذ النواة، وأن يسموهم على الخرطوم بحروف بارزة "ضالون مضلون" (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ).
إن لكل دين إلهي أو نظام بشري دائرة مقدسة وشقة محرمة لا يسمح الدين ولا أهل النظام أن تمس، وإذا مست عن قرب أو بعد كان مسها اعتداءً صارخًا عليها، وتقويضًا لقداستها وانتهاكًا لحرمتها، ولا يبرره أنه رأى، وحرية الرأي مكفولة، فإن للرأي في الشرائع سماوية أو وضعية مجاله، وللدائرة المقدسة مجالها، وعلى هذا طبعت النفوس في معتقداتها ونظمها ودساتيرها.
ومن جهة أخرى فقد بنى الإسلام تشريعه كله على اليسر والرحمة، ولم يقصد بتكاليفه بوجه عام عنتًا ولا إرهاقًا )لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا(. (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، ومن ذلك: رخص لمن أكره على الكفر أن ينطق بكلمته وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخص لمن أشرف على الهلاك أو خاف الضرر بجوع أو عطش أن يأكل أو يشرب مما حرَّمه الله بقدر ما يحفظ عليه حياته، أو يدفع عنه ضرره، حتى إذا ما تزمَّت في التدين، وامتنع باسمه عن الأكل أو الشرب حتى مات، أو أصيب بزمانة كان آثمًا عند الله مسرفًا في تدينه، (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
وكذلك أباح لمن يتضرر أو يخاف الضرر باستعمال الماء في طهارة الصلاة أن يتيمم صعيدًا طيبًا. وأباح الصلاة في مواطن الخوف والمشقة، مخففة في عدد ركعاتها، وكيفية أدائها، حتى لقد تقبلها رمزًا بحركة رأسية أو عينية. وأباح ترك الحج عند خوف الطريق، وجعل أمنه والقدرة على نفقة الذهاب والإياب زائدة عن نفقة الأسرة من الاستطاعة التي لا يجب الحج إلا بها.
وعلى هذه السنة الرحيمة العامة في التكاليف كلها فرض الله صوم رمضان، وجعل الناس بالنسبة إليه واحدًا من ثلاثة:
1 ... ... مقيم سليم قادر عليه دون ضرر يلحقه أو مشقة ترهقه، والصوم واجب محتم عليه. وهذا هو الأصل الذي نظر فيه إلى السلامة من العوارض، وهو المذكور بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ( وقوله (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
2 ... ... مريض أو مسافر، وقد أبيح له الإفطار مع وجوب القضاء يوم بيوم عند الصحة أو الإقامة، وهو لمذكور بقوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر)
3 ... ... من يشق عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله، ومنه ضعف الشيخوخة، والمرض المزمن، والحمل والإرضاع المتواليات إذا خيف على الحامل أو المرضع أو الرضيع، وقد أبيح لهؤلاء وأمثالهم الإفطار دون قضاء، واكتفى منهم أن يطعموا بدلاً عن كل يوم مسكينًا واحدًا بما يشبعه في وجبتين من طعام متوسط، ويقوم مقام الإطعام بدل ثمنه على حسب التقدير المتعارف بين الناس، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)، وإنما يقال: يطيق حمل هذه الصخرة. وإذن فهي تدل على العسر ومشقة الاحتمال.
وإذن.. فحيث كان اليسر كان الصوم، وحيث كان العسر كان الإفطار، هذا هو شرع الله ودينه. وتقدير اليسر والعسر يرجع المؤمن فيه إلى إيمانه وما يحسه من نفسه، ومفتيه في ذلك ضميره، ولا حاجة بعد معرفة المبدأ العام إلى فتوى المفتين التي كثيرًا ما توقع الناس في الحيرة والاضطراب "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس".
ومما يجب التنبيه عليه هنا أن المراد بخوف الضرر المبيح للإفطار هو تيقنه أو غلبة ظنه، وواضح أن ذلك يستدعي التجربة الشخصية، أو إخبار الطبيب الأمين الذي لا يعرف بالتهاون الديني. أما الخوف الناشئ عن مجرد الوهم أو التخيل فإنه لا وزن له عند الله ولا يبيح به الإفطار
ــــــــــــــــــــ(1/4)
صيام الأمم السابقة
لفضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف سابقًا :
الصيام بوجه عام فرض على غير المسلمين من الأمم السابقة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وليس في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية بيان كيفية صيام السابقين، وإن كانت الآية تقول عن مريم عليها السلام كما أمرها الله: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)، وهو في ظاهره الإمساك عن الكلام، وقد يكون عن أشياء أخرى. وأخبر الحديث المتفق عليه أن داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا.
والصوم في الإسلام إمساك عن الطعام والشراب والشهوة الجنسية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وصوم الأمم السابقة مختلف في موقعه من شهور السنة، وفي مدته، وفي كيفيته.
وعرفنا من صيام السابقين صوم عاشوراء عند اليهود شكرًا لله على نجاة موسى عليه السلام من الغرق كما ثبت في الحديث الصحيح، وما سوى ذلك يعرف من كتبهم، واليهود المعاصرون يصومون ستة أيام في السنة، وأتقياؤهم يصومون شهرًا، وهم يفطرون كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة عند ظهور النجوم، ويصومون اليوم التاسع من شهر "أغسطس" كل سنة في ذكرى خراب هيكل أورشليم.
والنصارى يصومون كل سنة أربعين يومًا، وكان الأصل في صيامهم الامتناع عن الأكل بتاتًا، والإفطار كل أربع وعشرين ساعة، ثم قصروه على الامتناع عن أكل كل ذي روح وما ينتج منه، وعندهم صوم الفصول الأربعة، وهو صيام ثلاثة أيام من كل منها، وصيام الأربعاء والجمعة تطوعًا لا فرضًا.
جاءت في تفسير ابن كثير أقوال عن بعض الصحابة والتابعين أن صيام السابقين كان ثلاثة أيام من كل شهر ولم يزل مشروعًا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان، كما ذكر حديثًا عن ابن عمر مرفوعًا أن صيام رمضان كتبه الله على الأمم السابقة.
وجاء في تفسير القرطبي أن الشعبي وقتادة وغيرهما قالوا: إن الله كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان، فغيروا وزاد أحبارهم عليه عشرة أيام، ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يومًا، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع، واختار النحاس هذا القول، وفيه حديث عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر أقوالاً في أن تشبيه صيامنا بصيام السابقين هو في فرضيته وليس في صفته ولا في مدته.
ومن مراجعة كتب التاريخ وأسفار العهد القديم والجديد رأينا أن قدماء اليهود كانوا لا يكتفون في صيامهم بالامتناع عن الطعام والشراب من المساء إلى المساء، بل كانوا يمضون الصيام مضطجعين على الحصا والتراب في حزن عميق.
وفي سفر الخروج أن موسى عليه السلام كان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماءً، وفي إنجيل متى أن المسيح صام أربعين يومًا في البرية.
وجاء في كلام النبي حزقيال أن صيامه كان عن اللحوم وما ينتج عن الحيوان، وكان النبي دانيال يمتنع عن اللحوم وعن الأطعمة الشهية مدة ثلاثة أسابيع، وجاء في الترجمة السبعينية أن داود قال: ركبتاي ضعفتا من الصوم، ولحمي تغير من أكل الزيت.
والذين لا يدينون بدين سماوي كان عندهم صيام كالبراهمة والبوذيين في الهند والتبت، ومن طقوسهم في نوع منه الامتناع عن تناول أي شيء حتى ابتلاع الريق لمدة أربع وعشرين ساعة، وقد يمتد ثلاثة أيام لا يتناولون كل يوم إلا قدحًا من الشاي، وكان قساوسة جزيرة كريت في اليونان القديمة لا يأكلون طول حياتهم لحمًا ولا سمكًا ولا طعامًا مطبوخًا
ــــــــــــــــــــ(1/5)
نظرات نفسية في الصيام
د. محمد كمال الشريف
الصيام والشهوة الجنسية
الصيام وسوء الخلق
أسباب العصبية والغضب
الصيام وانخفاض المزاج
عضات الجوع وبركة السحور
نوم الليل لنمو الهرمونات
الصيام صبر والتزام
الصيام تهذيب نفسي
إذا أردنا أن نبحث في الفوائد النفسية للصيام فلا بد لنا من بحث موضوع الإشباع الفوري، وتأجيل الإشباع للحاجات والرغبات عند الإنسان، فالصيام امتناع عن إشباع بعض رغبات النفس، وبعض حاجات البدن، وذلك من الفجر إلى غروب الشمس؛ ففي الصيام امتناع عن الأكل إذا جعنا، وعن الشرب إذا عطشنا، وعن الاستجابة الفورية لبعض شهواتنا، وفي هذا الامتناع تدريب للنفس على ما سماه علماء النفس "تأجيل الإشباع" والقدرة على تأجيل إشباع الرغبات تميز ما بين الطفل الصغير والبالغ الراشد، وتميز ما بين ناضج الشخصية وقليل النضج فيها.
فالطفل إذا رغب في شيء ألحّ عليك لتعطيه إياه، وتراه قد استحوذ عليه التفكير في هذا الشيء الذي رغب فيه، ولم يبق لديه صبر على الحرمان منه، وكثيرًا ما يبكي الطفل إن لم يحصل على ما رغب فيه على الفور، ومع التقدم في العمر ينضج هذا الطفل من الناحية النفسية، ويصبح أكثر صبرًا على عدم حصوله على ما يلبي رغباته حصولاً فوريًا، لكن ذلك يتفاوت من طفل إلى آخر، وكذلك الكبار يتفاوتون في صبرهم على عدم إشباع رغباتهم إشباعًا فوريًا لا تأجيل فيه، فحتى بعد بلوغ الإنسان رشده يبقى هنالك مكان لمزيد من النضج في الشخصية، ولاكتساب المزيد من القدرة على "تأجيل الإشباع".
إن الصبر على عدم حصول النفس على مشتهاها على الفور جانب هام من جوانب نضج الشخصية الإنسانية؛ ويأتي الصيام في رمضان بمثابة دورة تدريبية سنوية على هذا الصبر، وبمثابة دفعة جديدة نحو المزيد من نضج الشخصية لدى المؤمن، والاستعجال في الحصول على شهوات النفس صفة إنسانية تكون على أشدها، عند من لم يهذبه الإيمان، قال تعالى: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، وقال: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)، وقال أيضًا: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ).
الصيام والشهوة الجنسية
لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معشر الشباب أن يتزوجوا إذا وجد أحدهم الباءة، ومن لم يستطع أوصاه بالصوم، فالصوم جُنة ووجاء، ولكن لا من حيث إن الجوع والعطش يرهقان الجسد، فتقل الرغبة الجنسية عند الصائم، فالصائم يفطر عند الغروب، وعندها يذهب الظمأ وتبتلّ العروق، وتعود للجسم حيويته، وتعود له الرغبة الجنسية، حتى إن بعض الصحابة كانوا يختانون أنفسهم في ليالي رمضان؛ أي يباشرون زوجاتهم ذلك عندما كان الرفث إلى نسائهم محرمًا عليهم في رمضان حتى في الليل، وهذا يرينا أن الصوم لم يضعف الرغبة الجنسية لديهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الأعزب الذي عجز عن الزواج بالصوم، لأن للصوم على ما يبدو فائدة في هذه الحالة بآلية أخرى غير إضعاف الجسد بالجوع والعطش، فالشاب العفّ والشابة العفّة اللذان لا يقعان في الفاحشة وما يزالان عزبين يمكن أن يعانيا من انشغال البال بالأفكار والخيالات الجنسية أو الرومانسية انشغالاً يسمى في العلوم النفسية: "انشغالاً وسواسيًا" فيه تسيطر الخيالات الجنسية والرومانسية على فكر الشاب أو الشابة، وتعطله عن أن يوجه ذهنه في دراسته أو عمله، وهذا الانشغال يقوم في النفس حتى حين لا يكون هنالك مثيرات أمام الشاب أو الشابة، وهو أمر متعب للنفس، ويستحوذ عليها، ويجد الإنسان صعوبة في التخلص منه، وهنا تظهر إحدى فوائد الصيام، فقد لاحظ بعض من حدّثني عن تجربته الشخصية في هذا المجال أن الصوم يقضي على هذا الانشغال الوسواسي بالجنس والعشق، دون أن يقضي على الرغبة الجنسية نفسها، حيث تبقى لدى الصائم القدرة على الاستجابة إلى المثيرات الجنسية، والقابلية للتأثر بها إذا ما تعرض لها، والعامة عادة لا يحبّذون الزواج في رمضان أو قبله مباشرة، لأن العروسين الجديدين يجدان صعوبة بالغة في الامتناع عن أي فعل جنسي أثناء النهار رغم أنهما صائمان، لا يأكلان ولا يشربان، أما العزب الصائم الذي يغضّ بصره ويبتعد عما يثيره يبقى ذهنه حرًا، وغير منشغل بالأمور الجنسية الرومانسية، وبهذا يكون الصوم وجاء له إذا ما اقترن بغض البصر والابتعاد عن دواعي الزنا، كما للصوم أثره في العزب، من حيث هو عبادة مستمرة من الفجر إلى المغرب، والصائم إن نسي للحظات أنه صائم فإنه لا يلبث أن يعود إلى جو العبادة التي يعيشها، وهذا بدوره يجعله أقل رغبة في نظرة لا تحل له، أو غير ذلك مما ينبه الرغبة الجنسية لديه.
الصيام وسوء الخلق
لقد فرض الله علينا الصيام في رمضان ليقربنا إلى التقوى وليدخلنا فيها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وكظم الغيظ والعفو عن الناس من أساسيات التقوى التي يهدف إليها الصيام. قال تعالى معددًا بعض صفات المتقين: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول إن تعرضنا لجهل جاهل علينا، أو سابنا أو شادنا أحد: "إني صائم، إني صائم"؛ وذلك كي نصبر ونملك أنفسنا، فلا نردّ على المسبة بمثلها، ولا ندخل في شجار أو مشادة، فالصائم في عبادة، والعابد وقت العبادة يترفع عن أن يردّ على من يشتمه أو يشاده، وفي رمضان تتحسن أخلاق المتقين، لكن بعضنا يصبح نكد المزاج، ويغضب لأتفه الأسباب، ولا يبدي أي استعداد لتحمل الناس، ولا يقوم على خدمتهم، حتى لو كان ذلك مهنته ووظيفته، فهو صائم ولا صبر لديه، ثم إنه يقل إنتاجه في عمله إلى حد كبير، لأنه كما يقول: صائم! فهل يا ترى يتسبب الصيام بكل هذا؟ وكيف يتسبب بذلك، وكظم الغيظ والعفو عن الناس من أخلاق التقوى وأين الخلل إذن؟
صحيح أن الجوع والعطش قد يجعلان الإنسان عصبي المزاج قليلاً، وذلك إذا اشتدا كثيرًا، وهذا لا ينطبق على الموظف الحكومي الصائم، الذي تبدأ عصبيته وكسله منذ الساعة الثامنة صباحًا، ولا يمكن للصائم أن يحتج بالجوع والعطش منذ الصباح، ليبرر سوء خلقه مع الناس، إن السبب الحقيقي لسوء أخلاق بعض الصائمين في رمضان هو أنهم يجدون العذر والمبرر بأنهم صائمون كي يظهروا أخلاقهم السيئة ويعبروا عنها، ويمارسوها وهم مطمئنون إلى أن المجتمع سيتحمل سوء أخلاقهم، ويغفر لهم ذلك، فهم صائمون، وعلى الناس تحمل طباعهم السيئة، مقابل أنهم تكرّموا علينا فصاموا، وكأنما هم صاموا لنا ولم يصوموا لله، الذي وعد على الصيام ما لم يعد على سواه، إنهم يتبعون أنفسهم هواها، وينصرفون وفق الأخلاق السيئة التي لو أتيح لهم لكانت هي أخلاقهم في الصيام وبعد الصيام.
أسباب العصبية والغضب
لكن هنالك أسبابًا أخرى لعصبية بعض الصائمين وسرعة غضبهم، لعل أهمها أن بعضهم مدمن على التبغ، فهم مدخنون، والمدخن الذي يواظب على التدخين يوميًا ولمدة طويلة يكون في الحقيقة مدمنًا على التبغ، وعندما ينقطع عن التدخين لبضع ساعات يبدأ يعاني من أعراض الحرمان من التبغ الذي اعتادت عليه خلايا دماغه، فيشعر بالعصبية وسرعة الغضب والتململ والصداع، وضعف التركيز وانخفاض المزاج، والقلق وضعف الذاكرة، واضطراب النوم، "وهي أعراض تختفي خلال أسبوع إن بقي ممتنعًا عن التدخين"، وهذه الأعراض ناجمة عن الإدمان على التبغ، وليست ناتجة عن الصيام بحد ذاته، فالشخص الطبيعي الذي لم يدمن شيئًا لا يمر بها إن صام.
كما أن هناك إدمانًا آخر شائعًا بين الناس يتسبب في عصبية بعض الصائمين، وهو الإدمان على الكافايين، وهي المادة المنبِّهة في القهوة والشاي والكولا، والانقطاع المفاجئ عن الكافايين يتسبب إن طالت ساعاته بشعور المدمن بالكسل والنعاس، وفقْد الرغبة في العمل، وبالعصبية وانخفاض المزاج، وإذا بلغ الانقطاع عن الكافايين عند المدمن عليه ثماني عشرة ساعة أو أكثر فقد يصيبه صداع يشمل رأسه كله، ويتميز بأن الألم فيه نابض يشتد مع كل ضربة من ضربات القلب، لذا كان من المفيد لمن أدمن على الكافايين أن يخفف تناوله للقهوة والشاي والكولا تخفيفًا تدريجيًا قبل رمضان، وذلك استعدادًا للصيام، وعليه أن يتناول شيئًا منها عند السحور، حتى لا يعاني من أعراض الحرمان منها أثناء الصيام.
الصيام وانخفاض المزاج
إن من أسباب تعكّر مزاج بعض الصائمين وانخفاض معنوياتهم عند الصيام وجود قدر من القلق النفسي لديهم، والخوف الغامض من أن يعانوا من امتناعهم عن الطعام والشراب، وأن عليهم الانتظار إلى المغرب، وهذا القلق لا داعي له طالما أن الصائم يستطيع أن يفطر متى بلغ به الجهد حدًا لا يطيقه، وله أن يفطر إن أصابه من الألم أو المرض ما يستلزم تناوله للأدوية؛ سواء منها المسكنة للألم أو المعالجة للداء، والرخصة قائمة، والصائم حر في الأخذ بها، طالما أن مرضه لا يشكل فيه الصيام ضررًا على صحته، فالله لم يجعل علينا في ديننا أي نوع من أنواع الحرج، أما إن كان الصيام يؤدي إلى الضرر بسبب المرض الموجود صار الإفطار واجبًا، وليس مجرد رخصة، فعلينا أن نستعين بالله، ونصوم ونحن مرتاحو البال إلى أننا لو بلغت معاناتنا من صيامنا حدًا مؤلمًا فإن الله بنا رحيم، ولنا في رخصته راحة ومخرج؛ وعادة لا يبلغ الجهد بالصائم حدًا يضطره إلى الإفطار إلا في حالات خاصة، كالذي تعرّض للحر، فيعطش عطشًا شديدًا، وكان ضعيفًا وفاته السحور، وآذته عضات الجوع في معدته، وما شابه ذلك من حالات، وحد المشقة والحرج صعب التحديد، إنما هي تقوى المؤمن، فالله عليم بخفايا النفوس، أما أطفالنا فعلينا ألا نشدد عليهم إن لاحظنا أن الجوع أو العطش قد آذاهم، فإن إصرارنا عليهم كي يتموا صومهم قد يولد في نفوسهم الكراهية لهذه العبادة الرائعة، وقد يدفعهم إلى الفطر خلسة، ويتعلموا بذلك الكذب والغش.
ومن أسباب انخفاض المزاج والتكاسل عن العمل في رمضان أن بعض الصائمين ينفقون الليل في السمر والأكل والشرب، حتى إذا اقترب الفجر تسحروا وناموا، لكن الساعات الباقية لهم حتى موعد العمل لا تكفيهم كي يستعيدوا نشاطهم، فيذهبون إلى أعمالهم مرهقين، وتكون ساعات العمل بالنسبة لهم شاقة ومزعجة، وذلك نتيجة نقص النوم، وليس نتيجة للصيام.
عضات الجوع وبركة السحور
الصيام مدخل إلى التقوى وحسن الخلق، والصبر على الناس، والصيام كما أمرنا الله به من الفجر إلى غروب الشمس يجب ألا يوصلنا إلى حالة من الجوع الشديد، الذي يترافق مع عضات الجوع في المعدة، ويصاحبه التوتر النفسي والعصبية، ذلك أن المعدة بعد أن تفرغ من الطعام الذي كان فيها، ويمضي على فراغها عدة ساعات، تبدأ فيها تقلصات شديدة تسمى "انقباضات الجوع"، وتترافق مع الإحساس النفسي بالجوع، وتكون هذه التقلصات في المعدة على أشدها في الشباب والشابات ذوي الصحة الجيدة؛ حيث تكون المعدة لديهم نشيطة، وانخفاض سكر الدم يزيد من انقباضات الجوع هذه كثيرًا، فإذا طال جوع الإنسان صارت انقباضات الجوع مؤلمة، وسميت "عضات الجوع"، وهي تظهر عادة بعد 12 إلى 24 ساعة من آخر وجبة، وهذا يختلف من شخص إلى آخر؛ أما إن كان الجائع في مجاعة واستمر جوعه فإن عضات الجوع تشتد، حتى تبلغ أقصى مدى لها خلال 3 إلى 4 أيام، ثم تضعف بالتدريج في الأيام التالية، حتى لو استمرت المجاعة، ويتلاشى معها الإحساس بالجوع.
إن الجوع هو الإحساس الذي يدعو الكائن إلى تناول الطعام، وقد وجد العلماء في الدماغ مركزًا صغيرًا جدًا إذا ما تنبّه أحس الكائن بالجوع وأقبل على الطعام، وإذا ما حزبه المرض أو استأصله الجراح فإن الحيوان أو الإنسان يفقد الرغبة في الطعام نهائيًا، ويموت جوعًا رغم أن الطعام أمامه.
وحتى لا يبلغ الأمر بنا مبلغ عضات الجوع، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخير الفطر من جهة، فقال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". [رواه البخاري ومسلم]. وحثنا على السحور من جهة أخرى فقال: "تسحروا فإن في السحور بركة". [رواه البخاري ومسلم].
فليست المبالغة في الجوع والعطش هي الغاية من الصوم، إنما المطلوب مجرد الامتناع عن الطعام والشراب وغيرهما من المفطرات من الفجر إلى الغروب، ولو سبق هذا الامتناع وجبة جيدة تعين عليه وتخفف مشقته لما قلل ذلك من ثواب الصائم، بل على العكس فإن السحور يجلب المزيد من الثواب، لأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
نوم الليل لنمو الهرمونات
رمضان شهر القيام، قال صلى الله عليه وسلم : "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
وقد خلق الله النهار لننشط فيه ونبتغي من فضل الله، وخلق الليل لنسكن فيه ونهجع، والنوم نعمة من نعم الله علينا؛ إذ في النوم راحة لجهازنا العصبي، فلو حرم الإنسان من النوم لبضعة أيام فإن عمل الدماغ لديه يضطرب، وفي النوم ترميم لما اهترأ من جسم الإنسان، كما يتم النمو خلاله أيضًا، وخاصة نوم الليل، حيث تزداد الهرمونات التي تنشط النمو والترميم أثناء الليل، وتزداد في النهار بدلاً عنها هرمونات منشطة من أجل العمل والحركة، وفي النهار يغلب معدل الاهتراء في الجسم معدل الترميم والبناء، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، لكن الله أثنى على المتقين بأنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ* كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، وهنا يثور في الذهن تساؤل، لقد اختار الله الليل ليكون وقت الاستغراق في العبادة، لكن هل يكون ذلك على حساب صحة الإنسان العقلية، ونحن نعلم كم هو مفيد نوم الإنسان في الليل؟ والجواب أنه لن يكون ذلك أبدًا، فقد كشفت دراسات الأطباء النفسيين في السنين الأخيرة أن حرمان المريض المصاب بالاكتئاب النفسي من النوم ليلة كاملة، وعدم السماح له بالنوم حتى مساء اليوم التالي هذا الحرمان من النوم له فعل عجيب في تخفيف اكتئابه النفسي وتحسين مزاجه حتى لو كان من الحالات التي لم تنفع فيها الأدوية المضادة للاكتئاب، ثم أجريت دراسات أخرى، فوجدوا أنه لا داعي لحرمان المريض من النوم ليلة كاملة كي يتحسن مزاجه، إنما يكفي حرمانه من نوم النصف الثاني من الليل، لنحصل على القدر نفسه من التحسن في حالته: (كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، إذن لقيام الليل والتهجد في الأسحار جائزة فورية، وهي اعتدال وتحسن في مزاج القائمين والمتهجدين، وفي صحتهم النفسية.
الصيام صبر والتزام
الصيام تدريب على الصبر، فالصوم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم شطر الصبر، والصبر شطر الإيمان، والصبر في جوهره رضاء، فعندما يصبر الإنسان على الصوم فإنه يصوم وهو راضٍ بهذا الصوم، غير متذمر منه ولا حتى في سره، فهو يمتنع عن الطعام والشراب وغيرهما من المفطرات من تلقاء نفسه، يلتزم بذلك من الفجر وحتى الغروب، ولا يحتاج إلى رقيب عليه، وهذا الالتزام بالامتناع عن الطعام والشراب دون مقابل إلا ابتغاء رضوان الله يجعل البقاء دون طعام وشراب هذه الساعات الطويلة أهون بكثير مما لو كان البقاء دون أكل وشرب ناتجًا عن مانع من خارج النفس، كأن يمنعك شخص من الوصول إلى الطعام والشراب؛ ففي هذه الحالة يكون الجوع والعطش أشد، وهذا ما بينتْه الاختبارات النفسية، حيث وجدت أن "الالتزام يغيّر الدافع"، ففي إحدى التجارب حضر الأشخاص الذين ستتم عليهم التجربة دون أن يأكلوا أو يشربوا لعدة ساعات قبل مجيئهم، ثم طلب من بعضهم أن يبقى دون طعام أو شراب فترة أخرى دون أي مقابل مالي أو غير مالي، وذلك بأن يلزموا أنفسهم بذلك، فيكون صومهم التزامًا منهم، وقرارًا اتخذوه بحرية، وإن كان بناءً على طلب من الباحثين، أما باقي الأشخاص المجرب عليهم فلم يطلب منهم الالتزام بالبقاء دون طعام أو شراب، إنما تركوا دون طعام أو شراب، وجعل الأمر يبدو لهم وكأنه غير مقصود، وفي النهاية أجريت على الجميع اختبارات نفسية لمعرفة شدة الجوع والعطش لديهم، فوجد أن الذين التزموا بالامتناع عن الطعام والشراب التزامًا كانوا أقل جوعًا وعطشًا من الذين تمت مماطلتهم بحيث صاموا الساعات نفسها، ولكن دون التزام منهم بذلك، كما تمت معايرة "الحموض الدسمة الحرة" في دمائهم، وهي مواد تزداد في الدم كلما اشتد جوع الإنسان، فوجد أنها كانت أقل ازديادًا عند الذين التزموا بالصيام التزامًا، فالالتزام بالصوم أثّر حتى على رد فعل أجسامهم الفسيولوجي على بقائهم دون طعام أو شراب الساعات الطويلة؛ وفي دراسة أخرى درس العلماء أثر الالتزام على العطش، فوجدوا أن العطش عند من التزم من نفسه بالامتناع عن الماء كان أقلّ حتى في الاختبارات التي تكشف مدى انشغال النفس لا شعوريًا بالعطش، وبالرغبة في الماء.
إن الصبر في الحقيقية التزام ورضاء بالحال التي يضعنا الله فيها، وبالصبر تهون المعاناة وتقلّ، لأن الرضا حتى بالمصيبة يشبه الالتزام بها، كالذي منع نفسه من الطعام والشراب من نفسه، لأنه يريد الصيام لله تعالى، والذي ابتلاه الله بالفقر أو المرض، أو فقد عزيز فصبر، فإنه امتنع عن الشيء الذي حرم منه امتناعًا عن رضا وقناعة، امتناعًا يشبه امتناع الصائم، وإن كان رفضه لهذا الحرمان لا يغيّر شيئًا من الواقع، بخلاف رفض الصائم للصيام؛ إذ يمكن الأكل والشرب، وهذا الامتناع الراضي يكون أقل إيلامًا للنفس، مما لو تلقى المصيبة بتذمر وسخط وغضب.
الصيام تهذيب نفسي
يتفاوت الناس في فضل الله عليهم؛ ففيهم القوي وفيهم الضعيف، وفيهم الغني وفيهم الفقير، وفيهم صاحب الجاه والسلطان، وفيهم الشخص العادي الذي لا سلطان له؛ وعندما يعطي الله من فضله أحدًا أكثر من غيره فإنه قد ينسى أن قدرته وقوته أو غناه أو سلطانه إنما هو فضل من الله، وامتحان واختبار له، أيشكر أم يكفر هذا الفضل، فإذا ما نسي ذلك غرته قدرته وغره ماله، ودعاه ذلك إلى أن يتكبر ويتجبر على الآخرين، ناسيًا قدرة الله عليه، وأن الله هو الجبار، وهو القاهر فوق عباده، وفي رمضان يصوم المؤمن، ويمضي الساعات الطويلة بلا طعام ولا شراب، فيشعر بشيء من الضعف في قوته، ويشعر بالحاجة إلى الطعام والشراب، ويسره أن تغيب الشمس حتى يتمكن من أن يأكل ويشرب من جديد، إن الصائم يستشعر بهذا ضعفه البشري، فيقل اغتراره بقوته، وتتطهر نفسه من نزعة التجبر والعلو في الأرض؛ إذ كيف يتجبر وهو لم يصبر دون طعام وشراب أكثر من ساعات؟. ولعل هذا من الفوائد النفسية الهامة للصيام، لأنه يرجع المغرور إلى الواقع، ويخلصه من عقدة التفوق والعلو التي أفسدت عليه نفسه.
كما أن الصوم بما يترك في نفسية الصائم من إحساس بالضعف والحاجة إلى لقمة طعام، وإلى جرعة ماء، هذا الصوم يجعل للآيات الكريمة، التي وعدت المؤمنين في الجنة الطعام والشراب ضمن ما وعدتهم به من نعيم، ويجعل لها أثرًا كبيرًا في النفس أكبر مما يكون لو أن الإنسان الذي أنعم الله عليه قد أمضى عمره كله دون أن يجوع أو يعطش، فكما أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى فإن الطعام والشراب نعمة من الله، لا يعرف قدرها إلا من جاع وعطش
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــ(1/6)
الفوائد الطبية لصيام رمضان
الدكتور: شريف كف الغزال
أخصائي جراحة تجميل/ بريطانيا
إن هدف صوم رمضان هو استجابة لله عز وجل الذي قال في كتابه الكريم ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) فالصيام فريضة بين العبد وربه تكفل سبحانه وتعالى بالمكافأة عليها كما قال في الحديث القدسي ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا اجزي به ) . ومع ذلك فإن للصيام فوائد صحية كثيرة لا يُغفل عنها، فرمضان هو شهر للتدريب الجسمي والروحي مع الأمل أن يستمر ذلك لما بعد رمضان.
وفي عام 1994 عُقد المؤتمر الأول لفوائد رمضان الصحية في مدينة الدار البيضاء في المغرب ونوقشت فيه حوالي (50) ورقة بحث من مختلف أنحاء العالم ومن قبل علماء مسلمين وغير مسلمين تضمنت كثيرا من الفوائد الصحية لصوم رمضان .
ومن الفوائد الطبية لصيام رمضان:
راحة لجهاز الهضم : رمضان هو فترة راحة للجهاز الهضمي المسؤول عن استهلاك واستقلاب الطعام ، وبالتالي فالكبد أيضا يأخذ فرصة استراحة كونه معمل استقلاب الغذاء الرئيسي في الجسم . ولتحقيق هذه الغاية على المسلمين أن يلتزموا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الإكثار في وجبة الإفطار وقد قال صلى الله عليه وسلم: ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه. وبهذا يُضمن بقاء النشاط وعدم الخمول والاستعداد للتمارين المعتدلة بعد فترة راحة قصيرة ألا وهي صلاة التراويح التي ثبت أن حركة العضلات والمفاصل في كل ركعة تستهلك 10 حريرات. ومن الفوائد الطبية أن يبدأ الإفطار بتناول بعض التمرات ( كما هي السنة النبوية ) فالتمر غني بسكريّ الغلوكوز والفركتوز اللذين لهما فائدة حريرية كبيرة وخاصة للدماغ ، ويفيدان في رفع مستوى السكر في الدم تدريجيا مما يخفف شعور الجوع ويقلل الحاجة إلى كمية اكبر من الطعام .
نقص الوزن المعتدل: خلال الصيام ينقص استهلاك السكريات وبالتالي فإن مستوى سكر الدم ينخفض وهذا يجعل الجسم يعتمد على مخزونه من السكر لحرقه وتأمين الحريرات اللازمة للاستقلاب ، ويأتي مخزون السكر من الكبد بتفكيك مادة Glycogen وكذلك من تحطيم الدهون في النسيج الشحمي لتحويلها إلى حريرات وطاقة لازمة لفعاليات الجسم وهذا بالتالي ينتج عنه نقص معتدل في وزن الجسم ، ولهذا يعتبر الصيام فائدة كبيرة لدى زائدي الوزن ، وحتى لمرضى السكري المعتدل غير المعتمدين على الأنسولين "Stable noninsulin diabetes " .
نقص مستوى كولسترول الدم: أثبتت دراسات عديدة انخفاض مستوى الكولسترول في الدم أثناء الصيام وانخفاض نسبة ترسبه على جدران الشرايين الدموية ، وهذا بدوره يقلل من الجلطات القلبية والدماغية ويجنب ارتفاع الضغط الدموي . ونقص شحوم الدم يساعد بدوره على التقليل من حصيات المرارة والطرق الصفراوية . قالصلى الله عليه وسلم: " صوموا تصحّوا ".
استراحة للجهاز الكلوي : بينت بعض الدراسات أن عدم تناول الماء لحوالي 1012 ساعة ليس بالضرورة سيئ بل هو مفيد في كثير من الأحيان ، فتركيز سوائل الجسم تزداد محدثة تجفافا خفيفا يحتمله الجسم لوجود كفاية من مخزون السوائل فيه ، وطالما أن الشخص لا يشكو من حصيات كلوية فإن هذا يعطي الكليتين استراحة مؤقتة للتخلص من الفضلات، ومع ذلك فالسنة النبوية تقتضي بتأخير السحور والتعجيل في الفطور مما يقلل الفترة الزمنية للتجفاف قدر الامكان . ونقص السوائل يؤدي بدوره لنقص خفيف بضغط الدم يحتمله الشخص العادي ويستفيد منه من يشكو ارتفاع الضغط الدموي .
فوائد تربوية ونفسية: يفيد رمضان في كبح جماح النفس وتربيتها بترك بعض العادات السيئة وخاصة عندما يضطر المدخن لترك التدخين ولو مؤقتا على أمل تركه نهائيا ، وكذلك عادة شرب القهوة والشاي بكثرة . وفوائد رمضان النفسية كثيرة ، فالصائم يشعر بالطمأنينة والراحة النفسية والفكرية ويحاول الابتعاد عما يعكر صفو الصيام من محرمات ومنغصات ويحافظ على ضوابط السلوك الجيدة مما ينعكس إيجابا على المجتمع عموما. قالصلى الله عليه وسلم: " الصيام جُنّة ، فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وان امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم " . وقد أثبتت دراسات عديدة انخفاض نسبة الجريمة بوضوح في البلاد الإسلامية خلال شهر رمضان.
وكلمة أخيرة بخصوص من يعانون مرضا متقدما سواء أكان سكري شديدا أو نقص تروية قلبية أو حصيات كلوية حادة ، فهم مستثنون من صيام رمضان ولهم أن يأخذوا بالرخصة الشرعية ، قال تعالى :".. فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"
المراجع:
1. A. Cott : Fasting is a way of life . New York, 1977.
2. F. Azizi et al. : Evaluation of certain hormones and blood constituents during Ramadan . Nov.1987.
3. S. Athar . Fasting for medical patients. Islamic Horizon. May 1985.
4. S. Athar. Medical aspect of islamic fasting. 1998.
5. J. ElAti. Increased fat oxidation during Ramadan fasting in healthy women. Am J Clin Nutr . Aug 1995.
6. Islamic Medicine site , by : Dr. Sharif Kaf AlGhazal ,http://www.welcome.to/islamic.medicine
- - - - - - - - - - - - - - - -
في ظلال رمضان ...
دعاء اليوم
... الإخلاص
... آثار التقوى
... أمن يجيب المضطر
... طول الأمل
... ألم يأن للذين آمنوا...
... آثار الذنوب
... محبة الله تعالى
... مراقبة الله تعالى
... العبد بين جيوش الدنيا وجيوش الآخرة
... خشية الله تعالى
... البكاء من خشية الله تعالى
... التوبة
... فضيلة التفكر
... في ذكر القبر
... في فضل الصبر
... فضل الشكر
... فضل التوكل
... سعة رحمة الله تعالى
... فضل الرجاء
... ذكر الموت والاستعداد له
... فضل الدعاء
... الاستقامة
... في طعم الإيمان
... في المعنى الإيماني للمسجد
... في فضل الصدق
... آثار الخصومة في القلب
الإخلاص
الإخلاص هو أصل العمل، وبه يُقبل ويتحقق الثواب، فإن حقيقة العبادة أنها سر يتعلق بالقلب، وينبع من الروح، وليست شكلاً يتعلق بالمظهر، قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) وقال جل شأنه: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) وقال: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، وعن أبي موسى قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وأخبرنا صلى الله عليه وسلم عن أن الإخلاص يأتي بالأجر، حتى وإن لم يقوموا بالعمل، فقال: "لقد خلّفتم بالمدينة رجالاً ما قطعتم واديًا، ولا سلكتم طريقًا إلا شَرَكُوكم في الأجر ... حبسهم المرض".
وكان بعض الصالحين يقول: "دلّوني على عمل لا أزال به عاملاً لله تعالى، فقيل له: انوِ الخير، فإنك لا تزال عاملاً وإن لم تعمل".
فالنية تعمل وإن عدم العمل، فإنه من نوى أن يصلي بالليل فنام كتب له ثواب ما نوى أن يفعله.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى، والورع عما حرّم الله تعالى، وصدق النية فيما عند الله تعالى".
وقد عرَف السلف الصالح قيمة النية وصعوبة تحقيقها، فقد قيل لسهل: أي شيء شر على النفس؟ قال: الإخلاص؛ إذ ليس لها فيه نصيب، وقال أبو سليمان: طوبى لمن صحّت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى".
ونبّه ابن المبارك رحمه الله إلى أن العمل بغير إخلاص لا فائدة منه؛ إذ ليس فيه ثواب، فقال: قل لمن لم يخلص ... : لا تتعب.
وذهب ابن الجوزي رحمه الله إلى أبعد من ذلك، فأوضح أن من لم يخلص لن يكمل الطريق إلى ربه سبحانه وتعالى، فقال: إنما يتعثر من لم يخلص.
فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير تحقيق هباء، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا).
وليت شعري.. كيف يصلح عمل بغير نية؟ ولماذا يتعب المرء نفسه في مشقة ليس له فيها إلا الجهد والتعب؟ فلنراجع أعمالنا، ولنصحح نياتنا، ولنتذكر دائمًا.."قل لمن لم يخلص ... : لا تتعب".
ــــــــــــــــــــ(1/7)
آثار التقوى وبشائرها
قال الحارث المحاسبي: "اطلب البر في التقوى"
وفي هذا إشارة إلى أثر عظيم من آثار التقوى، وهو البر، وهي كلمة شاملة لأنواع الخير.
وقد عدّد العلامة الفيروزآبادي في كتابه "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" آثار التقوى وبشائرها التي جاءت في القرآن الكريم، قال رحمه الله تعالى: "وأما البشارات التي بُشِّر بها المتقون في القرآن فهي:
الأولى: البشرى بالكرامات (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
الثانية: البشرى بالعون والنصرة(إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)
الثالثة: البشرى بالعلم والحكمة ) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
الرابعة: البشرى بتكفير الذنوب وتعظيم المتقى بتعظيم أجره(ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)
الخامسة: البشرى بالمغفرة (وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
السابعة: الخروج من الغم والمحنة (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)
الثامنة: رزق واسع بأمن وفراغ (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)
التاسعة: النجاة من العذاب والعقوبة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا)
العاشرة: الفوز بالمراد (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا)
الحادية عشرة: التوفيق والعصمة (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ... )إلى قوله، (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)
الثانية عشرة: الشهادة لهم بالصدق(أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
الثالثة عشرة: بشارة الكرامة والإكرامية (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
الرابعة عشرة: بشارة المحبة(إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)
الخامسة عشرة: الفلاح (وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولعل من الله واجبة
السادسة عشرة: نيل الوصال والقربة (وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ )
السابعة عشرة: نيل الجزاء بالجنة(إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
الثامنة عشرة: (قبول الصدقة (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)
التاسعة عشرة: الصفاء والصفوة (فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)
العشرون: كمال العبودية (اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (
الحادية والعشرون: الجنات والعيون (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ )
الثانية والعشرون: الأمن من البلية (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)
الثالثة والعشرون: عز الفوقية على الخلق (وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
الرابعة والعشرون: زوال الخوف والحزن من العقوبة (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
الخامسة والعشرون: الأزواج الموافقة ]إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا* حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا*وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا)
السادسة والعشرون: قرب الحضرة واللقاء والرؤية ]إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)
فما أكثر غنائم التقوى.. وما أغنم المتقين
فاحرص أن تكون منهم.
قال الشاعر:
تَزوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فإنَّك لا تدْرِي ... إذا جَنَّ لَيْلٌ: هل تَعِيشُ إلى الفَجْرِ
فكَم من فتىً أمْسَى وأَصْبَحَ ضاحِكًا ... وقَدْ نُسِجَتْ أكْفانُهُ وَهُوَ لا يَدْرِي
وكَم مِّن صِغارٍ يُرْتَجَى طُولُ عُمْرِهِم ... وقَدْ أُدْخِلَتْ أَجْسادُهُم ظُلْمَةَ القَبْرِ
وكم مِّن عَروسٍ زَيَّنُوها لِزَوْجِها ... وقَدْ قُبِضَتْ أَرْواحُهم لَيْلَةَ القَدْرِ
وكَم مِّن صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ ... وكم مِّن سَقيمٍ عاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ
فعليك بالتقوى يجعل الله لك مخرجا ويرزقك من حيث لا تحتسب
ــــــــــــــــــــ(1/8)
أمَّنْ يجيب المضطر؟
قال الحارث المحاسبي في كتابه "رسالة المسترشدين": "وراع همك بمعرفة قرب الله منك، وقم بين يديه مقام العبد المستجير تجده رؤوفًا رحيمًا"
وما أسرع إجابته وما أشد عونه لمن وقف بين يديه مستجيرًا به ليس في قلبه إلا الله تعالى.
نقل الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى في سورة النمل (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ): نقل عن الحافظ بن عساكر الدمشقي قال :"كان رجل مكارٍ على بغل له أي يركب الناس على بغل له للسفر بالأجرة يكاري به من دمشق إلى الزبداني، فركب معه ذات يوم رجل قال: فمررنا على بعض الطريق عن طريق غير مسلوكة.
فقال لي الرجل: خذ في هذه الطريق فإنها أقرب، فقلت له: لا خبرة لي بها، فقال: بل هي أقرب. فسلكناها، فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق به قتلى كثيرون، فقال لي الرجل: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه، وسلّ سكينًا معه وقصدني من بين يديه فهربت، وتبعني فناشدته الله، وقلت له: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك، فخوفته بالله تعالى والعقوبة منه، فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه، وقلت له: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين، فقال: لك ذلك وعجل، فقمت أصلي، فارتج عليّ أي ذهب عني كل ما أحفظه من القرآن، فلم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول لي: هيا افرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي، وبيده حربة فرمى بها الرجل، فما أخطأت فؤاده فخرّ صريعًا، فتعلقت بالفارس، وقلت له: بالله من أنت؟ فقال: أنا عبد "من يجير المضطر إذا دعاه ويكشف السوء"، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالمًا.
فسبحان من يجير ولا يجار عليه.
قال صاحب الظلال في معنى الآية:
فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأً إلا الله، يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء؛ ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد، وينظر الإنسان حواليه، فيجد نفسه مجردًا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص، لا قوته ولا قوة في الأرض تنجده، وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلَّى، وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكَّر له أو تولى، في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان فد نسيه من قبل في ساعات الرخاء، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه هو وحده دون سواه، يجيبه ويكشف عنه السوء ويردّه إلى الأمن والسلامة، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق.
والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء وفترات الغفلة، يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة، فأما حين تلجئهم الشدة ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين.
والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل، ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ)، فمن يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولاً ثم جعلهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل؟ أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في الأرض، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها، والنواميس التي تجعل الأرض لهم قرارًا، والتي تنظم الكون كله، متناسقًا بعضه مع بعض، بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروف المساعدة للحياة.
ولو اختلّ شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلاً.
إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق، فمن الذي حقّق وجودها وأنشأها، من؟ (أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ).
إنهم لينسون ويغفلون، وهذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس مشهودة في واقع الحياة، (قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ)، ولو تذكَّر الإنسان وتدبَّر مثل هذه الحقائق لبقي موصولاً بالله صلة الفطرة الأولى، ولما غفل عن ربه، ولا أشرك به أحدًا.
فسبحانك يا ربي.. ما أعظمك.. نلجأ إليك.. ونسألك كشف السوء عنا وعن المسلمين
ــــــــــــــــــــ(1/9)
طول الأمل
حذّرنا ربنا كثيرًا من طول الأمل، ونبَّهَنا إلى أن الموت يأتي بغتة، قال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ* أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
وحذّرنا كذلك من أن تلهينا أموالنا وأولادنا عن ذكر الله، قال جل شأنه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ* وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ* وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وقد ورد الشرع بالحث على قصر الأول وعلى العمل والمبادرة إليه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" وقال عمر رضي الله عنه: "التؤدة في كل شيء خير، إلا ما كان من أمر الآخرة" وكان الحسن رضي الله عنه يقول: "عجبًا لقوم أُمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، وهم قعود يلعبون".
وقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".
وعن أبي زكريا التيمي قال: "بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام إذ أُتي بحجر منقوش، فطلب من يقرؤه، فإذا فيه: ابن آدم، لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك الولد والنسب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة".
وقال ابن قدامة: "الإنسان مشغول بالأمانيِّ الباطلة، فيمنِّي نفسه أبدًا بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفًا على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه، فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له سوّف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال: "إلى أن يصير شيخًا، وإن صار شيخًا قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السَّفرة، فلا يزال يسوّف ويؤخِّر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج يؤخِّر يومًا بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تختطفه المنيّة في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته.
وكان حامد القيصري يقول: كلُّنا قد أيقن الموت، وما نرى له مستعدًا!، وكلنا قد أيقن بالجنة، وما نرى لها عاملاً!، وكلنا قد أيقن بالنار، وما نرى لها خائفًا!، فعلام تفرحون؟! وما عسيتم تنتظرون؟!.. الموت؟! فهو أول وارد عليكم من أمر الله بخير أو بشرّ، فيا إخوتاه، سيروا إلى ربكم سيرًا جميلاً.ورحم الله أبا العتاهية، ما أفقهه حين قال:
نُح على نفسك يا مسكين ... إنْ كنتَ تنوحُ
لستَ بالباقي ولو عُمِّرْتَ ... ما عَمِّر نوح
فماذا عسانا ننتظر؟ الموت: أول وارد علينا؟! فلنسر إلى ربنا سيرًا جميلاً
ــــــــــــــــــــ(1/10)
ألم يأن؟؟
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ* اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
عتاب مؤثِّر من المولى الكريم الرحيم، عتاب فيه الودّ، وفيه الحضّ، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق؛ من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام.
إن هذا القلب البشري سريع التقلب سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور ويرف كالشعاع، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكُّر تبلَّد وقسا وانطمست إشراقته وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطَّرْق عليه حتى يرق ويشف، ولا بد من اليقظة الدائمة كيلا يصيبه التبلد والقساوة. ولكن.. لا يأس من قلب خمد وجحد وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدبّ فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار، وكذلك القلوب حين يشاء الله ... (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا).
ويروي مالك بن دينار رحمه الله فيقول: "كنت رجلا من الشُّرَط أي أعمل في الشرطة قاسي القلب، شاربًا للخمر، عاصيًا لله تعالى، سليط اللسان، إلى أن رزقني الله ببنت مثل فلقة القمر، كنت أرقبها وهي تشبّ وتكبر، وحين أعود كل ليلة أجدها تنتظرني لتلعب معي وتجري هنا وهناك، حتى عدت في أحد الأيام لأجدها عليلة مريضة، ثم ما لبث أن اشتد مرضها حتى ماتت، فأصابني هم شديد وحزن عميق، ولم أدر ماذا أفعل فأخذت أشرب الخمر لأهرب من تذكرها، حيث كل مكان في البيت يذكرني بها، هنا كانت تلعب، وهناك جلست لتأكل، وجدران البيت تردد ضحكاتها، إلى أن استبد بي التعب والحزن يومًا، فرحت في نوم عميق، فرأيت نفسي في فضاء رحب واسع، والناس من حولي يجرون في فزع وخوف، فنظرت خلفي فإذا وحش عظيم مخيف يجري نحوي يريد الإمساك بي، فأخذت أجري وأجري أبحث عن مكان ألجأ إليه، فوجدت قصرًا عظيمًا جميلاً، فجريت نحوه أبغي الاختباء فيه، فإذا في شرفة من شرفاته تجلس ابنتي والنور بادٍ في وجهها، فلما رأتني صرخت وقالت: أبتاه، ثم مدت يدها وأخذتني فأجلستني إلى جانبها، ثم تبسمت وقالت: يا أبتاه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، يا أبتاه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، يا أبتاه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) يقول مالك: فقمت فزِعًا من نومي، فإذا المؤذن يؤذِّن للفجر، فاستغفرت الله، وتبت إليه، ثم قمت فاغتسلت، وذهبت لأصلي الفجر خلف الإمام الشافعي، فإذا به يقرأ في الصلاة: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، فأخذت دموعي تنهمر، وأحسست بعظم ذنبي، وبفضل الله عليَّ ورحمته وحلمه، وشعرت بأن الله يخاطبني ويذَكّرني، ثم بعد انقضاء الصلاة، استدار الإمام الشافعي، ثم بدأ يقول: "يقول تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، ويأني: مشتقة من الآن، فالآن.. الآن توبوا، الآن.. الآن إلى الإيمان، الآن.. الآن إلى الخشوع، فاستغفرت الله وحمدته وعزمت على ألا أعصيه، وأقبلت على مجالس العلم، وأصبحت إنسانًا رقيقًا طيب الخلق بعد أن أحاطني الله برحمته وحلمه.
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) بلي، يا ربِّ قد آن لنا أن تخشع قلوبنا، وآن لنا أن نتوب.. نقف ببابك.. نرجو رحمتك وعفوك.. نتشرف أنا عبادك.. يا حليم.. يا غفار.. يا أرحم الراحمين
ــــــــــــــــــــ(1/11)
آثار الذنوب
حدّثنا ربنا سبحانه وتعالى كثيرًا عن آثار الذنوب، وتأثيرها على الأمم والأفراد في آن واحد، قال تعالى: )وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)، وقال تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ* فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ* لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ)، وقال عز وجل: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ* أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، وقال جل شأنه: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا* فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا).
وفهِم فِعلَ الذنوب بالأمم الصحابيُّ الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه حين أخذ الناس يجرون فرحين بفتح قبرص، وإذا بأبي الدرداء ينتحي جانبًا وهو يبكي، فأقبل عليه أحد المسلمين قائلاً: أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام والمسلمين؟! فقال أبو الدرداء: "إلَيكَ عنِّي، فإنَّما هي أُمَّةٌ قاهرةٌ قادرةُ، إذْ عصَتْ أمرَ ربِّها، فصيَّرها إلى ما ترى".
نعم.. هكذا تفعل الذنوب بالأمم، وهذا هو فعلها في الشعوب، هذا ما فهمه نبي الله صالح عليه السلام حين خاطب قومه: )قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ).
وقد وازن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما بين آثار الحسنات والسيئات على ظاهر الإنسان وباطنه، فقال: "إن للحسنة نورًا في القلب، وزينًا في الوجه، وقوة في البدن، ورحبة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وشَيْنًا في الوجه، ووهَنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبَغْضةً في قلوب الخلق".
وقال ابن القيم رحمه الله: "الذنوبُ جراحاتٌ، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقْتَلٍ، وما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ من قسوةِ القلبِ والبعدِ عن اللهِ، وأبعدُ القلوبِ عن الله القلبُ القاسي" ورحم الله أبا العتاهية حين تخيل لو أن للذنوب رائحة كريهة تفوح فتفضح المذنب كيف يكون حالنا؟ وكيف أن الله قد أحسن بنا إذ جعل الذنوب بلا رائحة. فقال:
أحسَنَ اللهُ إليْنا ... أنَّ الخَطايا لا تَفوح
فإذا المرْءُ منَّا ... بين جَنبيْه فُضُوح
وقال الحارث المحاسبي رحمه الله: "اعلَمْ يا أخي أنَّ الذُّنوبَ تورِثُ الغَفْلةَ، والغفلةُ تورِثُ القسوةَ، والقَسوةُ تورِثُ البعدَ من اللهِ، والبعدُ منَ اللهِ يورثُ النارَ، وإنما يتفكَّرُ في هذا الأحياءُ، وأما الأمواتُ فإنَّهم قد أَماتُوا أنفسَهم بحُبِّ الدُّنْيا". وصدق من قال:
رأيتُ الذُّنوبَ تُميتُ القلوبَ ... وقد يُورِثُ الذلَّ إدمانُها
وترْكُ الذُّنوبِ حياةُ القلوبِ ... وخَيْرٌ لنفْسِك عِصْيانُها
فلننظر إلى أنفسنا: هل نحن من الأحياء أم من الأموات؟.. ومن ينصرنا من الله إن عصيناه؟ كما قال نبي الله صالح عليه السلام.
فهل تريد القلب الحي، ونور الوجه، وقوة البدن، وسعة الرزق، وحب الناس؟؟ ... فقد عرفت الطريق
ــــــــــــــــــــ(1/12)
محبة الله تعالى
قال الحارث المحاسبي رحمه الله:
المحبةفي ثلاثة أشياء لا يسمى المحب محبًا لله عز وجل إلا بها:
محبة المؤمنين في الله عز وجل وعلامة ذلك: كف الأذى عنهم، وجلب المنفعة إليهم.
ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل وعلامة ذلك اتباع سنته، قال الله جل ذكره (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه)ُ
ومحبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية، ويقال: ذكر النعمة يورث المحبة.
وللمحبة أول ووسط وآخر:
فأولها: محبة الله بالأيادي والمِنن ،قال ابن مسعود رضي الله عنه: جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها. ومن أحسن من الله مهدًا ورحمة ورأفة وتجاوزًا إلا الله الحليم الكريم؟
ووسطها: الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، بحيث لا يفقدك فيما أمرك، ولا يجدك فيما نهاك عنه، فإذا وقعت المخالفة ذهب الاعتراف بها والانقلاب عنها في الحين.
وأعلاها: المحبة لوجوب حق الله عز وجل، قال علي بن الفضيل رحمة الله عليه:
إنما يُحَبُّ الله عز وجل لأنه هو الله.
وقال رجل لطاووس: أوصني؟ قال: أوصيك أن تحبَّ الله حبًا حتى لا يكون شيء أحب إليك منه، وخفه خوفًا حتى لا يكون شيء أخوف إليك منه، وارج الله رجاء يحول بينك وبين ذلك الخوف، وارض للناس ما ترضى لنفسك، قم فقد جمعتُ لك علم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
* قال العلامة الفيروزآبادي رحمه الله تعالى في "بصائر ذوي التمييز" الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى:
1 ... ... قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه والتفطن لمراد الله منه.
2 ... ... التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
3 ... ... دوام ذكره سبحانه على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيب المحب من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
4 ... ... إيثار محابّه سبحانه على محابّك عند غلبات الهوى.
5 ... ... مطالعة القلب لأسمائه سبحانه وصفاته ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عَرفَ الله بأسمائه وصفاته وأفعاله: أحبه لا محالة.
6 ... ... مشاهدة برّه وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
7 ... ... وهو من أعجبها: انكسار القلب بكلّيته بين يديه.
8 ... ... الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي أي وقت التجلي الإلهي وهو في الأسحار قبل الفجر لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقالب والقلب بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
9 ... ... مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم وأن لا يتكلم أي المحب إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعَلِمَ أن فيه مزيدًا لحاله.
10 ... ... مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل
فمن هذه الأسباب وصل المحبّون إلى منازل المحبة"
وصدق من قال:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في الفعال شنيعُ
لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَه ... إن المحبَّ لمن يُحبُّ مطيعُ
فأحبوا الله لأنه الله.. عز وجل
ــــــــــــــــــــ(1/13)
مراقبة الله تعالى
قال الحارث المحاسبي: "والمراقبة في ثلاثة أشياء"
مراقبة الله في طاعته بالعمل، ومراقبة الله في معصيته بالترك، ومراقبة الله في الهمّ والخواطر.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ومراقبة العبد لله عز وجل أشد تعبًا على البدن من مكابدة قيام الليل وصيام النهار وإنفاق المال في سبيل الله.
وقد ذُكِر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: إنّ لله في أرضه آنية، وإنّ من آنيته فيها القلوب، فلا يقبل منها إلا ما صفا وصلب ورق.
وقال الإمام ابن القيم: فهي أوانٍ مملوءة من الخير، وأوانٍ مملوءة من الشر. وكما قال بعض السلف: "قلوب الأبرار تغلي بالبر، وقلوب الفجار تغلي بالفجور".
ومعنى ذلك أن صفاء القلب لله عز وجل باتباع أمره ونهيه، ومشاهدة الصدق والإشفاق وصفاءه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقبول ما أتى به قولاً وعملاً ونية، وصفاءه للمؤمنين بكف الأذى وإيصال النفع.
وأما قوله: "وصلب" فمعناه: قوي في إقامة الحدود لله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله: "ورقَّ" فالرِّقةَّ على وجهين: رقَّةٌ بالبكاء، ورقَّةٌ بالرأفة.
وقد كان يزيد بن مرثد أحد التابعين البررة كثير البكاء، فقال له تلميذه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: "ما لي أرى عينك لا ترفأ؟ فقال: وما مسألتك عنه؟ قال: فقلت له: عسى الله أن ينفعني به قال: يا ابن أخي، إن الله عز وجل توعَّدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار. والله لو لم يتوعدني إلا أن يسجنني في حمّام لكنت حَرِيّاً أن لا تجفَّ لي عين" رضي الله عنه، وأقر عينه برضوانه
ــــــــــــــــــــ(1/14)
العبد بين جيوش الدنيا وجيوش الآخرة
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع، فافترقوا فرقتين: فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.
وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا، وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرَّعنا إليك وذكرناك، فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزَّقه عليهم الموت صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين كما إن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم، فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل منهما ومع من تقاتل؛ إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين فأنت مع أحدهما لا محالة فالفريق الأول استغشوا الهوى فخالفوه، واستنصحوا العقل فشاوروه، وفرَّغوا قلوبهم للفكر فيما خُلِقوا له، وجوارحهم للعمل بما أُمِروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها، واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها، فعجّل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها أن آنسهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوَّقهم إلى لقائه، ونعَّمهم بقربه، وفرَّغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا، والهمّ والحزن على فَوْتها، والغمّ من خوف ذهابها فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم
ــــــــــــــــــــ(1/15)
خشية الله تعالى
لقد جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرحمة والعلم والرضوان وهي مجامع مقامات أهل الجنات، قال تعالى: "هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُون" (الأعراف:154) ، وقال تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء"(فاطر:28) ، وقال عز وجل: "رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ"(البينة:8) وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم، قال تعالى :حاكيا عن أهل الجنة :"وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ25 قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ26 فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ 27 إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيم"(الطور) فقوله: "مشفقين" أي خائفين من عصيان الله تعالى معتنين بطاعته، وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْب ِلَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ"(تبارك:12) وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ 57 وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 58 وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ 59 وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 60أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون"(المؤمنون)، وسألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية الرسول صلى الله عليه وسلم: أهُمُ الذين يشربون الخمر و يزنون ويسرقون، فقال: "لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات".
قال الحسن رحمه الله: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن تُرَدَّ عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلاً حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله، إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا وأوقدوا فيه نارًا، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت، فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يوماً راحاً فاذروه في اليم ففعلوا، فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك قال: من خشيتك فغفر الله له ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة " فقوله أدلج أي سار من أول الليل، والمعنى أن من خاف الزمه الخوف السلوك إلى الآخرة والمبادرة بالأعمال الصالحة خوفًا مما يقطعه عنها.
قال الحسن البصري رحمه الله : إن المؤمنين قوم ذلت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهم والله الأصحاء، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة فقالوا : الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن ، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس ، ولا تعاظم في قلوبهم شيء طلبوا به الجنة، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمه في غير مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه .
ومن تأمل حال السابقين وجدهم في غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن، فكلما ازداد علم العبد بالله عز وجل وبنفسه ازداد خوفه وعمله، وكلما ازداد جهله بربه وبنفسه ازداد أمنه وتفريطه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في الصلاة يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل أي صوت البكاء وهذا الصديق رضي الله عنه يقول: { وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن } ، وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل ، وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه قرأ سورة الطور حتى بلغ: "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ" (الطور:7)، بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه، وقال لابنه وهو يموت: ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني، ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر لي (ثلاثا)، ثم قضى نحبه، وكان يمر بالآية في ورده بالليل تخيفه فيبقى في البيت أياما يُعاد؛ يحسبونه مريضا. وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء، وقال له ابن عباس: مَصَّرَ الله بك الأمصار وفتح بك الفتوح وفعل وفعل، فقال: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر. وهذا عثمان بن عفان رضى الله عنه: كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتل لحيته، وقال : لو أنني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير. وكان يزيد بن حوشب يقول محدثا بما كان يراه من صلاح القوم وخوفهم: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأنَّ النار لم تخلق إلا لهما.
أخي :هل تخاف الله ؟
قبل أن تجيب: اسمع ما يقول لك الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا قيل لك: هل تخاف الله ؟ فاسكت، فإنك إن قلت: نعم، كذبت، وإن قلت: لا، كفرت.
وكان أبو ذر رضي الله عنه يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما أكلتم طعاما على شهوة، ولا شربتم شرابا على شهوة، ولا دخلتم بيتا تستظلون به، ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم، ولوددت أني شجرة تقطع ثم تؤكل.
نسأل الله عز وجل أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا و بين معصيته، وأسأله سبحانه أن يرزقنا خشيته في السر والعلن ، وأسأله سبحانه أن يجعلنا من الآمنين يوم الخوف والفزع "يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ 36 لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ"(عبس)، وممن يُنادَوْن في ذلك اليوم العظيم: "ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ"(الأعراف:49)
ــــــــــــــــــــ(1/16)
البكاء من خشية الله تعالى
عَن أبي مَسعودٍ رضي اللَّه عنه قالَ: قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "اقْرَأْ علَّي القُرآنَ" قلتُ: يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟، قالَ: " إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: { فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً } قال: " حَسْبُكَ الآن" فَالْتَفَتَّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ. متفقٌ عليه.
وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: " لاَيَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع، وَلا يَجْتَمعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّه ودُخانُ جَهَنَّمَ" رواه الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .
وعنه قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:" سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ، فَقَالَ : إِنّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" متفقٌ عليه .
وعَن عبد اللَّه بنِ الشِّخِّيررضي اللَّه عنه قال: أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
وعن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال:" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا"، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، وفي رواية : بلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: "عرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين، والخنين: هو البكاء مع غنّة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ابكوا فان لم تبكوا فتباكوا، فوالذى نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه، أخي الحبيب: بكى معاذ رضي الله عنه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك؟ قال: لأن الله عز وجل قبض قبضتين واحدة في الجنة والأخرى في النار، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون، وبكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني الله غداً في النار ولا يبالي.
وكان بعض الصالحين يبكي ليلاً ونهاراً، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن الله تعالى رآني على معصية ، فيقول : مُرَّ عنى فإني غضبان عليك، ولهذا كان سفيان يبكي ويقول : أخاف أن أسلب الأيمان عند الموت ، وهذا إسماعيل بن زكريا يروي حال حبيب بن محمد وكان جارا له، يقول: كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه، فأتيت أهله، فقلت ما شأنه ؟ يبكي إذا أمسى، ويبكي إذا أصبح؟! قال: فقالت لي: يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح و إذا أصبح أن لا يمسي.
لقد كان السلف كثيرو البكاء والحزن، فحين عوتب يزيد الرقاشى على كثرة بكائه، وقيل له: لو كانت النار خُلِقتْ لك ما زدت على هذا ؟! قال: وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن و الإنس؟؟ وحين سئل عطاء السليمي: ما هذا الحزن قال: ويحك، الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي وعلى جسر جهنم طريقي لا أدري ما يُصنَع بي. وكان فضالة بن صيفي كثير البكاء، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه؟ قالت: زعم أنه يريد سفراً بعيداً وماله زاد، وانتبه الحسن ليلة فبكى، فضج أهل الدار بالبكاء، فسألوه عن حاله فقال: ذكرت ذنبا لي فبكيت، وعن تميم الداري رضى الله عنه أنه قرأ هذه الآية: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات" فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي، وكان حذيفة رضي الله عنه يبكي بكاءً شديداً، فقيل له: ما بكاؤك؟ فقال: لا أدري على ما أقدم، أعلى رضا أم على سخط؟ وقال سعد بن الأخرم : كنت أمشي مع ابن مسعود فمَّر بالحدَّادين و قد أخرجوا حديدا من النار فقام ينظر إلى الحديد المذاب ويبكي. وما هذا البكاء إلا لعلمهم بأن الأمر جد والحساب قادم ولا يغادر صغيره ولا كبيره إلا أحصاها.
فيا أخي :
امنع جفونك أن تذوق مناما ... وذَرِ الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب ... يا من على سخط الجليل أقاما
لله قومٌ أخلصوا في حبه ... فرضى بهم واختصهم خداما
قومٌ إذا جن الظلام عليهم ... باتوا هنالك سجداً و قياما
فاحفظ عينيك أخي الحبيب من النار بكثرة البكاء من خشية الله تعالى
ــــــــــــــــــــ(1/17)
التوبة
اعلم أن الذنوب حجاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب، وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم.. فإنه من لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب، لم يندم عليها، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع.
وقد أمر الله تعالى بالتوبة فقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا" وقال عز وجل: " إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة".
وقال صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح".
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها".
والأحاديث في هذا كثيرة، والإجماع منعقد عن وجوب التوبة، لأن الذنوب مهلكات مبعدات عن الله تعالى"، والتوبة واجبة على الدوام، فإن الإنسان لا يخلو من معصية، وقد حثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى التوبة فقال: "بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو رضًا مفسدا، أو هرمًا مفندا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر".
وقال عليه الصلاة والسلام: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ".
والتوبة تمحو الخطايا فقد قال صلى لله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". وهي عبارة عن ندم يورث عزمًا وقصدًا، ولتمامها علامة، ولدوامها شروط، فعلامة صحة الندم:
رقة القلب، وغزارة الدمع: وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة".
الجهد في الطاعة: فإنه لما تطهر من الذنوب سطع في قلبه نور الطاعة وأطال المناجاة وأقبل على الله.
الحزن والخوف: فمرة يذكر ما كان فيخشى العقاب، ومرة يذكر ما فاته فيزداد ألمًا وحسرة.
الشكر والرجاء: شكر الله تعالى على فضله إذ وفقه للتوبة، ورجاء قبولها.
وأما علامة العزم والقصد: فالعزم على عدم العودة إلى الذنوب ثانية، بأن يعقد مع الله عقدًا مؤكدًا ويعاهده بعهد وثيق ألا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها، وقصد الله تعالى بأن يعينه على التوبة وعدم ارتكاب الذنوب.
ومتى تاب الإنسان قبل الله منه التوبة مهما تعاظمت ذنوبه، وَعَنْ أبي نُجَيْد عِمْرانَ بْنِ الحُصيْنِ الخُزاعيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرأَةً مِنْ جُهينةَ أَتَت رَسُولَ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا ، فقَالَتْ : يَا رسول الله أَصَبْتُ حَدّاً فأَقِمْهُ عَلَيَّ ، فَدَعَا نَبِيُّ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَليَّهَا فَقَالَ :" أَحْسِنْ إِليْهَا ، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي" فَفَعَل،َ فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُها ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فرُجِمتْ ، ثُمَّ صلَّى عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ، قَالَ : "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْن سبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لوسعتهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنفْسهَا للَّهِ عَزَّ وجَل؟"،وقال الفضيل: قال الله تعالى: "بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قُبِلَتْ منهم".
اللهم تب علينا واغفر لنا ولا تحرمنا من سترك لنا في الدنيا والآخرة
ــــــــــــــــــــ(1/18)
فضيلة التفكر
قد أمر الله تعالى بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى، وأثنى على المتفكرين، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
وعن عطاء قال: انطلقت يومًا أنا وعُبيد بن عُمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عُبيد، ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زُرْ غبًا تزدد حبًا"،قال ابن عُمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبكت، وقالت: كل أمره كان عجبًا؛ أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال: "ذريني أتعبد لربي عز وجل، "فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي، فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله تعالى عليَّ في هذه الليلة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ)، ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
* وعن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
* وعن الفضيل قال: الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
* وكان لقمان يُطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان، إنك تُديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك. فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة.
فانظر إلى الملكوت لترى عجائب العز والجبروت ولا تظن أن معنى النظر إلى الملكوت أن تمدَّ البصر إليه فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتفرقها؛ فإن البهائم تشاركك في هذا النظر. فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله تعالى إبراهيم بقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (لا بل كل ما يُدْرَك بحاسة البصر فالقرآن يُعبِّر عنه بالمُلك والشهادة وما غاب عن الأبصار فيعبر عنه بالغيب والملكوت، والله تعالى عالم الغيب والشهادة وجبار المُلك والملكوت، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ)،فارفع الآن رأسك إلى السماء، وانظر فيها وفي كواكبها وفي دورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها،وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم
ــــــــــــــــــــ(1/19)
في ذكر القبر
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار".
وروي أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول القبر للميت حين يوضع فيه: ويحك يا ابن آدم! ما غرك؟! ألم تعلم أني بيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود؟".
وروى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاه، فرأى ناسًا كأنهم يكثرون، فقال: "أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى، فأكثروا ذكر هادم اللذات الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا يتكلم فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبًا وأهلاً، أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي، فإذ وليتك اليوم وصرت إلي، فسترى صنعي بك، فيتسع له مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحبًا ولا أهلاً، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي، فإذا وليتك اليوم، وصرت إلي، فسترى صنيعي بك، قال: فيلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار".
وقال كعب: إذا وضع الرجل الصالح في قبره، احتوشته أعماله الصالحة: الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والصدقة. وقال: وتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة: إليكم عنه فلا سبيل لكم عليه، فقد أطال بي القيام لله عز وجل، قال: فيأتونه من قبل رأسه، فيقول الصيام: لا سبيل لكم عليه فقد أطال بي الصيام. قال: فيأتونه من قبل جسده، فقول الحج والجهاد: إليكم عنه، فقد أنصب نفسه، وأتعب بدنه، وحج وجاهد لله عز وجل، لا سبيل لكم عليه. فيأتونه من قبل يديه، فتقول الصدقة: كم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وضعت في يد الله ابتغاء وجهه، فلا سبيل لكم عليه. قال: فيقال له: هنيئًا طبت حيًا، وطبت ميت.قال: وتأتيه ملائكة الرحمة، فتفرشه فراشًا في الجنة ودثارًا من الجنة، فيفسح له في قوة مد بصره، ويؤتى بقنديل من الجنة يستضيء بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره.
وعن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله عز وجل به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا. وأما الفاجر أو المنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ، ثم يضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين" أخرجاه في الصحيحين.
وفيهما من حديث أسماء بنت أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قال قريبًا من فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله.." وذكر باقي الحديث.
وعن ابن عباس قال: لما أخرجت جنازة سعد بن معاذ وسوينا عليها، التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما من أحد من الناس إلا وله ضغطة في قبره، ولو كان منفلتًا منها أحد لانفلت سعد بن معاذ". وذكر باقي الحديث.
وعن عبد الله الصنعاني قال: رأيت يزيد بن هارون في المنام بعد موته بأربع ليال، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: تقبل مني الحسنات، وتجاوز عني السيئات. قلت: وما كان بعد ذلك؟ قال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم، غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة، قلت: بم نلت الذي نلت؟ قال: بمجالس الذكر، وقولي الحق، وصدقي في الحديث، وطول قيامي في الصلاة، وصبري على الفقر، قلت: منكر ونكير حق؟ قال: أي والله الذي لا إله إلا هو، لقد أقعداني وسألاني: من ربك؟ وما دينك، ومن نبيك؟ فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب، وقلت: مثلي يسال؟ أنا يزيد بن هارون الواسطي، كنت في دار الدنيا ستين سنة أُعلِّم الناس؟ فقال أحدهما: صدق، هو يزيد بن هارون، نم نومة العروس، فلا روعة عليك بعد اليوم.
وقال المروزي: رأيت أحمد بن حنبل في النوم في روضة، وعليه حلتان خضروان، وعلى رأسه تاج من النور، وإذا هو يمشي مشية لم أكن أعرفها له، فقلت: يا أحمد! ما هذه المشية التي لم أكن أعهدها لك؟ فقال: هذه مشية الخدام في دار السلام. فقلت: وما هذا التاج الذي أراه على رأسك؟ فقال: إن ربي عز وجل أوقفني وحاسبني حسابًا يسيرًا، وكساني وحباني وقربني، وأنا أنظر إليه، وتوجني بهذا التاج وقال لي: يا أحمد! هذا تاج الوقار توجتك به، كما قلت: القرآن كلامي غير مخلوق
ــــــــــــــــــــ(1/20)
في فضل الصبر
ذكر الله تعالى الصبر في القرآن الكريم في نحو من تسعين موضعًا، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات، وجعلها ثمرة له، فقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) وقال: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ) قال عز وجل: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).
فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، وقد وعد الله الصابرين بأنه معهم، وجمع للصابرين أمورًا لم يجمعها لغيرهم فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
أما الأحاديث ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".
وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله عز وجل إلا لعبد كريم عنده. وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة فيطالعها، وفيها: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا).
والصبر ثلاثة أقسام:
1 -الصبر على الطاعات: فالعبد محتاج إلى الصبر على الطاعات، لأن النفس بطبعها تنفر من التكليف.
2 - الصبر عن المعاصي: وما أحوج العبد إلى ذلك؛ إذ النفس أمارة بالسوء.
3 - الصبر على المصائب، وهى كثيرة مثل موت الأحبة، وهلاك الأموال، وزوال الصحة وغيرها، ومن أعلى مراتب هذا الباب الصبر على أذى الناس، قال تعالى: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) وقال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ).
والأحاديث في فضائل الصبر كثيرة، منها: ما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها"، وفي حديث آخر: "ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر بها من خطاياه".
وفي حديث آخر: "لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".ومن حسن الصبر ألا يظهر تأثير المصيبة على المصاب قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). قال علي كرم الله وجهه: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك.وقال رجل للإمام أحمد: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: بخير في عافية، فقال له: حممت البارحة؟ أي: أصابتك الحمى قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك، لا تخرجني إلى ما أكره. فلننظر إلى مكاننا بين الصابرين، ولنغتنم هذا الأجر العظيم، فإن الشكوى لن تغير من الحال شيئًا، والصبر سيورثنا الثناء والثواب.. فالصبر الصبر عسى أن يوفينا ربنا أجرنا بغير حساب (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)
ــــــــــــــــــــ(1/21)
فضل الشكر
قال تعالى : " وسنجزي الشاكرين " ، وقال تعالى : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم"، وقال : " وقليل من عبادي الشكور " ، ويمد بالمزيد مع الشكر : " لئن شكرتم لأزيدنكم " . ولما عرف إبليس قدر الشكر قال في الطعن على بني آدم : " ولا تجد أكثرهم شاكرين" .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تفطرت قدماه ، فقالت له عائشة : "أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : : أفلا أكون عبداً شكوراً " .
وعن معاذ رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وحسن عبادتك" .
والشكر يكون بالقلب ، واللسان ، والجوارح .
أما بالقلب فهو أن يقصد الخير ، ويضمره للخلق كافة .
وأما باللسان ، فهو إظهار الشكر لله بالتحميد قال صلى الله عليه وسلم : " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر " أخرجه الإمام أحمد وسنده حسن .
وأما بالجوارح ، فهو استعمال نعم الله في طاعته ، فمن شكر العينين أن تستر كل عيب تراه لمسلم ، ومن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه .
ونعم الله تعالى أكثر من أن تحصى " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ، فلو نظر الإنسان حوله لبدت له آلاء الله ظاهرة بادية ، في الكون ، في السماء ، في الأرض ، في الأحياء من حولك، في نفسك ، فكل ذلك ينطق بنعم الله وفضله ، والنظر إلى نعم الله تعالى يقوي على الشكر، ومتى أحس العبد بنعم الله عليه ، لهج لسانه بشكر الله وحمده ، وجد ما عرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه ، أقل من قطرة في بحر ، "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"
ــــــــــــــــــــ(1/22)
فضل التوكل
التوكل مأخوذ من الوكالة، يقال: وكّل فلان أمره إلى فلان، أي فوض أمره إليه، واعتمد عليه، فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكّل.
وقد أثنى الشرع على المتوكلين، فقال الله تعالى "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" وقال عز وجل: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه". وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفًا لا حساب عليهم، ثم قال: "هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون".
وعن عمر رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا".
وقد يظن البعض أن معنى التوكل ترك الجهد بالبدن، والاكتفاء فقط بدعاء القلب للخالق، وهذا ظن خاطئ، فإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده، وسعي العبد إما أن يكون لجلب مصلحة أو دفع ضرر، وفي كل الأحوال، على العبد أن يسعى، ويبذل ما يستطيع، ويعقد نيته وهو في سعيه متوكلاً على ربه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال:" اعقلها وتوكل" ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المتوكل الذي يُلقي حَبَّه في الأرض، ويتوكل على الله.
فهؤلاء هم المتوكلون الذين أثنى عليهم ربنا سبحانه، والذين يدخلون الجنة بلا حساب، أما المتواكلون الذين يجلسون في بيوتهم ويتمنون على الله الأمانيّ، فأولئك لن ينالوا شيئا في الدنيا، فإن السماء كما قال عمر رضي الله عنهلا تمطر ذهبا ولا فضة، ويوم القيامة سيحاسبهم الله تعالى حسابا عسيرا على تقاعسهم وكسلهم.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المتوكلين الذين ترزقهم كما ترزق الطير في الدنيا، وتدخلهم الجنة بغير حساب في الآخرة
ــــــــــــــــــــ(1/23)
في سعة رحمة الله تعالى
قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وقال عز وجل: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقال سبحانه: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله عز وجل الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والهوامِّ والبهائم، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخَّر تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم تبارك وتعالى رحيم، من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة أو يمحوها الله، ولا يهلك على الله تعالى إلا هالك".
وعن أبي هريرة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أذنب ذنبًا فقال: أي رب، أذنبتُ ذنبًا فاغفر لي، فقال تبارك وتعالى: "علم عبدي أنه له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي"، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: أي ربِّ، عملت ذنبًا فاغفره لي، فقال عز وجل:"علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي"، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: أي رب، عملت ذنبًا فاغفره لي، فقال: "علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء"
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، وإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًا في السبي فأخذته، فألصقته ببطنها، فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا والله، قال: "لله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها".
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق، وإن زنى وإن سرق" ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر".
ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم يوم عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل يسألونه دانقًا أي : سدس درهم أكان يردهم؟ فقيل: لا، فقال: والله، المغفرة عند الله عز وجل أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
وعن إبراهيم بن أدهم قال: خلا لي الطواف في ليلة مظلمة شديدة المطر، فلم أزل أطوف إلى السحر، ثم رفعت يدي إلى السماء فقلت: اللهم إني أسألك أن تعصمني عن جميع ما تكره، فإذا قائل يقول في الهواء: أنت تسألني العصمة؛ وكل خلقي يسألني العصمة، فإذا عصمتك فعلى من أتفضل؟
فهذه الآيات والأحاديث والأقوال تبشرنا بكرم الله تعالى وسعة رحمته، ونسأله سبحانه أن لا يعاملنا بما نستحقه، بل يعاملنا بما هو أهله، إذ ليس لنا من أعمال نرجو بها العفو، ولكننا نرجو ذلك من رحمته وكرمه .. إنه هو الرحمن الرحيم
ــــــــــــــــــــ(1/24)
فضل الرجاء
الرجاء: هو ارتياح لانتظار ما هو محبوب، ولا يكون الرجاء إلا إذا قدمت أسبابه، وتمهدت مبرراته، فعلى العبد كي يرجو فضل الله تعالى، أن يعمل لذلك بعمل الطاعات، وتطهير النفس من آثار الذنوب، قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". فالذين يستحقون أن يرجوا الله تعالى، هم أولئك الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، أما من يرجو دون أن يعمل فهو العاجز.
روى شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله عز وجل الأمانيّ".
وقال معروف الكرخي رحمه الله: "رجاؤك لرحمة من لا تطيعه خذلان وحمق".
وقد ذكر الله تعالى في موضع الذمّ من ينهمك في طلب الدنيا، ثم يرجو المغفرة، قال تعالى: " فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا" وذم القائل: "وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا".
والقلب المستغرق بالدنيا، كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر، ويوم القيامة هو يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع ، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان.
فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضاً طيبة، وألقى فيها بذرًا جيداً غير مسوس ولا عفن، ثم ساق إليها الماء في أوقات الحاجة، وجلس ينتظر من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات، فهذا يسمى رجاء، وأما من بذر أرضاً سبخة صلبة لا يصل إليها الماء، ثم انتظر الحصاد فهذا يسمى حمقاً لا رجاء.
فالرجاء إذن يورث طريق المجاهدة بالأعمال، والمواظبة على الطاعات، ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله عز وجل، والتنعم بمناجاته والوقوف بين يديه، ومتى تحقق الله تعالى من ذلك، كان عند حسن ظن عبده به، روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قال الله عز وجل:أنا ظن عبدي بي" وفي رواية" فليظن بي ما شاء".
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ليغفرن الله عز وجل يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر.
والرجاء مطلوب عند نزول الموت ، قال سليمان التيمي عند الموت لمن حضره: حدثني بالرخص، لعلي ألقى الله وأنا أحسن الظن به.
فالله سبحانه كريم غفور، وهو عند حسن ظننا به سبحانه، متى تحققت منا أسباب الرجاء بالإقبال على الطاعات، وتطهير القلب من دنس المعاصي، وآثام الذنوب، ولنكن كالأرض الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا نكون كالأرض الخبيثة السبخة التي لا رجاء فيها ولا أمل
ــــــــــــــــــــ(1/25)
ذكر الموت والاستعداد له
أخرج أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا من ذكر هادم اللذات " قلنا يا رسول الله : وما هادم اللذات ؟ قال : الموت " .
أخرج ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الأنصار فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أي المؤمنين أفضل؟ قال: " أحسنهم خلقًا " قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: " أكثرهم للموت ذكراً وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك الأكياس ".
وأخرج الترمذي عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ " . وروي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر الموت . فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا " .
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : " قوله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر هادم اللذات الموت " كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكَرَ الموت حقيقة ذكره نغّص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهّده فيما كان منها يؤمل ، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ .
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات :
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولتْ عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزته ... من كل أوب إليها وافد يفد ؟
احوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من وروده يومًا كما وردوا
يبقى الإله ويودى المال والولد والخلد قد حاولتْ عادٌ
فما خلدوا والإنس والجن فيما بينها ترد
من كل أوب إليها وافد يفد ؟ لا بد من وروده يومًا كما وردوا
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
أين الملوك التي كانت لعزتها حوض هنالك مورود بلا كذب
وكان رضي الله عنه يقول : " والله لو أن لي طلاعأي:ملء الأرض ذهباً ، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه " .
والمرء حال الموت أحد أمرين: صاحب الجنة، وصاحب النار، ففي الصحيحين من حديث عبادة عبد الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته ، فليس شيء أحب إليه مما أمامه ، وأما صاحب النار الذي ختم له بسوء، فهو يبشر بها وهو في تلك الأهوال " .
وقد روي أن الملكين الموكلين بالعبد يتراءيان له عند الموت ، فإن كان صالحاً أثنيا عليه، وقالا: جزاك الله خيراً، وإن كان صحبهما بِشرٍّ ، قالا: لا جزاك الله خيراً . ويستحب لمن شارف على الموت أن يكون قلبه عامراً بحسن الظن بالله تعالى، ولسانه ناطقاً بالشهادة، فقد جاء في الحديث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله "، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو يموت فقال: " كيف نجدك؟ " ، قال : أرجو الله، وأخاف ذنوبي، فقال: " ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذه الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو ، وأمَّنه من الذي يخاف ". وقال سليمان التيمي لابنه عند الموت : يا بني ، حدثني بالرخص ، لعلي ألقى الله تعالى وأنا أحسن الظن به.
كما يستحب تلقين المحتضر: " لا إله إلا الله "، كما جاء في رواية الإمام مسلم: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " .وروى المزني قال : " دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له : كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهب ... جعلت الرجا مني بعفوك سلّما
يتعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ومازلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منَّة وتكرُّما
نسأل الله عفوه وجوده ومنَّه
ــــــــــــــــــــ(1/26)
فضل الدعاء
قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ:(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل العبادة الدعاء" ، وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس من شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء" وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر".
وقد حثنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الدعاء، بل وذم من لم يدْعُ فقال: "إنه من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه"، وقال: "أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام"، وقال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذًا نكثر الدعاء، قال:" الله أكثر".
واعلم أخي الكريم أن أهم أسباب استجابة الله تعالى للدعاء: الإخلاص لله تعالى،فالإخلاص مطلوب في كل الأعمال.تحري الحلال، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:"يا سعد،أطب مطعمك، تجب دعوتك"وفي رواية:"يا سعد،أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة"، ولحديث:" رب أشعث أغبر، يرفع يديه يقول: يا رب.. يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".
عدم الاستعجال، فيقول الواحد منا :دعوتُ فلم يستجب لي، مما يؤدي إلى الملل، فإن الله لا يملّ حتى نملّ، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم.
ويروي ابن المبارك ـ رحمه الله ـ فيقول: أصاب الناس قحط، فدعا أمير المؤمنين الناس للخروج في الصحراء يدعون الله تعالى، ويسألونه المطر، فخرجت فيمن خرج، فإذا إلى جانبي رجل أسود اللون رث الثياب، فرفع يديه فقال: أقسم بالله عليك يا رب أن تمطرنا الساعة، يقول ابن المبارك: فما هي إلا لحظات حتى تلبدت السماء بالغيوم، ونزل المطر، فتعجبت من هذا الذي يقسم على الله تعالى؛ فيستجيب الله له، فعزمت على أن أعرف من هو، فمشيت وراءه، فإذا به ذاهب إلى سوق النخاسة سوق العبيد ، وإذا به عبد يباع ويشترى، وهو معروض للبيع، يقول ابن المبارك: فاشتريته، وفي الطريق أخبرته بما رأيت منه، فقال: أو قد عرفت؟ قلت: نعم، قال: فأذن لي أن أصلي ركعتين، قلت: صلِّ، فصلى ركعتين، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إن السر الذي بيني وبينك قد انكشف، فاقبضني إليك الساعة، يقول ابن المبارك: فمات في مكانه.
فانظر معي أخي الكريم، إلى هذا العبد الذي لا يساوي شيئًا في معايير دنيانا، كم يساوي عند الله تعالى، كي يقسم عليه سبحانه؛ فيستجيب تعالى له قبل أن ينزل يديه، وفي هذا يخبرنا رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شخصين كلاهما أشعث أغبر، ولكن شتان بينهما، يقول عليه الصلاة والسلام: "رب أشعث أغبر، مدفوع بالأبواب أي: يرده كل الناس لا يؤبه له، إن كان في المقدمة ففي المقدمة، وإن كان في الساقة ففي الساقة أي: في أي مكان كان لا يبالي أحد به لو أقسم على الله لأبره".
والأشعث الثاني الذي ورد ذكره آنفاً، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "رب أشعث أغبر، يرفع يديه يقول: يا رب.. يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".فاحذر أخي الكريم من الحرام، وأعد حساباتك في حكمك على الناس، ولتكن التقوى هي المقياس في تفضيل البشر، لا المظهر والجاه والمنصب، واغتنم هذه الأيام المباركة في الدعاء، فإن الدعاء فيها مرغوب، والله لا يملّ حتى نملّ، وإذًا نكثر، فالله أكثر
ــــــــــــــــــــ(1/27)
في الاستقامة
الاستقامة: هي درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات، ومن لم يكن مستقيمًا ضاع سعيه وخاب جهده، ومن استقام نال أجر الدنيا والآخرة، قال تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (. وقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فلا خوف، ولا حزن، وبشرى بالجنة، وولاية الله تعالى لهم في الدنيا والآخرة، ثم حصول النفس على كل ما تشتهيه.
ولمعرفته صلى الله عليه وسلم بقيمة الاستقامة أجاب سفيان بن عبد الله الثقفي لما سأله: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، وفي رواية "غيرك" قال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
وما أعطيت الاستقامة كل هذه القيمة إلا لأنها حقيقة الإيمان، وهي العبودية الحقة لله تعالى، والاستعانة به وتوحيده وتنزيهه عز وجل، وأما طريقها فهو الالتزام التام بهذا المنهج دون إفراط أو تفريط، وهو أمر شاق وعسير، لذلك قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ). قال عمر رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب، وقال الحسن البصري رحمه الله: هم من استقاموا على أمر الله، يعملون بطاعته، ويجتنبون معصيته، وقال ابن تيمية رحمه الله: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة أو يسرة.
وقد أوضح رسولنا صلى الله عليه وسلم سبيل حدوث الاستقامة بقوله: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه".
فالاستقامة وراءها الخير الكثير والفضل العظيم في الدنيا والآخرة، فإذا أردت أن تحيا في الدنيا والآخرة بلا خوف ولا حزن، وأن تنال ولاية الله في الدنيا والآخرة، وأن تبشر بالجنة، وتفوز بكل ما تشتهيه النفس، قل: آمنت بالله.. ثم استقم
ــــــــــــــــــــ(1/28)
في طعم الإيمان
روى الإمام مسلم عن العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولاً" وفي رواية ثانية "ذاق حلاوة الإيمان" وورد في حديث آخر: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان".
إذن فللإيمان حلاوة وطعم يتذوقه من كان أهلاً لذلك، وطعم الإيمان لا يتغير فهو حلو دائمًا، وإنما الذي يتغير هو حال من يتذوقونه، كالمريض الذي لا يستشعر عذوبة الماء الفرات، فليس العيب في الماء، ولكن العيب في الحالة المرضية التي حالت دون التذوق.
قال القاضي عياض: معنى الحديث: صح إيمانه واطمأنت نفسه وخلص باطنه.
وأساس الوصول إلى حلاوة الإيمان إيمان صادق وعبادة صحيحة ومجاهدة للنفس والشهوات، وأما الطريق إلى حلاوة الإيمان فهي كما بينها الحديث: الرضا بالله ربًّا: والرضا بالله ربًّا يعني الرضا بشريعته، علمًا وحكمًا وتطبيقًا، رضًا نفسيًّا داخليًّا أولاً، ورضا عمليًّا خارجيًّا ثانياً، فيتولد في النفس مرشد للخير يأخذها إلى طريق الله، فيصبح همّ المرء إرضاء الله ـ سبحانه ـ لا إرضاء الناس ، فإن أخطأ وهو في طريقه، فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. إن الرضا بالله صفة عظيمة لها نتيجة عظيمة، فقد قال سبحانه في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضي الله عنهم ورضوا عنه".
الرضا بالإسلام ديناُ: والرضا بالإسلام هو جزء من الرضا بالله تعالى، وإنما جاء ذكره هنا للتنبيه على أن هناك فئة من الناس قد رضيت بالله بمفهوم خاطئ قال تعالى: ]ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله[، وقد نتج عن هذا الانحراف أنهم حاربوا الإسلام، وكذلك من أسباب ذكر الإسلام تخصيصًا هنا التأكيد على عظمته، وعلى أنه هو الدين الذي ارتضاه الله ـ سبحانه ـ لنا، وأنه هو الطريق الوحيد لنيل رضا الله ـ سبحانه ـ وبالتالي نيل الجنة والفضل العظيم منه عز وجل.
الرضا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولاً: وقد ذُكر رضا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث مع أنه جزء من رضا الله ـ تعالى ـ لنفس الأسباب السابقة؛ ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له حق، وحق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته التعزير والتوقير، كما قال تعالى: ]لتعزروه وتوقروه[ ولا يكون ذلك إلا بالالتزام بهديه، ورضا النفس والتسليم بكل ما يقضي به، والالتزام بأوامره ]وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا[، ]وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينًا[،] فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا [.
إن حلاوة الإيمان إذا خالطت بشاشة القلوب تجعل صاحبها مع الله ـ سبحانه ـ في كل وقت وحين، في حركات العبد وسكناته، في ليله ونهاره، مع الله خالقه وبارئه وموجده وناصره، ولذلك أمرنا رسولنا أن نقول دائمًا: "رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمدصلى الله عليه وسلم نبيًّا".
اللهم إنا نشهدك أنا رضينا بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا
ــــــــــــــــــــ(1/29)
في المعنى الإيماني للمسجد
جماع الخير في ارتياد المسجد.. وقد وصف الله تعالى المسجد في موطن المدح والإطراء، حين أتبع سبحانه نوره بذكر بيوت الله، وكأنه سبحانه ينبهنا إلى أن ذلك النور وتلك السكينة هي جزء من نوره جلّ وعلا، وأن من أراد نور الله فعليه بالمسجد، قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)، واعتبر سبحانه من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه اعتبره مرتكبًا لأكبر أنواع الظلم، وتوعده بالخوف والخزي والعذاب في الدنيا والأخرى، قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وهذا هو سمو المسجد ونوره وطهارته الذي ذكره الرافعي رحمه الله: "فالمسجد هو في حقيقته موضع الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع، هو فكر واحد لكل الرؤوس، ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل، وكما يشق النهر فتقف الأرض عند شاطئيه لا تتقدم،يقام المسجد فتقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله، فليس المسجد بناء ولا مكانًا كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب، فإن في الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلها يمحوها المسجد؛ إذ يجمع الناس مرارًا في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس، ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء، كأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخول المسجد".
ولذلك وصى النبي صلى الله عليه وسلم بارتياد المساجد، وحث على ذلك، قال: "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداها تخط خطيئة، والأخرى ترفع درجة" وقال: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح"، وقال: "أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام".
وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وكذلك الدهر كله".
وهذا كان سمت الصالحين، الحرص على الصلاة في المسجد، فالمحدث الثقة بشر بن الحسن، كان يقال له "الصفي"، لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
وقال قاضي قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي: (لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلهما) مع أنه قارب التسعين.
ومثلهما إبراهيم بن ميمون المروزي المحدث الثقة، والذي مهنته الصياغة وطرق الذهب الفضة، قال عنه ابن معين:(كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها).
ولقد أحصى علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه خصال المسجد، فقال:(من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة، وأخًا مستفادًا، وعلمًا مستطرفًا، ورحمة منتظرة، وكلمة تدله على هدى، أو تردعه عن ردى، وترك الذنوب حياء أو خشية".
وقد وصف أ. ياسين خليل جموع المؤمنين الذاهبين للمسجد فقال:
يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا *** "الله أكبر" في شوق وفي جذل
أرواحهم خشعت لله في أدب *** قلوبهم من جلال الله في وجل
نجواهم: ربنا جئناك طائعة *** نفوسنا، وعصينا خادع الأمل
إذا سجى الليل قاموه وأعينهم *** من خشية الله مثل الجائد الهطل
هم الرجال فلا يلهيهم لعب *** عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسل
ولعل ما يؤكد المعنى الإيماني للمسجد تلك الابتسامة الأخيرة التي ابتسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته، لما كشف ستر الحجرة يوم وفاته، فرأى أبا بكر يؤم الصفوف، وما هذه الابتسامة إلا رضاء منه صلى الله عليه وسلم على أمته، واطمئنان على أنها على الطريق الصحيح الموصل لمرضاة الله وجنته، وكأنه يطّلع علينا كل يوم خمس مرات، ويبتسم تلك الابتسامة الجميلة.. ابتسامة الصلاة في المسجد
ــــــــــــــــــــ(1/30)
فضل الصدق
قال الله تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" [الأحزاب: 23]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".
ويكفي في فضيلة الصدق أن الصدِّيق مشتق منه، والله تعالى وصف الأنبياء به في معرض المدح والثناء فقال: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا "[مريم41] وقال تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا" [مريم 56].
وقال ابن عباس: أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق، والحياء، وحسن الخلق، والشكر.
وقال بشر بن الحارث: من عامل الله بالصدق استوحش من الناس.
وقال أبو سليمان: اجعل الصدق مطيتك، والحق سيفك والله تعالى غاية طلبك.
وقال رجل لحكيم: ما رأيت صادقًا ! فقال له: لو كنت صادقًا لعرفت الصادقين.
وقيل لذي النون: هل للعبد إلى صلاح أموره سبيل؟ فقال:
قد بقينا من الذنوب حيارى نطلب الصدق ما إليه سبيل
فدعاوى الهوى تَخفُ علينا ... وخلاف الهوى علينا ثقيل
حقيقة الصدق ومراتبه:
اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معانٍ: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق لأنه مبالغة في الصدق.
الصدق الأول: في صدق اللسان، وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه، والخبر إما أن يتعلق بالماضي أو بالمستقبل وفيه يدخل الوفاء والخلف، وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه فلا يتكلم إلا بالصدق.
وهذا هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق.
الصدق الثاني: في النية والإرادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو ألا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى، فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية وصاحبه يجوز أن يسمى كاذبًا.
الصدق الثالث: في صدق العزم، إن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه: إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه أو بشطره أو إن لقيت عدوًا في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبالِ وإن قُتلت، وإن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعصِ الله تعالى بظلم وميل إلى خلق، فهذه العزيمة قد يصادقها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق هاهنا عبارة عن التمام والقوة.
الصدق الرابع: في الوفاء بالعزم، فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤونة فيه خفيفة، فإذا حفت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات، انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه، ولذلك قال الله تعالى: "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" [الأحزاب: 23].
عن أنس رضي الله عنه: أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما اصنع! قال: فشهد أحدًا في العام القابل فاستقبله "سعد بن معاذ" فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ فقال: واهًا لريح الجنة! إني أجد ريحها دون أحد! فقاتل حتى قُتل فوُجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة؛ فقالت أخته بنت النضر: ما عرفت أخي إلا بثيابه، فنزلت الآية.
الصدق الخامس: في الأعمال، وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به؛ لا بأن يترك الأعمال ولكن بأن يستجرَّ الباطن إلى تصديق الظاهر، ورب واقف على هيئة خشوع في صلاته ليس يقصد به مشاهدة غيره ولكن قلبه غافل عن الصلاة فمن ينظر إليه يراه قائمًا بين يدي الله تعالى وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته.
الصدق السادس: وهو أعلى الدرجات وأعزها: الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور، فإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقًا فيه، كما يقال: فلان صدق القتال، ويقال: هذا هو الخوف الصادق. ثم درجات الصدق لا نهاية لها، وقد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض فإن كان صادقًا في جميع الأمور فهو الصدِّيق حقًا.
قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: ثلاثة أنا فيهن قوي وفيما سواهن ضعيف: ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي حتى أفرغ منها، ولا شيعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة، وما هو مقول لها حتى يُفرغ من دفنها، وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً إلا علمت أنه حق، فقال ابن المسيب: ما ظننت أن هذه الخصال تجتمع إلا في النبي عليه الصلاة والسلام
ــــــــــــــــــــ(1/31)
آثار الخصومة في القلب
قال الحارث المحاسبي رحمه الله:
" واستعن بالله في كل أمر، واستخر الله في كل حال، وما أرادك الله له فاترك الاعتراض فيه، وكل عمل تُحب أن تلقى الله به فألزمه نفسك، وكل أمر تكرهه من غيرك فاعتزله من أخلاقك، وكل صاحب لا تزداد به خيرًا في كل يوم فانبذ عنك صحبته، وخذ بحظك من العفو والتجاوز".
يشير الحارث المحاسبي رحمه الله إلى أنك إذا وقعت في خصومة مع إنسان فالعفو والتجاوز خير لك مردًا من الاستمرار واللدد في الخصومة، وقد صدق رحمه الله تعالى فإن الخصومة تمحق الدين وتشغل العقل، وتقتل طمأنينة القلب والخاطر، وتقض المضاجع، وتجعل سويداء الإنسان جحيمًا دائم الاستعار والاتقاد، فالعفو والتجاوز وإن صاحبه هَضْم وغَبْن أغنمُ حظًا إذ يقضي على هذه الآثار كلها، ويعوض بدلاً منها الراحة والسكينة والفضل والإحسان.
وقد وقعت لأحد أتباع التابعين: سَلْم بن قتيبة الباهلي البصري خصومة بينه وبين ابن عم له، فلجّ سَلْم فيها حتى انتهت به إلى مجلس القضاء، ثم عدل عنها إكرامًا لنفسه فكان من الغانمين، قال سلم بن قتيبة: مر بي بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة يعني:وهو في مجلس القضاء ينتظر المحاكمة بينه وبين خصمه فقال: ما يُجلسك هاهنا؟ قلت: خصومة بيني وبين ابن عم لي، ادّعى أشياء في داري، فقال بشير: إن لأبيك عندي يدًا، وإني أريد أن أجزيَك بها، والله ما رأيت شيئًا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة ولا أشغل للقلب من الخصومة.
قال سلم بن قتيبة: فقمت لأنصرف، فقال لي خصمي: مالك؟ قلت: لا أخاصمك، قال: إنك عرفت أن الحق معي ؟ قلت: لا، ولكن أكرم نفسي عن هذا، وتركت الخصومة. (حكاها الإمام الغزالي في الإحياء، وابن أبي الدنيا في "كتاب الصمت").
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله:
والإنسان إذا ناله الأذى من الناس، وصبر عليه، وسامح فيه، ولم يفكر بالانتقام والمقابلة من مؤذيه كان عاقبة أمره أفضل من عاقبة المنتقم لنفسه المقابل للسيئة بجزائها؛ وذلك أنه إذا تسامح وحلم وتنازل وكرم، يشهد في نفسه ومشاعره مشهد السلامة وبرد القلب كما يشهد مشهد الأمن وهدوء البال.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "مدارج السالكين"وهو يتحدث عن المشهدين السابقين: "ومشهد السلامة وبرد القلب" مشهد شريف جدًّا لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وبطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامة قلبه وبرده وخلوه من ذلك أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، وذلك أن القلب إذا اشتغل بشيء من هذا الانتقام فاته ما هو أهم عنده وخير له فيكون بذلك مغبونًا، والرشيدُ لا يرضى بذلك، ويرى أنه من تصرفات السفيه! فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وأعمال الفكر في إدراك الانتقام؟
أما مشهد الأمن وسكون البال فإنه إذا تَرك المقابلة والانتقام أمن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرًا فكم من حقير أردى عدوه الكبير؟
وقد رُويت أبيات للإمام الحافظ الفقيه "أبي شامة المقدسي" وقد جرى عليه اعتداء عظيم وأذى شديد على جسمه وبدنه، وقد شارف السبعين من العمر فقيل له: اجتمع بولاة الأمر ليأخذوا لك الحق؛ وينتصروا لك، فقال هذا الأبيات:
قلت لمن قال: أما تشتكي ما قد جرى فهو عظيم جليل
يُقيضُ اللهُ تعالى لنا من يأخذ الحق ويشفى الغليل
إذا توكلنا عليه كفى فحسبنا الله ونعم الوكيل
ــــــــــــــــــــ(1/32)
فقه الصيام ...
دعاء اليوم
... الصيام
... صيام رمضان
... أركان الصيام
... صيام الكافر والمجنون
... صيام الصبي
... الأيام المنهى عن صيامها
... صيام التطوع
... جواز فطر الصائم المتطوع
... آداب الصيام
... مباحات الصيام
... ما يبطل الصائم
... قضاء رمضان
... من مات وعليه صيام
... ليلة القدر
... العشر الأواخر من رمضان
... أسباب المغفرة في رمضان
... رمضان شهر العتق من النيران
... وداعًا رمضان
... زكاة الفطر
الصيام
يطلق الصيام على الإمساك. قال الله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا( أي إمساكًا عن الكلام. والمقصود بالصيام هنا: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.
الصيام وفضله:
1 ... ... عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. مرتين، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وهذا الحديث بعضه قدسي وبعضه نبوي. فالنبوي من قوله: "والصيام جنة.." إلى آخر الحديث. ورواية البخاري وأبي داود: "الصيام جُنة فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشرة أمثالها".
2 ... ... وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان" رواه أحمد بسند صحيح.
3 ... ... وعن أبي أمامة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مرني بعمل يدخلني الجنة. قال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له، ثم أتيته الثانية فقال: عليك بالصيام" رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه.
4 ... ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفًا" رواه الجماعة إلا أبا داود.
5 ... ... وعن سهل بن سعد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للجنة بابًا يقال له: الريان، يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ فإن دخل آخرهم أغلق ذلك الباب" رواه البخاري ومسلم.
أقسامه:
الصيام قسمان: فرض وتطوع. والفرض ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 ... ... صوم رمضان.
2 ... ... صوم الكفارات.
3 ... ... صوم النذر.
صيام رمضان
حكمه:
صوم رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب: فقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )
وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت".
وفي حديث طلحة بن عبيد الله: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أخبرني عما فرض الله عليَّ من الصيام؟ قال: شهر رمضان. قال: هل عليَّ غيره؟ قال: لا. إلا أن تطوع". وأجمعت الأمة على وجوب صيام رمضان. وأنه أحد أركان الإسلام التي عُلمتْ من الدين بالضرورة، وأن منكره كافر مرتد عن الإسلام.
فضل شهر رمضان وفضل العمل فيه:
1 ... ... عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حضر رمضان: "قد جاءكم شهر مبارك، افترض عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" رواه أحمد والنسائي والبيهقي.
2 ... ... وعن عرفجة قال: كنت عند عتبة بن فرقد وهو يحدث عن رمضان قال: فدخل علينا رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عتبة هابه فسكت. قال: فحدث عن رمضان. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في رمضان: "تغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، وتصفد فيه الشياطين. قال: وينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر، ويا باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان" رواه أحمد والنسائي وسنده جيد.
3 ... ... وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم.
4 ... ... وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفَّظ مما كان ينبغي أن يُتحفظ منه كفَّر ما قبله" رواه أحمد والبيهقي بسند جيد.
5 ... ... وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه أحمد وأصحاب السنن.
الترهيب من الفطر في رمضان:
1 ... ... عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عُرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان" رواه أبو يعلى والديلمي وصححه الذهبي.
2 ... ... وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر يومًا من رمضان، في غير رُخصة رخصها الله له لم يُقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه" رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي، وقال البخاري: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: "من أفطر يومًا من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه". وبه قال ابن مسعود.
قال الذهبي: وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكُّون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال.
بم يثبت الشهر؟
يثبت شهر رمضان برؤية الهلال ولو من واحدٍ، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا.
1 ... ... فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود والحاكم وابن حبان وصححاه.
2 ... ... وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا" رواه البخاري ومسلم.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. قالوا: تقبل شهادة رجل واحدٍ في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد. وقال النووي: وهو الأصح.
وأما هلال شوال: فيثبت بإكمال عدة رمضان ثلاثين يومًا، ولا تقبل فيه شهادة العدل الواحد، عند عامة الفقهاء.
واشترطوا أن يشهد على رؤيته اثنان ذوا عدل، إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين هلال شوال وهلال رمضان، وقال: يقبل فيهما شهادة الواحد العدل.
قال ابن رشد: "ومذهب أبي بكر بن المنذر هو مذهب أبي ثور، وأحسبه مذهب أهل الظاهر".
وقد احتج أبو بكر بن المنذر بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر والإمساك عن الأكل بقول واحد، فوجب أن يكون الأمر كذلك في دخول الشهر وخروجه؛ إذ كلاهما علامة تفصل زمان الفطر من زمان الصوم".
وقال الشوكاني: وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الاثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة فالظاهر أنه يكفي فيه قياسًا على الاكتفاء به في الصوم.
وأيضًا التعبد بقبول خبر الواحد يدل على قبوله في كل موضع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه، بعدم التعبد فيه بخبر الواحد، كالشهادة على الأموال ونحوها فالظاهر ما ذهب إليه أبو ثور.
اختلاف المطالع:
ذهب الجمهور: إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع.
فمتى رأي الهلال أهل البلد وجب الصوم على جميع البلاد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
وهو خطاب عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعًا.
وذهب عكرمة والقاسم بن محمد وسالم وإسحاق، والصحيح عند الأحناف، والمختار عند الشافعية أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا يلزمهم رؤية غيرهم.
لما رواه كريب قال: قدمت الشام، واستهل عليَّ هلال رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة. ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباسثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد ومسلم والترمذي.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل بلد رؤيتهم.
وفي فتح العلام شرح بلوغ المرام: الأقرب لزوم أهل بلد الرؤية، وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها.
من رأى الهلال وحده: اتفقت أئمة الفقه على أن من أبصر هلال الصوم وحده عليه أن يصوم.
وخالف عطاء فقال: لا يصوم إلا برؤية غيره معه.
واختلفوا في رؤيته هلال شوال، والحق أنه يفطر كما قال الشافعي وأبو ثور. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوجب الصوم والفطر للرؤية، والرؤية حاصلة له يقينًا، وهذا أمر مداره الحسن، فلا يحتاج إلى مشاركة
أركان الصيام
للصيام ركنان تتركب منهما حقيقته:
1 ... ... الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس: لقوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)، والمراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود: بياض النهار وسواد الليل، لما رواه البخاري ومسلم: أن عدي بن حاتم قال: لما نزلت )حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ( عدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل، فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار".
2 ... ... النية: لقول الله تعالى: ) وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". ولا بد أن تكون قبل الفجر من كل ليلة من ليالي شهر رمضان، لحديث حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يُجْمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
وتصح في أي جزء من أجزاء الليل، ولا يشترط التلفظ بها؛ فإنها عمل قلبي لا دخل للسان فيه، فإن حقيقتها القصد إلى الفعل امتثالاً لأمر الله تعالى، وطلبًا لوجهه الكريم. فمن تسحر بالليل قاصدًا الصيام تقربًا إلى الله بهذا الإمساك فهو ناوٍ.
ومن عزم على الكف عن المفطرات أثناء النهار مخلصًا لله فهو ناوٍ كذلك، وإن لم يتسحر. وقال كثير من الفقهاء: إن نية صيام التطوع تجزئ من النهار إن لم يكن قد طعم.
قالت عائشة: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم شيء"؟ قلنا: لا. قال: "فإني صائم" رواه مسلم، وأبو داود.
واشترط الأحناف أن تقع النية قبل الزوال، وهذا هو المشهور من قولي الشافعي، وظاهر قولي ابن مسعود وأحمد: أنها تجزئ قبل الزوال وبعده على السواء.
على من يجب؟:
أجمع العلماء على أنه يجب الصيام على المسلم العاقل البالغ الصحيح المقيم، ويجب أن تكون المرأة طاهرة من الحيض والنفاس.
فلا صيام على كافر ولا مجنون ولا صبي ولا مريض ولا مسافر ولا حائض ولا نفساء ولا شيخ كبير ولا حامل ولا مرضع.
بعض هؤلاء لا صيام عليه مطلقًا، كالكافر والمجنون، وبعضهم يطلب من وليه أن يأمره بالصيام، وبعضهم يجب عليه الفطر والقضاء، وبعضهم يرخص له في الفطر وتجب عليه الفدية، وهذا بيان كل على حدة
صيام الكافر والمجنون
الصيام عبادة إسلامية، فلا تجب على غير المسلمين، والمجنون غير مكلف، لأنه مسلوب العقل الذي هو مناط التكليف، وفي حديث عليّ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة؛ عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
صيام الصبي
والصبي وإن كان الصيام غير واجب عليه إلا أنه ينبغي لولي أمره أن يأمره به، ليعتاده من الصغر ما دام مستطيعًا له وقادرًا عليه.
فعن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عاشوراء إلى قرى الأنصار: "من كان أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليصم بقية يومه، فكنا نصومه بعد ذلك، ونصوِّم صبياننا الصغار منهم، نذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناه إياه، حتى يكون عند الإفطار" رواه البخاري ومسلم.
من يرخص لهم في الفطر وتجب عليهم الفدية:
يرخص الفطر للشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى برؤه، وأصحاب الأعمال الشاقة الذين لا يجدون متسعًا من الرزق غير ما يزاولونه من أعمال.
هؤلاء جميعًا يرخص لهم في الفطر إذا كان الصيام يجهدهم ويشق عليهم مشقة شديدة في جميع فصول السنة. وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينًا، وقدِّر ذلك بنحو صاع أو نصف صاع، أو مد، على خلاف في ذلك، ولم يأت من السنة ما يدل على التقدير.
قال ابن عباس: "رُخِّص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه" رواه الدار قطني والحاكم وصححاه. وروى البخاري عن عطاء: أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة؛ لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا.
والمريض الذي لا يرجى برؤه ويجهده الصوم مثل الشيخ الكبير، ولا فرق. وكذلك العمال الذين يضطلعون بمشاق الأعمال.
قال الشيخ محمد عبده: فالمراد بمن "يطيقونه" في الآية الشيوخ الضعفاء والزمنى ونحوهم كالفعلة الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم الحجري من مناجمه.
ومنهم المجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا شق الصيام عليهم، بالفعل، وكانوا يملكون الفدية.
الحبلى والمرضع: إذا خافتا على أنفسهما، وأولادهما أفطرتا، وعليهما الفدية، ولا قضاء عليهما عند ابن عمر وابن عباس.
روى أبو داود عن عكرمة أن ابن عباس قال في قوله تعالى: (وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. رواه البزار.
وزاد في آخره: وكان ابن عباس يقول لأم ولد له حبلى: "أنت بمنزلة الذي لا يطيقه، فعليك الفداء، ولا قضاء عليك" وصحح الدار قطني إسناده.
وعن نافع أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها فقال: تفطر، وتطعم مكان كل يوم مسكينًا مدًا من حنطة. رواه مالك والبيهقي.
وفي الحديث: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم". وعند الأحناف وأبي عبيد وأبي ثور أنهما يقضيان فقط، ولا إطعام عليهما. وعند أحمد والشافعي: أنهما إن خافتا على الولد فقط وأفطرتا عليهما القضاء والفدية، وإن خافتا على أنفسهما فقط أو على أنفسهما وعلى ولدهما فعليهما القضاء لا غير.
من يرخص لهم في الفطر ويجب عليهم القضاء:
يباح الفطر للمريض الذي يرجى برؤه، والمسافر، ويجب عليهما القضاء.
قال الله تعالى: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (وروى أحمد وأبو داود والبيهقي بسند صحيح من حديث معاذ قال: إن الله تعالى فرض على النبي صلى الله عليه وسلم الصيام فأنزل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إلى قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (، فكان من شاء صام. ومن شاء أطعم مسكينًا. فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله تعالى أنزل الآية الأخرى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(، فأثبت صيامه على المقيم الصحيح، ورخّص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام".
والمرض المبيح للفطر هو المرض الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تأخر برئه. قال في المغنى: "وحكي عن بعض السلف: أنه أبيح الفطر بكل مرض، حتى من وجع الإصبع والضرس، لعموم الآية فيه، ولأن المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه، فكذلك المريض، وهذا مذهب البخاري وعطاء وأهل الظاهر.
والصحيح الذي يخاف المرض بالصيام يفطر مثل المريض، وكذلك من غلبه الجوع أو العطش فخاف الهلاك لزمه الفطر وإن كان صحيحًا مقيمًا وعليه القضاء.
قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا). وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
وإذا صام المريض وتحمل الشقة صح صومه، إلا أنه يكره له ذلك لإعراضه عن الرخصة التي يحبها الله، وقد يلحقه بذلك ضرر.
وقد كان بعض الصحابة يصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يفطر متابعين في ذلك فتوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال حمزة الأسلمي: يا رسول الله، أجد مني قوة على الصوم في السفر، فهل علىَّ جناح؟ فقال: "هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام. قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال: إنكم مُصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزمة، فأفطرنا، ثم رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر" رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، ثم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفًا فأفطر فإن ذلك حسن" رواه أحمد ومسلم.
وقد اختلف الفقهاء في أيهما أفضل؟
فرأى أبو حنيفة والشافعي ومالك: أن الصيام أفضل لمن قوي عليه، والفطر أفضل لمن لا يقوى على الصيام. وقال أحمد: الفطر أفضل.
وقال عمر بن عبد العزيز: أفضلها أيسرهما، فمن يسهل عليه حينئذ، ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل.
وحقق الشوكاني، فرأى أن من كان يشق عليه الصوم ويضره وكذلك من كان معرضًا عن قبول الرخصة فالفطر أفضل، وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر فالفطر في حقه أفضل.
وما كان من الصيام خاليًا عن هذه الأمور، فهو أفضل من الإفطار.
وإذا نوى المسافر الصيام بالليل وشرع فيه جاز له الفطر أثناء النهار.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناسًا صاموا، فقال: أولئك العصاة" رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه.
وأما إذا نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز الفطر له، وأجازه أحمد وإسحاق لما رواه الترمذي وحسنه عن محمد بن كعب قال: أتيت في رمضان أنس بن مالك وهو يريد سفرًا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سُنة؟ فقال: سنة. ثم ركب.
وعن عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع ثم قرب غداءه ثم قال: اقترب، فقلت: ألست بين البيوت. فقال أبو بصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات.
قال الشوكاني: والحديثان يدلان على أن للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه.
وقال: قال ابن العربي: وأما حديث أنس فصحيح، يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر. وقال: هذا هو الحق.
والسفر المبيح للفطر هو السفر الذي تقصر الصلاة بسببه، ومدة الإقامة التي يجوز للمسافر أن يفطر فيها هي المدة التي يجوز له أن يقصر الصلاة فيها. وتقدم جميع ذلك في مبحث قصر الصلاة ومذاهب العلماء وتحقيق ابن القيم.
وروى أحمد وأبو داود والبيهقي والطحاوي عن منصور الكلبي: أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر عقبة من الفسطاط في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أني أراه، إن قومًا رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك. وجميع رواة الحديث ثقات، إلا منصور الكلبي، وقد وثقه العجلي.
من يجب عليه الفطر والقضاء معًا:
اتفق الفقهاء على أنه يجب الفطر على الحائض والنفساء، ويحرم عليهما الصيام، وإذا صاما لا يصح صومهما ويقع باطلاً، وعليهما قضاء ما فاتهما.
روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت: "كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"
الأيام المنهي عن صيامها
جاءت الأحاديث مصرحة بالنهي عن صيام أيام نبينها فيما يلي:(1/33)
1 ... ... النهي عن صيام يومي العيدين:
أجمع العلماء على تحريم صوم يومي العيدين؛ سواء أكان الصوم فرضًا أم تطوعًا لقول عمر رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين؛ أما يوم الفطر ففطركم من صومكم، وأما يوم الأضحى فكلوا من نسككم" رواه أحمد والأربعة.
2 ... ... النهي عن صوم أيام التشريق:
لا يجوز صيام الأيام الثلاثة التي تلي عيد النحر، لما رواه أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى: "أن لا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" رواه أحمد بإسناد جيد، وروى الطبراني في الأوسط، عن ابن عباس رضي عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل صائحًا يصيح: أن لا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال". والمقصود بالبعال: الجماع.
وأجاز أصحاب الشافعي صيام أيام التشريق فيما له سبب من نذر أو كفارة أو قضاء. أما ما لا سبب له فلا يجوز فيها بلا خلاف. وجعلوا هذا نظير الصلاة التي لها سبب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
3 ... ... النهي عن صيام يوم الجمعة منفردًا
يوم الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين، ولذلك نهى الشارع عن صيامه. وذهب الجمهور: إلى أن النهي للكراهة لا للتحريم إلا إذا صام يومًا قبله أو يومًا بعده، أو وافق عادة له، أو كان يوم عرفة، أو عاشوراء، فإنه حينئذ لا يكره صيامه.
فعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية بنت الحارث وهي صائمة في يوم جمعة فقال لها: "أصمت أمس؟" فقالت: لا. قال: "أتريدين أن تصومي غدًا؟" قالت: لا. قال: "فأفطري إذن" رواه أحمد والنسائي بسند جيد.
وعن عامر الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن يوم الجمعة عيدكم فلا تصوموه، إلا أن تصوموا قبله أو بعده" رواه البزار بسند حسن.
وقال علي رضي الله عنه: من كان منكم متطوعًا فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة؛ فإنه يوم طعام وشراب وذكر. رواه ابن أبي شيبة بسند حسن.
وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم".
وفي لفظ مسلم: "ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم".
4 ... ... النهي عن إفراد يوم السبت بصيام:
عن بسر السلمي عن أخته الصماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحا عنب، أو عود شجر فليمضغه". ولحا العنب: قشر العنب. رواه أحمد وأصحاب السنن، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم وحسنه الترمذي، وقال: ومعنى الكراهة في هذا أن يختص الرجل يوم السبت بصيام؛ لأن اليهود يعظِّمون يوم السبت.
وقالت أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد، أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما عيد المشركين، فأنا أحب أن أخالفهم" رواه أحمد والبيهقي، والحاكم وابن خزيمة، وصححاه.
ومذهب الأحناف والشافعية والحنابلة: كراهة الصوم يوم السبت منفردًا لهذه الأدلة، وخالف في ذلك مالك؛ فجوز صيامه منفردًا بلا كراهة، والحديث حجة عليه.
5 ... ... النهي عن صوم يوم الشك:
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: "من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أبو سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحق، وكلهم كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يشك فيه. ورأى أكثرهم إن صامه وكان من شهر رمضان، أن يقضي يومًا مكانه، فإن صامه لموافقته عادة له جاز له الصيام حينئذ بدون كراهة. فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل، فليصم ذلك اليوم" رواه الجماعة.
وقال الترمذي: حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. وإن كان رجل يصوم صومًا فوق صيامه ذلك فلا بأس به عندهم.
6 ... ... النهي عن صوم الدهر:
يحرم صيام السنة كلها، بما فيها الأيام التي نهى الشارع عن صيامها. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد" رواه أحمد والبخاري ومسلم. فإن أفطر يومي العيد، وأيام التشريق، وصام بقية الأيام انتفت الكراهة، إذا كان ممن يقوي على صيامها.
قال الترمذي: وقد كره قوم من أهل العلم صيام الدهر إذا لم يفطر يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق. فمن أفطر في هذه الأيام، فقد خرج من حد الكراهة، ولا يكون قد صام الدهر كله. هكذا روى عن مالك والشافعي وأحمد وإسحق.
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم حمزة الأسلمي على سرد الصيام، وقال له: "صم إن شئت وأفطر إن شئت" وقد تقدم. والأفضل أن يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فإن ذلك أحب الصيام إلى الله، وسيأتي.
7 ... ... النهي عن صيام المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصوم وزوجها حاضر حتى تستأذنه؛ فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصم المرأة يومًا واحدًا، وزوجها شاهد إلا بإذنه إلا رمضان" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وقد حمل العلماء هذا النهي على التحريم، وأجازوا للزوج أن يفسد صيام زوجته لو صامت، دون أن يأذن لها، لافتياتها على حقه، وهذا في غير رمضان كما جاء في الحديث، فإن رمضان لا يحتاج إلى إذن من الزوج. وكذلك لها أن تصوم من غير إذنه، إذا كان غائبًا فإذا قدم، له أن يفسد صيامها. وجعلوا مرض الزوج، وعجزه عن مباشرتها مثل غيبته عنها، في جواز صومها دون أن تستأذنه.
النهي عن وصال الصوم:
1 ... ... عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والوصال" قالها ثلاث مرات. قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: "إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من الأعمال ما تطيقون" رواه البخاري ومسلم.
وقد حمل الفقهاء النهي على الكراهة.
وجوز أحمد وإسحق وابن المنذر الوصال إلى السحر. ما لم تكن مشقة على الصائم. لما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر"
صيام التطوع
رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام الأيام الآتية:
صيام ستة أيام من شوال:
روى الجماعة إلا البخاري والنسائي عن أبى أيوب الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر"، وعند أحمد: أنها تؤدى متتابعة وغير متتابعة، ولا فضل لأحد على الآخر، وعند الحنفية والشافعية: الأفضل صومها متتابعة عقب العيد.
صيام عشر ذي الحجة وتأكيد يوم عرفة لغير الحاج:
1 ... ... عن أبى قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية" رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
2 ... ... عن حفصة قالت: "أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة" رواه أحمد والنسائي.
3 ... ... عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب" رواه الخمسة، إلا ابن ماجه وصححه الترمذي.
4 ... ... عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
5 ... ... عن أم الفضل: أنهم شكوا في صوم رسول الله يوم عرفة، فأرسلت إليه بلبن، فشرب وهو يخطب الناس بعرفة. متفق عليه.
صيام المحرم وتأكيد صوم عاشوراء ويوم قبلها ويوم بعدها:
1 ... ... عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "في جوف الليل". قيل: ثم أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: "شهر الله الذي تدعونه المحرم" رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
2 ... ... عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر" متفق عليه.
3 ... ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه، وأمر الناس بصيامه. فلما فُرض رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه" متفق عليه.
4 ... ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح، نجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم"، فصامه، وأمر بصيامه. متفق عليه.
5 ... ... عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود، وتتخذه عيدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم" متفق عليه.
6 ... ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظِّمه اليهود والنصارى ... فقال: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم وأبو داود. وفي لفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع: (يعني مع يوم عاشوراء) رواه أحمد ومسلم.
وقد ذكر العلماء أن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: صوم ثلاثة أيام: التاسع، والعاشر، والحادي عشر.
المرتبة الثانية: صوم التاسع، والعاشرة.
المرتبة الثالثة: صوم العاشر وحده.
التوسعة يوم عاشوراء:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته" رواه البيهقي في الشعب، وابن عبد البر. وللحديث طرق أخرى كلها ضعيفة. ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض ازداد قوة. كما قال السخاوي.
صيام أكثر شعبان:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شعبان. قالت عائشة: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان" رواه البخاري ومسلم.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين. فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".. رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة. وتخصيص صوم يوم النصف منه ظنًا أن له فضيلة على غيره مما لم يأت به دليل صحيح.
صيام الأشهر الحرم:
الأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. ويستحب الإكثار من الصيام فيها. فعن رجل من باهلة: أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أنا الرجل الذي جئتك عام الأول، فقال: فما غيَّرك وقد كنت حسن الهيئة؟ قال: ما أكلت طعامًا إلا بليل منذ فارقتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَ عذبْت نفسك؟" ثم قال: صم شهر الصبر، ويومًا من كل شهر. قال: زدني، فإن بي قوة. قال: صم يومين. قال. زدني. قال: صم من الحُرُم واترك. صم من الحُرُم واترك. صم من الحُرُم واترك، وقال بأصابعه الثلاثة فضمها، ثم أرسلها". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بسند جيد.
وصيام رجب ليس له فضل زائد على غيره من الشهور إلا أنه من الأشهر الحرم. ولم يرد في السنة الصحيحة أن لصيامه فضيلة بخصوصه، وما جاء في ذلك مما لا ينهض للاحتجاج به. قال ابن حجر: "لم يرد في فضله ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه أثر معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة منه حديث صحيح يصلح للحجة".
صيام يومي الاثنين والخميس:
عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس، فقيل له فقال: "إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل مسلم، أو لكل مؤمن، إلا المتهاجرين فيقولون: أخرها" رواه أحمد بسند صحيح. وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل عليَّ فيه" أي نزل الوحي عليَّ فيه.
صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض؛ ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقال: "هي كصوم الدهر" رواه النسائي، وصححه ابن حبان. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. وأنه كان يصوم من غرة كل هلال ثلاثة أيام. وأنه كان يصوم: الخميس من أول الشهر، والاثنين الذي يليه والاثنين الذي يليه.
صيام يوم وفطر يوم:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أخبرت أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قال: قلت: يا رسول الله، نعم. قال: فصم وأفطر وصل ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام". زورك: أي ضيوفك قال: فشددتُ فشُدد عليَّ. قال: فقلت: يا رسول الله، إني أجد قوة. قال: "فصم من كل جمعة ثلاثة أيام" قال: "فشددتُ فشُدد عليَّ. قال: فقلت يا رسول الله إني أجد قوة" قال: "صم صوم نبي الله داود، ولا تزد عليه" قلت: يا رسول الله، وما كان صيام داود عليه الصلاة والسلام؟ قال: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا" رواه أحمد وغيره. ورويَ أيضًا عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا"
جواز فطر الصائم المتطوع
1 ... ... عن أم هانئ رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح، فأتي بشراب فشرب ثم ناولني، فقلت: إني صائمة. فقال: "إن المتطوع أمير على نفسه؛ فإن شئت فصومي، وإن شئت فأفطري" رواه أحمد والدار قطني والبيهقي، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. ولفظه: "الصائم المتطوع أمير على نفسه؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر".
وعن أبي جحيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب، فقال: نم، فلما كان في آخر الليل قال: قم الآن؛ فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان" رواه البخاري والترمذي.
2 ... ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام، قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعاكم أخوكم، وتكلف لكم" ثم قال: "أفطر وصم يومًا مكانه، إن شئت" رواه البيهقي بإسناد حسن كما قال الحافظ. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز الفطر لمن صام متطوعًا، واستحبوا له قضاء ذلك اليوم، استدلالاً بهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة
آداب الصيام
يستحب للصائم أن يراعي في صيامه الآداب الآتية:
1 ... ... السحور:
وقد أجمعت الأمة على استحبابه، وأنه لا إثم على من تركه، فعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تسحروا فإن السحور بركة" رواه البخاري ومسلم. وعن المقدام بن معد يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بهذا السحور فإنه الغذاء المبارك" رواه النسائي بسند جيد. وسبب البركة أنه يقوي الصائم وينشطه، ويهون عليه الصيام.
بم يتحقق؟:
ويتحقق السحور بكثير الطعام وقليله. ولو بجرعة ماء، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" رواه أحمد.
وقته:
وقت السحور من منتصف الليل إلى طلوع الفجر، والمستحب تأخيره. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال "خمسين آية" رواه البخاري ومسلم. وعن عمرو بن ميمون قال: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس إفطارًا وأبطأهم سحورًا" رواه البيهقي بسند صحيح. وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه مرفوعًا: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر، وأخروا السحور" وفي سنده سليمان بن أبي عثمان، وهو مجهول.
وجوَّز أبو حنيفة إخراج القيمة. وقال: إذا أخرج المُزكي من القمح فإنه يُجزئ نصف صاع.
قال أبو سعيد الخدري: "كنا إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخرج زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر ومملوك: صاعًا من طعام، أو صاعًا من أَقِط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجًا أو معتمرًا، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلَّم به أن قال: أني أرى أن مدّين من سمراء الشام، تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد فأما أنا، فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشت" رواه الجماعة. المدان: نصف صاع، والمقصود بسمراء الشام: القمح قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يرون من كل شيء صاعًا، وهو قول الشافعي وإسحاق.
وقال بعض أهل العلم: من كل شيء صاع إلا البر، فإنه يجزئ نصف صاع وهو قول سفيان، وابن المبارك، وأهل الكوفة.
متى تجب؟
اتفق الفقهاء على أنها تجب في آخر رمضان، واختلفوا في تحديد الوقت الذي تجب فيه. فقال الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك: إن وقت وجوبها، غروب الشمس ليلة الفطر، لأنه وقت الفطر من رمضان.
وقال أبو حنيفة والليث والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك: إن وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد.
وفائدة هذا الاختلاف في المولود يولد قبل الفجر من يوم العيد، وبعد مغيب الشمس: هل تجب عليه أم لا تجب؟ فعلى القول الأول لا تجب، لأنه ولد بعد وقت الوجوب وعلى الثاني: تجب لأنه ولد قبل وقت الوجوب.
الشك في طلوع الفجر:
ولو شك في طلوع الفجر فله أن يأكل ويشرب حتى يستيقن طلوعه، ولا يعمل بالشك، فإن الله عز وجل جعل نهاية الأكل والشرب التبين نفسه لا الشك؛ فقال: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (. وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: "إني أتسحر فإذا شككت أمسكت؛ فقال ابن عباس: كل ما شككت حتى لا تشك". وقال أبو داود: قال أبو عبد الله: "إذا شك في الفجر يأكل حتى يستسقين طلوعه". وهذا مذهب ابن عباس وعطاء والأوزاعي وأحمد. وقال النووي: وقد اتفق أصحاب الشافعي على جواز الأكل للشاك في طلوع الفجر.
2 ... ... تعجيل الفطر:
ويستحب للصائم أن يعجل الفطر متى تحقق غروب الشمس، فعن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" رواه البخاري ومسلم. وينبغي أن يكون الفطر على رطبات وترًا، فإن لم يجد فعلى الماء. فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يُصلِّي، فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء. رواه أبو داود والحاكم وصححه، والترمذي وحسنه. وعن سلمان بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم صائمًا فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإن الماء طهور" رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وفي الحديث دليل على أنه يستحب الفطر قبل صلاة المغرب بهذه الكيفية، فإذا صلى تناول حاجته من الطعام بعد ذلك، إلا إذا كان الطعام موجودًا، فإنه يبدأ به، قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قدم العشاء فابدأوا به قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم" رواه الشيخان.
3 ... ... الدعاء عند الفطر وأثناء الصيام:
روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد"، وكان عبد الله إذا افطر يقول: "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي". وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى". وروي مرسلاً: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت". وروى الترمذي بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم؛ الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم".
4 ... ... الكف عما يتنافى مع الصيام:
الصيام عبادة من أفضل القربات، شرعه الله تعالى ليهذب النفس، ويعودها الخير. فينبغي أن يتحفظ الصائم من الأعمال التي تخدش صومه، حتى ينتفع بالصيام، وتحصل له التقوى التي ذكرها الله في قوله:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وليس الصيام مجرد إمساك عن الأكل والشرب، وسائر ما نهى الله عنه.
فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم.. إني صائم" رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وروى الجماعة إلا مسلمًا عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" رواه النسائي وابن ماجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري.
5 ... ... السواك:(1/34)
ويستحب للصائم أن يتسوك أثناء الصيام، ولا فرق بين أول النهار وآخره. قال الترمذي: "ولم ير الشافعي بالسواك أول النهار وآخره بأسًا". وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك وهو صائم. وتقدم ذلك في هذا الكتاب، فليرجع إليه.
6 ... ... الجود ومدارسة القرآن:
الجود ومدارسة القرآن مستحبان في كل وقت، إلا أنهما آكد في رمضان. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.
7 ... ... الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر". وفي رواية لمسلم: "كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره". وروى الترمذي وصححه عن علي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر ويرفع المئزر"
مباحات الصيام
يباح في الصيام ما يأتي:
1 ... ... نزول الماء والانغماس فيه : لما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه حدثه فقال: "ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم، من العطش أو من الحر" رواه أحمد ومالك وأبو داود بإسناد صحيح. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يصبح جنبًا وهو صائم ثم يغتسل". فإن دخل الماء في جوف الصائم من غير قصد فصومه صحيح.
2 ... ... الاكتحال : والقطرة ونحوهما مما يدخل العين؛ سواء وجد طعمه في حلقه أم لم يجده؛ لأن العين ليست منفذاً إلى الجوف. وعن أنس: "أنه كان يكتحل وهو صائم". وإلى هذا ذهبت الشافعية، وحكاه ابن المنذر عن عطاء والحسن والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور. وروى عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى من الصحابة. وهو مذهب داود. ولم يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الترمذي.
3 ... ... القُبلة : لمن قدر على ضبط نفسه. فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه". وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: هششت يومًا، فقبَّلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قبَّلْت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك، قال: ففيم؟".
قال ابن المنذر: رخَّص في القُبلة عمر وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن وأحمد وإسحاق. ومذهب الأحناف والشافعية: أنها تكره على من حركت شهوته، ولا تكره لغيره، لكن الأَولى تركها. ولا فرق بين الشيخ والشاب في ذلك، والاعتبار بتحريك الشهوة، وخوف الإنزال، فإن حركت شهوة شاب، أو شيخ قوي، كرهت. وإن لم تحركها لشيخ أو شاب ضعيف، لم تكره، والأولى تركها سواء قبل الخد أو الفم أو غيرها، وهكذا المباشرة باليد والمعانقة لهما حكم القبلة.
4 ... ... الحقنة : مطلقًا؛ سواء أكانت للتغذية، أم لغيرها، وسواء أكانت في العروق، أو تحت الجلد، فإنها وإن وصلت إلى الجوف، فإنها تصل إليه من غير المنفذ المعتاد.
5 ... ... الحجامة : وهي أخذ الدم من الرأس وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، إلا إذا كانت تضعف الصائم فإنها تكره له، قال ثابت البناني لأنس: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "لا، إلا من أجل الضعف" رواه البخاري وغيره. والفصد وهو أخذ الدم من أي عضو مثل الحجامة في الحكم.
6 ... ... المضمضة والاستنشاق : إلا أنه تكره المبالغة فيهما، فعن لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا استنشقت فأبلغ، إلا أن تكون صائمًا" رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد كره أهل العلم السعوط وهو وضع الدواء في الأنف للصائم، ورأوا أن ذلك يفطر، وفي الحديث ما يقوي قولهم. قال ابن قدامة: وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شيء عليه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه، وروي ذلك عن ابن عباس. وقال مالك وأبو حنيفة: يفطر، لأنه أوصل الماء إلى جوفه، ذاكرًا لصومه فأفطر كما لو تعمد.
قال ابن قدامة مرجحًا الرأي الأول: ولنا أنه وصل الماء إلى حلقة من غير إسراف ولا قصد، فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه وقد قال ابن عباس: دخول الذباب في حلق الصائم لا يفطر، وبهذا فارق المعتمد.
2 ... ... وكذا يباح له ما لا يمكن الاحتراز عنه كبلع الريق، وغبار الطريق، وغربلة الدقيق والنخامة ونحو ذلك. وقال ابن عباس: لا بأس أن يذوق الطعام الخل، والشيء يريده شراءه.
وكان الحسن يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم، ورخص فيه إبراهيم. وأما مضغ العلك أي: اللبان فإنه مكروه، إذا كان لا يتفتت منه أجزاء. وممن قال بكراهته الشعبي والنخعي والأحناف والشافعي والحنابلة. ورخصت عائشة وعطاء في مضغه، لأنه لا يصل إلى الجوف، فهو كالحصاة يضعها في فمه. هذا إذا لم تتحلل منه أجزاء، فإن تحللت منه أجزاء ونزلت إلى الجوف أفطر.
قال ابن تيمية: وشم الروائح الطيبة لا بأس به للصائم. وقال: أما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم؛ فمنهم من لم يُفطر بشيء من ذلك. ومنهم من فطَّر بالجميع إلا بالكحل، ومنهم من فطَّر بالجميع إلا بالتقطير، ومنهم من لا يفطِّر بالكحل ولا بالتقطير، ويفطِّر بما سوى ذلك.
ثم قال مرجحًا الرأي الأول: والأظهر أنه لا يفطّر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام.
فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه؛ ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلغوه الأمة. كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثًا صحيحًا، ولا ضعيفًا، ولا مسندًا ولا مرسلاً: علم أنه لم ينكر شيئًا من ذلك.
قال: فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًا، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك.
فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب. فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن.
والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، كذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطيبه وتبخره وادهانه وكذلك اكتحاله، وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يُجرح أحدهم، إما في الجهاد وإما في غيره مأمومة وجائفة، فلو كان يفطره لبين لهم ذلك. فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا. ثم قال: فإن الكحل لا يغذي ألبتة ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه، لا من أنفه ولا من فمه.
وكذلك الحقنة لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن؛ كما لو شم شيئًا من المسهلات، أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة.
والدواء الذي يصل إلى المعدة، في مداواة الجائفة أي الجراحة التي تصل إلى الجوف والمأمومة أي الشجة في الرأس تصل إلى أم الدماغ، ومداواتهما ليست تغذية: لا يشبه ما يصل إليها من غذائه. والله سبحانه قال: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وقال صلى الله عليه وسلم: "الصوم جنة"، وقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم".
فالصائم نهي عن الأكل والشرب، لأن ذلك سبب التقوِّي؛ فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير، الذي يجري فيه الشيطان، إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوي به المأمومة والجائفة. انتهى.
8 ... ... ويباح للصائم أن يأكل ويشرب ويجامع حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر وفي فمه طعام وجب عليه أن يلفظه، أو كان مجامعًا وجب عليه أن ينزع. فإن لفظ أو نزع صح صومه، وإن ابتلع ما في فمه من طعام مختارًا أو استدام الجماع أفطر. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم".
9 ... ... ويباح للصائم أن يصبح جنبًا، وتقدم حديث عائشة في ذلك.
10 ... ... والحائض والنفساء اذا انقطع الدم من الليل جاز لهما تأخير الغسل إلى الصبح، وأصبحتا صائمتين، ثم عليهما أن تتطهرا للصلاة
ما يبطل الصيام
ما يبطل الصيام قسمان:
1 ... ... ما يبطله ويوجب القضاء.
2 ... ... وما يبطله ويوجب القضاء والكفارة.
فأما ما يبطله ويوجب القضاء فقط فهو ما يأتى:
1 ... , ... 2 ... ... الأكل والشرب عمدًا:
فإن أكل أو شرب ناسيًا أو مخطئًا أو مكرهًا فلا قضاء عليه ولا كفارة.
فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه الجماعة.
وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق. وروى الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة" قال الحافظ بن حجر: إسناده صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجة والطبراني والحاكم.
3 ... ... القيء عمدًا:
فإن غلبه القئ فلا قضاء عليه ولا كفارة. فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض" وذرعه القيء: أي غلبه، واستقاء: أي تعمد القيء واستخراجه بشم ما يقيئه أو بإدخال يده في فيه رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدار قطني والحاكم وصححه.
قال الخطابي: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عمدًا فعليه القضاء.
4 ... , ... 5 ... ... الحيض والنفاس
ولو في اللحظة الأخيرة قبل غروب الشمس، وهذا مما أجمع العلماء عليه.
6 ... ... الاستمناء :
أي تعمد إخراج المني بأي سبب من الأسباب؛ سواء أكان سببه تقبيل الرجل لزوجته أو ضمها إليه، أو كان باليد، فهذا يبطل الصوم، ويوجب القضاء. فإن كان سببه مجرد النظر نهارًا في الصيام لا يبطل الصوم، ولا يجب فيه شيء. وكذلك المذي لا يؤثر في الصوم قل أو أكثر.
7 ... ... تناول ما لا يتغذى به من المنفذ المعتاد إلى الجوف
مثل تعاطي الملح الكثير، فهذا يفطر في قول عامة أهل العلم.
8 ... ... ومن نوى الفطر وهو صائم بطل صومه
وإن لم يتناول مفطرًا. فإن النية ركن من أركان الصيام، فإن نقضها قاصدًا الفطر ومتعمدًا له انتقض صيامه لا محالة.
9 ... ... إذا أكل أو شرب أو جامع ظانًا غروب الشمس وعدم طلوع الفجر
فظهر خلاف ذلك فعليه القضاء عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة.
وذهب إسحاق وداود وابن وعطاء وعروة والحسن البصري ومجاهد إلى أن صومه صحيح، ولا قضاء عليه. لقول الله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ0).
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ إلخ.." وتقدم.
وروى عبد الرزاق قال: حدثنا مَعْمَر عن الأعمش عن يزيد بن وهب، قال: "أفطر الناس في زمن عمر بن الخطاب، فرأيت عِسَاسًا أي أقداحًا ضخامًا. قيل: أن القدح نحو ثمانية أرطال أخرجت من بيت حفصة فشربوا، ثم طلعت الشمس من سحاب فكأن ذلك شق على الناس؛ فقالوا: نقضي هذا اليوم، فقال عمر: لم؟ والله ما تجانفنا الإثم" التجانف: الميل. أي لم نمل لارتكاب الإثم.
وروى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "أفطرنا يومًا من رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس".
قال ابن تيمية وهذا يدل على شيئين:
الأول: يدل على أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب، فإنهم لم يفعلوا ذلك، ولم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ورسوله، ممن جاء بعدهم. الثاني: يدل على أنه لا يجب القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمرهم بالقضاء، لشاع ذلك، كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل دل على أنه لم يأمرهم به.
وأما ما يبطله ويوجب القضاء والكفارة فهو الجماع لا غير عند الجمهور؛ فعن أبي هريرة: قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت يا رسول الله. قال: "وما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان. فقال: "هل تجد ما تعتق به رقبة؟" قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال: لا. قال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟" قال: لا. قال: ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق العرق: مكيال يسع 15 صاعًا فيه تمر، فقال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا؟ فما بين لابتيها لابتيها: جمع لابة. وهي الأرض التي فيها حجارة سود. والمراد: ما بين أطراف المدينة أفقر منا أهل بيت أحوج إليه منا؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه، وقال: "اذهب فأطعمه أهلك" رواه الجماعة. ويستدل بهذا من ذهب إلى سقوط الكفارة بالإعسار، وهو أحد قولي الشافعي، ومشهور مذهب أحمد، وجزم به بعض المالكية، والجمهور على أن الكفارة لا تسقط بالإعسار. ومذهب الجمهور: أن المرأة والرجل سواء في وجوب الكفارة عليهما، ما داما قد تعمدا الجماع، مختارين في نهار رمضان ناويين الصيام. فإن كان الصيام قضاء رمضان، أو نذرًا وأفطر بالجماع، فلا كفارة في ذلك
فإذا وقع الجماع نسيانًا، أو لم يكونا مختارين، بأن أكرها عليه، أو لم يكونا ناويين الصيام، فلا كفارة على واحد منهما.
فإن أكرهت المرأة من الرجل، أو كانت مفطرة لعذر وجبت الكفارة عليه دونها.
ومذهب الشافعي: أنه لا كفارة على المرأة مطلقًا، لا في حالة الاختيار، ولا في حالة الإكراه. وإنما يلزمها القضاء فقط. قال النووي: والأصح على الجملة وجوب كفارة واحدة عليه خاصة عن نفسه فقط، وأنه لا شيء على المرأة، ولا يلاقيها الوجوب، لأنه حق مالٍ مختص بالجماع، فاختص به الرجل، دون المرأة كالمهر.
قال أبو داود: سئل أحمد عمن أتى أهله في رمضان، أعليه كفارة؟ قال: ما سمعنا أن على امرأة كفارة. وهذه إحدى الروايتين عن أحمد.
قال في المغنى: ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة، ولم يأمر في المرأة بشيء، مع علمه بوجود ذلك منها".
والكفارة على الترتيب المذكور في الحديث، في قول جمهور العلماء.
فيجب العتق أولاً، فإن عجز عنه صام شهرين متتابعين، ليس فيهما رمضان ولا أيام العيد والتشريق، فإن عجز عنه أطعم ستين مسكينًا من أوسط ما يطعم منه أهله، ولا يصح الانتقال من حالة إلى أخرى، إلا إذا عجز عنها، ومذهب المالكية ورواية لأحمد: أنه مخير بين هذه الثلاثة فأيها فعل أجزأ عنه. لما روى مالك، وابن جريح. عن حميد بن عبد الرحمن. عن أبي هريرة: أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا، رواه مسلم و "أو" تفيد التخيير.
ولأن الكفارة بسبب مخالفة، فكانت على التخيير، ككفارة اليمين. قال الشوكاني: وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير، والذين رووا الترتيب أكثر، ومعه الزيادة.
وجمع المهلب والقرطبي بين الروايات بتعدد الواقعة. قال الحافظ: هو بعيد، لأن القصة واحدة، والمخرج متحد، والأصل عدم التعدد. وأجمع بعضهم مجمل الترتيب على الأولوية، والتخيير على الجواز، وعكسه بعضهم، انتهى.
هذا ومذهب أحمد في الإطعام أن لكل مسكين مدًا من قمح. أو نصف صاع من تمر أو شعير ونحوهما. وقال أبو حنيفة: من القمح نصف صاع ومن غيره صاع. وقال الشافعي ومالك: يطعم مدًا من أي الأنواع شاء. وهذا رأي أبي هريرة وعطاء والأوزاعي، وهو أظهر، فإن العرق الذي أعطي للأعرابي يسع 15 صاعًا.
ومن جامع عامدًا في نهار رمضان ولم يكفر، ثم جامع في يوم آخر منه فعلية كفارة واحدة، عند الأحناف، ورواية عن أحمد؛ لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها، فتتداخل.
وقال مالك والشافعي، ورواية عن أحمد: عليه كفارتان، لأن كل يوم عبادة مستقلة، فإن وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين. وقد أجمعوا: على أن من جامع في رمضان عامدًا وكفر ثم جامع في يوم آخر فعليه كفارة أخرى. وكذلك أجمعوا على أن من جامع مرتين في يوم واحد لم يكفر عن الأول أن عليه كفارة واحدة. فإن كفر عن الجماع الأول لم يكفر ثانيًا عند جمهور الأئمة. وقال أحمد: عليه كفارة ثانية
قضاء رمضان
قضاء رمضان لا يجب على الفور، بل يجب وجوبًا موسعًا في أي وقت، وكذلك الكفارة؛ فقد صح عن عائشة أنها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان رواه أحمد ومسلم، ولم تكن تقضيه فورًا عند قدرتها على القضاء. والقضاء مثل الأداء، بمعنى أن من ترك أيامًا يقضيها دون أن يزيد عليها. ويفارق القضاء الأداء في أنه لا يلزم فيه التتابع، لقول الله تعالى: ) وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ(؛ أي ومن كان مريضًا أو مسافرًا فأفطر فليصم عدة أيام التي أفطر فيها في أيام أخر متتابعات أو غير متتابعات، فإن الله أطلق الصيام ولم يقيده. وروى الدار قطني عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قضاء رمضان: "إن شاء فرَّق وإن شاء تابع". وإن أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر صام رمضان الحاضر، ثم يقضي بعده ما عليه، ولا فدية عليه؛ سواء كان التأخير لعذر أو لغير عذر، وهذا هو مذهب الأحناف والحسن البصري. ووافق مالك والشافعي وأحمد وإسحاق الأحناف في أنه لا فدية عليه إذا كان التأخير بسبب العذر. وخالفوهم فيما إذا لم يكن له عذر في التأخير، فقالوا: عليه أن يصوم رمضان الحاضر ثم يقضي ما عليه بعده، ويفدي عما فاته عن كل يوم مدًا من طعام. وليس لهم في ذلك دليل يمكن الاحتجاج به. فالظاهر ما ذهب إليه الأحناف، فإنه لا شرع إلا بنص صحيح
من مات وعليه صيام
أجمع العلماء على أن من مات وعليه فوائت من الصلاة فإن وليه لا يصلي عنه ولا غير وليه، وكذلك من عجز عن الصيام لا يصوم عنه أحد أثناء حياته. فإن مات وعليه صيام وكان قد تمكن من صيامه قبل موته فقد اختلف الفقهاء في حكمه:
فذهب جمهور العلماء، ومنهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في المشهور عنه إلى أن وليه لا يصوم عنه، ويطعم عنه مدًا عن كل يوم عند غير أبي حنيفة، أو نصف صاع من قمح أو صاعًا من غيره كما هو رأي أبي حنيفة.
والمذهب المختار عند الشافعية: أنه يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى إطعام عنه. والمراد بالولي: القريب؛ سواء كان عصبة أو وارثًا أو غيرهما. ولو صام أجنبي عنه صح إن كان بإذن الولي، وإلا فإنه لا يصح. واستدلوا بما رواه أحمد والشيخان عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" زاد البزار لفظ: إن شاء وسند الزيادة حسن، وروي أحمد وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صيام شهر، أفاقضيه عنها؟ فقال: "لو كان على أمك دَين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يقضى".
قال النووي: وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
التقدير في البلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها
اختلف الفقهاء في التقدير في البلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، والبلاد التي يقصر نهارها ويطول ليلها: على أي البلاد يكون؟
فقيل: يكون التقدير على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل: على أقرب بلاد معتدلة إليهم
ليلة القدر
فضلها:
ليلة القدر أفضل ليالي السنة لقول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)؛ أي العمل فيها من الصلاة والتلاوة والذكر خير من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر.
استحباب طلبها:
ويستحب طلبها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في طلبها في العشر الأواخر من رمضان. وتقدم أنه كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله، وشد المئزر أي اعتزل النساء واشتد في العبادة.
أي الليالي هي؟
للعلماء آراء في تعيين هذه الليلة؛ فمنهم من يرى أنها ليلة الحادي والعشرين، ومنهم من يرى أنها ليلة الثالث والعشرين، ومنهم من يرى أنها ليلة الخامس والعشرين، ومنهم من ذهب إلى أنها ليلة التاسع والعشرين، ومنهم من قال: إنها تنتقل في ليالي الوتر من العشر الأواخر.وأكثرهم على أنها ليلة السابع والعشرين، روى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين"، وروي مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبيِّ بن كعب أنه قال: "والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها".
قيامها والدعاء فيها:
1 ... ... روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".(1/35)
2 ... ... وروى أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"
العشر الأواخر من رمضان
كان النبي صلى الله عليه وسلّم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر:
إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ففي حديث عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلّم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر يعني الأخير شمّر وشد المئزر" رواه أحمد. ويحتمل أن يُراد بإحياء الليل إحياء غالبه، ويؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة، قالت: "ما أعلمه صلى الله عليه وسلّم قام ليلة حتى الصباح ".
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، قال سفيان الثوري: أحب إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يطرق فاطمة وعليّا ليلاً فيقول لهما: "ألا تقومان فتصليان " رواه البخاري ومسلم.
وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر. وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" [طه 132].
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يشد المئزر. واختلفوا في تفسيره، فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جدّه واجتهاده في العبادة، وهذا فيه نظر، والصحيح أن المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون منهم سفيان الثوري، وورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان. وفي حديث أنس: " وطوى فراشه، واعتزل النساء ". وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: "فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم" [البقرة: 187] : إنه طلب ليلة القدر. والمعنى في ذلك أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر؟ لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح، فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصاً في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن هاهنا كان النبي (صلى الله عليه وسلّم) يصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءه ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
ومنها تأخيره للفطور إلى السحر: روي عنه من حديث عائشة وأنس أنه لما كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً. ولفظ حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شد المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحوراً " رواه ابن أبي عاصم،. وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلّم: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعمٌ يطعمني وساقٍ يسقين " رواه البخاري،. وظاهر هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان يواصل الليل كله، وقد يكون صلى الله عليه وسلّم إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر، ولم يكن ذلك مضعفاً له عن العمل، فإن الله كان يطعمه ويسقيه.
ومنها اغتساله صلى الله عليه وسلّم بين العشائين، وقد تقدم من حديث عائشة: "واغتسل بين الأذانين " والمراد: أذان المغرب والعشاء، قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر. وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر. وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين.
فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين، والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد. وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب؟ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئأ.
ولا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه وطهرهما، فكيف وملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، وهو لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التقوى.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقوى ... تقلب عرياناً وإن كان كاسيا
ومنها الاعتكاف، ففي "الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى. وفي "صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين ". وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه العشر التي تطلب فيها ليلة القدر، قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلّياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه.
فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه. وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال
أسباب المغفرة في رمضان
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ". وقال رضي الله عنه قال: صلى الله عليه وسلّم : "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " رواهما البخاري ومسلم.
دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أن هذه الأسباب الثلاثة كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان، وقيامه، وقيام ليلة القدر، فقيام ليلة القدر بمجرده يكفر الذنوب لمن وقعت له، سواء كانت في أول العشر أو أوسطها أو آخرها، وسواء شعر بها أو لم يشعر، ولا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر.
وأما صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب له على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه بتمام السببين، وهما صيام رمضان وقيامه.
فإذا أكمل الصائمون صيام رمضان وقيامه فقد وفّوا ما عليهم من العمل، وبقي ما لهم من الأجر وهو المغفرة؟ فإذا خرجوا يوم عيد الفطر إلى الصلاة قُسّمت عليهم أجورهم، فرجعوا إلى منازلهم وقد استوفوا الأجر واستكملوه، ومن نقص من العمل الذي عليه نقص من الأجر بحسب نقصه، فلا يلوم إلا نفسه. قال سلمان: الصلاة مكيال، فمن وفى وُفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين. فالصيام وسائر الأعمال على هذا المنوال؟ من وفاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفف فيها فويل للمطففين. أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه وصلاته.
غدا توفى النفوس ما كسبت... ... ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم... ... وإن أساءوا فبئس ما منعوا
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين "يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة" [المؤمنون:6]. روي عن علي رضي الله عنه، قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين) [المائدة: 27].
وعن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون.
ومن أسباب المغفرة فيه أيضاً: تفطير الصوام، والتخفيف عن المملوك، ومنها الذكر، ومنها الاستغفار، والاستغفار طلب المغفرة، ودعاء الصائم يستجاب في صيامه وعند فطره، ومنها استغفار الملائكة للصائمين حتى يفطروا، فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان الذي تفوته المغفرة فيه محرومًا غاية الحرمان.
فمتى يُغفر لمن لا يُغفر له في هذا الشهر؟ متى يقبل من رُدّ في ليلة القدر؟ متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ متى يصح من كان به فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟ كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع ثم يوقد في النار، من فرط في الزرع في وقت البِذار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم والخسارة
ــــــــــــــــــــ(1/36)
رمضان شهر العتق من النيران
وأما آخر الشهر فيُعتق فيه من النار من أوبقته الأوزار، واستوجب النار بالذنوب الكبار، فإذا كان يوم الفطر من رمضان أعتق الله فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار، فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار.
ولما كانت المغفرة والعتق من النار كل منهما مرتبًا على صيام رمضان وقيامه، أمر الله سبحانه وتعالى عند إكمال العدة بتكبيره وشكره، فقال تعالى: "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون" [البقرة: 185]، فشكر من أنعم على عباده بتوفيقهم للصيام وإعانتهم عليه، ومغفرته لهم به، وعتقهم من النار، أن يذكروه ويشكروه ويتقوه حق تقاته.
يا من أعتقه مولاه من النار! إياك أن تعود بعد أن صرت حرًا إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك عن النار وأنت تتقرب منها؟ وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها؟!
فينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من النار أن يأتي بأسباب توجب العتق من النار، وهي متيسرة في هذا الشهر؟ ففي صحيح ابن خزيمة: " فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما. فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار. وأما اللتان لا غناء لكم عنهما فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار ". فهذه الخصال الأربعة المذكورة في هذا الحديث كل منها سبب للعتق والمغفرة. فأما كلمة التوحيد فإنها تهدم الذنوب وتمحوها محوأ، ولا تبقي ذنبا، ولا يسبقها عمل، وهي تعدل عتق الرقاب الذي يوجب العتق من النار. وأما كلمة الاستغفار فمن أعظم أسباب المغفرة، فإن الاستغفار دعاء بالمغفرة، ودعاء الصائم مستجاب في حال صيامه وعند فطره، وأنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود. وأما سؤال الجنة والاستعاذة من النار فمن أهم الدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: "حولهما ندندن " رواه أبو داود وابن ماجه.
ــــــــــــــــــــ(1/37)
وداعًا رمضان
عباد الله، إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومن كان فرط فليختمه بالحسنى، فالعمل بالختام. فاستمتعوا منه فيما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملا صالحا يشهد لكم به عند الملك العلّام، وودّعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كل ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق، عسى رحمة المولى لها العاصي يوفق.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
من كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف
للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى
ــــــــــــــــــــ(1/38)
زكاة الفطر
زكاة الفطر: أي الزكاة التي تجب بالفطر من رمضان.
وهي واجبة على كل فرد من المسلمين؛ صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد. روى البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين".
حكمتها:
شرعت زكاة الفطر في شعبان من السنة الثانية من الهجرة لتكون طهرة للصائم، مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو والرفث، ولتكون عونًا للفقراء والمعوزين. روى أبو داود وابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
على من تجب:
تجب على الحر المسلم، المالك لمقدار صاع، يزيد عن قوته وقوت عياله، يومًا وليلة وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد. قال الشوكاني: وهذا هو الحق. وعند الأحناف لا بد من مالك النصاب. وتجب عليه عن نفسه وعمن تلزمه نفقته: كزوجته، وأبنائه، وخدمه الذين يتولى أمورهم، ويقوم بالإنفاق عليهم.
قدرها:
الواجب في صدقة الفطر صاع من القمح أو الشعير أو التمر أو الزبيب أو الأقط أو الأرز أو الذرة أو نحو ذلك مما يعتبر قوتًا.
الصاع: أربعة أمداد، والمد: حفنة بكفي الرجل المعتدل الكفين، ويساوي قدحًا وثلث قدح أو قدحين، والأَقِط: لبن مجف لم تنزع زبدته.
وجوَّز أبو حنيفة إخراج القيمة. وقال: إذا أخرج المُزكي من القمح فإنه يُجزئ نصف صاع.
قال أبو سعيد الخدري: "كنا إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخرج زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر ومملوك: صاعًا من طعام، أو صاعًا من أَقِط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجًا أو معتمرًا، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلَّم به أن قال: أني أرى أن مدّين من سمراء الشام، تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد فأما أنا، فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشت" رواه الجماعة. المدان: نصف صاع، والمقصود بسمراء الشام: القمح قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يرون من كل شيء صاعًا، وهو قول الشافعي وإسحاق.
وقال بعض أهل العلم: من كل شيء صاع إلا البر، فإنه يجزئ نصف صاع وهو قول سفيان، وابن المبارك، وأهل الكوفة.
متى تجب؟
اتفق الفقهاء على أنها تجب في آخر رمضان، واختلفوا في تحديد الوقت الذي تجب فيه. فقال الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك: إن وقت وجوبها، غروب الشمس ليلة الفطر، لأنه وقت الفطر من رمضان.
وقال أبو حنيفة والليث والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك: إن وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد.
وفائدة هذا الاختلاف في المولود يولد قبل الفجر من يوم العيد، وبعد مغيب الشمس: هل تجب عليه أم لا تجب؟ فعلى القول الأول لا تجب، لأنه ولد بعد وقت الوجوب وعلى الثاني: تجب لأنه ولد قبل وقت الوجوب.
تعجيل عن وقت الوجوب:
جمهور الفقهاء: على أنه يجوز تعجيل صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو بيومين. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
قال نافع: وكان ابن عمر يؤديها، قبل ذلك، باليوم، أو اليومين، واختلفوا فيما زاد على ذلك.
فعند أبي حنيفة، يجوز تقديمها على شهر رمضان.
وقال الشافعي: يجوز التقديم من أول الشهر.
وقال مالك ومشهور مذهب أحمد: يجوز تقديمها يومًا أو يومين.
واتفقت الأئمة: على أن زكاة الفطر لا تسقط بالتأخير بعد الوجوب، بل تصير دينًا في ذمة من لزمته، حتى تؤدى، ولو في آخر العمر.
واتفقوا: على أنه لا يجوز تأخيرها عن يوم العيد(وجزموا بأنها تجزئ لآخر يوم الفطر) إلا ما نقل عن ابن سيرين، والنخعي، أنهما قالا: يجوز تأخيرها عن يوم العيد.
وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس.
وقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق، لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم. كما في إخراج الصلاة عن وقتها.
وقد تقدم في الحديث: " من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".(أي التي يتصدق بها في سائر الأيام)
مصرفها:
مصرف زكاة الفطر، مصرف الزكاة، أي أنها توزع على الأصناف الثمانية المذكورة في آية: (إنما الصدقات للفقراء..) .
والفقراء هم أولي الأصناف بها، لما تقدم في الحديث فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم، من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.
ولما رواه البيهقي، والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: وقال: "أغنوهم في هذا اليوم". وفي رواية للبيهقي: "أغنوهم عن طواف هذا اليوم".
إعطاؤها للذمي:
أجاز الزهري، وأبو حنيفة، ومحمد، وابن شبرمة، إعطاء الذمي من زكاة الفطر لقول الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) [الممتحنة:8]
- - - - - - - - - - - - - -
فتاوى رمضانية
فتاوى مجموعة من العلماء
مفطرات الصوم و مسائل القضاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد .
فالصوم : هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ؛ قال تعالى : "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل"( البقرة187).
ومفطرات الصوم أنواع :
الأول : الأكل والشرب . وهو مفطر بالإجماع للآية السابقة .
المفطر الثاني : ما كان في معنى الأكل والشرب ، وهو ثلاثة أشياء :
أولاً : القطرة في الأنف ، التي يعلم أنها تصل إلى الحلق ، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " أخرجه مسلم من حديث لقيط رضي الله عنه. فالحديث يفهم أنه لو دخل الماء من الأنف إلى الجوف فقد أفطر .
ثانياً : مما يدخل في معنى الأكل والشرب : المحاليل المغذية التي تصل إلى المعدة من طريق الفم ، أو الأنف . و كذا الإبر المغذية ؛ فإنها تقوم مقام الأكل والشرب فتأخذ حكمها ، ولذلك فإن المريض يبقى على المغذي أياماً دون أكل أو شرب ، و لا يشعر بجوع أو عطش .
ثالثاً : مما يدخل في معنى الأكل والشرب : حَقن الدم في المريض ؛ لأن الدم هو غاية الأكل والشرب فكان بمعناه .
المفطر الثالث : الجماع ، وهو مفطر بالإجماع .
المفطر الرابع : إنزال المني باختياره بمباشرة ، أو استمناء ، ونحو ذلك ؛
لأنه من الشهوة التي أمر الصائم أن يدعها كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يدع شهوته ، وأكله ، وشربه من أجلي " متفق عليه .
ومعلوم أن من فعل ذل ذلك عامداً مختاراً ، فقد أنفذ شهوته ولم يدعها .
أما الاحتلام فليس مفطراً بالإجماع .
المفطر الخامس : التقيؤ عمداً ، وهو مفطر بالإجماع .
أما من غلبه القيء فلا شيء عليه . لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ، ومن استقاء فليقض " أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح ، وقال النووي في المجموع (6/315) : " وإسناد أبي داود وغيرِه فيه إسناد الصحيح ". وصححه ابن تيمية في حقيقة الصيام .
المفطر السادس : خروج دم الحيض والنفاس ، وهو مفطر بالإجماع .
فمتى وُجد دم الحيض أو النفاس في آخر جزء من النهار فقد أفطرت ، أو كانت حائضاً فطهرت بعد طلوع الفجر لم ينعقد صومها ، و تكون مفطرة ذلك اليوم .
ومن الأدلة على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد .
ثانياً : أمور ليست من المفطرات . وهي :
أولاً : خروج الدم من الإنسان ، غير دم الحيض والنفاس ؛ كالتبرع بالدم ، أو إخراجه للتحليل ، أو خروجِه بسبب رعاف أو جرح ، أو بالاستحاضة ، وغيرِ ذلك .
لأن الأصل في الأشياء أنهاغير مفطرة ، إلا إذا دل الدليل على كونها مفطرة ، ولا دليل .
أما قياس خروج الدم للتبرع والتحليل وما شابه ذلك على الحجامة فغير مسلم لأمرين :
الأول : أن الفطر بالحجامة أمر تعبدي محض لا يعقل معناه على التفصيل ، وما كان كذلك فإنه لا يجري فيه القياس .
فقد قال صلى الله عليه وسلم : " أفطر الحاجم والمحجوم " أخرجه أبوداود وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه وصححه جمع من الأئمة منهم الإمام أحمد والبخاري .
فمما يؤكد أن العلة تعبدية أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحجامة مفطرة للحاجم أيضاً ، والدم لا يدخل جوف الحاجم ، ولذلك فإن من يرى التبرع بالدم مفطراً ، فإنه يجعل الفطر خاص بالمتبرع دون الطبيب أو الممرض الذي يقوم بسحب الدم .
وما ذكره بعض أهل العلم في علة الفطر في الحجامة على الحاجم والمحجوم ، فهي محاولة لمعرفة الحكمة في ذلك ولا نستطيع الجزم بما ذكروه لعدم الدليل .
ثانياً : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أفطر الحاجم والمحجوم " . منسوخ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم " أخرجه البخاري . والدليل على كونه ناسخاً حديثان:
الأول : حديث أنس رضي الله عنه قال : " أول ما كرهت الحجامة للصائم : أن جعفر بن أبي طالب
احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفطر هذان ، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ في الحجامة للصائم ، وكان أنس يحتجم وهو صائم ". أخرجه الدار قطني ، وصححه ، وأقره البيهقي في السنن الكبرى ، وصححه النووي .
الثاني : حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " رخص رسول الله في القبلة للصائم ، والحجامة " أخرجه الطبراني والدار قطني ، وقال ابن حزم إسناده صحيح ، وصححه من المعاصرين
الألباني رحمه الله . والرخصة لا تكون إلا بعد العزيمة .
والقاعدة أنه إذا وجد حديثان متعارضان ، ولم يمكن الجمع بينهما ،لم يجز إعمال قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة إلا إذا جهل التاريخ ، وهنا قد علمنا المتقدم من المتأخر فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم ، كيف وحديثا أنس وأبي سعيد صريحان في نسخ الفطر بالحجامة .
ثانياً من الأمور غير المفطرة : كثير من الوسائل العلاجية ، وقد صدر فيها قرار من مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته العاشرة 1418هـ ، وأنقل هنا أكثر هذا القرار :
" قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي ما يلي :
أولاً : الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات :
1. قطرة العين ، أو قطرة الأذن ، أو غسول الأذن ، أو قطرة الأنف ، أو بخاخ الأنف ، إذا اجتنب ما نفذ إلى الحلق .
2. الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية ، وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
3. ما يدخل المهبل من تحاميل ، أو غسول ، أو منظار .
4. إدخال المنظار ، أو اللولب ، ونحوهما إلى الرحم .
5. ما يدخل الإحليل ؛ أي مجرى البول الظاهر للذكر و الأنثى ، أو منظار ، أو دواء ، أو محلول لغسل المثانة .
6. حفر السن ، أو قلع الضرس ، أو تنظيف الأسنان ، أو السواك وفرشاة الأسنان ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
7. المضمضة ، والغرغرة ، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
8. غاز الأكسجين .
9. غازات التخدير ، ما لم يعط المريضُ سوائلَ مغذية .
10. ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد كالدهونات ، والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية .
11. إدخال (أنبوب دقيق ) في الشرايين لتصويرِ ، أو علاجِ أوعية القلب ، أ, غيره من الأعضاء .
12. إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء ، أو إجراء عملية جراحية عليها .
13. أخذ عينات من الكبد ، أو غيره من الأعضاء ، مالم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل .
14. دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي .
ثانياً : ينبغي على الطبيب المسلم نصحُ المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق " . انتهى قرار المجمع الفقهي .
والدليل على أن ما سبق ليس من المفطرات ؛ أنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما ، والأصل عدم كون الشيء مفطراً إلا إذا دل الدليل على اعتباره مفطراً ، ولا دليل .
ويلحق بما مضى وبنفس التعليل : مداواة الجروح الغائرة ، والكحل في العين .
ثالثاً : من أفطر ناسياً أو مخطئاً .
ومثال الخطأ : من ظن أن الفجر لم يطلع فأكل وهو طالع ، أو ظن أن الشمس قد غربت فأكل وهي لم تغرب . فصومه صحيح و لا شيء عليه ، على القول الراجح من أقوال العلماء .
والدليل على ذلك حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت : " أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ، ثم طلعت الشمس " أخرجه البخاري .
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه حقيقةُ الصيام : أنه لم ينقل أنهم قضوا ذلك اليوم ، ولو أمروا بقضائه لنقل إلينا كما نقل فطرهم .
ودليل الناسي حديث أبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أكل ناسياً وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " متفق عليه .
رابعاً : مسائل القضاء .
المسألة الأولى : الحائض والنفساء يجب عليهما القضاء بالإجماع .
فعن معاذة رحمها الله قالت : " سألت عائشة رضي الله عنها فقلتُ : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟.
قالت : أحرورية أنت ؟ قلت : لست بحرورية ، ولكني أسأل .
فقالت : " كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة "أخرجه الشيخان ، واللفظ لمسلم .
وقولها : (أحرورية أنت ؟) فإنه يقال لمن اعتقد مذهب الخوارج حروري ، نسبة إلى حروراء ، وهي بلدة قرب الكوفة ، وكان أولُ اجتماع للخوارج للخروج على علي بها ، فاشتهروا بالنسبة لها .(انظر الفتح 1/502) .
المسألة الثانية : المسافر يجوز له الفطر ، ولو لم يكن عليه مشقة بالصيام ، ويجب عليه القضاء إذا أفطر ؛ لقوله تعالى : " ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (البقرة158).
وعن حمزةَ بنِ عمروٍ الأسلمي رضي الله عنه أنه قال : " يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هي رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " أخرجه مسلم .
المسألة الثالثة : من أفطر في رمضان بغير عذر فهو آثم إثماً عظيماً ، وعليه التوبة إلى الله ، ويجب عليه قضاء ما أفطر على القول الراجح ، وهو قول الجمهور .
والدليل على وجوب القضاء عليه حديثان :
الأول : حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ، ومن استقاء فليقض " حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره كما سبق.
الثاني : قوله عليه الصلاة والسلام للمجامع في نهار رمضان بعد أن ذكر له الكفارة : " وصم يوماً واستغفر الله " وفي رواية : " وصم يوماً مكانه " أخرجه مالك وأبوداود وابن ماجة وقال النووي في المجموع : " إسناد رواية أبي داود هذه جيد " . وصححه من المعاصرين أحمد شاكر في شرح
المسند (6/147) والألباني في الإرواء (4/90) .رحمهم الله.
المسألة الرابعة : إذا كان الفطر متعمَّداً بالجماع فيجب مع القضاء الكفارة ، وهي عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين
المسألة الخامسة : المريض الذي يشق عليه الصوم بسبب المرض ، أو يحتاج إلى تناول علاج ، فإنه يجوز له أن يفطر ، بل قد يجب إذا ترتب على صيامه إلحاق ضرر به ، ويقضي ما أفطر ؛ لقوله تعالى : " ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ".
ومثله في الحكم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما فإنهما مريضتان ، أو في حكم
المريض .
المسألة السادسة في مسائل القضاء : العاجز عن الصيام .
والعجز نوعان :
النوع الأول : عجز (مؤقت) وهو الذي يرجى ذهابه ؛ كمن أصيب بمرض لا يستطيع معه الصيام لمدة سنتين أو ثلاث أو أربع ، وبعد ذلك يغلب على الظن شفاؤه و قدرته على الصيام ، وهذا الذي يسميه الفقهاء بالمريض الذي يرجى برؤه ، فهذا لا يجب عليه الصيام ، ويجب عليه القضاء إذا شُفي من مرضه ، ولو كان ذلك بعد عدة سنوات ، فحكمه حكم المريض .
النوع الثاني : عجز (دائم) وهو الذي لا يرجى ذهابه ؛ كالشيخ الكبير ، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه كمن يحتاج إلى أخذ علاج في النهار طيلة حياته . فهذا لا يجب عليه الصوم ، ولا يستطيع القضاء ، وإنما يجب عليه : أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً .
فعن عطاء رحمه الله سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : " وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين " قال ابن عباس : " ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكيناً " أخرجه البخاري .
المسألة السابعة : الشيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة إذا بلغا الهذيان وعدم التمييز : لا يجب عليهما الصيام ، ولا الإطعام لسقوط التكليف .
ــــــــــــــــــــ(1/39)
الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان :
الصوم .
القيام .
الصدقة:
• إطعام الطعام .
• تفطير الصائمين .
الاجتهاد في قراءة القران :
• كثرة قراءة القران .
• البكاء عند تلاوة القران أو سماعة .
الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس .
الأعتكاف .
أولاً : تعريفة .
ثانياً : حكمة التشريع في الاعتكاف .
ثالثاً : حكم الاعتكاف .
رابعاً : شروط الاعتكاف .
1 الإسلام .
2 العقل .
3 التمييز .
4 النية .
5 المسجد .
6 الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس .
خامساً : ما يستحب للمعتكف :
1 الإكثار من الطاعات كالصلاة .
2 اجتناب ما لا يعنيه من الأقوال .
3 أن يلزم مكانا من المسجد .
سادساً : ما يباح للمعتكف :
1 الخروج لحاجته التي لابد منها .
2 وله أن يأكل ويشرب في المسجد وينام فيه .
3 الكلام المباح لحاجته .
4 ترجيل شعره وتقليم أظفاره وتنظيف بدنه ولبس الثياب والتطيب .
5 خروجه من معتكفة لتوديع أهلة .
سابعاً: ما يكره للمعتكف :
1 البيع والشراء .
2 الكلام بما فيه أثم .
3 الصمت عم الكلام مطلقا إن اعتقده عباده .
ثامناً : مبطلات الاعتكاف :
1 الخروج من المسجد لغير حاجة عمدا ولو قل .
2 الجماع .
3 ذهاب العقل بجنون أو سكر .
4 الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة لفوات شرط الطهارة .
5 الردة أعاذنا الله منها .
تاسعاً : وقت دخول المعتكف والخروج منه .
عاشراً : تنبيهات :
1 من شرع ف الاعتكاف متطوعا ثم قطعة استحب له قضاؤه .
2 للمرأة الاعتكاف في المسجد إن أمنت الفتنة وبشرط إذن زوجها فإن اعتكفت بغير إذنه فله إخراجها .
3 من نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجز له الاعتكاف في غيره وإن نذر في المسجد النبوي وجب عليه الاعتكاف في المسجد الحرام او مسجد النبوي وإن نذره في المسجد الاقصى وجب عليه الاعتكاف في أحد هذه المساجد الثلاثة .
العمرة في رمضان .
تحري ليلة القدر .
الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار :
1 عند الإفطار .
2 ثلث الليل الآخر .
3 الاستغفار في الأسحار .
4 تحري ساعة الإجابة يوم الجمعة .
ــــــــــــــــــــ(1/40)
مشاهدة القنوات الفضائية في رمضان
المفتي
د . خالد بن علي المشيقح
رقم الفتوى
12438
تاريخ الفتوى
2/9/1426 هـ 20051005
تصنيف الفتوى
السؤال
أوقات شهر رمضان مباركة، وكثير من الناس - مع الأسف - يقضون معظم أوقاتهم أمام القنوات الفضائية المثقلة بالبرامج لإلهاء الناس مع ما فيها من فجور وعري، فهل الذنوب تتضاعف في هذا الشهر؟ وهل هذا يؤثر في الصوم؟ .
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أولاً: أنصح إخواني المسلمين بتعظيم شعائر الله _عز وجل_، ومن شعائر الله _عز وجل_ شهر رمضان، والله _عز وجل_ يقول:"ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج: من الآية32)، ويقول _سبحانه_: "ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ" (الحج: من الآية30)، ومن تعظيم شعيرة الصيام هو عدم اقتراف الذنوب فيها، وامتثال الأمر واجتناب النهي، والمبادرة والمسارعة إلى فعل الخيرات،من أداء الصلوات في أوقاتها في المساجد، وقراءة القرآن، والصدقة، وصلة الأرحام والبر بهم إلى غير ذلك.
لأن الحكمة من مشروعية الصيام هي تقوى الله _عز وجل_،كما قال _سبحانه_: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة:183).
وهكذا كان النبي _صلى الله عليه وسلم_، فكان يكثر من العبادات، من قراءة القرآن ومن الصلاة ومن الصدقة، كما في حديث ابن عباس _رضي الله عنه_ قال: "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"،أخرجه البخاري في صحيحه.
وفي حديث أبي ذر _رضي الله عنه_ قال: " صمنا مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة، ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور "،أخرجه أحمد وأهل السنن، وقال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، فانظر أيها المسلم، لمَّا قام النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالصحابة _رضي الله تعالى عنهم_، قال الصحابة:" يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا" يعني لو أكملت بنا كل الليل قيام، هكذا كان الصحابة _رضوان الله عليهم_، و هكذا كان السلف، وكان الإمام أحمد _رحمه الله_ وعطاء ومجاهد يختمون القرآن كل تسعة أيام مرة، فإذا دخل عليهم شهر رمضان ختموه أكثر من ذلك.
فينبغي على عموم المسلمين أن يعظموا شعيرة الصيام وهذا الشهر الكريم، وأن يتوبوا إلى الله _عز وجل_ من مشاهدة هذه القنوات الفضائية، التي يهدف فيها أعداء الإسلام إلى إضلال المسلمين وإفساد عقائدهم و أخلاقهم؛ فإن الغالب أن القائمين على مثل هذه القنوات هم من اليهود أو النصارى، أو من أتباعهم من أعداء الإسلام، فعلى المسلم أن يتوب إلى الله _عز وجل_، وأن يخرج مثل هذه الآلات من بيته، وأن يقلع عن الذنوب والمعاصي، وأن يغتنم فرصة هذا الشهر بكثرة العبادة، واللجوء إلى الله _عز وجل_، وألا يضيع أوقاته ودقائقه الثمينة فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا والآخرة.
وأما بالنسبة للذنوب في شهر رمضان فإنها لا تتضاعف ولكن تعظم؛ فإن الذنب يعظم في الزمان الفاضل وفي المكان الفاضل، فذنب في رمضان ليس كذنب في شوال أو في شعبان، كما أن الحسنة في رمضان ليست كالحسنة في شوال أو في شعبان، الحسنات في رمضان تتضاعف، وأما الذنوب فهي تعظم، الذنب في رمضان يكون عظيماً عند الله _عز وجل_.
نسأل الله _عز وجل_ أن يمتن على المسلمين جميعاً بتوبة نصوح إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ــــــــــــــــــــ(1/41)
تقدم رمضان بالصوم
المفتي
الشيخ / عبدالله بن صالح الفوزان
رقم الفتوى
12376
تاريخ الفتوى
25/8/1426 هـ 20050929
تصنيف الفتوى
السؤال
فضيلة الشيخ : وفقكم الله للصيام والقيام وحسن الأعمال ، أُريد منكم - وفقكم الله - أن توضحوا لي حكم سبق رمضان بالصوم
حيثُ أن هذه المسألة أشكلت علي كثيراً ؟ .
الجواب
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فالأصل في هذه المسألة هو قوله عليه الصلاة والسلام فيما جاء عن أبي هريرة قال: "لا تقدّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين،?- رضي الله عنه - عن النبي إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه" [رواه : البخاري ومسلم] .
الحديث دليل على النهي عن الصيام قبل ثبوت دخول رمضان. بأن يصوم يوماً أو يومين من غير عادة بقصد الاحتياط لرمضان. لأن الصوم عبادة محدودة بوقت معين وهو رؤية الهلال، فالصيام قبل ذلك من تعدي حدود الله تعالى، وهو ذريعة إلى الزيادة في العبادة.
قال الترمذي بعد الحديث: "العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول شهر رمضان، لمعنى رمضان" متفق عليه .
فيستفاد من الحديث النهي عن صوم يوم الشك؛ لأن النهي عن تقّدم رمضان بالصوم نهي عن الصوم قبل ثبوته، أما من كان له عادة بصوم يوم معيّن كيوم الاثنين أو الخميس، أو صوم يوم وفطر يوم فيصادف ذلك قبل رمضان بيوم أو يومين فلا بأس بذلك لزوال المحذور، وكذلك من يصوم واجباً كصوم نذر أو كفارة أو قضاء رمضان السابق، فكل هذا جائز، لأن ذلك ليس من استقبال رمضان.
فإن قيل ما الجواب عن الحديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن النبي r قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر، أي شعبان؟ قال: لا، فقال رسول الله r: "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه"، متفق عليه .
حيث يدل على مشروعية صيام آخر شعبان؛ لأن المراد بسرر الشهر: آخره؟
فالجواب أنه: لا معارضة بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة المذكور. فإن حديث عمران محمول على أن هذا الرجل كان معتاداً لصيام آخر الشهر. فتركه خوفاً من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، ولم يبلغه الاستثناء، فبين له النبي r أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وأمره بقضائه لتستمر محافظته على ما وظّف على نفسه من العبادة؛ لأن أحب العمل إلى الله تعالى أدومه .
وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله r قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" وفي رواية "فلا يصومنّ أحد"، وفي رواية: "إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان". فعنه جوابان:
الأول: أنه حديث مختلف في تصحيحه وتضعيفه .
الثاني: على القول بصحته فهو محمول على من يصوم نفلاً مطلقاً ابتداءً من النصف من شعبان، أما من له عادة بصيام الاثنين والخميس، أو صوم يوم وإفطار يوم، أو كان يصل النصف الثاني بالنصف الأول، أو عليه قضاء فلا يدخل في النهي، كما تقدم.
وقد ثبت أن النبي r كان يصوم في شعبان. وقد سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن صيام رسول الله r فقالت: "كان يصوم شعبان حتى يصله برمضان" قالت: "وكان يتحرى صيام الاثنين والخميس".
وهذا لا يعارض حديث أبي هريرة رضي الله؛ لأن صيامه r شعبان كان عادة له فيكون داخلاً في المستثنى في حديث أبي هريرة "إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه" والله أعلم.
اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه، ونسألك الدرجات العلى من الجنة، اللهم إنا نسألك إيماناً نهتدي به، ونوراً نقتدي به، ورزقاً حلالاً نكتفي به، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
ــــــــــــــــــــ(1/42)
الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
10691
تاريخ الفتوى
2/11/1425 هـ 20041214
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يجوز للمسلم الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي، أو لابد من رؤية الهلال؟
الجواب
الشريعة الإسلامية شريعة سمحة وهي عامة شاملة أحكامها جميع الثقلين الإنس والجن، على اختلاف طبقاتهم علماء وأميين أهل الحضر وأهل البادية، فلهذا سهل الله عليهم الطريق إلى معرفة أوقات العبادات، فجعل لدخول أوقاتها وخروجها أمارات يشتركون في معرفتها، جعل زوال الشمس أمارة على دخول وقت المغرب وخروج وقت العصر، وغروب الشفق الأحمر أمارة على دخول وقت العشاء مثلا، وجعل رؤية الهلال بعد استتاره آخر الشهر أمارة على ابتداء شهر قمري جديد وانتهاء الشهر السابق، ولم يكلفنا معرفة بدء الشهر القمري بما لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، وهو علم النجوم، أو علم الحساب الفلكي، وبهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة بجعل رؤية الهلال ومشاهدته أمارة على بدء صوم المسلمين شهر رمضان، والإفطار منه برؤية هلال شوال، وكذلك الحال في ثبوت عيد الأضحى ويوم عرفات قال الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} [البقرة: 189] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فجعل عليه الصلاة والسلام الصوم لثبوت رؤية هلال شهر رمضان، والإفطار منه لثبوت رؤية هلال شوال، ولم يربط ذلك بحساب النجوم وسير الكواكب، وعلى هذا جرى العمل زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل والخير، فالرجوع في إثبات الشهور القمرية إلى علم النجوم في بدء العبادات والخروج منها دون الرؤية من البدع التي لاخير فيها، ولامستند لها من الشريعة، وإن المملكة العربية السعودية متمسكة بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من إثبات الصيام والإفطار والأعياد وأوقات الحج نحوها برؤية الهلال، والخير كل الخير في اتباع من سلف في الشئون الدينية والشر كل الشر في البدع التي أحدثت في الدين. حفظنا الله وإياك وجميع المسلمين من الفتن ماظهر منها ومابطن. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 104 ـ 106) [ رقم الفتوى في مصدرها: 386]
ــــــــــــــــــــ(1/43)
تبييت النية في الصوم وحكم التلفظ بها
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
10587
تاريخ الفتوى
25/10/1425 هـ 20041207
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يشترط أن تكون نية الصيام قبل الفجر من كل ليلة من رمضان أم تكفي نية واحدة كل الشهر. وما حكم من تلفظ بها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان.
الجواب
النية شرط من شروط صحة العبادة من صيام وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))([1]) فكل عبادة من العبادات لا تصح إلا بنية ومن ذلك الصيام فإنه لا يصح إلا بنية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صيام لمن لم يبيت النية من الليلة))([2]) فالنية للصيام مشترطة وصيام الفرض لابد أن ينويه من الليل قبل طلوع الفجر ويجب عليه أن ينوي لكل يوم نية جديدة لأن كل يوم عبادة مستقلة تحتاج إلى نية متجددة بتجدد الأيام لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))([3]).
فإن قام من نومه وتسحر فهذا هو النية. وإن لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر وكان ناويًا للصيام قبل نومه فإنه يمسك إذا استيقظ وصيامه صحيح لوجود النية من الليل.
وما أشار إليه السائل من النطق بالنية هل هو مشروع أو ليس بمشروع؟ فالنطق بالنية غير مشروع والتلفظ بها بدعة لأن النية من أعمال القلوب والمقاصد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى بدون تلفظ ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتلفظ بالنية ويقول الله إني نويت أن أصوم أو نويت أن أصلي أو نويت كذا وكذا. إنما ورد هذا عند الإحرام بالحج أو العمرة أن يقوم المسلم لبيك عمرة أو لبيك حجًا([4]) وكذلك عند ذبح الهدي أو الأضحية ورد أنه يتلفظ عند ذبحها([5]) ويقول: اللهم هذه عني أو عن فلان فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. أما ما عدا ذلك من العبادات فالتلفظ بالنية بدعة سواء كان في الصوم أو في الصلاة أو في غير ذلك لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلفظ في شيء من هذه الأحوال بالنية وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ([6]).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة))([7]).
فالتلفظ بالنية أمر محدث فهو بدعة.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] فالله جل وعلا أنكر على الذين تلفظوا بنياتهم قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلى أن قال تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحجرات: 14 ـ 16] فالتلفظ بالنية معناه أن الإنسان يخبر ربه عز وجل أنه نوى له كذا وكذا قد نهى الله عن ذلك وأنكر على من فعله.
([1]) رواه البخاري في صحيحه جـ1 ص2 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
([2]) رواه الإمام مالك في الموطأ جـ1 ص288 من حديث عبد الله بن عمر موقوفًا. ورواه الإمام أحمد في مسنده جـ6 ص287 ورواه أبو داود في سننه جـ2 ص341، 342، ورواه النسائي في سننه جـ4 ص196، 197، ورواه ابن ماجه في سننه جـ1 ص542، ورواه الدارمي في سننه جـ2 ص12، ورواه البيهقي في السنن الكبرى جـ4 ص202، 203، ورواه ابن خزيمة في صحيحه جـ3 ص212، ورواه ابن أبي شيبة عن مصنفه جـ2 ص292، ورواه ابن حزم في المحلى جـ6 ص162، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد جـ3 ص93، 93، وذكره الزيلعي في نصب الراية جـ2 ص433 ـ 435 كلهم م حديث حفصة رضي الله عنها بنحوه.
([3]) رواه البخاري في صحيحه جـ1 ص2 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
([4]) انظر: صحيح الإمام مسلم جـ2 ص915 عن حديث أنس رضي الله عنه.
([5]) انظر: مسند الإمام أحمد جـ6 ص8 من حديث أبي رافع. وسنن أبي داود جـ3 ص98، 99 من حديث جابر بن عبد الله، وسنن الترمذي جـ5 ص236، 237 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وسنن ابن ماجه جـ2 ص1043، 1044 من حديث أنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبي هريرة. ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد جـ4 ص22، 23.
([6]) رواه الإمام البخاري في صحيحه جـ8 ص156. معلقًا.
([7]) رواه الإمام أحمد في مسنده جـ4 ص126، ورواه أبو داود في سننه جـ4 ص200، ورواه الترمذي في سننه جـ7 ص319، 320 بنحوه، ورواه ابن ماجه في سننه جـ1 ص15، 16 بنحوه. ورواه الحاكم في مستدركه جـ1 ص97 كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 84) [ رقم الفتوى في
ــــــــــــــــــــ(1/44)
الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
10016
تاريخ الفتوى
16/10/1425 هـ 20041128
تصنيف الفتوى
السؤال
تلقت رابطة العالم الإسلامي رسالة من الشيخ محمد دير منجى مبعوثها في كوبنهاجن الدانمارك يفيد فيها بأنه في بعض جهات الدول الاسكندنافية يكون النهار أطول من الليل بكثير على مدار السنة، حيث يكون الليل ثلاث ساعات فقط، في حين يكون النهار واحد وعشرين ساعة، وذكر أنه إذا صادف أن قدم شهر رمضان في الشتاء فإن المسلمين فيها يصومون مدة ثلاث ساعات فقط، وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف فإنهم يتركون الصوم لعدم قدرتهم عليه نظراً لطول النهار. وطلب الشيخ دير منجى فتوى تحدد مواعيد الإفطار والسحور، والمدة التي يصام فيها شهر رمضان لإعلانها للمسلمين في هذه البلاد.
تلقت رابطة العالم الإسلامي رسالة من الشيخ محمد دير منجى مبعوثها في كوبنهاجن الدانمارك يفيد فيها بأنه في بعض جهات الدول الاسكندنافية يكون النهار أطول من الليل بكثير على مدار السنة، حيث يكون الليل ثلاث ساعات فقط، في حين يكون النهار واحد وعشرين ساعة، وذكر أنه إذا صادف أن قدم شهر رمضان في الشتاء فإن المسلمين فيها يصومون مدة ثلاث ساعات فقط، وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف فإنهم يتركون الصوم لعدم قدرتهم عليه نظراً لطول النهار. وطلب الشيخ دير منجى فتوى تحدد مواعيد الإفطار والسحور، والمدة التي يصام فيها شهر رمضان لإعلانها للمسلمين في هذه البلاد.
أرجو التكرم بإصدار بيان شرعي في هذا الموضوع حتى يتسنى لي على ضوئه إجابة المذكور باللازم.
الجواب
بعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بمايلي: شريعة الإسلام كاملة وشاملة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَاذَا الْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] الآية. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]، وقد خاطب الله المؤمنين بفرض الصيام فقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وبين ابتداء الصيام وانتهاءه فقال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة: 187]، ولم يخصص هذا الحكم ببلد ولابنوع من الناس، بل شرعه شرعا عاما، وهؤلاء المسئول عنهم داخلون في هذا العموم والله جل وعلا لطيف بعباده شرع لهم من طرق اليسر والسهولة مايساعدهم على فعل ماوجب عليهم، فشرع للمسافر والمريض مثلا الفطر في رمضان لدفع المشقة عنهما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] الآية، فمن شهد رمضان من المكلفين وجب عليه أن يصوم، سواء طال النهار أو قصر، فإن عجز عن إتمام صيام يوم وخاف على نفسه الموت أو المرض جاز له أن يفطر بما يسد رمقه ويدفع عنه الضرر، ثم يمسك بقية يومه وعليه قضاء ما أفطره في أيام أخر يتمكن فيها من الصيام. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
ـ
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 113 ـ 115) [ رقم الفتوى في مصدرها: 1442]
ــــــــــــــــــــ(1/45)
عتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
10004
تاريخ الفتوى
16/10/1425 هـ 20041128
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يجوز للمسلم الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي، أو لابد من رؤية الهلال؟
الجواب
الشريعة الإسلامية شريعة سمحة وهي عامة شاملة أحكامها جميع الثقلين الإنس والجن، على اختلاف طبقاتهم علماء وأميين أهل الحضر وأهل البادية، فلهذا سهل الله عليهم الطريق إلى معرفة أوقات العبادات، فجعل لدخول أوقاتها وخروجها أمارات يشتركون في معرفتها، جعل زوال الشمس أمارة على دخول وقت المغرب وخروج وقت العصر، وغروب الشفق الأحمر أمارة على دخول وقت العشاء مثلا، وجعل رؤية الهلال بعد استتاره آخر الشهر أمارة على ابتداء شهر قمري جديد وانتهاء الشهر السابق، ولم يكلفنا معرفة بدء الشهر القمري بما لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، وهو علم النجوم، أو علم الحساب الفلكي، وبهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة بجعل رؤية الهلال ومشاهدته أمارة على بدء صوم المسلمين شهر رمضان، والإفطار منه برؤية هلال شوال، وكذلك الحال في ثبوت عيد الأضحى ويوم عرفات قال الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} [البقرة: 189] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فجعل عليه الصلاة والسلام الصوم لثبوت رؤية هلال شهر رمضان، والإفطار منه لثبوت رؤية هلال شوال، ولم يربط ذلك بحساب النجوم وسير الكواكب، وعلى هذا جرى العمل زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل والخير، فالرجوع في إثبات الشهور القمرية إلى علم النجوم في بدء العبادات والخروج منها دون الرؤية من البدع التي لاخير فيها، ولامستند لها من الشريعة، وإن المملكة العربية السعودية متمسكة بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من إثبات الصيام والإفطار والأعياد وأوقات الحج نحوها برؤية الهلال، والخير كل الخير في اتباع من سلف في الشئون الدينية والشر كل الشر في البدع التي أحدثت في الدين. حفظنا الله وإياك وجميع المسلمين من الفتن ماظهر منها ومابطن. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
ـ
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 104 ـ 106) [ رقم الفتوى في مصدرها: 386]
ــــــــــــــــــــ(1/46)
صيام التطوع بنيتين: نية قضاء، ونية سنة
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
9957
تاريخ الفتوى
16/10/1425 هـ 20041128
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يجوز صيام التطوع بنيتين: نية قضاء، ونية سنة، وما حكم الصوم بالنسبة للمسافر والمريض، وخصوصاً وأن ما يطلق عليه سفراً فهو سفر، وإذا كان المسافر قادراً على الصيام، وبالنسبة أيضاً للمريض القادر على الصيام فهل في هذه الحالة يقبل الصوم أم لا؟
الجواب
لا يجوز صيام التطوع بنيتين، نية القضاء ونية السنة، والأفضل للمسافر سفر قصر أن يفطر، ولكنه لو صام أجزأه، والأفضل لمن يشق عليه الصوم مشقة فادحة لمرضه أن يفطر، وإن علم أو غلب على ظنه أن يصيبه ضرر أو هلاك بصومه وجب عليه الفطر؛ دفعاً للحرج والضرر، وعلى كل من المسافر والمريض قضاء صيام ما أفطره من أيام رمضان في أيام أخر، ولكنه لو صام مع الحرج أجزأه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 383 ـ 384) [ رقم الفتوى في مصدرها: 6497]
ــــــــــــــــــــ(1/47)
هل الحج يكفر ترك الصلاة والصوم؟
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
9619
تاريخ الفتوى
12/10/1425 هـ 20041124
تصنيف الفتوى
السؤال
أفيدكم أني أبلغ من العمر الخامسة والأربعين، وقد مضى علي أربع سنين من عمري دون أن أصلي ودون أن أصوم رمضان، ولكني في العام الماضي أديت فريضة الحج؛ فهل تكفر عما فاتني من صوم وصلاة؟ وإن كانت لا تكفر؛ فماذا علي أن أفعله الآن؟ أرشدونا وفقكم الله.
الجواب
ترك الصلاة متعمدًا خطير جدًا؛ لأن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وإذا تركها المسلم متعمدًا؛ فإن ذلك كفر:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة))[1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها؛ فقد كفر)) [2].
والله تعالى يقول في الكفار: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
ويقول عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 42 ـ 44].
... إلى غير ذلك من النصوص التي تدلك على كفر تارك الصلاة، وإن لم يجحد وجوبها، وهو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله.
فما ذكرت من أنك تركتها متعمدًا مدة أربع سنوات، هذا يقتضي الكفر، ولكن إذا تبت إلى الله عز وجل توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة في مستقبل حياتك، فإن الله يمحو ما كان من ذي قبل، والتوبة الصادقة تجب ما قبلها.
أما الحج، فلا يكفر ترك الصلاة ولا ترك الصيام؛ لأن هذه كبائر موبقة لا يكفرها الحج، وكذلك الحج إذا كنت أديته وأنت لا تصلي؛ فإنه لا يصح؛ لأن الذي لا يصلي ليس له دين، وليس له إسلام، ولا يصح منه عمل؛ إلى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذا تبت إلى الله توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة؛ فإن هذا يكفر ما سبق، ولكن؛ عليك بالصدق، والاستمرار على التوبة، والاهتمام بالصلاة، وإذا كنت أديت الحج في حالة ترك الصلاة، فعليك أن تعيده، أما إذا كنت أديته بعدما تبت؛ فهو حج صحيح إن شاء الله، وما مضى من المعصية وترك الصلاة والصيام تكفره التوبة الصادقة.
[1] رواه مسلم في "صحيحه" (1/88) بنحوه، ورواه أبو داود (4/219)، ورواه غيرهما.
[2] رواه الإمام أحمد (5/355) بنحوه، ورواه الترمذي في "سننه" (7/283)، ورواه ابن ماجه في "سننه" (1/343).ـ
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 3/ ص 30) [ رقم الفتوى في مصدرها: 41]
ــــــــــــــــــــ(1/48)
صيام التطوع بنيتين: نية قضاء، ونية سنة
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
3533
تاريخ الفتوى
2/10/1425 هـ 20041114
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يجوز صيام التطوع بنيتين: نية قضاء، ونية سنة، وما حكم الصوم بالنسبة للمسافر والمريض، وخصوصاً وأن ما يطلق عليه سفراً فهو سفر، وإذا كان المسافر قادراً على الصيام، وبالنسبة أيضاً للمريض القادر على الصيام فهل في هذه الحالة يقبل الصوم أم لا؟
الجواب
لا يجوز صيام التطوع بنيتين، نية القضاء ونية السنة، والأفضل للمسافر سفر قصر أن يفطر، ولكنه لو صام أجزأه، والأفضل لمن يشق عليه الصوم مشقة فادحة لمرضه أن يفطر، وإن علم أو غلب على ظنه أن يصيبه ضرر أو هلاك بصومه وجب عليه الفطر؛ دفعاً للحرج والضرر، وعلى كل من المسافر والمريض قضاء صيام ما أفطره من أيام رمضان في أيام أخر، ولكنه لو صام مع الحرج أجزأه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 383 ـ 384) [ رقم الفتوى في مصدرها: 6497]
ــــــــــــــــــــ(1/49)
صيام التطوع قبل قضاء الصوم الواجب
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
3532
تاريخ الفتوى
2/10/1425 هـ 20041114
تصنيف الفتوىالسؤال
من كان عليه صوم قضاء، ثم صام تطوعاً قبل أن يقضي ذلك الصوم الواجب، ثم قضاه فهل يجزئه؟
الجواب
من صام تطوعاً قبل أن يقضي ما عليه من الصوم الواجب، ثم قضى ما عليه أجزأه قضاؤه، لكن كان ينبغي له أن يقضي ما عليه أولاً، ثم يصوم تطوعاً بعد ذلك؛ لأن الواجب أهم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 382 , 383 ) [ رقم الفتوى في مصدرها: 2232]
ــــــــــــــــــــ(1/50)
متى يؤمر الصبي بالصيام؟
المفتي
الشيخ / عبدالله بن عقيل
رقم الفتوى
8547
تاريخ الفتوى
27/9/1425 هـ 20041110
تصنيف الفتوى
السؤال
سائل يقول: إنه قدم على أقاربه، ونزل عندهم ضيفًا في شهر رمضان، ووجد عندهم مجموعة من الأطفال: أولاد وبنات ـ ويغلب على ظنه أنهم يطيقون الصيام ـ فأمرهم بالصوم، ونبه أهلهم على إلزامهم بالصوم، فاعتذروا بأنهم صغار، ولكنه لم يقتنع بهذا العذر. فكتب يسأل: متى يؤمر مثل هؤلاء بالصيام. وهل لذلك سن محددة؟ ... أفتونا مأجورين.
الجواب
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6], وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته))، وفيه: ((والرجل راع على أهل بيته، ومسئول عن رعيته. والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسئولة عنهم))[1]. وهؤلاء الأطفال أمانة في أيدي ولي أمرهم، يجب عليهم تعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويجنبهم ما يضرهم من أمور دينهم ودنياهم.
وإذا بلغ الصبي سبع سنين ـ ومثله الصبية ـ فعلى ولي أمره أن يأمره بالصلاة، وما يجب لها من طهارة وغيرها، وتعليمه أحكامها، ويطبقها له عملياً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويستمر على ذلك حتى يبلغ عشر سنين. فإذا بلغ عشر سنين ضربه على تركها؛ لحديث: ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))[2].
وأما الصيام فيؤمر به المميز إذا أطاقه. والمميز قيل: إنه الذي يبلغ سبع سنين. وقال في "المطلع": هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب. ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الأفهام. وصوبه في "الإنصاف"[3] وقال: إن الاشتقاق يدل عليه.
وقيل: إذا بلغ الطفل عشر سنين وأطاقه، أمره به وليه. ويعرف ذلك بصيامه ثلاثة أيام متتالية. فإن لم يتضرر بذلك، فهو يطيق الصيام، فحينئذ يؤمر به، ويضرب عليه؛ ليعتاده.
قال في "الإقناع" و"شرحه"[4]: ويصح الصوم من مميز، كصلاته. ويجب على وليه ـ أي: المميز ـ أمره به إذا أطاقه، وضربه حينئذ عليه ـ أي: الصوم ـ إذا تركه؛ ليعتاده كالصلاة؛ إلا أن الصوم أشق، فاعتبرت له الطاقة؛ لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصوم. والثواب للصبي إذا صام. وكذا جميع أعمال البر التي يعملها. فإن ثوابها له، كما ورد بذلك الحديث الصريح في الحج. فهو في هذه السن تكتب له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات[5]. انتهى ملخصًا.
وقال المجد بن تيمية في "منتقى الأخبار" وشرحه "نيل الأوطار" للشوكاني. باب: الصبي يصوم إذا أطاق[6]: عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه)). فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّمه صبياننا الصغار منهم. ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العِهْن. فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناها إياه، حتى يكون عند الإفطار. أخرجاه[7].
قال: البخاري[8] وقال عمر لنشوان في رمضان: ويلك، وصبياننا صيام؟! فضربه... وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في "الجعديات" من طريق عبد الله بن هذيل أن عمر بن الخطاب أُتي برجل شرب الخمر في رمضان. فلما دنا منه جعل يقول للمنخرين والفم. وفي رواية البغوي[9]: "فلما رفع إليه عثر. فقال عمر: على وجهك، ويحك! وصبياننا صيام! ثم أمر به فضرب ثمانين سوطًا، ثم سيره إلى الشام". انتهى.
الحديث استدل به على أنه يستحب أمر الصبيان بالصوم؛ للتمرين عليه إذا أطاقوه. وقد قال باستحباب ذلك جماعة من السلف. منهم: ابن سيرين والزهري والشافعي وغيرهم. واختلف أصحاب الشافعي في تحديد السن التي يؤمر الصبي عندها بالصيام؛ فقيل: سبع سنين. وقيل: عشر. وبه قال أحمد. وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يضعف فيهن، حُمل على الصوم. وذكر الهادي في "الأحكام" أنه يجب على الصبي الصوم بالإطاقة لصيام ثلاثة أيام. واحتج على ذلك بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام الشهر كله))[10]. وهذا الحديث ذكره السيوطي في "الجامع الصغير"[11] وقال: أخرجه المُرهبي عن ابن عباس. ولفظه: ((تجب الصلاة على الغلام إذا عقل، والصوم إذا أطاق، والحدود والشهادة إذا احتلم))[12]. وقد حمل المرتضى كلام الهادي على لزوم التأديب. وحمله السادة الهادويون على أنه يؤمر بذلك؛ تعويدًا وتمرينًا. انتهى ملخصًا[13]. والله أعلم.
[1] البخاري (7138) ومسلم (1829).
[2] أبو داود (495) وأحمد (2/187) والبيهقي (2/14) وغيرهم. وصححه الشيخ الألباني في "الإرواء" (1/266)، (2/7).
[3] الإنصاف (1/396).
[4] الإقناع (2/973).
[5] حديث ابن عباس في احتساب الأجر للصبي إذا حج، أخرجه مسلم (1336) و(2645) وفيه أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًا فقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر)).
[6] نيل الأوطار (4/198).
[7] البخاري (1960) ومسلم (1136).
[8] انظر "الفتح" (4/200).
[9] البغوي (1/415).
[10] "المجروحين" (3/116)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2/170 ب) نسخة أحمد الثالث.
[11] "ضعيف الجامع" (2392).
[12] أخرجه ابن عدي (2/545) وهو في "الكنز" (45326).
[13] "نيل الأوطار" (4/198، 199).
ــــــــــــــــــــ(1/51)
لا يلزم رؤية الهلال بنفسه لوجوب الصوم وتكفي رؤية الواحد العدل
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
8327
تاريخ الفتوى
26/9/1425 هـ 20041109
تصنيف الفتوى
السؤال
ما حكم الذي لايصوم في أول رؤية هلال رمضان إذا رؤي حتى يرى بنفسه ويستدل بالحديث القائل: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته))، وهل صحيح استدلالهم بهذا الحديث؟
الجواب
الواجب الصيام إذا ثبتت رؤية الهلال ولو بواحد عدل من المسلمين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام عندما شهد الأعرابي برؤيته الهلال وأما الاستدلال بحديث صوموا لرؤيته على أن كل فرد لايصوم إلا برؤيته بنفسه فغير صحيح؛ لأن الحديث خطاب عام بالصيام عند تحقق الرؤية ولو من واحد عدل من المسلمين. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 93، 94) [ رقم الفتوى في مصدرها: 7753]
ــــــــــــــــــــ(1/52)
التتابع في صيام كفارة اليمين
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
6944
تاريخ الفتوى
25/9/1425 هـ 20041108
تصنيف الفتوى
السؤال
كان علي صيام أيام كفارة يمين فسألت إحدى أخواتي المسلمات والتي أثق بها لأنها على درجة من العلم فسألتها إن كان الصوم متتابعًا أو متفرقًا فقالت لي لا يشترط التتابع فصمتها متفرقة ولكن سمعت من برنامجكم ومن أحد العلماء الكرام إنه يشترط التتابع فرجعت إليها فأخرجت لي في تفسير ابن كثير قول مالك فيه بأنه لا يشترط التتابع فهل علي شيء. وما هو القول الصحيح في هذا؟
الجواب
كما ذكرت المسألة فيها خلاف بين أهل العلم هل يجب التتابع في صيام كفارة اليمين أو لا يجب ولكن الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه في أنه يجب التتابع لأنه قُرئ قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}([1]) فتكون هذا القراءة نصًا على وجوب التتابع والله أعلم.
([1]) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ2 ص86.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 96) [ رقم الفتوى في مصدرها: 94
ــــــــــــــــــــ(1/53)
عمل العزاء ووصية الميت والنيابة عن الميت في الصلاة والصوم
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
7906
تاريخ الفتوى
24/9/1425 هـ 20041107
تصنيف الفتوى
السؤال
كان لي أخت متزوجة ولها طفلان وقد طلقها زوجها بعد أن مرضت مرضًا شديدًا وفي آخر شهر من عدتها توفيت وعليها ديون كثيرة للأطباء الذين قاموا بعلاجها ولغيرهم وليس لها سوى أرض لا تغطي كل ما عليها من ديون فلا تفي إلا بالثلثين منها فقط، وقد أوصت بأن يحج عنها وأوصت بأن يصلى عنها لمدة ثلاث سنوات، ويصام عنها ثلاثة أشهر، وبأن يذبح لها بعد موتها ويعمل لها وليمة عزاء، علمًا أن لها أربعة أخوة أشقاء وأختين، فما الحكم أولاً في سداد ما عليها من دين على من يكون قضاؤه وكذلك ما الحكم في وصيتها تلك وماذا يلزمنا تنفيذه منها وماذا لا يلزمنا أفيدونا عن ذلك جزاكم الله خيرًا؟
الجواب
أما قضية الديون التي عليها فإنها يجب تسديدها من تركتها ولا ينفذ لها وصية إلا بعد سداد الديون لأن وفاء الدين مقدم على الوصية. وأما قضية أنها أوصت بوصايا من جملتها العزاء وذبح ذبيحة فيه فهذا لا يجوز الوفاء به حتى ولو كان لها تركة لأن هذا من البدع وعمل العزاء وعمل الولائم بمناسبة العزاء من مال الميت من البدع ولا يجوز فعله وإنما سمح لها الشارع بالوصية في حدود الثلث فاقل وعلى الوجه المشروع وبعد سداد الديون التي عليها.
وأما قضية الوصية بأن يصلى عنها أو يصام عنها فهذا أيضًا لا تنفذ الوصية به لأن الصلاة والصيام عملان بدنيان لا تدخلهما النيابة إلا إذا كان عليها صيام نذر فإنها يصام عنها لقوله صلى الله عليه وسلم : ((من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه))([1])، فصيام النذر يصام عن الميت بأن يصوم عنه وليه أما ما وجب بأصل الشرع من الصلاة والصيام فهذا لا تدخله النيابة لأنه عمل بدني مطلوب من الإنسان القيام به بنفسه.
([1]) لم أجده بهذا اللفظ.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 210) [ رقم الفتوى في مصدرها: 225]
ــــــــــــــــــــ(1/54)
صوم كفارة القتل للمرضى
المفتي
الشيخ / عبد الله بن محمد بن حميد
رقم الفتوى
7805
تاريخ الفتوى
23/9/1425 هـ 20041106
تصنيف الفتوى
السؤال
إني سائق سيارة ومصاب بمرض في القلب, وقدر الله علي بحادث انقلاب في السيارة وذلك بسبب خلل فني حيث خرب علي الكفر, وتوفى معي شخصان, وسامحني أهلهم شرعًا ـ جزاهم الله خيرًا ـ إلا أنه يحيك في صدري مسألة الصوم, فإنها صعبة بالنسبة لي, ولا أستطيع الصيام, حيث إني أستعمل علاجًا للقلب ثلاث مرات يوميًا والعلاج كنت أستعمله قبل الحادث, وما زلت أستعمله, فما الحل في ذلك؟ أفيدونا مأجورين
الجواب
ما دمت معذورًا, ولا تستطيع الصيام, فلا حرج عليك, فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16], ويقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] لا سيما أنه لم يقع منك تفريط أيضًا. أما لو وقع منك تفريط فيلزمك الصوم. لكن إن لم يكن ثمة تفريط وأنت في هذه الحالة التي وصفتها فنرجو ألا حرج في هذا.
وبالنسبة إلى الحادث وموت الشخصين, فهذا قضاء وقدر. وكفارة القتل عتق رقبة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. ولكن هل هناك إطعام مع ذلك؟
مذهب كثير من أهل العلم أنه ليس فيها إطعام. فالمقصود: مادمت لم تفرط في السيارة, لا سرعة, ولا نوم, ولا خلل, وكذلك أنت مصاب بمرض في القلب, فأرجو ألا حرج عليك ولا ذنب إن شاء الله, ولا يلزمك صوم ما دام الأمر كما ذكرت. والله أعلم.
مصدر الفتوى: فتاوى سماحة الشيخ عبد الله بن حميد (ص263) [ رقم الفتوى في مصدرها: 278]
ــــــــــــــــــــ(1/55)
صوم كفارة القتل للسائقين
المفتي
الشيخ / عبد الله بن محمد بن حميد
رقم الفتوى
7804
تاريخ الفتوى
23/9/1425 هـ 20041106
تصنيف الفتوى
السؤال
أنا رجل أملك سيارة وأبلغ من العمر تسعة عشر عامًا وقد حصل معي حادث في السيارة حيث صدمت رجلاً, فمات من أثر الصدمة, وكان هو المتسبب بالحادثة مائة بالمائة. فهل يجب علي الصوم أم لا؟ مع العلم أني لا أستطيع الصيام لأني صاحب عمل, وأعمل طوال النهار, وأضطر لذلك لكسب لقمة العيش. أفيدونا وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
إذا صح ما تقول, وأنه لم يقع منك خطأ, بل هو الذي صدمك وتوفي, فلا شيء عليك؛ لا دية, ولا كفارة, ولا ذنب.
أما إذا كان الخطأ منك, فأنت الذي صدمته, ولو من غير قصد, لا شك أنك لا تريده, لكن موته صار بسببك. فهذا لا بد وأن تصوم شهرين متتابعين. ويمكنك أن تصوم في فصل الشتاء, فأيامه قصيرة, والصيام فيه سهل. ولو كنت عاملاً وكنت تشتغل, فهو متيسر, لأن الدية تلزمك, فهي في ذمتك ولابد من أدائها. هذا ما يترتب عليك فعله إن كان موته بسببك, ولم يكن الخطأ منه مائة بالمائة, أما إذا كانت الخطأ منه مائة بالمائة بأن صدم السيارة, فهذا لا شيء عليك فيه كما أشرنا. والله أعلم.
مصدر الفتوى: فتاوى سماحة الشيخ عبد الله بن حميد ص263 [ رقم الفتوى في مصدرها: 277]
ــــــــــــــــــــ(1/56)
ما هي كفارة القتل وهل هناك بديل عن الصوم؟
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
7803
تاريخ الفتوى
23/9/1425 هـ 20041106
تصنيف الفتوى
السؤال
سائل يقول إنه سائق سيارة وقد حصل بينه وبين سائق آخر تصادم ونتج عن الحادث وفاة السائق الآخر وبرفقته ثلاثة أشخاص فقال له القاضي في المحكمة الشرعية عليك كفارة عتق رقبة عن كل واحد منهم أو صوم شهرين عن كل واحد منهم أيضًا وهو يقول أن الصوم يصعب علي فهل توجد كفارة غير ذلك أفعلها أفيدوني جزاكم الله خيرًا؟
الجواب
إذا كنت مدانًا في الحادث فالأمر كما قال لك القاضي من أنه يجب عليك كفارة عن كل واحد من القتلى في هذا الحادث وهي عتق رقبة فإن لم تستطع فصيام شهرين متتابعين كما في نص القرآن الكريم وأما كونك لا تستطيع الصيام فربما أنك لا تستطيع في وقت معين لكن في وقت آخر تستطيع فتنتظر إلى أن تستطيع الصيام ويجب عليك الصيام متتابعًا بأن تصوم شهرين عن كل قتيل وليس بلازم أن تصوم الكفارات متتابعة بل بإمكانك أن تصوم شهرين متتابعين عن واحد ثم تنتظر إلى أن تقوى ويتيسر لك ذلك فتصوم الكفارة الثانية وهكذا، الحاصل أنه لابد من الصيام والصيام متعين عليك وعليك أن تتحين الفرص المناسبة لأدائه والله يعينك على ذلك وليس هناك شيء ثالث في كفارة القتل إنما هما شيئان عتق الرقبة فإن لم تستطيع فصيام شهرين متتابعين.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 232) [ رقم الفتوى في مصدرها: 240]
ــــــــــــــــــــ(1/57)
هل يجوز الإطعام بدلا من الصوم في كفارة القتل؟
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
7802
تاريخ الفتوى
23/9/1425 هـ 20041106
تصنيف الفتوى
السؤال
لقد قدر الله حادث سيارة على أحد الأشخاص بسيارتي بينما هو يمشي على قدميه ونقل إلى المستشفى متأثرًا بتلك الإصابة ورقد عشرة أيام ثم توفى وقد تنازل أهله عن ديته وأخذ أولاده القصر مبلغ ثلاثين ألف ريال حيث كان الخطأ مشتركًا فعليه نسبة 40% منه.
وسؤالي هو عن الصيام. هل يجب علي وجوبًا مع أنني طالب في الثانوية وقد لا أستطيع الجمع بين الصيام والدراسة فهل يكفي أن أتصدق وأطعم أو هل من مخرج لي من الصيام أفيدوني بارك الله فيكم؟
الجواب
لا شك أنه يجب عليك الصيام لأنك شاركت في قتل نفسٍ خطأً والكفارة تجب على القاتل خطأ سواء انفرد في القتل أو شارك فيه وأنت تذكر أنك اشتركت في 60% المهم أنه لو شارك في 1% أو أقل عليه كفارة لعموم الآية الكريمة فيثبت في ذمتك صيام شهرين إذا لم تستطع، تذهب إلى البديل وهو الصيام وليس هناك شيء ثالث غير الصيام وتأتي به متى استطعت فإذا كنت في الوقت الحاضر لا تستطيع فإنه يبقى في ذمتك وتصومه إذا استطعت والدراسة ليست تمنع من الصيام فالناس يصومون وهم يدرسون لاسيما في المناطق الباردة. الدراسة ليست عذرًا في ترك الصيام ولو أنك تحينت مثلاً الفصول الباردة مثل فصل الشتاء وصمت فيه فلا بأس به مع البرودة التي تخفف عليك من شدة الصيام المهم أنك لابد أن تصوم وأنت أدرى بالوقت المناسب لك والصيام يبقى في ذمتك إلى أن تؤديه ليس له بديل، الإطعام ليس له وجود في كفارة القتل ـ الله تعالى لم يذكر إلا خصلتين العتق أو الصيام فيما ذكر في كفارات أخرى ثلاث أشياء تدل أن القتل لا يجزي فيه إلا شيئان العتق أو الصيام.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 231) [ رقم الفتوى في مصدرها: 239]
ــــــــــــــــــــ(1/58)
السنة في حق من سافر إلى العمرة في شهر رمضان أن يفطر
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
7729
تاريخ الفتوى
23/9/1425 هـ 20041106
تصنيف الفتوى
السؤال
نفيدكم أن في أوقات شهر رمضان تحتاج الأمة إلى السفر لأداء العمرة وغيرها، أفيدونا هل أفضل الصوم أم الإفطار للصائم المسافر للعمرة، وأملي من الله ثم من سماحتكم الإفادة مفصلاً عن ذلك مع الإفادة أيضاً عما يلي: أيهما أفضل للمعتمر أن يصلي ما استطاع من الفرائض بعد إنهاء أعمال العمرة أم يسافر مباشرة بمجرد انتهاء عمرته؟
الجواب
أولاً: السنة في حق من سافر إلى العمرة في شهر رمضان أن يفطر؛ لأن الله رخص له في ذلك والله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته، فإن صام فلا حرج.
ثانياً: لا شك أن الإقامة بمكة للصلاة فيها أفضل لمن تيسر له ذلك؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام تضاعف بمائة ألف صلاة وإن سافر بعد فراغه من العمرة فلا حرج في ذلك. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 210 , 211) [ رقم الفتوى في مصدرها: 3102]
ــــــــــــــــــــ(1/59)
يصوم رمضان ولا يصلي
المفتي
الشيخ / محمد بن صالح العثيمين
رقم الفتوى
7724
تاريخ الفتوى
23/9/1425 هـ 20041106
تصنيف الفتوى
السؤال
ما حكم الصوم مع ترك الصلاة في رمضان؟
الجواب
إن الذي يصوم ولا يصلي لا ينفعه صيامه ولا يقبل منه ولا تبرأ به ذمته بل إنه ليس مطالباً به ما دام لا يصلي ، لأن الذي لا يصلي مثل اليهودي والنصراني ، فما رأيكم أن يهودياً أو نصرانياً صام وهو على دينه ، فهل يقبل منه ؟ لا.
إذن نقول لهذا الشخص : تب إلى اللَّه بالصلاة وصم ومن تاب تاب اللَّه عليه.
مصدر الفتوى: سلسلة كتاب الدعوة فتاوى فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء (ج 1/ ص 176)
ــــــــــــــــــــ(1/60)
هل يجوز الإطعام بدلا من الصوم في كفارة القتل؟
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
7720
تاريخ الفتوى
23/9/1425 هـ 20041106
تصنيف الفتوى
السؤال
لقد قدر الله حادث سيارة على أحد الأشخاص بسيارتي بينما هو يمشي على قدميه ونقل إلى المستشفى متأثرًا بتلك الإصابة ورقد عشرة أيام ثم توفى وقد تنازل أهله عن ديته وأخذ أولاده القصر مبلغ ثلاثين ألف ريال حيث كان الخطأ مشتركًا فعليه نسبة 40% منه.
وسؤالي هو عن الصيام. هل يجب علي وجوبًا مع أنني طالب في الثانوية وقد لا أستطيع الجمع بين الصيام والدراسة فهل يكفي أن أتصدق وأطعم أو هل من مخرج لي من الصيام أفيدوني بارك الله فيكم؟
الجواب
لا شك أنه يجب عليك الصيام لأنك شاركت في قتل نفسٍ خطأً والكفارة تجب على القاتل خطأ سواء انفرد في القتل أو شارك فيه وأنت تذكر أنك اشتركت في 60% المهم أنه لو شارك في 1% أو أقل عليه كفارة لعموم الآية الكريمة فيثبت في ذمتك صيام شهرين إذا لم تستطع، تذهب إلى البديل وهو الصيام وليس هناك شيء ثالث غير الصيام وتأتي به متى استطعت فإذا كنت في الوقت الحاضر لا تستطيع فإنه يبقى في ذمتك وتصومه إذا استطعت والدراسة ليست تمنع من الصيام فالناس يصومون وهم يدرسون لاسيما في المناطق الباردة. الدراسة ليست عذرًا في ترك الصيام ولو أنك تحينت مثلاً الفصول الباردة مثل فصل الشتاء وصمت فيه فلا بأس به مع البرودة التي تخفف عليك من شدة الصيام المهم أنك لابد أن تصوم وأنت أدرى بالوقت المناسب لك والصيام يبقى في ذمتك إلى أن تؤديه ليس له بديل، الإطعام ليس له وجود في كفارة القتل ـ الله تعالى لم يذكر إلا خصلتين العتق أو الصيام فيما ذكر في كفارات أخرى ثلاث أشياء تدل أن القتل لا يجزي فيه إلا شيئان العتق أو الصيام.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 231) [ رقم الفتوى في مصدرها: 239]
ــــــــــــــــــــ(1/61)
تارك الصلاة لا يؤمر بقضاء الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
7235
تاريخ الفتوى
21/9/1425 هـ 20041104
تصنيف الفتوى
السؤال
شخص في الثامنة والعشرين من العمر وما صام شهر رمضان حتى بلغ عمره 35 سنة، وبعد هذه المدة تاب إلى الله عز وجل، واليوم محتار هل يقضي أو يفدي أو يتصدق وماذا يجب على هذا الرجل حيث أنه محتار جداً، وماذا تدلون هذا الرجل عليه؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.
الجواب
إذا كان يصلي حين الترك فعليه القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم أخر قضاءه مقدار نصف صاع من بر أو أرز، وإن كان لا يصلي فالتوبة كافية وليس عليه قضاء الصوم ولا الصلاة؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر وردة عن الإسلام والمرتد لا يؤمر بالقضاء. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 350, 351) [ رقم الفتوى في مصدرها: 11506]
ــــــــــــــــــــ(1/62)
الجماع من وراء حائل في نهار رمضان لا يمنع من وجوب القضاء والكفارة
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
6906
تاريخ الفتوى
20/9/1425 هـ 20041103
تصنيف الفتوى
السؤال
إنسان وقع على امرأته في نهار رمضان المبارك، وارتشف بعضاً من ريقها وهي كذلك ارتشفت بعضاً من ريقه، ولم ينزل، بل أدخل ذكره من وراء الهاف لها فما الحكم في هذه الحالة، وما الذي يجب عليه، وكيف تبرأ ذمته، وهل البخور كالعود وما نحا نحوه يفسد الصوم، أجيبوني رحمكم الله.
الجواب
أولاً: يجب على المذكور وزوجته أن يستغفرا الله ويتوبا إليه من انتهاكهما حرمة صيامهما بشهر رمضان.
ثانياً: على كل واحد منهما كفارة الجماع في شهر رمضان وهي عتق رقبة مسلمة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين نصف صاع من بر أو أرز أو غيرهما مما يطعم عادة، وعليهما قضاء ذلك اليوم، وكون الجماع من وراء حائل لا يمنع من وجوب القضاء والكفارة.
ثالثاً: أما البخور فلا حرج فيه للصائم إذا لم يتسعط به وهكذا بقية الأطياب كدهن العود والورد ونحوها لا حرج فيها كما سبق وإنما يمنع من ذلك مطلقاً المحرم بحج أو عمرة إلى أن يحل من إحرامه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 313 , 314 ) [ رقم الفتوى في مصدرها: 6401]
ــــــــــــــــــــ(1/63)
صلاة المحتلم إذا نسي الاغتسال
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
6498
تاريخ الفتوى
17/9/1425 هـ 20041031
تصنيف الفتوى
السؤال
احتلمت في يوم من أيام رمضان بعد صلاة الفجر وعلمت بذلك ولكن عندما استيقظت نسيت وذهبت إلى العمل، وصليت الظهر وأنا إمام لجماعة، وصليت العصر مأموماً مع إمام آخر. السؤال: ما حكم صلاتي الظهر، وما حكم صلاة الجماعة الذين صلوا بعدي، وما حكم صلاة العصر، وكيف الصوم هل أقضي أم لا، علماً بأنه كان كل ذلك نسياناً، وعند صلاة المغرب تذكرت واغتسلت أفيدونا؟
الجواب
إذا كان الواقع كما ذكرت صلاتك الظهر باطلة، وكذا صلاتك العصر باطلة، وعليك قضاؤهما، وليس على من صلى وراءك الظهر مأموماً قضاء لصحة صلاتهم، لكونهم لم يعلموا أنك على غير طهارة حين الصلاة، أما الصوم فصحيح ولا يفسده الاحتلام. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 6/ ص 193، 194) [ رقم الفتوى في مصدرها: 6496]
ــــــــــــــــــــ(1/64)
من أغمي عليه مدة طويلة هل يقضي الصلاة والصوم ؟
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
2343
تاريخ الفتوى
16/9/1425 هـ 20041030
تصنيف الفتوى
السؤال
يوجد رجل صار عليه حادث اصطدام سيارة ووقع في درك الموت وأخذ مدة طويلة منها شهر رمضان المبارك وهو في غيبوبة الخطر لا يعرف شيئاً وبعد مدة منحه الخالق الكريم العظيم الشفاء، واكتملت صحته فماذا عليه من قضاء الصوم والصلاة؟
الجواب
إذا كان الواقع كما ذكرت من أن الرجل غاب عقله مدة طويلة لا يعي شيئا فيها من تأثر الصدمة ومن هذه المدة شهر رمضان فليس عليه قضاء ما مضى من الصوم والصلاة أيام غيبوبة عقله في أصح قولي العلماء لكونه غير مكلف بهما تلك المدة . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 6/ ص 18) [ رقم الفتوى في مصدرها: 2883]
ــــــــــــــــــــ(1/65)
هل يكفر الحج ترك الصوم والصلاة؟
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
3267
تاريخ الفتوى
16/9/1425 هـ 20041030
تصنيف الفتوى
السؤال
أفيدكم أني أبلغ من العمر الخامسة والأربعين، وقد مضى علي أربع سنين من عمري دون أن أصلي ودون أن أصوم رمضان، ولكني في العام الماضي أديت فريضة الحج؛ فهل تكفر عما فاتني من صوم وصلاة؟ وإن كانت لا تكفر؛ فماذا علي أن أفعله الآن؟ أرشدونا وفقكم الله.
الجواب
ترك الصلاة متعمدًا خطير جدًا؛ لأن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وإذا تركها المسلم متعمدًا؛ فإن ذلك كفر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة))[1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها؛ فقد كفر))[2] ، والله تعالى يقول في الكفار: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 105]، ويقول عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر: 42 ـ 44]... إلى غير ذلك من النصوص التي تدل على كفر تارك الصلاة، وإن لم يجحد وجوبها، وهو الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله.
فما ذكرت من أنك تركتها متعمدًا مدة أربع سنوات؛ هذا يقتضي الكفر، ولكن إذا تبت إلى الله عز وجل توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة في مستقبل حياتك، فإن الله يمحو ما كان من ذي قبل، والتوبة الصادقة تَجُبُّ ما قبلها.
أما الحج؛ فلا يكفر ترك الصلاة ولا ترك الصيام؛ لأن هذه كبائر موبقة لا يكفرها الحج.
وكذلك الحج إذا كنت أديته وأنت لا تصلي؛ فإنه لا يصح؛ لأن الذي لا يصلي ليس له دين، وليس له إسلام، ولا يصح منه عمل إلى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإذا تبت إلى الله توبة صحيحة، وحافظت على الصلاة، فإن هذا يكفر ما سبق، ولكن عليك بالصدق والاستمرار على التوبة والاهتمام بالصلاة.
وإذا كنت أديت الحج في حالة تركك للصلاة؛ فإن الأحوط لك أن تعيده، أما إذا كنت أديته بعدما تبت؛ فهو حج صحيح إن شاء الله.
وما مضى من المعصية وترك الصلاة والصيام تكفره التوبة الصادقة.
[1] رواه مسلم في "صحيحه" (1/88) من حديث جابر بن عبد الله بنحوه
[2] رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5/346)، ورواه الترمذي في "سننه" (7/283)، ورواه النسائي في "سننه" (1/231 ـ 232)، ورواه ابن ماجه في "سننه" (1/342)؛ كلهم من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 1/ ص 96) [ رقم الفتوى في مصدرها: 49]
ــــــــــــــــــــ(1/66)
هل يعاقب المجنون على ترك الصلاة والصوم والزكاة وغيرها؟
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4609
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يعاقب المجنون على الأعمال التي قام بها قبل حدوث الجنون والتي لا ترضي الله عز وجل مثل ترك الصلاة والصوم والزكاة وغيرها، حيث أنه في بداية الحياة كان عاقلاً ولكن الإصابة بالجنون حدثت في وقت متأخر؟
الجواب
حكمه أيام عقله حكم جميع المكلفين العقلاء في الحساب والثواب والعقاب، وحكمه أيام جنونه حكم سائر المجانين في أنه رفع عنه القلم . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 6/ ص 20، 21) [ رقم الفتوى في مصدرها: 8302]
ــــــــــــــــــــ(1/67)
لا صيام على من عاهدت زوجها المتوفي بقضاء ما أفطر وهو مريض
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4490
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
مرض والدي مرضاً شديداً في بداية شهر شعبان، وجاء شهر رمضان وهو على مرضه حيث لا يأكل الطعام، ويشرب الماء والقهوة فقط، وصام ستة أيام من رمضان، وهو لا يأكل، يشرب الماء والقهوة فقط، ودخل عليه أهل الخير منهم بعض إخوانه وزوجته وقالوا له: أنت يجب عليك أن تفطر حيث عندك عذر شرعي، وهو المرض الشديد. قال لهم: لا يمكن أن أفطر، أموت أو أحيا. وقالت له زوجته: إذا شيء جرى بك موت مثلاً فأنا مستعدة أنا أقضي عنك. وبعد إلحاح شديد من زوجته أفطر حيث وهم خائفون عليه من الصيام أن يؤثر على حالته، وقد أفطر باقي شهر رمضان 24 يوماً، وفي يوم العيد بعد رمضان وقف شقه الأيمن رجله ويده وجميع أعضاء الجهة اليمين، وبعد عشرة أيام توفي والدي. والسؤال هنا هو: هل على والدتي الصوم عن أبي في رمضان الذي هي وعدته وقطعت على نفسها بأن تصوم بدلاً عنه لو مات، وقد مات والدي؟ فأرجو من فضيلتكم التكرم بالجواب كتابياً، وهي باليمن وأنا مقيم في الرياض حتى أقنعها بما تفتون به، وفقكم الله لخدمة المسلمين بما فيه الخير؟
الجواب
إذا كان الواقع كما ذكر فأبوك معذور في فطره لشدة مرضه، فليس عليه قضاء ولا فدية لاتصال موته بمرضه، وليس على أمك قضاء ولا فدية لما أفطره أبوك من أيام مرضه كذلك، وإن كانت قد التزمت له بذلك لسقوط الصيام والفدية عنه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص378 , 379) [ رقم الفتوى في مصدرها: 9400]
ــــــــــــــــــــ(1/68)
صيام الحامل والمرضع، واستخدام حبوب لمنع الحيض في رمضان
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4540
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
متى يُباح الفطر في رمضان للحامل والمرضع؟ وما هي مفسدات الصوم عمومًا؟ وهل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب المانعة للعادة الشهرية حتى تتمكن من صيام رمضان بدون انقطاع؟
الجواب
يجوز الإفطار للحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما من أضرار الصيام؛ لأنه يمكن أن الصيام يضعف الغذاء الذي يتغذى به المولود في بطن أمه، فإذا كان الأمر كذلك فلها أن تفطر وأن تقضي من أيام أخر وتطعم مع القضاء، وإن خافت على نفسها من الصيام؛ لأنها لا تستطيع الصيام وهي حامل أو لا تستطيع الصيام وهي مرضع؛ فهذه تفطر وتقضي من أيام أخر وليس عليها إطعام. هذا ما يتعلق بالحامل والمرضع.ويجوز للمرأة تناول الحبوب التي تمنع عنها الحيض من أجل أن تصوم إذا كانت هذه الحبوب لا تضر بصحتها.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 3/ ص 147) [ رقم الفتوى في مصدرها: 223]
ــــــــــــــــــــ(1/69)
قضاء الصوم بعد زوال المرض
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4536
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
شخص أصابه مرض مزمن ونصحه الأطباء بعدم الصيام، ولما شفي من هذا المرض؛ كان قد فاته أربع سنوات؛ فماذا يفعل بعد أن شفاه الله؟ هل يقضيها أم لا؟
الجواب
من أفطر لأجل مرض، ثم زال مرضه، واستطاع الصيام؛ فإنه يجب عليه قضاء ما أفطر؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة: 184].
وهذا الذي أفطر أربعة رمضانات وشفي الآن؛ يجب عليه القضاء لتلك الأشهر أولاً بأول، لكن له أن يفرق القضاء حسب استطاعته، إلى أن ينتهي ما في ذمته، ولا يجب عليه القضاء دفعة واحدة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولأن وقت القضاء موسع.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 3/ ص 139) [ رقم الفتوى في مصدرها: 213]
ــــــــــــــــــــ(1/70)
حكم الكفارة بدلا من قضاء الصوم
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4535
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
أمي في الستين من عمرها، لم تقض أيام الحيض من أشهر رمضان فاتتها منذ أن تزوجت والدي، حيث كان يقول لها والدي بأن تكفر عن كل يوم بدلاً من قضائه، وذلك لأنها أم ولها أولاد، والمدة التي فاتتها تقدر بعشرين عامًا؛ بواقع سبعة أيام من كل رمضان؛ ماذا عليه؟ هل تصوم ما فاتها أم تتصدق؟ وما مقدار الصدقة؟
الجواب
الواجب على والدتك قضاء الأيام التي تركت صيامها من رمضان في فترة الحيض، ولو تكرر ذلك منها عدة رمضانات، فتحصي الأيام التي تركتها، وتقضيها، وتطعم مع القضاء مسكينًا عن كل يوم، بمقدار نصف صاع عن كل يوم؛ كفارة عن تأخير القضاء، ويجوز أن تقضيها متتابعة أو متفرقة حسب ظروفها.
المهم أنه لا يجوز لها تركها، ووالدك قد أخطأ خطأ كبيرًا في إفتائها بغير علم.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 3/ ص 138) [ رقم الفتوى في مصدرها: 212]
ــــــــــــــــــــ(1/71)
الحامل والمرضع في الصيام وحبوب منع الحيض
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4525
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
متى يباح الفطر في رمضان للحامل والمرضع؟ وما هي مفسدات الصوم عمومًا؟ وهل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب المانعة للعادة الشهرية حتى تتمكن من صيام رمضان بدون انقطاع؟
الجواب
يجوز الإفطار للحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما من أضرار الصيام؛ لأنه يمكن أن الصيام يضعف الغذاء الذي يتغذى به المولود في بطن أمه؛ فإذا كان الأمر كذلك فلها أن تفطر وأن تقضي من أيام أخر وتطعم مع القضاء، وإن خافت على نفسها من الصيام؛ لأنها لا تستطيع الصيام وهي حامل أو لا تستطيع الصيام وهي مرضع؛ فهذه تفطر وتقضي من أيام أخر وليس عليها إطعام. هذا ما يتعلق بالحامل والمرضع.
ويجوز للمرأة تناول الحبوب التي تمنع عنها الحيض من أجل أن تصوم إذا كانت هذه الحبوب لا تضر بصحتها.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 3/ ص 28) [ رقم الفتوى في مصدرها: 39]
ــــــــــــــــــــ(1/72)
هل يجوز الإطعام بدلا من الصوم في كفارة القتل؟
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4523
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
لقد قدر الله حادث سيارة على أحد الأشخاص بسيارتي بينما هو يمشي على قدميه ونقل إلى المستشفى متأثرًا بتلك الإصابة ورقد عشرة أيام ثم توفى وقد تنازل أهله عن ديته وأخذ أولاده القصر مبلغ ثلاثين ألف ريال حيث كان الخطأ مشتركًا فعليه نسبة 40% منه.
وسؤالي هو عن الصيام. هل يجب علي وجوبًا مع أنني طالب في الثانوية وقد لا أستطيع الجمع بين الصيام والدراسة فهل يكفي أن أتصدق وأطعم أو هل من مخرج لي من الصيام أفيدوني بارك الله فيكم؟
الجواب
لا شك أنه يجب عليك الصيام لأنك شاركت في قتل نفسٍ خطأً والكفارة تجب على القاتل خطأ سواء انفرد في القتل أو شارك فيه وأنت تذكر أنك اشتركت في 60% المهم أنه لو شارك في 1% أو أقل عليه كفارة لعموم الآية الكريمة فيثبت في ذمتك صيام شهرين إذا لم تستطع، تذهب إلى البديل وهو الصيام وليس هناك شيء ثالث غير الصيام وتأتي به متى استطعت فإذا كنت في الوقت الحاضر لا تستطيع فإنه يبقى في ذمتك وتصومه إذا استطعت والدراسة ليست تمنع من الصيام فالناس يصومون وهم يدرسون لاسيما في المناطق الباردة. الدراسة ليست عذرًا في ترك الصيام ولو أنك تحينت مثلاً الفصول الباردة مثل فصل الشتاء وصمت فيه فلا بأس به مع البرودة التي تخفف عليك من شدة الصيام المهم أنك لابد أن تصوم وأنت أدرى بالوقت المناسب لك والصيام يبقى في ذمتك إلى أن تؤديه ليس له بديل، الإطعام ليس له وجود في كفارة القتل ـ الله تعالى لم يذكر إلا خصلتين العتق أو الصيام فيما ذكر في كفارات أخرى ثلاث أشياء تدل أن القتل لا يجزي فيه إلا شيئان العتق أو الصيام.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 231) [ رقم الفتوى في مصدرها: 239]
ــــــــــــــــــــ(1/73)
الفطر أفضل من الصوم في السفر إلا في عرفة وعاشوراء
المفتي
الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ
رقم الفتوى
4518
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
الفطر أفضل من الصوم في السفر إلا في عرفة وعاشوراء
الجواب
اختلف العلماء أيهما أفضل: على أقوال. والراجح أن الفطر أفضل. لقوله: ((أُوْلَئِك الْعُصَاة)) لِلَّذِيْنَ لمْ يَقْبَلُوْا الرُّخْصَةَ و((لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِيْ السَّفَرِ)) وحديث حمزة بن عمرو.
وهذا خلاف صيام يوم عاشوراء نص عليه أحمد أنه لا يكره للمسافر، وقاس عليه بعض صيام يوم عرفة في حق المسافر.
وبعض استظهر أن يقاس عليه كل صوم يوم ليس بواجب كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الاثنين والخميس ونحو ذلك.
مصدر الفتوى: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (ج 4/ ص 184) [ رقم الفتوى في مصدرها: 1123]
ــــــــــــــــــــ(1/74)
الصوم في بلاد يستمر فيها طلوع الشمس
المفتي
الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ
رقم الفتوى
4515
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
سئل رحمه الله عن حكم الصيام في بلاد يستمر فيها طلوع الشمس؟
الجواب
يجب عليهم الصيام، وينظرون البلاد التي تليهم.
مصدر الفتوى: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (ج 4/ ص 161) [ رقم الفتوى في مصدرها: 1099]
ــــــــــــــــــــ(1/75)
الصوم في بلاد لا تطلع فيها الشمس شتاء
المفتي
الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ
رقم الفتوى
4514
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
سئل رحمه الله عن حكم صوم من لا تطلع عندهم الشمس أيام الشتاء مطلقًا؟
الجواب
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الأستاذ المكرم جاسر العلي الحريش سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلينا كتبك الذي ذكرت فيه أنك تدرس في ألمانيا الغربية، وتسأل عن مسألتين مهمتين من مسائل الصيام، وقد جرى تأملهما، والجواب عليهما بما يلي:
المسألة الأولى. ذكرت أن الشمس لا تطلع عندكم أيام الشتاء مطلقًا، وأما الصيف فالنهار عندكم تسع ساعات فقط، وتسأل متى يكون فطركم؟ ومتى يكون إمساككم؟
والجواب: ـ الحمد لله. أما الإمساك فقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فمادام الليل باقيًا فلا حرج على من أكل أو شرب، والأصل بقاء الليل، فإذا تبين الفجر لزم الإمساك مع الاحتياط ببضع دقائق قبل الفجر احتياطا للعبادة وأما الفطر فالأصل بقاء النهار فلا يفطر حتى يغلب على الظن غروب الشمس ويعرف ذلك بغشيان الظلام واختفاء نور الشمس. فإذا غلب على الظن الإنسان ذلك باجتهاده أو بخبر ثقة جاز له الفطر.
مصدر الفتوى: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (ج 4/ ص 160) [ رقم الفتوى في مصدرها: 1098]
ــــــــــــــــــــ(1/76)
مات قبل قضاء الصوم فماذا أفعل؟
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4511
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
والدي متوفى وكان قبل وفاته مريضًا مرضًا شديدًا منعه من صيام شهر رمضان الماضي فهل يجوز لي أن أصوم قضاءً عنه أم يلزمني شيء آخر وما هو؟
الجواب
إذا ترك والدك الصيام لعذر المرض واستمر به المرض إلى أن توفي فلا شيء عليه لأنه أفطر لعذر ولم يستطع القضاء حتى مات لا شيء عليه، وإذا كان شفي من مرضه ومر عليه وقت يستطيع القضاء ولم يقض حتى دخل عليه رمضان آخر والأيام التي أفطرها في ذمته ثم مات بعد رمضان الآخر فإنه يجب أن يطعم عنه عن كل يوم مسكينًا من تركته إذا كان له تركة لأن هذا دين لله سبحانه وتعالى بأن يطعم عن كل يوم مسكين يعني يدفع له عن كل يوم نصف صاع من الطعام المعتاد في البلد أما أن يصوم عنه أحد فالصيام الواجب في أصل الشرع لا يصوم أحد عن أحد وإنما هذا في النذر لو كان عليه صيام نذر فإنه يصوم عنه وليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه صيام نذر صام عنه وليه)) لأن النذر هو الذي ألزمه نفسه فهو لم يجب في أصل الشرع أما صوم رمضان فهذا ركن من أركان الإسلام وواجب بأصل الشرع ولا يصوم أحد عن أحد كما أنه لا يصلي أحد عن أحد.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 107) [ رقم الفتوى في مصدرها: 108]
ــــــــــــــــــــ(1/77)
تقبيل الزوجة
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4508
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
ما حكم تقبيل الزوجة بدون شهوة في حال الصوم أو في حال الطهارة وهل ينتقض الوضوء بسبب القبلة؟
الجواب
إذا قبل الرجل زوجته بدون شهوة في أثناء الصوم أو بعد الطهارة ولم يخرج منه شيء فإن ذلك لا يخل بصيامه ولا بطهارته فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ويقبل وهو متوضئ لما كان مالكاً لإربه ([1]) فدل ذلك على الجواز في هذه الحالة، أما الذي يخشى من ثوران شهوته فإنه لا يقبل في هاتين الحالتين خشية أن يخرج منه شيء يخل بصيامه أو طهارته. والله أعلم.
([1]) رواه البخاري في صحيحه جـ2 ص233 من حديث عائشة رضي الله عنها.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 98) [ رقم الفتوى في مصدرها: 97]
ــــــــــــــــــــ(1/78)
التتابع في صيام كفارة اليمين
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4506
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
كان علي صيام أيام كفارة يمين فسألت إحدى أخواتي المسلمات والتي أثق بها لأنها على درجة من العلم فسألتها إن كان الصوم متتابعًا أو متفرقًا فقالت لي لا يشترط التتابع فصمتها متفرقة ولكن سمعت من برنامجكم ومن أحد العلماء الكرام إنه يشترط التتابع فرجعت إليها فأخرجت لي في تفسير ابن كثير قول مالك فيه بأنه لا يشترط التتابع فهل علي شيء. وما هو القول الصحيح في هذا؟
الجواب
كما ذكرت المسألة فيها خلاف بين أهل العلم هل يجب التتابع في صيام كفارة اليمين أو لا يجب ولكن الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه في أنه يجب التتابع لأنه قُرئ قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}([1]) فتكون هذا القراءة نصًا على وجوب التتابع والله أعلم.
([1]) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ2 ص86.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 96) [ رقم الفتوى في مصدرها: 94]
ــــــــــــــــــــ(1/79)
صوم وفطر المسافر
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4504
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
أيهما أفضل للمسافر الفطر أم الصوم؟ وما حكم لو نوى المسافر الإقامة في بلد أقل من أربعة أيام، فهل له الفطر والحالة هذه أم لا؟ أفيدوني بارك الله فيكم.
الجواب
المسافر سفرًا يباح فيه قصر الصلاة وهو ما يسمى بسفر القصر بأن يبلغ ثمانين كيلو فأكثر فهذا الأفضل له أن يفطر عملاً بالرخصة الشرعية وإذا صام وهو مسافر فصومه صحيح ومجزئ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] فالإفطار في السفر أفضل من الصيام وإذا صام فلا حرج عليه إن شاء الله وصيامه مجزئ وصحيح. وأما إذا نوى إقامة أربعة أيام فأقل فإنه له أحكام المسافر يجوز له الإفطار ويجوز له قصر الصلاة لأن إقامته إذا كانت أربعة أيام فأقل فإنها لا تخرجه عن حكم المسافر أما إذا كانت إقامته التي نواها تزيد عن أربعة أيام فهذا يأخذ حكم المقيم وتنقطع في حقه أحكام السفر فيجب عليه إتمام الصلاة والصوم في رمضان.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 87) [ رقم الفتوى في مصدرها: 88]
ــــــــــــــــــــ(1/80)
تبييت النية في الصوم وحكم التلفظ بها
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4503
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يشترط أن تكون نية الصيام قبل الفجر من كل ليلة من رمضان أم تكفي نية واحدة كل الشهر. وما حكم من تلفظ بها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان.
الجواب
النية شرط من شروط صحة العبادة من صيام وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))([1]) فكل عبادة من العبادات لا تصح إلا بنية ومن ذلك الصيام فإنه لا يصح إلا بنية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صيام لمن لم يبيت النية من الليلة))([2]) فالنية للصيام مشترطة وصيام الفرض لابد أن ينويه من الليل قبل طلوع الفجر ويجب عليه أن ينوي لكل يوم نية جديدة لأن كل يوم عبادة مستقلة تحتاج إلى نية متجددة بتجدد الأيام لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))([3]).
فإن قام من نومه وتسحر فهذا هو النية. وإن لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر وكان ناويًا للصيام قبل نومه فإنه يمسك إذا استيقظ وصيامه صحيح لوجود النية من الليل.
وما أشار إليه السائل من النطق بالنية هل هو مشروع أو ليس بمشروع؟ فالنطق بالنية غير مشروع والتلفظ بها بدعة لأن النية من أعمال القلوب والمقاصد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى بدون تلفظ ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتلفظ بالنية ويقول الله إني نويت أن أصوم أو نويت أن أصلي أو نويت كذا وكذا. إنما ورد هذا عند الإحرام بالحج أو العمرة أن يقوم المسلم لبيك عمرة أو لبيك حجًا([4]) وكذلك عند ذبح الهدي أو الأضحية ورد أنه يتلفظ عند ذبحها([5]) ويقول: اللهم هذه عني أو عن فلان فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. أما ما عدا ذلك من العبادات فالتلفظ بالنية بدعة سواء كان في الصوم أو في الصلاة أو في غير ذلك لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلفظ في شيء من هذه الأحوال بالنية وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ([6]).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة))([7]).
فالتلفظ بالنية أمر محدث فهو بدعة.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] فالله جل وعلا أنكر على الذين تلفظوا بنياتهم قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلى أن قال تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحجرات: 14 ـ 16] فالتلفظ بالنية معناه أن الإنسان يخبر ربه عز وجل أنه نوى له كذا وكذا قد نهى الله عن ذلك وأنكر على من فعله.
([1]) رواه البخاري في صحيحه جـ1 ص2 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
([2]) رواه الإمام مالك في الموطأ جـ1 ص288 من حديث عبد الله بن عمر موقوفًا. ورواه الإمام أحمد في مسنده جـ6 ص287 ورواه أبو داود في سننه جـ2 ص341، 342، ورواه النسائي في سننه جـ4 ص196، 197، ورواه ابن ماجه في سننه جـ1 ص542، ورواه الدارمي في سننه جـ2 ص12، ورواه البيهقي في السنن الكبرى جـ4 ص202، 203، ورواه ابن خزيمة في صحيحه جـ3 ص212، ورواه ابن أبي شيبة عن مصنفه جـ2 ص292، ورواه ابن حزم في المحلى جـ6 ص162، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد جـ3 ص93، 93، وذكره الزيلعي في نصب الراية جـ2 ص433 ـ 435 كلهم م حديث حفصة رضي الله عنها بنحوه.
([3]) رواه البخاري في صحيحه جـ1 ص2 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
([4]) انظر: صحيح الإمام مسلم جـ2 ص915 عن حديث أنس رضي الله عنه.
([5]) انظر: مسند الإمام أحمد جـ6 ص8 من حديث أبي رافع. وسنن أبي داود جـ3 ص98، 99 من حديث جابر بن عبد الله، وسنن الترمذي جـ5 ص236، 237 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وسنن ابن ماجه جـ2 ص1043، 1044 من حديث أنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبي هريرة. ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد جـ4 ص22، 23.
([6]) رواه الإمام البخاري في صحيحه جـ8 ص156. معلقًا.
([7]) رواه الإمام أحمد في مسنده جـ4 ص126، ورواه أبو داود في سننه جـ4 ص200، ورواه الترمذي في سننه جـ7 ص319، 320 بنحوه، ورواه ابن ماجه في سننه جـ1 ص15، 16 بنحوه. ورواه الحاكم في مستدركه جـ1 ص97 كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 84) [ رقم الفتوى في مصدرها: 87]
ــــــــــــــــــــ(1/81)
الحكمة من الصوم، وكم صام النبي صلى الله عليه وسلم،
وإفطار الحاجم والمحجوم، وحديث: ((صوموا تصحوا))
المفتي
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
رقم الفتوى
4493
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
ما الحكمة من مشروعية الصيام، وكم صام النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا ما معنى أفطر الحاجم والمحجوم. وهل هذا حديث ((صوموا تصحوا))؟
الجواب
الصيام فيه حكم عظيمة منها ما ذكره الله في قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فبين سبحانه وتعالى أن الصيام سبب لحصول التقوى، والتقوى مزية عظيمة وهي جماع الخير. فالصائم يكتسب التقوى والصيام يجلب التقوى للعبد لأنه إذا صام فإنه يتربى على العبادة ويتروض على المشقة وعلى ترك المألوف وعلى ترك الشهوات وينتصر على نفسه الأمارة بالسوء ويبتعد عن الشيطان وبهذا تحصل له التقوى وهي فعل أوامر الله عز وجل وترك نواهيه طلبًا لثوابه وخوفًا من عقابه فهذا من أعظم المزايا أن الصيام يسبب للعبد تقوى الله سبحانه وتعالى والتقوى هي جماع الخير وهي رأس البر وهي التي علق الله عليها خيرات كثيرة وكرر الأمر بها في كتابه وأثنى على أهلها ووعد عليها بالخير الكثير وأخبر أنه يحب المتقين.
ومن فوائد الصيام أنه يربي الإنسان على ترك مألوفه تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى ولهذا يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: ((الصوم لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي))([1]) فهذا فيه امتحان للصائم في أنه ترك شهوته وملذوذاته ومحبوباته تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى وآثر ما يحبه الله على ما تحبه نفسه وهذا أبلغ أنواع التعبد وهذا من أعظم فوائد الصيام، وكذلك الصيام يعود الإنسان على الإحسان وعلى الشفقة على المحاويج والفقراء لأنه إذا ذاق طعم الجوع وطعم العطش فإن ذلك يرقق قلبه ويلين شعوره لإخوانه المحتاجين.
والصيام فرض في السنة الثانية من الهجرة وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات لأنه عاش في المدينة عشر سنوات والصيام فُرض في السنة الثانية منها فيكون عليه الصلاة والسلام قد صام تسع رمضانات، وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ((أفطر الحاجم والمحجوم))([2]) فمعناه أنه يفسد صيام الحاجم وهو الذي يسحب الدم بالقرن والمحجوم هو الذي يسحب منه الدم فالإثنان أفطرا؛ أما إفطار المحجوم فلخروج الدم الكثير منه وذلك مما يضعفه عن الصيام، وأما إفطار الحاجم فلأنه مظنة أن يتطاير إلى حلقه شيء من الدم والمظنة تنزل منزلة الحقيقة فأفطر من أجل ذلك وسدًا للذريعة وحديث: ((صوموا تصحوا))([3]). يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بعض كتب السنة وإن لم يكن سنده بالقوي ومعناه صحيح لأن الصيام فيه صحة للبدن لأنه يمنع الأخلاط التي تسبب الأمراض وهذا المعنى يشهد به علماء الطب والتجربة أكبر برهان.
([1]) رواه الإمام البخاري في صحيحه جـ2 ص226، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
([2]) رواه الإمام أحمد في مسنده جـ2 ص364 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الترمذي في سننه جـ3 ص118 من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
([3]) انظر: المقاصد الحسنة ص381، وتمييز الخبيث من الطيب ص88، وأسنى المطالب ص167، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد جـ3 ص179. وذكره غيرهم.
مصدر الفتوى: المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان (ج 4/ ص 59) [ رقم الفتوى في مصدرها: 58]
ــــــــــــــــــــ(1/82)
وصية الميت بالصوم عنه
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4483
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
مات والدي بعد مرض ألم به منعه من الصيام نصف شهر رمضان، وقد أوصاني بصيام تلك الأيام. فهل يلزمني ذلك أو إخراج كفارة؟
الجواب
إذا كان الأمر كما ذكر، فلا يلزمك أن تصوم عنه، ولا يلزم إخراج كفارة عن الأيام التي لم يتمكن من صيامها لعموم قوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وحيث أن والدك لم يتمكن من الصيام ولا من القضاء فلا يجب عليه شيء. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 371) [ رقم الفتوى في مصدرها: 2169]
ــــــــــــــــــــ(1/83)
قضاء الصوم عن الميت
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4487
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
إن والدي توفي وعليه أيام من رمضان لعام 1400هـ لا أعرف عددها، وهو ليس في حالة مرض، وأظن أنه في حالة سفر وتعب، وقد حل شهر رمضان الثاني وهو لم يقضه، وقد أشعرته أن عليه أياماً هل هو قاضيها، فقال: إنني سوف أقضيها في الشتاء، وقد توفي إثر حادث مروري فجأة وأنا متأكد أنه لم يقضه، أطلب من فضيلتكم إرشادي ماذا أفعل؛ هل أصوم عنه أو أتصدق حيث أنه خلف مالاً كثيراً؟ هذه كامل المشكلة.
الجواب
يشرع لك أن تصوم عن والدك من الأيام ما يغلب على ظنك أن والدك أفطرها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) متفق عليه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 375 , 376) [ رقم الفتوى في مصدرها: 4860]
ــــــــــــــــــــ(1/84)
وصية الميت بالصوم عنه
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4483
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
مات والدي بعد مرض ألم به منعه من الصيام نصف شهر رمضان، وقد أوصاني بصيام تلك الأيام. فهل يلزمني ذلك أو إخراج كفارة؟
الجواب
إذا كان الأمر كما ذكر، فلا يلزمك أن تصوم عنه، ولا يلزم إخراج كفارة عن الأيام التي لم يتمكن من صيامها لعموم قوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وحيث أن والدك لم يتمكن من الصيام ولا من القضاء فلا يجب عليه شيء. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 371) [ رقم الفتوى في مصدرها: 2169]
ــــــــــــــــــــ(1/85)
قضاء الزوج الصيام عن زوجته المتوفاة
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4484
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
مرضت زوجتي ومكثت في المرض ثلاث سنوات ونصف، ولم تستطع صومها بسبب المرض، وذلك من عام 95 حتى 15/9/98هـ، ثم توفيت وكان مجموع الصوم الذي عليها ثلاثة أشهر ونصف، فهل أصوم عنها هذه المدة أو أدفع عنها صدقة أو أصوم عنها وأدفع صدقة؟ وهل يجوز أن يصوم عنها أحد أقربائها غيري هذه المدة؟ أفيدوني.
الجواب
إذا كان الأمر كما ذكرت من أن زوجتك مكثت في المرض ثلاث سنوات ونصف سنة، ولم تستطع صوم رمضان في هذه السنوات في وقته ثم توفيت؛ فإن استمر بها المرض حتى الوفاة فلا قضاء عليها؛ لعدم تمكنها منه، قال تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقال : {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ولا يطالب أولياؤها ولا زوجها بالقضاء عنها، أما إن كانت شفيت مدة من هذا المرض تتمكن فيها من القضاء وفرطت فيه شرع لزوجها وأقربائها أن يصوموا عنها ما وجب عليها قضاؤه ولم تقضه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص371 ,372 ) [ رقم الفتوى في مصدرها: 2277]
ــــــــــــــــــــ(1/86)
لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من القضاء
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4481
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
امرأة كانت تفطر في رمضان من كل عام إفطاراً اضطرارياً، إما لمرض أو إفطار بسبب الحيض ولم تفطر أبداً عامدة متعمدة، وظلت كذلك عدداً من السنين، ولم تقض بعد كل رمضان إلى أن تراكم عليها أيام كثيرة حوالي ستة أشهر، وهي الآن أرادت القضاء فبدأت تصوم كل يوم اثنين وخميس، ولكن زوجها منعها من الصوم، فماذا تفعل الآن؟ وهل تطيع زوجها وتفطر، أم تصوم بدون إذن زوجها؟ أرجو الإفادة أثابكم الله.
الجواب
يجب على المرأة المذكورة قضاء عدد الأيام التي أفطرتها، وتطعم عن كل يوم مسكيناً مع القضاء للتأخير، ولا يجوز لزوجها أن يمنعها من القضاء؛ لأنه واجب عليها، وليس لها طاعته في ذلك. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 369 , 370 ) [ رقم الفتوى في مصدرها: 12845]
ــــــــــــــــــــ(1/87)
السكن في منطقة حارة ليس عذراً في ترك قضاء الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4474
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
وضعت حملي بتاريخ 21/8/1407هـ وحرمت من صوم شهر رمضان المبارك لعام 1407هـ وحيث أنني أرغب افتائي هل يجوز لي إطعام أو أصوم؟ حيث أنني أسكن في منطقة حارة جداً، وهي منطقة تهامة عسير، وحيث أنني في حيرة من الأمر أرجو إفادتي جزاكم الله خيراً.
الجواب
يجب عليك قضاء صيام شهر رمضان لعام 1407 الذي نفست فيه وينبغي لك المبادرة بذلك قبل مجيء رمضان، وليست السكنى في منطقة حارة عذراً في ترك قضاء الصوم، ولا يجزئك الإطعام وأنت قادرة على الصيام. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 350) [ رقم الفتوى في مصدرها: 10722]
ــــــــــــــــــــ(1/88)
أشياء لا تفسد الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4465
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
هل يضع الصائم طيباً، وهل يجوز له التسوك بالنهار، وهل تضع المرأة حناء أو تدهن شعرها لتمتشط به؟
الجواب
له أن يضع طيباً في ثوبه أو ما يلبسه على رأسه أو في بدنه إلا أنه لا يتسعطه في أنفه، وله أن يتسوك بالنهار لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة))[1] متفق على صحته، وهذا يشمل صلاة الظهر والعصر في حق الصائم وغيره، ولا نعلم دليلاً صحيحاً يمنع من ذلك، وللمرأة أن تضع الحناء أو تدهن شعرها لتمتشط به؛ لأنه لا يؤثر على الصيام، وهكذا الرجل له أن يدهن بدواء أو غيره، وإن كان صائماً.
0000000000000000
([1]) أخرجه مالك 1/66، وأحمد 2/245،287، 399،429،509،531، والبخاري 1/214، ومسلم 1/220 برقم (252، وأبو داود 1/40 برقم (46،47)، والترمذي 1/34،35 برقم (22،23)، والنسائي 1/12،266267، برقم (7،534)، وابن ماجه 1/105 برقم (287)، والدارمي 1/174، وابن حبان 3/350 برقم (1068)، وابن خزيمة 1/72 برقم (139)، والحاكم 1/146، والبيهقي 1/35،37.
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 328) [ رقم الفتوى في مصدرها: 6288]
ــــــــــــــــــــ(1/89)
نزول المني بدون احتلام ولا استمناء لا يفسد الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4438
تاريخ الفتوى
6/9/1425 هـ 20041020
تصنيف الفتوى
السؤال
أشكو نزول السائل المنوي في أيام رمضان أثناء الصيام بدون أي احتلام أو ممارسة العادة السرية فهل في هذا تأثير على الصوم؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب
إذا كان الأمر كما ذكر فإن نزول المني منك بدون لذة في نهار رمضان لا يؤثر على صيامك وليس عليك القضاء. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 278) [ رقم الفتوى في مصدرها: 10645]
ــــــــــــــــــــ(1/90)
الروائح مطلقاً عطرية وغير عطرية لا تفسد الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4382
تاريخ الفتوى
5/9/1425 هـ 20041019
تصنيف الفتوى
السؤال
هل روائح الطيب أو روائح المبيدات الحشرية تفطر الصائم في رمضان أو غيره؟
الجواب
الروائح مطلقاً عطرية وغير عطرية لا تفسد الصوم في رمضان وغيره فرضاً أو نفلاً. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 271) [ رقم الفتوى في مصدرها: 7845]
ــــــــــــــــــــ(1/91)
دخول الماء في الجوف أثناء المضمضة للوضوء لا يبطل الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4386
تاريخ الفتوى
5/9/1425 هـ 20041019
تصنيف الفتوى
السؤال
ما حكم من دخل الماء جوفه أثناء الوضوء، أثناء الصيام في أثناء المضمضة في غير وضوء، قطرة أو قطرتين من غير تعمد، أو أثناء الاغتسال أو الوضوء أو التبرد بالماء في الحر، هل عليه قضاء يوم كامل بدلاً عنه؟ أم إعطاء صدقة للفقراء كفارة لهذه الهفوات مع العلم أن قطرة الماء غلبته ودخلت جوفه غصباً عنه من غير تعمد. أفتونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
من اغتسل أو تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه من غير اختياره لم يفسد صومه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)). وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 275) [ رقم الفتوى في مصدرها: 5733]
ــــــــــــــــــــ(1/92)
خروج الدم من الأنف والفم فجأة لا يبطل الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4367
تاريخ الفتوى
5/9/1425 هـ 20041019
تصنيف الفتوى
السؤال
رجل سافر وهو صائم في شهر رمضان وبعد صلاة الظهر فوجئ بنزول دم من أنفه وفمه، ورغم ذلك لم يفطر بل استمر على إكمال صيام ذلك اليوم. فما الحكم في ذلك، وهل يقضي ذلك اليوم مع العلم أنه مضى عدة أعوام ولم يتم قضاء هذا اليوم حتى الآن؟
الجواب
لا تأثير لما خرج من فمك وأنفك من الدم فجأة ما دمت أمسكت عن المفطرات إلى غروب الشمس، سواء قل ذلك أم كثر، فصومك صحيح وليس عليك قضاء. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 266 , 267) [ رقم الفتوى في مصدرها: 4449]
ــــــــــــــــــــ(1/93)
النزيف في الحلق لا يفسد الصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4366
تاريخ الفتوى
5/9/1425 هـ 20041019
تصنيف الفتوى
السؤال
لقد أصيب والدي في آخر شهر رمضان عام 1400هـ بمرض في الحلق والرقبة وقد حصل لديه نزيف من الحلق لمدة عشرة أيام، ورغم هذا النزيف لم يفطر إلا أنه قد تأثر من هذا النزيف وراوده الشك في صحة صيامه، وحيث إنه الآن أصبح ملازماً للفراش من مرض ألم به بعد ذلك النزيف، وقد طلب مني السؤال هل عليه قضاء للأيام التي خرج فيها النزيف ولكونه طاعناً في السن ومريضاً مرضاً ألزمه الفراش، ويتعذر الشفاء منه، وهو سرطان في أسفل الظهر، والرجل اليسرى ولديه ثلاث درجات سكر، فهل يجوز لي أن أقضي عنه تلك الأيام إذا كان يلزمه القضاء نظراً لحالته الصحية؟
الجواب
إذا كان الأمر كما ذكر فصيامه صحيح، ولا قضاء عليه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 266) [ رقم الفتوى في مصدرها: 3841]
ــــــــــــــــــــ(1/94)
الدم الذي يخرج من اللثة لا يضر بالصوم
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4365
تاريخ الفتوى
5/9/1425 هـ 20041019
تصنيف الفتوى
السؤال
في يوم من أيام رمضان وقبل الغروب بحوالي ربع ساعة مسحت أسناني بمنديل، فنزل دم وأنا لست متعمداً في ذلك، وهذا المرض معي من زمان حيث أنه إذا تسوكت بالسواك ينزل الدم كذلك، فهل صيامي صحيح؟
الجواب
نعم صيامك صحيح وهذا الدم الذي يخرج من لثة الإنسان عند مسحها أو عند السواك لا يضر صومه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 265) [ رقم الفتوى في مصدرها: 3785]
ــــــــــــــــــــ(1/95)
كيفية النية في شهر رمضان
المفتي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
رقم الفتوى
4356
تاريخ الفتوى
5/9/1425 هـ 20041019
تصنيف الفتوى
السؤال
كيف ينوي الإنسان صيام رمضان؟ وهل مجرد العلم بدخول رمضان يصح الصوم بقية الأيام؟
الجواب
تكون النية بالعزم على الصيام، ولا بد من تبييت نية صيام رمضان ليلاً كل ليلة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
مصدر الفتوى: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (ج 10/ ص 246) [ رقم الفتوى في مصدرها: 11455]
ــــــــــــــــــــ(1/96)
النية في الصيام
نسيت نية الصيام بالليل، ثم تذكرت بعد الفجر أنني لم أنو. فهل يصح صومي؟
الإجابة لفضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا
النية للصوم لا بد منها، ولا يصح بدونها، وأكثر الأئمة يشترط أن تكون لكل يوم نية، واكتفى بعضهم بنية واحدة في أول ليلة من رمضان عن الشهر كله، وقتها من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا نوى الإنسان الصيام في أية ساعة من ساعات الليل كانت النية كافية، ولا يضره أن يأكل أو يشرب بعد النية ما دام ذلك كله قبل الفجر، روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له".
ولا يشترط التلفظ بالنية، فإن محلها القلب، فلو عزم بقلبه على الصيام كفى ذلك، حتى لو تسحَّر بنية الصيام، أو شرب حتى لا يشعر بالعطس في أثناء النهار كان ذلك نية كافية، فمن لم يحصل منه ذلك في أثناء الليل لم يصح صومه، وعليه القضاء. هذا في صوم رمضان، أما صوم التطوع فتصح نيته نهارًا قبل الزوال
تبدل النية
هل يفسد صوم من نوى الإفطار؟
يجيب الدكتور عبد الكريم زيدان أستاذ الشريعة الإسلامية حفظه الله:
من نوى الإفطار، فقد فسد صومه وأفطر:
ظاهر مذهب الحنابلة أن من نوى الإفطار فقد افطر، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، إلا أن أصحاب الرأي أي الحنفية قالوا: إن عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه، بناء على أصلهم أن الصوم يجزئ بنية من النهار.
وحكي عن ابن حامد من الحنابلة أن الصوم لا يفسد بذلك؛ لأنه عبادة يلزم المضي في فاسدة فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج.
إلا أن الإمام ابن قدامة الحنبلي رحمة الله تعالى ردّ على قول ابن حامد: بأن الصوم عبادة من شرطها النية، فتفسد بنية الخروج منها كالصلاة؛ ولأن الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة، ولكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها، وهو أن لا ينوي قطعها، فإذا نواه زالت حقيقة وحكمًا فيفسد الصوم، لزوال شرطه، ولا يصح القياس على الحج، فإنه يصح بالنية المطلقة والمبهمة، وبالنية عن غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا
...
النوم في نهار رمضان
هل كثرة النوم في نهار رمضان تبطل الصيام مع أنني أحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها؟
يجيب فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا
شهر رمضان شهر عبادة ليلاً ونهارًا؛ أما بالليل فبالقيام بصلاة التراويح وقراءة القرآن، وأما بالنهار فبالصيام، والجزاء على ذلك وردت فيه نصوص كثيرة، وفي حديث واحد جمع ثواب الصيام والقرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: يا رب منعته الطعام والشهوة بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان" رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه، ولو نام الصائم طول النهار فصيامه صحيح، وليس حرامًا عليه أن ينام كثيرًا ما دام يؤدي الصلوات في أوقاتها، وقد يكون النوم مانعًا له من التورط في أمور لا تليق بالصائم، وتتنافى مع حكمة مشروعية الصيام، وهي جهاد النفس ضد الشهوات والرغبات التي من أهمها شهوتا البطن وشهوة الفرج، ويدخل في الجهاد عدم التورط في المعاصي مثل الكذب والزور والغيبة، فقد صح في الحديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري. هذا ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نوم الصائم عبادة
ــــــــــــــــــــ(1/97)
حول المفطرات في رمضان
ما هو التفسير الحقيقي لمعنى "الأكل والشرب" الذي يبطل بهما الصيام؟ وهل من المبطلات: الحقن ووضع الإصبع في الأذن، والفحص المهبلي والتبرد بالماء والقيء؟
يجيب فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا
قال تعالى في الصوم (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ (. وروى الجماعة حديث صحابي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: هلكت، فسأله "ما أهلكك"؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، ثم بين له كيف يكفر عن ذلك كفارة عظمى.
تدل الآية والحديث على أن الصيام إمساك عن الطعام والشراب والاتصال الجنسي، وأن الذي يتناول طعامًا أو شرابًا أو يتصل اتصالاً جنسيًا فقد أفطر، أي بطل صومه، وقد أجمع الفقهاء على أنه يجب عليه قضاء ما أفطره، لأنه دين، ودين الله أحق بالقضاء كما ثبت في الحديث الصحيح، وإلى جانب القضاء تجب بالاتصال الجنسي خاصة كفارة عظمى، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
وذهب الفقهاء مذاهب شتى في تفسير الأكل والشرب، ثم فرَّعوا على ذلك تفريعات متعددة، والمتتبع لأقوالهم يرى أن معظمها مبني على اصطلاحات ومفهومات حافظت في نظرهم على الشكل الذي يتحقق به الأكل والشرب المبطل للصوم دون الاهتمام بالحكمة المقصودة من الصيام، وهي كف النفس عن أسباب وجودها الشخصي والنوعي مدة من الزمان، ليقوى سلطان العقل عليها، وتصمد إرادته أمام المغريات والشهوات، وليتحقق معنى قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فقالوا: إن الأكل والشرب يتحققان بدخول أي شيء إلى الجوف، واختلفوا في هذا الشيء: هل هو عام أو خاص بما فيه غذاء وتلبية لشهوة النفس؟ كما اختلفوا في المراد بالجوف: هل هو المعدة التي تتلقى الأكل والشرب، أو هو ما استتر من جسم الإنسان عند النظر إليه، أو هو ما يحيل الغذاء والدواء؟.
وترتب على هذا أن بعضهم قال: إن إدخال الإصبع في الأذن يبطل الصوم، لأنه أكل أو في معنى الأكل، في الوقت الذي يقولون فيه: لو وصل الغذاء إلى الجسم وتقوَّى به عن طريق غير مفتوح بالطبع كالإبر الحديثة لا يبطل الصوم، ويجيء آخرون فيقولون: لو وصل دون الشعر إلى الحلق من خلال المسامّ بطل الصوم، مع أنه وصل من منفذ غير طبيعي، في الوقت الذي يقولون فيه: إدخال حقنة في الإحليل لا تفسد الصوم مع أن الإحليل منفذ مفتوح.
وفي إهمال مراعاة الحكمة في الصوم وإطلاق الأكل على ما يشمل ما هو بعيد عن معناه لغة وعرفًا جاءت هذه الأحكام المختلفة. ولهذا أختار من أقوال الفقهاء المعروفين وغيرهم ما يلي:
1. ... لا يبطل الصوم بوضع الإصبع في الأذن أو تنظيفها بقطنة أو بمحلول؛ لأن الطبلة لا تسمح بوصول شيء من ذلك إلى داخل الدماغ، والدماغ ليس عضوًا يتلقى غذاء يستفيد منه الجسم.
2. ... لا يبطل الصوم بالفحص المهبلي أو الكشف على البواسير الداخلية أو الكشف على اللوز بنحو ملعقة.
3. ... الحقنة الشرجية لا تبطل الصيام إلا إذا وصلت إلى المعدة.
4. ... إبر الدواء في الوريد أو العضل أو تحت الجلد لا يفطر بها الصائم، لأنها ليست غذاءً يغني من جوع أو يروي من عطش.
5. ... إبر التغذية "الجلوكوز ونحوه" تُعَدّ أكلاً عرفًا يفطر به الصائم؛ لأن من يأخذها يستغني بها عن الطعام مدة طويلة، فهي تشبعه كما يشبعه الأكل العادي؛ ذلك أن الأكل الذي يصل إلى المعدة بعد هضمه وامتصاصه يوزعه الدم إلى الجسم ويكفيه حاجته، وإبر التغذية أدخلت الغذاء إلى الدم دون حاجة إلى إمراره على المعدة والأجهزة الهاضمة الأخرى.
6. ... ترطيب الجسم بالماء البارد أو ترطيب الفم بالمضمضة لا يفسد الصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رُؤِيَ وهو يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم، كما روه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح، على أن الترطيب ليس فيه دخول الماء إلى الجوف، بل هو لمنع العرق الخارج لتلطيف حرارة الجلد وإبقائه لحاجة الجسم إليه في التقليل من الشعور بالعطش.
7. ... القيء: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من ذرعه القيء أي غلبه فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض" رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي.
قال الفقهاء: إن القيء وهو ما يخرج من المعدة عن طريق الفم إن كان خروجه اضطراريًا فلا يفسد الصوم، وإن كان عن تعمد فسد الصوم.
وقال ابن مسعود وعكرمه وربيعة: إن القيء لا يفسد الصوم على أي حال، محتجين بحديث فيه مقال، وردوا على الفقهاء بأن الحديث الذي اعتمدوا عليه موقوف وليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال البخاري: لا أراه محفوظًا، وقد روي من غير وجه، ولا يصح إسناده، وأنكره أحمد. واحتج الجمهور أيضًا بحديث آخر، لكن في سنده اضطراب لا تقوم به حجه.
وإذا لم يوجد حديث متفق على رفعه وصحته فالأمر متروك للاجتهاد، وقد وجد من يخالف الجمهور، ويمكن أن يقال: إن القيء ليس فيه أكل ولا شرب، بل فيه إخراج أكل وشرب لمنع ضرره بالجسم، فهل يلحق بالحجامة التي هي أخذ دم من الرأس ومثلها الفصد، وهو أخذ دم من غير الرأس؟ إن الجمهور يقولون بعدم بطلان الصيام بالحجامة والفصد؛ لأن حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" لم يسلم من النقد، إن لم يكن من جهة السند فمن جهة الدلالة
ــــــــــــــــــــ(1/98)
صيام الصغار ومتى يكون؟
بالنسبة للولد : متى يصوم؟ وكذلك البنت؟ وهل هناك سن محددة شرعاً لذلك؟
يجيب فضية الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله.
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث : عن الصغير حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بإسناد صحيح، ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر بألفاظ متقاربة، ومن طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً، ومعنى رفع القلم: امتناع التكليف؛ أي ليسوا مكلفين، غير أن الإسلام وهو دين يراعي طبيعة البشر أراد أن يأخذ الأولاد من الصغر بهذه العبادات والطاعات، ليمارسوها ويتدربوا عليها.
فجاء في الحديث عن الصلاة: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والصيام أيضاً عبادة وفريضة كالصلاة. فالواجب أن يدرب عليها الأولاد، ولكن من أي سن؟ ليس من الضروري لسبع؛ لأن الصيام أشق من الصلاة، إنما يرجع الأمر إلى طاقة الصبي. فكلما رأى الوالد أو رأى ولي أمر الطفل أنه يطيق الصيام ولو أيامًا معينة في كل شهر فليدربه على ذلك، يدربه على الصيام سنة بعد سنة، سنة يصوم ثلاثة أيام، وأخرى يصوم أسبوعًا، والتي بعدها يصوم أسبوعين، والتي بعدها يصوم الشهر كله، فإذا جاء وقت البلوغ وهو وقت التكليف كان قد زاول ومارس عملية الصيام فلا تشق عليه، فهذه هي التربية الإسلامية أن يؤخذ الصبي من صغره، ومنذ نعومة أظفاره بآداب الإسلام وفرائضه حتى يتعود عليها، وقد قال الشاعر:
وينفع الأدب الأحداث في صغر ... ... وليس ينفع عند الشيبة الأدب
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ... ولن تلين إذا قومتها الخشب
فعلى الآباء وعلى أولياء أمور الصبيان والبنات أن يعودوهم ويعودوهن الصيام والصلاة، الصلاة منذ سن السابعة والضرب عليها عند العاشرة، والصيام منذ يطيق الصبي ولو بعد السابعة بسنة أو بأكثر عندما يطيق، يأمره الأب بالصيام.
ويقول فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف
الصوم كسائر التكاليف لا يجب على المسلم إلا عند البلوع، وذلك لحديث: "رفع القلم عن ثلاث؛ عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه، ولكن بعض العلماء أوجب على الصبي إذا بلع عشرًا أن يصوم، وذلك لحديث: "إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان" رواه ابن جريج، وكذلك قياسًا على الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الغلام عليها إذا بلغ عشرًا، لكن الرأي الأول هو الصحيح، وهو عدم وجوب الصوم إلا بالبلوغ.
ومن هو دون العشر ليس هناك خلاف في عدم وجوب شيء عليه من صلاة وصيام وغيرهما إلا ما قيل في الزكاة، وسنبينه في موضعه، ولكن من ذلك يستحب أن يمرن على العبادات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر أولادنا بالصلاة لسبع سنين، كما رواه أبو داود بإسناد حسن. وكان الصحابة يمرنون أولادهم على الصيام أيضًا، روى البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنهم كانوا يصومون عاشوراء، ويصومون صبيانهم الصغار، ويذهبون بهم إلى المسجد، ويجعلون لهم اللعبة من الصوف، فإذا بكى أحدهم من أجل الطعام أعطاه إياها حتى يحين وقت الإفطار.
وكل هذا في الأولاد الذين يطيقون الصيام، أما من كان بهم مرض أو صحتهم ضعيفة يزيدها الصوم ضعفًا فليس على الآباء والأمهات أن يأمروهم بالصيام، لكن لا ينبغي أيضًا أن ينهوهم عنه، بل يتركونهم يجربون ذلك بأنفسهم، فإن أطاقوا استمروا، وإلا فإنهم سيتركونه اختيارهم. وعلى الآباء والأمهات أن يمدحوا في أولادهم عزمهم على الصيام وأن يبينوا لهم حكمة تشريعه بلباقة وكياسة، وسيكون استمرارهم في هذه التجربة أو عدولهم عنها باقتناع، وهذا منهج تربوي سليم
ــــــــــــــــــــ(1/99)
الصوم والإفرازات المهبلية
أنا بنت عمري 18 سنة وأول ما جاءني الحيض خرج مني شيء أبيض مثل الترشيح لا أعرفه ، هل يصح لي الصلاة والصيام ؟
يجيب الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف
هذه الأشياء تعتبر إفرازات طبيعية بالنسبة للفتاة وبالنسبة للمرأة، والذي يوجب الفطر ويحرم الصلاة وغيرها إنما هو الدم، دم الحيض المعروف بالحمرة القانية، فإذا لم يكن هناك دم وإنما كان هناك بعض الإفرازات بالصفة التي تصفها السائلة فلا تخف الأخت السائلة منها. ولها بل عليها أن تصوم وأن تصلي وأن تؤدي عباداتها والله تعالى يتقبل منها
ــــــــــــــــــــ(1/100)
حبوب تأخير الحيض في رمضان
نحن نعلم أن صيام رمضان خير وبركة في جميع أيامه، ولا نحب أن نحرم من بعض هذه الأيام صوماً ولا صلاة، فهل يجوز لنا استعمال حبوب منع الحيض مع العلم بأن البعض قد جربه ولم يضر ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
أجمع المسلمون على أن المسلمة التي تأتيها العادة الشهرية في رمضان المبارك لا صيام عليها؛ أي لا صيام عليها في الشهر، وإنما يجب عليها القضاء، وذلك تخفيف من الله ورحمة بالمرأة الحائض؛ حيث يكون جسمها متعبًا وأعصابها متوترة، فأوجب عليها الإفطار إيجابًا وليس إباحة.. فإذا صامت لا يقبل منها الصيام ولا يجزئها، ولا بد أن تقضي أياماً بدل هذه الأيام، وهكذا كان يفعل النساء المسلمات منذ عهد أمهات المؤمنين والصحابيات رضي الله عنهن ومن تبعهن بإحسان، ولا حرج إذن على المرأة المسلمة إذا وافتها هذه العادة الشهرية أن تفطر في رمضان، وأن تقضي بعد ذلك كما جاء عن عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" رواه البخاري.
وأنا شخصيًا أفضل أن تسير الأمور على الطبيعة وعلى الفطرة. فما دام هذا الحيض أمرًا طبيعيًا فطريًا فليبق كما هو على الطبيعة التي جعلها الله عز وجل، ولكن إذا كان هناك نوع من الحبوب والأدوية تتعاطاها بعض النساء لتأجيل الحيض كما هو معروف من حبوب منع الحمل، وأرادت بعض النساء أن يتناولن هذه الحبوب لتأخير العادة عن موعدها حتى لا تفطر بعض أيام رمضان فهذا لا بأس به بشرط أن تتأكد من عدم إضراره بها. وذلك باستشارة أهل الذكر وأهل الخبرة أو باستشارة طبيب؛ حتى لا تتضرر من تناول هذه الحبوب، فإذا تأكد لها ذلك وتناولت هذه الحبوب وتأخرت العادة صامت، فإن صيامها مقبول إن شاء الله
ــــــــــــــــــــ(1/101)
صوم القضاء والكفارات
ما حكم صوم القضاء؟ وهل يجب فورًا بعد انتهاء رمضان؟ وهل يجب متتابعًا كرمضان؟ وماذا لو أخر صوم القضاء حتى انتهى شعبان المقبل وأقبل بعده رمضان؟ وماذا لو تأخر القضاء حتى مات من عليه القضاء؟
يجيب فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله:
من المعلوم أن قضاء الصوم يجب على كل من فاته الصوم في رمضان كلاً أو بعضًا، وأن من الناس من تلحقهم في رمضان أعذار صحية أو شرعية تبيح لهم بحكم الشرع والدين الإفطار مدة تلك الأعذار، ومن ذلك المريض والمسافر والحائض والنفساء، وأن من الناس من يتناول مفطرًا على وجه لا يتحقق به وجوب الكفارة عليه، ومنهم من يفطرون قبل الغروب على اعتقاد أن الشمس قد غربت، أو يأكلون بعد الفجر على اعتقاد أن الفجر لم يطلع. ومنهم من يفطر بغير ما يغذي ولا يشتهى، وكل أولئك يجب عليهم القضاء يومًا بيوم. ولكن من الناس من يغفل عما أفطره من أيام رمضان، وكثيرًا ما ينساه ولا يذكره، وقد يذكره ولكنه يخدع نفسه جريًا وراء شهوتها، فيتثاقل أو يؤجل من يوم إلى يوم، ومن أسبوع إلى أسبوع إلى آخر، ومن شهر إلى شهر، وهكذا حتى يمر عليه العام، فيتلوه آخر، وهكذا حتى يوافيه الأجل وعليه ما عليه من صيام. وإن واجب المسلم أن يكون على ذكر دائم من حق ربه عليه، وأن يكون على ذكر أيضًا من قوله في آيات الصوم التي فرضته في رمضان، وبينت أحكامه: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وقد وضعت هذه الآية قضاء رمضان في مستوى أدائه في وقته بالنظر للمريض والمسافر، وبذلك أخذ القضاء حكم الأداء، ووجب على من فاته الأداء أن يحرص على القضاء، وإذا كان الله قد أوجب القضاء على من أباح له الفطر في رمضان بعذر المرض أو السفر فلأن يجب القضاء من باب أولى على من أفطر بغير ما أباح به الإفطار في رمضان.
وإذا كان القضاء في صوم رمضان مما أوجبه الله على المؤمنين فمما لا شك فيه أن المبادرة بقضاء الواجب في وقت التمكن منه أفضل من تأخيره، ولا ينبغي للمؤمن أن يماطل ربه في أداء حقه بعد أن أزال عذره ورد عليه صحته وأعاده إلى وطنه. كيف والإنسان لا يدري متى ينزل به القضاء. ومن هنا رجح العلماء أن الحج واجب على الفور، ولا ينبغي تأخيره متى تحققت عند المسلم استطاعته وأمن الطريق إليه، ولو فرض وتهاون المسلم في قضاء الصوم حتى أقبل رمضان التالي فإنه يجب عليه أن يصوم رمضان لتعينه وقتًا للصوم المفروض، ثم يصوم ما عليه من قضاء. وإذا ألح به التسويف حتى مات دون أن يصوم القضاء كان مسئولاً عنه أمام الله، وكان صومه لرمضان الذي أفطر فيه ووجب قضاؤه وأهمل فيه حتى مات ناقصًا لا يصل به إلى درجة الصائمين عند الله.
أما حكم القضاء من جهة التتابع أو التفريق فللعلماء فيه رأيان؛ أحدهما: أنه يجب فيه التتابع، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى حديث لم يصح عند أهل الحديث. والجمهور على أن صوم القضاء لا يجب فيه التتابع، وإنما يستحبونه فيه، وإن فرَّق صح، ويستدلون بعموم قوله تعالى في جانب القضاء: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، ومن أتى به متفرقًا فقد صام عدة من أيام أخر، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع صوم القضاء، فقال: "ذلك إليك، أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن ذلك قضاء؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر".
هذه هي الأحكام المتعلقة بقضاء رمضان، وينبغي أن يعلم أن الإفطار في صوم القضاء لا يوجب أكثر من قضائه، ولا تجب فيه كفارة ولا غيرها وإن كان الإفطار فيه متعمدًا، وكان بمغذ أو مشتهى؛ لأن المطلوب في القضاء صوم يوم آخر بدل الأصل (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
ــــــــــــــــــــ(1/102)
وجوب القضاء ووقت القضاء
من فاته رمضان فهل عليه قضاء؟ ومتى يجب؟
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان أستاذ الشريعة الإسلامية ورئيس قسمها في كلية الحقوق بجامعة بغداد سابقًا
* دليل وجوب القضاء:
والدليل على أصل وجوب القضاء قوله تعالى: ]فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر[، ولأن الأصل في العبادة الموقتة أي التي لها وقت مخصوص مثل صيام رمضان ، أنها إذا فاتت عن وقتها أن تُقضى وهذا سواء فاته صيام رمضان أو أيام منه لعذر أو لغير عذر، لأنه لما وجب القضاء على المعذور، فلئن يجب على المقصر غير المعذور في فطره أولى، ولأن المعنى يجمعهما وهو الحاجة إلى جبر الفائت، بل حاجة غير المعذور أشد. ["البدائع" ، ج2، ص103].
* وقت القضاء:
أما وقت القضاء فهو سائر الأيام خارج رمضان سوى الأيام المنهي عن الصيام فيها على ما سنذكره فيما بعد، ودليل ذلك قوله تعالى: ]فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر..[ ووجه الدلالة بهذه الآية الكريمة أن الله تعالى أمر بالقضاء مطلقًا عن وقت معين، فلا يجوز تقييده ببعض الأوقات إلا بدليل، ولا دليل هنا. وأيضًا فإن الأمر بالقضاء هو على التراخي وليس على الفور. وما قلناه هو مذهب الحنفية. وقد ترتب على ذلك في مذهبهم جواز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر، وليس عليه شيء إلا القضاء سواء كان التأخير لعذر أو لغير عذر ["البدائع" ، ج2، ص103 104].
وقال الحنابلة: وقت القضاء مؤقت بما بين رمضانين، فمن فاته شيء من رمضان أن يقضيه في هذا الوقت ما لم يدخل رمضان آخر، لقول عائشة رضي الله عنها: "كان يكون علىَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان" ["اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان"، ج2، ص18، وجاء في "التاج الجامع للأصول لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم" ج2، ص77 عن عائشة: "أن كانت إحدانا لتفطر في رمضان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان" و "سنن أبي داود" ، ج7، ص32.
فلا يجوز له تأخير القضاء إلى ما بعد رمضان آخر من غير عذر؛ لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك الوقت ولو جاز التأخير لأخرته؛ ولأن الصوم عبادة متكررة فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية، فإن أخره عن رمضان آخر، نظرنا: فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء، وإن كان لغير عذر فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم، وبهذا قال ابن عباس، وابن تعمر، وأبو هريرة، ومجاهد ، وسعيد بن جبير، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق.
وقال الحسن، والنخعي، وأبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه صوم واجب فلم يجب عليه في تأخيره فدية؛ لأن الفدية تجب خلفًا عن الصوم عند العجز عن تحصيله عجزًا لا ترجى معه القدرة عادة على الصيام ، كما في حق الشيخ الفاني ولم يوجد العجز؛ لنه قادر على القضاء فلا معنى لإيجاب الفدية عليه مع القضاء. ["الغنى"، ج3، ص144 145، "المجموع" ، ج6، ص420 421، "البدائع" ، ج2،ص103]
تأخير قضاء الصوم
من أخر القضاء هل عليه فدية؟
يجيب فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا :
جمهور العلماء يوجب فدية على من أخر قضاء ما فاته من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، وتتأكد هذه الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم بما يكفيه غداء وعشاء إذا كان تأخير القضاء لغير عذر، واستدلوا على هذا الحكم بحديث موقوف على أبي هريرة؛ أي أنه من كلامه هو، ونسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي رفعه إليه ضعيف، كما أن هذا الحكم مروي عن ستة من الصحابة ولم ير يحيى بن أكثم مخالفًا لهم، منهم ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا فدية مع القضاء، وذلك لأن الله تعالى قال في شأن المرضي والمسافرين: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يأمر بفدية، والحديث المروي في وجوبها ضعيف لا يؤخذ به.
قال الشوكاني منتصرا لهذا الرأي: ليس هناك حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالتكاليف حتى يقوم الدليل الناقل عنها، ولا دليل هنا، فالظاهر عدم الوجوب.
وقال الشافعي: إن كان تأخير القضاء لعذر فلا فدية وإلا وجبت، وهذا الرأي وسط بين الرأيين السابقين، لكن الحديث الضعيف أو الموقوف الوارد في مشروعية الكفارة لم يفرق بين العذر وعدمه. ولعل القول بهذا الرأي يريح النفس لمراعاته للخلاف بصورة من الصور، ثم إن قضاء رمضان واجب على التراخي، وليس على الفور وإن كان الأفضل التعجيل به عند الاستطاعة، فدَين الله أحق بالقضاء العاجل، وثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد أن عائشة رضي الله عنها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان ولم تكن تقضيه فورًا عند قدرتها على القضاء.
ولا يلزم في القضاء التتابع والموالاة، فقد روى الدار قطني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قضاء رمضان: (إن شاء فرق وإن شاء تابع)
ــــــــــــــــــــ(1/103)
الصلاة والصيام عند أهل القطبين
هل يصام رمضان حيث النهار ستة أشهر؟ وكيف يصام؟
يجيب فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله:
فرض الله على المؤمنين خمس صلوات في اليوم والليلة، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أوقاتها فيهما؛ فحدد للصبح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، وللظهر من زوال الشمس عن كبد السماء إلى صيرورة ظل كل شيء مثله أو مثيله، وللعصر من نهاية وقت الظهر إلى غروب الشمس، وللمغرب من غروب الشمس إلى غياب الشفق، وللعشاء من غياب الشفق حتى طلوع الفجر. وفرق عليهم أيضًا صوم شهر هلالي من السنة، وبين أنه شهر رمضان، وقال عليه السلام: "الشهر هكذا أو هكذا" بإشارة تدل على أنه إما ثلاثون يومًا أو تسعة وعشرون يومًا.
ولا ريب أن بيان أوقات الصلاة في اليوم والليلة وبيان الشهر في السنة على هذا الوجه الذي عرف وتناقله الناس جيلاً بعد جيل إنما كان بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي تتجلى أوقاتها المحددة في اليوم والليلة، ويتجلى رمضانها في السنة، وهي القسم الأعظم من الكرة الأرضية. ولم يكن معروفًا للناس في وقت التشريع أن في الكرة الأرضية جهات تكون السنة فيها يومًا وليلة: نصفها نهار ونصفها ليل، وجهات أخرى يطول نهارها حتى لا يكون ليلها إلا جزءاً يسيرًا، ويطول ليلها حتى لا يكون نهارها إلا جزءاً يسيرًا.
ولا ريب أن الجريان في هذه الجهات على بيان الأوقات التي عرفت للصلاة والصوم يؤدي إلى أن يصلي المسلم في يومه وليلته وهو "سنة كاملة" خمس صلوات فقط موزعة على خمس أوقات من السنة كلها، ويؤدي كذلك في بعض الجهات إلى أن تكون الصلوات المفروضة أربعًا أو أقل، على حسب طول النهار وقصره، وكذلك يؤدي إلى أن يكلف المسلم في تلك الجهات صوم رمضان ولا رمضان عنده، وفي بعضها يؤدي إلى صوم ثلاث وعشرين ساعة من أربع وعشرين ساعة، وكل هذا تكليف تأباه الحكمة من أحكم الحاكمين والرحمة من أرحم الرحماء. وإذن يجب استبعاد هذا الفرض.
ويدور أمر هذه الأقاليم بعد ذلك بين فرضين آخرين لا ثالث لهما: إما إعفاؤهم كما ذهب إليه بعض الناظرين من الصلاة والصوم؛ لعدم الوقت وعدم القدرة والإمكان، وعدم الفائدة المرجوة من التكليف، وهو فيما نرى فرض يأباه عموم النصوص التي جاءت بتكليف الصلاة؛ فالصوم لجميع المؤمنين دون فرق بين قطر وقطر.
وإذن لا يبقى طريق لقيامهم بواجبهم الديني على وجه مقدور لهم ميسور عليهم ومحقق للفائدة المرجوة من التكليف سوى أن يقدروا أيامهم ولياليهم وأشهرهم بحساب أوقات أقرب البلاد المعتدلة إليهم؛ أي حساب البلاد القريبة منهم، التي تتميز فيها الأوقات، ويتسع كل من ليلها ونهارها لما فرض من صوم وصلاة على الوجه الذي يحقق حكمة التكليف دون مشقة أو إرهاق.
ولا ريب أن أهل هذه الجهات لا بد أن يكونوا قد اتخذوا طريقًا لتقدير الأيام والأشهر فيما يختص بحياتهم العامة من أعمال وعقود.
وإذن فمن السهل أن يتخذوا في تحديد أوقات عبادتهم ما عرف في أقرب البلاد المعتدلة إليهم، خاصة بعد أن تطورت وسائل المواصلات وأدوات الاتصالات بهذه الصورة، حتى أصبح الحدث يكون في أقصى الكرة الأرضية فيراه من يعيشون في أقصاها في نفس وقت حدوثه، وبهذا يستطيعون أداء فروضهم الدينية من صلاة وصوم على وجه محدد كامل لا عسر فيه ولا إرهاق: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
ــــــــــــــــــــ(1/104)
نقل الدم في نهار رمضان
هل نقل الدم يبطل الصيام؟
يجيب فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف سابقًا:
هذا السؤال له طرفان؛ طرف يتصل بالمنقول منه، وطرف يتصل بالمنقول إليه، أما المنقول منه فيقاس أخذ الدم منه في نهار رمضان على الفصد، وهو أخذ الدم من غير الرأس، وعلى الحجامة وهي أخذ الدم من الرأس، وقد سبق أن الجمهور يقولون بعدم بطلان الصيام بهما؛ لأن حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" الذي أخذ به من قال بالإفطار لم يسلم من النقد، إن لم يكن من جهة السند فمن جهة الدلالة.
وأما المنقول إليه فيعطى نقل الدم حكم الحقنة، وقد تقدم الكلام فيها، وإذا كان للعلاج لا للغذاء وأدخل عن طريق الوريد فأختار عدم بطلان الصيام، ومع ذلك أقول: إن هذا المريض الذي نقل إليه الدم حتمًا يحتاج إلى ما يقويه، فله أن يفطر بتناول الأطعمة وعليه القضاء عند الشفاء. واختلاف آراء الفقهاء في مثل هذه الفروع رحمة يمكن الأخذ بأيسرها عند الحاجة إليه
ــــــــــــــــــــ(1/105)
الصوم وأسلوب القرآن في فرضيته
قرأت أن بعض الكتاب كان يرى أن الصيام إنما شرع لغرض معين، فلو تحقق للإنسان هذا الغرض دون أن يتحمل مشقة الصيام فليس هناك داع إليه عنده. فما رأيكم في ذلك؟
يجيب فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله:
ليس في بلاد الإسلام من يجهل معنى الصوم الذي طلبه الله من المسلمين في هذا الشهر، وليس فيها من يجهل أن صومه ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه الأولى التي بني عليها. وقد عبر القرآن عن فرضيته "بمادة" لا تحتمل غير الإثبات والإيجاب والتحتيم، بمادة لم تعرف فيه لغير الصوم من أركان الإسلام. بمادة كان أكثر ما ورد التعبير بها في الدلالة على التحتم والثبوت لمقتضيات الذات الإلهية، أو لمقتضيات النظام الكوني الذي قدّره الله في سابق علمه للكائنات، ولا يعتريه في سنته تغيير ولا تبديل. وإنك إذا قرأت في الدلالة على تحتم تلك المقتضيات قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ( وقوله (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وقوله (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا). وقوله ) أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ) فإنك ترى القرآن لم يقف في شرع الصوم وطلبه من المؤمنين عند "المادة" المألوفة في طلب الشيء، أو الأمر به نحو "فليصمه" أو نحو(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) أو نحو (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). بل سما به إلى مادة "الكتب والكتابة" التي عرفت عنه في مقام التعبير عن مقتضى الألوهية، أو مقتضى التقدير الإلهي في النظام الكوني الثابت المتقرر، ترى القرآن سما بالصوم إلى هذه المادة، ممهدًا له بالنداء الموقظ للشعور، وبوصف الإيمان الباعث على الامتثال، ومشيرًا في الأسلوب نفسه إلى أن الصوم تكليف الله العام لهؤلاء ولمن مضى من عبادة السابقين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(. ثم حدد وقته، وفصّل أعذاره على نحو لم يوجد في غيره من الفرائض والأركان.
ومن هنا أجمع المسلمون من عهد التشريع على أن من أنكر فرضية الصوم أو أوَّلَ طلبه، أو حرَّف وضعه، أو ردَّه إلى مجرد الشوق إليه والرغبة فيه كان خارجًا عن ربقة الإسلام لا تجري عليه أحكامه، ولا يعد من أهله. وهذا هو حكم الله في الصوم وفي سائر ما ثبتت فرضيته أو حرمته بمصدر تشريعي قطعي في ثبوته عن الله، ودلالته على معناه، وتناقل جميع المؤمنين العلم به هكذا، جيلاً عن جيل، وطبقة عن طبقة
ــــــــــــــــــــ(1/106)
ثبوت شهر رمضان بالرؤية أو بالإخبار عنها
كيف يثبت شهر رمضان؟
يجيب الدكتور عبد الكريم زيدان أستاذ الشريعة الإسلامية ورئيس قسمها في كلية الحقوق بجامعة بغداد سابقًا.
تمهيد:
الصيام المفروض كما قلنا: هو صيام شهر رمضان، فلا بد من ضبط أول هذا الشهر وآخره؛ لأن أيام هذا الشهر هي التي فرض الله صيامها. ويضبط أول رمضان وآخره برية هلاله عند طلوعه، وعند عدم رؤيته يثبت أول شهر رمضان بإكمال عدة شهر شعبان (ثلاثين يومًا) فرؤية هلال رمضان، أو إكمال عدة شعبان عند عدم رؤية الهلال، طريقان شرعيان لثبوت أول شهر رمضان. كما يثبت انتهاء شهر رمضان برؤية هلال شوال أو بإكمال عدة شهر رمضان عند عدم رؤية هلال شوال.
والرؤية التي يثبت بها أول شهر رمضان وآخره لا تحصل لكل مسلم أو مسلمة عادة، ولهذا فقد اتفق العلماء على أن الأخبار بالرؤية ممن رآه حجة شرعية تلزم المسلمين في ثبوت شهر رمضان في ابتداءه وانتهائه إذا توافرت الشروط الشرعية المطلوبة في المخبر أو في المخبرين كما نبينة في الفقرات التالية.
أولاً: ثبوت شهر رمضان بالرؤية
أجمع العلماء على أن الشهر العربي (أي الشهر القمري) يكون تسعة وعشرين يومًا، وقد يكون ثلاثين يوما، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا: يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين" [بداية المجتهد ، ج1، ص196، والحديث رواه البخاري ومسلم، انظر "التاج"، المرجع السابق، ج2، ص5455].
إلا أن ثبوت رمضان في ابتدائه وانتهائه يكون بالرؤية لا بالحساب. قال صلى الله عليه وسلم " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له"، رواه البخاري وغيره. ولفظ الترمذي: "لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غيابه فأكملوا ثلاثين يومًا". وفي لفظ البخاري: "فإن غم عليم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" [التاج، المرجع السابق، ج2، ص54، ومعنى غيابه: أي سحابة].
الحكمة في اعتماد الرؤية في ثبوت رمضان.
والحكمة في ثبوت ابتداء رمضان وانتهائه بالرؤية وليس بالحسابات الفلكية، أن العبادات التي تعتمد على المواقيت كالصلاة، والصيام، والحج جعل الشرع الإسلامي الحنيف ثبوتها مرتبطًا بالأمور المحسوسة التي يستوي في العلم بها العالم والجاهل وأهل البوادي والحواضر ، كطلوع الشمس وغروبها، وطلوع الفجر، وطلوع الهلال، وهذا من فضل الله على بعادة إذ ربط هذه العبادات المفروضة عليهم جميعًا بهذه العلامات الظاهرة التي يستوون في العلم بها.
ثانيًا: ثبوت شهر رمضان بإكمال عدة شهر شعبان:
وإذا غم الشهر ولم ير هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان، فالحكم في هذه الحالة إكمال عدة شعبان، أي اعتباره ثلاثين يومًا. وهذا ما تدل عليه الأحاديث النبوية الشريفة، وقد ذكرنا بعضها في الفقرة السابقة. ثم يتحتم الصوم في اليوم التالي ليوم الثلاثين من شعبان باعتباره أول يوم رمضان. وكذلك الحكم إذا لم ير هلال شوال يجب إكمال عدة رمضان ثلاثين يومًا ثم يتحتم الفطر بعدها، باعتبار أن اليوم الذي يليها هو اليوم الأول من شوال.
صيام يوم الشك:
وقد استدل بالأحاديث التي ذكرناها وغيرها التي ربطت وجوب صوم رمضان برؤية هلاله، على المنع من صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان عند عدم رؤية هلال رمضان في ليلة الثلاثين من شعبان، وهذا قول الجهور. وسواء في هذا كون السماء مصحية أو غير مصحية لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يومًا". وفي الحديث الشريف المتفق علي صحته: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صيامًا فليصمه". وقال عمار رضي الله عنه: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". وفي رواية عن الأمام أحمد: "إذا حال دون رؤية هلال رمضان غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان وأجزأ الصائم إذا كان من شهر رمضان". وعلى هذه الرواية صيام يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت ليلة الثلاثين منه مصحية، أما إذا لم تكن مصحية فلا تكون ليلة شك ولا يكون يوم الثلاثين من شعبان ليلة شك.
ويصام هذا اليوم بنية أنه من رمضان، فإذا ظهر كذلك أجزأه وبهذا صرح صاحب "كشاف القناع" من فقهاء الحنابلة المتأخرين.
والراجح عندي عدم صيام يوم الشك مطلقًا أي إذا كانت السماء مصحية أو غير مصحية
ــــــــــــــــــــ(1/107)
رؤية الهلال
هل يجب الصوم إذا رُؤي الهلال في المشرق ولم يُر في المغرب، وما الحكم لو أن دولة إسلامية ما أعلنت الصيام في يوم ما، وقد تكون الرؤية غير ثابتة أو حسب تقويمها، وإنما فعلت لمجرد كسب قصب السبق بأنها أول دولة إسلامية أعلنت صيام رمضان، هل تصوم الجاليات المسلمة في بلاد الغرب أم لا؟ علمًا بأن قول "جمهور الفقهاء إذا رئي الهلال في بلد يجب الصوم على كافة البلدان".
يجيب فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا كلية الشريعة الجامعة الأردنية رحمه الله:
إن معظم الاجتهادات والمذاهب الفقهية تقرر أنه إذا رؤي الهلال في المشرق فإنه يلزم أهل المغرب، والعكس بالعكس، توحيدًا ليوم الصيام، وتسهيلاً على المكلفين، ولأن اختلاف المطالع بالنسبة للهلال يسير، وليس كبيرًا، فلا عبرة به.
وعليه فمتى ثبتت الرؤية في دولة ما فعلى القاطنين في فرنسا أو سواها أن يصوموا في اليوم التالي. وقد بلغني أن المسلمين في الغرب، وبخاصة في أمريكا وهم في بلد واحد (كهيوستن أو نيويورك) يبدؤون الصوم في أيام مختلفة؛ فمنهم من يمشي على الحساب الفلكي، ومنهم من يمشي على إثبات السعودية، ومنهم من يتم عدة شعبان ثلاثين، وهذا أمر منكر في منتهى الإنكار في البلد الواحد.
وإني أرى أن تترقبوا وتتابعوا أخبار الإثبات في المملكة العربية السعودية، فإن كثيرًا من البلاد العربية والإسلامية تترقب إثباتها، وتمشي عليه، وما أسهل هذه المراقبة للأخبار، والاتصالات بالوسائل الحديثة اليوم. والعالم الإسلامي كله يتابع إثبات المملكة العربية السعودية في الحج اضطرارًا، فلماذا لا يتابعها في الصيام
ــــــــــــــــــــ(1/108)
هل يصوم من رأى الهلال وحده؟
من رأى الهلال وحده، ولم يره أحد غيره، فهل يلزمه الصيام بناء على رؤيته هو؟
يجيب فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا كلية الشريعة الجامعة الأردنية رحمه اللهيجيب الدكتور عبد الكريم زيدان أستاذ الشريعة الإسلامية ورئيس قسمها في كلية الحقوق بجامعة بغداد سابقًا.
قال ابن رشد رحمه الله إن صيامه واجب عليه سواء صام الناس أو لم يصوموا، وحكمه الإجماع على ما قاله إلا عند عطاء فإنه قال: لا يصوم إلا برؤية غيره [بداية المجتهد، ج1، ص197، المحلي لاين حزم، ج6، ص235، العدة شرح العمدة، ص148، الفتاوى الهندية في فقه الحنفية، ج1، ص197 198].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "من رأى الهلال وحده هلال الصوم (رمضان)، أو خلال الفطر (شوال) فللعلماء فيه ثلاثة أقوال هي ثلاثة روايات عن أحمد:
(الأول): أن عليه أن يصوم وأن يفطر سرًا وهو مذهب الشافعي.
(الثاني): يصوم ولا يفطر إلا مع الناس وهو المشهور من مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة.
(الثالث): يصوم مع الناس ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية محتجًا بقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون، وإضحاكم يوم تُضحون". وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث بأن الصوم والفطر يكونان مع الجماعة. وكما لا يعرف وحده أي لا يقف على عرفات وحده بل مع جميع الحجاج المسلمين فلا يضحي وحده. [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، ج25، ص114 وما بعدها، "الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، ص106].
وفي "المغنى" لابن قدامة الحنبلي [المغني ، ج3، ص156] :المشهور من المذهب أنه من رأي الهلال وحده لزمه الصيام عدلاً كان أو غير عدل. شهد عند الحاكم أو لم يشهد، قبلت شهادته أو لم تقبل. وهذا قول مالك، والليث، والشافعي، وأصحاب الرأي ... الخ.
ثبوت هلال رمضان بالخبر عن رؤيته:
وإذا أخبر شخص الناس عن رؤيته هلال رمضان، فهل يثبت رمضان بخبره وحده، وهل يشترط فيه شروط معينة؟ أم لا بد من تعدد المخبرين برية هلال رمضان فلا تكفي رؤية الواحد والإخبار عنها ولو كان عدلاً؟.
أقوال للفقهاء في هذه المسالة نوجزها بالآتي:
أولاً: مذهب الحنفية:
قالوا: إن كانت السماء مصحية لا غيم فيها لم تقبل إلا شهادة جمع كثير يقع العلم بخبرهم، وتقدير عددهم مفوض إلى رأي الأمام أو نائبة. ووجه هذا القول أن انفراد شخص برؤية والسماء صحو من دون الآخرين يلقي شكًا في صحة خبره، وهذا في ظاهر الرواية عند الحنفية. وروي عن أبي حنيفة قبول شهادة الواحد العدل كما لو كانت السماء صحوًا.
وإذا كانت السماء متغيمة، تقبل شهادة الواحد بلا خلاف ند الحنفية سواء كان حرًا أو عبدأ، رجلاً كان أو امرأة، بشرط أن يكون مسلمًا بالغاً عاقلاً عدلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان، ولأن هذا في الحقيقة ليس بشهادة بل هو إخبار بدليل أن حكمه يلزم الشاهد وهو الصوم، وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد، ثم إن الإنسان لا يتهم في إيجاب شيء على نفسه، فدل بذلك كله على انه ليس بشهادة بل هو إخبار.
والعدل ليس بشرط في الإخبار إلا أنه إخبار في أمور الدين، فيشترط فيه الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة، كما في رواية الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا رأى الهلال شخص واحد ورد القاضي شهادته لزمه الصوم، لأن عنده أن ذلك اليوم هو من رمضان فيؤاخذ بما عنده أي بما يعتقده.
ثانيًا: مذهب الشافعية:
يثبت هلال رمضان بخبر العدل، وخبره يعتبر بطريق الرواية على أحد القولين في مذهبهم، فيقبل بهذا الاعتبار خبر المرأة برؤيتها هلال رمضان. وعلى القول الآخر يقبل قول الواحد العدل بطريق الشهادة، فلا يقبل إلا قول الرجل العدل، فلا تقبل شهادة المرأة بريتها الهلال. وفي قول عند الشافعية لا يثبت هلال رمضان إلا بشهادة رجلين عدلين كما في غيه من الشهور. وما قلناه كله عند الشافعية سواء كانت السماء مصحية أم لا.
ثالثًا: مذهب المالكية:
عندهم لا يثبت هلال رمضان بشهادة عدل واحد، وإنما يثبت بشهادة عدلين إذا كان في السماء غيم، فإن لم يكن فكذلك تكفي شهادة اثنين عدلين، وهو ظاهر ما في المدونة للإمام مالك. [المقدمات الممهدات، لابن رشد، ج1، ص187].
ولكن المالكية قالوا: إن رؤية الواحد كافية لثبوت هلال رمضان في محل لا اعتناء فيه بأمر الهلال، ولو كان الرائي امرأة ولكن بشرط أن تثق النفس بخبره [الشرح الصغير، للدردير و "حاشية الصاوي" ، ج1، ص240].
رابعًا: مذهب الحنابلة:
وعندهم، يقبل في هلال رمضان خبر واحد عدل، ويلزم الناس الصيام بقوله، وقال ابن قدامة: وهذا قول عمر وعلي، وابن عمر، وابن المبارك [المغنى، ج3، ص157، "العدة شرح العمدة"، ص148، "غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى"، ج1، ص320].
خامسًا: مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهري: "ومن صح عنده بخبر من يصدقه من رجل واحد، أو امرأة واحدة، أو عبد، أو حر، أو أمة، أو حرة فصاعداً إن الهلال قد رؤي البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم، صام الناس أو لم يصوموا، وكذلك لو رآه واحده ... الخ" ["المحلي" ، ج6، ص235].
سادسًا: مذهب الزيدية:
قالوا: يثبت الهلال بخبر عدلين أو عدلتين بأنهما رأيا هلال رمضان، ويلزم الناس الصيام بهذا الخبر ["شرح الأزهار" ، ج2، ص56].
سابعًا: مذهب الجعفرية:
وعندهم: إن كانت الرؤية في داخل البلد، فلا بد من رؤية خمسين نفسًا وشهادتهم على هذه الرؤية حتى تقبل شهادتهم، ويثبت بها رؤية هلال رمضان، وهذا سواء كانت السماء صحوًا أو كان فيها علة من غيم ونحوه. فإن كانت الرؤية خارج البلد، فكذلك يشترط هذا العدد في رؤية هلال رمضان لثبوته ووجوب الصوم على الناس.
أما إذا كان في السماء علة، فيكفي لثبوت الهلال شهادة شاهدين عدلين بأنهما رأيا الهلال. ومن رأى الهلال وحده من دون الناس لزمه الصيام ["النهاية" للطوسي، ص150151].
القول الراجح في الخبر الذي يثبت به رمضان:
والراجح ما ذهب إليه الظاهرية والحنابلة من ثبوت هلال رمضان بشهادة شخص عدل واحد، لما روي عن ابن عباس انه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال فقال: أتشهد أن لا غله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدًا". رواه أبو داود ["سنن ابي داود"، ج6،ص466 467]. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "تراءى الناس الهلال أي هلال رمضان فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رايته، فصام، وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود أيضًا. ["سنن أبي داود"، ج6، ص468].
ففي هذين الحديثين الشريفين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر الواحد في رؤية هلال رمضان وأمر الناس بالصيام بناء على خبر الواحد، وأيضًا فإن الإخبار عن رؤية الهلال خبر عن دخول وقت فريضة الصيام، فيما طريقه المشاهد فيقبل من واحد، كالخبر بدخول وقت الصلاة يقبل من واحد. ["المغنى"، ج3، ص157 158].
إنهاء شهر رمضان:
ينتهي صيام رمضان بهلال شهر شوال، ويثبت ذلك برؤيته من قبل اثنين عدلين يشهدان على رؤيتهما لهلال شوال في قول الفقهاء جميعًا على ما قاله الإمام ابن قدامة رحمه الله، ولم يستثنى منهم إلا أبا ثور، فإنه قال: يقبل قول واحد؛ لأنه أحد طرفي شهر رمضان أشبه طرفه الأول أي هلاله، ولأنه خبر لا يجري مجرى الشهادات وإنما مجرى الرواية، والإخبار عن الأمور الدينية يقبل فيها خبر الواحد. ["المغنى" ، ج3، ص158].
وعند الحنفية، لا يثبت هلال شوال إن كانت السماء صحوًا إلا شهادة جماعة يحصل العلم لقاضي يخبرهم كما في هلال رمضان. فإن كان في السماء علة من غيم ونحوه فلا تقبل في ثبوت رؤيته إلا شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين مسلمين عاقلين بالغين عدلين. ["البدائع"، ج2، ص80، "الفتاوى الهندية" ، ج1، ص198]. وعند الظاهرية كما جاء في "المحلى" لابن حزم: "ولو صح عنده بخبر واحد أيضًا كما ذكرنا فصاعدًا أن هلال شوال قد رؤي فليفطر، افطر الناس أو صاموا، وكذلك لو رآه هو وحده، فإن خشي ذلك أذى فليستتر بذلك أي بفطره. ["المحلى"، ج6، ص235].
القول الراجح فيما يثبت به انتهاء رمضان:
والراجح أن هلال شوال، الذي ينتهي به رمضان يثبت هذا الهلال بشهادة الواحد، كما ذهب إلى ذلك أبو ثور والظاهرية، لأن ثبوت هلال رمضان يثبت بخبر الواحد، كما جاء في الحديث النبوي الشريف كما ذكرناه، فينبغي أن يثبت هلال شوال بمثل ما يثبت به هلال رمضان، وأيضًا التقيد بقول خبر الواحد يدل على قبوله في كل موضع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التقيد فيه بخبر الواحد. ["نيل الاوطار"، ج4، ص187188].
هل يثبت هلال رمضان وشوال بخبر المرأة؟
أ عند الحنفية: يثبت هلال رمضان بإخبار امرأة عن رؤيتها الهلال، ولكن لا يثبت هلال شوال إلا بشهادة رجلين، أو بشهادة رجل وامرأتين كما قلنا. [الفقرة "1269"، والفقرة 1278"].
ب مذهب الشافعية: وعندهم يثبت هلال رمضان بقول الواحد العدل، كما ذكرنا من قبل، ولكن اختلفوا في قبول قوله، هل هو بطريق الرواية أم بطريق الشهادة؟ فيه عندهم، وجهان مشهوران:
(الأول): أنه بطريق الشهادة، وعلى هذا الوجه لا يقبل فيه قول المرأة.
(الثاني): أنه بطريق الرواية فيقبل فيه قول المرأة. ["المجموع" ، ج6، ص303 306].
وأما في الفطر، فلا يقبل في إثبات هلال شوال اقل من شهادة عدلين، لنه إسقاط فرض أي فرض الصيام فاعتبر فيه العدد احتياطًا للفرض. ["المجموع" ، ج6، ص304].
ج مذهب الحنابلة: يثبت هلال رمضان بقول المرأة وإخبارها برؤيته؛ لأنه خبر ديني فاشبه الرواية، والخبر عن القبلة ودخول وقت الصلاة.
ولا يقبل قولها في إثبات هلال شوال، إذ لا يثبت عندهم هلال شوال إلا بشهادة رجلين عدلين، لأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة، فلم تقبل فيه غلا شهادة اثنين كسائل الشهود.
["المغنى"، ج3، ص159، "غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى"، ج1، ص320].
د وعند الزيدية: يثبت هلال رمضان أو شوال بشهادة عدلين أو عدلتين.
هـ وعند المالكية: لا يثبت هلال رمضان بقول المرأة لا منفردة ولا معها رجل عدل، ولا معه امرأة ورجل عدل؛ لن ثبوته بعدلين ["شرح الأزهار" ، ج2، ص56، "الشرح الكبير للدردير في فقه المالكية"، ج1،ص509].. وإذا كان هذا في هلال رمضان عند المالكية فأولى عندهم أيضًا في هلال شوال.
و وعند الظاهرية: يثبت هلال رمضان بخبر المرأة الواحدة، كما يثبت بخرها هلال شهر شوال ["المحلى" ، ج6، ص235].
القول الراجح:
والراجح قول الظاهرية، فيقبل قول المرأة المسلمة في ثبوت هلال رمضان وشوال، لن إخبارهما برؤية الهلال من قبل الإخبار بأمور الديانة، فيجري مجرى الرواية، وهذه يقبل فيها خبر الواحد رجلاً كان أو امرأة. ما دامت العدالة متحققة فيهما.
هل يفطر من رأى هلال شوال وحده؟
ومن رأى وحده دون غيره هلال شوال، فهل يفطر بنا على رؤيته هذه؟ أقوال للفقهاء في هذه المسألة:
فعند الحنفية: لا يفطر برؤيته المنفردة حتى لو كان الرائي الإمام وحده أو القاضي وحده ["الفتاوى الهندية"، ج1، ص197 198].
وكذلك قال الحنابلة، وإن كان قد نقل عن ابن عقيل الحنبلي: يجب عليه الفطر سرًا، لنه بريته تيقن يوم عيد وهو منهي عنه. ولكن صاحب "كشاف القناع" الحنبلي رده بقول: "وأجيب بأنه لا يثبت به اليقين في نفس الأمر إذ يجوز أنه خيل إليه فينبغي أن يتهم في رؤيته احتياطًا للصوم ["كشاف القناع" ، ج1، ص506، "غاية المنتهي في الجمع بين الإقناع والمنتهى"، ج1، ص321].
وعند المالكية كما ينقل ابن جزي المالكي بأنه: "من رأي وحده هلال شوال لم يفطر عند مالك خوف التهمة، وسدًا للذريعة. وعلى المذهب: عن أفطر فليس عليه شيء فيما بينه وبين الله" ["قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي المالكي، ص34].
وقال الأمام النووي الشافعي: "ومن رأي هلال شوال وحده لزمه الفطر، وهذا لا خلاف فيه عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" ["المجموع"، ج6، ص310]. وكذلك، الحكم عند الظاهرية، فهم ف هذه المسالة كالشافعية ["المحلى"، ج6، ص235].
هل يجوز إثبات الهلال بالحساب؟
ثبوت الهلال يكون بالرؤية، وقد ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك منها: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" [الفقرة "984"]. فالصوم والفطر معلقان برؤية الهلال: هلال رمضان، وهلال شوال. فلا يجوز إثباتها بالحسابات الفلكية، وقد بينا الحكمة في ذلك [الفقرة "985"].
وقد صرح الفقهاء بعدم جواز الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات الهلال، وإيجاب الصوم بناء على هذا الاثبات؛ لأن الشرع علق الصيام بالرؤية لا بالحساب.
قال المالكية: "ولا يثبت الهلال بقول منجم، أي: مؤقت يعرف سير القمر، لا في حق نفسه، ولا في حق غيره؛ لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال لا بوجوده إن فرض صحة قوله" ["الشرح الصغير للدردير في فقه المالكية"، ج1، 241].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلا الصوم، أو الحج، أو العدة، أو الإيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال يخبر الحاسب أنه يرى أي الهلال أو لا يرى، لا يجوز. النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف في الحديث.."[ "مجموع فتاوى ابن تيمية"، ج25، ص132].
وقال ابن تيمية أيضًا: "المعتمد على الحساب في الهلال ضال في الشريعة مبتدع في الدين" ["مجموع فتاوى ابن تيمية"، ج25، ص207].
اختلاف المطالع وآراء الفقهاء فيه:
المطالع جميع مطلع (بكسر اللام) موضع طلوع الهلال. ونفس اختلاف المطالع لا نزاع فيه، بمعنى انه قد يكون بين البلدتين بُعد بحيث يطلع الهلال ليلة كذا في أحد البلدتين دون الأخرى. وإنما الخلاف بين الفقهاء في اعتبار اختلاف المطالع بمعنى أنه هل يجب على كل قوم اعتبار مطلعهم، ولا يلزم العمل بمطلع غيره؟ أم لا يعتبر اختلافهما بل يجب العمل بالأسبق رؤية، حتى لو رؤي في المشرق ليلة الجمعة، وفي المغرب ليلة السبت، وجب على أهل الغرب العمل بما رآه أهل المشرق؟. ["رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين، ج2، ص293].
واختلاف بين الفقهاء نوجزه بالأتي:
أولاً: مذهب الحنفية:
المعتمد عند الحنفية، وهو ظاهر الرواية في مذهبهم، هو عدم اعتبار المطالع، فإذا ثبت الهلال في بلد أي هلال رمضان وجب الصيام على أهل البلد الأخر الذي لم ير الهلال فيه ["رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين، ج2، ص393]. وفي "الفتاوى الهندية في فقه الحنفية": ولا عبرة لاختلاف المطالع في ظاهر الرواية، وبه كان يفتى شمس الأئمة الحلواني قال: لو رأى أهل مغرب هلال رمضان يجب الصوم على أهل مشرق" ["الفتاوى الهندية"، ج1، ص198 199].
ثانياً: مذهب المالكية:
جاء في "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي المالكي: "إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الحكم غيرهم من أهل البلدان وفاقًا للشافعي وخلافًا لابن الماجشون من فقهاء المالكية ولا يلزم أي الصيام ونحوه في البلاد البعيدة جدًا كالأندلس والحجاز إجماعًا" ["قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي المالكي، ص134 135].
ثالثًا: مذهب الشافعية:
قالوا: إذا رُؤي الهلال في بلد ، ولم يروه في بلد آخر، ينظر: فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد، ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف. وإن تباعد البلدان فوجهان (أصحهما): لا يجب الصوم على هل البلد الآخر.
وأما ما يعتبر به البعد والقرب فثلاثة اوجه (أصحها): أن التباعد يختلف باختلاف المطالع، كالحجاز والعراق وخراسان. والتقارب أن لا يختلف كبغداد والكوفة لأن مطلع هؤلاء مطلع هؤلاء، فإذا رآه هؤلاء فعدم رؤية الآخرين له إنما هو لتقصيرهم في التأمل أو لعارض بخلاف مختلفي المطلع.
رابعًا: مذهب الحنابلة:
قالوا: "وإذا ثبت رؤيته ببلد لزوم الصوم جميع الناس" ["غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى"، ج1، ص319 320]، وقالوا أيضا: "وإذا ثبتت رؤية الهلال بمكان قريب كان أو بعيد لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته"، وهو خطاب للأمة كافة.." ["كشاف القناع" ،ج1، ص504].
وفي "المغنى" لابن قدامة الحنبلي: "وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم لقوله تعالى: ]فمن شهد منكم الشهر فليضمه[، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين" ["المغنى" ، ج3، ص87، 88].
القول الراجح:
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة لما احتجوا به لمذهبهم، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته.."، والخطاب لجماعة المسلمين مهما اختلف ديارهم وبلادهم، ولكن يبدو لي أن من اللازم تقييده باشتراك بلد الرؤية مع غيره من البلاد بليل أو بجزء منه كالبلاد العربية، أما إذا كان اختلاف المطالع كثيرًا جدًا كأن يكون في أحد البلدين ليل وفي الآخر نهار، ورؤي الهلال في البلد الأول، فإن حكم الرؤية يختص به دون الثاني.
ومما يرجح ترجيحنا أنه يتفق ورغبة الشريعة الإسلامية في وحدة المسلمين واجتماعهم في أداء شعائرهم الدينية. لا سيما في زماننا حيث يمكن إعلام جميع بلاد الإسلام برؤية الهلال في البلد الذي رؤي به عن طريق الراديو وغيره.
الانتقال من بلد الرؤية إلى غيره وبالعكس:
وإذا انتقل المسلم من بلد الرؤية إلى غيره وبالعكس في شهر رمضان فإن الحكم بالنسبة إليه يختلف باختلاف الحالات التالية.["المجمع"، ج6، ص302]. الحالة الأولى: لو شرع في الصوم في بلد الرؤية، ثم سافر إلى بلد بعيد لم ير أله الهلال حين رآه أهل البلد الأول، فاستكمل صيام ثلاثين يومًا من حين صام، فإن قلنا: لكل بلد حكمه ومطلعة فالصوم يلزمه معهم؛ لأنه صار منهم أي: من أهل البلد الثاني الذي انتقل إليه. وهناك قول: يفطر لأنه التزم حكم البلد الأول، وإن قلنا: تعم الرؤية كل البلاد لزم أهل البلد الثاني موافقته في الفطر إن ثبت عندهم رؤية البلد الأول بقوله أو بغيره، وعليهم قضاء اليوم الأول. وإن لم يثبت عندهم رؤية البلد الأول بقوله أو بغيره، وعليهم قضاء اليوم الأول. وإن لم يثبت عندهم لزمه هو الفطر، كما لو رأى هلال شوال وحده، ويفطر سرًا.
الحالة الثانية: ولو أن مسافرًا من بلد لم يروا فيه الهلال إلى بلد رُؤي فيه الهلال، فافطروا وعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه، فإن عممنا حكم الرؤية أو قلنا له حم البلد الثاني، افطر وعيد معهم ولزمه قضاء يوم. وإن لم نعمم حكم الرؤية وقلنا له حكم البلد الأول لزمه الصوم
ــــــــــــــــــــ(1/109)
حكم إثبات الهلال بالحساب الفلكي في هذا العصر
هل يجوز في هذا العصر اعتماد الحساب الفلكي في حلول الشهر القمري الذي ربط بثبوته تكاليف شرعية كبدء الصيام والفطر وغيرهما من الأحكام أم لا يجوز؟ وذلك في ضوء قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأتموا العدة ثلاثين"، والأحاديث الأخرى الواردة في هذا الشأن؟
يجيب فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا كلية الشريعة الجامعة الأردنية رحمه الله:
أستهل جوابي الآن بأني لا أجد في اختلاف علماء الشريعة العصريين ما يدعو إلى الاستغراب أغرب من اختلافهم الشديد فيما لا يجوز فيه الاختلاف حول اعتماد الحساب الفلكي في عصرنا هذا؛ لتحديد حلول الشهر القمري لترتيب أحكامه الشرعية. نعم أؤكد على قصدي عصرنا هذا بالذات، ذلك لأنني لا أستبعد الموقف السلبي لعلماء سلفنا من عدم تعويلهم على الحساب الفلكي في هذا الموضوع، بل إنني لو كنت في عصرهم لقلت بقولهم، ولكني أستبعد كل الاستبعاد موقف السلبيين من رجال الشريعة في هذا العصر؛ الذي ارتاد علماؤه آفاق الفضاء الكوني، وأصبح أصغر إنجازاتهم النزول إلى القمر، ثم وضع أقمارًا صناعية في مدارات فلكية محددة حول الأرض لأغراض شتى علمية وعسكرية وتجسسية، ثم القيام برحلات فضائية متنوعة الأحداث، والخروف من مراكبها للسياحة في الفضاء خارج الغلاف الجوي الذي يغلف الأرض، وخارج نطاق الجاذبية الأرضية، ثم سحب بعض الأقمار الصناعية الدوارة لإصلاح ما يطرأ عليها من اختلال وهي في الفضاء.
إني على يقين أن علماء سلفنا الأولين، الذي لم يقبلوا اعتماد الحساب الفلكي للأسباب التي سأذكرها قريبًا نقلاً عنهم لو أنهم وُجدوا اليوم في عصرنا هذا، وشاهدوا ما وصل إليه علم الفلك من تطور وضبط مذهل لغيروا رأيهم، فإن الله قد آتاهم من سعة الأفق الفكري في فهم مقاصد الشريعة ما لم يؤت مثله أتباعهم المتأخرين، فإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي، لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟
ولعل قائلاً يقول: إن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ليس سببه الشك في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية بلسان رسولها صلى الله عليه وسلم قد ربطت ميلاد الأهلة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية، وذلك بقول صلى الله عليه وسلم في حديثه الثابت عن ابن عمر رضي الله عنهما: "صوموا لرؤيته أي "الهلال وأفطروا لرؤيته، فإذ غمَّ عليكم فاقدروا له".
وفي رواية ثابتة أيضًا: "فإن غُمَّ عليكم فأكلموا العدة ثلاثين".
وقد أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين"، وهي تفسير لمعنى التقدير المطلق الوارد في الرواية الأولى.
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا".
فجميع الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن قد ربط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد. وإن القدر أو التقدير عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارض يحجبها من غيم أو ضباب أو مانع آخر معناه: إكمال الشهر القائم شعبان أو رمضان ثلاثين يومًا، فلا يحكم بأنه تسع وعشرون إلا بالرؤية. وهذا من شؤون العبادات التي تبنى فيها الأحكام على النص تعبدًا دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأقيسة.
هذه حجة من لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ولو بلغ الحساب الفلكي من الصحة والدقة مبلغ اليقين بتقدم وسائله العلمية.
ونحن نقول بدورنا: إن كل ذلك مسلم به لدينا، وهو معروف في قواعد الشريعة وأصول فقهها بشأن العبادات، ولا مجال للجدل فيه، ولكنه مفروض في النصوص التي تلقى إلينا مطلقة غير معللة، فإذا ورد النص نفسه معللاً بعلة جاءت معه من مصدره، فإن الأمر حينئذ يختلف، ويكون للعلة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجودًا وعدمًا في التطبيق، ولو كان الموضوع من صميم العبادات، ولكي تتضح لنا الرؤية الصحيحة في الموضوع نقول: "إن هذا الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر ليس هو النص الوحيد في الموضوع، بل هناك روايات أخرى ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم توضِّح علة أمره باعتماد رؤية الهلال البصرية للعلم بحلول الشهر الجديد؛ الذي نيطت به التكاليف والأحكام، من صيام وغيره. فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمه رضي الله عنها في كتاب الصيام، باب الصوم لرؤية الهلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا".
وأخرج أيضًا بعده عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة (أي: طواه) والشهر هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين".
ومفاد هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أشار (أولاً) بكلتا يديه وبإصبعه العشر ثلاث مرات، وطوى في الثالثة إبهامه على راحته لتبقى الأصابع فيها تسعًا، لإفادة أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، ثم كرر الإشارة ذاتها (ثانيًا) دون أن يطوي في المرة الثالثة شيئًا من أصابعه العشر، ليفيد أن الشهر قد يكون أيضًا ثلاثين يومًا؛ أي: أنه يكون تارة تسعًا وعشرين وتارة ثلاثين.
هكذا نقل النسائي تفسير هذا الحديث عن شعبة عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر. (رواه النسائي). وكذلك ليس هذا هو كل شيء من الروايات الواردة في هذا الموضوع، فالرواية التي أكملت الصورة، وأوضحت العلة، فارتبطت أجزاء ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن بعضها ببعض، هي ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي (واللفظ للبخاري) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا" يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، وكلهم أوردوا ذلك في كتاب الصوم. وقد أخرجه أحمد عن ابن عمر.فهذا الحديث النبوي هو عماد الخيمة، وبيت القصيد في موضوعنا هذا، فقد علل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين. وهذا ما فهمه شراح الحديث من هذا النص. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "لا تكتب ولا نحسب" (بالنون فيهما)، والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته في تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم؛ لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة. والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير.
أضاف ابن حجر بعد ذلك قائلاً: "واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً". وقد ناقش فضيلة الشيخ هذه العبارة لابن حجر في كتابه "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي" فارجع إليه.
والعيني في "عمدة القارئ" قد علل تعليق الشارع الصوم بالرؤية أيضًا بعلة رفع الحرج في معاناة حساب التسيير كما نقلناه عن ابن حجر. ونقل العيني عن ابن بطال في هذا المقام قوله: "لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في عرفه ذلك الحساب وغيرهم".
وذكر القسطلاني في "إرشاد الساري شرح البخاري" مثل ما قال ابن بطال. وقال السندي في "حاشيته على سنن النسائي" يشرح كلمة (أمية) الواردة في الحديث بقوله: "أمية في عدم معرفة الكتابة والحساب، فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم، ولا بالشهور الشمسية الخفية، بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية..".
وواضح من هذا أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيته هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك، لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك، أي: أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.
ولازم هذا المفاد من مفهوم النص الشرعي نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه العرب إذ ذاك لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية، ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل، ولا تختلف، حتى يعرفوا مسبقًا بالحساب متى يهل بالهلال الجديد، فينتهي الشهر السابق ويبدأ اللاحق، لأمكنهم اعتماد الحساب الفلكي. وكذا كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمئن إلى صحتها.
هذا حينئذ ولا شك أوثق وأضبط في إثبات الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر، ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة، مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما، وكذلك هو أي طريق الحساب الفلكي هو أوثق وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد عندما يكون الجو غير صحو والرؤية عسيرة، كما عليه بعض المذاهب المعتبرة في هذا الحال.
وقد وجد من علماء السلف حين كان الحساب الفلكي في حاله القديمة غير منضبط من قال: إنَّ العالم بالحساب يعمل به لنفسه، قال بهذا مطرف بن عبد الله من التابعين، ونقله عنه الحطاب من المالكية في كتابه "مواهب الجليل". ونقل العلامة العيني الحنفي في كتابه "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" عن بعض الحساب الفلكي كما سبق بيانه، وذكر ذلك العلامة ابن عابدين أيضًا في رسائله.
وقال القشيري: إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلاً فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وأن حقيقة الرؤية ليست مشروطة في اللزوم، فقد اتفقوا على أنَّ المحبوس في المطمورة إذا علم بإتمام العدة، أو بطريق الاجتهاد أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم.
ونقل القليوبي من الشافعية عن العبادي قوله: "إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يقبل قول العدول برؤيته، وترد شهادتهم" ثم قال القليوبي: هذا ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذ، وإن مخالفة ذلك معاندة ومكابرة.
وواضح أيضًا لكل ذي علم وفهم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإتمام الشهر القائم ثلاثين حين يغم علينا الهلال بسبب ما حاجب للرؤية من غيم أو ضباب أو غيرهما ليس معناه أن الشهر القائم يكون في الواقع ثلاثين يومًا، بل قد يكون الهلال الجديد متولدًا وقابلاً للرؤية لو كان الجو صحوًا، وحينئذ: يكون اليوم التالي الذي اعتبرناه يوم الثلاثين الأخير من الشهر هو في الواقع أول يوم من الشهر الجديد الذي علينا أن نصومه أو نفطر فيه، ولكن لأننا لا نستطيع معرفة ذلك من طريق الرؤية البصرية التي حجبت، ولا نملك وسيلة سواها فإننا نكون معذورين شرعًا إذا أتممنا شعبان ثلاثين يومًا وكان هو في الواقع تسعة وعشرين، فلم نصم أول يوم من رمضان؛ إذ (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (بنص القرآن العظيم.
هذا تحليل الموضوع وفهمه عقلاً وفقهًا، وليس معنى إتمام الثلاثين حين انحجاب الرؤية أننا بهذا الإتمام نصل إلى معرفة واقع الأمر وحقيقته في نهاية الشهر السابق وبداية اللاحق، وأن نهاية السابق هي يوم الثلاثين.
وما دام من البدهيات أن رؤية الهلال الجديد ليست في ذاتها عبادة في الإسلام، وإنما هي وسيلة لمعرفة الوقت، وكانت الوسيلة الوحيدة الممكنة في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكانت أميتها هي العلة في الأمر بالاعتماد على العين الباصرة، وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعًا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني، الذي يعرفنا مسبقًا بموعد حلول الشهر الجديد، ولا يمكن أن يحجب علمنا حينئذٍ غيم ولا ضباب إلا ضباب العقول؟
سبب رفض العلماء المتقدمين لاعتماد الحساب:
من المسلم به أن الفقهاء وشراح الحديث يرفضون التعويل على الحساب لمعرفة بدايات الشهور القمرية ونهايتها للصيام والإفطار، ويقررون أن الشرع لم يكلفنا في مواقيت الصوم والعبادة بمعرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربط التكليف في كل ذلك بعلامات واضحة يستوي في معرفتها الكاتبون والحاسبون وغيرهم، كما نقلناه سابقًا عن العيني والقسطلاني وابن بطال والسندي وسواهم. وأن الحكمة في هذا واضحة لاستمرار إمكان تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان.
ولكن يحسن أن ننقل تعليلاتهم لهذا الرفض ليتبين سببه ومبناه، مما يظهر ارتباطه بما كانت عليه الحال في الماضي، ولا ينطبق على ما أصبح عليه أمر علم الفلك وحسابه في عصرنا هذا. فقد نقل ابن حجر أيضًا عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو "مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنه حَدس وتخمين، وليس فيه قطع ولا ظن غالب".
ويظهر من كلام ابن حجر وابن بزيزة أن العلة في عدم اعتماد الحساب هي أن هذا العلم في ذاك الزمن مجرد حدس وتخمين لا قطع فيه، وأن نتائجه مختلفة بين أهله فيؤدي ذلك إلى الاختلاف والنزاع بين المكلفين.
ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ عن النووي قوله: "إن عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما يعرفه به القبلة والوقت"؛ أي: إن مواقيت الصلاة فقط يعتبر فيها الحساب. وذكر ابن بطال ما يؤيد ذلك، فقال: "وهذا الحديث أي: حديث "لا نكتب لا نحسب" ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانًا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون، وبكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه وعن تكلفه". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض احتجاجه لعدم جواز اعتماد الحساب: "إن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا.. ولم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد، وإنما هو تقريب".
وقال في مكان آخر: "وهذا من الأسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة".
وقد أكد هذا المعنى في موطن عديدة من الفصل الذي عقده في هذا الموضوع.
هذا، ويبدو من كلام شيخ الإسلام رحمه الله أنه يعتبر اعتماد الحساب لمعرفة أوائل الشهور القمرية من قبيل عمل العرافين، وعمل المنجمين؛ الذين يربطون الحوادث في الأرض وطوالع الحظوظ بحركات النجوم واقتراناتها. فقد قال في أواخر الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع: "فالقول بالأحكام النجومية باطل عقلاً ومحرمًا شرعًا، وذلك أن حركة الفلكوإن كان لها أثر ليست مستقلة، بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشد من تأثيره، وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض..".
ثم قال: "والعراف يعم المنجم وغيره إما لفظًا وإما معنى، وقال صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر" (رواه أبو داود في الطب 03905)، وابن ماجة في الأدب (3726)، وصححه النووي في "رياض الصالحين" رقم (1669)، والذهبي في "الكبائر"]، فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضًا متعذر في الغالب، وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك، فتبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام [مراده أحكام النجوم، أي : تأثير حركاتها في الحوادث والحظوظ] من باب واحدة يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك، ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك..".
وقد اشتد شيخ الإسلام رحمه الله على من يقول باعتماد الحساب في الأهلة وشنع عليه، وقال: "فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون اتبع غير سبيل المؤمنين".
الرأي الذي أراه في هذا الموضوع:
يتضح من مجموع ما تقدم بيانه الأمور الأربعة التالية:
أولاً: أن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع، وربط بعضها ببعض وكلها واردة في الصوم والإفطار يبرز العلة السببية في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤيته الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته، ويبيّن أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب لا تحسب، أي: ليس لديهم علم وحساب مضبوط يعرفون به متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يومًا، وتارة ثلاثين.
وهذا يدل بمفهومه أنه لم يتوافر العلم بالنظام الفلكي المحكم؛ الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر، وفي أي وقت بعد ولادته تمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة؛ إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية، فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب، والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الفوضى التي أصبحت مخجلة، بل مذهلة، حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام، كما يحصل في بعض الأعوام.
ثانيًا: أن الفقهاء الأوائل الذين نصوا على عدم جواز اعتماد الحساب في تحديد بداية الشهر القمري للصوم والإفطار، وسموه حساب التسيير، قالوا: إنه قائم على قانون التعديل، وهو ظني مبني على الحدس والتخمين (كما نقلناه عن العلامة ابن حجر وابن بطال وابن بزيزة والنووي والسندي والعيني والقسطلاني)، وكلهم قد بنوا على حالة هذا الحساب الذي كان في زمنهم، حيث لم يكن في وقتهم علم الفلك الذي كان يسمى علم الهيئة، وعلم النجوم، أو علم التسيير أو التنجيم قائمًا على رصد دقيق بوسائل محكمة؛ إذ لم تكن آنذاك المراصد المجهزة بالمكبرات من العدسات الزجاجية العظيمة التي تقرب الأبعاد الشاسعة إلى درجة يصعب على العقل تصورها، والتي تتبع حركات الكواكب والنجوم، وتسجلها بأجزاء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية الواحدة، وتقارن بين دورتها بهذه الدقة؛ ولذا كانوا يسمونه علم التسيير الذي يقوم على قانون التعديل؛ حيث يأخذ المنجم الذي يحسب سير الكواكب عددًا من المواقيت السابقة، ويقوم بتعديلها بأخذ الوسطى منها، ويبني عليها حسابه، وهذا معنى قانون التعديل كما يشعر به كلامهم نفسه.
من هنا كان حسابهم حدسيًا وتخمينًا كما وصفه أولئك الفقهاء الذي نفوا جواز الاعتماد عليه، وإن كان بعضهم كالإمام النووي صرح بجواز اعتماد حسابهم لتحديد جهة القبلة ومواقيت الصلاة دون الصوم، مع أن الصلاة في حكم الإسلام أعظم خطورة من الصوم بإجماع الفقهاء، وأشد وجوبًا وتأكيدًا.
وقد نقلنا آنفًا كلام ابن بطال بأن "لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانًا أو كالعيان ... "، وهذا ما يتسم به ما وصل إليه علم الفلك في عصرنا هذا من الدقة المتناهية الانضباط.
ثالثًا: إن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضًا مشكلة خطيرة في عصرهم، وهي الاختلاط والارتباط الوثيق إذ ذاك في الماضي بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة، وبين حساب النجوم (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى. فيبدو أن كثيرًا من أهل حساب النجوم كانوا أيضًا يشتغلون بتلك الأمور الباطلة، التي نهت عنها الشريعة أشد النهي، فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان:
الأولى: أنه ظني من باب الحدس والتخمين مبني على طريقة التعديل التي بينّا معناها، فلا يعقل أن تترك به الرؤية بالعين الباصرة رغم ما قد يعتريها من عوارض واشتباهات.
الثانية: وهي الأشد خطورة والأدهى، وهي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجمين والعرافين الذين يحترفون الضحك على عقول الناس بأكاذيبهم، وترهاتهم، وشعوذاتهم.
وهذه المفسدة الثانية هي التفسير لهذا النكير الشديد الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على من يلجؤون إلى الحساب، حساب النجوم في إهلال الأهلة بدلاً من الرؤية، واعتبارهم إياهم من الذين يتبعون غير سبيل المؤمنين، وذلك بدليل أنه صرح باعتبارهم من قبيل العرافين، والذين يربطون أحداث الأرض وطوالع الناس وحظوظهم بحركات النجوم، وسموا من أجل ذلك بالمنجمين، وذكر شاهدًا على ذلك الحديث النبوي الآنف الذكر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من اقتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر".
فلا يعقل أن ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن علم يبين نظام الكون، وقدرة الله تعالى وحكمته وعلمه المحيط في إقامة الكون على نظام دقيق لا يختل، ويدخل في قوله تعالى في قرآنه العظيم: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، فليس لهذا الحديث النبوي محمل إلا على تلك الشعوذات والأمور الباطلة؛ التي خلط أولئك المنجمون بينها وبين الحساب الفلكي، الذي لم يكن قد نضج وبلغ في ذلك الوقت مرتبة العلم والثقة.
رابعًا: أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح عن التنجيم بمعناه العرفي من الشعوذة، والكهانة، واستطلاع الحظوظ من حركات النجوم، وأصبح علم الفلك قائمًا على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة، والأجهزة العملاقة التي تكتشف حركات الكواكب من مسافات السنين الضوئية، وبالحسابات الدقيقة المتيقنة التي تحدد تلك الحركات بجزء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية، وأقيمت بناء عليه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة، وتستقبل مركبات تدور حول الأرض.. الخ.. فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته، وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية والتعديل في الماضي زمن أسلافنا رحمهم الله؟
ــــــــــــــــــــ(1/110)
فتاوى الدكتور القرضاوي
الترفيه في رمضان
ما حكم مشاهدة الأفلام وسماع الأغاني في نهار رمضان؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
الحكم العام على مشاهدة الأفلام والمسرحيات والمسلسلات وسماع الأغاني: أنها إن كانت هذه المشاهدات والمسموعات تحمل كلامًا باطلاً أو تدعو إلى محرم، أو كانت تؤثر تأثيرًا ضارًا على فكر الإنسان وسلوكه، أو صرفته عن واجب، أو صاحبها محرم كشرب أو رقص أو اختلاط سافر كانت حرامًا؛ سواء أكان ذلك في رمضان أم في غير رمضان. فإن خلت من هذه المحاذير كان الإكثار منها مكروهًا، ولا بأس بالقليل منها للترويح.
وشهر رمضان له طابع خاص، فهو قائم على صيام النفس عن شهواتها والتدريب على سيطرة العقل على رغباتها، وليس ذلك بالامتناع فقط عن الأكل والشرب والشهوة الجنسية، فذلك هو الحد الأدنى للصيام، لا يكتفي به إلا العامة الذين يعملون فقط لأجل النجاة من العقاب، مع القناعة بالقليل من الثواب، أما غيرهم فيحرصون على الكمال في كل العبادات، فيمسكون عن كل شهوات النفس، وبخاصة ما حرَّم الله كالكذب والغيبة، ويسمو بعضهم في الكمال فيصوم حتى عن الحلال، مقبلاً على الطاعة في هذا الشهر بالذات ليخرج منه صافي النفس والسلوك من الرذائل متحليًا بالفضائل.
فلا ينبغي أن نضيِّع فرصة هذا الشهر الذي يضاعف فيه ثواب الطاعة، بصيام نهاره وقيام ليله بالتراويح وقراءة القرآن. .
وضياع جزء كبير من الوقت في مشاهدة وسماع أنواع الترفيه خسارة للمؤمن العاقل، وعلى المسئولين جميعًا أن يراعوا حرمة هذا الشهر، فيهيئوا الفرصة للصائمين والقائمين أن يتقربوا إلى الله بالطاعات بدل اللهو الذي مللناه طول العام.
ومهما يكن من شيء فإن مشاهدة وسماع هذه الأشياء لا يبطل الصيام إلا إذا حدث أثر جنسي بسببها، ومع عدم البطلان فاتت فرص كثيرة لشغل الوقت بالعبادة وقراءة القرآن وسماع البرامج الدينية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني: "أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه فيُنزل الرحمة، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي من حرم به رحمة الله عز وجل"، فليكن تنافسنا في رمضان في الخير لا في اللهو ولا في الإقبال على الملذات
]أكل الصائم أو شربه ناسيًا
كثيراً ما ينسى الناس في بداية شهر رمضان. فيأخذ أحدهم كوب ماء أو سيجارة أو أي شيء آخر ويضعه في فمه. ثم يتذكر أنه صائم. ويكون قد أكل فعلا أو شرب.فهل يجوز له استكمال صيام يومه ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) . وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح. (فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه). وفي لفظ آخر للدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.. (من أفطر من رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه ولا كفارة) . وإسناده صحيح أيضاً قاله الحافظ ابن حجر.
وهذه الأحاديث صريحة في عدم تأثير الأكل والشرب نسياناً على صحة الصوم، وهو الموافق لقوله تعالى: ]ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا[ {البقرة: 286} وقد ثبت في الصحيح أن الله أجاب هذا الدعاء.
كما ثبت في حديث آخر: (إن الله وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
فعلى الصائم الذي أكل وشرب ناسياً أن يستكمل صيام يومه، ولا يجوز له الفطر. وبالله التوفيق
قضاء الصيام
لقد اضطررت للإفطار ستة أيام في السنة الماضية في شهر رمضان المبارك بسبب العادة الشهرية، وعندما أردت قضاء هذه الأيام بدأت بصومها في العشرين من شعبان وبعد ما صمت يومين أتاني كثير من الناس وقالوا لي: إنه لا يجوز قضاء الصوم في شهر شعبان فما رأيكم في هذا ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
لا حرج ولا بأس بقضاء ما فات المسلمة أو المسلم من رمضان في أي شهر من الشهور حتى في شعبان نفسه، بل قد ورد أن عائشة كانت أحياناً تتأخر بقضاء بعض الأيام إلى شعبان فتصومها قبل أن يأتي رمضان فلتطمئن المسلمة على الأيام التي صامتها، وهي مقبولة ومجزئة عنها والله تعالى يتقبل من المتقين
استعمال السواك ومعجون الأسنان للصائم
س: ما حكم استعمال السواك للصائم، وخاصة الاستياك بمعجون الأسنان ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: ج: السواك قبل الزوال مستحب كما هو دائماً، وبعد الزوال اختلف الفقهاء فقال بعضهم: يكره الاستياك للصائم بعد الزوال. وحجته في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) [رواه البخاري من حديث أبي هريرة] فهو يرى أن ريح المسك هذا لا يحسن أن يزيله المسلم، أو يكره له أن يزيله، ما دامت هذه الرائحة مقبولة عند الله ومحبوبة عند الله، فليبقها الصائم ولا يزيلها، وهذا مثل الدماء.. دماء الجراح.. التي يصاب بها الشهيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الشهداء: (زملوهم بدمائهم وثيابهم، فإنما يبعثون بها عند الله يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك) ولذلك يبقى الشهيد بدمه وثيابه لا يغسل ولا يزال أثر الدم. قاسوا هذا على ذلك. والصحيح أنه لا يقاس هذا على ذلك، فذلك له مقام خاص، وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك ما لا يحصى وهو صائم) فالسواك في الصيام مستحب قبل الصيام وبعد الصيام ... فهو سنة أوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ([رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.ورواه البخاري معلقاً مجزوما] . ولم يفرق بين الصوم وغيره.
أما معجون الأسنان، فينبغي التحوط في استعماله بألا يدخل شيء منه إلى الجوف وهذا الذي يدخل إلى الجوف مفطر عند أكثر العلماء، ولذا فالأولى أن يجتنب المسلم ذلك ويؤخره إلى ما بعد الإفطار، ولكن إذا استعمله واحتاط لنفسه وكان حذراً في ذلك ودخل شيء إلى جوفه فهو معفو عنه والله سبحانه وتعالى يقول: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم) {الأحزاب: 5} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والله تعالى أعلم
صيام الصغار ومتى يكون ؟
س: بالنسبة للولد: متى يصوم؟ وكذلك البنت؟ وهل هناك سن محددة شرعاً لذلك؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) [رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بإسناد صحيح ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر بألفاظ متقاربة ومن طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً] ومعنى رفع القلم: امتناع التكليف أي ليسوا مكلفين غير أن الإسلام وهو دين يراعي طبيعة البشر أراد أن يأخذ الأولاد من الصغر بهذه العبادات والطاعات، ليمارسوها ويتدربوا عليها. فجاء في الحديث عن الصلاة: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر ([رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص] والصيام أيضاً عبادة وفريضة كالصلاة. فالواجب أن يدرب عليها الأولاد، ولكن من أي سن ؟ ليس من الضروري لسبع، لأن الصيام أشق من الصلاة، إنما يرجع الأمر إلى طاقة الصبي. فكلما رأى الوالد أو رأى ولي أمر الطفل أنه يطيق الصيام، ولو أياماً معينة في كل شهر، فليدربه على ذلك، يدربه على الصيام سنة بعد سنة، سنة يصوم ثلاثة أيام، وأخرى يصوم أسبوعاً والتي بعدها يصوم أسبوعين، والتي بعدها يصوم الشهر كله، فإذا جاء وقت البلوغ، وهو وقت التكليف كان قد زاول ومارس عملية الصيام فلا تشق عليه، فهذه هي التربية الإسلامية أن يؤخذ الصبي من صغره، ومنذ نعومة أظفاره بآداب الإسلام وفرائضه حتى يتعود عليها وقد قال الشاعر:
وينفع الأدب الإحداث في صغر ... ... وليس ينفع عند الشيبة الأدب
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ... ولن تلين إذا قومتها الخشب
فعلى الآباء وعلى أولياء أمور الصبيان والبنات أن يعودوهم ويعودوهن الصيام والصلاة، الصلاة منذ سن السابعة والضرب عليها عند العاشرة والصيام منذ أطاق الصبي ولو بعد السابعة بسنة أو بأكثر عندما يطيق، يأمره الأب بالصيام..
هل تختلف زكاة الفطر من عام إلى آخر
س: هل زكاة الفطر تختلف من عام إلى عام ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يكبر، وعنج:
زكاة الفطر لا تختلف لأنها محدودة بمقدار شرعي، وهذا المقدار هو الصاع والصاع حدده النبي صلى الله عليه وسلم، والحكمة فيما أرى من ذلك ترجع إلى أمرين:
الأمر الأول: أن النقود كانت عزيزة عند العرب، خاصة أهل البوادي منهم، فلو قلت لأحدهم: ادفع كذا درهماً أو ديناراً، فلن تجد لديه من ذلك شيئاً.. ليس لديه إلا الأطعمة الشائعة كالتمر والزبيب والشعير وغيره مما كان يقتات به العرب يومئذ.
وهذا مما جعل النبي صلى الله عليه سلم يحدد زكاة الفطر بالصاع.
الأمر الثاني: أن النقود تتغير قدرتها الشرائية من وقت لآخر، فأحياناً نجد الريال منخفض القيمة، وقوته الشرائية متدنية جداً، وفي أحيان أخرى ترتفع قيمته الشرائية في الأسواق، مما يجعل تحديد الزكاة بالنقود مضطرباً بين الصعود والهبوط، ولا يستقر على حال، ولهذا حددها النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار لا يختلف ولا يضطرب وهو الصاع. والصاع هذا يشبع عائلة ليوم طعاماً في الغالب.
وقد حدد النبي عليه الصلاة والسلام الأقوات التي كانت شائعة في عصره، وهي ليست على سبيل الحصر، ولهذا قال العلماء بأن الإخراج من غالب قوت البلد جائز، سواء أكان بُراً أم أرزاً أم ذرة أم غير ذلك.
والصاع يساوي ربعة وزيادة بمقدار قليل، أي نحو كيلوين من الطعام (2كلغم) أو خمسة أرطال تقريباً.
ويمكن دفع القيمة، على مذهب أبي حنيفة.
وإن كان موسراً فالأفضل أن يدفع زيادة على قيمة الصاع، لأن الطعام لم يعد مقصوراً هذه الأيام على الأرز مثلاً، بل لابد أن يكون معه اللحم والمرق والخضر والفاكهة وغير ذلك. والله أعلم
قضاء رمضان بعد مرور رمضان آخر
س: إذا أفطرت لعذر بضعة أيام من رمضان، وجاء رمضان آخر ولم أقض ما عليَّ، فما الحكم في ذلك، هل أقضي وأفدي؟ وإذا حدث لدي شك في عدد الأيام التي أفطرتها، فما افعل حتى أزيل هذا الشك وأرضي الله تعالى ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: بعض الأئمة يقولون، بأنه إذا مر رمضان وجاء رمضان آخر ولم يقض ما عليه من أيام أفطرها في رمضان السابق، فعليه القضاء والفدية، هي إطعام مسكين عن كل يوم مداً من غالب قوت البلد، والمد يساوي تقريباً نصف كيلو غرام، يزيد قليلا.
هذا في مذهب الشافعية، والحنابلة، عملا بما جاء عن عدد من الصحابة، والأئمة الآخرون لم يوجبوا هذا. على كل حال، فإن حدث معه مثل هذا فعليه القضاء جزماً، أما الإطعام أو الفدية فإن فعلها فحسن، وإن تركها فلا حرج عليه إن شاء الله، حيث لم يصح شيء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عند الشك في عدد الأيام، فيعمل الإنسان بغالب الظن، أو باليقين.. فلكي يطمئن الإنسان على سلامة دينه وبراءة ذمته، فليصم الأكثر، وله على ذلك مزيد الأجر والثواب
استحباب الصوم في شعبان
س: هل هناك أيام معينة في شهر شعبان يستحب فيها الصيام ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: شهر شعبان كان من الشهور التي يحرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يصوم فيها أكثر من غيره من الشهور. روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شهر قط غير رمضان، على خلاف ما يفعل بعض الناس في بعض البلاد العربية، حيث يصومون ثلاثة أشهر: رجب، شعبان، ورمضان.
والأيام الستة من شوال، التي يسمونها (البيض) يبدأ الصيام عندهم من أول رجب إلى السابع من شوال، ما عدا يوم العيد، الأول من شوال. وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر، وتقول عائشة: كان يصوم حتى نقول: لا يفطر. ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وأحياناً يصوم الاثنين والخميس، وأحياناً ثلاثة أيام من كل شهر، وخاصة الأيام البيض القمرية. وأحياناً يصوم يوماً ويفطر يوماً، كما كان يفعل داود عليه السلام (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) .
وكان عليه الصلاة والسلام أكثر ما يصوم في شهر شعبان، وكأن ذلك نوع من التهيؤ والاستعداد لاستقبال رمضان.
أما أن يصوم أياماً محددة، فلم يرد قط.
وفي الشرع لا يجوز تخصيص يوم معين بالصيام، أو ليلة معينة بالقيام دون سند شرعي.. إن هذا الأمر ليس من حق أحد أياً كان وإنما هو من حق الشارع فحسب.
تخصيص الأوقات، أو تخصيص الأماكن بالعبادات، وتحديد الصور والكيفيات، هذا من شأن الشارع ومن حقه، وليس من شأن البشر.
الاحتلام والغسل للصائم
إذا احتلمت وأنا نائم في نهار رمضان ، ثم اغتسلت لأتطهر من الجنابة ، فهل هذا الغسل يفطر أم لا ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
كنت أظن السائل يسأل عن الاحتلام : هل يفطر أم لا؟ فقد يشتبه ذلك على بعض الناس . وأبادر فأقول:
إن الاحتلام لا يفطر .. لأنه شيء لا دخل للإنسان فيه ، ولم يقصد إليه ، فهو لا يفطر.. نزول المني في الاحتلام لا يفطر .. وكذلك بالطبع الاستحمام لا يفطر ، فإنه طهارة أمر بها الشارع الحكيم وفرضها على المسلم ، وحتى لو دخل الماء من أذنيه فهو لا يفطر، ولو كان يتمضمض ودخل الماء رغماً عنه وهو يتمضمض للوضوء أو للغسل ، فهو أيضاً غير مفطر لأنه من الخطأ المعفو عنه، والله تعالى يقول : (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم) {الأحزاب: 5}. والرسول يقول: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان) [رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر بإسناد صحيح كما قال السيوطي في الأشباه ، ورواه في الكبير عن ابن عباس ورواه الحاكم أيضاً عنه، وقال : صحيح كما رواه الطبراني عن ثوبان وأيضاً . رواه ابن ماجة عن ابن عباس وأبي ذر وهو من أحاديث الأربعين النووية]
استعمال الحقنة الشرجية واللبوس ونحوها للصائم
س: هل تفطر الحقن التي تؤخذ في الوريد أو العضل، وكذلك الحقن الشرجية واستعمال المرهم أو اللبوس في فتحة الشرج لأجل البواسير أو غيرها ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: لا يجهل أحد معنى الصوم البسيط، وهو الامتناع عن الأكل والشرب ومباشرة النساء، وهي أمور نص عليها القرآن. ولا يجهل أحد كذلك معنى هذه الأمور الممنوعة، فقد كان يفهمها بداة الأعراب في عهد النبوة، ولم يحتاجوا في فهم معنى الأكل أو الشرب إلى حدود وتعريفات منطقية. ولا يجهل أحد كذلك الحكمة الأولى للصيام، وهي إظهار العبودية لله تعالى بترك شهوات الجسد طلباً لمرضاته سبحانه كما قال في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ([رواه البخاري].
وإذا تبين ذلك رأينا أن تعاطي الحقن بأنواعها، واستعمال المراهم ونحوها مما ذكره السائل ليس أكلا ولا شراباً في لغة ولا عرف، ولا تنافي قصد الشارع من الصيام فهي لذلك لا تفطر. ولا موضع للتشديد في أمر لم يجعل الله فيه من حرج، قال تعالى في آية الصيام (يريد الله بكم اليسر ولا يريد العسر) {البقرة: 185} قال ابن حزم: لا ينقض الصوم حقنة (يعنون بها الحقنة الشرجية إذ الحقن العرقية والجلدية لم تكن عرفت في عهدهم( ولا سعوط "نشوق" ولا تقطير في أذن أو في إحليل أو في أنف ولا استنشاق وإن بلغ الحلقوم، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد، ولا كحل وإن بلغ إلى الحلق نهاراً أو ليلاً، بعقاقير أو غيرها، ولا غبار طحن، أو غربلة دقيق أو حناء أو عطر، أو حنظل، أو أي شئ كان، ولا ذباب دخل الحلق بغلبة ... الخ.
واستدل ابن حزم لما ذهب إليه فقال: "إنما نهانا الله في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي. وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون من دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس. وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكحل والحقنة والتقطير في الإحليل ووصول الدواء إلى الجوف عن طريق جراحة ... الخ.: " الأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك والله أعلم
إفطار بعض الأيام عمدًا في رمضان
س: ما حكم من صام أياماً من رمضان وأفطر أياماً أخر متعمداً ؟ أتحتسب له الأيام التي صامها أم لا تحتسب ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: هذا السؤال من جنس السؤال السابق، وجوابنا عليه أن كل شيء بحسابه. والمسألة ليست في الأيام التي صامها هل تحسب أم لا ؟ بل في الأيام التي أفطرها هل تعوض أم لا ؟ ولا يمكن أن يعوض يوم من رمضان إلا بيوم مثله من رمضان آخر، وكل رمضان يأتي مشغول بواجب الصوم فيه لا محالة. ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: (من أفطر يوماً من أيام رمضان لم يعوضه يوم من أيام الدنيا ([رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي عن أبي هريرة وفي أحد رجاله مقال] . ويروى عنه أن رجلاً أفطر في رمضان فقال أبو هريرة: لا يقبل منه صوم سنة. وعن ابن مسعود: من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر وإن صامه. ويروى عن أبي بكر وعلي نحو ذلك.. فليتق الله امرؤ مسلم في دينه، وليحرص على صيام رمضان، ولينتصر على شهواته، فمن انهزم أمام بطنه لم ينتصر في ميدان من الميادين
المضمضة والاستنشاق للصائم
س: هناك من يقول بأن المضمضة أو الاستنشاق في الوضوء يؤثر على صحة صيام الصائم، فما مدى صدق هذا القول ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: المضمضة والاستنشاق في الوضوء، إما سنتان من سننه كما هو مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي، وإما فرضان من فروضه كما هو مذهب الإمام أحمد الذي اعتبرهما جزءاً من غسل الوجه المأمور به. وسواء كانتا من السنن أم الفرائض، فلا ينبغي تركهما في الوضوء في صيام أو فطر. كل ما على المسلم في حالة الصيام ألا يبالغ فيهما. كما يبالغ في حالة الإفطار فقد جاء في الحديث: (إذا استنشقت فأبلغ ألا أن تكون صائماً) [أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة والبيهقي.] . فإذا تمضمض الصائم أو استنشق وهو يتوضأ، فسبق الماء إلى حلقه من غير تعمد ولا إسراف، فصيامه صحيح، كما لو دخل غبار الطريق، أو غربلة الدقيق، أو طارت ذبابة إلى حلقه، لأن كل هذا من الخطأ المرفوع عن هذه الأمة. وإن خالف في ذلك بعض الأئمة. على أن المضمضة لغير الوضوء أيضاً لا تؤثر على صحة الصيام. ما لم يصل الماء إلى الجوف
خروج المرأة لصلاة التراويح
بعض المسلمات يواظبن على صلاة التراويح في المسجد، تخرج إحداهن إلى الصلاة بدون إذن زوجها، كما أن بعضهن تسمع أصواتهن متحدثات في المسجد، فما حكم صلاتهن،؟ وهل هي واجبة عليهن ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
صلاة التراويح ليست واجبة على النساء ولا على الرجال، وإنما هي سنة لها منزلتها وثوابها العظيم عند الله. روى الشيخان عن أبي هريرة قال: يأمرهم بعزيمة ثم يقول: )من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه) .
من صلى التراويح بخشوع واطمئنان مؤمناً محتسباً، وصلى الصبح في وقتها، فقد قام رمضان واستحق مثوبة القائمين.
وهذا يشمل الرجال والنساء جميعاً. إلا أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها بالمسجد، ما لم يكن وراء ذهابها إلى المسجد فائدة أخرى غير مجرد الصلاة، مثل سماع موعظة دينية، أو درس من دروس العلم، أو سماع القرآن من قاريء خاشع مجيد. فيكون الذهاب إلى المسجد لهذه الغاية أفضل وأولى. وبخاصة أن معظم الرجال في عصرنا لا يفقهون نساءهم في الدين، ولعلهم لو أرادوا لم يجدوا عندهم القدرة على الموعظة والتثقيف، فلم يبق إلا المسجد مصدراً لذلك فينبغي أن تتاح لها هذه الفرصة، ولا يحال بينها وبين بيوت الله. ولا سيما أن كثيراً من المسلمات إذا بقين في بيوتهن لا يجدن الرغبة أو العزيمة التي تعينهن على أداء صلاة التراويح منفردات بخلاف ذلك في المسجد والجماعة.
على أن خروج المرأة من بيتها ولو إلى المسجد يجب أن يكون بإذن الزوج، فهو راعي البيت، والمسؤول عن الأسرة، وطاعته واجبة ما لم يأمر بترك فريضة، أو اقتراف معصية فلا سمع له إذن ولا طاعة.
وليس من حق الرجل أن يمنع زوجته من الذهاب إلى المسجد إذا رغبت في ذلك إلا لمانع معتبر. فقد روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
والمانع المعتبر شرعاً: أن يكون الزوج مريضاً مثلاً، وفي حاجة إلى بقائها بجواره تخدمه وتقوم بحاجته. أو يكون لها أطفال صغار يتضررون من تركهم وحدهم في البيت مدة الصلاة وليس معهم من يرعاهم، ونحو ذلك من الموانع والأعذار المعقولة.
وإذا كان الأولاد يحدثون ضجيجاً في المسجد، ويشوشون على المصلين بكثرة بكائهم وصراخهم، فلا ينبغي أن تصطحبهم معها في فترة الصلاة. فإن ذلك وإن جاز في صلوات الفرائض اليومية لقصر مدتها ينبغي أن يمنع في صلاة التراويح لطول مدتها، وعدم صبر الأطفال عن أمهاتهم هذه المدة التي قد تزيد على الساعة.
وأما حديث النساء في المساجد، فشأنه شأن حديث الرجال، ولا يجوز أن يرتفع الصوت به لغير حاجة. وبخاصة الأحاديث في أمور الدنيا، فلم تجعل المساجد لهذا، إنما جعلت للعبادة أو العلم.
فعلى المسلمة الحريصة على دينها أن تلتزم الصمت في بيت الله، حتى لا تشوش على المصلين أو على درس العلم، فإذا احتاجت إلى الكلام، فليكن ذلك بصوت خافت وبقدر الحاجة، ولا تخرج عن الوقار والاحتشام في كلامها ولبسها ومشيتها.(1/111)
وأحب أن أقول هنا كلمة منصفة: إن بعض الرجال يسرفون إسرافاً شديداً في الغيرة على جنس النساء، والتضييق عليهن، فلا يؤيدون فكرة ذهاب المرأة إلى المسجد بحال، برغم الحواجز الخشبية العالية التي تفصل بين الرجال والنساء، والتي لم يكن لها وجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتي تمنع النساء من معرفة تحركات الإمام إلا بالصوت والسماع، ولا غرو أن ترى بعض هؤلاء الرجال يسمحون لأنفسهم في المسجد بالكلام والأحاديث، ولا يسمح أحدهم لامرأة أن تهمس في أذن جارتها بكلمة ولو في شأن ديني، وهذا مبعثه التزمت وعدم الإنصاف، والغيرة المذمومة التي جاء بها الحديث: (إن من الغيرة ما يبغضه الله ورسوله) ، وهي الغيرة في غير ريبة.
لقد فتحت الحياة الحديثة الأبواب للمرأة. فخرجت من بيتها إلى المدرسة والجامعة والسوق وغيرها، وبقيت محرومة من خير البقاع وأفضل الأماكن وهو المسجد. وإني أنادي بلا تحرج،: أن أفسحوا للنساء في بيوت الله، ليشهدن الخير، ويسمعن الموعظة ويتفقهن في الدين، ولا بأس أن يكون من وراء ذلك ترويح عنهن في غير معصية ولا ريبة، ما دمن يخرجن محتشمات متوقرات بعيدات عن مظاهر التبرج الممقوت. والحمد لله رب العالمين
الإسراع في صلاة التراويح
س: ما حكم الإسراع في صلاة التراويح ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: ثبت في الصحيحين عن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) . فالله سبحانه وتعالى شرع في رمضان في نهاره الصيام، وشرع عل لسان رسوله في ليله القيام، وجعل هذا القيام سبباً للتطهر من الذنوب والخطايا.. ولكن القيام الذي تغفر به الذنوب، وتغسل فيه الأدناس، هو الذي يؤديه المسلم كاملا بشروطه وأركانه وآدابه وحدوده. وقد علمنا أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة كقراءة الفاتحة، وكالركوع وكالسجود.. فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أساء بعض الناس الصلاة أمامه ولم يؤد لها حقها من الاطمئنان، قال له: (ارجع فصل، فإنك لم تصل) . ثم علمه كيف تكون الصلاة المقبولة فقال له: (اركع حتى تطمئن راكعاً، واعتدل حتى تطمئن قائماً، واسجد حتى تطمئن ساجداً، واجلس بين السجدتين حتى تطمئن جالساً وهكذا ([رواه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة] فالطمأنينة في جميع هذه الأركان شرط لا بد منه، وحد الطمأنينة المشروطة قد اختلف فيه العلماء. فمنهم من جعل أدناه أن يكون مقدار تسبيحة كأن يقول: سبحان ربي الأعلى مثلا. وبعضهم كالإمام شيخ الإسلام ابن تيمية اشترط أن يكون مقدار الطمأنينة في الركوع والسجود نحو ثلاث تسبيحات، فقد جاء في السنة أن التسبيح ثلاث، وذلك أدناه، فلا بد أن تطمئن بمقدار ثلاث تسبيحات.. ويقول الله عز وجل: ]قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون[ [المؤمنون: 1،2].
والخشوع نوعان: خشوع بدن، وخشوع قلب.
فخشوع البدن: أن يطمئن البدن ولا يعبث ولا يلتفت المرء تلفت الثعلب. ولا ينقر الركعات والسجدات نقر الديكة وإنما يؤديها بأركانها وحدودها كما شرعها الله عز وجل..
لابد إذن من خشوع البدن.. ولا بد من خشوع القلب ...
وخشوع القلب معناه استحضار عظمة الله عز وجل، وذلك بالتأمل في معاني الآيات التي تتلى، وبتذكر الآخرة، وبتذكر أن المصلي بين يدي الله عز وجل.. وأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين . قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله عز وجل: أثنى عليًّ عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين. قال الله تعالى: مجدني عبدي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم . قال الله تعالى: هذا لعبدي. و لعبدي ما سأل) [رواه مسلم]. فالله سبحانه وتعالى ليس بمعزل عن المصلي، ولكنه يجيبه فلا بد أن يتجاوب المسلم المصلي مع الله عز وجل، وأن يستحضر قلبه في كل حركة من حركات الصلاة، وفي كل وقت من أوقاتها، وفي كل ركن من أركانها، فالذين يصلون وكل همهم أن يفرغوا من الصلاة، وأن يتخلصوا منها، وأن يلقوها كأنها عبء فوق ظهورهم، فإنها ليست هذه هي الصلاة المطلوبة وكثير من الناس يصلون في رمضان العشرين والثلاث والعشرين ركعة في دقائق معدودات، كل همه أن يخطف الصلاة خطفاً، وأن ينتهي منها في أسرع وقت ممكن ... لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.. فهذه كما ورد في الحديث: (تعرج إلى السماء وهي سوداء مظلمة تقول لصاحبها: ضيعك الله كما ضيعتني) . والصلاة الخاشعة المطمئنة تعرج إلى السماء بيضاء ناصعة تقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني.
ونصيحتي لكثير من الأئمة والمصلين الذين يصلون هذا العدد بغير إتقان ولا خشوع ولا حضور قلب ولا سكون بدن، أن يصلوا ثماني ركعات مطمئنة خاشعة متقنة خير من هذه العشرين، فليست العبرة بالكمِّ والكثرة، ولكن العبرة بالكيف والنوع ... العبرة في الصلاة نفسها.. هل هي صلاة الخاشعين ؟ أم هي صلاة الخاطفين ؟
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المؤمنين الخاشعين
هل تقبل صيام تارك الصلاة ؟
هل يقبل الصيام من تارك الصلاة ؟ أم أن العبادات كلها مقرونة بعضها ببعض بحيث لا يقبل شيء منها إذا ترك الآخر؟
يجيب فضيلة الدكتور القرضاوي:
المسلم مطالب أن يؤدي العبادات كلها: يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت متى استطاع إليه سبيلا. فمن ترك واحدة من هذه الفرائض بغير عذر يعتد الله به، فلعلماء الإسلام فيه آراء شتى، فمنهم من يذهب إلى كفره بترك أي واحدة منها. ومنهم من يكفر تارك الصلاة ومانع الزكاة. ومنهم من يكفر تارك الصلاة فحسب، لمنزلتها في دين الله ولما ورد أن (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم.
ومن ذهب إلى تكفير تارك الصلاة عمداً، فلا يظن أن يقبل صومه، إذ الكافر لا تقبل له عبادة أصلاً. ومنهم من يبقي عليه إيمانه وإسلامه ما دام مصدقاً بالله ورسوله وما جاء به غير جاحد ولا مرتاب. ويكتفي هذا الفريق من العلماء بوصفه بالفسوق عن أمر الله.
ولعل هذا الرأي والله أعلم هو أعدل الأقوال وأقربها. وعلى هذا فإذا قصر لكسل أو هوى في بعض الفرائض غير منكر ولا مستهزئ وأدى البعض الآخر، كان ناقص الإسلام، ضعيف الإيمان، ويخشى على إيمانه إذا استمر على الترك. ولكن الله تعالى لا يضيع أجر عمل أحسنه. بل له عند الله بقدر عمله: له مثوبة ما أدى. وعليه وزر ما فرط ]وكل صغير وكبير مستطر[ {القمر:53} ]فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره[ {الزلزلة: 7،8}
المسافة التي يجوز للمسافر فيها الإفطار
ما هي المسافة التي يجوز للمسافر إذا قطعها أن يفطر هل هي حقاً 81 كيلو متراً ؟ وهل يجوز له ألا يفطر إذا لم يواجه مشقة في سفره ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: أما المسافر فله أن يفطر بنص القرآن الكريم: ]فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر[ والمسافة قد اختلف فيها الفقهاء ولكن هذه المسافة التي يسأل عنها السائل وهو أكثر من 80 كيلو متراً أعتقد أن الجميع يوافقون عليها وقد قدرت المسافة لقصر الصلاة ولإباحة الفطر عند أكثر المذاهب بنحو 84 كيلو متراً وهذه التقديرات تقريبية ... ولم يجيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه تقدير بالمتر ولا بالكيلو متر، فهذه المسافة كافية، وإن كان بعض العلماء لا يشترط مسافة أصلا، فإن كل سفر يسمى سفراً لغة وعرفاً يجيز فيه قصر الصلاة، كما يجيز فيه للمسافر أن يفطر.. هذا ما قرره القرآن الكريم وما قررته السنة، وهو مخير في ذلك، فقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب المفطر على الصائم، ولم يعب الصائم على المفطر. ولكن المسافر الذي يشق عليه الصوم مشقة شديدة يكره له أن يصوم، بل ربما حرم عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في رجل ظلل عليه من شدة مشقة الصوم عليه، فسأل عنه فقالوا: صائم. فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) [رواه البخاري] وذلك فيمن اشتدت المشقة عليه، ومن لم يشق عليه فهو بالخيار كما قلنا، يصوم أو يفطر، ولكن ما أفضلهما ؟
اختلف العلماء، بعضهم فضل الصيام، وبعضهم فضل الفطر، وقال عمر ابن عبد العزيز: أيسرهما أفضلهما. فبعض الناس يكون أيسر عليه أن يصوم مع الصائمين، لئلا يقضي بعد ذلك أياماً والناس مفطرون، فهذا نقول له: صم. وبعض الناس يرى أن الفطر عليه أيسر في رمضان، ليقضي أموراً، ويقضي حاجات ويتحرك بسهولة، في قضاء ما شرع الله له وما أباح له فهذا نقول له: افطر واقض عدة من أيام أخر. فأيسرهما على صاحبه فهو أفضل. وروى أبو داود عن حمزة ابن عامر الأسلمي قال: قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر (أي صاحب ركوبة) أعالجه وأسافر عليه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر وأنا أجد القوة، وأنا شاب، وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أن أؤخر فيكون ديناً علي، أفأصوم يا رسول الله ؟ أعظم لأجري ؟ أم أفطر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي ذلك شئت يا حمزة). أي اختر ما يتيسر لك.
وفي رواية النسائي عنه: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أجد قوة على الصيام في السفر، فهل عليَّ جناح ؟ قال: (هي رخصة الله لك، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) . هذا هو شرع الله في المسافر. وليس من الضرورة ولا من الشرط في هذه الرخصة أن تكون المشقة شديدة أن تتحقق المشقة، بل السفر نفسه مبيح للفطر، لم يعلق الله الرخصة على المشقة، وإنما علقها على السفر. فان المشقة لو علق بها الحكم لاختلف الناس فيها اختلافاً شديداً، فالمتزمت يعاني أصعب المشقات، ومع هذا يقول: ليست هذه مشقة فيكلف نفسه ما يرهقها، وما يعنتها، والله لا يريد إعنات عباده. والمترخص يعتبر أدنى جهد مشقة عليه.
لهذا علق الله حكم الإفطار في السفر، على السفر نفسه، فلو سافر الإنسان في طائرة أو في قطار أو في سيارة، فله أن يفطر، فإن المسألة أن عليه الدين، عليه أن يقضي عدة من أيام أخر، لا يسقط عنه الصوم سقوطاً أبدياً، إنما هو سقوط مؤجل، سقوط إلى بدل آخر، إلى القضاء، فهو مخير في هذه الحالة ولو لم يجلب السفر له المشقة. والذي جرب الأسفار يعلم أن السفر في نفسه قطعة من العذاب، سواء أسافرَ الإنسان على الدابة أم سافر على الطائرة، فمجرد ابتعاد الإنسان عن محل استقراره، ومجرد بعده عن أهله، يشعر شعوراً نفسياً بأنه غير طبيعي، وغير مطمئن في حياته، وغير مستقر. لهذه المعاني النفسية، فوق المعاني البدنية شرع الله الفطر، ولغيرها من الحكم مما نعلم ومما لا نعلم، وحسبنا أن نقف عند النص ولا نتفلسف ولا نضيع أو نهدر أو نبطل رخصة رخصها الله لعباده] يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر[ والله أعلم
المرأة وصلاة التراويح
هل الأفضل للمرأة في شهر رمضان المبارك أن تصلي التراويح في البيت أم في المسجد؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ج: صلاة التراويح بالنسبة للمرأة وللرجل جميعاً، يجوز أن تؤدى في البيت ويجوز أن تؤدى في المسجد، إلا أن صلاة المرأة في بيتها بصفة عامة أفضل. ولكن إذا كانت المرأة تستفيد في المسجد درساً علمياً أو تسمع موعظة تنتفع بها في دينها، تكون صلاتها في المسجد افضل لها. فإن طلب العلم والتفقه في الدين فرض عليها.
والحقيقة أني أرى النساء في هذه الأيام محرومات من التوجيهات الدينية النافعة، والدروس العلمية التي تفقهها في دينها، وتعرفها حق ربها وواجب طاعته وعبادته والاستقامة على نهجه، كما تعرفها حق زوجها، وحق أولادها، فلا الزوج يعلمها ذلك، ولا هي تسعى إلى دروس العلم.
فإذا كان رمضان، وأمكن أن تستفيد مما يلقى فيه من دروس ومواعظ، فالأفضل لها أن تذهب إلى المسجد، وإلا فلها أن تصلي في البيت، وإذا رغبت على أي حال أن تصلي في المسجد، فليس لزوجها أن يمنعها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) [رواه مسلم] بشرط أن تلتزم المرأة الأدب الإسلامي في ملابسها وفي مشيتها، ولا تتبرج بزينة، ولا تذهب متبخترة كأنها تعرض نفسها.. لا ينبغي هذا، وإنما ليكن ذهابها خالصاً لله، لا للفرجة ولا للمباهاة، وهذا ما ينبغي أن تحرص عليه المرأة المسلمة
قضاء ما فات من رمضان في شعبان
هل يجوز قضاء ما يفطر المسلم من رمضان في شهر شعبان ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
ما فات من رمضان من أيام على المسلم أو على المسلمة فعليه أن يقضيه عند الاستطاعة حينما تتاح له الفرصة، طيلة أشهر العام، قبل رمضان التالي، ومعنى هذا أن أمام المسلم أحد عشر شهراً يستطيع أن يقضي فيها ما فاته من رمضان، سواء كان أفطر لعذر مرض أو سفر أو لعذر حيض أو لغير ذلك من أعذار.
هناك نوع من السعة في الشرع، لقضاء ما فات من رمضان. يستطيع أن يقضي في شوال أي بعد رمضان مباشرة، وما بعد شوال. ولا شك أن المبادرة أفضل، مسارعة في الخيرات، كما قال تعالى: ]فاستبقوا الخيرات[ ولأن إنساناً لا يضمن أجله، ولهذا يكون الأحوط لنفسه، والأضمن لآخرته أن يعجل بإبراء ذمته بقضاء ما فاته.
فإذا أجله لعذر ما، كشدة الحر، أو لضعف وعجز في صحته، أو طرأت عليه مشاغل لم يتمكن معها من الصوم قضاء ما فاته، يستطيع أن يقضي إلى رمضان الآتي.
فإذا جاء شعبان ولم يقض ما فاته، فإن عليه أن يقضي في شعبان، لأنه الفرصة الأخيرة وقد كانت تفعل ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد كانت كثيراً ما يفوتها بعض أيام من رمضان، فتقضيها في شعبان.. وذلك لا حرج فيه، وإن كان هناك اشتباه لدى بعض الناس في هذا الأمر، فهذا لا أساس له من الشرع.. إذ كل الشهور يمكن أن تكون محلا لقضاء ما فات من رمضان.
ولكن هب أن إنساناً كان مريضاً في شهر رمضان الماضي، وحتى الآن، وقد وافاه رمضان التالي وهو على حاله من المرض، لا يستطيع قضاء ما فاته إلا بمشقة شديدة وحرج وإعنات. مثل هذا يبقى ما فاته من صيام رمضان دَيناً مؤجلا عليه إلى ما بعد رمضان، حين يستعيد صحته ومقدرته على الصيام، ولا حرج عليه في ذلك، فالله تعالى ختم آية الصوم بقوله: ]يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر[ [البقرة: 185]
السحور للصائم
أفيدونا عن السحور .. هل هو شرط في صحة الصوم ، أم أنه ليس كذلك ؟؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
السحور ليس شرطاً في الصيام، وإنما هو سنة، عن النبي صلي الله عليه وسلم فعلها وأمر بها، وقال :( تسحروا، فإن في السحور بركة ) [متفق عليه من حديث أنس] . فيسن السحور ويسن تأخيره، لأنه مما يقوي المسلم على الصيام ، ويخفف عنه مشقة الصوم ؛ لأنه يقلل مدة الجوع والعطش ، وقد جاء هذا الدين بالميسرات ، التي تيسر على الناس عباداتهم ، وترغبهم فيها ، ومن ذلك تعجيل الفطور وتأخير السحور ، فيسن للمسلم الصائم أن يقوم إلى السحور ويتسحر ولو بالقليل ولو بتمرة أو شربة ماء، عملا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي السحور فائدة أخرى روحية ، وهي التنبه والاستيقاظ قبل الفجر ، ساعة السحور التي يتجلى الله فيها لعباده ، فيجيب من دعا ، ويغفر لم استغفر ، ويتقبل ممن عمل صالحاً . وما أعظم الفرق بين من يقضي هذا الوقت ذاكراً تالياً ، من يمر عليه راقداً نائما
إفطار الكبير والحامل والمرضع والمريض
هل يجوز للشيخ كبير السن أن يفطر في رمضان وماذا يجب عليه عند ذلك ؟ وهل يصح للمرأة الحامل أن تفطر في رمضان خوفاً على الجنين أن يموت ؟ وماذا يجب عليها ؟ وهل يجوز استعمال الطيب في شهر رمضان ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
أما السؤال الأول فأجيب عنه بأنه يجوز لمثل هذا الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ويشق عليه مشقة شديدة، ومثله المرأة العجوز طبعاً، يجوز لهما أن يفطرا في رمضان، ومثلهما كل مريض لا يرجى شفاؤه من مرضه.
المريض مرضاً مزمناً، قرر الأطباء أنه مستعص على العلاج، أو أنه مزمن معه، يجوز له أن يفطر، وهؤلاء إذا أفطروا عليهم فدية طعام مسكين عن كل يوم، رخصة من الله وتيسيراً. وقال تعالى: ]يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر[ {البقرة:185} ]وما جعل عليكم في الدين من حرج[ {الحج:78} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه) [رواه الدارقطني والحاكم وصححاه] ، وروى البخاري عنه قريباً من هذا: أن في الشيخ الكبير ونحوه نزل قوله تعالى: ]وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له[ {البقرة:184} أي من زاد عن طعام المسكين فهو أفضل وأبقى له عند الله. فالشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى برؤه من مرضه، كل هؤلاء لهم أن يفطروا ويتصدقوا عن كل يوم طعام مسكين ...
وأما السؤال الثاني: هل يصح للمرأة الحامل أن تفطر في رمضان إذا خافت على جنينها أن يموت ؟ فنعم..لها أن تفطر.. بل إذا تأكد هذا الخوف أو قرره لها طبيب مسلم ثقة في طبه ودينه، يجب عليها أن تفطر حتى لا يموت الطفل، وقد قال تعالى: ]ولا تقتلوا أولادكم[ {الأنعام:151}، {والإسراء:31} وهذه نفس محترمة، لا يجوز لرجل ولا لامرأة أن يفرط فيها ويؤدي بها إلى الموت. والله تعالى لم يعنت عباده أبداً، وقد جاء عن ابن عباس أيضاً أن الحامل والمرضع ممن جاء فيهم )وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين).
وإذا كانت الحامل والمرضع تخافان على أنفسهما فأكثر العلماء على أن لهما الفطر وعليهما القضاء فحسب.. وهما في هذه الحالة بمنزلة المريض. أما إذا خافت الحامل أو خافت المرضع على الجنين أو على الولد، نفس هذه الحالة اختلف العلماء بعد أن أجازوا لها الفطر بالإجماع، هل عليها القضاء أم عليها الإطعام تطعم عن كل يوم مسكيناً، أم عليها القضاء والإطعام معاً، اختلفوا في ذلك، فابن عمر وابن عباس يجيزان لها الإطعام وأكثر العلماء أن عليها القضاء، والبعض جعل عليها القضاء والإطعام، وقد يبدو لي أن الإطعام وحده جائز دون القضاء، بالنسبة لامرأة يتوالى عليها الحمل والإرضاع، بحيث لا تجد فرصة للقضاء، فهي في سنة حامل، وفي سنة مرضع، وفي السنة التي بعدها حامل.. وهكذا.. يتوالى عليها الحمل والإرضاع بحيث لا تجد الفرصة للقضاء، فإذا كلفناها قضاء كل الأيام التي أفطرتها للحمل أو للإرضاع معناها أنه يجب عليها أن تصوم عدة سنوات متصلة بعد ذلك، وفي هذا عسر، والله لا يريد بعباده العسر. هذا بالنسبة للسؤال الثاني. وأما السؤال الثالث عن استعمال الطيب في شهر رمضان فهو جائز ولم يقل أحد بحرمة استعمال الطيب في رمضان ولا بأنه مفسد للصوم، والله أعلم.
لقد أجريت لي عدة عمليات، ومنعني الطبيب من الصيام، وصمت بعد العمليات بسنتين وتعبت من ذلك الصيام، وأنا رجل عاقل، فهل يصح لي أن أتصدق بدل الصيام؟ وهل يصح لي أن أعطي نقوداً لبعض الضعفاء والمحتاجين نظير إفطاري في نهار رمضان؟
أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض، لقوله تعالى: ]شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر[ {البقرة:185} فبالنص والإجماع يجوز الفطر للمريض، ولكن ما المرض المبيح للفطر، إنه المرض الذي يزيده الصوم، أو يؤخر الشفاء على صاحبه، أو يجعله يتجشم مشقة شديدة، بحيث لا يستطيع أن يقوم بعمله الذي يتعيش منه ويرتزق منه، فمثل هذا المرض هو الذي يبيح الفطر، فيل للإمام أحمد: متى يفطر المريض ؟ قال: إذا لم يستطع. قيل له: مثل الحمى ؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى ؟ وذلك، أن الأمراض تختلف، فمنها مالا أثر للصوم فيه، كوجع الضرس وجرح الإصبع والدمل الصغير وما شابهها، ومنها ما يكون الصوم علاجاً له، كمعظم أمراض البطن، من التخمة، والإسهال، وغيرها فلا يجوز الفطر لهذه الأمراض، لأن الصوم لا يضر صاحبها بل ينفعه، ولكن المبيح للفطر ما يخاف منه الضرر. والسليم الذي يخشى المرض بالصيام، يباح له الفطر أيضاً كالمريض الذي يخاف زيادة المرض بالصيام. وذلك كله يعرف بأحد أمرين:
إما بالتجربة الشخصية. وإما بإخبار طبيب مسلم موثوق به، في فنه وطبه، وموثوق به في دينه وأمانته، فإذا أخبره طبيب مسلم بأن الصوم يضره، فله أن يفطر، وإذا أبيح الفطر للمريض ولكنه تحمل وصام مع هذا فقد فعل مكروهاً في الدين لما فيه من الإضرار بنفسه، وتركه تخفيف ربه وقبول رخصته، وإن كان الصوم صحيحاً في نفسه، فإن تحقق ضرره بالصيام وأصر عليه فقد ارتكب محرماً، فإن الله غني عن تعذيبه نفسه. قال تعالى: ]ولا تقتلوا أنفسكم. إن الله كان بكم رحيماً[ {النساء:29}.
بقي شيء من سؤال السائل وهو: هل يجوز له أن يتصدق بدل الأيام التي أفطرها وهو مريض ؟ فنقول له: المرض نوعان: مرض مؤقت يرجى الشفاء منه وهذا لا يجوز فيه فدية ولا صدقة، بل لابد من قضائه كما قال تعالى: ]فعدة من أيام أخر[ فإذا أفطر شهراً فعليه شهر وإذا أفطر يوماً فعليه يوم، فإذا أفطر أياماً فعليه أن يقضي مثلها حين يأتيه الله بالصحة وتتاح له فرصة القضاء.. هذا هو المرض المؤقت.
أما المرض المزمن فحكم صاحبه كحكم الشيخ الكبير والمرأة العجوز إذا كان المرض لا يرجى أن يزول عنه. ويعرف ذلك بالتجربة أو بإخبار الأطباء فعليه الفدية: إطعام مسكين. وعند بعض الأئمة كأبي حنيفة يجوز له أن يدفع القيمة نقوداً إلى من يرى من الضعفاء والفقراء والمحتاجين
حكم أخذ الإبر أو الحقن في الصيام، ووضع الدواء في الأذن والاكتحال
هل يصح للمريض أن يأخذ حقناً في شهر رمضان أو حقناً شرجية، وهل يصح للمريض وهو صائم وآذانه تؤلمه أن يضع فيها الدواء، وهل يصح للمرأة أن تكحل عينيها في شهر رمضان صباحاً ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
نقول لكل من يستفسر عن أخذ الحقن أو الإبر في شهر رمضان بأن الإبر أنواع فمنها ما يؤخذ كدواء وعلاج، سواء كان في الوريد أو في العضل أو تحت الجلد، فهذه لا مجال للخلاف فيها، فهي لا تصل إلى المعدة، ولا تغذي، فهي لذلك لا تفطر الصائم ولا مجال للكلام هنا.(1/112)
إنما هناك نوع من الإبر يصل بالغذاء مصفى إلى الجسم، كإبر الجلوكوز فهي تصل بالغذاء إلى الدم مباشرة، فهذه قد اختلف فيها علماء العصر، حيث أن السلف لم يعرفوا هذه الأنواع من العلاجات والأدوية، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن العصور الأولى شيء في هذا الأمر، فهذا أمر مستحدث، ولهذا اختلف فيه علماء العصر، فمنهم من يرى هذا النوع مفطراً لأنه يصل بالغذاء إلى أقصى درجاته حيث يصل إلى الدم مباشرة، وبعضهم يقول: إنها لا تفطر أيضاً، وإن كانت تصل إلى الدم لأن الذي يفطر هو الذي يصل إلى المعدة، والذي يشعر الإنسان بعده بالشبع، أو بالري فالمفروض في الصيام هو حرمان شهوة البطن وشهوة الفرج، أي أن يشعر الإنسان بالجوع وبالعطش، ومن هنا يرى هؤلاء العلماء أن هذه الإبر المغذية أيضاً لا تفطر.
ومع أني أميل إلى هذا الرأي الأخير أرى أن الأحوط على كل حال أن يمتنع المسلم عن هذه الإبر في نهار رمضان، فعنده متسع لأخذها بعد الغروب. وإن كان مريضاً فقد أباح الله له الفطر، فإن هذه الإبر وإن لم تكن تغذي بالفعل، تغذية الطعام والشراب وإن لم يشعر الإنسان بعدها بزوال الجوع والعطش كالأكل والشرب المباشرين، فهو على الأقل يشعر بنوع من الانتعاش، بزوال التعب الذي يزاوله ويعانيه الصائم عادة، وقد أراد الله من الصيام أن يشعر الإنسان بالجوع والعطش، ليعرف مقدار نعمة الله عليه، وليحس بالآم المتألمين وبجوع الجائعين وبؤس البائسين.. فنخشى إذا فتحنا الباب لهذه الإبر أن يذهب بعض القادرين الأثرياء فيتناول هذه الإبر بالنهار لتعطيهم نوعاً من القوة وقدراً من الانتعاش لكي لا يحسوا كثيراً بألم الجوع وبألم الصيام في نهار رمضان، فالأولى أن يؤجلها الصائم إلى ما بعد الإفطار.
هذا جواب السؤال الأول.
أما السؤال الثاني والثالث أيضاً.. وهو ما يتصل بوضع الدواء في الأذن وكذلك تكحيل العينين في نهار رمضان، ومثل ذلك الحقنة الشرجية هذه كلها أشياء ربما يصل بعضها إلى الجوف ولكنها لا تصل إلى الجوف من منفذ طبيعي وليس من شأنها أن تغذي ولا أن يشعر الإنسان بعدها بانتعاش أو نحو ذلك، و قد اختلف العلماء قديماً وحديثاً في شأنها ما بين متشدد وما بين مترخص. فمن العلماء من حكم بأن هذه الأشياء مفطرة. ومن العلماء من قال بأن هذه الأشياء ليست منفذاً طبيعياً إلى الجوف فهي لذلك لا تفطر، والحقيقة أني أختار بأن هذه الأشياء ـ أعنى استعمال الكحل ومثله القطرة في العين ومثل ذلك التقطير في الأذن وكذلك وضع المراهم ونحوها في الدبر لمن عنده مرض البواسير وما شابه ذلك ... والحقنة الشرجية أيضاً.. وهي التي يستعملها من يشكو الإمساك ـ كل هذه الأمور أرى أنها لا تفطر، وهذا الذي أفتى به هو ما اختاره ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه فقد ذكر تنازع العلماء في هذه الأشياء ثم قال: والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمه الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك، قال: والحديث الذي يروى في الكحل ضعيف، وقال يحيى بن معين: هذا حديث منكر.
هذه هي فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مبنية على أصلين:
الأصل الأول: أن الأحكام التي تعم بها البلوى ويحتاج إلى معرفتها جمهور الناس يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانها للأمة، فإنه المبين للناس ما نزل إليهم، قال تعالى: ]وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم[ {النحل: 44} كما يجب على الأمة أن تفعل هذا البيان من بعده. هذا أصل.
والأصل الثاني: أن الاكتحال والتقطير في الأذن ونحوها مما لم يزل الناس يستعملونه من أقدم العصور فهو مما تعم به البلوى، شأنه شأن الاغتسال والأدهان والبخور والطيب ونحوها، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن.. أي زيت الشعر ونحوها.. قال ابن تيمية: والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل إلى الدماغ، وينعقد أجساماً، والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى داخله ويتقوى به، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك، دل على جواز تطيبه وتبخره ودهنه وكذلك اكتحاله. ومن جملة ما قال ابن تيمية في هذه الفتوى: أن الكحل لا يغذي البتة، ولا يدخل أحد كحلا إلى جوفه، لا من أنفه ولا من فمه، وكذلك الحقنة (يعني الشرجية) لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئاً من المسهلات، أو فزع فزعاً أوجب استطلاق بطنه، وهي لا تصل إلى المعدة.. وهذا كلام جيد وفهم عميق لفقه الإسلام، وهو الذي نختاره ونفتي به
تأثير المعاصي على الصيام
ما حكم صائم رمضان إذا اغتاب أو كذب أو نظر إلى أجنبية بشهوة. أيصح صيامه أم يبطل ؟.
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
الصوم النافع المقبول هو الذي يهذب النفس، ويقوي إرادة الخير، ويثمر التقوى المذكورة في قوله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون[ {البقرة: 183}. والواجب على الصائم أن يكف عن كل قول أو فعل يتنافى وصومه حتى لا يكون حظه من صيامه الجوع والعطش والحرمان. وفي الحديث: (الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإذا سابه أو قاتله أحد فليقل: إني صائم) رواه الشيخان. وقال عليه السلام: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ([رواه النسائي وابن ماجة والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري]. وقال صلوات الله عليه: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . ([رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن] .. قال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث ألا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه.
ورأى ابن حزم: أن هذه الأشياء تبطل الصوم كما يبطله الطعام والشراب، وروى عن بعض الصحابة والتابعين ما يفهم منه هذا.
ونحن وإن لم نقبل برأي ابن حزم نرى أن هذه المعاصي تضيع ثمرة الصيام وتفسد المقصود من شرعيته، ومن أجل ذلك كان سلف الأمة الصالحون يهتمون بالصوم عن اللغو والحرام كما يهتمون بالصوم عن الشراب والطعام.. قال عمر رضي الله عنه: (ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو). وروى عن علي مثله. وعن جابر قال: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء).
وقال أبو ذر لطليق بن قيس: (إذا صمت فتحفظ ما استطعت) ، فكان طليق إذا كان يوم صيامه دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة. وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا.. وعن ميمون بن مهران: (أهون الصيام الصيام عن الطعام والشراب) .. وأياً ما كان الأمر فللصوم أثره وثوابه، وللغيبة والكذب ونحوه عقابها وجزاؤها عند الله ]وكل شيء عنده بمقدار[ {الرعد: 8}. وكل عمل بحساب وميزان. ]لا يضل ربي ولا ينسى[ {طه: 52}. وتأمل هذا الحديث النبوي عن دقة الحساب الإلهي في الآخرة تجد فيه الجواب الكافي عن هذا السؤال والسؤالين قبله: روى الإمام أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم؟. (يعني يوم القيامة) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقى قبلك). فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماله لا يقرأ كتاب الله ؟ ]ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين[ {الأنبياء: 47}. فقال الرجل يا رسول الله: ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء يعني عبيده إني أشهدك أنهم أحرار كلهم
السحور عند أذان الفجر
إذا تأخر الإنسان في السحور مجبراً، كأن يغلبه النوم، وسمع أذان الفجر وكان ما يزال يأكل طعام سحوره، فهل يترك الطعام فور سماعه الأذان ؟ أم من الجائز الاستمرار في الأكل حتى انتهاء الأذان.
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
إذا تأكد أن آذان الفجر في موعده المضبوط، حسب التقويم المحلي للبلد الذي يصوم فيه، وجب عليه أن يترك الأكل والشرب فور سماعه الأذان، بل لو كان في فمه طعام وجب عليه أن يلفظه حتى يصح صومه. أما إذا كان يعرف أن الأذان قبل موعده بدقائق، أو على الأقل يشك في ذلك فمن حقه أن يأكل أو يشرب حتى يستيقن من طلوع الفجر. وهذا ميسور الآن بواسطة التقويم (الإمساكيات) والساعات الدقيقة التي لا يخلو منها بيت.
قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: إني أتسحر، فإذا شككت أمسكت. قال ابن عباس: كل، ما شككت حتى لا تشك. وقال الإمام أحمد: إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه.
وقال النووي: وقد اتفق أصحاب الشافعي على جواز الأكل للشاك في طلوع الفجر: والدليل على ذلك أن الله تعالى أباح الأكل والشرب في ليلة الصيام إلى غاية هي تبين الفجر، والشاك لم يتبين له الفجر، قال تعالى: ]فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود من الفجر[ {البقرة: 187}.
ومن هنا نتبين أن الإمساك مدة من الزمن قبل الفجر بصفة دائمة لم يرد به كتاب ولا سنة وهو لون من الغلو في الدين، وينافي ما جاء في السنة من استحباب تأخير السحور. والله أعلم
زكاة الفطر لمن صام في بلد وعيَّد في آخر
بالنسبة لزكاة الفطر، إذا صام صائم ثلثي الشهر في بلد ما، وكان ينوي صيام بقية الشهر في بلد آخر ويشهد العيد هناك. ففي أي البلدين يجب أن يخرج الزكاة ؟
يجيب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: يخرج المسلم زكاة فطره في البلد الذي يدركه فيه أول ليلة من شوال " ليلة العيد " لأن هذه الزكاة ليس سببها الصيام وإنما سببها الفطر ولهذا أضيفت إليه وسميت زكاة الفطر ولهذا لو مات إنسان قبل مغرب اليوم الأخير من رمضان لم تكن زكاة الفطر واجبة عليه، وإن صام سائر أيام رمضان. ولو ولد مولود بعد مغرب آخر يوم من رمضان أي في الليلة الأولى لدخول شهر شوال كان من الواجب إخراج زكاة الفطر عنه بالإجماع فهي زكاة مرتبطة بالعيد وبتعميم الفرحة به بحيث تشمل الفقراء والمساكين، ولهذا جاء في الحديث (أغنوهم في هذا اليوم)
- - - - - - - - - - - - - - -
حوارات رمضانية
* ... علمنة رمضان
* ... سلوكياتنا في رمضان ... إيجابيات وسلبيات
* ... الصيام ... والسمو الإيماني
* ... توحيد المطالع.. بين النظرية والضرورة
علمنة رمضان
في الدين هناك عبادات ومعاملات وأخلاق، والعلمنة لما هو ديني ليست هي فصل الدين عن الدولة أو فصله عن الحياة اليومية وحسب، بل قد تأخذ العلمنة شكل إدخال البعد المادي الدنيوي في الأخلاق والعبادات، وتحويل العبادات نفسها عن مقاصدها وغاياتها التي تخدم الرؤية الإسلامية لتنقلب في النهاية لخدمة نظم الحياة غير الإسلامية، فتكون ممارسة الفرائض الدينية في ظاهرها مستمرة وتامة، لكن في الحقيقة تخضع لعلمنة متدرجة ما تلبث أن تصبح قوية وفاصلة.
وينطبق هذا على رمضان؛ إذ أنه الشهر الذي فرض علينا الله فيه الصيام، وسن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم فيه القيام، وغايته الكبرى هي ربط المسلم في علاقة إيمانية بربه بالعبادة والذكر وبإخوانه في المجتمع بالتكافل والبر، لكن قد تحول إلى مناسبة إعلامية إعلانية يصرف فيها التلفاز والقنوات الفضائية الناس عن العبادة، ويزيد فيها استهلاكنا من الطعام نوعاً وكمًّا، ويتحول فيها السوق الإسلامي لسوق مروجة للبضائع الأجنبية التي تحاول تسويق إنتاجها بتوفير سلع "رمضانية"، بدءاً من فوانيس رمضان الصينية المزودة بموسيقى "ماكارينا"، مروراً بالعروض الخاصة للسحور في فروع المطاعم الأمريكية للوجبات السريعة، وانتهاءً بملابس العيد المخفضة في بيوت الأزياء العالمية المختلفة .. حتى العادات الرمضانية الشعبية كالسهر والسمر في الأماكن الشعبية قد تحولت في بلدان كثيرة إلى سهرات فندقية تدخن فيها النرجيلة (الشيشة)، ويختلط فيها الرجال بالنساء، وتنتهي مع السحور على أنغام الموسيقى الغربية.
وللتأمل في علمنة رمضان وكيف تحول تدريجيًا إلى هذه "العلمنة" بكل أبعادها نطرح المحاور التالية للنقاش:
# إلى أي مدى تمت علمنة الشعائر لكل من جوانب العبادات والمعاملات والأخلاق في مجتمعاتنا ؟
# هل تتفاوت درجة العلمنة بين الدول الإسلامية ؟
# ما أثر العلمنة على رمضان باتجاه خدمة النظام العالمي في مجالات المعاملات والأخلاق؟
# ما هي مظاهر علمنة رمضان؟ وما الذي يمكن تلافيه منها هذا العام وبشكل بسيط ومتاح للمسلم العادي؟
ــــــــــــــــــــ(1/113)
سلوكياتنا في رمضان ...
إيجابيات وسلبيات
رمضان ... هذا الشهر العظيم الذي اختصه الله سبحانه وتعالى بالصيام، وأكرمنا فيه سبحانه بفضله وكرمه، فجعلنا بين ثلاث مراحل؛ الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وضاعف لنا فيه الأجر والثواب في كل الأعمال، فحثَّنا ذلك كله على العبادة والطاعة، فأقبل المسلمون على الطاعات، وامتلأت المساجد بصفوف المصلين، وحفلت المقارئ بقارئي القرآن، وأصبح البذل والجود والتواصل والتراحم سمة ظاهرة في المجتمع، وغدا رمضان وسيلة لتهذيب النفس وتربيتها على الجوع والعطش في سبيل الله، وعلى اتخاذ الزهد منهج حياة، وحتى على مستوى وسائل الإعلام أخذت مساحة الأعمال الدينية تزداد في هذا الشهر عن غيره من الشهور.
وفي ظل هذه المظاهر الإيجابية، غزت المسلمين مظاهر سلبية اختصت برمضان أيضًا، ولا تسل عن هذا التناقض وكيف حدث، فإن الواقع يشهد به ويؤكده وكم في حال المسلمين اليوم من تناقض!! فإلى جانب امتلاء المساجد بالعُمَّار جلس كثير من المسلمين في المقاهي والخيام الرمضانية والديوانيات، وأصبح هذا هو مكانهم الدائم ومأواهم الوحيد كل ليلة، وكما كان رمضان وسيلة للزهد والتقشف، صار علامة للتبذير والإسراف، وأخذت الموائد تزدان بمأكولات خاصة برمضان، وكأنه أصبح احتفالية "طعامية" مادية لا احتفالية روحية.
وبمحاذاة المساحة الزائدة للبرامج الدينية في قنوات التلفاز، غدا التلفاز طريقة من طرق الإفساد والإلهاء عن العبادة سواء بزيادة عدد ساعات الإرسال حتى طلوع الفجر، أو بنوعية البرامج المقدمة، وحتى المسلسلات الدينية أو التي يفترض أن تكون دينية غدا مدار الحديث فيها عن الحب والعشق، وأما العادات الطيبة التي أرساها لنا رمضان من صلة الرحم والتعاون وحب الخير، قلبناها إلى مجال للحديث فيما هو غير نافع، أو ضار كالغيبة والنميمة، وتفشَّت بين المسلمين ظاهرة في غاية السوء وهي الكسل وكثرة النوم وقلة العمل،وكأنه شهر الكسالى والخاملين لا شهر الجدّ والنشاط !!
وبين الإيجاب والسلب يعيش المسلم اليوم.
محاور الموضوع:
العبادات في رمضان بين الالتزام بما حدده الشارع ومغالاة البعض.
الإعلام بين الدور المنشود والواقع المشهود.
العادات والتقاليد: الجانب الإيجابي منها وكيف نستثمره؟ والجانب السلبي أسبابه وطرق علاجه.
ــــــــــــــــــــ(1/114)
الصيام ... والسمو الإيماني
إن المتأمل في رمضان، وحكمته ... يقف منبهرًا بهذا التوجيه الرباني المركز نحو الطاعة والقرب من الله تعالى، والحث على فعل الخيرات، وتضاعف الأجر.. وكل ذلك في مدة محددة محدودة مع كل ما في هذه المدة من أعمال، ليكون المسلم مشغولاً طول ليله ونهاره بالقرب من ربه سبحانه وتعالى، فهو بين الصيام، وقراءة القرآن ،والقيام، وبين صلة الرحم، والبذل والجود، ومعاونة أخيه المسلم.
ولعل من أجمل وأروع ما يربينا عليه رمضان، قضية كسر العادة، ليحررنا من أسر أي عادة مهما كانت، فيفك إسار عبوديتنا للمألوف، فكما تعودنا أن نأكل ونشرب كل يوم، أصبحنا مأمورين بالصوم حتى غروب الشمس، وكما ألفنا الحرص على المال، غدونا مطالبين بالبذل والتصدق ودفع زكاة الفطر، وكما كان ليلنا للخلود والنوم، لزمنا القيام فيها لله تعالى بالصلاة.
وكل هذا التركيز في الطاعات هدفه تحقيق العبودية لله أولاً كما أمر، ثم الارتقاء والسمو الإيماني بالمسلم ليكون لديه من زاد التقوى والعبادة والورع، ما يعينه في حياته وسط ضغوط الحياة، وأمواجها المتلاطمة المحيطة به.
محاور الموضوع:
كيف يؤسس الإنسان حياته على العبودية الكاملة لله سبحانه.
رمضان ودوره في تحقيق مطلق العبودية لله سبحانه.
تقلب النفس البشرية، وكيف عالجها سبحانه من خلال رمضان.
السمو الإيماني في رمضان: تجارب شخصية، ومشاهدات عينية.
ــــــــــــــــــــ(1/115)
توحيد المطالع.. بين النظرية والضرورة
كانت وما زالت قضية توحيد المطالع هي الشغل الشاغل للمسلمين مرتين في العام؛ الأولى عند استطلاع هلال رمضان إيذانًا ببدء الصيام، والثانية عند استطلاع شهر شوال إعلانًا بانتهاء الصيام.
وأصبح من المعتاد أن يصوم المسلمون في بلد ما أو يحتفلون بالعيد بينما يفطر إخوانهم في بلد مجاور أو يفرحون بالعيد بعد البلد الأول بيوم أو يومين، وربما ثلاثة. ووصل الأمر في بعض الأحيان لخضوع مواقيت الصيام أو الإفطار لأهواء سياسية؛ فإذا اختلفت دولة عربية ما مع دولة أخرى تأخذ بالحساب الفلكي في المواقيت، أما إذا تحسنت العلاقات بينهما فيتم الأخذ بالرؤية الشرعية وهى الرؤية بالعين المجردة والأخذ بالمبدأ الشرعي الذي يقول: إنه إذا ظهر الهلال في دولة ما فعلى جميع الدول التي تشاركها في جزء من الليل أن تلتزم بنفس التوقيت!
وبين هذين الأمرين "الرؤية بالعين المجردة والحساب الفلكي "يعيش المسلمون أفرادًا وحكومات بين مؤيد ومعارض، وكلٌّ يدلي بدلوه بقدر ما أوتي من العلم والمعرفة، وبحجم ما لديه من سلطة.
محاور الموضوع:
1 ... ... مدى إمكانية تحقيق توحيد المطالع اليوم في ظل التقدم العلمي، وهل هو ضرورة؟
2 ... ... توحيد المطالع بين فقهائنا الأولين وعلمائنا المعاصرين.
3 ... ... هل لاختلاف المطالع أثر في اختلاف المسلمين؟
4 ... ... هل للسياسة دور في الاختلاف حول استطلاع الهلال؟
ــــــــــــــــــــ(1/116)
تجميد مشروع لإنتاج قمر صناعي إسلامي يوحِّد الشهور العربية
مفتي مصر صاحب الفكرة: توحيد الشهور العربية يوحد مواسمنا الدينية الكبرى ويؤلف بين مشاعر المسلمين.
شركة أمريكية تحمَّست للمشروع وواشنطن استثنت القمر من كل القيود السياسية وبقيت عقبة التمويل!
محمد جمال عرفة
أصبح من المعتاد أن يصوم المسلمون في بلد ما أو يحتفلون بالعيد بينما يفطر إخوانهم في بلد مجاور أو يفرحون بالعيد بعد البلد الأول بيوم أو يومين وربما ثلاثة. ووصل الأمر في بعض الأحيان لخضوع مواقيت الصيام أو الإفطار لأهواء سياسية، فإذا اختلفت دولة عربية ما مع السعودية مثلاً تأخذ بالحساب الفلكي في المواقيت، أما إذا تحسنت العلاقات فيتم الأخذ بالرؤية الشرعية وهى الرؤية بالعين المجردة والأخذ بالمبدأ الشرعي الذي يقول: إنه إذا ظهر الهلال في دولة ما فعلى جميع الدول التي تشاركها في جزء من الليل أن تلتزم بنفس التوقيت!
وللتوفيق بين أصحاب الرؤية الشرعية "بالعين المجردة" لإثبات رؤية أهلّة الشهور العربية وتحديد المناسبات وأصحاب نظرية الحساب الفلكي: قام مفتي مصر الشيخ نصر فريد واصل عام 1998 باقتراح مشروع لبناء قمر صناعي إسلامي يهدف إلى التغلب على مشاكل رصد الهلال من فوق سطح الأرض، بسبب التلوث في الجو أو السحب وغيرها، ويحقق توحيد المواقف بين أنصار الرؤية الشرعية وأنصار الحساب الفلكي، ضمّنه كافة التفاصيل الدقيقة الخاصة بتكاليف الإنتاج، وارتفاع القمر عن سطح الأرض، وقدرته على رصد مطلع الهلال بدقة، وبالتالي توحيد مطالع الشهور العربية تمهيدًا لتوحيد مواقف العرب والمسلمين، على اعتبار أن توحيد المطالع دليل على وحدة المسلمين، والعكس صحيح.
ويشرح الدكتور نصر واصل الهدف من المشروع قائلاً: إن الهدف الأساسي من مشروع القمر الصناعي الإسلامي هو التغلب على مشاكل الرصد من فوق سطح الأرض التي تؤدى لعدم رؤية الهلال بين دولة وأخرى بنقلها خارج الطبقات الكثيفة الملوثة من الجو باستخدام منظار محمول على قمر صناعي يقوم برصد الهلال حال طيرانه في سماء دول عالمنا الإسلامي وإرسالها إلى محطات أرضية تنشأ في مختلف الدول الإسلامية لترى الصورة المأخوذة من فوق كل دولة من خلال شاشة تلفزيونية أو جهاز فاكس أو كليهما، وبذلك تتحقق رؤية شرعية مشتركة فتتوحد مواقيت مواسمنا الدينية الكبرى، مثل الصوم وعيد الفطر وغيرهما، مما يوحد مشاعر شعوبنا ويؤلف بينها. ويضيف: إن القمر الإسلامي سينوب بذلك عن عشرات المناظير التي يمكن أن تنشأ على امتداد عالمنا الإسلامي، بل ويفضُلها في انخفاض التكلفة بدرجة كبيرة فضلاً عن تخلصه من قيود الرصد التي ستعوق أيضًا عمل تلك المناظير الأرضية؛ إذ أن التلوث الذي يغلف الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، وخاصة بالقرب من المدن الكبرى أو المناطق الصناعية يؤدي لإعتام شديد للأفق يجعل عملية رصد الهلال تبدو مستحيلة ما لم يبق فوق الأفق مدة لا تتكرر إلا على فترات بعيدة.
والحل الوحيد هنا كما يقول الشيخ واصل هو استخدام منظار محمول على قمر صناعي يطير على ارتفاع مناسب ما بين 400 600 كيلو متر، وهو ارتفاع تتحقق به عدة مزايا، مثل انعدام التلوث والنشاط الجوي تمامًا في هذا الارتفاع، فيصفو الأفق صفاءً كاملاً، وانعدام تشتت الضوء، وبذلك تبدو الأجرام السماوية مضيئة وسط ظلام منتشر، فلا تضعف إضاءة الهلال بالنسبة للأفق، وبذلك يمكن رؤية الهلال مهما كانت درجة لمعانه، والأهم أنه من هذا الارتفاع يكون القمر مرئيًا بوضوح من دائرة محيطه بالنقطة التي تقع تحته مباشرة، ويزيد قطرها عن 2000 كيلو متر، مما يتح له رؤية كل العالم العربي والإسلامي في دوراته المتتالية "دائرة التغطية".
وقد مرت مرحلة إخراج المشروع للنور بمرحلتين؛ الأولى: حساب التكاليف والتفاصيل الفنية بالتعاون مع شركات وخبراء مصريين وعرب. الثانية: الاتصال بالحكومات العربية والإسلامية ومراكز البحوث الإسلامية لعرض المشروع عليها.
ففي المرحلة الأولى جرت اتصالات مع مراكز البحوث الإسلامية والدول العربية والإسلامية، وخاطبت دار الإفتاء المصرية عشرات الدول؛ منها السعودية وتونس والإمارات والأردن وقطر ولبنان، كما وافقت اللجنة الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية المصري على المشروع، واهتم به من السعودية بوجه خاص الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، ووافقت عليه جهات الاختصاص في المملكة العربية السعودية، كما تم حساب عدد الدول التي تشترك مع بعضها أو مع مكة المكرمة في جزء من الليل بدراسات مسهبة، عددها 56 دولة عربية وإسلامية وأجنبية. أيضًا وافقت اللجنة الثامنة للتقويم الهجري الموحد في اجتماعها الذي عقد في جدة أواخر العام الماضي على تشكيل لجنة علمية متخصصة تتولى دراسة المشروع الخاص بالقمر الصناعي، وعهد الأمر إلى أمانة منظمة المؤتمر الإسلامي.
وفى المرحلة الثانية جرت دراسات بواسطة لجنة علمية للمشروع ضمت خبراء مسلمين، ثم اتصالات عديدة ومكثفة مع الشركات العالمية الكبرى العاملة في مجال الفضاء، منها شركات أمريكية وإنجليزية وفرنسية، ولقي المشروع ترحيبًا من تلك الشركات، وتم بالفعل تقديم عروض فنية تفصيلية متعددة، تم تعديلها بناءً على المتطلبات والملاحظات التي أبدتها اللجنة العلمية للمشروع، وطبقًا للعروض المبدئية للشركات كانت تكلفة بناء هذا القمر الإسلامي الأساسية حوالي 15 مليون دولار تشمل: القمر، والأجهزة المحملة عليه، وعملية الإطلاق، والمحطة الأرضية الرئيسية؛ حيث سيوضع على سطح القمر منظار فلكي مزود بكاميرا حساسة مناسبة، وحاسب مزود ببرامج التشغيل، وأجهزة اتصال تستقبل التعليمات الأرضية التي تقيمها كل دولة في المواقع التي تحددها.
والغريب أن إحدى الشركات الأمريكية قد بلغ بها الحماس للمشروع حد السعي لاستصدار موافقة من الحكومة الأمريكية على المضي في تنفيذ المشروع متضمنًا كل ما رأته اللجنة العلمية للمشروع، ووصل الأمر لاستثناء القمر الصناعي الإسلامي من جانب الحكومة الأمريكية من كل القيود التي تصاحب عادة مثل هذه المشروعات، وقبول أن يقوم مختصون من طرف دار الإفتاء بمتابعة كل خطوات تصميم القمر وتصنيعه وإطلاقه ودعوة الدول العربية والإسلامية الراغبة في تعيين ممثلين لها يتابعون العمل في المشروع، وندب مسلمين ثقات لتصميم مدار القمر وبرامج التشغيل.
ورغم كل هذا فقد خبتت الأضواء عن المشروع، وتم تجميد الحديث عنه تقريبًا، وراحت كل الوعود بالمشاركة في بنائه، رغم أن مفتي مصر اقترح فكرة لتمويله من خلال اكتتاب بين الدول العربية والإسلامية، وعلمت "قدس برس" أن بعض الدول التي أبدت تحمسها من البداية عادت للتهرب من المشاركة بحجة استمرار دراسة المشروع رغم أن المشروع جاهز تقريبًا للتنفيذ!.
جدير بالذكر أن شركة أوربيتال أعدت دراسة عن المشروع قالت فيها: إن القمر سوف يغطى حوالي 56 دولة تشترك في جزء من الليل، وقد أطلق على المشروع اسم (ISMO)، وهو اختصار لعبارة "القمر الصناعي الإسلامي لرصد القمر" أو
(ISLAMIC SATELLITE FOR MOON OBSERVATION PROGRAM)
ــــــــــــــــــــ(1/117)
القمر الصناعي.. مرصد جوال للأهلّة
الهدف الأساسي للمشروع:
صار من المعتاد في السنوات الأخيرة أن تستعصي أهلّة الشهور الهجرية عن الرصد، ليس بسبب سحب أو ظروف جوية طارئة، بل بسبب الإعتام الدائم الذي صار يغلف الطبقات الدنيا من جو الأرض، وهدف مشروع القمر الإسلامي الأساسي هو التغلب على مشاكل الرصد من فوق سطح الأرض بنقلها خارج الطبقات الكثيفة الملوثة من جوها باستخدام منظار محمول على قمر صناعي يقوم برصد الهلال حال طيرانه في سماء دول عالمنا الإسلامي وإرسالها إلى محطات أرضية تنشأ في مختلف دول عالمنا الإسلامي لترى الصورة المأخوذة من فوق كل دولة من خلال شاشة تليفزيونية أو جهاز فاكس أو كليهما.
بذلك تتحقق رؤية شرعية مشتركة فتتحد مواقيت مواسمنا الدينية الكبرى، مثل الصوم وعيد الفطر وغيرهما، مما يوحد مشاعر شعوبنا ويؤلف بينها، ومن الواضح أن القمر بهذا ينوب عن عشرات المناظير التي يمكن أن تنشأ على امتداد عالمنا الإسلامي، إلا أنه يفضُلها في انخفاض التكلفة بدرجة كبيرة، وكذلك تخلصه من قيود الرصد التي ستعوق أيضًا عمل تلك المناظير الأرضية.
وقد خاطبت دار الإفتاء المصرية الإخوة في دول عالمنا العربي والإسلامي في هذا الخصوص، وقد كان تجاوب الإخوة مشجعًا للغاية، ونذكر على سبيل المثال أن سمو الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز قد اهتم بالموضوع، وعرضه على جهات الاختصاص بالمملكة العربية السعودية، حيث أبدت موافقتها الصريحة على فكرة المشروع، كذلك جرت حوارات مثمرة وبناءة مع سماحة الأخ الفاضل محمد مختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية، وسماحة الأخ الفاضل السيد علي بن السيد عبد الرحمن الهامشي مستشار الشئون القضائية والدينية بدولة الإمارات العربية المتحدة، وسماحة الأخ الفاضل الشيخ عز الدين الخطيب التميمي قاضي قضاة المملكة الأردنية الهاشمية، ومعالي الأخ الفاضل أحمد عبد الله المري وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدول قطر، وسماحة الأخ الفاضل الشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الشيعي الأعلى بالجمهورية اللبنانية، وقد أوضح هذا الحوار الرغبة في عرض المشروع على منظمة المؤتمر الإسلامي، هذا بالإضافة لموافقة اللجنة الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية على المشروع.
الشهر الهجري وشروط بدئه:
عندما يقع كل من الأرض والقمر والشمس على خط واحد تقريبًا يقال: إنهم في وضع اقتران. والشهر الهجري هو الفترة الزمنية بين اقترانين متتاليين، وطوله حوالي 29.530589 يومًا، وبسبب عدم انتظام حركة القمر لدرجة كبيرة يصعب عمل تقويم قمري مماثل للتقويم الشمسي؛ خاصة أننا لا يمكن أن نحدد أطوال الشهور الهجرية مقدمًا مثلما يحدث في التقويم الشمسي.
ويتعين لبدء الشهر الهجري تحقق شرطين:
أن يولد الهلال الجديد بحدوث الاقتران.
أن يمكث الهلال الجديد فوق الأفق بعد غروب الشمس بحيث يمكن رصده.
فإذا تحقق هذان الشرطان يكون اليوم التالي هو بداية الشهر الجديد.
ومن الناحية النظرية يبدأ الشهر لو مكث الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس لأي فترة مهما صغرت، ولو أمكن رصده خلال فترة مكثه تلك يتحقق الشرط الشرعي لبدء الشهر الجديد.
مصاعب الرصد من على سطح الأرض:
تتأثر إمكانية رصد الهلال بعوامل أهمها:
شدة إضاءة الهلال، وهذه تتعين بعمر الوليد وقت غروب الشمس؛ أي مساحة الجزء المضيء من سطح القمر، وكذلك بُعد القمر عن الأرض، حيث يتراوح هذا البعد بين حوالي 363 ألف و405 ألف كيلو متر.
شدة إضاءة الأفق وقت الرصد، وهذه تزداد باقتراب الشمس من القمر فوق الأفق. درجة صفاء الأفق.
العاملان الأولان يمكن تقديرهما ومعرفة قدرة العين أو الجهاز المستخدم على تمييز الهلال من الوسط المحيط به، وكان في الماضي يتأثر بوجود السحب أو الضباب أو الأتربة أو بخار الماء العالق في الجو لظروف جوية طارئة، وهذه كلها كانت ظروفًا قليلاً ما تطرأ وكثيرًا ما تختفي. أما في الوقت الحاضر فقد أدى التلوث الذي يغلف الكرة الأرضية، وخاصة بالقرب من المدن الكبرى أو المناطق الصناعية لإعتام شديد للأفق يجعل عملية رصد الهلال تبدو مستحيلة ما لم يبق فوق الأفق مدة لا تتكرر إلا على فترات بعيدة.
وقد ثارت نتيجة تلك الصعوبات التي أصبحت تعترض رؤية الأهلة اقتراحات منها:
إنشاء مراصد تكون مهامها الأساسية رصد أهلة الشهور الهجرية. ومن الواضح أن ما يعترض العين المجردة سيعوق عمل المناظير بدرجة كبيرة، وبذلك تقل جدوى مثل تلك المراصد وما تتكلف من مبالغ لن تقل عن عشرات بل ملايين من الدولارات.
استخدام موجات رادار ترسل من على الأرض أو موجات الراديو أو الموجات تحت الحمراء إلى القمر. وهذا الاقتراح يفتقر للمنطق بدرجة كبيرة، فالهلال وقت رصده يكون قريبًا من الأفق، ومن المعلوم صعوبة استخدام موجات الرادار أو الراديو قريبًا من سطح الأرض، كذلك لا تفرق هذه الموجات بين الهلال المضيء وأي سطح معتم تقابله أو تنبعث منه، كما أنها لا توفر الصورة المطلوبة لتحقق الرؤية الشرعية.
الرصد الفضائي كحل أمثل لمشكلة رصد الهلال:
لكي يمكن رصد الهلال الوليد مهما كانت فترة مكثه فوق الأفق بعد غروب الشمس يتعين التخلص من العامل الثالث، والإقلال من تأثير العاملين الأولين.
وهذا لا يتحقق إلا بالرصد من خارج الطبقات الكثيفة من جو الأرض باستخدام منظار محمول على قمر صناعي يطير على ارتفاع مناسب ما بين 400 600 كيلو متر. وعلى هذا الارتفاع يتحقق الآتي:
ينعدم النشاط الجوي والتلوث تمامًا، فيصفو الأفق صفاء كاملاً.
ينعدم أو يكاد تشتت الضوء بواسطة مكونات الهواء، وبذلك تبدو الأجرام السماوية مضيئة وسط ظلام منتشر، فلا تضعف إضاءة الهلال بالنسبة للأفق. وبذلك يمكن رؤية الهلال مهما كانت درجة لمعانه.
من هذه الارتفاعات يكون القمر الصناعي مرئيًا بوضوح من دائرة محيطة بالنقطة التي تقع تحته مباشرة يزيد قطرها عن 2000 كيلو متر، مما يتيح له رؤية كل العالم العربي والإسلامي في دوراته المتتالية، وهذه الدائرة تسمى دائرة التغطية. كما يمكن أن ترى كل البلاد الواقعة داخل دائرة التغطية هذه الهلال في ذات اللحظة.
الاستخدامات الأخرى للقمر:
لن يقتصر عمل القمر على رصد الأهلة فقط، بل ستكون له استخدامات أخرى عديدة تمت مناقشتها مع الشركات العالمية التي تقدمت للمساهمة في تصنيع القمر، ومن تلك الاستخدامات:
قياس نسب تلوث البيئة والإشعاع على طول مسار القمر؛ سواء في الدول الإسلامية أو غيرها، ولا تخفى الجدوى الاقتصادية الضخمة لهذا الاستخدام.
دراسة العناصر الجوية، مما يساعد على تحسين التنبؤات الجوية بدرجة كبيرة؛ حيث لا توجد حاليًا أقمار تخدم الأرصاد الجوية على هذه الارتفاعات المنخفضة، وتسويق هذه العناصر يمكن أن يدر دخلاً كبيرًا للمشروع.
يمكن لهذا المشروع أن يكون مدرسة كبيرة لإعداد المتخصصين علميًا وتكنولوجيًا في مثل هذه المشروعات.
الأجهزة المحملة وملاحظات توضح أسلوب الرصد:
الأجهزة الأساسية الموجودة على سطح القمر عبارة عن منظار فلكي مزود بكاميرا مناسبة، وحاسب مزود ببرامج التشغيل، وأجهزة اتصال تستقبل التعليمات من المحطات الأرضية التي تقيمها كل دولة في المواقع التي تحددها، وترسل بصور الهلال لتلك المحطات، بالإضافة لأجهزة الاستخدامات الإضافية.
* ملاحظات توضيحية:
1 ... ... لن يعاد بث صورة الهلال بواسطة المحطات الأرضية، إنما المخطط له هو:
(أ) ... ... يرسل القمر بصورة الهلال لكل بلد به محطة استقبال أرضية موضحًا عليها قدر ارتفاعه فوق أفق النقطة الواقعة أسفله مباشرة على سطح الأرض، وبعده الأفقي عن الشمس، وكذلك الموقع الجغرافي لتلك النقطة.
(ب) ... ... ستخطط البرامج على القمر بحيث تقوم برصد الهلال وإرسال الصورة وقت مروره فوق كل دولة تضم محطة أرضية. علمًا بأن القمر سوف يدور حول الأرض حوالي 15 مرة خلال اليوم، ونتيجة لدوران الأرض تحت المدار فإنه يغطي في كل مرة مناطق مختلفة، وبذلك يغطي خلال فترة الرصد كل مناطق العالم الإسلامي تقريبًا.
(ج) ... ... ستُجرى إن شاء الله حسابات شهرية لكل ما يخص الرؤية، وترسل لكل دولة بها محطة استقبال أرضية لتقارن بين ما لديها من بيانات وما يرسل به القمر. ومثل تلك المحطات لا تتكلف أكثر من آلاف قليلة من الدولارات.
(د) ... ... البرامج التي سيحملها الحاسب على ظهر القمر لتعيين اتجاه الهلال أو الشمس أو لاستقبال تلك البيانات من المحطات الأرضية منفصلة عن تلك التي ستحدد اتجاه .
(هـ) ... ... بذلك يتاح لكل محطة أرضية متابعة صورة الهلال حال ثبوت رؤيته فوق كل البلاد التي يمكن أن يرى فوق أفقها بعد غروب الشمس.
2 ... ... سوف تستقبل كل محطة نفس مجموعة البيانات من القمر كاملة، وسيقوم المختصون بها بضبط الهوائيات والترددات بما يطمئنهم لمصدر تلك المعلومات.
3 ... ... بالنسبة لتأثير ارتفاع نقطة الرصد، وهو ما يسميه الفلكيون انخفاض الأفق فإن الدراسة الموضوعة تضمن التصحيح لهذا الارتفاع، بل وتضمن عدم رصد الهلال إلا وهو يعلو الشمس لحظة اختفاء قرصها تحت أفق النقطة تحت القمرية "التي تقع على سطح الأرض تحت القمر مباشرة". وبذلك تكون الصورة كما لو كنا نرصد من فوق سطح الأرض مباشرة، وهذا بالطبع أفضل من الرصد من فوق جبل مرتفع لا يتم التصحيح لارتفاعه، كما لا يتيح التخلص من تلوث الهواء بصورة كافية.
استمرارية المشروع وعمر القمر:
(أ) ... للقمر الصناعي عمر محدود، والعمر المقدر للقمر الإسلامي الأول ما بين 4 إلى 5 سنوات، ويستدعي استمرارية تحقيق الهدف المنشود إطلاق أقمار أخرى في المستقبل، إلا أن القمر الثاني تقل تكلفته كثيرًا عن القمر الأول، ذلك أن البنية الأساسية ومحطات التتبع والمحطات الأرضية تقام مرة واحدة.
(ب) ... خلال فترة عمل القمر الأول يكون قد تم تكوين الكوادر المصرية والعربية اللازمة، بحيث يتم تصنيع وإطلاق القمر الثاني بالكامل بإمكانات محلية، وبذلك تقل التكلفة بدرجة كبيرة.
(ج) ... الاستخدامات الإضافية للقمر يمكن أن تدرّ عائدًا كبيرًا يستخدم في متابعة العمل وإطلاق الأقمار التالية ضمانًا لاستمرارية المشروع.
الاشتراك في جزء من الليل:تبعًا لما يراه جمهور الفقهاء فإن ثبوت رؤية الهلال في بلد إسلامي يعني بداية الشهر في كل بلد يشاركه في جزء من الليل، وقد أجريت دراسة مسهبة أوضحت اشتراك دول العالم شرقها وغربها مع جميع الدول ومع مكة المكرمة في جزء كبير من الليل، والجدول الآتي يوضح مثالاً لأطوال الأجزاء المشتركة بين مكة المكرمة وعدد من البلاد في ليلة الأول من رمضان لسنة 1418 هجرية.
الاتصال بالشركات المنفذة:
جرت اتصالات ودراسات عديدة ومكثفة مع الشركات العالمية الكبرى العاملة في مجال الفضاء، منها شركات أمريكية وإنجليزية وفرنسية، وقد لقي المشروع ترحيبًا كبيرًا من تلك الشركات، وتقدمت بعروض فنية تفصيلية تم تعديلها بناء على الملاحظات والمتطلبات التي أبدتها اللجنة العلمية للمشروع، وقد بلغ تحمس شركة أمريكية كبرى للمشروع أن استصدرت بالفعل موافقة مشكورة من الحكومة الأمريكية على المضي في تنفيذ المشروع متضمنًا كل ما رأته اللجنة العلمية. وقد تضمنت المشاورات والموافقة الصادرة الآتي:
أن يقوم مختصون من طرف دار الإفتاء بمتابعة كل خطوات تصميم القمر وتصنيعه وإطلاقه. وفي هذا الصدد تدعو الدار الدول العربية والإسلامية الراغبة في المشاركة في المشروع لتعيين ممثلين لها يتابعون العمل في المشروع، ويشاركون في الخبرة المكتسبة خلال تنفيذه.
كل برامج التشغيل وتصميم المدار سيقوم بها مسلمون ثقات ممن يحرصون كل الحرص على دينهم.
إنشاء محطات للاتصال والتحكم داخل الدول العربية والإسلامية الراغبة في المشاركة في المشروع.
ستُجرى برامج للتدريب من خلال المشاركة في كل مراحل المشروع.
يلاحظ في الموافقة الصادرة من الحكومة الأمريكية أنها استثنت القمر الإسلامي.
التكلفة:
طبقًا للعروض المبدئية للشركات تصل التكلفة التقديرية للقمر واستخداماته الأساسية حوالي 15 مليون دولار مشتملة على القمر والأجهزة المحملة والإطلاق والمحطة الأرضية الرئيسية.
من هذا العرض الموجز يبدو جليًا أن القمر الإسلامي مرصد صغير يجوب سماوات الإسلام باحثًا عن هلال كل شهر هجري جديد، تنشط مستشعراته يوم مولد الهلال لكنها أبدًا لا تراه ولا تحس له وجودًا إلا فوق أفق النقطة تحت القمرية لحظة غروب الشمس تحت هذا الأفق. وقتها يبعث لنا بصورة الهلال الوليد مستوفية تمامًا لشروط الرؤية الشرعية الصحيحة. فتشعرنا هذه الصورة التي نراها في ذات اللحظة في كافة أرجاء عالمنا العربي والإسلامي بوحدة الهدف وتوحد المصير، وتحفزنا للتفكر في قدرة الله تعالى، وما بث في عقل لا يعدو قطرة في محيط كون فسيح لا يهدأ ولا يركن إلى خمول، فكأنه ينادينا من مداره قائلاً:
قم واصنع المجد لا تلتفت لماضٍ تليد سطرته الأوائل
وأقم صروحًا للعلوم منيفة تغدو الحياة نعائم وخمائل
واخضع لربك مطمئنًا راضيًا ... تظفر بروضات الجنان وتجزل
وفقنا المولى عز وجل لخير عباده ورفعة شأن دينه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- - - - - - - - - - - - -
رمضان في حياتهم ...
دعاء اليوم
... مفتي الديار المصرية
... دمشق: رمضان شهر الأعياد والخير والإيمان
... حوار مع هادي خشبة
... حوار مع الدكتورة صالحة عابدين
... الشيخ محمد جبريل:إمام النصف مليون مسلم
... رمضانيات بريطانية
... مدفع الإفطار
... الأديبة سهيلة حماد
... رمضان في ماليزيا
... رمضان في أرض الشمس المشرقة
... د. هاجر سعد الدين
... الشيخ أحمد ياسين
... الدكتور يحيى الرخاوي
... الشيخ عكرمة صبري " و" الشيخ رائد صلاح"
... رمضان في تركيا
... المستشار القاضي فيصل المولوي
... السيد محمد حسن الأمين
... د.أحمد صدقي الدجاني
... رمضان في الشيشان
... رمضان في السويد
مفتي الديار المصرية
... تكليفي بأمانة الإفتاء هو أصعب موقف واجهني في حياتي.
... أتمنى في رمضان القادم أن يبدأ القمر الصناعي الإسلامي عمله لتوحيد شعائر الأمة.
... القرآن دستور الأمة يرافقني منذ طفولتي وأحرص على ورد يومي.
أجرى الحوار: مجاهد مليجي القاهرة
في البداية حكى فضيلة المفتي الدكتور نصر فريد واصل عن رحلته مع كتاب الله، والذي ارتبط في ذهنه بشهر رمضان المبارك منذ نعومة أظفاره في كتّاب قرية ميت حلاوة بالشرقية وهو لا يزال طفلاً آنذاك، كما أكد لنا أن قرار إسناد منصب المفتي إليه كان من أصعب المفاجآت التي واجهته في حياته، وأنه تردّد في بداية الأمر في قبولها، ولكنه استخار الله، وأقبل عليه مدركًا عظمته وهوله من الناحية الدينية والعلمية، وما يستوجبه هذا المنصب الشاق الذي يعد تكليفًا مجهدًا، وليس كما يعتقد البعض تشريفًا ووجاهة، كما طوّف بنا فضيلته في ساحة الذكريات الرمضانية بروح العالِم والفقيه خلال هذا الحوار..
* فضيلة المفتي: كتاب الله هو البداية الصحيحة لمن أراد الطريق إلى الله. فما ذكرياتكم معه منذ طفولتكم؟
ذكرياتي مع كتاب الله لا تُنسى منذ أن كنت طفلاً صغيرًا في كتاب القرية، وحصلت على جوائز كان لها عظيم الأثر في نفسي، ودفعتني للانكباب عليه حتى حفظته عن آخره، وكان ذلك سببًا في التحاقي بالأزهر الشريف، وأخذت أدرس فيه يومًا بعد يوم، حتى تخرجت وأصبحت أستاذًا في الجامعة، ثم عميدًا لكلية الشريعة بـ "تفهنا الأشراف" بالدقهلية، ثم بعدها تم تكليفي بمهمة الإفتاء، وخلال هذه الرحلة الطويلة لم يفارقني القران الكريم تلاوةً وتفسيرًا وفهمًا؛ حيث يعني لي القران الكثير والكثير.. فهو يعني الحياة، ويعني الدنيا والآخرة، لأن القرآن هو دستور الحياة الدنيا والآخرة، وفيه شرع الله وحكم الله في كل صغيرة وكبيرة، كما أن لي وردًا يوميًا، وهو ما أواظب عليه بعد صلاة الفجر بقراءة ما تيسَّر من كتاب الله سبحانه وتعالى بالترتيب من أول البقرة حتى سورة الناس، وهكذا كلما انتهيت منه أبدأ من جديد، ولا يشبع الإنسان من تلاوة القران واستشعار حلاوته.
شيء يحب فضيلة المفتي أن يتحقق في رمضان؟
** أحب وأتمنى أن يلتزم المسئولون عن إعلان هلال رمضان في جميع الدول الإسلامية بتوصيات الاجتماع الأخير للجنة التقويم الهجري التي اجتمعت مؤخرًا في جدة، وشارك فيها ممثلو 18 دولة من علماء الشرع ، ووزراء العدل، والمفتين، وعلماء الفلك والمساحة والحساب علي شروط وضوابط التقويم الهجري الموحَّد، وقواعد الرؤية الشرعية لأهلّة الشهور الهجرية، وشارك في هذه الاجتماعات مجمع الفقه الإسلامي بجدة بأنه إذا ظهر الهلال في بلد، وتحققت الرؤية الشرعية له تلتزم جميع البلاد الإسلامية بإعلان الصوم في نفس اليوم ليبدأ المسلمون في ربوع الأرض الصيام معًا في يوم واحد؛ حيث تشترك جميع الدول الإسلامية والأقليات المسلمة في جزء من الليل لا يقل عن 6 ساعات، ولكن تختلف فقط التوقيتات، وذلك في ظل وجود الأقمار الصناعية والإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، والتي لا تدع عذرًا لأحد بعدم العلم، كما أتمنى أن يرى القمر الصناعي الإسلامي النور لتوحيد جميع التوقيتات والشعائر المتعلقة بها من الحج وأوائل الشهور العربية والأعياد والمناسبات الإسلامية المختلفة، حتى تتوحد الأمة في عباداتها وشعائرها، وبالتالي يسهل تحقيق الوحدة على الصعيد الاقتصادي والسياسي فيما بعد.
شيء يتضرع فضيلة المفتي لربه بأن يرفعه عن الأمة؟
** أتضرع إلى الله بأن يرفع عن أمتنا الشقاق والفرقة والتشتت الذي تعاني منه الأمة، وأن نرى الوحدة الاقتصادية والتكتل الإسلامي الاقتصادي في مواجهة اليهود الذين يحاولون السيطرة على مقدرات المنطقة، وينتهكون المقدسات الإسلامية، وحتى نستطيع أن نتعامل مع التكتلات الاقتصادية التي أصبحت هي السمة المميزة للعصر الحاضر.
ما هي أحب الطاعات إليكم في رمضان؟
إن رمضان هو شهر القران والصيام والقيام والتهجد وصلة الأرحام وفعل البر والخيرات والإنفاق، وهي جميعها من أعظم العبادات والطاعات، فأعظم العبادات هي قراءة القران وصلاة التهجد خاصة، فضلاً عن تحصيل العلم؛ حيث إنني منذ توليت منصب الإفتاء وأنا ليلي ونهاري في أمهات كتب الفقه لم أنصرف عنها، لا سيما في رمضان من أجل استنباط الأحكام واستخراج الفتاوى التي تطرح علينا من كل مكان في الدار. • هل لأسرتكم الصغيرة نصيب من وقتكم بعيدًا عن ضغوط "الرسميات"؟
ربما قبل الانشغال بأمور المسلمين من خلال تولي مسئولية الإفتاء كان لأسرتي نصيب أوفر من اليوم؛ فطبيعة العمل الذي أقوم به من إفتاء المسلمين في أمور دينهم أمر يسيطر على تفكيري في كل زمان ومكان، حتى إنه يستمر ذلك معي في المنزل أيضًا، بل وكما هو الحال في دار الإفتاء وفى كل مكان، وعليه فإن المنزل يكون فيه البحث والقراءة والاستعداد للقضايا المتجددة والمطروحة عليَّ من الناحية الشرعية والفقهية، وبالمنزل مكتبة ضخمة تضم أمهات الكتب في مختلف العلوم؛ لا سيما الفقه والشريعة الإسلامية، وتأخذ المكتبة منى الكثير من الوقت؛ خاصة إذا كانت هناك قضية من القضايا واجهتْنا، ويحدث حولها جدل مما يضطرني إلى البحث الدقيق حتى أصل إلى الحكم الذي تطمئن إليه نفسي، وبهذه الصورة فإن الأسرة لا تستطيع أن تحصل مني على الاهتمام الذي تحصل عليه المراجع وأمهات الكتب والمجلدات الفقهية من أجل عامة المسلمين في مصر وخارجها.
لكن.. كيف تؤدي فضيلتك الإجازة الأسبوعية؟
للأسف.. لا يوجد عندي إجازة أسبوعية، فالعمل شبه مستمر، ووقت الإجازة ليس ملكًا لي، ووقتي كله أصبح ملكًا للأمة؛ حيث أقضيه كله في خدمتها؛ سواء كان ذلك من خلال البحث أو الاطلاع على أمهات الكتب الفقهية، أو الذهاب إلى مقر العمل بدار الإفتاء المصرية أو تلبية الدعوات العامة التي يطلب مني المشاركة فيها من خلال ندوات أو لقاءات وكل ما يتصل بالإفتاء؛ سواء على المستوى العام أو الخاص.
وصلة الرحم عند فضيلة المفتي.. ماذا تعني؟
صلة الرحم عندي هي العلاقة الإنسانية التي ترتبط إلى حد كبير بالصلة بالله سبحانه وتعالي، لأن الرحم هي من عند الله، ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله، كما ينص الحديث القدسي الشريف على ذلك، والحمد لله.. صلة الرحم هي جزء من حياتي؛ سواء من خلال الممارسة العملية، حيث إنني على صلة بفضل الله بجميع الأهل والأقارب والأحباب؛ سواء من قريب أو من بعيد، ولم يتغيّر شيء في حياتي قبل تولي مهام الإفتاء أو بعده، وبيتي والحمد لله مفتوح، ومكتبي أيضًا مفتوح لهؤلاء جميعًا، ووضعي لم يتغير، ولكنه على صورته كما هو وكما كنت وأنا طالب صغير بينهم، وكله من نعم الله.
ما أحب الطعام إلى نفسك؟
حتى الآن لا أجد من خيرات الله ما تعافه نفسي، فكل من خيرات الله؛ سواء من الفاكهة أو اللحوم أو الخضراوات، كما أن أي شيء يقدم لي هو من نعم الله نأكله ونحمده عليها.
ما هو أصعب موقف واجهه فضيلة المفتي؟
علمي بقرار تكليفي بهذا المنصب منصب الإفتاء كان من أصعب المواقف التي واجهتها في حياتي؛ حيث إنني لم أطمح ولم أسع يومًا لذلك، كما أنني لم أكن في بؤرة الأضواء، وكنت أحاول إعفاء نفسي من هذه المسئولية الشرعية الكبيرة، والتي سوف أتحمل بسببها المسئولية عن كل حرف أنطق به أمام الله سبحانه وتعالى في أية فتوى أفتى بها لأكثر من 60 مليون مسلم في مصر وحدها، ولكنني استعنت بالله في أداء هذه المهمة راجيًا منه التوفيق والسداد في الفتاوى التي تصدرها دار الإفتاء في وجودي من خلال الاستعانة باللجان المتخصصة في الدار، وبالرجوع إلى أمهات الكتب وآراء الفقهاء القدامى والمحدثين في المسألة الواحدة قبل الإفتاء بشأنها مراعاة لحق الله وحق العباد في الفتاوى.
هل أصبح لفضيلة المفتي أحفاد؟
حتى الآن لم يرد الله بعدُ أن أُصبح جدًا "مباشرًا".. فليس لي أحفاد من أولادي، بينما داخل منظومة العائلة الكبيرة حصلت على هذا اللقب منذ زمن، ولي ولد وبنت بفضل الله، ومحمد نصر ابني الأكبر يدرس في نفس الكلية التي تخرّج فيها أبوه، حبًا في العلوم الفقهية، بينما ابنتي تدرس في كلية التجارة بنات، بجامعة عين شمس، وهما ملتزمان بفضل الله بالأخلاق والآداب الإسلامية الفاضلة، وأعتمد في التعامل معهم أسلوب الحوار المقنع لتوضيح الخطأ من الصواب لهم في أي أمر يعرض لهم منذ نعومة أظفارهم حتى اليوم
ــــــــــــــــــــ(1/118)
رمضان شهر الأعياد والخير والإيمان
مزج بين "المسحراتي" و"الحكواتي" والبرامج التليفزيونية
وحيد تاجا دمشق
تكاد دمشق تنفرد بتقاليد مميّزة عن مثيلاتها من الحواضر العربية والإسلامية في تعايُش الناس مع شهر رمضان المبارك فيها؛ حيث يمارس أهلها عادات قديمة عريقة توارثوها عن أجدادهم تحكي عن روح التراث والأصالة والمحبة.. والتواصل الديني والأخلاقي والحياتي فيما بينهم، تقاليد على ندرتها هذه الأيام أوشكت أن تندثر إلا من بعضها.. ومن ذاكرة الأقدمين، وما حدَّثَنا عنه السلف في قصصهم الشعبية.
وتظهر كرامات هذا الشهر الفضيل قبل أن يحطّ رِحاله بين ظهرانينا؛ إذ ترى الناس في حالة تحضير لاستقبال الشهر الكريم؛ حيث يسارع بعض الأحياء إلى وضع الزينات في الشوارع وعلى أبواب البيوت وأبواب الحوانيت، وتزيَّن الأسواق بالأعلام والآيات القرآنية الكريمة، ويشرق "سوق الحميدية" بالأضواء طوال الليل.
إثبات الشهر:
يستقبل الدماشقة شهر رمضان بإثبات مولد هلال الشهر، وهذه تلتزم بأسس علمية. وقد جرت العادة أن يجلس القضاة والعلماء والوجهاء في ليلة الثلاثين من شعبان في المسجد الأموي خلال الساعات التي يتوقع فيها ظهور هلال شهر رمضان لإعلان الصيام، وكان لكل مدينة مجلس مماثل لمدينة دمشق، أصبحت فيما بعد على اتصال دائم بدمشق.
أما الآن فقد أصبح المجلس ينعقد في المحكمة الشرعية لتبليغ الرؤية وإثبات ميلاد الهلال، فإن جرى الإثبات تُنار المساجد وتُضرب المدافع إيذانًا ببدء الصيام.
المسحراتي:
من الشخصيات المرتبطة بذاكرة الناس في رمضان: المسحِّر، وحتى الآن فإن أهل دمشق لا يزالون يعتمدون ويؤكدون على وجود المسحِّر في رمضان، وفي الماضي كان يسحِّر مدينة دمشق "مسحراتي" واحد، يصعد على مكان ومعه طبل كبير يضرب عليه، ويصيح بأعلى صوته: "يا سامعين ذكر النبي عالمصطفى صلوا، لولا النبي ما انبنى جامع ولا صلوا".
ومع اتساع المدينة وتزايد عدد سكانها تزايد عدد المسحِّرين، حتى أصبح لكل حي مسحِّر خاص به، وكانت تلك الحرفة تنحصر في عائلات تتوارث العمل، وهذا ما يفسر خروج المسحِّر مع ولد صغير، وغالبًا ما يكون ابنه، يساعده في حمل السلة التي يجمع فيها أعطيات الطعام، وليتعلم منه أصول الصنعة وآدابها، وليتعرف إلى أهل المطاف ومكاناتهم الاجتماعية، وبالتالي ليحفظ المدائح والدعايات التي سيرددها عند تكريسه في "الكار" مسحرًا. وهكذا كانت تنطلق نقرات على طبلات صغيرة فيها سحر وإغراء ونشوة وصخب يشق سكون الليل ويوقظ القوم إلى ذكر الله، ويذكرهم بما عليهم حيال الفقراء.
وينطلق مسحرو دمشق مزوَّدين بـ "عدة العمل": "الطبلة والسلة" يجوبون الحارات ويمرون بالأبواب يقرعونها بعصيهم الصغيرة، ويرددون بأصواتهم التي تتفاوت في الخشونة والحدة عبارات رمضان التقليدية، والتي تشكل حتى اليوم جزءاً لا يتجزأ من شخصية أولئك المسحرين.
" يا نايم وهو الدايم، يا نايم وحد الله، قوم يا بو محمد: وحد الله، قوم يا بو جاسم، يا بو صياح: وحدوا الله"
المولوية:
كانت للطريقة "المولوية" بدمشق، ولا يزال دور متميز في تقاليد الاحتفاء بشهر رمضان؛ خصوصًا ليلة القدر، ففي تلك الليلة كان شيخ الطريقة يولم على سماط بإفطار للدراويش "المريدين"، وبعد صلاة التراويح يعقد الذكر في مقر "التكية" المولوية، ويحضره من شاء من المواطنين، ويلاحظ في السنوات الأخيرة كثرة وجود الأوربيين والأمريكيين في تلك الليلة، ويكون الذكر بمصاحبة ضاربي الدف، وعازف الناي وبإشراف (العشي باشي) الذي يلاحظ الدراويش أثناء الدوران، فإذا انتهى الذكر يخرج الجميع في موكب شعبي حتى المسجد الأموي؛ حيث يبقون في احتفالهم حتى السحور، ثم يصلون صلاة الفجر في المسجد الأموي.
أما اليوم فقد اقتصر إحياء ليلة القدر على التكية المولوية، دون الخروج إلى الشارع، كما يتم إحياء الليلة التي تسبق ليلة القدر في منزل الشيخ العيطة، وهو أحد مشايخ الطريقة المولوية، ويقع خلف المسجد الأموي.
الحكواتي:
من الشخصيات التقليدية الطريفة التي كادت تندثر مع وجود التليفزيون والراديو: "الحكواتي"، إلا أن بعض المقاهي في دمشق عادت وأحيت هذا القصّاص الشعبي، ولا سيما أيام رمضان؛ حيث يتبوأ مكانه في صدر المقهى على سدة عالية مجللة بالسجاد، ويقص على الحضور القصص الشعبية عن "عنترة، والظاهر بيبرس، والزير سالم، وأبي زيد الهلالي" .
وكان القوم يتخيرون "الحكواتي" الذي تتوافق براعته وسرعة بديهته، وأسلوبه في الإلقاء وتصعيد حبكة الأحداث، ومن الأمور الطريفة التي يتحدث عنها البعض أن حدث في ليلة الحديث عن عرس عنترة بن شداد أن قام أنصاره بتزيين المقهى احتفالاً بهذه المناسبة!!
موائد الإفطار:
خص الدماشقة هذا الشهر بالمغالاة في إعداد موائده، والإفراط في المرطبات والخشافات والحلوى، ويمكن القول: إنه ما من بيت دمشقي إلا ويحتفي بمائدة الإفطار التي ينتظرها الصائم مساء كل يوم بما لذَّ وطاب من أصناف وألوان الطعام، ولا تكاد تخلو مائدة من أنواع "الفتّات: الحِمَّص بالزيت أو السمنة" و"فتّة المكدوس"، كما لا تخلو المائدة من أنواع المشروبات "الحساء"، ومائدة الإفطار في دمشق لا تخلو من المقبلات، وبخاصة صحن الفول المدمس بالزيت.
ومع هذا الشهر تظهر عند البغباتية "صناع الحلويات"، الحلوى الرمضانية المصنوعة من الكنافة والكلاج، بالإضافة إلى البرازق والنهش، وتظهر أنواع قمر الدين والنقوع والزبيب لصنع أنواع الخشافات، كما تظهر أرغفة المعروك وأنواع الخبز الأخرى، وينتشر باعة المرطبات بعد الإفطار، وقلما تخلو مائدة الإفطار من المرطبات، والطريف أن حديث النسوة في رمضان قلما يبتعد عن أنواع الطعام التي تعدّ للإفطار.
وقد أخذت تنتشر في الآونة الأخيرة موائد المطاعم؛ حيث أخذت المطاعم تتبارى فيما بينها لإعداد موائد الإفطار، بل والسحور أيضًا، وقد لوحظ استقطاب هذه المطاعم للعائلات؛ حيث لا تجد مكانًا في العديد من المطاعم على الإفطار أو على السحور.
تسُود مدينةَ دمشق خلال شهر رمضان صِلاتٌ اجتماعية فريدة من نوعها؛ ففي مساء أيام الأسبوع الأول من الشهر يتزاور أفراد العائلة للتهاني، ويشمل ذلك أصول العائلة وفروعها، وغالبًا ما يكون إفطار أول يوم عند عميد العائلة، وإفطار اليوم الثاني عند أكبر أولاده سنًا.. وهكذا، وفي بداية الأسبوع الثاني يأتي دور النساء في التهنئة، فيتبادلن التهاني من عصر كل يوم إلى قبيل الغروب، ومن خلال ذلك تدور أحاديث عن مآدب الطعام، وطرق إعداده، وقد يتساعدن في ذلك ويتهادين أطباق الطعام. ومن النسوة من تذهب إلى البرية "المقابر" لاستذكار الموتى بعد عصر اليوم الأول من الشهر، وتأخذ معها الطعام والحلوى لتوزيعها على الفقراء.
استقبال العيد:
إذا كان العشر الأُوَل من شهر رمضان "للمرق" كما يقولون في دمشق، لانهماك القوم بطعام رمضان وموائده، فإنهم يعتبرون العَشر الوُسْطَى من الشهر "للخِرَق"؛ أي لشراء ثياب وكسوة العيد ولوازمه، وإذا حل العَشر الأواخر من شهر رمضان انهمكت النسوة "بصرّ الورق"؛ أي إعداد حلوى العيد، وخاصة المعمول المحشو بالجوز أو الفستق الحلبي.
وفي الأيام التي تسبق العيد لا يعرف أهل دمشق فيها النوم والسكينة، فترتدي المدينة حلة قشيبة من الأنوار تنير المآذن والمساجد والطرقات، فينقلب سواد الليل إلى نهار، ويتحول سوق الحميدية والحرير والقيشاني إلى بحر متلاطم من البشر.
ومما يلفت النظر في هذه الأيام الكريمة: ازدياد نسبة الأمن والثقة عند الناس، حتى يصبح من الطبيعي جدًا أن تبقى المرأة مع أطفالها حتى ساعات الفجر الأولى وهي تشتري الثياب والحلوى دون أي خوف أو حساب، وإن سألت فلا تجد جوابًا سوى أنه شهر رمضان، وفيه كل الأمان.
وما إن يعلن مولد هلال شوال حتى تكون دمشق قائمة على قدم وساق، ليعم الفرح والتهاني على المسلم الذي أتم فروضه في الطاعة والإيمان المتواصل، وتمتلئ الدنيا فرحًا وصخبًا وحبورًا ونشوة
ــــــــــــــــــــ(1/119)
هادي خشبة نجم المنتخب المصري يتحدث عن فضل رمضان
أجرى الحوار: حسام تمام القاهرة
هادي خشبة.. هو من أشهر لاعبي فريق النادي الأهلي المصري، وأحد أبرز لاعبي الكرة المصرية الذين جمعوا بين الموهبة الكروية والالتزام الأخلاقي والسلوكي؛ فحاز إعجاب ومحبة جماهير الكرة في مصر والعالم العربي.
ورغم أنه ما زال في سن مبكرة (عمره 27 عامًا) فقد استطاع أن يحصل على عدد من البطولات المحلية والدولية مع فريقه (الأهلي) ومنتخب مصر مذ كان ناشئًا زادت على خمس عشرة بطولة محلية ودولية، وتوّج ذلك بحصوله على لقب أحسن لاعب في مصر لموسم 95/1996، وكان قد حصل قبلها على لقب أحسن ناشئ في مصر موسم 92/1993.
وهو من أشهر لاعبي الكرة المصرية الذين تزوجوا في سنّ مبكرة تزوج منذ ثلاثة أعوام ولديه يوسف عمره عامان وفضلوا الابتعاد عن صخب الشهرة وأضواء النجومية.. لذلك فهو عند زملائه من لاعبي الكرة وخاصة الناشئين نموذج يحتذى به.
وحول رمضان في حياة لاعب الكرة وذكرياته عن رمضان كان لنا معه هذا الحوار: كلاعب كرة ورياضي ماذا يمثل لك رمضان؟ وما الذي يختلف به عن غيره من الشهور من وجهة نظرك؟
رمضان شهر أنتظره من العام لآخر، وكثيرًا ما أدعو بالدعاء المأثور: "اللهم بلّغنا رمضان"، فهو شهر البركة والمغفرة والرحمة من الله عز وجل، وأظن أن هذا إحساس الكثيرين في الوسط الرياضي، كما هو الحال عند كل المسلمين.. وحتى إذا كان توقيت المباريات قبل الصيام نشعر بلذة مضاعفة في الصيام.. تفوق لذة الصوم مع الراحة، لأنها تجمع بين لذة الصوم والمجاهدة، وأعتقد أن الصوم مع المجاهدة له إحساس خاص ومختلف، وثوابه إن شاء الله يكون أكبر وأعظم.. كما أن رمضان ترك تأثيرًا عميقًا علينا كأفراد وكفريق أيضًا، فنحن نتعلم فيه الأخلاق الطيبة، ونكثر فيه من العبادات والالتزام بالآداب الإسلامية و ... وهذا بدوره يترك أثره علينا؛ إذ تسود بيننا روح المودة والألفة، وتقوى روح الفريق الواحد، وهو أهم ما يحتاجه الوسط الرياضي، وهذا التأثير يمتد لفترة طويلة بعد رمضان، وهو ما أسميه بزاد رمضان الذي يكفي لعدة شهور أخرى.
لكن الشائع خاصة في الأوساط الرياضية أن رمضان يؤثر سلبيًا على الأداء الرياضي؟
من المفترض أن الصيام يعطي للإنسان القوة والجلد، وتأثير رمضان على الرياضي تحديدًا لا بد وأن يكون إيجابيًا في رأيي؛ خاصة إذا عرفنا أن اللاعب يجب أن يلتزم بنظام غذائي دقيق ودائم (ريجيم) ، ويمتنع عن الغذاء لعدة ساعات قبل أي مباراة يخوضها، وأعتقد أن اللاعب إذا أخذ بالأسباب (تناول السحور الانتظام في مواعيد النوم الإقلال من الطعام التزامًا بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم: "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه..") فإن الصيام سيعود عليه بالفائدة.. وهذا ما يحدث معي، فالمباريات التي ألعبها وأنا صائم أكون موفقًا جدًا فيها. ربما يختلف ذلك مع بعض اللاعبين؛ إذ نلاحظ أن الشكوى من التعب والإجهاد تزيد في رمضان؛ خاصة وأن المباريات غالبًا ما تجري نهارًا.
هل أنت مع إيقاف المسابقات الرياضية في رمضان أو الأقل الإقلال منها؟
في الحقيقة نعم، فالأفضل من وجهة نظري إعادة تنظيم جدول المباريات وخاصة الدوري العام بحيث يتوقف تمامًا في رمضان لأنه شهر وحيد في السنة ومن الأولى أن يخصص للعبادة والتقرب إلى الله، وهذا لن يؤثر في مسيرة الدوري ولن يضر الرياضة في شيء إذ أن الأداء العام للاعبين يتأثر سلبيًا بالصيام. كما أن هناك دولاً فعلت ذلك كالسعودية مثلاً ولم تتأثر فيها الرياضة.
لكن ما ردّك على من يعتبرون ذلك تعطيلاً للأعمال؟
هذا غير صحيح خاصة إذا كان من الممكن تأجيل المباريات أو تنظيمها بما لا يتعارض مع أداء الفرائض فالصوم فريضة ورمضان شهر واحد لا يتكرر في العام إلا مرة، والأمر من باب ترتيب الأولويات وتنظيم أمور الدنيا وفق الدين، إذ ما المانع أن تؤجل هذه المباريات والأنشطة إلى ما بعد رمضان؟ خاصة وأن ذلك لن يضر بمصالح أحد. ثم إن كثيرًا من الأنشطة تعطل في إجازات أخرى كالمصيف مثلاً ولا أحد يعترض. فلنعتبر رمضان مصيفًا وإن كان يعلو ويجلّ بالتأكيد من أن يشبه بالمصيف. وعلى كل إذا كان تأجيل الدوري إلى ما بعد رمضان مطلبًا صعبًا؛ فلا أقل من أن تؤخر مبارياته إلى ما بعد الإفطار وهذا أضعف الإيمان، فالمباريات النهارية فتنة للاعبين وإغراء لهم بالإفطار تحت مبررات كثيرة.
بعض اللاعبين يلجئون إلى الإفطار إذا كانت هناك مباراة نهائية بدعوى وجود فتاوى تبيح ذلك كما حدث من قبل في بعض مباريات المنتخب المصري؟
ربما تقصد مباراتنا في بطولة الأمم الإفريقية في جنوب إفريقيا.. والحقيقة أن معظم اللاعبين كانوا صائمين وأدوا المباراة باقتدار رغم أنها كانت أثناء الظهر وفي ظل درجة حرارة مرتفعة جدًا.. والذين أفطروا كانت رخصتهم السفر وليس المشقة. ومثل هذه الفتاوى مرفوضة تمامًا ولا أتصور أن عالمًا يفتي بها خاصة وأن المباريات مهما بلغت مشقتها لا تستوجب أو تستدعي الإفطار.. كما أن ظاهرة الإفطار بين اللاعبين قلت كثيرًا عن ذي قبل. وأصبح اللاعب المفطر ظاهرة شاذة جدًا في الوسط الرياضي الذي صار في الفترة الأخيرة من أكثر الأوساط التزامًا بالأخلاق والتعاليم الإسلامية.
بالمناسبة بمَ تفسر تزايد ظاهرة الالتزام في الأوساط الرياضية؟
بالفعل هناك إقبال شديد بين اللاعبين على الالتزام بالإسلام، ويزيد باستمرار خاصة في شهر رمضان. فالوسط الرياضي في رأيي أكثر تقبلاً للإسلام لأن اللاعب دائمًا بحاجة إلى النصر والتوفيق وهو ما يجعله دائم الاتصال بالله، كما أن الرياضة تعود الإنسان على الالتزام وتجعله جزءًا من تكوينه إذ لا بد من النوم مبكرًا والانتظام في التدريب والغذاء، وضبط والأعصاب، وعدم تضييع الوقت وعدم الانغماس في الملذات .. الخ، وهذه كلها صفات إسلامية في الأساس، وتجعل اللاعب بدوره أقرب إلى الالتزام بالسلوكيات والأخلاق الإسلامية.. وهذا ما نجد أثره حاليًا في الملاعب فقد صار الالتزام سمة غالبة بين اللاعبين خاصة الشباب، وهذا في رأيي يرجع إلى تأثير الصحوة الإسلامية.
وأنت كيف تعيش شهر رمضان الكريم؟
في رمضان أحاول أن ألغي كل التزاماتي على قدر المستطاع وأبتعد قدر الإمكان عن الدنيا سعيًا للتقرب إلى الله فلا أخرج من المنزل إلا للضرورة. وأحاول الحفاظ على الصلوات في جماعة بالمسجد.. خاصة صلاة العشاء والتراويح، حيث أصلي بصحبة عدد من زملائي في مسجد نادي الصيد، خلف إمام شاب يصلي بنا القيام بجزء كامل.. أما في العشر الأواخر من الشهر فأقضيه معتكفًا في المسجد ولا أخرج منه إلا ليلة العيد، وفي رمضان أحاول الالتزام بورد ثابت من القرآن الكريم (رفض تحديد قدره) وأواظب على حضور حلقات ترتيل القرآن الكريم، ومجالس الذكر. وإذا تصادف رمضان مع وجود تجمعات أو معسكرات رياضية للفريق نحاول التجمع قبل التدريب أو بعده في حلقة جماعية لتلاوة القرآن.. وكذلك أيضًا بالنسبة لأذكار الصباح والمساء حيث نحرص دائمًا على أدائها بشكل جماعي، وأحيانًا نذهب إلى أحد دروس العلم التي تشهدها مساجد القاهرة، ومن الدعاة الذين أحرص على حضور دروسهم ومتابعتها د/ عمر عبد الكافي والشيخ/ وجدي غنيم.. وهما من أكثر الدعاة تأثيرًا خاصة بين الشباب، كما أحرص على متابعة فضيلة الشيخ/ يوسف القرضاوي من خلال الفضائيات، وأُفضل قراءة كتبه كثيرًا وسماع أشرطة محاضراته وخطبه.
لكن ما أكثر الأشياء عندك ارتباطًا برمضان؟
صلة الرحم/ ففي رمضان أُكثر من زيارة الأهل والأقارب.. حيث تظللنا أجواء الرحمة والتسامح فتسود العلاقات الأسرية والعائلية المشاعر الدافئة، وكثيرًا ما نلتقي على قراءة قرآن أو مجلس علم وتغلب على زياراتنا الروح الدينية الخالصة. أما أكثر ما يرتبط وجدانيًا برمضان فهو الإحساس بالتعاطف والشفقة تجاه الفقراء والمساكين خاصة الذين لا يسألون الناس إلحافًا؛ إذ يرقق رمضان قلوبنا تجاههم، ويصبح المسلمون مثل الجسد الواحد بين المؤمنين.
ذكريات رمضانية لا تُنسى؟
كانت في شهر رمضان الماضي 1419 وكنت معتكفًا في العشر الأواخر وانتابتني حالة من التسامي أحسست فيها بقرب من الله، وكان أكثر دعائي بأن يرزقني الله حج بيته الحرام.. والحمد لله خرجت من رمضان بعزم أكيد على الحج حتى منّ الله عليَّ به.. لكن ما زال هذا الاعتكاف ماثلاً في ذهني. وقد كان علامة فارقة في حياتي. وبقدر ما استمتعت فيه بالعبادة والسمو الروحي فقد شعرت فيه بندم شديد على ما فاتني، وأحسست لأول مرة بقيمة رمضان وعظمته، وتمنيت لو كان العام كله رمضان
ــــــــــــــــــــ(1/120)
د.صالحة عابدين -رئيسة اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل
نسعى لإقرار ميثاق إسلامي لحقوق المرأة والطفل لا يصطدم بالشريعة .
الخادمات الأجنبيات خطر يهدد مستقبل النشء المسلم وعلى الأمهات القيام بأدوارهن.
أتمنى أن لا يمر رمضان هذا العام إلا وقد تحررت جميع الأقليات الإسلامية.
أجرى الحوار: أجرى الحوار / مجاهد مليجي
* في البداية نود أن نتعرف على أهداف اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التي ترأسينها؟
** اللجنة كما هو معلوم تتبع المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة والذي يرأسه شيخ الأزهر بحكم منصبه وفقا لقانون المجلس ومقره موجود بالقاهرة ،كما أن جميع المنظمات الإسلامية الدعوية والإغاثية أعضاء فيه وتعمل من خلاله واللجنة التي أشرف برئاستها هي لجنة تهتم وتركز على شئون المرأة المسلمة والطفل المسلم و نشأت بعد انعقاد مؤتمر بكين وباركها الشيخ جاد الحق علي جاد الحق وإدراك خطورة المخطط الاستعماري العالمي الذي يسعى للنيل من المجتمعات الإسلامية تحت دعاوى التحرر والإبداع وقمنا بإرسال كثير من البيانات التي تحصر فيها جميع مشاكل المرأة المسلمة عندنا وهي تتركز في مشاكل انتشار الأمية و سوء الأوضاع الصحية، و ضعف الكفاءة والتنمية البشرية، وتأخذ اللجنة على عاتقها منذ تأسيسها إبراز والتأكيد في مختلف المنتديات على الإهمال الذي تعاني منه المرأة المسلمة حتى أدركوا أن موضوع المرأة المسلمة لم يأخذ حقه الكافي من الدراسة ووضعناه في بؤرة الاهتمام ، وبينما العالم كله يركز على الحقوق فقط فنحن المسلمون نتناول الحقوق والواجبات من وجهة إسلامية متكاملة .
* هل فكرت لجنتكم الموقرة في وضع ميثاق للمرأة والطفل المسلم بحيث يراعي خصوصية المجتمعات الإسلامية ؟
** لقد فكرنا بالفعل في وضع ميثاق إسلامي للمرأة والطفل بحيث يراعي خصوصية المجتمعات العربية والإسلامية ولازلنا ندرس إمكانية إصدار هذا الميثاق للمرأة المسلمة والطفل المسلم في العالم حتى نفرق بين نظرة الإسلام المنبثقة من الإيمان بالله ومراعاة الضوابط العقائدية و الأخلاقية وبين النظرة الغربية للمرأة والطفل والتي لا تكترث بهذه الأمور، كما أنه لابد من وضع أيدينا أولا على المشكلة ثم نصفها ثم نضع الحلول لها بما يناسبها في مجتمعات الأقليات المسلمة في العالم أجمع بصفة خاصة والمجتمعات العربية والإسلامية عامة ،حيث إن الجميع لديهم مشاكل تتباين حسب المكان الذي تحدث فيه، ففي فرنسا وبلجيكا يواجه المسلمون مشاكل حرية المسلمة في أن ترتدي ما يتناسب مع ما أمر به الله .كما أن هذه الظاهرة بدأت في الانتشار حيث صعب على المرأة المسلمة احتفاظها بوظيفتها أو مواصلة تعليمها في مدارس أو جامعات الغرب رغم أن الغرب يملأ الدنيا ضجيجا بالديمقراطية وحقوق الإنسان .!!
* باعتباركم أقمتم في بلاد الغرب هل هناك اختلاف بين وضع المرأة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وفي المجتمعات الغربية ؟
** بالتأكيد هناك اختلاف وطبيعة هذا الاختلاف بين المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية وفي المجتمعات الغربية تنطلق من الاختلاف الجوهري في القيم الدينية والأخلاقية التي تعتمد عليها المرأة المسلمة والمرأة الغربية إذ نجد أن اكثر من 50% من الغربيين رجالا و نساء متحررين جملة من الديانة بصفة عامة حتى لا تحصل الكنيسة منهم على ضريبة الديانة بينما في مجتمعاتنا الإسلامية نجد أن المرأة تستمد كرامتها وعزتها من ارتباطها بدينها على العكس من نظيرتها الغربية، كما أنه في الغرب الفردية تسيطر على تفكيرهم بشكل ليس له مثيل على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي حيث إنهم يعتبرون الشخص هو المحور الأساسي في المجتمع، والتركيز على الفردية في كل شئ هو السبب الأساسي في امتلاء حياتهم بالمشاكل ، بينما في العالم الإسلامي يختلف الأمر كما قلنا حيث الدين هو محور الحياة العامة والخاصة ومفاهيم التعاون على البر والتقوى والتكافل وصلة الأرحام وتماسك الأسرة وغيرها من المفاهيم تجعل الاختلاف جذريا بيننا وبينهم .
* هل يختلف مفهوم حقوق المرأة بين الإسلام والغرب؟ ولماذا ؟
** حقوق المرأة في الإسلام لا تختلف عن مثيلاتها في الغرب بل تفوقها بكثير بصفة عامة فمثلا ليس على المرأة المسلمة مسئولية مالية لرعاية أسرتها وهى مسئولية الرجل تماما 100% بينما في الغرب المسئولية مشتركة وتجبر المرأة على ذلك، بل في أحيان كثيرة تتحمل المرأة عبء الإنفاق على الأسرة في وجود رجل معها ولكنه لا يعولها، وهناك العديد من الامتيازات للمرأة المسلمة لاوجود لها في المنظومة الغربية، كما أن حق إجازة الأمومة في عالمنا الإسلامي لا يعرفها الغرب وهناك الكثير والكثير الذي تتميز به المرأة المسلمة عن نظيرتها في الغرب بغض النظر عن بعض الدعايات التي يتشنج بها الغرب للنيل من الإسلام ، وليس ذلك بأكثر في إطار حملاته المنظمة لتشويه صورة الإسلام.
* هناك من يطالب بالعودة إلى التراث الإسلامي في دراسة علومنا الاجتماعية . فما رأيك في ذلك ؟
** لا شك أن هذا مطلب عادل ،ولابد أن تنبع دراسات العلوم الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية من داخل المجتمعات العربية والإسلامية نفسها لأننا لا نستطيع أن تقول أن كل شئ في العلوم الغربية يصلح تماما لتطبيقه على مجتمعاتنا العربية والإسلامية ولكن هناك خصوصية في الدراسات الاجتماعية من بيئة لأخرى داخل القطر الواحد فما بالنا باختلاف الدين والتاريخ واللغة والثقافة والعادات والتقاليد والظروف التاريخية؟ كل هذا يجعل من المستحيل أن تنطبق العلوم الاجتماعية الغربية على مجتمعاتنا الإسلامية ولابد من أسلمة العلوم الاجتماعية ومنطلقاتها و أدواتها، وهناك في الغرب تفكيرهم ومنطلقاتهم مادية إلحادية لا تصلح للمجتمعات الإيمانية ، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يوجد بينهم النادر جدا جدا الذي قد يتفق معنا في بعض المنطلقات مثل (ايفاستاكونس) ولا يمنع أن نتواصل مع أمثال هؤلاء كما قال بذلك ابن خلدون .
* نتيجة للدش والقنوات الفضائية الغربية والإنترنت المنتشرة في البلاد الإسلامية، كيف نحمى أطفالنا وشبابنا من العادات الغربية المدمرة للدين والأخلاق ؟
** هذه بلا شك مسئولية جسيمة تقع على عاتق الإعلام في عالمنا الإسلامي شاء أم أبى ولابد أن يقوم الإعلام في العالم الإسلامي بهذا الدور بدلا من تكرار النموذج الغربي المرفوض دينا وعقيدة وخلقيا في آن واحد ، وأذكر أننا قبل 4 سنوات قد نظمنا مؤتمرا ضخما تحت عنوان " مسئولية الإعلام في الإسلام " و قمت بكتابة ورقة مفصلة عن "مسئوليات الصحفيين المسلمين نحو العالم كله" ويجب عدم التهاون في هذه الأمور لما لها من خطر عظيم على مستقبل أمتنا في الألفية الثالثة .
* تنتشر في الأحياء الراقية والمجتمعات الغنية ظاهرة الخادمات والمربيات الأجنبيات فما هي من وجهه نظركم خطورة الخادمات الأجنبيات على النشء في المجتمعات الإسلامية ؟
** إنها بلا شك تؤثر على الأطفال تأثيرا سلبيا من ناحية العقيدة وقوة الدين لاسيما وأن أغلبهن من غير المسلمات ،وعلاج هذا الوضع يكمن في تشجيع الأمهات على القيام بمسئوليتهن تجاه أطفالهن والتخفف من استخدام الخادمات ،وستنتهي هذه الظاهرة بعد أجيال إن شاء الله في حال بداية الأمهات في القيام بهذا الدور الذي خلقن من أجله ، وإذا بدأن من اليوم بحيث تكتفي الخادمات بالمساعدة في أعمال البيت والتنظيف بينما تستقل الأم بالتربية والإعداد لأطفالها على المعاني الإسلامية الصحيحة ،بل وتسعى لدعوة هذه الخادمة للإسلام حال كونها غير مسلمة عمليا ونظريا .
* شيء تحب د. صالحة أن يتحقق في رمضان ؟
** أحب أن يحدث نهوض بالمرأة المسلمة فتزول عنها أميتها وتحتل المكانة المتميزة لها في تربية وإعداد الجيل القادم الذي سيتحقق على يديه النصر للإسلام والمسلمين إن شاء الله ، كما أتمنى أن لا يصبح بين الأقليات الإسلامية مسلم واحد يعاني الظلم والقهر والجوع والمرض كما هو حادث اليوم في الشيشان وكشمير وداغستان ومن قبل كوسوفا والبوسنة، وأن تحدث وحدة حقيقية للأمة الإسلامية ونهضة اقتصادية واجتماعية ،وأن تختفي كل أشكال العنف من المجتمعات العربية والإسلامية ، و ... غير ذلك آلاف الأماني ولكن أنى تتحقق ؟وعموما ليس ذلك على الله ببعيد
* ماذا تتمنى د. صالحة من الله أن يرفعه عن الأمة في رمضان ؟
** أمنيتي في هذا الشهر المبارك أن يستجب الله لنا دعاءنا ودعاء الملايين من المسلمين بأن يزيل هذه الغمة عن الاقليات المسلمة التي تعاني من الاضطهاد والتعذيب والتشريد والذبح والإقصاء وكل ما لم يخطر على بال إنسان من وسائل جهنمية يسلكها أعداء المسلمين والإنسانية كما حدث في البوسنة ويحدث اليوم في كشمير وفلسطين وغيرها من الأماكن التي يلاقي فيها المسلمون العنت والاضطهاد
ــــــــــــــــــــ(1/121)
الشيخ محمد جبريل -التراويح في رمضان تؤكد أن المسلمين بخير
القاهرة داود حسن
بالرغم من أن صلاة التراويح في مصر أصبحت ظاهرة عادية أن ترى جميع المساجد عامرة بالمصلين حتى يخرج العشرات إلى الشوارع للصلاة، إلا أن مسجد عمرو بن العاص أكبر وأول مسجد بني في مصر يظل أكثر المساجد حظًا في عدد المصلين والذين يصل عددهم ليلة القدر في ليلة السابع والعشرين من رمضان إلى ما يقرب من نصف مليون مسلم من مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية، بل إن الكثيرين منهم من خارج مدينة القاهرة أتوا من المحافظات أو من أبناء الدول العربية والإسلامية حرصوا على صلاة التراويح، وخاصة ليلة القدر خلف الأمام الشاب محمد جبريل الذي منحه الله صوتًا جميلاً يؤثر في قلوب المصلين قبل آذانهم؛ خاصة أثناء ابتهاله بالدعاء في القنوت، ويكون المشهد رائعًا عندما يمتلئ المسجد عن آخره، وتمتلئ الشوارع والأزقة والميادين المحيطة بالمسجد في تظاهرة جميلة أثناء تأدية إحدى شعائر المسلمين.. الجميع فيها ينتظر رحمة من ربه، وتجاوزًا عن سيئاته ونصرًا لأمته. في السطور القادمة لقاء خاص مع فضيلة الشيخ محمد جبريل. .
فضيلة الشيخ جبريل.. كيف كانت بدايتك مع القرآن؟
لقد بدأت مع القرآن منذ نعومة أظفاري في كتَّاب القرية التي ولدت فيها "لمحوريا مركز شبين القناطر قليوبية"، حيث حفظت القرآن كله ولم يتعد عمري تسع سنوات، وكان لنشأتي الريفية وسط أسرة متدينة تحب القرآن الأثر الكبير في أن يكون لي نصيب من القرآن، وكذلك كانت القرية كلها تحب القرآن، مما يساعد على التفوق، وقد كنت أجمع بين حفظ القرآن والتفوق في الدراسة خلال كافة مراحل التعليم منذ الابتدائية، وحتى تخرّجي من كلية الشريعة والقانون من جامعة الأزهر.
ومَنْ مِن الأشخاص تأثرت بهم في حياتك؟
لقد تأثرت بوالدي بارك الله فيه، حيث كان يتابعني يوميًا بعد عودتي من الكتّاب، ويراجع لي ما حفظته حتى يثبت القرآن في قلبي، كل ذلك رغم أن شيخ الكتّاب كان لا يتركني إلا بعد أن يتأكد من أنني حفظت حفظًا جيدًا، كذلك تأثرت بشيخ الكتاب، وهو الشيخ أمين سليمان، ثم الشيخ عامر عثمان، وهو الذي له الفضل في تعليمي أحكام التلاوة والأداء السليم. وهؤلاء جميعًا كان لهم فضل عليَّ في أن أفوز بالمراكز الأولى في كل مسابقات حفظ القرآن في مصر والعالم.
هل سبق لكم قراءة القرآن وإمامة المسلمين في مساجد غير مسجد عمرو بن العاص؟
نعم.. سبقت لي المشاركة في العديد من المساجد قبل مسجد عمرو بن العاص وبعده، فبعد عودتي من الأردن حيث كنت مدرسًا للقرآن في الجامعة الأردنية، وقارئًا للإذاعة والتلفزيون، ومعدًا لبعض البرامج الدينية، وإمامًا لأكبر مساجدها ،بعد عودتي عام 1987، صليت في مساجد الهرم المختلفة، حتى ضاقت وازدحمت بالمصلين، حتى جاءت دعوة د.عبد الصبور شاهين المسئول عن مسجد عمرو بن العاص في عام 1988 لي للصلاة في المسجد، وحتى الآن لم أنقطع عن الصلاة في هذا المسجد المبارك في رمضان، وظللت أرفض الدعوات التي توجه لي للصلاة خارج مصر خلال شهر رمضان أكثر من سبع سنوات إكرامًا للمسلمين في هذا البلد الطيب، حتى استخرت الله تبارك وتعالى وجمعت بين الصلاة في المسجد وفي مساجد أخرى خارج مصر.
وكيف نجحت في ذلك؟
أحرص على أن أقضي أسبوعًا كاملاً داخل مصر لأتمكن من الصلاة في مسجد عمرو بن العاص، وأقضي باقي الشهر متنقلاً بين المراكز الإسلامية والمساجد الخاصة بالجاليات الإسلامية في العالم، ورغم الإرهاق الشديد الذي يصيبني إلا أنني أحاول أن أرضي كافة المسلمين.
تُرى ما هو سبب ارتباطك بمسجد عمرو بن العاص بالتحديد؟
الارتباط بمسجد عمرو بن العاص هو ارتباط عميق مبارك، ذلك أنني عندما أصلي في المسجد أشعر وكأني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن معظم الذين شاركوا في بنائه قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بنى القبلة التي نصلي فيها الآن هو الصحابي عبادة بن الصامت، وهو من الصحابة الكرام، فالحقيقة هناك إحساس أعجز عن وصفه عند دخولي هذا المسجد المبارك، ولذلك كنت أرفض الدعوات التي توجه لي من الخارج لأكمل رمضان بها إكرامًا لهذا الخير، ولذلك فأنا متمسك به، وأسأل الله أن يجعل ذلك خالصًا لوجهه الكريم.
كان لك طلب للإعلام المصري بشأن نقل صلاة التراويح فيه على الهواء مباشرة؟
نعم.. أتمنى من المسئولين عن الإعلام في مصر أن ينقلوا هذه الصورة المؤثرة على الهواء مباشرة للعالم الخارجي، ولمن لا يستطيع أن يراها في مصر، ليعلم الجميع أن مصر بخير، ولن ينقطع عنها الخير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وما هي أهم المعاني التي تستشفها من خلال صلاتك وهذه الجموع التي تقف خلفك؟
المعنى الكبير الذي يتأكد عندي أن المسلمين فطرتهم سليمة، وهم يحتاجون لمن يأخذ بأيديهم إلى الله، وهم كما ترى يزيدون في العدد عاما بعد عام. وأدعو الله ألا يكونوا غثاء كغثاء السيل، وأن يكون هذا العدد نفعًا للإسلام والمسلمين.
وبماذا تفسر حب الناس لك والحرص على الصلاة خلفك؟ خاصة وأنهم يمثلون شرائح مختلفة من المسلمين؟
حب الناس نعمة من الله، وهذا هو رأسمالي، وسبحان من بيده القبول، وهو القائل ]لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وأدعو الله أن يرزقني الصدق والإخلاص في القول والعمل.
وماذا عن برنامجك اليومي في رمضان وفي غير رمضان؟
برنامجي يبدأ مع صلاة الفجر أولاً ثم مراجعة القرآن وهو الورد اليومي لي، ثم متابعة بعض الأعمال الخاصة، والراحة في وقت القيلولة إن تيسَّر الحال، ثم النزول إلى صلاة المغرب والعشاء ضمن برنامج ثابت في المساجد المختلفة، هذا إن كنت في مصر، وعادة ما أسافر كثيرًا على مدار العام لتلبية الدعوات الخارجية.
رغم الدخل المادي الكبير الذي يجلبه إحياء ليالي المآتم إلا أنك ترفض ذلك. لماذا؟
لأنني أشعر أن الله اصطفاني لأكون إمامًا للمسلمين، ويكفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له".
وماذا عن أسرتك؟
أسرتي صغيرة في حجمها كبيرة بالقرآن، والله رزقني بعمرو وعمره سبع سنوات، وسارة ثلاث سنوات، ويوسف ثمانية أشهر. وأرجو الله أن ينبتهم نباتًا حسنًا
ــــــــــــــــــــ(1/122)
رمضانيات بريطانية
بقلم/ زينب مصطفى
صباح الخير يا عزيزتي. صباح الخير مسز سميث.. تفضلي بالدخول. شكرًا.. فأنا في عجلة من أمري. فقط أحببت أن أقدم لك هذه الهدية الصغيرة، إنها علبة من التمر اللذيذ.. رأيته متوفرًا بكثرة في السوق، فعرفت أن شهركم المفضل قد اقترب.. تفضلي.. وشهر سعيد. هكذا ودعتني جارتي العجوز الطيبة، وتركتني في غمرة من مشاعر الشجن والحنين لأيام ذات مذاق خاص..
ذكريات من رمضان
كانت الفرحة برمضان تعلن عن نفسها قبل الشهر الكريم بشهور.. ولا يغيب عن ذاكرة القلب ذلك الحشد الهائل من الإعداد لرمضان، والذي كان لطفولة جيلي عالمًا سحريًا دائمًا تحفه الطقوس المبهجة التي تجعلنا مترعين بالسعادة. ورغم مرور السنين.. وكلما جاء رمضان يتألق وجداني بصور من الذكرى نسجتها الأيام بنبضات قلبي، فينساب من بعيد صوت الشيخ محمد رفعت عذبًا نديًا حاملاً لقلبي معاني الخشوع والأنس بالقرآن، وما زالت عيني تذكر أطياف ألوان الفوانيس في ضوء الشموع.. وما زلت أتنسّم رائحة تلك الأيام، وما أكثر ما كانت تحفل بالعبق والعبير والعطور. ترى هل ما زال المسحراتي يطوف الشوارع بسجله العتيق ودقاته الرتيبة! وهل يفرح أطفال الـ Internet بالمسحراتي، ويحملون له نفس مشاعرنا نحوه من الحب والرهبة؟!
مذاق آخر لرمضان
أمعنت برهة مع الذكريات ... وهاهو رمضان يدعوني في الغربة للاستعداد له ولإحيائه.. فرمضان هو رمضان في الشرق أو في الغرب يشحذ الهمم، ويفتح القلوب للعبادة والقرآن والعمل الصالح.
كما يختلف مذاق الشرق عن الغرب، يختلف مذاق رمضان في بريطانيا، لكنه مذاق متميِّز على أية حال، فالأيام في رمضان لا يفارقها هدوءها المعتاد، وليس ثمة مظاهر تغيير في الشوارع والأسواق، اللهم إلا في محلات بيع الطعام الحلال التي تعرض الأطعمة التي تلقى إقبالاً في رمضان من أبناء الجاليات الإسلامية المختلفة. وحديثًا بدأت بعض المحلات الشهيرة في عرض أنواع من التمور على وجه الخصوص مما يعد إشارة إلى وضع حاجات الجاليات المسلمة على قائمة الاهتمام.
صيام الأطفال المسلمين في مدارس بريطانيا
تستقبل الأسر المسلمة في بريطانيا كما في كل مكان على وجه الأرض تستقبل رمضان بفرحة خاصة، وتهيِّئ الصغار للتعود على الصيام كما تعدُّهم لمواجهة تساؤلات زملائهم ومعلماتهم عن سبب صيامهم، ويبدأ الأطفال المسلمون الصائمون رحلتهم اليومية إلى المدرسة غير مزوَّدين بـ Lunch Box وسط اهتمام كبير من المعلمات وإدارة المدرسة للتأكد من أن الأطفال غير مكرهين على الصيام، والتنبيه عليهم بالمبادرة بإخطار المعلمات لدى إحساسهم بأية رغبة في تناول الطعام. وكثير من المدارس تمنع الأطفال الصائمين من مزاولة الرياضة حرصًا على عدم إرهاقهم، في الجانب الآخر تدور حوارات لا تنتهي بين الأطفال عن الصيام وأسبابه، ويختلط الواقع بالخيال في عالم الأطفال، ويبهر جون بقدرة محمد على الصيام وترك الحلوى، وتشارك مرجريت فاطمة فرحتها برمضان، أما عن المدارس الإسلامية الخاصة فهي تحتفي بالأطفال الصائمين، وتشجعهم على ذلك دون ضغط أو إلحاح.
لقاءات مدرسية رمضانية
وكثيرًا ما تطلب أمهات مسلمات من إدارة بعض المدارس الحكومية خاصة التي يدرس فيها أطفالهن أن يُسمح لهن بلقاء تلاميذ بعض الفصول وتعريفهم بالإسلام كدين وحضارة، وكثير من المدارس ترحب بذلك، لأنه يدعم تلاقي الثقافات في مجتمع متعدد الثقافات، وفي مدينة نوتنجهام بوسط بريطانيا طلبت إحدى الأمهات وهي طبيبة مصرية من إدارة المدرسة الابتدائية التي يتعلّم فيها أطفالها أن تقدم لأطفال المدرسة تعريفًا برمضان، وظلت تلتقي بالأطفال يوميًا على مدار أسبوع لمدة نصف ساعة تعرض على الأطفال في كل مرة جانبًا أو معنى من معاني رمضان فتكلمهم مرة عن المسحراتي وترسمه لهم، ومرة عن فانوس رمضان، وتعلِّم الأطفال كيف يصنعونه من الورق الملون، وثالثة تخبرهم عن التمر وفوائده، ولماذا يفضل المسلمون الإفطار عليه، ورابعة تكلمهم عن الملائكة وليلة القدر، وخامسة عن القرآن، وأخيرًا عن كعك العيد، وتقدم لهم شيئًا منه. وقد أعجبت إدارة المدرسة بالمشروع، وطلبت من الطبيبة إعداد ملف كامل به، ضمته الإدارة إلى مكتبة المدرسة ليكون مرجعًا للتعريف برمضان كلما دعت الحاجة.
وكلما ذهبت تلك الطبيبة لاصطحاب أطفالها، يلتف حولها الصغار سائلين عن التمر والفانوس، ومتى يعود رمضان، وفي تعليق بريء قال لها مايكل الصغير: إن حكاية المسحراتي أجمل من الـ Fairy Tails(قصص الأشباح). ترى أينشأ جيل في بريطانيا يقبل الإسلام، ويعرف عنه ما يدعوه إلى أن يحبه؟! يبدو ذلك.
والجامعات أيضاً
ويتسع الاهتمام باستقبال رمضان والاحتفال به ليشمل الطلاب المسلمين في الجامعات والمعاهد العليا، فتجد في لوحات الإعلانات بالكليات المختلفة، بطاقات التهنئة بحلول الشهر الكريم، كذلك تتغير مواعيد بعض الدروس والاختبارات بما يتوافق ومواعيد الإفطار، وتحفل المساجد وغرف الصلاة بالأنشطة المختلفة من محاورات ولقاءات، وأصبح سمة مميزة في كثير من الجامعات في لندن الإفطار اليومي المجاني الذي يوفِّره اتحاد الطلاب بدعم من بعض المؤسسات الإغاثية، كذلك تتميز الإصدارات المختلفة من نشرات ومجلات، باحتفاء خاص بالشهر الكريم. ويمتدّ النشاط ليشمل بيوت ضيافة الطلاب والطالبات العام منها والخاص، فتشهد هي الأخرى أنشطة متميزة من إفطارات ومحاضرات، ولقاءات بشخصيات علمية، ويجذب هذا النشاط، وذلك التوادّ، والحرص على الإطعام، كثيرين ممن لا يعرفون عن الإسلام شيئًا فيدهشون لذلك الدفء وتلك الحميمية، وكثيرًا ما شهدت بيوت الضيافة إسلام فتاة أو شاب في رمضان الذي يثير مقدمه حوارات عديدة بين المسلمين وغيرهم، ويدعو كثيرين إلى معرفة الإسلام عن كثب.
وللأسر المسلمة نصيب:
وبعيدًا عن ساحات الدراسة في المدارس والجامعات تجد الأسر المسلمة متنفسًا في التلاقي في رمضان في المساجد ودور الرعاية الإسلامية. التي يقدر عددها بنحو ألف مسجد في بريطانيا، وتعتبر المدن الصغيرة أسعد حظًا؛ حيث تجتمع معظم العائلات في المسجد يوميًا للإفطار ثم لصلاة التراويح.
أما لندن الواسعة الشاسعة فإن الأماكن التي يكثر بها تجمعات المسلمين مثل شرق، وسط ، شمال غرب لندن تشهد حشودًا هائلة من الإقبال على صلاة التراويح، حتى إن المشاهد ليظن أنه في بعض أحياء القاهرة أو الإسكندرية في رمضان! ويشهد المسجد المركزي بوسط لندن إقبالاً كبيرًا من المصلين الذين يتسابقون للصلاة خلف الشيوخ الذين يحضرون خصيصًا لإحياء ليالي رمضان، ومن شدة الإقبال والزحام يظن البعض أن ذلك المسجد الفسيح قد استوعب كل المسلمين في لندن، غير أن عشرات وعشرات من المساجد في عديد من الأحياء تلقى كثيرًا من الإقبال، وتفتح كثير من المدارس الإسلامية مساجدها وقاعاتها لإحياء ليالي رمضان، حتى بعض المكتبات العامة في شمال غرب لندن تخصص بعض قاعاتها لإقامة صلاة التراويح.
وفي كل مكان تقام فيه الصلاة يلقى الأطفال رعاية خاصة، فالصغار دون سن التمييز تجالسهم بعض السيدات في غرف خاصة، مما يتيح للأمهات فرصة للصلاة، والأطفال الأكبر سنًا يؤدون الصلاة في صحبة والديهم.
ورغم البرودة الشديدة والأمطار واليوم الدراسي الطويل، ودوام العمل المرهق، إلا أن السابعة مساءً هي موعد اللقاء في ساحات المساجد أو المدارس لصلاة التراويح. وأصبحت هذه التظاهرة الليلية مألوفة لدى جيران المسجد، ويقبلونها طالما تتم في هدوء، وبلا صخب يجرح سكون الليل.
الاهتمام الإعلامي برمضان
وعبر الأثير هناك تسابق جميل، واستعداد خاص لاستقبال رمضان، وذلك عبر ما يعرف بـ "راديو رمضان"، ففي كل مدينة كبيرة في بريطانيا يقوم بعض الشباب المسلم بتوجيه بث إذاعي خصيصًا في شهر رمضان باللغات الإنجليزية والعربية والأردية والبنجابي، وتوجه البرامج للمسلمين ولأفراد المجتمع البريطاني بصفة عامة، وتتسم برامج راديو رمضان بالحيوية والتنوّع، ويغلب عليها مناقشة قضايا اجتماعية وسياسية وإعلامية، وتشمل لقاءات بشخصيات عامة وعادية، كما أن للأطفال أيضًا برامجهم التي تجذب اهتماماتهم.
وإن كان راديو رمضان في كل مدينة يغطي إرساله ساعات محددة فإن في لندن إذاعات رمضانية عديدة تكاد تغطي ساعات الليل والنهار، ورغم تعدد توجهات الإذاعات الرمضانية إلا أن راديو رمضان الإسلامي تفيض برامجه تنوعًا وحيوية، حتى أصبح الاستعداد لرمضان في السنوات الأخيرة يعني في جزء كبير منه استعدادًا للتجديد والإبداع عبر الأثير مع راديو رمضان.
أبواب الخير تُفتَح
ولأن رمضان شهر البر والرحمة، فإن الهيئات الإغاثية المختلفة تنشط نشاطًا ملحوظًا، وتنتهز فرصة إقبال القلوب في رمضان على الخير، وتتولى جمع الصدقات والتبرعات لدعم القضايا الإسلامية الساخنة، بدءاً بالجرح النازف أبدًا.. فلسطين ... حتى جرح اليوم الغائر.. الشيشان، وفي صلاة التراويح، وفي القنوت في الوتر.. يتصاعد التضامن والإغاثة بالدعاء، جنبًا إلى جنب مع الدعم المادي. رمضان في بريطانيا من الاستغراب إلى القبول وتمضي أيام وليالي رمضان في بريطانيا بمذاقها الخاص بها.. تسير بالمسلمين في خطى وئيدة.. وبرفق يتشربها نسيج المجتمع البريطاني.. عبر سنين وسنين.. قد تتحول نظرته إلى ذلك الوافد الصائم من دهشة واستغراب إلى فهم وتقبُّل، ومع التواصل الإنساني الراقي بقيم الإسلام قد يتحول التقبُّل إلى إقبال وقَبول.. فها هي مسز سميث تحب التمر، والصغار جون، ومارجريت يشاركون محمد وفاطمة فرحتهما برمضان!ورغم هذا القبول فإنه لازال أمام المسلمين الكثير ليكون لهم الدور الفاعل المنشود في المجتمع البريطاني ، والمجتمعات الغربية بشكل عام
وكل عام والإسلام بخير..
ــــــــــــــــــــ(1/123)
مدفع الإفطار عمره 560 عامًا
القائمون على إطلاقه يسمونه "الحاجة فاطمة"
محمد جمال عرفة القاهرة
"مدفع الإفطار ... اضرب"! "مدفع الإمساك ... اضرب"!.. مع هذه الكلمات التي يسمعها المسلمون بعد غروب شمس وقبل طلوع فجر كل يوم من أيام شهر رمضان يتناول المسلمون إفطارهم، ويمسكون عن تناول السحور منذ 560 عامًا. الكثيرون لا يعرفون متى بدأ هذا التقليد، ولا قصة استخدام هذا المدفع، وهناك العديد من القصص التي تروى حول موعد بداية هذه العادة الرمضانية التي أحبها المصريون وارتبطوا بها، ونقلوها لعدة دول عربية أخرى مثل الإمارات والكويت. وحتى علماء الآثار المصريون مختلفون حول بداية تاريخ استخدام هذا المدفع، فبعضهم يرجعه إلى عام 859 هجرية، وبعضهم الآخر يرجعه إلى ما بعد ذلك بعشرات السنين، وبالتحديد خلال حكم محمد علي الكبير.
فمن الروايات المشهورة أن والي مصر محمد علي الكبير كان قد اشترى عددًا كبيرًا من المدافع الحربية الحديثة في إطار خطته لبناء جيش مصري قوي، وفي يوم من الأيام الرمضانية كانت تجري الاستعدادات لإطلاق أحد هذه المدافع كنوع من التجربة، فانطلق صوت المدفع مدويًا في نفس لحظة غروب الشمس وأذان المغرب من فوق القلعة الكائنة حاليًا في نفس مكانها في حي مصر القديمة جنوب القاهرة، فتصور الصائمون أن هذا تقليد جديد، واعتادوا عليه، وسألوا الحاكم أن يستمر هذا التقليد خلال شهر رمضان في وقت الإفطار والسحور، فوافق، وتحول إطلاق المدفع بالذخيرة الحية مرتين يوميًا إلى ظاهرة رمضانية مرتبطة بالمصريين كل عام، ولم تتوقف إلا خلال فترات الحروب العالمية.
ورواية أخرى عن المدفع، والتي ارتبط بها اسمه: "الحاجة فاطمة" ترجع إلى عام "859" هجرية. ففي هذا العام كان يتولى الحكم في مصر والٍ عثماني يدعى "خوشقدم"، وكان جنوده يقومون باختبار مدفع جديد جاء هدية للسلطان من صديق ألماني، وكان الاختبار يتم أيضًا في وقت غروب الشمس، فظن المصريون أن السلطان استحدث هذا التقليد الجديد لإبلاغ المصريين بموعد الإفطار. ولكن لما توقف المدفع عن الإطلاق بعد ذلك ذهب العلماء والأعيان لمقابلة السلطان لطلب استمرار عمل المدفع في رمضان، فلم يجدوه، والتقوا زوجة السلطان التي كانت تدعى "الحاجة فاطمة" التي نقلت طلبهم للسلطان، فوافق عليه، فأطلق بعض الأهالي اسم "الحاجة فاطمة" على المدفع، واستمر هذا حتى الآن؛ إذ يلقب الجنود القائمون على تجهيز المدفع وإطلاقه الموجود حاليًا بنفس الاسم.
وتقول رواية أخرى مفادها أن أعيان وعلماء وأئمة مساجد ذهبوا بعد إطلاق المدفع لأول مرة لتهنئة الوالي بشهر رمضان بعد إطلاق المدفع فأبقى عليه الوالي بعد ذلك كتقليد شعبي.
وقد استمر المدفع يعمل بالذخيرة الحية حتى عام 1859 ميلادية، بيد أن امتداد العمران حول مكان المدفع قرب القلعة، وظهور جيل جديد من المدافع التي تعمل بالذخيرة "الفشنك" غير الحقيقية، أدى إلى الاستغناء عن الذخيرة الحية. أيضا كانت هناك شكاوى من تأثير الذخيرة الحية على مباني القلعة الشهيرة، ولذلك تم نقل المدفع من القلعة إلى نقطة الإطفاء في منطقة الدرّاسة القريبة من الأزهر الشريف، ثم نُقل مرة ثالثة إلى منطقة مدينة البعوث قرب جامعة الأزهر. وقد تغيّر المدفع الذي يطلق قذيفة الإعلان عن موعد الإفطار أو الإمساك عدة مرات، بيد أن اسمه "الحاجة فاطمة" لم يتغير، فقد كان المدفع الأول إنجليزيًا، ثم تحول إلى ألماني ماركة كروب، ومؤخراً أصبحت تطلق خمسة مدافع مرة واحدة من خمسة أماكن مختلفة بالقاهرة، حتى يسمعه كل سكانها، لكن أدى اتساع وكبر حجم العمران وكثرة السكان وظهور الإذاعة والتليفزيون إلى الاستغناء تدريجيًا عن مدافع القاهرة، والاكتفاء بمدفع واحد يتم سماع طلقاته من الإذاعة أو التليفزيون، وأدى توقف المدفع في بعض الأعوام عن الإطلاق بسبب الحروب واستمرار إذاعة تسجيل له في الإذاعة إلى إهمال عمل المدفع حتى عام 1983 عندما صدر قرار من وزير الداخلية بإعادة إطلاق المدفع مرة أخرى، ومن فوق قلعة صلاح الدين الأثرية جنوب القاهرة، بيد أن استمرار شكوى الأثريين من تدهور حال القلعة وتأثر أحجارها بسبب صوت المدفع قد أدى لنقله من مكانه، خصوصًا أن المنطقة بها عدة آثار إسلامية هامة.
ويستقر المدفع الآن فوق هضبة المقطم، وهى منطقة قريبة من القلعة، ونصبت مدافع أخرى في أماكن مختلفة من المحافظات المصرية، ويقوم على خدمة "الحاجة فاطمة" أربعة من رجال الأمن الذين يعدون البارود كل يوم مرتين لإطلاق المدفع لحظة الإفطار ولحظة الإمساك
ــــــــــــــــــــ(1/124)
الأديبة الإسلامية سهيلة زين العابدين
رئيسة لجنة الأديبات المسلمات برابطة الأدب الإسلامي العالمية
تجليات نسمات الفجر بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وراء إنجاز أكثر من 40 عمل أدبي.
أبتهل إلى الله أن يرفع عن شعب الشيشان برابرة الروس ويكتب لهم البقاء.
كتاب مسيرة المرأة السعودية أثار جدلا و أصاب الهدف في الصميم .
صمت رمضان منذ الصغر وكنا نبكي لأمنا حتى توقظنا للسحور .
القاهرة / ماجدة أبو المجد
من مواليد المدينة المنورة ولكنها لا تعرف تاريخ ميلادها بالضبط كما صرحت لنا وفتحت قلبها بكل الحب لتحدثنا عن نفسها وهي من اشهر الأديبات الإسلاميات المعروفات ومقررة لجنة الأديبات الإسلاميات برابطة الأدب الإسلامي العالمية ..إنها الأديبة سهيلة زين العابدين حماد والتي تقول : " ولدت بالمدينة المنورة ولم أعرف بالضبط ما عمري لأنه لم يكن وقتها تستخرج شهادات ميلاد وعندما دخلت المدرسة الابتدائية استخرجوا لي شهادة جعلتني اكبر من أخواتي وكان هذا أسلوب متبع ولم يكن يخص الفتيات فقط بل الجنسين وكان وضعا عاما للجميع ولكن والحمد لله فالأجيال الجديدة تستخرج لهم شهادة ميلاد بعد الميلاد مباشرة عكس ما كان على أيامنا " .
ما هو الذي تتمنَّيْنَ أن يتحقق في رمضان ؟
**أتمنى أن يتحرر بيت المقدس وكل فلسطين، وأن نملك قرارنا بأيدينا وأن نكون أصحاب هذا القرار و ألا يفرض علينا نحن العرب المسلمين مصيرنا بعقد الاتفاقيات الدولية كما أتمنى أن نخلع ثوب الخضوع والذل والمهانة وأن نكون أقوياء لأن ديننا الإسلامي دين قوي.
ماذا يمثل الوالد للأديبة المسلمة سهيلة حماد ؟
** والدي كان أمام وخطيب المسجد النبوي، وكان داعية جاب دول العالم لاسيما الهند حيث ظل بها سنوات طويلة كما عرض عليه قضاء المدينة أكثر من مرة ولكنه كان يرفض حتى يتفرغ للعلم والدعوة ويكون حرا طليقا من تقييد المنصب له ، وكان والدي الشيخ زين العابدين حماد متخلق بأخلاق القران ويحمل صفات العلماء الأوائل وكان بمثابة الوالد والقدوة وكل شيء في حياتي وقد ربانا على معايشة السيرة النبوية معايشة حية حقيقية حيث يأخذنا إلى جبل أحد ويشرح لنا ما حدث بالضبط كما يأخذنا إلى منطقة آبار بدر ، وهكذا، كما غرس فينا كل معاني الجرأة والشجاعة في الحق وان نقول الحق ولا نبالي وهذا هو خطنا أنا واخوتي حتى اليوم منذ فارق والدي عليه رحمة الله الحياة، ولكن بشرط أن يكون من منطلق إسلامي صحيح لتوضيح الأخطاء والمطالبة بتصحيحها وفق هذا المنهج ودوما أجد التشجيع مادمت انتقد بموضوعية وحجتي قوية وعلى حق ، وكانت بدايات كتابتي في حياة والدي وكان التقليد المتبع هو الكتابة بأسماء مستعارة للنساء على وجه الخصوص إلا أنني من أول يوم بدأت الكتابة باسمي الصريح .
ما هو الشيء الذي تتمنَّيْنَ أن يرفعه الله عن أمتنا الإسلامية ؟
** أتمنى أن يدحر الله بصاعقة من عنده الروس البرابرة مصاصي الدماء المسلمة في الشيشان وأن يتحرك العالم الإسلامي بعد طول هوان وتخاذل لنصرة أطفال ونساء وكهول المسلمين في الشيشان قبل أن يبيدهم ذئاب الروس عن آخرهم ويفرغوا القوقاز من المسلمين ، كما أتمنى أن يرفع عنا ربنا ما بنا من غم وأن تتوحد الأمة الإسلامية وتكون كلمتها واحدة ضد أعدائها ، وأن نتفق فيما بيننا كدول عربية على قرار واحد ونصمم على تنفيذه .
على طول التاريخ الإسلامي كان رمضان شهرا للانتصارات وتفريج الكروب والنفحات الطيبة فهل أصبت شخصيا شيئا من هذه النفحات؟
** بحمد لله كان رمضان وسيظل شهر العمل الجاد وليس وقتا للكسل والخمول ولقد أنجزت معظم أعمالي الأدبية في الشهر الكريم فمثلا مؤلف " السيرة النبوية " كانت بدايته ونهايته في رمضان، وكذلك عوامل خروج المرأة لسوق العمل كان في رمضان وأيضا الحياة الاجتماعية في شبة الجزيرة العربية كان في رمضان، كما أن هناك العديد من الأعمال منها المرأة المسلمة والإبداع، والأديبة بين قهر الرجال وإهمال النقاد، وأيضا إعداد الأديبة الإسلامية وعمق الروح وصلب الفكر، وكانت لأجواء وروح رمضان تأثير علىّ شخصيا حيث كانت أجواء المدينة المنورة تؤثر على إبداعي الأدبي فكانت نسمات الفجر تحمل رائحة بخور " طيب العود " الموجود بالقرب من الحجرة النبوية كما كنت أكتب على سماع صوت الآذان مع تخيل كيف كان صوت بلال رضي الله عنه وكانت هذه بمثابة دفعات ونفحات أعانتني على الإبداع الحقيقي .
ما هي أهم مؤلفاتكم خلال مسيرتكم الأدبية ؟
** أما بالنسبة للمؤلفات الأدبية فهي كثيرة أيضا حيث أسهمت في وضع " نظرية الأدب الإسلامي "، و" النظرية النقدية " وتطبيقها، كما أصدرت سلسلة " الفكر العربي تحت مجهر التصور الإسلامي" وهي مكونه من خمسة عشر جزءا ، وأيضا " كيف نعد الأديب الإسلامي"، و " مفهوم الأدب الإسلامي"، وفى المجال التطبيقي لدي كتاب " فكرة توفيق الحكيم تحت مجهر التصور الإسلامي" مكون من 3 أجزاء ونشر في ملحق الندوة الأدبي، وكتاب " إحسان عبد القدوس بين العلمانية والإسلام "، وكتاب " تأثير الفكر الغربي على فكر طه حسين "، وكتاب " نوال السعداوي بين الإباحية والفرويدية "، و" أدونيس رائد الحداثة الملحدة"، و" أثر المذاهب الغربية على الفكر العربي "
أما احدث الأعمال الأدبية فهي السيرة النبوية في كتابات المستشرقين وهى دراسة منهجية تطبيقية على المدرسة الإنجليزية ومكونة من 3 أجزاء وتناولت 15 مستشرقا بآرائهم والرد عليها .وأيضا "وماذا بعد يا قدس " ، و " المرأة المسلمة والعولمة " .
وهل كان من بينها ما أثار الجدل ، ولماذا ؟
** مؤلفاتي والحمد لله كثيرة جدا وتزيد عن الأربعين، وأغلبها في رمضان ومنها الأدبي، والاجتماعي، والتاريخي، ومنها ما يخص المرأة والأسرة، ولعل أول كتاب لي كان بعنوان "المرأة السعودية إلى أين " ويدرسه الآن طلبة كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وطالبات كلية البنات كمادة أساسية للإطلاع، ولقد أحدث هذا الكتاب ضجة كبيرة على الصعيد المحلي والعربي والعالمي، وكتبت عنه صحيفة واشنطن بوست ، وكرستيان لو، وانقسم القراء بشأنه إلى فريقين أحدهما مؤيد والأخر معارض، لأنني ناقشت فيه قضايا انطلاق المرأة السعودية بسلبياتها وإيجابيتها، وبمنتهى الصراحة والجرأة وكانت هي المرة الأولى التي تطرح فيها مسيرة المرأة السعودية بهذه الصراحة بما تنطوي عليه من سلبيات، خاصة نظرة المرأة السعودية لنفسها ونظرة المجتمع السعودي المجحفة لها وما ترتب على ذلك من ضياع لحقوقها و إهدار لكرامتها وإنسانيتها، فخلصت إلى ضرورة العودة إلى الإسلام الحنيف لنستقي منه مبادئنا لنصلح حال المرأة العربية المسلمة بصفة عامة والمرأة السعودية بصفة خاصة لأنها حفيدة الصحابيات الطاهرات والمفروض أن تكون قدوة لجميع نساء المسلمين بسبب موقعها وتواجدها في أرض النبوة الذي يحملها مسئولية الدفاع عن الدعوة الإسلامية.
كما ناقشت أيضا ما وصلت إليه المرأة السعودية خارج وطنها السعودية من تبرج وسفور حاملة بذلك رسالة سلبية للعالم كله بأن الحجاب والالتزام به ليس فرضا إسلاميا وهي تشوه صورة الإسلام بدون قصد في عيون أعدائه وهذا أمر ترفضه كل مسلمة غيورة على دينها ولا تفرط فيه .
كما ناقش الكتاب أيضا نظرة المجتمع السعودي المجحفة للمرأة وتحميلها ما يفوق طاقتها من أعباء فهي أم ، وزوجة ، وربة منزل، ومفروض عليها أن تكون مثالية فيما تؤديه من أدوار وما تتحمله من مسئوليات رغم ما تعانيه من ظلم وضياع لحقوقها التي منحتها الشريعة الإسلامية إياها وأبسطها حقها في التعليم مما انعكس على وضعها ومسيرتها و إنجازاتها وعطائها وبالتالي واجهت صعوبات كثيرة .
واضح أن مادة الكتاب فيها انفعال لموقف .. فما قصة هذا الكتاب ؟
** لقد كانت هناك دوافع دفعتني لتأليف هذا الكتاب فعندما كنت في بلاد المغرب العربي ودار بيني وبين زميلة مغربية علمانية، مفتونة بالفرنسيات في زيهن وطريقة تحاملهن على الإسلام والشريعة الإسلامية، نقاش حول الحجاب وأنه فرض على كل مسلمة وأنه حماية لها وصون لعفافها وكرامة لنفسها وعرضها فكان ردها الوحيد علىّ "أنت تتحدثين عن الحجاب لكنك لم ترين بنات بلدك في الخارج كيف وصلن إلى أعلى درجات التبرج وتطالبينني بالحجاب " فاستفزني هذا الكلام ودفعني لان أكتب هذا الكتاب قبل أن أغادر المغرب وأنا في المحمدية وعندما عدت إلى المدينة كتبت عدة مقالات مسلسلة بجريدة المدينة , ثم اتصلت بي دار للنشر تعرض تجميع هذه المقالات في صورة كتاب فكان كتاب مسيرة المرأة السعودية إلى أين والتي تناولت مقدمته هذا الموضوع .
ماذا عن عمل المرأة من وجهة نظرك ؟
** من سماحة الإسلام أنه لم يوجب عمل المرأة ولم يحرمه ولم يستحسنه، ولقد أثبتت الدراسات الأمريكية أن 80 % من النساء الأمريكيات يفضلن العودة للبيوت لأن دور الحضانة فشلت في تربية أبنائهن ، وجاء هذا التقرير في ورقة صحفية أمريكية عندما حضرت مؤتمر المرأة بين الأسرة وسوق العمل الذي عقد عام 1996 بالدوحة .
رمضان زمان واليوم ، كيف تراه الأديبة سهيلة زين العابدين ؟
* * لقد كنت حريصة على أن أصوم في وقت مبكر ولم يكن عمري يتعدى الخامسة بعد وكنت أبكي لوالدتي عندما تتعمد عدم إيقاظنا لتناول السحور معهم، وكان رمضان أحلى شيء في حياتي خاصة ونحن كنا نسكن في المدينة المنورة وكان يهلّ علينا رمضان في الصيف حيث نترك البيت ونقضيه في بستان لوالدي وكان هذا البستان به بِرْكة مياه عذبة " حمام سباحة " وصالون مكشوف يطل على البركة، ومن شدة الحرارة كنا ننام في هذا الصالون أو حول حمام السباحة وعندما توقظنا والدتنا لتناول السحور كنا نغسل وجهنا من البِرْكة، ومن أجمل الذكريات التي لا أنساها وأنا طفلة أن أخي الأكبر كان يستغل سذاجتنا ونحن أطفال فيقول لنا أن ليلة القدر يسجد فيها كل شيء لله الواحد الأحد والنخل والشجر أيضا، فكنا ننتظر طوال الليل حتى الفجر نراقب حركة النخيل من حولنا حتى يسجد، ولكن ذلك لم يحدث بالطبع، فكنا ننتظر للعام القدم لعلنا نرى هذا السجود !! كما أنه من يوم ميلادي وإلى الآن لم ابتعد عن الحرم النبوي وكنت دائما اسمع الأذان وأنا في بيتي ، ومن الذكريات التي لا أنساها ارتباط صلاة التراويح في ذهني بالشيخ عبد العزيز بن صالح صديق والدي الذي ملك علي خيالي من شدة تعلقي به حتى أنني من شدة حبي له كنت أراه في المنام.
ومن العادات الرمضانية التي لازمتنا كل عام في رمضان زمان أنه كان هناك اجتماع عقب صلاة التراويح للأقارب والأهل والأصدقاء وفق جدول لتبادل الزيارات، فنعرف هذا الجدول ونترقب الوالد لنصاحبه، وكانت هذه فرصة عظيمة لصلة الرحم في المدينة المنورة ولكنها اليوم اختفت بسبب انشغال الناس بإيقاع الحياة المعاصرة مما فترت معه العلاقات الاجتماعية الحميمة، كما كانت أيام العيد مقسمة حسب المناطق للتزاور والحرص من جانبنا على العيدية في أول أيام العيد نتلقى فيه العيدية في بيوتنا من الزوار ، ثم في اليوم الثاني يجلس الناس في بيوتهم انتظارا لزيارات الأهل من منطقة بعيدة عن المدينة، وكنا نسميه: عيد " بابا المجيدي " ثم ثالث أيام العيد يسمى عيد " عيد جوبا " ورابع أيام العيد يسمى " عيد العنبرية " كل ذلك كان في الطفولة، وكانت أسعد أيام حياتي قضيتها في مرح وسرور .
وماذا عن رابطة الأدب الإسلامية العالمية ودورها في النهوض بالأدب النسائي الإسلامي؟
** نحمد الله تعالى على أن رابطة الأدب الإسلامي نالت الاستجابة الطيبة و أصبحت لها مراكز في مختلف الأقطار العربية والإسلامية، وتقوم بخدمة الأدب الإسلامي وتعريفه للناس من خلال المؤتمرات الأدبية الإقليمية والدولية، والندوات المحلية علاوة على المجلات الأدبية المتخصصة، وكان الملتقى الإسلامي للأديبات الإسلاميات الذي نظمته الرابطة في القاهرة هو الأول من نوعه وكان قد ناقش واقع الأديبات الإسلاميات وما يواجهن من حصار إعلامي حديدي داخل أوطانهن، وضرورة كسر هذا الحصار، والمستقبل المشرق للأديبات الإسلاميات مع مطلع الألفية الثالثة، ودورهن في توعية المجتمع وبذلك تكون الرابطة قد فتحت الطريق أمام انطلاقة الأديبات من خلال الملتقى الأول وخطت خطوة عملية طال انتظارها
ــــــــــــــــــــ(1/125)
رمضان في ماليزيا
يتعاهد أفراد الأسرة الماليزية على قراءة القران كاملا في البيوت خلال شهر رمضان
حوافز حكومية لزيادة الإنتاج في رمضان والبيوت تتبادل الهدايا والحلويات
دروس فقهية بعد 21 ركعة تراويح يوميا في جميع مساجد ماليزيا
لجان زكاة أهلية تجمع الزكاة وتوزعها في جو رائع من التكافل والتراحم
استقلت ماليزيا عن المملكة المتحدة في 31 أغسطس 1957 وقد دخلها الإسلام عن طريق التجار المسلمون والدعاة المتصوفين من إيران وباكستان والهند والخليج العربي وشبه الجزيرة العربية، وهي الدولة الوحيدة في آسيا التي ينص دستورها على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وقد وقعت تحت الاحتلال البريطاني عام 1867 ونالت استقلالها عام 1957، ويتم انتخاب أميرها كل 5 سنوات، وتقع ماليزيا في جنوب شرق آسيا ويحدها من الغرب إندونيسيا ومن الشرق مملكة بروناي " دار السلام" ومن الشمال سنغافورة ومن الجنوب تايلاند ويبلغ عدد سكانها اكثر من 20 مليون نسمة وتبلغ مساحتها .
وماليزيا من الدول التي يعيش فيها أغلبية مسلمة يزيد عددهم على 12 مليون مسلم وتزيد نسبتهم عن 60% من إجمالي عدد سكان ماليزيا، كما يعيش فيها حوالي 25 % من الصينيين البوذيين، و15% من الهندوس وجنسيات أخرى، ودين الدولة الرسمي في ماليزيا هو الإسلام ورئيس الدولة من المسلمين حيث يتقاسم المسلمون والصينيون السياسية والاقتصاد، واليد العليا للمسلمين في شئون الحكم والسياسة بينما يتفوق الصينيون في الاقتصاد والتجارة .
ورمضان في ماليزيا له طابع خاص حيث أن الشعب الماليزي شديد التدين ويوجد المئات منهم في القاهرة والعواصم الإسلامية لينهلوا من العلوم الإسلامية، كما يشارك المتخصصون من الماليزيين في الفعاليات الإسلامية والفكرية والعلمية في الدول الإسلامية، ويشيع في رمضان جو من الروحانية والخشوع على المسلمين في المدن والقرى، حيث يستعدون لاستقبال شهر رمضان بتنظيف المساجد والمنازل، وتقبل النساء على شراء المزيد من احتياجاتهم في المنازل واستعدادا لرمضان وأكلاته الخاصة من أطعمة أو أشربة لا تظهر على المائدة إلا خلال رمضان من كل عام كما هو الحال في الكثير من البلاد الإسلامية.
كما تقوم الإذاعة الدينية بإعداد برامج مكثفة في السيرة والفقه والتفسير وتلاوة القرآن وذلك خلال الأسبوع الذي يسبق رمضان حتى إذا جاء شهر رمضان كان المسلمون يعيشون في جو نفسي وروحاني مهيأ لاستثمار الشهر في العبادة وقراءة القرآن والصلاة وغيرها من العبادات التي تحث عليها الإذاعة مستمعيها من المسلمين .
ويأتي على رأس الأحداث الهامة للاحتفاء بقدوم شهر رمضان قيام الوزير المختص عن الشئون الدينية في ماليزيا باستطلاع الهلال وإعلان بدء أول أيام رمضان حيث ينتظر المسلمون كلهم بفرح وسرور هذا الإعلان فيخرجون إلى المساجد في جماعات رجالا ونساء وشبابا وأطفالا وفتيات، والجميع يصلي التراويح في جماعة ثم تنشغل البيوت بإعداد وجبات السحور على الفور حتى يتناولوا طعام السحور ويستقبلون بذلك شهر رمضان .
ومن ناحية أخرى نجد الحكومة الماليزية تهتم بهذه المناسبة وتشجع المسلمين على العمل والإنتاج في رمضان وترصد الحوافز لهم خلال هذا الشهر، كما أنه بمجرد أن يبدأ شهر رمضان تقوم البيوت والأسر والعائلات المختلفة والجيران بتبادل الهدايا والأطعمة والحلويات تدعيما لأواصر المحبة والوئام بين المسلمين وتعظيما لهذا الشهر، كما أنه طوال شهر رمضان لا تغلق المساجد، ويقبل المسلمون منذ صلاة التراويح في أول ليلة على المصاحف لقراءة القرآن في مجموعات أو أفراد، ولا تكاد تخلو مساجد ماليزيا من قارئ للقرآن أو مصلٍّ راكعا أو ساجدا طوال ليل رمضان، وتتعاهد الأسرة الماليزية على قراءة القرآن كاملا في البيوت خلال شهر رمضان، وذلك في جميع أنحاء ماليزيا في القرى والمدن.
وتكتظ المساجد بالمصلين في جميع الصلوات لا سيما العشاء والفجر كعادة المسلمين في ربوع العالم، وتقام الدروس الدينية والمواعظ بعد صلاة الفجر مباشرة بالمساجد، حيث تتعدد الدروس في التفسير والعقيدة والأحاديث وغير ذلك من العلوم الدينية حتى تشرق الشمس فينطلق الجميع إلى أعمالهم في حيوية ونشاط ليكملوا برنامجهم اليومي في العمل، ولا يزيدهم الصيام إلا نشاطا وحيوية، ومع اقتراب موعد آذان المغرب يتجمع الرجال والأطفال في المساجد القريبة من منازلهم، وتبقى النساء في البيوت، والكل يستعد لصلاة المغرب، ويفطر الرجال في المساجد على مشروب محلي يعدّونه مع بعض التمر، ثم يصلون المغرب، وفى نفس الوقت تكون النساء قد فرغن من الصلاة في البيت،وأعددن المائدة والتي تتعدد أنواع الأطباق فيها، غير أن الأرز يبقى هو الطبق الأساسي فيها، ومعه يكون اللحم أو الدجاج، وبعد الإفطار يفضل الجميع شرب القهوة الخفيفة أو الشاي، ثم يتوجهون جميعا بعدها إلى المساجد استعدادا لصلاة العشاء والتراويح والتي تكون 21 ركعة في أغلب المساجد، وما أن تنتهي هذه الركعات حتى يلتف جميع المصلين حول العلماء والأئمة في المساجد لسماع دروس الفقه والتفسير والوعظ، والتي تنتهي قرب الساعة الحادية عشر مساء، ثم يغادر معظم المصلين إلى بيوتهم، بينما يفضل البعض الاستمرار في المسجد لقراءة القرآن والعبادة.
كما تنظم مسابقات القران الكريم والمسابقات الدينية في موضوعات السنة والفقه والتفسير في كثير من المساجد لاسيما في مساجد العاصمة كوالالامبور، حيث يشارك فيها الكثير من الشباب والفتيات ويتم توزيع الجوائز في الاحتفال الكبير الذي يقيمه وزير الشئون الدينية المختص في الحكومة ويشارك فيه رئيس الوزراء مها تير محمد ويذاع في التلفاز والإذاعة وتغطيه الصحف. ويراعي غير المسلمين مشاعر المسلمين في رمضان، فلا يأكلون علناً في نهار رمضان، مراعين لخصوصية رمضان التي يشعرون بها، بل ويشارك غير المسلمين المسلمين أحيانا في بعض المهرجانات والاحتفالات الرياضية والترفيهية التي تقام في المدن والأحياء المختلفة في المساء، و يعتبرها بعض المسلمين وسيلة لتعريف هؤلاء بجوهر الإسلام حيث يعتنق بعضهم الإسلام ويقبلون عليه.
ومن الأمور التي مازال المسلمون يحرصون عليها المسحراتي، ففي العديد من القرى والمدن يقوم المسحراتي بالتجول في الأرجاء لينبه الناس للاستيقاظ لتناول طعام السحور، وذلك قبل الفجر بحوالي الساعة، وبعد الفراغ من السحور يتناول المسلمون مشروبا يسمى مشروب " الكولاك " وهو يساعد على عدم الظمأ في نهار رمضان، ويعطي الطاقة والقوة خاصة لأولئك الذين يعملون في المصانع والأعمال الشاقة.
وتجد في العشر الأواخر من رمضان أعدادا كبيرة من الرجال يعتكفون في المساجد، بينما يقوم الأهالي بتقديم الطعام والمشروبات لهم حرصا على الأجر.
وقبل العيد ببضعة أيام يقوم الشباب والفتيات الذين تخرجوا من المدارس والمعاهد الدينية بعمل لجان في المساجد لتحصيل الزكاة وتوزيعها على الفقراء وبذلك يشيع جوٌّ من التكافل الاجتماعي حيث يوزع البعض الملابس وحلويات للعيد والأموال على الفقراء والمحتاجين، فيكون الجميع في غاية السعادة والفرح بقدوم العيد، كما يكونون على درجة عالية من النقاء الروحي الذي خرجوا به من رمضان
ــــــــــــــــــــ(1/126)
رمضان في أرض الشمس المشرقة
حوار مع رئيس المركز الإسلامي في اليابان
أجرى الحوار: حسام تمام
في أقصى شرق الكرة الأرضية، ومن أرض الشمس المشرقة يشرق فجر الإسلام على أهل اليابان، أصحاب الحضارة العريقة ورواد التكنولوجيا الحديثة،ورغم بعد المسافات وتنائي الديار بين مسلمي اليابان وإخوانهم في أنحاء العالم الإسلامي، ورغم حداثة عهدهم بالإسلام إلا أنهم وككل أبناء الأمة يشاركونهم فرحة رمضان لتكتمل سعادة الجسد الواحد، ويغترف الجميع من فيض بركاته وعطر نفحاته.
التقينا مع د/ صالح السامرائي رئيس المركز الإسلامي في اليابان، وهو أحد الشخصيات الإسلامية البارز هناك، قضى نحو ربع قرن في حقل الدعوة الإسلامية في اليابان، وقد حدثنا في هذا الحوار عن رمضان في أرض الشمس المشرقة، وكيف يعيش مسلمو اليابان هذا الشهر الكريم، وأطلعنا على بعض من أخبارهم السارة.
كيف يستقبل المسلمون في اليابان شهر رمضان؟
* الاهتمام برمضان يبدأ في اليابان قبل حلوله بفترة طويلة؛ حيث تشكلت لدينا لجنة دائمة في المركز الإسلامي اسمها "لجنة رمضان والعيدين" لبحث الاستعداد لرمضان واستقباله، وتبدأ نشاطها بتولي عملية استطلاع هلال رمضان، وغالبًا ما يغم علينا الهلال فلا نستطيع رؤيته، رغم أننا نصعد أعلى عمارات اليابان لاستطلاعه، فنضطر إلى اتباع أقرب بلد إسلامي إلينا وهي ماليزيا التى تفتح سفارتها لإعلان أول يوم من رمضان، ويقوم المركز الذى يظل مفتوحًا طوال اليوم بإعلام المسلمين بثبوت هلال رمضان، ويجيب عن استفسارات المسلمين في شتى أنحاء اليابان حول الهلال ومواقيت الصلاة والصوم، ونصدر دائمًا تقويمًا بهذه المناسبة يتضمن أوقات الصلاة والمواعيد التقريبية للإمساك والإفطار في رمضان، ويوزع على الملتقيات والمساجد والمصليات والتجمعات الإسلامية المختلفة في أنحاء اليابان، ويتكرر هذا بالنسبة للعيدين والمناسبات الإسلامية الأخرى، وتوزع قوائم أخرى بالمطاعم والمحلات التي تبيع الأطعمة الحلال، ويعاد تعديلها دوريًا ونمد بها كل التجمعات والمؤسسات الإسلامية الأخرى، كما يأخذ المركز وكل التجمعات الإسلامية الأخرى الاستعدادات اللازمة لاستقبال هذا الشهر الذي يعد أكثر شهور العام بركة ونشاطاً في العمل الإسلامي.
وكيف تقضون هذا الشهر المبارك؟
* تفتح جميع المساجد والتجمعات الإسلامية أبوابها للمسلمين وغير المسلمين أيضًا طوال اليوم، وتقام جلسات للتعارف وتوثيق العلاقات بين المسلمين، وخاصة بين اليابانيين منهم وغير اليابانيين لإقامة نوع من الألفة والتماسك، وتقام الإفطارات والسحورات الجماعية في شتى المساجد والتجمعات، ويتجمع عليها المسلمون حيث يبدأونها بقراءة القرآن والأذكار ثم صلاة المغرب، ويتناولون الإفطار سويًا، ويستمر ذلك حتى الانتهاء من صلاة التراويح، وأحيانًا حتى تناول السحور وصلاة الفجر.. وغالبًا ما يقيم هذه الإفطارات أبناء الجاليات الإسلامية في اليابان، وخاصة الجاليات العريقة منها كالأتراك والبنغال من بنجلاديش وباكستان والهند أيضًا، لأنهم أكثر استقرارًا في اليابان من الجاليات العربية التى غالبًا ما يكون أبناؤها حديثي عهد بالبلاد وغير مستقرين بها؛ إذ أن معظمهم من الطلاب أو المبعوثين للدراسة.. وتقام هذه الإفطارات الجماعية يوميًا في معظم المساجد، ويحضره أبناء الجاليات وإخواننا اليابانيون المسلمون بدرجة أقل وبنسب متفاوتة؛ إذ أن المسلمين اليابانيين موزعون على أنحاء البلاد، وليس هناك تجمعات إسلامية يابانية بالمعنى المعروف.. وغالبًا ما يكون رمضان ومثل هذه الإفطارات وسيلة لتجميعهم وتوثيق الصلة بينهم، ونحاول عن طريقها إقامة نوع من التجمعات تسمح بالتواصل بينهم، وتحول دون ذوبانهم الكامل داخل مجتمعهم، والأكثر تدينًا منهم هم الأكثر حرصًا على حضور هذه اللقاءات والاحتفالات.. وطوال شهر رمضان يحضر إلينا حفاظ وقراء للقرآن الكريم من أنحاء العالم الإسلامي، بل ومن خارجه أيضًا؛ إذ أنه كثيرًا ما يحضر إلينا بعض القراء من إنجلترا وفرنسا.. وغالبًا ما يكون هؤلاء القراء من باكستان والهند فيقرأون القرآن طوال ليالي رمضان في المساجد والتجمعات الإسلامية، ويؤمون المسلمين في صلاة القيام والتراويح، وكذلك في الاعتكاف الذي يقام في عدد قليل من المساجد، كما يزورنا أحيانًا بعض الدعاة والعلماء من أنحاء العالم الإسلامي لإلقاء بعض المحاضرات والندوات بهدف توعية المسلمين وتعريفهم بأمور دينهم.
ومن أشهر الدعاة والقراء عند المسلمين هناك؟
* كثيرون.. خاصة وأن الفترة الأخيرة شهدت انتعاشًا في العلاقات بين العالم الإسلامي واليابان، وكثرت فيها زيارات وبعثات العلماء والدعاة المسلمين إلى اليابان، وأذكر أن فضيلة العلامة د. يوسف القرضاوي قد زارنا مرتين في الفترة الأخيرة، وكان لزيارته أثر طيب على المسلمين هناك.. كما زارنا فضيلة د. صالح بن حميد إمام الحرم المكي الشريف، وشهد افتتاح مسجد ناجوبار، ود.عبد الله بن صالح العبيد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامى، وحاضر عندنا أيضًا الداعية المعروف الشيخ سعد البريك من السعودية ود. محمد حسان عمران خان رئيس معهد دار العلوم والشيخ مصطفى سيرتش مفتي البوسنة والهرسك، والأستاذ صالح أوزجان من تركيا، ود. محمد أبو ليلة من جامعة الأزهر الشريف .. وغيرهم من العلماء والدعاة الذين كان لزياراتهم تأثير كبير على المسلمين هناك ..
أما أكثر الدعاة شهرة وتأثيراً في المسلمين هناك وفي غير المسلمين أيضًا فهو الداعية التركي محمد نعمة الله خليل إبراهيم إمام المركز الإسلامي، وكان قد زارنا خمس مرات، ثم استقر بعد ذلك في اليابان منذ ثلاث سنوات، وله تأثير واسع هنا، وأسلم على يديه المئات من اليابانيين ومن الأجانب أيضًا.
أما بالنسبة لقراء القرآن الكريم فأكثرهم شهرة المرحوم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والمرحوم الشيخ محمد صديق المنشاوى؛ إذ أنهما يتمتعان بتأثير بالغ على المسلمين هناك، وتنتشر تسجيلاتهم الصوتية بين المسلمين بصورة واسعة رغم وجود كثير من القراء المعروفين الذين يزرون اليابان بصفة دورية.
وما أبرز الأنشطة الإسلامية التي تنشط في شهر رمضان أيضًا؟
* جمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها والمحتاجين؛ حيث تنشط عملية إخراج الزكاة بين مسلمي اليابان أثناء شهر رمضان أكثر من بقية شهور العام، وقد خصصنا لجنة للزكاة تمارس عملها طوال العام.. وتحوز هذه اللجنة ثقة المسلمين هناك؛ خاصة أن لدينا اتصالات ومعلومات عن غالبية المسلمين في اليابان، وهو ما يسمح لنا بأداء هذه المهمة بكفاءة.. وفي العشر الأواخر من رمضان تبدأ الاستعدادات لصلاة العيد؛ حيث تباشر لجنة خاصة عملها، فتقدم الإجابات لكل المسلمين حول مواعيد الصلاة، وكيفية أدائها، والأماكن المخصصة لها.. وكنا إلى وقت قريب نؤدي الصلاة في المساجد والمصليات فقط، لكن مؤخرًا اتجهنا لإقامة هذه الصلاة في الحدائق والمنتزهات أو الملاعب الرياضية.
وقد لاحظنا أن فرحة العيد تزداد كثيرًا في هذه التجمعات، كما يزيد تأثير هذه الصلاة على المسلمين وغير المسلمين أيضًا.. وفي الفترة الأخيرة بدأت ظاهرة جديدة تنتشر بين المسلمين اليابانيين، وهي الاتجاه إلى أداء شعيرتي الحج والعمرة، وزيارة الأماكن المقدسة فقبل سنوات كان المركز ينظم رحلات الحج والعمرة لليابانيين المسلمين على نفقته الخاصة أو تلبية لدعوى من بعض المؤسسات أو المنظمات التابعة لدول إسلامية؛ خاصة السعودية.. لكن طرأ تحوّل طيب؛ حيث بدأ اليابانيون يطلبون السفر إلى الأراضي المقدسة على نفقتهم. ومنذ عامين خرجت أول قافلة حج يابانية تضم 43 مسلمًا ومسلمة من اليابانيين أرسل معهم المركز اثنين من الدعاة، بالإضافة إلى إمام المركز الشيخ نعمة الله، وكان لها صدى في الأوساط الإسلامية، والحمد لله يكثر الآن أعداد اليابانيين الذين يزرون الأراضي المقدسة.
وماذا عن العلاقات الاجتماعية بين المسلمين اليابانيين في رمضان؟
* يحدث نوع من التقارب بين المسلمين، وتسود مشاعر المودة والألفة بما يسمح بحل الخلافات التي قد تنشب بينهم.. ونحن في المركز الإسلامي لدينا لجنة مشكَّلة من عدد من الدعاة لحل مثل هذه الخلافات، وتستقبل المسلمين طوال اليوم لبحث مشاكلهم وحل خلافاتهم؛ سواء فيما بينهم أو الخلافات بينهم وبين غير المسلمين، والحمد لله.. اللجنة موفقة في عملها إلى الآن، ويساعدها في ذلك طبيعة الشعب الياباني الذى يتسم بتماسكه الاجتماعي وروحه الشرقية التي تقدس العائلة، وتحترم العلاقات الاجتماعية، وكذلك تجاوب السلطات اليابانية معنا.
هل تحتفظون بعلاقات جيدة مع المجتمع الياباني غير المسلم؟
* جدًا.. المجتمع يسمح بذلك كما قلت، والسلطة أيضًا.. فنحن نشعر أن المشترك بيننا وبين اليابانيين كبير جدًا في العادات والتقاليد وفي روح الشرق.. كما أن المجتمع والحكومة اليابانية رغم تأثرهم إلى حد بعيد بالحملات الإعلامية الغربية الموجهة للإسلام يرحبون بأي جهد أو عمل من شأنه تصحيح صورة الإسلام أو إعادة حقوق المسلمين لهم.. يتكرر هذا كثيرًا في أي حادث أو قضية يساء فيها للإسلام، حيث يستجيبون لنا بمجرد تدخلنا، ويعلنون موقفنا في كل وسائل الإعلام بمنتهى التسامح.
هل تعتقد أن مستقبل الإسلام في اليابان يبشّر بالخير؟
* بالتأكيد.. هناك إقبال كبير على الإسلام بين اليابانيين.. نحن نقدر عدد من يدخلون الإسلام بنحو من خمسة إلى خمسين يابانيا يوميًا، وهذا عدد كبير نسبيًا في دولة كاليابان، وهناك لجنة في المركز لإشهار الإسلام وعقد الزواج بين المسلمين تستقبل يوميًا عددًا كبيرًا من اليابانيين يرغبون في التعرف على الإسلام أو إشهار إسلامهم، ويزيد الإقبال دائمًا في رمضان ببركته.
لكن هل تستطيع أن تقدر لنا عدد المسلمين في اليابان ولو بشكل تقريبي؟
* ليست هناك إحصاءات محددة، لكن عدد المسلمين في اليابان زاد كثيرًا في الفترة الماضية، وربما يتراوح بين مائة ألف أو يزيد، أما غير اليابانيين "الأجانب والمقيمون" فربما يزيدون ثلاثة أضعاف هذا العدد.. وهذا إنجاز كبير؛ خاصة أن عمر الإسلام في اليابان لا يتجاوز مائة عام فقط.. والعدد آخذ في الازدياد بإذن الله
البريد الإلكتروني والموقع على شبكة الإنترنت للمركز الإسلامي في اليابان:
Email: islamcjp@islamccenter.or.JP
URL:http://islamcenter.or.jp
ــــــــــــــــــــ(1/127)
رمضان في حياة الدكتورة هاجر سعد الدين
رئيسة شبكة إذاعة القرآن الكريم في مصر
أجرى الحوار : عبير صلاح الدين
كيف كان رمضان في طفولتك؟
أتذكر جيدًا أن رمضان كان يعني في بيت عائلتي الرزق.. أناس كثيرون يأتون للإفطار عندنا يوميًا، وكان أبي صاحب مصنع نسيج، وكان يفضل أن يخرج زكاة المال في شهر رمضان في شكل ملابس وأقمشة توزَّع على الفقراء، ولهذا كان رمضان بالنسبة لي هو شهر الخير للناس كلها، ولهذا ورثت أنا هذه العادة حتى الآن، فأحرص على توزيع زكاة المال في شهر رمضان بشكل خاص مع أنه يجوز إخراج زكاة المال في أي شهر من شهور السنة.
وتتابع د. هاجر: أذكر أيضًا صوت أمي العذب وهي تقرأ القرآن صباحًا كل يوم، وكانت تحرص في رمضان على أن تجلس للقراءة بعد صلاة العصر، ويطيب لها أن تقرأه بصوت مسموع حتى نسمع نحن أيضًا، ونحرص على أن نختم المصحف مرتين أو ثلاثًا طوال شهر رمضان.
وماذا عن رمضان الآن في عائلتك الصغيرة؟
من المعروف أن كل البيوت تستعدّ لاستقبال العيد بتنظيف البيت وترتيبه، أما أنا فأحرص على إعادة ترتيب المنزل وتنظيفه قبل شهر رمضان وكأنني أستعد لاستقبال ضيف عزيز، وأحرص جديًا على أن أشتري فانوس رمضان سنويًا لأصغر أبنائي، وأختار الشكل التقليدي للفانوس المرتبط بشهر رمضان في كتاباته المنقوشة عليه، وتصميم الفانوس وصوته أيضًا المسجل على الأسطوانات الحديثة التي أصبحت تضاف للفوانيس، وقبل أن ينتهي شهر رمضان أيضًا أحرص على شراء ملابس جديدة لأولادي ليرتدوها في العيد، فهي سنّة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشتري الكعك مثل كل المصريين ولكن بكميات قليلة، وكنا في بيت العائلة الكبير نصنعه بأنفسنا مع أمي، لكن الآن لا وقت عندي لإعداد الكعك والبسكويت. وتتابع: في رمضان أيضًا نحرص نحن وأقاربي وإخوتي على أن يكون الإفطار في بيت واحد منا، وإن لم يكن ذلك فتكون زيارة ما بعد الإفطار حتى نتقابل ونرى أقاربنا الذين قد لا نراهم من رمضان إلى رمضان مع كثرة الانشغالات واستخدام وسائل الاتصال مثل التليفون للاطمئنان على بعضنا دون مقابلة وجهًا لوجه.
وكيف تستعدين لشهر رمضان في عملك؟
رمضان مرتبط عندي في العمل بنجاحات جميلة في حياتي، فأول مرة يظهر فيها صوتي على موجات الإذاعة كان في شهر رمضان عام 1972، وكان أول برنامج قدمته هو برنامج "دنيا ودين"، وكنت أقدمه يوميًا، ولأنه كان برنامجًا متميزًا فقد استمر إلى الآن بشكل أسبوعي، ويدور حول الدلالات العلمية الموجودة في الآيات القرآنية، ويهدف إلى زيادة إيمان المؤمنين، ويدعو للتأمل في ملكوت الله، وكانت معظم برامجي الناجحة في شهر رمضان أيضا، ومنها برنامج "سبحان الله" الذي يدور حول قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)، وأثر اختلاف الليل والنهار على الكون بما فيه من مخلوقات، وقد استمر لمدة عامين متتاليين، وفي رمضان أيضًا تمت ترقيتي إلى مدير عام برامج الأسرة بشبكة القرآن الكريم، وكان أول برامجي أيضًا (فقه المرأة في رمضان)، وكان يقدم يوميًا.
وفي عملي أستعد لخريطة برامج شهر رمضان قبل رمضان بفترة طويلة ربما أكثر من شهر، وتتحول الاجتماعات الشهرية مع مقدمي البرامج والعاملين بالشبكة إلى ثلاثة اجتماعات أسبوعيًا، وأطمئن على سير العمل في الإذاعات الخارجية التي سننقل منها شعائر صلاة العشاء والتراويح والفجر، فهذا العام مثلاً نحتفل بمرور 14 قرنًا على دخول الإسلام لمصر ونتتبع مسيرة الفتح عن طريق نقل صلاة العشاء والتراويح في المساجد التي شهدت مسير حملة فتح مصر بداية من القدس الشريف ثم أقدم مسجد بالعريش، ثم أقدم المساجد الموجودة بمنطقة الفارما، ثم بلبيس ثم القاهرة فالإسكندرية فجنوب الوادي.
وهناك تقليد أيضًا نحرص عليه سنويًا في الشبكة، وهو إفطار جماعي مع كل العاملين وأنا معهم، ونتفق قبلها من سيحضر كذا ومن سيقوم بعمل كذا بحيث يكون الإفطار من جميع بيوت العاملين بالشبكة ...
وتقول: من يتأمل شهر رمضان سيلاحظ أن كله بركة وعمل ونشاط ومجهود، فعن نفسي أجد أنني أعمل بنشاط ربما طوال الأربع والعشرين ساعة.. ما بين العمل وتسجيل البرامج وتحضير الإفطار لعائلتي، ثم السحور وصلاة الفجر ثم النوم لساعات قليلة قبل الانطلاق إلى العمل مرة أخرى، فاليوم فيه بركة، ويمكن لنا أن نقوم فيه بالكثير الذي قد لا نستطيع عمله في أي شهر أخر، والوقت يقسَّم بطريقة تختلف عما نعتاده في أي شهر، فهناك فترة الصباح، ثم فترة ما قبل المغرب، ثم فترة من المغرب للعشاء، ثم فترة منتصف الليل، ثم فترة الفجر، وكلها فترات يمكن فيها تخصيص الوقت لأشياء كثيرة ما بين العبادة والعمل، دون أن نشعر بالتعب أو المجهود لأن الإنسان يؤدي العمل بحب.
وقد تعلمت من رمضان أن العمل والإحسان في العمل يرقى لمرتبة العبادة مصداقًا لقوله تعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكل راعٍ مسئول عن رعيته)
ــــــــــــــــــــ(1/128)
الشيخ أحمد ياسين -المؤمن يشحن بالتقوى في رمضان كما تشحن البطارية بالكهرباء
مها عبد الهادي فلسطين
وسط فضاء المقاومة تتسع حياة الأبطال للعديد من المواقف والأحداث والمشاهدات التي ربما لا يعرفها الكثيرون، ومن هؤلاء الشيخ أحمد ياسين زعيم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في فلسطين، الشيخ القعيد الذي أقام العالم.
ترى كيف هو رمضان في حياة شيخ الانتفاضة ؟ ما هي ذكرياته في هذا الشهر؟ وكيف تحول الاحتفاء به مع مرور هذه السنين؟
لم يعد رمضان متسقًا مع إيقاع حياتنا المعاصرة فما رأيكم في تغيره؟!
* لقد كان رمضان في تاريخ المسلمين شهرًا للعبادة؛ الصوم في النهار، والقيام في الليل، والذكر في كل الأحوال، وقراءة القران، لأن رمضان هو شهر القرآن الكريم، فيخرج المؤمنون من رمضان وقد تزودوا بخير الزاد، وشحنت نفوسهم وأرواحهم بالإيمان والتقوى والتآلف والمحبة والتراحم ورعاية الضعفاء والمساكين والفقراء وصلة الأرحام، مما يقوي وحدة الأمة وترابطها، ويعلي من شأنها بين الأمم، ويدفعها للتصدي لعدوان المعتدين، والاستعداد للتضحية والجهاد والفداء بالنفس والمال.
ورمضان على مدار تاريخ الأمة الإسلامية شهر الانتصارات، الانتصار في ميادين القتال مثل معركة بدر وفتح مكة وحطين وعين جالوت، والانتصار على النفس البشرية وضعفها وهواها، فتخرج من رمضان زاكية زكية، ومن الذنوب نقية، وهكذا كانت أمتنا بالفعل "خير أمة أخرجت للناس".
ومع مرور الزمن وسقوط الخلافة الإسلامية، ووقوع البلاد الإسلامية في قبضة الاستعمار، وهجمات التغريب على أمتنا، وتنحية الإسلام عن سدة الحكم وإبعاده عن مجريات الحياة، تسربت إلى مجتمعنا حيلة جديدة تحرمنا أجر الشهر العظيم،و تمثلت في الإقبال على الطعام والموائد الفاخرة بعيدًا عن الحكمة التي قصدها الشارع من رمضان، وهي رياضة الروح والجسد بتقليل الطعام، وبعيدًا عن تلاوة القرآن والذكر والقيام التي أرادها الشارع لصفاء النفوس وشحذ الهمم والعزائم، ليتلقى الناس رمضان بمسلسلات تعرض هنا وهناك على شاشة التلفاز أو الإذاعة أو السينما أو على صفحات الجرائد والمجلات، تهدر الوقت بعيدًا عن الطاعة الحقيقية المتصلة بالله تعالى من صلاة وصيام وقيام وزكاة .
وتغيير نسق الحياة هذا هو المطلوب ليعود الناس إلى الأصالة من جديد، وإلى العبادة بعيدًا عن زخارف الدنيا وملهياتها من الموسيقى والرقص والغناء والمسلسلات الهابطة التي لا تخدم إلا الغرائز والشهوات. ما أحوجنا أن تهتم أمتنا بنسق الحياة الكريمة، ويهتم مسئولو التوجيه في الأمة الإسلامية بالعودة إلى بساطة الحياة وعمق الإيمان بعيدًا عن الزخارف والقشور.
كنتم وأنتم صغار تستقبلون رمضان والعيد بطقوس احتفالية خاصة، والآن اختفت هذه الطقوس، وحلت محلها برامج تليفزيونية وألعاب بلاستيكية، فهل يمكن أن نستعيد ما تاه منه في أضواء المدينة؟
* كنا مع بداية شهر رمضان نخرج في الشوارع ونحن نضرب على الصفائح ونغني لرمضان، وكان الطبالون يخرجون في مواعيد السحور يطبلون ليوقظوا الناس لتناول وجبة السحور، كانت البساطة تغلب على حياتنا، فالكل يذهب إلى المسجد في صلاة التراويح والفجر وبقية الصلوات، والكل يجتمع ليسمع إلى دروس الوعظ والإرشاد، والتي تلقى في المسجد أو يتم الحديث عنها في الدواوين بعد صلاة التراويح، نعم كان الكل مشغولاً بالعبادة والذكر وفعل الخير وقراءة القرآن، منا من كان يختم القرآن مرة واحدة، ومنا من كان يختمه عدة مرات، الكل يعي أن العمل في رمضان خير من بقية الشهور، والصدقة فيه بسبعين ضعفا عن غيره من الشهور، تستجاب فيه الدعوات، لأن دعوة الصائم لا ترد، ولأن الله سبحانه وتعالى نسب الصوم لنفسه، وتكفل بالجزاء عليه.
ولكن الصائمين اليوم يغلب عليهم السهر على المسلسلات وبرامج التلفاز، ونحن هنا لسنا ضد التقدم والحداثة، فما أجمل أن يجمع المسلم بين الأصالة والحداثة بدون غلو أو تفريط، ولكن بدون مستجدات العصر التي تزعج الناس وتقتل الوقت بدون فائدة تذكر، فالإنسان بحاجة لأن يروح عن نفسه حتى لا يصاب بالملل وينقطع انقطاعًا كاملاً عن فعل الخير، وذلك يتفق ومبادئ الإسلام وشموليته وتطوره مع الحياة التي تحافظ على النقاء والخلق والفضيلة، وتحارب الرذيلة أنَّى كان مصدرها وزمانها ومكانها، ولكن كل ذلك لا يعني تضييع العبادة والفضل العظيم الذي اختص به هذا الشهر.
على مر التاريخ الإسلامي كان يأتي الخير منهمرًا في رمضان، يتحقق النصر المأمول وينفرج الهم ، هل أصابك شيء من هذه النفحات في تاريخك الشخصي؟
* في عام 1984 حكم عليَّ بالسجن لمدة ثلاثة عشر عامًا في السجون الإسرائيلية ، ولم أقض منها إلا عشرة أشهر، وكان قدَر الله أن أخرجَ في اليوم الأول من رمضان، وهذه من نفحات رمضان أن تطوى صفحة ثلاث عشرة سنة في أول يوم من رمضان، فأفطر في البيت مع أسرتي بعد أن نويت الصيام في السجن.
?الإيمان عادة يزيد وينقص، إلا أنه من المفروض في رمضان أن يزيد ويزيد فقط، فهل هذا ممكن؟ وكيف تحققه بنفسك؟!
* صحيح أن الإيمان يزيد وينقص، ولكنه في رمضان يزيد ويزيد باستمرار، لأن الإنسان وهو يقضي يومه صائمًا لله ذاكرًا له قارئا للقرآن، ويقضي ليلة قائمًا وساجدًا لله، يصبح لا مجال لديه للعبث واللهو، ولا مجال لديه لوساوس الشياطين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر المؤمنين وخبره حق وصدق أن الشياطين تصفد في رمضان، وما دامت قد صفدت فإن الهواجس والمشاعر تتجه إلى الذكر والعبادة والتوجه للخير والصدقة والمعروف، ولذلك يزداد المسلم إيمانًا مع إيمانه، ويشحن بالتقوى كما تشحن البطارية بالكهرباء، ويكون لديه الزاد الذي يوصله إلى رمضان القادم.
يرتبط الجهاد والإيمان برمضان أكثر مما يرتبطان بسواه.. لماذا؟ وكيف؟!
* إن رمضان هو شهر الجهاد والإيمان، جهاد النفس وجهاد الأعداء في آن واحد، فكلما جاهد المرء نفسه كلما ازداد إيمانه، وكلما أقبل على الله بكله وقطع علاقته بالدنيا ومغرياتها وشمَّر عن ساعد الجد من أجل الآخرة فباع نفسه وماله فيَقْتُل أو يُقْتَل، كلما ازداد قربا من الجنة.
ولقد أثبت التاريخ أن معظم معارك الإسلام الفاصلة كانت في رمضان مثل معركة بدر وفتح مكة وحطين وعين جالوت التي غيّرت وجه التاريخ، وقلبت الموازين في العالم.
إنها من نفحات رمضان، وإنها من رحمة الله على عباده، حيث تعبأ الأمة في كل عام، وتتجدد حيويتها في نظام إسلامي بديع، ويتبين ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها إذا اجتنبت الكبائر"، ففي رمضان تتحقق العبودية لله سبحانه في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ). وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
شيء تحب أن يتحقق في رمضان؟
* أدعو الله سبحانه وتعالى أن يمن على أمتنا بالنصر والتمكين في الأرض وتحرير فلسطين قبلة المسلمين الأولى، وأن تعود الأمة الإسلامية واحدة موحدة، وأن يرفع عن الأمة الوهن وهيمنة الظالمين المستبدين والكفرة والمشركين، وأن ترتفع راية الإسلام خفاقة في جنبات الأرض، إنه على ما يشاء قدير.
شيء تدعو الله أن يرفعه عن الأمة ؟
* ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرفع المقت والغضب عن هذه الأمة، وأن يرفع من بينها الفرقة والتناحر، وأن يرفع عنها ظلم الظالمين وكل الأنظمة التي لا تحكم بشرع الله، ولا تلتزم دينه عقيدة وشريعة ومنهاجًا للحياة، وأن يعيدها أمة مجاهدة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تخشى في الله لومة لائم
ــــــــــــــــــــ(1/129)
الدكتور يحيى الرخاوي
أجرى الحوار: عبير صلاح الدين
الحديث عن رمضان وذكرياته الجميلة لا ينتهي .. لكن عندما يكون الحديث عن رمضان الدكتور يحيى الرخاوي أستاذ الطب النفسي بكلية طب قصر العيني جامعة القاهرة .. يكون الحديث أكثر عمقاً وأوسع أبعاداً .
حاولنا استعادة ذكريات رمضان مع الدكتور الرخاوي الذي بدأ حديثه معنا قائلاً .. في البداية كل عام وأنتم طيبون .. ثانياً: لي تحفظات كثيرة على طريقتنا في استقبال شهر رمضان، خاصة الأطباء الذين يقولون: إن للصيام فوائد جسمية و .. و..، ما أعرفه أن رمضان صوم .. عبادة مثل الصلاة والزكاة والحج، وليس موضة ولا تمرينات صحية وغيرها .. نحن لا نرشي الناس حتى يصوموا ويتعبدوا الله، المسلم عليه أن يؤدي عباداته والفائدة يجب أن تكون أساساً .. طاعة الله . هذا من حيث المبدأ، ولهذا أنا لا أحبذ فكرة تغيير مواعيد العمل في شهر رمضان، بل يجب أن تبقى مواعيد العمل كما هي من الثامنة صباحاً وحتى الثانية ظهراً .. فالصيام ليس معناه زيادة عدد ساعات النوم نهاراً بل قضاء نفس الوقت ونحن محرومون من الطعام والشراب، حتى نصفي أرواحنا ونشعر ببعضنا البعض ونقوي علاقتنا بالله سبحانه وتعالى .
** وما هي الذكريات التي يمكن أن تذكرها لنا عن رمضان في طفولتك ؟
* بدأت الصيام وعندي سبع أو ثماني سنوات، وكانت أيام الصيام طويلة جدًّا لأننا كنا وقتها في الصيف، وكان أهم ما نحرص عليه هو تناول السحور مع الكبار فقد كنا نرى أن ما يتناولونه بالليل بالتأكيد أفضل مما نأكله كأطفال في الصباح، وكنت أصر على أن توقظني أمي لأتناول معهم السحور، وفي الصباح وأثناء النهار كانت أمي ترأف بحالي قائلة: " صم صومة القلاحة ( حطب الذرة ) من الصبح للضحى" لتجعلني أفطر بعد الظهر، وأحياناً كانت تضحك عليّ قائلة: " صم صومة المخدة (الوسادة) كل ما تجوع تتغدى " حتى تجعلني أفطر ولا أواصل الصيام في هذه السن الصغيرة، وكأن كل ما حولنا يصوم معنا ولكن لكلٍ وقتٌ محدد للإفطار، ومع هذا كنت أحياناً أكمل الصوم وأتفاخر بهذا، وقبل أذان المغرب بوقت قليل كان يطيب لنا كأطفال اللعب بالكرة أمام البيت حتى يصيبنا الظمأ فنتظاهر بأننا نتوضأ استعداداً لصلاة المغرب حتى ندخل الماء إلى أفواهنا وربما حلوقنا ونقول هذه لا تفطر ..
وفي بلدتنا أيضاً كان هناك ما يسمى بالسهرات من بعد صلاة العشاء والتراويح حتى السحور والمقصود بالسهر هو تأجير مقرئ للقرآن أو اثنين يظل يقرأ طيلة الليل طيلة شهر رمضان عند رئيس العائلة، بحيث تكون هناك حوالي خمس أو ست سهرات يومياً عند أكبر عائلات البلدة ويسهر الناس مع المقرئ ويتناولون الشاي والحلبة والخشاف وغيرها ويتبادلون الحديث بين الربع والربع، أي بعد أن ينتهي المقرئ من قراءة ربع حزب من أحزاب القرآن ويستعد لقراءة الحزب التالي، والشباب يطوفون بين هذه السهرات جميعها .
أما ذكريات " التوحيش " التي تكون في السبعة أيام الأخيرة من شهر رمضان، فقد كان الأطفال يبكون مع المسحراتي ( الذي يتولى إيقاظ من ناموا ليتناولوا السحور ) مرددين لا أوحش الله منك يا شهر الصيام . ويشعر الناس بقرب فراق هذا الشهر الكريم حتى يأتي يوم وقفة عيد الفطر وآخر ليلة في شهر رمضان يصعد الأطفال إلى أسطح المنازل ممسكين بعود من الحديد مع ملعقة ويظلون يضربون بالملعقة على العود مرددين .. يا بركة رمضان حطي في كل مكان، يا بركة ربنا حطي عندنا .. وكأنها سيمفونية تسري في كل مكان من البلدة.
** وماذا عن ذكريات الأسرة في رمضان ؟
* من أجمل ذكريات رمضان ما كان يقوم به والدي مدرس اللغة العربية الذي كان يعلمنا اللغة العربية والدين من خلال قراءة القرآن وحفظه رغم أننا كنا في مدارس مدنية وليست أزهرية، لكننا أنا وإخوتي كنا نجتهد في حفظ القرآن، وكنت أنا أصغر إخوتي حيث كان والدي يجلسنا بجانبه في رمضان من بعد العشاء إلى قبل السحور وكل واحد يقرأ ربع حزب ومن يخطئ يضع " مليماً " ( عملة صغيرة ) في صندوق صغير وإذا أخطأ هو يضع قرشاً في الصندوق، وكان يتعمد أحياناً هفوة بسيطة حتى يضع نقوداً في الصندوق، حتى إذا جاء آخر الشهر يقسم علينا ما تجمع في الصندوق من نقود، ولا يأخذ هو شيئاً منها، ومن خلال هذا كنا نختم المصحف خمس أو ست مرات طيلة شهر رمضان، فينطلق لساننا وتتعمق معرفتنا بالقرآن، وكان أحياناً يأتي لنا بمحفظ يحفظنا القرآن، أتذكر أن اسمه الشيخ عبد الرحيم وكان كفيف البصر، لكن يبقى أفضل شيء في تجربة والدي معنا أنه لم يكن يفسر لنا القرآن، فمن يقوم بتفسير القرآن يكون وصياً على كلام الله بطريقة يوفق فيها أحياناً، وكثيرا ما يختزل كلام الله إلى ما يتصوره هو عن كلام الله، ولذا فأهم شيء في قراءة القرآن خاصة للأطفال أن يقرأ كما هو بنغماته وصوره وإيقاعاته وتداخلاته وروحه، بالنبض والرنين، فكل هذا يصل دفعة واحدة إلى خلايا المخ أو جميع خلايا الإنسان، أما أن نختزل آية من القرآن ونضع لها تفسيراً يصبح اختزالاً غير مفيد، صحيح أن التفسير علم له أصوله، لكن القرآن نفسه جوهر يصل إلى الناس كما هو وعلينا أن نحترم ذلك وننميه، حتى نصل إلى الوظيفة الكلية العميقة في تحريك الوعي .
** كيف ترى استقبال الأسرة العربية لشهر رمضان الآن ؟
* رمضان كان عبارة عن علاقات وزيارات وتواصل وجهاً لوجه بين العائلات والأقارب، أما الآن فما يحدث أننا نجتمع في المكان ولا نجتمع في العواطف أو الحوارات، نظل مشدوهين أمام التليفزيون، نفتح أفواهنا لتناول الحلوى المرصوصة أمامنا حتى ونحن نشعر بالشبع، نشاهد أشياء سخيفة أو لطيفة .. صحيح أن التليفزيون يجمع العائلة بعد الإفطار، لكنه في نفس الوقت يفرقهم في العواطف ولا يعطيهم الوقت لأي تواصل مع بعضهم البعض .
لا أريد أن أبقى طيلة الوقت أقول أن الماضي كان أفضل من الحاضر، لأنه قد يكون في الحاضر مباهج يعرفها الجيل الحالي ولا أعرفها أنا الذي يقترب عمري من السادسة والستين، فالماضي كانت فيه أشياء مفيدة وجيدة مختلفة عن الأشياء الجيدة والمفيدة الموجودة الآن، ولكن بالنسبة لرمضان وقراءة القرآن لا أرى أن لأحفادي نفس الاستعداد للبقاء حولي لقراءة القرآن قبل المغرب كما كان يفعل معنا والدي، ومع هذا فمازال رمضان وسيبقى يجمع أفراد الأسرة والأصدقاء حول مائدة الإفطار، حتى غير المسلمين، فأصدقائي المسيحيون يحرصون على دعوتي على الإفطار عندهم في بيوتهم، وكذلك يفطرون معي في بيتي، وكذلك إذا أردت أن أداعب أحد أصدقائي مداعبة ثقيلة أذهب لزيارته قبل الإفطار بدقائق، ووقتها لن أجد حرجاً في الزيارة لأنني سآكل مما قد أعدوه بالفعل، وهذه الألفة وذلك التجمع لن نجده في غير شهر رمضان .
** كيف يصبح شهر رمضان فرصة لاكتشاف الإنسان لذاته؟
* رمضان فيه ميزة عظيمة جدًّا وهي كسر الرتابة، فطيلة أحد عشر شهراً نقوم بأشياء ثابتة طيلة الوقت ونتصور أننا لا نستطيع أن نكف عنها، وعندما يأتي رمضان يكسر هذه القواعد فنمارس العمل دون أن نتناول شاي الصباح أو فنجان القهوة أو وجبة الإفطار وكذلك لا نتناول الغداء في الوقت الذي تعودنا فيه على ذلك وتتغير مواعيد النوم والاستيقاظ، وندهش لذلك ونبدأ في التفكير في بقية ما نفعله في حياتنا، فقد يكون ما نفعله طيلة الوقت خطأ، أو أن ما تعودنا عليه في حاجة إلى مراجعة، وهنا تكون القدرة على إعادة النظر في تحمل ما لم نكن نتصور أننا سنتحمله .. ويبدأ الإنسان فتح صفحة جديدة في كل المجالات .. يحدث لي هذا، ويؤكد لي مرضاي أنهم يشعرون بتلك اللحظات وكذلك أولادي، وعموماً من لديه استعداد للتغيير يتغير في طريقة تفكيره، وفهمه للحياة وفي علاقته بالموت وعلاقته بأسرته، وفي علاقته بالله سبحانه وتعالى.
** كيف ترى الأسرة العربية الآن؟
* أراها كمن يقف وسط السلم، فلا هي وصلت إلى مرحلة الالتزام ولا هي وصلت إلى مرحلة الحرية والاستقلال الذي نشاهده في الأسرة في الغرب التي نرى فيها المليونير يأمر ابنه بالخروج من منزله ليكتشف طريقه ويتدبر أمره بمفرده عندما يصل إلى السادسة عشرة، بينما نحن نظل نرعى أبناءنا حتى سن الأربعين، أي أن الأسرة العربية لا هي أخذت النمط الغربي بما له وما عليه، ولا هي محافظة على النمط العربي القديم في الرعاية والتواصل بما له وما عليه ..
** ربما تكون فترة انتقالية ؟
*أشك، لأننا قد توقفنا طويلاً عند هذه المرحلة بما يعني أنها وقفة تبريرية .
** وماذا عن القرن الجديد ؟
* لقد بالغنا كثيراً في موضوع القرن والألفية، عام 2000 لن يختلف كثيراً عن اليوم، المتخلف سيزداد تخلفاً والمتقدم سيزداد تقدماً، ولا داعي أن نضحك على أنفسنا، ومع هذا أنا متفائل رغم كل المصائب التي تحيط بنا، لأنني أظن أن الأغنياء عندما سيزدادون غنى إما أنهم سيشبعون غنى أو يصبحوا تعساء في غناهم، فتظهر قيم جديدة تنبههم إلى العدل، فالغني لن يشعر بالسعادة إلا عندما تخدم هذه النقود بقية الناس، وإلا فسيموت بمفرده على القمة من البرد والوحدة، فمن خلال حرمان الفقير وتعاسة الغني يظهر قانون جديد وعقد اجتماعي جديد يصلح عيوب هذه العلاقة ولهذا أنا متفائل
ــــــــــــــــــــ(1/130)
الشيخ عكرمة صبري "مفتي فلسطين"و الشيخ رائد صلاح"شيخ الأقصى"على مائدة رمضان
أجرى الحوار: خالد الزغاري فلسطين
قرب باب خيمة الاعتصام التي نصبت قبالة مكاتب باراك جلست مع فضيلة الشيخ عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا والمفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، وفضيلة الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية داخل فلسطين المحتلة عام 1948م ورئيس بلدية أم الفحم الذي أصبح يعرف شيخ الأقصى لأنه من أكبر الناس همًّا بالمسجد الأقصى المبارك.
اجتمعت بهما للحديث حول شهر رمضان المبارك، وكان الشيخ رائد صلاح وبصفته رئيساً لبلدية أم الفحم يعتصم داخل خيمة الاعتصام التي أقيمت احتجاجًا على سياسة التمييز التي تنتهجها حكومة أيهود باراك تجاه السلطات المحلية العربية ومجالسها البلدية، والشيخ رائد دائمًا من أول المبادرين للاعتصام والتضامن لأجل قضية بلاده التي هي قضية المسلمين عامة، حتى إنه تم الاعتداء عليه خلال مظاهرة احتجاج قرب الخيمة قبل أسبوع من إجراء الحوار معه.
لم يعد رمضان متسقًا مع إيقاع حياتنا المعاصرة، فما رأيكم في تغييره؟
الشيخ عكرمة: لا بد من التأكيد على أن شهر رمضان هو شهر عبادة من أوله لآخره، فهو عبادة في الصوم وفي أداء الصلوات من الفرائض والنوافل والتراويح وقيام الليل، وهو عبادة في إخراج الزكاة وصدقة الفطر، ويتميز هذا الشهر بأن عبادته متصلة بالله سبحانه وتعالى وهي خالية من الرياء والمباهاة، لأن الإنسان الصائم لا يعرف في صومه إلا الله سبحانه وتعالى لذا أعد الله سبحانه وتعالى للصائم ثوابًا عظيمًا لا يعرف مقداره أحد من البشر، وإنه مما يلاحظ في أيامنا هذه خروج بعض الناس عن روح رمضان، وذلك بالإكثار من أنواع الأطعمة والبذخ وكذلك بإقامة السهرات، فكأن رمضان قائم على الغنى والرقص، وهذه المظاهر السلبية قد تكررت في السنوات الأخيرة، ونحن نؤكد على العنصر الروحي لشهر رمضان بحيث يقوم المسلم بأعمال وتصرفات تنسجم مع بركة هذا الشهر وأهميته.
ويضيف الشيخ رائد: لا بد من إحياء الدين الذي سيعيدنا بشكل تلقائي إلى إحياء رمضان الكريم، وإحياء رسالة هذا الشهر الفضيل، شهر الصبر والنصر وشهر التكافل بين أبناء الأمة الإسلامية الذي كان يأتي على الأمة ليؤكد لهم كل عام أنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو يجب أن تتداعى له كل الأعضاء بالسهر والحمى.
كنتم وأنتم صغار تستقبلون رمضان بطقوس خاصة، الآن اختفت هذه الطقوس في استقبال رمضان وفي لياليه وفي الاحتفال بالعيد، وحلت مكانها برامج تليفزيونية وألعاب بلاستيكية، فهل يمكن أن نستعيد ما تاه فيه أضواء المدينة؟
الشيخ رائد: بطبيعة الحال لقد فقدنا خيرًا عظيمًا عندما غابت تلك العادات الطيبة والبريئة التي كنا نستقبل فيها رمضان، ولكننا رغم ذلك لم نصل إلى طريق مسدود يمنعنا من العودة إلى تلك الأجواء بنفس العادات مما يؤدي إلى نفس النتيجة المباركة، خاصة وأننا نحيى في ظروف مميزة تمر على القدس والأقصى، ويحتاج منا ذلك أن نشعر كل الأمة الإسلامية في كل العالم في كل ظرف ومناسبة أن القدس الشريف في خطر وأن الأقصى المبارك في خطر، وأنهما ليسا ملكًا للمسلمين الفلسطينيين، وإنما هما قلعة التوحيد ومعقل الإيمان لكل المسلمين في كل العالم، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً، ولذلك أتمنى على نفسي وعلى المسلمين في بيت المقدس وأكنافه أن نعود إلى تلك الأجواء التي تحفظ الفطرة السليمة.
ويلتقط الحوار الشيخ عكرمة فيقول: الطقوس التي كانت سابقًا هي مظهر من مظاهر البهجة والفرح لاستقبال رمضان، وإن سبب اختفائها يعود إلى الظروف السياسية والأمنية التي مرت بها بلادنا فلسطين، فالمسحراتي يخاف من الخروج ليلاً، وكذلك الأطفال الذين كانوا ينشدون في الأزقة والطرقات قد اختفوا بسبب فرض منع التجول والقمع من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهناك سبب آخر وهو انتشار أجهزة التلفاز والمحطات الفضائية في البيوت، فالمرء يرغب في مشاهدة البرامج التلفازية بدلاً من خروجه إلى الأزقة والشوارع، أما إمكانية استعادة الطقوس السابقة فتأخذ وقتًا طويلاً، وأتصور أننا لن نستطيع استعادتها في القدس إلا بعد انتهاء الاحتلال الإسرائيلي.
على مر التاريخ الإسلامي كان يأتي الخير منهمرًا في رمضان، يتحقق النصر المأمول، ويفرج الهم، هل أصابك شيء من هذه النفحات في تاريخك الشخصي؟ الشيخ رائد: لا شك في ذلك، فهناك المواقف المحرجة التي عشتها كمسلم يصارع فتناً تحيط به من كل جانب، أو كملتزم في الحركة الإسلامية يعيش ومن حوله المؤامرات المتواصلة على الإسلام والمسلمين وعلى العرب والفلسطينيين، ففي خلال هذه الأجواء كنا نستبشر بالفرج واليسر بعد امتحانات صعبة ما كان لها أن تنفرج علينا لولا لطف الله تعالى في أجواء هذا الشهر الفضيل وفي رحاب المسجد الأقصى المبارك، وهذا الأمر أكد لي بالدليل القطعي التاريخي وبالدليل القطعي المعاصر أن من أخلص للمسجد الأقصى المبارك فإن اللهتعالى يكرمه بالفتوحات الربانية واللطائف الرحمانية التي تحفظه وتحرسه وتسدد خطاه من حيث لا يحتسب.
ويعقب الشيخ عكرمة في أسىً ظاهر: نعم لقد أكرمنا الله هنا بالكثير من فضله، ولكن مع الأسف نحن ندرس في التاريخ عن الانتصارات التي تحققت في مراحل من الزمن بدءاً بمعركة بدر وانتهاءً بعين جالوت، لا شك نحن نتغنى بأمجاد الماضي، لكن هذه الأمجاد لم تتكرر في عهدنا، فإننا ما زلنا نجتر مأساة مجزرة الخليل التي حصلت في منتصف شهر رمضان عام 1994م ـ 1414هـ.
الإيمان عادة يزيد وينقص، إلا أنه في رمضان من المفروض أنه يزيد ويزيد فقط، هل هذا ممكن؟ وكيف تحققه بنفسك؟
الشيخ عكرمة: ما من شك أن الإيمان يزيد وينقص، والأحرى بالمسلم أن يزيد إيمانه في شهر رمضان المبارك، ويمكن تحقيق ذلك بالصوم أولاً وبتلاوة القرآن الكريم وأداء صلاة التراويح ثانياً، بالإضافة إلى الصلوات المفروضة والابتعاد عن الغيبة والنميمة والخوض في أعراض الناس وتجنب الجدل والخصومة.
نحن نؤكد دائما يقول الشيخ رائد مكملا الحوار أن الله تعالى أعلم بمن اتقى وهو الذي يزكي من يشاء ويكرم من يشاء، ونبقى على رجاء أن تسعنا هذه الرحمة الربانية التي وسعت كل شيء، خصوصًا في شهر رمضان المبارك الذي تصفد فيه الشياطين فتخنس وتلجم وتختفي وساوسها ودسائسها الباعثة للشر والفجور، وخصوصًا ونحن نعيش في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس الذي بارك الله فيه وحوله والذي منحة الرسول عليه الصلاة والسلام من الله شهادة دائمة إلى قيام الساعة عندما قال لنا وهو الذي لا ينطق عن الهوى: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله"، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: "في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس".
لذلك فسنبقى على أمل أن تعمنا اللطائف الرحمانية في شهر الكرم، وفي هذه البقعة المباركة حصن الظاهرين على الحق إلى قيام الساعة.
هو شهر في العام اسمه رمضان، أما فعله فلا حدّ له من عمق أثره، فالبركة فيه تعم حتى في الفريضة لتكون بأجر سبعين فيما سواه، هل حلت عليك البركة؟
الشيخ عكرمة: نحن نأمل من الله سبحانه أن تحل بركة هذا الشهر على جميع الصائمين، وإنني أحس في كل رمضان أن أعمالي تكثر والتزاماتي تزداد، وهذا من بركة رمضان.
وأما الشيخ رائد فيقول: إن بداية الصراع بين الحق والباطل تبدأ بين إرادة الإنسان والهوى المغروز في داخله، فإذا انتصر في هذه المعركة فهو مؤهل أن ينتصر في غيرها، ولا شك أنها معركة داخلية في صدره فإذا انتصر في هذه المعركة الداخلية مع هوى نفسه فهو مؤهل أن ينتصر في معاركه الخارجية مع أعدائه على اختلاف عناوينهم وأحزابهم، ولا شك أن رمضان الكريم هو مدرسة لنا، وهذا هو البعد العسكري الذي يدرب الإنسان حتى يتفوق بإرادته على نفسه فيحرز نصرًا مباركًا في هذا الصراع الأبدي الذي يدور في داخله، ولعلي هنا أتذكر حديث رسول الله عليه السلام الذي يقول فيه : " الشيطان رابض على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا سكت وسوس" وحتى نصل إلى هذا الإنسان الذاكر الذي يخنس لذكره الشيطان لا بد لنا من هذه المدرسة مدرسة رمضان: شهر القرآن وشهر الذكر.
يرتبط الجهاد والإيمان برمضان أكثر مما يرتبطان بسواه، لماذا وكيف؟
الشيخ عكرمة: نلاحظ أن معظم الانتصارات والمعارك وقعت في شهر رمضان، وكان آخرها حرب رمضان في مصر، وهذا يؤكد على أن الصوم لا يضعف من الهمة ولا يضعف من الصحة بل إن إرادة الصائم تكون أقوى من إرادته في غير رمضان، وإن الذي يتصور أن شهر رمضان هو شهر كسل وخمول فإنه في الحقيقة لا يدرك معنى الصوم ولم يتذوق روحانية هذا الشهر المبارك.
ويعقب الشيخ رائد رابطاً الماضي بالمستقبل: أحب أن يكرمنا الله تعالى بإحياء رسالة رمضان التي كانت في تاريخنا فأثمرت بدرًا وفتح مكة وفتح الأندلس، أحب أن تلتقي الأمة على إحياء معاني رمضان وبشكل خاص على إحياء معنى الوحدة ظاهرًا وباطنًا في حياة الأمة الإسلامية، فرمضان الذي يوحد الأمة في ظاهر حياتها من خلال جلسة السحور ومتعة الفطور وبركات صلاة التراويح، كم أتمنى أن ينعكس ذلك على وحدة القلوب بعد أن أعطانا رمضان وحدة القوالب، ولعل ذلك سيتحقق قريبًا بإذن الله رب العالمين، حتى يصبح جرح فلسطين وجرح الشيشان وما بينهما من جراح حتى تصبح كلها جرحًا واحدًا وألمًا واحدًا يلتقي عليه حاضر الأمة الإسلامية بدون استثناء.
هل هناك شيء تحب أن يتحقق في رمضان؟
الشيخ رائد: أسال الله سبحانه وتعالى أن يكرم الأمة الإسلامية خلال رمضان المبارك بإحياء دينها وتجديد إيمانها، واستحضار قوتها واستعدادها الدائم للقاء الله تعالى، إنني أسال الله تعالى أن يكرمني وأن يكرم الأمة الإسلامية عاصيهم وطائعهم بهذا اللطف الرباني، لأن في ذلك ربح الدنيا والدين، وربح الدنيا والآخرة، وعزة الإسلام والمسلمين بإذن الله تعالى.
ويلخص الشيخ عكرمة الأمنيات قائلاً: أتمنى أن أرى وحدة المسلمين وانتهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأن يرفع عن الأمة الإسلامية الخلافات والانشقاقات وكثرة الجدل.
لو أردت أن تتكلم بلسان حال المسجد الأقصى فماذا ستقول لمسلمي العالم؟
الشيخ عكرمة: المسجد الأقصى يستنهض الهمم ويستغيث لأنه في خطر، ويطالب المسلمين أن يتوحدوا لإنقاذه من الاحتلال الإسرائيلي.
ويكمل الشيخ رائد: إن كنت قائلاً سأقول كما قال شاعرنا :
أنا ثالث الحرمين لا أبغي سوى ... أن تستحي من نكبتي يا أمتي
ــــــــــــــــــــ(1/131)
رمضان في تركيا
تقرير:سعد عبد المجيد
يستقبل الشعب التركي المسلم شهر رمضان المبارك بمظاهر من الفرح والبهجة، مثلما هو الحال عند كل الشعوب الإسلامية في أركان المعمورة، والحقيقة أن هذه المظاهر العلنية من الشعب التركي فيها البراهين والأدلة الكافية على عمق وترّسخ الإسلام، ورفض المبدأ العلماني اللاديني الذي تتمسك به النخبة الحاكمة في تركيا منذ عام 1923وحتى اليوم، وفي فقرات هذا التقرير نستعرض ونقدم بعضًا من هذه المظاهر التي تجتاح الشارع التركي مع أيام شهر رمضان المبارك.
إنارة المآذن وصلاة التراويح
على الرغم من اعتماد هيئة الشؤون الدينية التركية على أسلوب الحساب الفلكي في تحديد موعد بدء هلال شهر رمضان المبارك، وهو الأمر الذي يجعل تركيا عادة تبدأ أيام الشهر في موعد مختلف عن بقية العديد من الدول الإسلامية (هذه السنة 1420هـ جاء البدء مواكباً للعديد من دول العالم الإسلامي)، إلاّ أن ظاهرة إنارة مآذن الجوامع المنتشرة في تركيا عند صلاة المغرب وحتى الصباح الباكر تُرى واضحة في المجتمع التركي مع بدء أيام شهر رمضان المبارك، وأيضًا في المناسبات الدينية الإسلامية. ومظهر إنارة المآذن ويسمى عند الأتراك بـ "محيا"وهو المظهر المعبر عن الفرحة والبهجة بحلول الشهر المبارك(يقول رئيس هيئة الشؤون الدينية التركية بأن الهيئة ترعى حوالي 77ألف جامع في تركيا، وأن الشعب التركي لا يمكن أن يعيش دون جامع وأذان)
وتصحب ظاهرة إنارة المآذن ظاهرة أخرى هي أيضًا من نفحات الشهر الكريم، ألا وهي صلاة التراويح التي تتمتع بحب عظيم واحترام كبير عند أفراد الشعب التركي، فبعد تناول طعام الإفطار يهرع الأطفال والشباب والنساء والرجال ناحية الجوامع والمساجد لحجز الأماكن في صلاة العشاء ومن بعدها صلاة التراويح التي تتم على المذهب الحنفي، ويقوم أهل الخير من الأتراك بتوزيع الحلوى على الأطفال المشاركين في صلاة التراويح عقب انتهائها.
قراءة القرآن الكريم
الحقيقة أن الأتراك من أكثر الشعوب الإسلامية حساسية واحتراماً وتبجيلاً لكتاب الله، فالقرآن الكريم مثلاً يوضع أعلى الكتب في المكتبات أو في مكان بارز داخل المنزل أو المكتب، ولا يقبل الأتراك بأي حال وضع القرآن الكريم بين الكتب العاديّة أيًّا كان شأنها أو قيمتها، بل يضعونه أعلاها دائماً، ومن العادات الجميلة والمحبوبة عند الشعب التركي اهتمامه بقراءة القرآن طيلة شهر رمضان، فعلى صعيد تلك العادة المحبّبة يقوم الأتراك من الرجال بتقسيم سور القرآن الكريم فيما بينهم، على أساس قدرة الشخص في تحمل قراءة كمٍّ من السور القرآنية، فالبعض يقبل قراءة سورة والبعض الأخر يقبل قراءة أكثر من سورة، وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان تقوم هذه المجموعة أو تلك التي انتهت من ختم القرآن بالذهاب سويًّا إلى أحد الجوامع القريبة لكي تقوم بالدعاء الجماعي الخاص بختم قراءة القرآن، و يشارك إمام الجامع في الأغلب هذه الجماعة في مسألة الدعاء والحفل الديني الصغير الذي يقام داخل الجامع على شرف القرآن الكريم.
معرض الكتب الدينية
قبل 18 سنة تقريباً بدء الشعب المسلم في تركيا اتباع ظاهرة جديدة، لم تكن موجودة عند الأتراك من قبل، وهي إقامة معرض للكتب الدينية يبدأ في الأسبوع الثاني من شهر رمضان، ويستمر حتى نهايته، و يقام هذا المعرض سنويًّا في الجامع الكبير"أولو جامع" بالعاصمة أنقره، وفي الرواق الداخلي لجامع السلطان أحمد بمدينة إستانبول، وترعاه هيئة الشؤون الدينية (الوقف الخيري للنشر) بالتنسيق مع وزارة الثقافة التركية، وتبدأ أنشطة هذا المعرض بعد صلاة المغرب من كل يوم، حيث يتوافد الآلاف من الأتراك، رجال ونساء، على ميدان السلطان أحمد في إستانبول لأداء صلاة العشاء وصلاة التراويح، ثم يتجولون في معرض الكتب المقام في الصحن الداخلي للجامع، وعلى هامش نفس المعرض يتم إقامة معرض آخر يتعلق بفنون الخط العربي والتذهيب ،وهما من الفنون الإسلامية الشهيرة عند الأتراك.
البرامج الدينية
يقوم تلفزيون وإذاعة الدولة TRT 1 TV في أيام السنة العادية ببث فقرة دينية لمدة تتراوح بين ربع إلى نصف ساعة عصر يوم الخميس فقط، ولكن في شهر رمضان وقبل سنوات قليلة فقط بدء تلفزيون الدولة ببث أذان المغرب والفجر حيّا من الجوامع الكبيرة طيلة أيام الشهر، ولعلّ تلفزيون الدولة يحاول بهذا الموقف الجديد بث الأذان على الهواء مباشرة وقراءة القرآن الحفاظ على موقعه بين المحطات الخاصة التي تنافسه بشدة وتخطف منه الأضواء كل يوم، وفي الوقت الذي يقدم تلفزيون الدولة برنامجين أو فقرتين دينيتين قبل الإفطار وقبل السحور مدتهما محدودة، وبرنامجًا ثالثًا يوميًّا يخص مائدة الإفطار خلال شهر رمضان، علاوة على بعض الأفلام أو المسلسلات الدينية المدبلجة من العربية، تقوم المحطات الخاصة ببث برامج كثيرة ومختلفة خلال الشهر الكريم، فهناك أفلام سينمائية ومسلسلات اجتماعية في عام 1993 قدمت محطة التلفزيون الخاصةKANAL 6 مسلسلاً بعنوان "أهلا رمضان "وهى المرة الأولى في تاريخ تركيا المعاصر أن تقوم محطة تلفزيونية بإعداد مسلسل خاص لشهر رمضان ، إضافة لبرامج وقت الإفطار ووقت السحور التي تبث فقط في شهر رمضان، وفي السنوات الأخيرة درجت بعض المحطات التلفزيونية الخاصة على ختم القرآن الكريم خلال أيام الشهر، وتخصص البعض منها برنامجًا يوميًّا عن المسحراتي.
ومثلما تنشط المحطات الخاصة التلفزيونية في رمضان، فإن المحطات الإذاعية الخاصة والتي تبث على موجات FM تنشط بشكل أكبر،وتسيطر على مشاعر الناس في أوقات النهار وعلى النساء بالذات .
موائد الطعام الرمضانية
كان أهل الخير والجمعيات الخيرية في الماضي القريب يقومون بإعداد موائد الرحمن المجانية لإفطار الصائمين الذين يدركهم وقت الإفطار وهم في الشوارع أو في الطريق إلى منازلهم، ولكن كانت الموائد تتم داخل المباني والحوائط شبه المغلقة، ولم تأخذ هذه الظاهرة شكل العلن أو النزول في الشوارع والميادين التركية إلاّ على أيدي رؤساء البلديات التابعة لحزب الرفاه (المحظور)، وقد استمر حزب الفضيلة وبلدياته في تعقب هذه الخطوة بعد إغلاق حزب الرفاه، وتعد بلديتي إستانبول وأنقرة أولى البلديات العامة التركية التي تقدم طعام إفطار ساخن وطازج للصائمين في الشوارع والميادين، وقد بدأت هذه الظاهرة في عام 1995/1415هـ.
ومن المعروف أن الحكومة التركية لا تراعي حرمة الشهر أو ترفع المشقة عن العاملين وموظفيها، فهي لا تحدث أي تقليل في ساعات العمل، بل تصرف العمال والموظفين في الساعة الخامسة من كل يوم وهو نفس توقيت أذان المغرب، ولكن الأمر يختلف في شركات القطاع الخاص التي تصرف عمالها قبل موعد الإفطار بساعة تقريباً، ومن ثم فقد كانت فكرة الموائد الرمضانية العامة والمجانية التي تقام في الشوارع مناسبة جداً لخدمة الألوف من الصائمين الأتراك الذين لا يستطيعون إدراك الإفطار في بيوتهم.
زيارة جامع الخرقة الشريفة
يقع جامع الخرقة الشريفة في أشهر أحياء مدينة إستانبول، وهو حي أو محلة "الفاتح" والذي يقع في القطاع الأوروبي من المدينة، وهو من الجوامع التي بنيت في العصر العثماني، حيث سمي باسم الخرقة الشريفة بسبب أنه يحتضن في مكان مميّز داخله بالخرقة النبوية الشريفة التي أحضرها السلطان سليم لإستانبول بعد رحلته للشرق في عام 1516م، وتعد زيارة الجامع وإلقاء نظرة على "بردة" الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أشهر مظاهر شهر رمضان عند الأتراك، ولا يسمح في العادة بفتح مكان الأمانة الشريفة للزيارة في أيام السنة، ولكن ابتداء من النصف الثاني لشهر رمضان المبارك يسمح بزيارته وخاصة للنساء، حيث تتوافد الألوف كل يوم من جميع أنحاء تركيا لإلقاء نظرة على الأثر أو الأمانة النبوية الشريفة، فتبدأ الزيارة بعد الإفطار وتستمر حتى ما قبل وقت الفجر، ويتم تنظيم دخول الرجال قبل الإفطار وأوقات النهار، أما النساء فتكون زيارتهن في الليل، وربما يكون المقصود من السماح للنساء بالزيارة في وقت المساء والليل لكي تعطى الفرصة للوفود والجموع النسوية الراغبة في الزيارة اللواتي يأتين من على بعد مئات الأميال فلا يصلن بالطبع إلا في الليل، ويعدن في حافلات جماعية تخصص من طرف الجمعيات الخيرية لنقلهن بين بلداتهن وقراهن وبين مدينة إستانبول.
وزيارة جامع الخرقة الشريفة أصبحت من العادات الشعبية عند الأتراك والتي تتجلى بوضوح في شهر رمضان.
خبز "البيدا "والكنافة
من عادات الأتراك في شهر رمضان أن يبدءوا إفطارهم بتناول التمر أو الزيتون، ويأكلون التمر والزيتون والجبن بأنواعه قبل تناول الطعام الشهي، والبعض يقوم لأداء صلاة المغرب أولاً، ثم يعود لمائدة الطعام مستمراً في إفطاره، والبعض يكمل إفطاره ثم يؤدي صلاة المغرب، وفي شهر رمضان تقوم الأفران والمخابز بعمل خبز خاص لا يُرى إلاّ في شهر رمضان ويسمونه بـ"بيدا"وهى كلمة فارسية تعني"الفطير"، وهو نوع من الخبز المستدير بأحجام مختلفة ويباع بسعر أغلى من سعر الخبز العادي، ولمّا كانت فطائر" البيدا" تخص شهر رمضان؛ فإن الأطفال يقفون في صفوف طويلة قبل موعد الإفطار بقليل للحصول على الفطائر الطازجة، والأتراك عادة من الشعوب الإسلامية التي تتمتع بثقافة في الطعام والشراب تفوق قرناءها، وتعتبر الكنافة (العجائن المستديرة والتي تمتلئ أو تحشى بالمكسرات وتسمى عند أهل الشرق بالقطائف) والجلاّش والبقلاوة من أبرز أنواع الحلويات التي يقبل عليها الأتراك في شهر رمضان، ولكن يظل دائمًا وأبدًا طبق الشوربة الساخنة من الأطعمة الأساسية في المائدة التركية، ولعل هذا راجع لظروف المناخ البارد في أكثر أوقات السنة.
في الختام فإن أبرز مظاهر شهر رمضان عند الأتراك تبدو بوضوح في مدينة إستانبول التي تضم أكبر وأجمل جوامع الدنيا من الناحية المعمارية والفنية، وفي إستانبول أيضا تكمن أكبر كثافة سكانية في تركيا (حوالي عشرة ملايين نسمة)، والمدينة تمثل الرمز الإسلامي عند الشعب التركي منذ فتحها في عام 1453 السلطان محمد الأول الذي لقبّه الأتراك بالفاتح، ولا غرابة في أن تستحوذ إستانبول على المظاهر الحيّة لشهر رمضان فهي المدينة التي ظلت عاصمة للدولة العثمانية الإسلامية قرابة خمسة قرون، ففيها يقرأ القرآن يوميًّا وبدون انقطاع على مدار الأربع والعشرين ساعة في قصر طوبقابي (الباب العالي) إضافة إلى الأمانات النبوية المقدسة التي جلبها السلطان سليم الأول عند نزوله للشرق العربي في مطلع القرن السادس عشر
ــــــــــــــــــــ(1/132)
المستشار القاضي فيصل المولوي -في رمضان نصل إلى قلوب الناس
إيقاع العصر يتسارع، ووقت العمل يتزايد، فلم يعد الناس يستعدون لرمضان، كما كانوا يفعلون من قبل، ولكن التكيف مع إيقاع العصر حاصل بنسب متفاوتة خصوصاً مع الصحوة الإسلامية التي تحاول استيعاب الجهل بالأحكام الشرعية. في بيروت خصوصاً، انحسرت ظاهرة الخيام الرمضانية التي شهدت زخماً إعلاميا مفتعلاً في السنوات القليلة المنصرمة لكنها لم تختف تماماً، فيما المساجد تزدحم بالمصلين بعد صلاة العشاء لأداء صلاة التراويح.
في رمضان، تنشط الجمعيات الخيرية في جمع الزكاوات والصدقات، وتلقى المواعظ والدروس قبولاً لا تجده في أي شهر آخر.
* يرافق شهر رمضان عادات وطقوس معينة، منها الجيد ومنها السيئ، وقد تبدلت العادات الى حد ما ، بين الماضي والحاضر، كيف ترون الفارق بين أجيال الأمس، وأجيال اليوم، من هذه الناحية؟.
رمضان من أهم شهور السنة بالنسبة للعبادات كلها، "كل أعمال ابن آدم الحسنة بعشر أمثالها إلا الصيام فهو لي، وأنا أجزي به". ولرمضان في الأصل طقوس دينية بحتة، وهي المنصوص عليها في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الطقوس لم يطرأ عليها تبدل، ولكن إلى جانب الطقوس الدينية هناك عادات الناس التي أحاطت بالعبادات بالكثير من المسائل الجديدة التي تلتقي أحياناً مع العبادة، وأحياناً تُخالفها. وبطبيعة الحال الناس مع أوامر الله هكذا فمنهم من يأخذها وينحرف بها، ومنهم من يُحسن تطبيقها بأساليب جديدة في ظروف جديدة، وهذا ما يحصل مع كل العبادات كذلك، وليس مع الصيام وحسب.
في الماضي، كان الجو الغالب في المجتمع هو جو الالتزام الصادق بالعبادة، أكثر مما هو في أيامنا هذه، ربما مع الصحوة الإسلامية انبثق جو مماثل من الالتزام، لكن فيه قدر كبير من الجهل مما لم يكن في السابق، وربما يعود ذلك كثرة العلماء والموجهين والدعاة في الماضي عنه الآن، حيث كان انتشار العلوم الشرعية بين الناس واسعاً، في حين أننا اليوم في معادلة معكوسة، فالأعداد تتكاثر، والدعاة قليلون، وهذا ما جعل ساحة الصحوة الإسلامية عرضة للجهل الذي يؤثر في تثبيت بعض العادات والانحراف بها على حساب الالتزام الصحيح بالمعاني الإسلامية.
* نلاحظ أن إيقاع الحياة تغير كثيراً بين الأمس والحاضر، ففي السابق كان الإيقاع أبطأ وكان العمل لا يستنزف عمر الإنسان، فكان الاستعداد النفسي لاستقبال رمضان أكبر بكثير بخلاف ما نحن عليه اليوم، فكيف تجد رمضان مع إيقاع العصر؟.
الإنسان يتكيف بحسب ظروفه الخاصة، وبالمجمل، وكما ذكرت آنفاً، فإن المجتمع المعاصر يتميز بالسرعة في كل أعماله، كما يتميز بمزيد من الانشغال بالأعمال الدنيوية، وهذا يؤثر في حالة الصيام بلا شك، ولكن من جهة أخرى، يشعر المسلمون بأن الصيام عبادة لا بد منها، وهم يتلذذون بهذه العبادة، التي هي في الأصل كبح جماح الشهوات، خصوصاً الشباب الذين يتميزون بالرغبة في التسامي والرقي فوق الغرائز، وهؤلاء يُكيفون أشغالهم بحيث يبقى متسع من الوقت للتعبد، والمجال أوسع بالنسبة للعبادة في أيامنا هذه، حيث يقصر النهار ويطول الليل، ومن أهم العبادات في رمضان صلاة التراويح وصلاة الليل قبل الفجر، فمتى حل وقت المغرب والعشاء انتهت كل أعمال الناس، لذلك تجد إقبالا منقطع النظير على صلاة التراويح في المسجد، حتى لكأن الوقت وقت صلاة الجمعة. ويبقى مع ذلك متسع من الوقت للنوم والاستيقاظ قبل الفجر، حيث يصلي المرء ما شاء الله له أن يصلي ويتسحر ويصلي الفجر في المسجد.
وفي هذا الشهر، تجتاح الناس رغبة جامحة في التعبد وتلاوة القرآن والإنفاق في سبيل الله، وتجد الأعمال الاجتماعية الواسعة لها مكانا في رمضان لا تجدها في غيره، فالجمعيات الخيرية تجمع من الزكاة والصدقة ما تستطيع به الإنفاق طيلة السنة.
* في السنوات القليلة الماضية، برزت ظاهرة سيئة وهي استغلال الإعلام المرئي رمضان في نمط مغاير لروح الشهر، خصوصاً ترويجه للخيام الرمضانية، فما رأيكم في الدور المؤذي للإعلام في هذا المجال؟.
يعمل الإعلام في المجالات التي يميل إليها أصحابه، فهناك كثير من المحطات الفضائية التي تركز في رمضان على التوعية والبرامج المفيدة، بحث تملأ اليوم والليل، وفي المقابل هناك إعلام يستغل إقبال الناس في رمضان واجتماعهم في البيوت، فيبث بعض البرامج السيئة وغير النافعة.
أما الخيام الرمضانية فهي نوع من الاستغلال السيئ لرمضان، ولا يُقبل عليها في الأصل إلا من يصونون مكرهين أو مسايرة للعادات، أو الذين يصومون طوعاً لكن لا يتمتعون بمعرفة حقيقة الصيام، ولا يجمعون مع هذه العبادة أخلاقياتها، إنما ينتظرون انقضاء النهار للأكل والانصراف إلى شهواتهم. وهذه الخيام قد اتخذت لها حيزاً كبيراً في السنوات الماضية، وهي ظاهرة تلفت الانتباه وتسيء إلى المسلمين في آن واحد، لكنها هذه السنة أقل بكثير، وحتى أنواع الانحراف فيها قد قلت مقارنة بالسنة الماضية، حيث كانت تحفل بالرقص والغناء الماجن، وتقدم في بعضها الخمور باعتبارها مملوكة لغير المسلمين.
* هل كان للانتقادات دور في انحسار هذه الظاهرة؟.
بلا شك، فالانتقادات كانت كثيرة، ولما كانت الخيام الرمضانية باباً من أبواب المنكر فمن الواجب منعها، ونحن في لبنان لا نستطيع منعها، باعتبار اختلاط الطوائف فيه، والناس أحرار فمن شاء ذهب إليها ومن شاء امتنع، وإنما نسعى إلى تقليلها بقدر المستطاع، وينبغي هنا ملاحظة نقطة هامة وهي أن لدى الذين لا يذهبون إلى الخيام الرمضانية قدرا جيدا من الالتزام الشخصي.
* ماذا عن رمضان في حياة المستشار القاضي فيصل المولوي؟ وهل حدثت فيه واقعة معينة فانطبعت في وجدانه؟.
لا يوجد شيء خاص في هذا المجال، فأنا ككل الأشخاص المتفرغين للعمل الإسلامي مطالب في هذا الشهر بكثير من المحاضرات والندوات والمشاركات، وأقوم بما ييسر الله لي، ولكنني أشعر إجمالاً أن الناس أكثر تقبلاً لكل أنواع المواعظ والتزكية في رمضان، فعندما أتحدث إليهم فكأنني أصل إلى قلوبهم، في حين أن الأمر يكون أقل بكثير في غير رمضان
ــــــــــــــــــــ(1/133)
السيد محمد حسن الأمين-أخشى أن تتحول العبادات إلى طقوس مجردة
أجرى الحوار: سالم مشكور بيروت
العلامة السيد محمد حسن الأمين أحد رجال الدين اللبنانيين الكبار، بل هو رمز من رموز الوعي الديني في الساحة اللبنانية، له العديد من الدراسات والبحوث التي تنشرها المجلات الدورية، وهو أديب وشاعر إلى جانب كونه رجل دين بارزًا، ومستشاراً للمحكمة الشرعية العليا، له منزلة كبيرة لدى كافة أتباع المذاهب، بل والأديان التي يتألف منها المجتمع اللبناني؛ لما عرف له من وعي وانفتاح وروح حوارية، وعلم غزير.
هل يمكن القول أن واقع رمضان الحالي في البلاد الإسلامية هو الوضع المطلوب إسلاميًّا؟
هناك مفارقات كبيرة بين واقع رمضان الآن والوضع المرتجى له، أنا اعتقد أننا علينا أن ندرك معنى عبادة الصوم وغاياته والتي تتضح من خلال الحديث القدسي الذي ذكره كل الرواة على اختلاف مذاهبهم ودرجات ثقتهم والذي يقول: " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
هذا الحديث القدسي يشير إلى العلاقة المباشرة بين الإنسان وخالقه في موضوع الصوم، في حين أنه يمكن للعبادات الأخرى أن يدخلها عنصر النفاق بقصد أو بغير قصد.
والصوم ألا يمكن أن يدخله هذا النفاق؟
العبادات الأخرى كالصلاة والحج والزكاة هي عبادات إيجابية، أي تتضمن الإقدام على عمل مطلوب، فقط الصوم هو عبادة امتناع بحيث لا يمكن أن يعرف هذا العبادة إلا الطرفان الأساسيان فيها أي الصائم والله تعالى.
تحدثت عن غايات فريضة الصوم، فما هي؟
عبادة الامتناع تمثل أعلى أشكال الجهاد كما نفهمه، فنحن نمارس هذا الجهاد المتقدم من خلال هذه العبادة، والذي ترتكز على قاعدته كل أشكال الجهاد الأخرى، والحقيقة أن الإسلام لم يركز كثيرًا على الشرائع والقوانين، رغم أن المعروف عنه أنه يحتوي على سنة كاملة للحياة، لكن لو تأملنا جيدًا في النص القرآني؛ لاحظنا أن التركيز على عناصر هداية وتربية الكائن البشري يحتل القسم الأكبر من الآيات القرآنية، فقد أحصى العلماء حوالي (520 آية) فقط من أصل أكثر من ستة آلاف آية قرآنية تضم التشريعات أي أن القرآن اهتم في التشريع بنسبة حوالي 10 بالمائة فقط من آياته، بينما خصص 90 بالمائة من هذه الآيات للهداية والإرشاد.
وماذا يعني هذا؟
هذا يعني أن الشريعة مهما كانت قانونًا عادلاً، لكن لا ضمان لتطبيقها إلا بنزاهة القائمين على هذا التطبيق، من هنا نلاحظ أن الإسلام اهتم في عنصر الهداية من خلال العبادات، لا بوصفها نوعًا من الاستجابة الطقسية التقليدية التي يمارسها الإنسان دون وعي لأهدافها إنما بوصفها شكلاً من أشكال التربية للإنسان على النحو الذي يتمكن فيه هذا الكائن الإنساني أن يشكل الضمانة لهذه الصيغة المعلنة في القرآن الكريم وهي خلافة الإنسان على الأرض.
على أساس الحديث القدسي المتقدم هل يمثل الصوم أعلى مستويات الهداية؟
بالضبط، فرغم أنه ليس معروفًا عن الصوم أنه أهم من الصلاة أو الحج ولكن بتأمل خاص في عبادة الصوم نتنبه إلى هذه الخصوصية الواردة في الحديث القدسي المتقدم وهي أن الإنسان يمارس من خلال الصوم أعلى أشكال العبادة المتمثلة بعبادة الامتناع أي الصوم.
والإنسان هو الكائن الوحيد المؤهل لممارسة فعل الامتناع بإرادته وخلاف مصلحته المباشرة، بل قد يكون هذا الامتناع ضد هذه المصلحة.
وما تأثير فعل الامتناع على الإنسان إيجابيًّا؟
عندما يمارس الإنسان الامتناع عن اللذات والشهوات بكل إرادته ووعيه؛ فإنه يبلغ درجة من البناء الذاتي والتهذيب مما قد لا يبلغه في العبادات الأخرى.
وهنا لا بد أن أشير إلى أن ممارسة الامتناع يمثل ذروة ممارسة الحرية الإنسانية، فكل امتناع يأتي طوعًا من الإنسان وتلبية لقناعة غير محكومة بإكراه هو شكل من أشكال الحرية الأسمى.
لكن الصوم عبادة مفروضة من الباري عز وجل.
نعم ،لكنه فرض يمكن للإنسان ألا يؤديه دون أن يتحمل نتائج معنوية أو اجتماعية سلبية بسببه، فالذي يفطر سرًّا يمكن أن يتوقى ما قد يصدر عن المجتمع من قمع وردع، لكنه يكون قد خالف قناعته الشخصية بأن الصوم هو عبادة امتناع طوعي، فعبادة الله اختيار وليست إكراه، وهي تحرر الإنسان من كل عبودية أدنى، إذن فالعبادة هي رفع لسقف الحرية فلا تصطدم بأي حاجز حتى تصل إلى الله، من هنا فعبادة الله لا تتنافى مع حرية الكائن الإنساني بل هي الوجه الآخر لحرية الإنسان.
لنأت إلى الممارسة الاجتماعية لعبادة الصوم، كيف تراها؟
للأسف، نرى في مجتمعاتنا الإسلامية غيابًا لجزء من هذه العبادة، بحيث تبدو الممارسات الحالية في جانب منها نوعًا من الفولكلور الذي يتكرس عامًا بعد عام.
مثلاً؟
ما نشهده من تحايل على الامتناع بحيث تتحول عبادة الصوم من عبادة حرمان (امتناع) إلى عبادة ترف يمثله الاهتمام المفرط في التهافت على المواد الغذائية وأشهى المآكل، وفي المآدب العامرة، بل وأكثر من ذلك هناك عملية تحايل على الزمن، كما يجري في بعض البلدان الإسلامية التي يعاد فيها تنظيم الوقت فينقلب النهار إلى ليل ينام فيه الصائمون، بينما يعملون ويخرجون ويأكلون ويمارسون شهواتهم طول الليل.
وهل في ذلك إخلال بالصوم؟
بل فيه إخلال بمقاصد عبادة الصوم، صحيح أن إمساك الإنسان عن الطعام منذ الفجر وحتى المغرب يجعله أدى هذه العبادة، لكن أين هي المقاصد السامية لهذه العبادة؟! البعض يحاول التحايل على ذلك بالتهام كميات أكبر من الطعام، أو نوم القسم الأكبر من النهار هربًا من الجوع والعطش.
لكن هذه الظواهر ليست عامة؟
صحيح، لكن لها درجة من الحضور بات يهدد بفقدان الفاعلية التي نتوخاها من عبادة الصوم لتهذيب الكائن الاجتماعي الإسلامي لترويضه وجعله أكثر قدرة على تحمل مسئولياته في مجالات الحياة وفي مجال الإخلاص لله.
ربما يكون الأخطر هو ظاهرة تفشي ممارسات خلال رمضان تكون منافية للدين تمامًا؟.
نعم، هذه ظواهر مؤسفة فما نلاحظه حاليًا في لبنان وبعض الدول الأخرى، هو عبارة عن ملاهٍ ليلية خلال شهر رمضان، تقع فيها ممارسات محرمة، إضافة إلى عملية عب الطعام بشكل غير مقبول، إضافة إلى ممارسات تستدرج الساهر الرمضاني إلى متع محرمة أساسًا سواء في رمضان أو في غيره، والمؤسف أن هذه الظاهرة تنتشر تحت اسم إحياء ليالي رمضان، أهكذا يتم إحياء ليالي رمضان؟ إن الأدبيات الدينية تتحدث عن أن ليل رمضان هو للقيام والتهجد، ونهاره للصيام، فلا يمكن للإنسان أن يصوم نهارًا ويندفع للذات ليلاً.
هل نخلص من هذا، إلى أننا بحاجة إلى نشر وعي إسلامي شعبي بمقاصد الصوم وغاياته؟.
بالضبط، نحن بحاجة إلى وعي أحكام الصوم ومقاصده، وما هذا الوضع الذي نراه إلا بسبب غياب هذا الوعي.
بل إن هذا الوعي مطلوب لكافة العبادات.
نعم أنا أشعر أن هناك خطرًا في أن تتحول العبادات الإسلامية إلى طقوس مجردة، وهناك فرق كبير بين العبادة والطقس.
وما هو؟
العبادة عنصر نابض وحيوي ومجدد للذات، أما الطقس فهو عنصر تقليد واحترام للسائد وامتناع بالشكل دون المضمون. وهناك خطورة حقيقية في أن تأخذ عبادات الإسلام شكل الطقوس نظرًا لبعدنا عن المقاصد، أنا من الداعين إلى ثورة فكرية تركز على نشر فقه المقاصد.
كيف يمكننا التوفيق بين عبارة "الصوم لي" الواردة في الحديث القدسي وبين ما تطرحونه من مقاصد الصوم الخاصة بمصلحة الإنسان؟
بقدر ما كانت العبادة متمحضة لله تعالى يكون حضور الإنسان فيها أكثر وثمرات الإنسان منها أكبر، من هنا فإن الصوم ذو وظيفة غيبية، لكنها في تجلياتها العامة وظيفة اجتماعية وسياسية واقتصادية لها علاقة بكل مجالات الحياة ومرافقها، وكل حيوية نضيفها لعبادة الصوم، من خلال استحضار مقاصده، هي بالضرورة تجديد للاجتماع الإسلامي، ولكل ما يسعى إليه من تقدم وازدهار، فليس الصوم عزلة عن الحياة؛ بل إنه الشكل الأرقى من أشكال الارتباط بالحياة، فهو الزهد الذي يجعلنا نعرف الحياة بصورة أفضل.
هناك من يتمسك بالصوم ، لكنه يمتنع عن أداء عبادات أخرى مثل الصلاة؟
أنا أعتبر مثل هذا الصوم طقسًا وفلكلورًا، فهو نظام غذاء، لكنه لا يلامس مقاصد الصوم الحقيقي الذي لا يمكن أن نتصوره بمعزل عن العبادات الأخرى التي تشكل شبكة متكاملة، صحيح مثل هذا الامتناع يسقط عن المرء واجب الصوم ، لكنه أداء شكلي للعبادة، ولا ترجى منه أية آثار إيجابية على الكيان البشري والاجتماعي
ــــــــــــــــــــ(1/134)
الدكتور أحمد صدقي الدجاني -يا لروعة ليالي رمضان في باحة الأقصى ..!
أجرى الحوار/ علاء الفقي
أوصى الدكتور أحمد صدقي الدجاني المفكر العربي الفلسطيني المعروف الشباب باستلهام روح رمضان، ومتابعة كل مجالات المعرفة من علوم وفنون وآداب وقيم روحية، وأن يعوُّدوا أنفسهم على الحرية مع حسن الاختيار والتفرقة بين الغث والسمين.
وتحدّث عن ذكريات طفولته في مدينة يافا في الأربعينيات من هذا القرن وكيف كان يستقبل أهل فلسطين الشهر الكريم، وترحاله إلى بلاد كثيرة، وتعرّفه على مظاهر الاحتفال فيها.. ويقول الدكتور الدجاني: إن هناك أربعة مسارات في حياته في كل منها محاولات للإنجاز وهي: الأسرة، والتأليف، والعمل الفكري، ثم العمل العام.
ذكريات رمضان:
ماذا عن رمضان وذكرياته في حياتكم ... طفلاً وشاباً وشيخًا؟!
يا لها من ذكريات رائعة ترافق المرء عبر رحلة حياته ضمن الأجل المكتوب، تبدأ بأيام هذا الشهر المبارك في بلدة جميلة اسمها يافا، يتفتح الطفل فيرى الأهل جميعًا يقبلون بفرح على الشهر، ويستزيد بخاصة من جدته، وكانت من أهل العلم فيجلس في حجرها، ويستمع عن رمضان وعن أحداث جرت في الشهر المبارك مقترنة بسيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. وكنت أخرج قبل غروب كل يوم إلى شاطئ البحر لأرى قرص الشمس وهو يغيب تدريجيًا، حتى إذا اكتمل المغيب كانت الفرحة! فرحة الصائم حين يفطر. فنعود لنجتمع حول الإفطار ويجري الحديث حلوًا، ثم كان يُسمح لي بعد ذلك أن أخرج مع إخوتي قبيل صلاة العشاء حيث نغني الأغاني الشعبية التي كانت سائدة حينذاك في فلسطين، وكانت في إحدى مطالعها تتحدث بلازمة "يا حليّه..." من الحلوى، وتحكي كيف رحنا، وكيف جئنا، وتحكي عن الجيران..
ويفرح الأطفال حينما يمرون على الجيران الذين عادة ما يقدمون لهم الحلوى كنوع من التكافل الاجتماعي..
اقترن رمضان في فترة الطفولة وما بعدها بالأحداث التي كانت تشهدها فلسطين.. فمع الفرحة الشديدة كان هناك القلق الدائم، وكنا نستمد من روح رمضان زادًا يمكننا من الاستجابة لتحديات تلك الأحداث الجسام.
* في بلاد الشام:
وأذكر حين حلّت نكبة 1948 بشعبنا وأمتنا وأخذتني إلى بلاد الشام، وهناك أذكر في رمضان كنت فتى جاوز الثانية عشرة، واستمرت هذه المرحلة حتى الثانية والعشرين. وأخذ شهر رمضان منها أبعادًا جديدة؛ حيث بدأت أتردد على طلب العلم أولاً في اللاذقية ثم حلب ثم دمشق.. ودومًا كانت الفرحة عظيمة بالشهر الكريم، وكان الشعور عظيمًا ببركته على صعيد الإنجاز، فالعمل مستمر، ولكنه يتضاعف ببركة هذا الشهر.
* في ليبيا:
وهنا الذكريات تكتمل بصلاة التراويح التي أقبلت عليها، وكنت أستمتع بزميل لي يقرأ القرآن ويتلو منه جزءًا كل يوم، وكان الإقبال على الجلسات العلمية مستمرًا.
* في القدس:
كان ذلك قبل نكسة 1967 ولمدة عامين.. ويا لروعة الذهاب إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه أثناء النهار وبعد الغروب في العشاء والتراويح. حيث تتجلى معان كثيرة مقترنة بروعة المكان وتستحضر جلال الزمان.
* في موسكو:
ثم تأتي مرحلة تالية يأخذني العمل العام فيها في خضمه فكنت أراجع ما كتبته في أوراقي، وكنت في السبعينيات والثمانينيات دائم الترحال مع الحرص على التقليل منه إذا أقبل رمضان، وإن كان لا بد من السفر في هذا الشهر فكنت أسعد بالتعرف على عادات الشعوب والأقوام..
فما زلت أذكر كم تأثرت في عام 1974 والشيوعية رامية بظلالها الثقيلة على بلادنا الإسلامية في وسط آسيا حين ذهبت إلى الاتحاد السوفيتي السابق ضمن وفد برلماني، وكان الشهر رمضان، وكنت ملتزمًا بالصوم ولله الحمد، في ظل ضيافة لا تلتفت إلى هذه المعاني.
وأذكر أننا كنا في سمرقند والتقينا بشباب يحمل الأسماء الإسلامية، ولكن مع التحوير فهذا أحمدوف وذاك نوروف ..
وتوجهنا مساء يوم إلى قرية فإذا بي أرى رجالاً صائمين تأثرت بهم كثيرًا، ودمعت العين لهم وهي ترى فيما ترى المستقبل وتردد بأن كلمة الله هي العليا ...
* ذكريات شيخ:
كانت تلك الأيام التي قضيتها في أسفاري تختلف عن مرحلة الشيخوخة. التي لها نظام يناسبها مثل كل مرحلة في العمر، حيث أنام الآن مبكرًا وأصحو مبكرًا قبل الفجر بساعة أو اثنتين، ويكون وقت السحر للتلاوة، وبعد أن يستريح المرء بركعتين يطيب لي أن أقرأ في السيرة وبين يدي كتاب: "حدائق الأنوار" للشيباني أطلع عليه للمرة الأولى بعزم، وسأتابع بإذن الله مؤلفات السيرة النبوية؛ حيث حرصت على تكوين ركن في المكتبة لكتب السيرة، وأعزم على قراءتها بإذن الله في هذه المرحلة حيث تتناسب مع ظروفها.
وإذا ما تمت صلاة الفجر أخلد إلى النوم، وهذا طارئ حديث مؤخرًا، وكان علاجًا لعارض صحي أصابني بسبب اضطراري، حيث كنت خلال السنوات الماضية أتابع العمل منذ الصحو في السحر إلى ما بعد الظهر، وقد يمتد إلى العصر، الأمر الذي أخل إخلالاً شديدًا ونبه إلى ضرورة اعتماد الميزان، واستذكار آيات سورة الرحمن، فكل شىء بحسبان.
والنوم يكون لساعة أو اثنتين وهو يفيدني كثيرًا ولله الحمد، وأسمع بعدها أخبار عالمنا لساعة كاملة، ولا أسمع غير ذلك طيلة النهار.
الغث والسمين في رمضان
حلّت برامج التلفاز والألعاب المختلفة مكان المظاهر الروحية البسيطة التي كان يستقبل بها المسلمون رمضان والعيد. فهل يمكن استعادة ما تاه منها في أضواء المدينة؟!
هذا يذكرني بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل قوله: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"..
أما عن جهاز التلفزة الذي أصبح في كل بيت فللمرء أن يختبر نفسه في التعامل معه، وأذكر أن كثيرًا من البرامج هي من المنغصات في رمضان، وأكتفي برؤية دقائق معدودة ليس من أجلي فحسب، بل من أجل أولادي الذين أربي فيهم النزعة النقدية..
ولكنني أسجّل أنني في السنوات الماضية سمعت من أصدقاء كيف تابعوا مسلسلات قيمة في الساعات المتأخرة من الليل..
أخت كريمة قالت لي : إنها لم تفارق حلقة واحدة من مسلسل "عمر بن عبد العزيز" وفي سنة تالية تابعت مسلسل "هارون الرشيد".
وهذا العام لفتني مسلسل "أم كلثوم"، وخاصة في حلقاته الأولى الذي يتناول الأجواء التي سادت في مطلع القرن والخاصة الإنشاد الديني ويا لروعته، وهو جانب من الفن عنيت به في السنوات الأخيرة من العمر، ولا زلت أحرص على سماع فرقة الإنشاد الديني وخير للمرء أن يتعايش مع متغيرات الحياة حتى لا تخل ببرنامجه الرمضاني، وهذا أمر بالنسبة لجيل الشيوخ سهل، لكنني أتوجه بحديثي إلى جيل الشباب، لأنه ينطوي على طبيعة تنجذب إلى الزخرف، كما أن من طبيعته حب الانطلاق والحركة..
وأقول: إن في حياتنا العصرية الغث والسمين، ولكن الإنسان قادر على أن يختار، لأنه فاعل في هذه الحياة..وأطمح من الشباب أن يتابعوا ثورة الاتصال في كل مجالات المعرفة من علوم وفنون وآداب وقيم روحية، وأن يختاروا ما يناسبهم.
فإذا ما رأى الغث يبادر فيقول: هذا غث. ويطفئ الجهاز، وكذلك عند الطعام تأتي لحظة شعور بالشبع الأول إذا توقف عندها الصائم استلهم روح الشهر، وإذا تجاوزها أكل ضعف ما يحتاج إليه، ويصاب بالتخمة.
من نفحات رمضان
ارتبط رمضان ، أيامه ولياليه بالخير والفرج، فهل تحقق من ذلك شىء في حياتكم وهل هناك موقف تذكرونه دائمًا؟
حينما أتأمل رحلة الحياة وأستذكر فصولاً منها أجد قلبي يردد قبل لساني قول الله تعالى: "وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا". فنعم الله كثيرة على مدار العام، وفي رمضان أكرمنا الله بالبركات المضاعفة المقترنة بالطاعات، فمع الصوم يكون الدعاء في الصلاة أكثر حميمية للصائم، وأذكر أنني كانت لي حاجة، ووجدت لساني يردد في رمضان في الصلاة:
يا رب.. نعمك لا تعد، وقد غمرتنا بها، وهناك نعمة أسألك أن تستكملها وأنت أدرى بها، وأحمد الله أنه قد استجاب دعائي وكانت الفرحة مضاعفة.
هل لنا أن نعرف تلك الحاجة التي دعوت بها ؟
إن من أعظم نعم الله علينا هي أن خلق لنا من أنفسنا أزواجًا لنسكن إليها، وهذه النعمة جعلتني أنا وزوجتي نتطلع إلى يوم الفرحة لكل واحد من أولادنا.. وتتالت الأفراح منذ عام 1986 حين كان زواج ابنتي الأولى ثم ابني في 1992 ثم جاء الدور على الابنة الثالثة، ولكن النصيب كما يقول أهلنا جعلها تؤخر قرار الاستجابة لكل الدقات التي طرقت الباب، وألحّت علينا أن نفرح بالابن الرابع، وتم ذلك في 1996، وجاء أول عام 1998، واستشعرت بقرب الفرحة، فكان الدعاء لها بأن يأتي من ينشرح له صدر ابنتنا، وقد جاء، واستجاب الله دعائي وهانحن في انتظار حفيدنا الثامن بمشيئة الله.
هل لديكم أمنية تحبون أن تتحقق خلال الشهر الكريم ودعاء يحملها ترفعون به أيديكم إلى الله تعالى؟
تلح عليّ هذا العام أمنية عامة من وحي عكوفي على بحث أفكر فيه منذ أيام يتناول تقويم قرن مضى وأبعاد الأزمة التي تعيشها أمتنا في هذه المرحلة، ومعروف عني انتمائي لمدرسة التفاؤل الفاعل، بخلاف التفاؤل المتواكل، كما أرفض التشاؤم اليائس، وقد تشتد الأزمة كثيرًا فيضيق المرء وتبلغ القلوب الحناجر. وهنا يأتي دور الفعل الإنساني العاقل مقرونًا بالدعاء: "اللهم اكشف الغمة عنا، وخذ بأيدينا إلى الحكمة والرشاد".
وأنا أحاول فيما أكتب أن أجتهد لتوضيح سبيل الحكمة والرشاد، وكلما اتسع الخرق على الراقع لجأت إلى خالق الكون أسأله كشف الغمة.
وأقول هذا لأن ما يسمّى بعملية التسوية التي بدأت في 1991 هي في سنتها الأخيرة وقوى الطغيان التي وراءها يرمون بكل ثقلهم لإملاء إرادتهم علينا، وهناك إحساس بالمرارة عندما نشاهد صورًا من هذا الإملاء، حتى إن من هو في موقع السلطان لم يستطع أن يستجمع قواه لرفض الإملاء، ولذلك نضع نصب أعيننا قوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وهذا يجعلني أدعو الله، وأتمنى أن تنجح أمتنا في التعامل مع الواقع الجديد قدر المستطاع ليرتد على العدو.
مستقبل القدس
هل لنا أن نتفاءل بشأن القدس وأن الأمة لن تفرط فيها؟
إن أمتنا لن تتنازل عن القدس، وهي في رباط إلى يوم الدين، وأيًا كان الإملاء الذي يفرضه الأعداء علينا فإن شعار الاعتصام بالمقاومة سوف يبرز قويًا، وستربي أمتنا جيلاً جديدًا على ضرورة استعادة المقدسات وتحريرها من الدنس الصهيوني.
وهذا هو سبيلها، فالقدس على مر التاريخ سلبت منا ثلاث مرات، وعادت بعد كل مرة وستبقى نصب العين مقترنة بكونها مكان المسجد الأقصى الذي اختاره الله تعالى مسجدًا منذ أقدم العصور، كما ستظل مقترنة بروعة الصورة التي حدثت يوم الإسراء والمعراج.
أمنية خاصة ودعاء
لي أمنية شخصية أقولها في كلمتين: "حسن الخاتمة" وأدعو ربي قائلاً: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة.
تعريف بالدكتور أحمد صدقي الدجاني
هو أحمد صدقي الدجاني من مواليد يافا بفلسطين عام 1355هـ الموافق 1936م، يجمع في حياته بين العمل الفكري الذي يعطيه أولوية في هذه المرحلة، كواحد من أهل القلم، وبين العمل العام الذي ينشغل بقضايا الأمة، ويكون الإسهام فيه من خلال محافل وطنية وإقليمية ودولية، فضلاً عن التأليف والمحاضرة.. وأخيرًا.. هو واحد من أسرة مع الزوجة الكريمة والأولاد "مزنة، والطيب، ومهدى، وبسمة" والأحفاد، وهو في انتظار حفيده الثامن وهو بصدد إصدار كتابه الـ "51"، ويرتبه هذه الأيام، وهو بعنوان: "عرب ومسلمون وعولمة". وهو واحد في سلسلة كتب تناولت منذ السبعينيات قضايا عالمنا وأمتنا برؤية مؤمنة. وهناك مع هذه السلسلة أخرى تختص بالصراع العربي الصهيوني، وآخرها صدور كتاب "أزمة الحل العنصري في فلسطين" الذي تلا كتاب "لا للحل العنصري في فلسطين". وسيدفع للمطبعة قريبا بإذن الله بكتاب يتناول التطورات الأخيرة في الصراع، ويرد على الزعم اليهودي بشأن القدس
ــــــــــــــــــــ(1/135)
رمضان في الشيشان .. أرض الصمود والمقاومة
أجرى الحوار: حسام تمام
يومًا بعد يوم تسجل الشيشان أنصع السطور في أروع ملامح المقاومة والصمود، وتواصل تصديها لأكبر وأعتى قوة عسكرية باطشة في العالم الحديث في استبسال خارق للعادة، وإصرار نادر على نيل الاستقلال، بلغ مداه بما أعلنته وكالات الأنباء مؤخرًا من أن مجاهدي الشيشان (الذين لا يزيدون عن خمسة آلاف مقاتل) أقسموا على القرآن، وبايعوا قادتهم على الموت، من أجل الدفاع عن عاصمتهم "جروزني" أمام الجيش الروسي الذي يزيد عدده عن مائتي ألف جندي وسط تجاهل من العالم الغربي، وتخاذل من العالم الإسلامي!
ويأتي رمضان على أهل الشيشان وهم ما بين مقاتل وشهيد، ليُحيي فيهم روح الصمود التي توارثوها عن أجدادهم، ويزف إليهم بشريات النصر التي تعودوها مع قدوم هذا الشهر الكريم، ومن أرض الصمود والتحدي، التقينا بأحد أسود الشيشان المجاهدة السيد/ شامل شمس الدين باشييف الممثل الرسمي لجمهورية الشيشان الذي حدثنا عن رمضان في أرض الصمود، وكيف يعيش المسلمون هناك هذا الشهر الكريم، وأبرز عاداتهم وتقاليدهم، وماذا يمثل عندهم رمضان؟
ماذا يمثل شهر رمضان عند شعب الشيشان؟
رمضان هو أحب الشهور لشعب الشيشان المسلم، لأنه رمز لأهم ما عُرف به هذا الشعب، فهو رمز الصمود والمقاومة، فنحن شعب خاض منذ دخوله الإسلام معارك لم تنته إلى الآن، قاوم فيها كل المحاولات التي كانت تهدف إلى إخضاعه، وكسر إرادته وتذويبه ومحو هويته، وتاريخنا كله مقاومة وصمود.. وحروبنا لا تنتهي مع روسيا منذ أكثر من أربعة قرون، لذلك فرمضان يُحيي في قلوبنا هذا الصمود، ويزيد من قدرتنا على المقاومة وهو أيضًا شهر يزيدنا تمسكًا بهويتنا الإسلامية، ويشعرنا كم نحن متميزون بها، ولا يستطيع أحد أن يبتلعنا مهما نقص عددنا.. ورمضان أيضًا هو شهر البطولات والانتصارات سواء في تاريخنا المحلي أم في التاريخ الإسلامي كله، ومعاركنا الفاصلة كانت دائمًا تقع في رمضان الذي تعودنا منه الخير والبشرى بالنصر بإذن الله ومنذ ثلاث سنوات فقط جاء رمضان، ومعه النصر على الجيش الروسي في معركة الاستقلال الأولى بقيادة جوهر دواديف، ونستبشر معه خيراً هذا العام أيضًا، وكلنا أمل أن ينعم الله علينا بالنصر على الجيش الروسي المجرم في ختام هذا الشهر الكريم .
وكيف يستقبل الشيشانيون هذا الشهر الكريم ؟
الاستعدادات لرمضان تبدأ قبله بشهر، وتصل إلى قمتها مع ليلة النصف من شعبان إذ يستعد المسلمون لاستقبال شهر رمضان الكريم، وقبله بيوم يُرسل مفتي البلاد ممثلين عنه لاستطلاع الهلال في قمم الجبال العالية، ويشاركهم في ذلك الشعب الشيشاني، وإذا ثبت الهلال يُرسل المفتي من يعلن على الشعب بدء الشهر الكريم؛ فتفتح المساجد أبوابها، ويجتمع الناس على صلاة التراويح، وتقام حلقات الذكر في المساجد، وتتبادل الأسر التهاني بهذا الشهر الكريم، وفي الصباح يخرجون لزيارة المقابر وأسر الشهداء ..وفي أثناء فترة الحكم الشيوعي للبلاد؛ قامت السلطات بمنع الاحتفالات بالأعياد والمناسبات الدينية وخاصة رمضان؛ لأنها تحفظ للمسلمين هويتهم، وتؤكد تمايزهم، ورفضهم للحكم الشيوعي، كما كانوا يمنعوننا من الاتصال بالعالم الإسلامي أو التواصل معه، حتى إنهم كانوا يحجبون الصحف والمطبوعات التي تأتي من العالم الإسلامي عنا، ويمنعون البث الإذاعي التليفزيوني خاصة القادم من البلاد العربية، لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ـ بفضل الله ـ زاد اتصالنا بالعالم الإسلامي وصار من الممكن أن نتواصل معه، ونشارك إخواننا المسلمين الاحتفالات برمضان، وبغيرها من المناسبات والأعياد الدينية .
هل يمكن أن تحدثنا عن الجانب الإيماني والاجتماعي لرمضان والعيد في أرض الشيشان؟
في رمضان يكثر إقبال الناس على المساجد من كل الأعمار، وخاصة الأطفال الذين تجاوزوا سن السابعة؛ فتزدحم المساجد بالمصلين خاصة في صلاة التراويح، ولا يمتنع عنها أحد إلا للضرورة القصوى، وتكثر في هذا الشهر حلقات الذكر التي تبدأ أحياناً بعد صلاة الفجر وتمتد حتى شروق الشمس، أو تقام بعد صلاة العشاء والتراويح، وغالباً ما تخصص ليلة الجمعة لحلقات الذكر، والطرق الصوفية هي الأكثر انتشاراً بين الشعب الشيشاني، وهي تختلف كثيراً عنها في العالم العربي، ولها دور كبير في نشر الإسلام في البلاد، والحفاظ عليه أثناء الحكم الشيوعي كما أنها تدعم الجهاد الشيشاني ضد روسيا .. كما تكثر حلقات العلم في المساجد خاصة بعد صلاة العصر، وكانت تعقد أثناء الحكم الشيوعي بصورة سرية لأن السلطات الشيوعية كانت تمنعها وتعتقل أصحابها، وكثيراً ما قتلت العلماء والشيوخ الذين ينظمونها، أو تخلصت منهم بالاعتقال والنفي إلى صحراء سيبيريا، وكان جدي الشيخ شمس الدين حاجي أحد هؤلاء الضحايا، فقد اعتقلته السلطات الشيوعية سنة 1925 ولم نعرف عنه شيئاً بعدها إلى الآن!
أما الآن وبعد الاستقلال، فنستطيع حضور مجالس العلم بلا خوف، وتكثر في رمضان الزيارات بين الأسر الشيشانية، ونادراً ما تفطر أسرة وحدها، فنحن في رمضان إما داعون لإفطار أو مدعوون، وشعبنا متماسك جدًّا كالجسد الواحد يقدس العلاقات العائلية، ويشارك بعضه بعضًا في كل المناسبات: الأحزان والأفراح .
وغالباً ما يحصل الشيشانيون على إجازات من أعمالهم في هذا الشهر، ويحرصون على أن يقضوه في العبادة، وتقوم النساء بتخزين الأطعمة استعداداً لهذا الشهر، وأشهر الأطعمة التي نتناولها اللحوم، ودقيق الذرة المصنوع بالسمن والعسل الذي يعد أحب الأطعمة للأطفال، وفي العيد يخرج المسلمون للصلاة في الساحات الواسعة أو على قمم الجبال، وقد يُضطرون لأداء صلاة العيد في المساجد في حالة المطر الشديد أو العواصف الثلجية، ثم يخرجون بعدها للتزاور، وتبادل التهاني بالعيد؛ فتوزع " العيديات " على الأطفال الذين يرتدون أفضل الملابس، ويزورون أقاربهم، أو يخرجون في رحلات مرح وترفيه، وعادتنا أن نخرج زكاة رمضان للفقراء في أول يوم عيد الفطر مع صلاة العيد أو بعدها مباشرة، وأحياناً في ليلة العيد ولكن هذا قليل.
وكيف يقضي مسلمو الشيشان رمضان هذا العام، والجيش الروسي قد استولى على معظم بلادهم ويحاصر العاصمة جروزني؟
الأوضاع في الشيشان بكل أسف تبعث على الحزن والأسى، فالقوات الروسية تقوم بحملة تدمير وإبادة شاملة في كل مدن الشيشان، فهي تحرق المدن، وتقتل السكان الأبرياء العزل، وتهدم المساجد والمستشفيات، حتى اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ تطاردهم القوات الروسية وتقوم بعمليات انتقام وحشية ضدهم انتقامًا من الهزائم التي يلقونها على أيدي المجاهدين الشيشان .. وهناك نقص حاد في المياه والأغذية والأدوية وكثير من اللاجئين معرضون للموت إما تحت الغارات والقصف الوحشي للروس أو بسبب البرد القارص أو بسبب الجوع .. فالقصف لا يتوقف وعمليات الإبادة مستمرة، التي يشارك فيها ربع مليون جندي روسي مسلحون بأحدث الأسلحة وأشدها فتكًا في حين أن الشعب الشيشاني كله لا يتجاوز المليون، وهو محاصر من كل الجهات، والعالم كله يتفرج على مأساتنا، ولا أحد يتحرك حتى العالم الإسلامي لم يفعل شيئًا لنجدتنا إلى الآن ولكننا رغم ذلك صامدون بإذن الله.
وكيف تُقيّمون الحالة المعنوية للشعب الشيشاني؟ وهل أثّر شهر رمضان عليها؟
الروح المعنوية للشعب عالية، والجميع صامدون حتى النصر أو الشهادة، ووفق آخر الأخبار التي وصلتني فإن المجاهدين في أعلى معنوياتهم، وما زالت كل قيادات المقاومة موجودة في جروزني للدفاع عنها، وقد أقسم كل المجاهدين على القرآن الكريم وبايعوا قادتهم على الموت في سبيل الله، والاستمرار في الجهاد حتى النصر أو الشهادة، وبقية أبناء الشعب يقفون وراء قادتهم يساندونهم بكل ما يملكون رغم حاجتهم ورغم الحالة السيئة التي يعانونها، ورمضان يزيد من صمود المجاهدين ومقاومتهم، وكلهم بفضل الله صائمون، ولم يفطر واحد منهم حتى الجرحى، فالجميع يريد أن يلقى الله إذا فاز بالشهادة وهو صائم، بل إن معظمهم كان يصوم يومي الإثنين والخميس قبل شهر رمضان؛ لأن الصيام يمنحهم القدرة على الصمود والجهاد، ويزيدهم قربًا من الله، وكذلك بقية أبناء الشعب الشيشاني حتى الأطفال والعجزة والنساء حريصون على الصيام والصلاة والتضرع إلى الله من أجل النصر على الجيش الروسي الغادر.
وكيف يؤثر الإسلام في جهاد الشيشان لنيل الاستقلال؟
الشعب الشيشاني عميق التدين ليس بمعنى التبحر في علوم الدين ومعارفه، فربما كان قليل الحظ في المعارف الدينية، وإنما في عاطفته الدينية وإيمانه العميق بالله، والتوكل على الله والاستعداد للتضحية في سبيله، والثقة المطلقة في نصره، مما يجعلنا نستهين بكل القوى والعتاد والأسلحة الحديثة والجيوش الروسية الجرارة؛ لأننا نتوكل على الله ونثق في نصره، ولا نخاف إلا منه وحده لأنه بيده الموت والحياة، وكلاهما في قدر الله مكتوب علينا لا يغيره أحد. وشعب الشيشان يحب الإسلام، ويقدر العلماء والشيوخ كثيرًا، وجميع قادة الشيشان منذ دخولنا الإسلام كانوا أئمة وعلماء، وأبرز قيادات الشيشان التي دعت إلى الاستقلال كانت شخصيات دينية مثل الشيخ منصور الذي أقام دولة مستقلة في القوقاز في القرن الثامن عشر حتى قضت عليه روسيا وقتلته، والإمام محمد شامل أبرز الشخصيات في تاريخ الشيشان والذي أقام دولة مستقلة من الشيشان وداغستان، كما أن الذين تصدوا للحكم الشيوعي، وقاوموا محاولة سلخ الشيشان من الإسلام كانوا من العلماء والشيوخ، ومعظمهم قُتل في سبيل قضية الشيشان، لذلك فنحن نُجِلّ العلماء، ونحفظ لهم منزلتهم، بل إن كل البيوت الشيشانية تحتفظ بصورة تذكارية لهؤلاء العلماء، وتُطلق أسماءهم على أبنائها؛ حتى تظل خالدة وماثلة في وجداننا، كما نعرّف أطفالنا بسير وتاريخ وجهاد هؤلاء العلماء لذلك تجد مثلاً أن اسم (محمد شامل) من أكثر الأسماء انتشارًا في الشيشان، لأنه يتكون من (محمد) اسم الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ و(شامل) قائد الشيشان الأشهر الذي خاض معارك باسلة ضد روسيا القيصرية، ومات ودفن في الأراضي المقدسة.
وهل تسير الأجيال الجديدة على نفس المنهج، وتحافظ على هويتها، أم أنها تغيرت تحت وطأة قيم الحضارة الغربية؟
الشعب الشيشاني من أكثر شعوب العالم تمسكًا بهويته، وحفاظًا عليها؛ لذلك فهو ينحاز دائمًا إلى الإسلام، ورغم المحاولات التي قام بها النظام الشيوعي طيلة سبعين عامًا لطمس هوية شعبنا، وتغيير عقيدته وعاداته وتقاليده، واستيعابه داخل المجتمع السوفيتي؛ إلا أنه لم يُفلح في ذلك، رغم استخدامه لأبشع الوسائل وأقذرها بما فيها التقتيل والنفي. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصابت أوساط الشباب الشيشاني لوثة تقليد الغرب في العادات والملابس، لكن سرعان ما انحسرت خاصة بعد أن زاد الالتزام الديني في المجتمع الشيشاني بعد الاستقلال، إذ تأسست المدارس الإسلامية، وتأسست أول جامعة إسلامية في البلاد، كما أُنشئت عشرات المساجد في أنحاء البلاد، وبدأ الشعب يتجه أكثر إلى الهوية الإسلامية لذلك أقلع الشباب والفتيات عن تقليد الغرب، وصار الإعجاب بالغرب عندنا عادة صبيانية يقلع عنها الأطفال بعد أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره إذ لابد بعدها أن يتميز ويتحلى بأخلاق الرجال ويتمسك بهويته وتراث أجداده، ورغم أن معظم المساجد والمدارس والمؤسسات الإسلامية هُدِّمت ودُمِّرت تحت القصف الروسي، إلا أن ذلك لن يحول دون تمسك الشيشان بإسلامهم.
من أبرز رموز النضال والجهاد في التاريخ الشيشاني؟
كثيرون وأولهم الشيخ منصور الذي أسس دولة مستقلة من بحر قزوين إلى البحر الأسود في القرن الثامن عشر، ولكن قضت عليها روسيا بعد حرب طاحنة واستطاعت أسره وإعدامه، وكذلك الإمام محمد شامل أبرز رموز الشيشان والذي أسس أيضًا دولة مستقلة ضمت الشيشان وداغستان، وخاض حروبًا طاحنة مع روسيا انتهت بهزيمته وأسره على يد القيصر، وقد توفي في الأراضي المقدسة أثناء الحج سنة 1865 م وكذلك نائبه الشيخ (باي سنجور بينوي) الذي رفض الاستسلام بعد هزيمة قائده شامل، وخرق مع فرقته الحصار المضروب حوله، وقاوم الروس، وقاتلهم مدة عشر سنوات حتى وقع في الأسر، وقتله الروس شنقًا، وكان من أشهر وأشجع الفرسان في عصره، رغم أنه كان بقدم ويد واحدة إذ أن إحدى يديه وإحدى رجليه كانتا مشلولتين، فقد كان يضعه أتباعه على صهوة الجواد؛ ليقود المعركة بنفسه واضعًا لجام الفرس في فمه، ومقاتلاً بيد واحدة، وفي العصر الحديث هناك الشهيد جوهر دودايف الذي كان قائدًا للطيران في الجيش السوفيتي، واستطاع إعلان الاستقلال في أوائل السبعينيات، وإقامة أول دولة مستقلة للشيشان في القرن الحالي، وهناك زعماء آخرون مثل أصلان مسخادوف وشامل باسييف، وسليم خان باندريف، وسلمان رعدييف وآخرون قد لا تذكر وكالات الأنباء والصحف ونشرات الأخبار أسماءهم، لكنها في سجل الخالدين المكرمين عند الله ـ عز وجل ـ إن شاء الله، والحمد لله كل قادتنا وعظمائنا من المجاهدين أو من الشيوخ وعلماء الدين.
وهل هناك علاقات ثقافية وحضارية قوية بينكم وبين بقية أنحاء العالم الإسلامي؟ نعم منذ دخولنا الإسلام وإلى الآن، وإن انقطعت تمامًا في أوائل هذا القرن بسبب الاحتلال الشيوعي السوفيتي للبلاد، والذي قام بعزلنا تمامًا عن بقية الأمة الإسلامية، وهناك جاليات شيشانية في الأردن وسوريا، وهناك شيشان يدرسون في الجامعات الإسلامية في السعودية ومصر، لكن أقرب البلاد الإسلامية إلينا في الثقافة والعلوم الدينية هي مصر، فأهل الشيشان يتبعون المذهب الشافعي السني، ولأن الإمام الشافعي كان قد استقر في مصر ودفن بها فقد كان اتصالنا بها أكبر، خاصة وأن معظم تلامذته مصريون؛ لذلك كان أهم العلماء الذين تأثر بهم أهل الشيشان من مصر، وكذلك الكتب فكل الشيشانيين يعرفون الشيخ الجلال المحلي صاحب الشرح الشهير لكتاب "منهاج الطالبين" للنووي والذي يعد دستور أهل الشيشان في الفقه الإسلامي، وكذلك الجلال السيوطي وكتابه "جمع الجوامع" والشيخ تاج الدين السبكي صاحب "طبقات الشافعية" وكل علماء وشيوخ المذهب الشافعي ... أما في العصر الحديث فأشهر العلماء المسلمين عندنا الإمام جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر السابق ـ رحمه الله ـ والشيخ العلامة د/يوسف القرضاوي الذي يعد أقرب علماء الإسلام، وأحبهم إلى نفوس الشيشانيين.
وما رأيك في موقف العالم الإسلامي من قضيتكم؟
إذا كنا نتحدث عن الشعوب فإنها متعاطفة معنا، وتريد مساعدتنا بكل ما تستطيع، وقد وجدنا هذه المشاعر لدى كل الشعوب الإسلامية، فنحن جزء من الجسد الإسلامي لابد أن يتداعى لنا بالسهر والحمى في شكوانا، لكن للأسف الموقف الرسمي للحكومات والدول الإسلامية غير جيد على الإطلاق، فهي لم تتحرك ولم تفعل أي شيء لنجدتنا، ولو بالوسائل الدبلوماسية، وباستثناء الدعم الإغاثي الذي نتلقاه من منظمات الإغاثة في بعض الدول الإسلامية لا يصلنا أي دعم من العالم الإسلامي، وهذا شيء محزن.
هل لذلك توجه الرئيس أصلان مساخدوف باستغاثة لبابا الفاتيكان؟
نحن لا نستنجد إلا بالله، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نطلب الغوث إلا منه، وإلا لما كنا خضنا هذه الحرب من الأساس، وما فعله مسخادوف هو محاولة لابد أن يبذلها أي رئيس لإنقاذ شعبه، وهو قبل ذلك قد وجه الرسالة إلى حكام العالم الإسلامي يستنكر تخاذلهم وتقاعسهم عن نجدة إخوانهم الشيشان وأعتقد أنها وصلت.
هل لديكم أمل في النصر؟ وهل ما زلتم تحلمون بدولة مستقلة؟
ليس هناك أمل بل يقين بالله بأننا سننتصر في كل الأحوال؛ لأننا مستعدون للدفاع والمقاومة حتى آخر شيشاني، وشعارنا النصر أو الشهادة، وحلمنا بدولة مستقلة حق لنا لن نتنازل عنه حتى ولو كان الثمن الموت
مواقع خاصة بالشيشان على الإنترنت:
1. ... www.qoqaz.com
2. ... www.amina.com
3. ... www.koykaz.org
ــــــــــــــــــــ(1/136)
رمضان في السويد.. شمال أوربا الباردة
أجرى الحوار / حسام تمام
من أقصى شمال الكرة الأرضية، ومن أوربا البادرة وأرض الفايكنج تشرق شمس الإسلام رغم برودة الطقس التي تصل إلى حد التجمد فيزداد التواجد الإسلامي وترتفع معدلات انتشار الإسلام حتى أصبح الديانة الثانية في بلاد لم يكن له فيها أثر قبل ربع قرن من الزمان.. التقينا بالسيدة نائلة واكد مؤسسة ورئيسة جمعية "المرأة المسلمة" بالسويد، والتي كانت أول جمعية إسلامية في الدور الإسكندنافية، فحدثتنا عن رمضان في إسكندنافيا، كيف يستقبله المسلمون، وكيف يحيون لياليه، والصعوبات التي يواجهونها في مجتمع يتعامل معهم كأقلية، وتأثير رمضان على مشاعرهم تجاه الأمة الإسلامية وقضاياها، وعن وضع الإسلام في هذه البلاد ومستقبله... وكان هذا الحوار:
كيف يستقبل المسلمون في الدول الإسكندنافية وهم أقلية شهر رمضان؟ وهل يختلف هذا الشهر الكريم كثيرًا فيها عن بقية أنحاء أوربا؟
هناك فارق كبير بالتأكيد بين الدول الإسكندنافية وبقية أنحاء أوربا فيما يتعلق بشهر رمضان وكل ما يتصل بالإسلام، إذ إن الوجود الإسلامي في هذه الدول حديث جدًّا إذا ما قورن ببقية الدول الأوربية، كما أنه ضعيف نسبيًّا أيضًا؛ لذلك فإن أول ما نلاحظه أن الحال في هذه الدول لا يتغير كثيرًا في رمضان عنه في بقية شهور السنة؛ نظرًا لقلة عدد المسلمين بها، بينما على النقيض من ذلك فإن رمضان يغير حياة المسلمين فيها تمامًا حتى قبل حلوله، إذ نبدأ قبله بأيام في تتبع أخباره، ونستعد لاستطلاع هلال الشهر الذي يصبح محور اهتمامنا الأول، ودائمًا ما يظهر تيار الجدل المعتاد حول ثبوت الهلال وبداية الصوم، نظرًا لاختلاف التجمعات الإسلامية حول اتباع الرؤية أم الفلك، واختلاف الدول التي يتبعونها في بداية الشهور العربية وفي توقيت الإمساك والإفطار أحيانًا، مما يحدث اضطرابًا يستمر حتى ثبوت الهلال خاصة في ظل عدم وجود مؤسسة إسلامية يمكنها توحيد الرؤية بين المسلمين ... وحتى المراكز الإسلامية الموجودة وأشهرها المركز الإعلامي الإسلامي ليس لديها القدرة على إبلاغ كل مسلمي البلد بثبوت الهلال خاصة في ظل تجاهل وسائل الإعلام السويدية لمثل هذه الأمور إلى وقت قريب.. وغالبًا ما يحسم هذا الخلاف بين المسلمين باتباع مكة المكرمة "أم القرى" في أهلة الشهور العربية وقد بدأ يستقر ذلك.. وبمجرد إعلان الرؤية يتجه المسلمون من أنحاء البلاد إلى أقرب المساجد إليهم، وهي بالمعنى الدقيق "مصليات" يستأجرها المسلمون لأداء الصلوات والشعائر المختلفة وتفتح أبوابها في رمضان طيلة اليوم حيث تحيا أول ليلة بصلاة التراويح وحلقات الذكر وقراءة القرآن ويتبادل المسلمون التهاني والتعارف.
وكيف تعيشون هذا الشهر الكريم؟
بالنسبة للعمل والدراسة وبقية تفاصيل الحياة اليومية لا تتغير كثيرًا خاصة وأن المجتمع السويدي لم يصل بعد إلى درجة مراعاة مثل هذا الشهر وغيره من المناسبات والشعائر الدينية الخاصة بالمسلمين كالصلوات بما فيها صلاة الجمعة..، وربما بسبب ضعف التأثير الإسلامي، وعدم وصوله إلى دائرة صنع القرار هناك.
لكن هذا لا يمنعنا من الاحتفال بشهر رمضان والاحتفاء به كما ينبغي، إذ تفتح المراكز الإسلامية أبوابها لصلاة التراويح والقيام، كما تعقد بها المحاضرات والدروس الدينية المختلفة، ويحاضر فيها علماء ودعاة من مسلمي البلد أو من خارجها إذ ترسل إلينا الهيئات الإسلامية من العالم الإسلامي (وخاصة الأزهر الشريف بمصر) وفودًا علمية وقوافل دعوة في هذا الشهر، حيث أصبح تقليدًا متبعًا أن يزورنا وفد من الدعاة والمقرئين، وينزل دائمًا على المركز الإسلامي بإستكهولم ثم تستضيفه الجاليات الإسلامية في المدن الأخرى؛ لإحياء ليالي رمضان بقراءة القرآ والندوات والمحاضرات الدينية.. كما تنظم المؤسسات الإسلامية إفطارات وسحورات جماعية يحضرها الرجال والنساء أيضًا.. أما داخل البيوت فتأخذ الاحتفالات برمضان طابعًا يتفق مع العادات والتقاليد الموروثة والمنقولة غالبًا من البلاد الأصلية التي جاء منها المسلمون خاصة وأن معظم مسلمي هذه البلاد وافدون للعمل أو الدراسة وليسوا من أهلها، وهذا يرجع إلى حداثة الإسلام في هذه البلاد (ربما لا يتجاوز العشرين عامًا بكثير) مما يؤدي إلى تفتت المسلمين وتوزعهم على جاليات مختلفة بحسب البلدان التي أتت منها، وأكبر الجاليات هي الجالية التركية، وتليها الإيرانية ثم الجاليات العربية وأكثرهم من العراقيين.
لكن ما أبرز العقبات والصعوبات التي يواجهها المسلمون في هذه البلاد وخاصة في رمضان؟
أهمها الانقسام والتشرذم حيث تتغلب عوامل الانتماء العرقي والمذهبي أحيانًا، وتؤدي إلى الفرقة، يظهر ذلك بوضوح في الاختلاف حول رؤية الهلال، وفي صلاة العيد حيث تصر كثير من الجاليات على اتباع تقويم البلد الذي جاءت منه مما يؤدي إلى اختلاف المسلمين، حيث يصوم بعضهم ويفطر آخرون، وتقام صلاة العيد في بعض التجمعات بينما تستمر تجمعات أخرى في صيامها يومًا آخر! لكن والحمد لله الوضع بدأ يتحسن كثيرًا في السنوات الأخيرة وبدأ الجميع يتجه إلى التوحد ونبذ الخلافات والتكامل فيما بينهم خاصة بعد أن استقرت الأجيال الأولى التي وفدت إلى البلاد، وانقطعت أو ضعفت صلتها ببلادها الأصلية ، وبعد أن زاد عدد المسلمين من أبناء الدول الإسكندنافية نفسها.. وربما أيضًا بسبب زيادة الوعي والعلم بالدين، هناك أيضًا بعض الصعوبات الناتجة عن جغرافية هذه الدول التي تقع في أقصى شمال الكرة الأرضية فعندما يأتي رمضان في فصل الصيف يطول النهار جدًّا حتى يصل إلى أكثر من عشرين ساعة كاملة؛ مما يتسبب في مشقة بالغة قد لا يحتملها الكثيرون، ومنذ أكثر من خمسة عشر عامًا كنا نفطر في الساعة الحادية عشرة مساء، ثم نمسك بعدها بساعتين أو ثلاث على الأكثر، وكانت هذه مشكلة كبرى استشرنا فيها علماء كثيرين من أنحاء العالم الإسلامي حتى أفتى لنا فضيلة الشيخ سيد درش رحمه الله (مفتي المركز الإسلامي بلندن) باتباع أقرب دولة إسلامية لنا على خط الطول في الإفطار والإمساك (وكانت ليبيا)، وأحدث ذلك اختلافًا واسعًا ومشقة نفسية علينا أيضًا، خاصة وأنه كان من الصعب علينا أن نفطر والشمس ما زالت ساطعة لم تغب.. واستمر الخلاف حتى اتفقنا على اتباع مكة المكرمة.. وقد حل هذه المشكلة مؤقتًا أن رمضان الآن في شهر الشتاء!.
وما أكثر النعم والفضائل التي يشعر بها المسلمون في الدول الإسكندنافية مع قدوم شهر رمضان؟
مثل كل المسلمين نشعر بالسمو الإيماني وتزيد صلتنا بالله في هذا الشهر الكريم أكثر من غيره.. لكن الذي قد نختلف به عن غيرنا من المسلمين خاصة من أبناء العالم الإسلامي أن رمضان يشعرنا بأننا جزء لا ينفصل عن الأمة الإسلامية وهذا يزيد من إحساسنا بالمسلمين في كل أنحاء العالم، وتتحقق فيه معاني وحدة الأمة بصورة واضحة، فرغم أننا في بلاد بعيدة جدًّا عن العالم الإسلامي وتفصلنا عنه مسافات شاسعة إلا أن رمضان يقرب بيننا كثيرًا حتى كأننا في مكان واحد، فنتتبع أخبار المسلمين ونشاركهم فرحتهم وآلامهم، ربما لأننا نصوم معًا ونفطر معًا.. وقد ظهر ذلك في التعاطف الكبير الذي أبداه المسلمون في السويد مع قضايا الأمة الإسلامية مثل قضية البوسنة والهرسك وكوسوفا وكشمير والشيشان الآن وقبلها أفغانستان، فقد أقمنا فاعليات إسلامية كثيرة للتعاطف مع قضايا هذه الشعوب الإسلامية، ونظمنا معارض ومؤتمرات وأسواق خيرية لجمع التبرعات ودعم هذه القضايا، وهناك مسلمات سويديات سافرن للبوسنة وكوسوفا مع لجان الإغاثة؛ لدعم المسلمين هناك، وقدمن عونًا ماديًّا ومعنويًّا للمسلمات في هذه الدول، رغم أن هؤلاء النساء لم يكن يعرفن قبل ذلك شيئًا عن هذه البلاد أو أهلها، ولكن روح الأخوة الإسلامية والجسد الواحد هي التي دفعتهن للتعاطف مع المسلمين ونصرة قضاياهم.. "ورمضان" في ذلك صاحب فضل كبير، وخاصة مع قدوم الوفود الإسلامية إلينا في المؤتمرات والندوات الدينية حيث يزيد تواصلنا مع العالم الإسلامي، وترتفع معنوياتنا كثيرًا وقد لاحظت في الفترة الأخيرة أن القنوات الفضائية العربية والإسلامية رغم ما قد يؤخذ عليها تؤثر إيجابيًّا في تواصلنا مع العالم الإسلامي، وتزيد من إحساسنا بأننا جزء من الأمة الإسلامية، خاصة في رمضان وبالذات البرامج التي تعالج موضوعات أو قضايا إسلامية.
هل اختلف رمضان في السويد كثيرًا هذه السنوات عما قبل؟
بالتأكيد، فالتواجد الإسلامي تزايد وأصبح أكثر استقرارًا عن ذي قبل كما زاد الدور الإسلامي في المجتمع كثيرًا حتى صارت هناك "ظاهرة إسلامية" تجذب الأنظار، ولم يعد المسلمون على الهامش كما كان الحال قبل عشرين عامًا مثلاً ... لذلك بدأت أجهزة الإعلام السويدية في الاهتمام بالقضايا الإسلامية، وصارت تعنى بأخبار المسلمين وقضاياهم أكثر من ذي قبل، خاصة بعد أن تزايد معدل انتشار الإسلام بين السويديين ومعدل هجرة المسلمين إليها، كما بدأت المؤسسات الحكومية تستجيب لطلبات المسلمين وترعى أوضاعهم وخصوصياتهم، فانتشرت المطاعم التي تقدم الأطعمة (الحلال) أو النباتية على الأقل مراعاة لنا، وفي التعليم أيضًا بدأت المؤسسات التعليمية تراعي الخصوصيات الإسلامية فسمحت بتدريس بعض المواد الإسلامية بما لا يتعارض مع مقررات المناهج السويدية، واستثنت المسلمين من تعلم بعض المواد الجنسية التي تدرس في مقررات المدارس أو أعادت تكييفها بما يتناسب معنا، ونفس الشيء بالنسبة للرياضات المكشوفة والاختلاط.. كما سمح لنا بإنشاء حضانات إسلامية للأطفال، وهناك عدد من المشروعات التي تقدمنا بها لإنشاء مساجد ومراكز إسلامية وبدأت الحكومة تتجاوب معها، بعد أن كانت مثل هذه المشروعات مرفوضة تمامًا من حيث المبدأ.
هل يمكن أن نعرف عدد المسلمين في هذه البلاد ولو على وجه التقريب؟
ليس هناك من يستطيع الجزم بذلك.. لكن في السويد مثلاً التقدير الرسمي للمسلمين يقدر بنحو 60 ألفًا من بين ثماني ملايين نسمة هم تعداد الشعب السويدي، بينما ترتفع التقديرات غير الرسمية بهذا العدد إلى الضعف (120 ألف مسلم) لكن هذا كله تقديرات تقريبية، وليس هناك إحصاءات حقيقية علمية عن المسلمين في السويد خاصة من السويديين أنفسهم، إذ أن كثيرًا منهم قد لا يعلن إسلامه بسبب وظيفته أو لأسباب اجتماعية أخرى تحول دون ذلك، كما أن الأوراق الرسمية تخلو من أي بيانات عن الديانة غالبًا، ومن ثم لا توجد إحصاءات موثوق بها في هذا الشأن، إلا أن كل المؤشرات تؤكد تزايد عدد المسلمين في الفترة الأخيرة، بحيث صار الإسلام يحتل المرتبة الثانية بعد المسيحية هناك، كما يتنبأ كثير من المراقبين بزيادة الوجود، ومن ثم التأثير الإسلامي في المجتمع السويدي في السنوات القليلة القادمة.
وما أكثر الفئات إقبالاً على الإسلام بين السويديين؟
الإسلام ينتشر أكثر بين الفتيات والنساء، خاصة من الأكاديميات والجامعيات؛ ربما لأن المرأة عاطفية بالإضافة إلى أن الوضع المتردي للمرأة الأوربية يجعلها أكثر تقديرًا للإسلام وإقبالاً عليه، خاصة وأنه أعطى للمرأة وضعًا متميزًا في المجتمع فاق كل الديانات الأخرى، والطريف أن النشاط الإسلامي أيضًا في السويد تلعب فيه المرأة الدور الفاعل والأكبر منذ بداياته، فقد استطعنا (أنا ومسلمة من أيسلندا وأخرى باكستانية) تأسيس أول جمعية للمرأة المسلمة في السويد وإسكندنافيا كلها سنة 1984 في فترة مبكرة من التواجد الإسلامي، لم يكن فيها أي نشاط إسلامي مؤسسي، واستطعنا تسجيلها وفق القوانين السويدية، ومارسنا من خلالها النشاط الدعوي والاجتماعي في جميع أنحاء إسكندنافيا، من تنظيم الندوات والمحاضرات والدروس الدينية، وعقد المؤتمرات الإسلامية وإقامة الأسواق والمعارض الخيرية، وإنشاء الحضانات ودور التربية للأطفال، ودعم القضايا الإسلامية.. وكل الأنشطة الإسلامية حتى صارت جمعيتنا من أهم الجمعيات الإسلامية في إسكندنافيا بل وأوربا أيضًا، وزادت فروعها عن مائة وعشرين فرعًا في أنحاء البلاد يشارك في نشاطاتها آلاف النساء.. وكانت سببًا في دخول كثير من الأوربيات الإسلام وبعضهن صرن من الداعيات إليه.
كما كنا أسرع من الرجال في تجاوز الانتماءات المذهبية والعرقية، والانفتاح على كل الجنسيات المسلمة، فنحن نحرص على إقامة إفطارات للنساء المسلمات من كل المذاهب والجنسيات دون تمييز، كما نجتمع دائمًا على صلاة التراويح في إحدى المصليات أو في منزل واحدة منّا، وكثيرًا ما نخرج سويًّا في رحلات خلوية، وهو ما قرّب بدوره بين الجاليات الإسلامية، وأزال الحواجز التي كانت تحول بينها، وقد نجحنا بفضل الله في إصدار مجلة شهرية اسمها (سلام) بالجهود الذاتية، وهي مجلة إسلامية شاملة تعنى بتقديم كل ما يتصل بالإسلام من فتاوى وأخبار وقضايا، وتقدم التراجم والإجابات الخاصة بالقضايا الإسلامية، وهي موجهة للمسلمين وغير المسلمين أيضًا، وتوزع في المكتبات العامة المنتشرة في كل أنحاء البلاد.
وماذا عن المؤسسات الإسلامية الأخرى؟ وهل يتناسب دورها مع وضع المسلمين هناك؟
هناك مؤسسات أخرى بالطبع، وأهمها المركز الإسلامي في إستوكهولم والمركز الإعلامي الإسلامي.. وهي مؤسسات تعنى في الأساس بالتعريف بالإسلام في وسائل الإعلام المختلفة والتعامل مع السلطات الحكومية في كل ما يخص الإسلام.. وتتولى عقد المؤتمرات والندوات الإسلامية وتتدخل لحل ما قد يواجه المسلمين من مشكلات هناك
* البريد الإلكتروني لأحد المراكز الإسلامية في السويد iif.islamiska@swipnet.se
* البريد الإلكتروني لمجلة سلام islamedia@hotmail.com
- - - - - - - - - - - - - - - -
حدث في رمضان ...
دعاء اليوم
... غزوة بدر
... أسباب المعركة
الاستعداد والتحرك
التوكل والإيمان والمدد
الفضل العظيم
... دروس من غزوة بدر
... حرب رمضان
... فتح مكة
... دروس من فتح مكة
... معركة البويب
... وفاة خالد بن الوليد
... وفاة عمرو بن العاص
... بعث علي وخالد إلى اليمن
... وفاة فاطمة رضي الله عنها
... معركة عين جالوت
... غزوة تبوك
... فتح جزيرة رودس
... مذبحة الحرم الإبراهيمي..
غزوة بدر -ويقطع دابر الكافرين
الدكتور عبد المجيد وافي
معركة بدر الكبرى كانت حدثًا أراده الله عز وجل، فمهّد له ودبّر له بتدبير محكم لا يفلت هدفه، وإنما يحقه حقًا، كما أنزل في محكم تنزيله: (وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* ِليُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
وذلك أن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب كانت إيذانًا بظهور كلمة الحق، بعد أن لجّت قريش لجاجتها سنوات لتطفئ نور الله، فأعز الله كلمة رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمن آوى ونصر من أهل المدنية، واعتزّ رسوله صلى الله عليه وسلم بتأييد الله الذي ألف بين قلوبهم (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
أسباب المعركة
دولة الحق
وقامت دولة الحق بعدما نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة، فكتب الصحيفة التي ربطت بين عناصر مجتمع المدينة، من أنصار ومهاجرين وأهل كتاب؛ بني قينقاع والنضير وقريظة، واجتمع المسلمون للصلاة في مواقيتها لا يخافون إيذاء كما كان الحال في مكة، وأصبح المسجد مركز التجمع المدني، فيه يتلى الوحي المنزل، وتقام الجماعات يدعى إليه بنداء هو من أمر الله يجمع معالم الإسلام في كلماته، وفيه تعقد الألوية، وتستقبل الوفود وتقضى الأقضية ورسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ذلك يسترفد الوحي وبه يسترشد.
ضغائن قريش
وملك الغيظ قريشًا ولبسهم الحرج، بعد أن أفلتت منهم الفرصة التي خططوا لها: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وما كان الله ليذرهم وما يخططون، بل لقد اختار الله توقيتهم وتخطيطهم، ليحبط به وفيه سعيهم وتدبيرهم، ليخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار أمن ومنعة، فاحتاروا كيف يتربصون بهذا المجتمع الذي اخترق سلطانهم على العرب، وأصبح مناوئًا لكلمتهم في قبائل الجزيرة، ذلك السلطان الذي دانت لهم به العرب منذ عام الفيل، الذي أهلك الله فيه جيش الحبشة والفيل، بما أرسل عليهم من طير (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ)؛ إذ ظن العرب أن الله منع بيته المحرم، إكرامًا لقريش، وما فعله الله سبحانه إلا إكرامًا لنبيه الذي أوشك نور ميلاده أن يشرق، وليصطنعه الله على عينه ليطهِّر البيت من الأوثان والأنداد لعبادة الله وحده.
إذن القتال
ولم يكن بدّ أن تقع وقائع بين الكفر المعاند المكابر، وبين أهل الإيمان (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فلم يمض عام أو بعض عام حتى كانت هناك سرايا أخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أذن للمؤمنين بأن يواجهوا القتال بالقتال: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
لقد ظلم المؤمنون؛ إذ خرجوا من ديارهم بأعز ما يملك المرء وما يحمل؛ قلب مؤمن بالله ثابت على الحق، يطلب النجاة بدينه، ويترك المال والنشب، بل ترك كثير منهم الأهل والولد، ولحقوا بدار منعة اعتزازًا بالله وإيمانًا به، فضّلوه على لعاعة الدنيا رغبة في وجهه سبحانه، فعوّضهم بنصره وما أفاء عليهم.
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة؛ قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!! ليهلُكُن.. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال، وزاد أحمد: وهي أول آية نزلت في القتال.
تدبير الله
وواجهت بعض السرايا التي أخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم التحامًا بالسلاح، وعاد غيرها دون أن يلقوا قتالاً، حتى كانت وقعة بدر: التي قدَّر المؤمنون الذي خرجوا إليها : أن يعودوا بعِير قريش، عوضًا عن أموالهم بمكة التي استحلتها قريش، وقدَّر الله تعالى أن تكون لقاء بين قلة مؤمنة محدودة العتاد والعدة وإيمانها يملأ الصدور عزة بالله، وكفرًا بالشيطان وحزبه، وبين الكثرة التي خرجت من مكة بطرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) نعم: لقاء يحق الله به الحق ويبطل الباطل، ليذهب نصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة المزهوة بخيلائها؛ حيث خرجت بالقيان تضرب دفوفها ليسمع العرب، ويسقوا الخمر نشوة وكبرًا واستعلاء، فيذهب نصر القلة المؤمنة على الكثرة المستكبرة. في أنحاء الجزيرة يرجُّ آفاقها؛ إيذانا بزوال دولة الكفر والاستعلاء على الله الواحد الأحد، بالأنداد والأوثان، التي لم تغن عنهم شيئًا.
حروب وحروب
إن الحروب كانت تقوم وما تزال حتى الآن إلا من عصم الله دائمًا بين طائفتين؛ طائفة مستعلية مستكبرة، تزهوا بالعتاد والعدة والعدد؛ ومستضعفة لا تملك ما تملك الأولى، وعدوان المستعلين هدفه إذلال المستضعفين ومحو عزتهم بأنفسهم، يتخذونهم تبعًا وأداة يصطنعونها لحاجاتهم وحرثهم، ونماء أموالهم وملكهم، بطرًا واستكبارًا في الأرض.
وهذا ما كانت تفعله فارس والروم في آسيا وإفريقيا وأطراف من أوروبا، وهو نفس ما كانت تفعله قبائل العرب في الجاهلية بعضها مع بعض، فيعود المنتصر بالسبي والسلب، ويعود المهزوم بذلّ الحياة وعار الهزيمة والأمهات والبنات سبايا، يا له من ذل.
وربما قامت الحرب بين طائفتين مستعليتين كما قامت بين فارس والروم قديمًا وبين دول الغرب حديثًا، وهذا ما جاء الإسلام لتغييره، بإخراج العباد من استعباد العباد إلى عبادة رب العباد والاعتزاز بعزته: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)، ولهذا كان تدبير الله تمهيدًا لما حدث في بدر أن يذلّ كفر الكافرين وكبرياءهم الجاهلي بعد إنكارهم للحق الأبلج بيد من كانوا في مكة بالأمس مستضعفين.
وعد الله
وبهذا بشّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إذ وعده وصحبه إحدى الطائفتين؛ العير التي جاءت من الشام تريد مكة، أو المناجزة والقتال ثم النصر.
1 ... ... وليتم الله تدبيره مكّن أبا سفيان الذي كان على رأس القافلة من النجاة بالعير، بعد أن أرسل إلى مكة محذرًا قريشًا يستدعيها لتدافع عن أموالها، فلما اطمأن إلى سلامة العير استدرك واسترجعهم فقد سلم المال والمتاع والإبل.
2 ... ... وليتم الله تدبيره أخرج أبا جهل أبو الحكم عمرو بن هشام في ألف أو يزيد، في عدة كاملة، وظهر حاضر من خيل وإبل، وسلاح وافر ودروع، يختال كبرًا وكفرًا، وأبى أن يستجيب لاسترجاع أبى سفيان بن حرب، يقول: لا نرجع حتى تضرب علينا القيان ونسقى الخمر ونطعم الطعام وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها.(1/137)
3 ... ... وليتم الله تدبيره قدَّر أن يكون اللقاء حيث لا يمكن أن يتم في مكان أو ميعاد إلا بإذنه هو: ( إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)
الاستعداد والتحرك
وشاورهم..
ولما تبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفلات العير، وأتاه خبر خروج قريش بسلاحها وقيانها وخمرها، وجيش يفوق أصحابه عددًا وعدة؛ لم يبادره بما لَه من مقام النبوة يأمر وينهي يبغي المواجهة، بل جمع من حوله من أنصار ومهاجرين: يشاورهم إعمالاً لأمر الله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
وكان أصحابه عند ظنه بهم: أما المهاجرون فقد قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: ما أقر عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال المقداد بن الأسود: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن نقول: اذهب أنت وركب فقاتلا إنا معكما مقاتلون.. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستوثق من رأي الأنصار؛ فهم الذين خرج من مكة بعد عهدهم له أن يمنعوه مما يمنعون منه أموالهم وأولادهم، فقالصلى الله عليه وسلم: "أشيروا عليَّ أيها الناس"
فقد روى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني قد أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة أي عائدة من الشام، فهل لكم أن نخرج إليها لعل الله يغنمناها"؟ قلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يومًا أو يومين، قال: "ما ترون في القوم؟ فإنهم قد أخبروا بخروجكم"؟ فقلنا: لا والله، ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكن أردنا العير، ثم قال: "ما ترون في قتال القوم"؟ فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد: وذكر ما رويناه من قوله، ثم استشارهم ثالثًا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل". فقال له: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
فسرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: "سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".
حول مياه بدر
وتقدم الفريقان على غير ميعاد حتى أدركوا جميعًا ماء بدر، وكانت بدر سوقًا للعرب مسموعًا خبرها ومكانها، كل فريق على عدوة وطرف.
واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً، ودعا القوم إلى النزول، وهنا هبّ صحابي ينزع من معين الحب والإيمان، وينطق من بلاغة الأدب والإقرار لمقام النبوة، هو الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح، ويقول: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".
فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ونغور ما وراءه من القلب الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه فنشرب ولا يشربون، فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وفعله.
مطر من السماء
وكان مما دبّر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حين قدم بدرًا أن أنزل مطرًا بقدر، أما من جهة قريش فكان المطر عظيمًا، عطلهم عن السبق إلى مياه بدر، وأما ما كان مما يلي المسلمين فبالقدر الذي يثبت رمال الوادي، فلم يصب المسلمين منه إلا ما لبَّد لهم دهس الوادي وأعانهم على السير، وهو ما عناه رب العزة في قوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).استطلاع
ورغم يقين رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصر الله الذي وعده، فإنه أخذ بأسباب حكمة المقاتل الذي يتأهب، وخرج من المعسكر مع أبي بكر كما روى ابن هشام يستطلع خبر القوم، حتى وقف على شيخ من العرب؛ فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم؟! فقال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخبرتنا أخبرناك" قال: أوذاك بذاك؟ قال: "نعم"، قال: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء" ثم انصرف عنه، قال: يقول الشيخ: من ماء؟ أمن ماء العراق؟ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه
حدث في رمضان ...
دعاء اليوم
التوكل والإيمان والمدد
يناشد ربه
وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته راكعًا ساجدًا يناشد ربه النصر؛ فقد أخرج البيهقي والماوردي بسندهما عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وجاء خبر الصباح في صحيح مسلم قال:.. وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أظهرَنا الله وأعزَّنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببْنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنا نلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك، فأثنى رسول الله عليه خيرًا، ودعا له بخير، ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الوقعة، فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعًا مصرعًا، يقول: هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان إن شاء الله.
قال عمر: فوالذي بعثه بالحق، ما عدا واحد منهم مضجعه الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السقيفة، لا يكف عن مناشدته ربه، فقد أخرج الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدًا"، فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). وفي رواية ابن إسحق وغيره: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر: أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع غبار المعارك، ثم خرج من العريش وهو يتلو قول الله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
مدد السماء الثالثة
واختلطت الصفوف، وتلاقت السيوف بالسيوف، وحسم أمر الله للملائكة اللقاء: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، وفي الحديث عن ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت فارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك مستلقيًا، فنظر إليه: فإذا هو قد حطم أنفه، وشق وجهه لضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة".
من قواعد القتال
وكان مما أنزل الله تعالى من أوليات قواعد القتال قوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فليس للمسلم إلا الإقدام والله ردؤه إلا أن يكون مناورًا ينحرف من مكان إلى مكان يبدل مواقع القتال أو طالبًا التحيز لطائفة من المقاتلين يستكثر بهم.
ولكن الله قتلهم ...
وليعلم المؤمنون أنهم جند الله وأدواته، وأن أيديهم ليست الفاعلة وأن الفعل لله؛ به يبيد أهل الشرك، فهو الذي وفق وهو الذي أعان فأهلك؛ فأنزل: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ) وهو الذي أظفر المؤمنين، ومكنهم من رقاب أهل الشرك وظهورهم، فما كان لأحد أن يفخر بقتل من قتل وإصابة من أصاب، فالله هو الذي استدرج القوم، ومكّن المؤمنين من نواصيهم..
وما رميت إذ رميت
فقد روى ابن كثير قال: قال ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يوم بدر، فقال: "يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم.
وذلك ما جاء في قول محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب، فرمى بها في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى شرّف رسوله فيما رمى، فجعل يده ترمي عن الله، فأنزل عليه: )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ثم عقّب الله على فضله فيما كان يخبر ويقرر حقًا فيما كان ويكون حتى يتم الله دينه: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)، فما كادوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه بعدها كيدًا إلا وأوهنه الله تعالى إلى أن لقي ربه صلى الله عليه وسلم.
ثم استمر ذلك الوهن للكافرين أمام جند الفتح من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن عمّ الإسلام الآفاق.
إيمان وبطر وكبر
وتتحدث كتب السنن والمغازي والسير، فتروي تفاصيل كثيرة عما دار في بدر عندما احتدم القتال: فهذا عمير بن الحمام يلوك تمرات، وما أن يسمع بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يقاتل مقبلاً غير مدبر حتى يقتل فله الجنة، فيلقى بالتمرات من يده وفمه، ويتقدم فيقاتل فيلقى الله على عهده.
وهذا عبد الرحمن بن عوف يجد نفسه في الصف بين شابين؛ كل يسأله عن أبي جهل عدو الله، ويختال أبو جهل بين الصفوف؛ فيقول ابن عوف: ذاكم صاحبكم! فيتبادله "المعاذان"؛ معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، يتبادلانه بضربتين حتى يثبتاه صريعًا يعالج آخر أنفاسه.
ويدركه عبد الله بن مسعود، فيتقدم ويرقى صدره ليجهز عليه، فيغلبه كبرياء الكفر وهو وشيك الهلاك، فيقول: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم، ويحتزّ عبد الله رأسه ويذهب فيلقيه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتتابع الرماح والسيوف فعلها في القوم، حتى أذل الله أعداءه، فوقعوا بين قتيل وأسير، ويفر من فر هربًا من القيان بدفوفهم حتى يدخلوا مكة خزايا مدحورين
الفضل العظيم
الخبر في مكة
يقول ابن إسحق: وكان أول من قدم مكة بمصاب القوم من قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعي؛ فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام أبو جهل وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام، فلما جعل يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا يعني أنه مجنون لا يدري فاسألوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو جالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
أبو لهب يموت كمدًا
وفي حديث أبي رافع مولى العباس بن عبد المطلب لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبت الله أبا لهب وأخزاه، فقام يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إليَّ فعندك لعمري الخبر. قال: فجلس إليه والناس قيام، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضًا يلبسون البياض على خيل بلق بين السماء والأرض، لا يقوم لها شيء، قال أبو رافع وكان الإسلام دخلنا وسرنا ذلك: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة، فقامت أم الفضل زوج العباس إلى عمود، فضربت به في رأس أبي لهب فشجته، وقالت: أستضعفته أن غاب سيده؟! فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة وهي قرحة تتشاءم منها العرب فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله. الحديث.
فضل الله
وهكذا قضى الله أمره وأنفذ تدبيره، وأوقع أول واقعة في الإسلام، فذكر أحبابه المنتصرين بفضله: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وأسكنكم بين قوم يحبونكم وتحبونهم (وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وبيّن لحبيبه بعضًا من أسرار تدبيره (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، وكشف الله تعالى سعي الشيطان في جيش الكفر: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب)
إعداد وعدة .. وحساب
ِ ومنذ أن وقعت الواقعة أوجب الله تعالى على المؤمنين الأهبة والإعداد تحسبًا للقاءات قد تفاجئهم، ليس من المشركين وحدهم، بل من كل من تسول له قوته أن يحارب الإسلام وأهله أو يمكر بهم فأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ)، والعدة تحتاج إلى نفقة وتنبيه خاص بفضلها (وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).
وكان للمؤمن المقاتل ذي الإيمان السوي الراسخ حساب خاص عند الله، ليس كحساب البشر إذا احتدم القتال: مقاتل بمقاتل!! ولكن أبعد من ذلك حيث أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ)، لا يفقهون تدافعكم للشهادة وبذل المهج طلبًا للجنة، وهم إنما يقاتلون ليسمع بهم الناس استعلاء وكبرًا وخيلاء، ثم خفف الله عن عباده وقد علم ما بهم: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ)، ولقد صدق المؤمنون وعد الله وصدقهم الله وعده، فلقد كانت جيوش الفتح تلقى أضعافها عددًا وعدة في قتال الفرس والروم في فتوح العراق والشام ومصر وإفريقية، وحتى عندما عبروا مضيق جبل طارق لقتال القوط الغربيين، فكان النصر معهم ما صبروا: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
مكانة البدريين
جاء فيما روى البخاري بسنده: " ... جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعُدُّون أهل بدر فيكم؟! قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة".
وبعد
فإن بدرًا وما لابسها من أحداث، وما علّق الله تعالى بها من أحكام، وما وجّه من تنبيهات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين تحتاج وحدها سفرًا يتدارس آثارها وأخبارها فبها بدأت المواجهة الصادقة: أحقت الحق وأبطلت الباطل، وفيها علَّم الله رسولَه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين علومَ الحرب والسلم والإعداد والحذر والطاعة والصبر عند اللقاء، والإثخان في الأعداء حتى يستقيم أمر الله الذي أراد وبيّن
ــــــــــــــــــــ(1/138)
" دروس من غزوة بدر "
لقد كانت غزوة بدر التي ابتدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه ومدده فرقانًا بين الحق والباطل كما يقول المفسرون إجمالاً، وفرقانًا بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيرًا، كانت فرقانًا بين الحق والباطل فعلاً، ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء، الحق الذي يتمثل في تفرد الله سبحانه بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشى على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!
# كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك. فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء وللقيم والأوضاع وللشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه.
# كانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصورًا جديدًا للحياة، ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الإنسان في الأرض، وبتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع ، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه يتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم، ولم يكن له بُدٌّ في أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد والمنهج الجديد والدولة الجديدة والمجتمع الجديد في واقع الحياة وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تَكبتها، وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً، ثم في حياة البشرية كلها أخيراً .. وهى لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله.
# وكانت فرقانًا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة؛ فجَرَتْ وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة حتى لقد قال: المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ)، وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهى المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة، لتكون فرقانًا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة، ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين، حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية؛ لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلامًا يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
النصر الحقيقي من الله وكل ما دونه ستار لقدر الله :
1 ... ... الاستغاثة بالله ونزول الملائكة:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
روى أحمد ومسلم، وأبو داود والترمذى وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين، فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر سبعون.
وأما البخاري فروي عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد" فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
2 ... ... الملائكة للبشرى والطمأنينة!
(وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يقول ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره: لم يجعل الله إرداف الملائكة بعضها بعضًا، وتتابعها بالمسير إليكم أيها المؤمنون مددًا لكم إلا بشرى لكم؛ أي بشارة لكم تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ)، يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم وتوقن بنصر الله لكم، وما النصر إلا من عند الله. يقول: وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون إلا أن ينصركم الله عليهم لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بنصر الله لكم؛ لأن ذلك بيده وإليه، ينصر من يشاء من خلقه". فالملائكة إذن لا تحقق النصر، وقوة بأس المؤمنين لا تحقق النصر؛ بل المؤمنون والملائكة ستار لقدَر الله وهم جنود الله تعالى، ينصر بهم وبغيرهم؛ لأن النصر بيده سبحانه.
وهذا المعنى الذي يشهده المؤمنون اليوم في بدر له مذاق خاص، وله حلاوة خاصة، فليس معنى مجرداً في الذهن، أو أملاً معقوداً في الأفق بل هو واقع حي لا تزال آثاره الضخمة في حسهم وشعورهم، ولا بد أن يتم التجرد الكامل من عالم الأسباب، وإعادة الأمر كله لله.
3 ... ... النعاس من جنود الله :
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ) عن علي رضى الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا متيقظ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلى ويبكى حتى أصبح، ذكره البيهقي والماوردي وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني : أنه أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يُقال: "الأمن منيم والخوف مسهر"، وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين.
4 ... ... الماء من جنود الله وله وظائف أربع:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجّاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك. فقال: بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء؟ فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشر من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين؛ حتى ثبتت فيه أقدام المسلمين وقت القتال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزل النبي صلى الله عليه وسلم يعني حين صار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة وعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تُصلُّون مجنبين؟
فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدَّواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة.
5 ... ... الملائكة بحاجة إلى معية الله سبحانه:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ).
فالملائكة بدون عون الله تعالى عاجزون عن تحقيق أي نصر حتى وهم يثبتون المؤمنين ويقاتلون معهم، لا بد لهم من معية الله سبحانه ليلقي الرعب في قلوب الكافرين.
6 ... ... الله تعالى يدير المعركة:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ لنار)
قوله: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ)
يقول: قووا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقد قيل وهم من المشركين وقد قيل إن تثبيت الملائكة المؤمنين كان حضورهم حربهم معهم، وقيل كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم، وقيل كان ذلك بأن المَلَك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ) يقول تعالى: سأرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم وأملؤها فَرقًا حتى ينهزموا عنكم، فاضربوا فوق الأعناق.
7 ... ... المؤمنون من جند الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
وبعد هذه المعية وهذا العون. لا مجال لفرار المؤمنين من الزحف فقد أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مِثْلي المؤمنين فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم.
وقال الجمهور من العلماء أن حكم الآية باقٍ إلى يوم القيامة وليس في الآية نسخ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات ... وفيه والتولي يوم الزحف".
وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا، وأما يوم حنين، فكذلك من فر إنما انكشف من الكثرة.
8 ... ... الحصى من جند الله:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك، فنزلت الآية إعلامًا بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، فقيل: المعنى لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم، وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم، (تفسير القرطبي ج4،7 ص384).
(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)
ولما التحم القتال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يسأل الله النصر وما وعده، وأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخذ من الحصى كفاً فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه، اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم" فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء وألقوا دروعهم، والمسلمون يقتلون ويأسرون وما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه ما يدري أين توجه والملائكة يقتلونهم.
9 ... ... استفتاح الكافرين من جند الله:
(إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: الأموي حدثنا أسباط بن محمد القرشي عن عطية عن مطرف في قوله (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ) قال: قال أبو جهل: اللهم أعن أعز الفئتين وأكرم القبلتين وأكثر الفريقين فنزلت الآية.
كأنما هو يدعو على نفسه وفئته فاستجاب الله له.
10 ... ... كثرة الكافرين وفئتهم من جند الله:
لأن الله تعالى ناصر حزبه ومؤيد جنده (وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ولن يدعهم للكثرة المشركة تتحكم بهم. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
ــــــــــــــــــــ(1/139)
الله أكبر.. في حرب رمضان
بقلم لواء شوقي محمد بدران
في شهر رمضان عام 1393هـ أتى نصر، وتغلبت الجيوش المؤمنة على القوات الإسرائيلية الغاشمة. وتحقق وعد الله في قوله سبحانه وتعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، لقد تحقّق نصر الله بعد سنوات طوال من الصراع مع العدو الإسرائيلي الذي كان يكسب كل جولة . ذلك لأننا لم نكن نحسن الصلة بالله سبحانه وتعالى، ولم نكن نأخذ بالأسباب الحقيقية للإعداد والاستعداد الجادّ لملاقاة العدو. ولكن عندما غيّرنا أحوالنا كما أمرنا الحق تبارك وتعالى في قوله الكريم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). وحينما أعددنا أنفسنا عقائديًا وماديًا إعدادًا جيدًا كتب الله لنا النصر. وهذا هو الطريق الصحيح للنجاح والفوز. وذلك ببذل كل جهد ممكن، والاعتماد على الله تبارك وتعالى وإخلاص النية لله، وطلب مرضاته، هنا تكون النتيجة الحتمية بالفوز في الدنيا والآخرة، كما قال الحق سبحانه وتعالى: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).
لقد كان شعار قواتنا المسلحة في حرب رمضان"أكتوبر": (الله أكبر)مدويًا في آفاق السماء، ورجالنا يهاجمون مواقع العدو، فيهزهم هزًا. وقذف الله في قلوب الأعداء الرعب ففروا هاربين. وكان هذا الشعار يقوي عزيمة الرجال، ويبعث فيهم الأمل، ويعطيهم الثقة بأن العدو مهما كان كبيرًا فإن الله أكبر. كانت حرب رمضان عام 1393هـ حربًا مباركة، وكانت في أيام مباركة من شهر مبارك هو شهر رمضان المعظم. وهو شهر مفضّل في الإسلام ترفع فيه الأعمال الصالحة، فما بال الجهاد والقتال فيه لنصرة الحق والدفاع عن الحرمات؟. وقد بدأت المعركة يوم العاشر من رمضان وأعطي لها الاسم الرمزي "بدر" تيمنًا بمعركة بدر التي كانت فاتحة خير على المسلمين، ونصرهم الله سبحانه وتعالى بعد أن كانوا أذلة. كان المبدأ الإسلامي في القتال وهو "النصر أو الشهادة" خير دافع لقواتنا للجرأة والشجاعة والتضحية عن عقيدة وإيمان. لذلك احتوت هذه الحرب على الكثير من قصص البطولة والفداء التي قدمها الضباط والجنود ممن نالوا شرف الشهادة.
خطة الخداع
الخداع من أهم عوامل النصر في المعركة. لذلك اهتمت قواتنا بخداع العدو في حرب رمضان، تمسكًا بقول الرسول القائد صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الحرب خدعة".
وقد نجحت قواتنا في خداع العدو، وأخذه على حين غرة ومفاجأته بالهجوم؛ سواء في توقيت الهجوم أو في حجمه. ولم يكن العدو يتوقع قيام قواتنا بالهجوم في شهر رمضان، وهو شهر الصيام لدى المسلمين، فكان يظنه شهر راحة واسترخاء بالنسبة لقواتنا المسلحة.
وشملت إجراءات الخداع على المستوى الاستراتيجي الإعلان عن إنهاء خدمة عدة آلاف من المجندين إلزاميًا، وكان ذلك موقوفًا منذ حرب يونيو 1967، وإعلان التعبئة لأفراد الاحتياط عدة مرات. كذا الإعلان عن قيام مجموعة من القادة والضباط إلى المملكة العربية السعودية لأداء العمرة. والحقيقة أنه لم يتم شيء من هذه الإجراءات، بل كانت فقط لخداع العدو؛ حيث كانت توحي بعدم وجود نية للهجوم.
لقد حققت إجراءات الإخفاء والخداع التي تم التخطيط لها، وقامت قواتنا بتنفيذها نتائج هامة، وكان لها الفضل في تحقيق المفاجأة، وفي امتصاص مجهود العدو الجوي والبري، والذي ضاع في مهاجمة مواقعنا الخداعية والهيكلية.
ولعل خير دليل على نجاح خطة الخداع التي وضعتها قواتنا أن العدو الإسرائيلي فوجئ مفاجأة تامة بالهجوم المصري السوري الساعة الثانية بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، وفي وضح النهار.
تدمير تحصينات العدو
كان العدو الإسرائيلي قد أقام ساترًا ترابيًا عاليًا على الشفة الشرقية لقناة السويس، وأقام عدة نقاط حصينة. وقد أطلق العدو على هذا الخط الدفاعي: "خط بارليف" نسبة للقائد الإسرائيلي "حاييم بارليف". وخلف الخط الدفاعي الأول أنشأت إسرائيل خطين دفاعيين آخرين.
وهكذا ظن قادة إسرائيل أنه قد توفر لهم الأمن والأمان، ولكن الله خيّب ظنهم، كما جاء في الآية الكريمة فيمن كان قبلهم (وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).
لم يكن يخطر ببال قادة إسرائيل أن العرب يمكنهم تدمير هذا الخط الحصين، بل إن بعض الخبراء العسكريين بعد دراستهم لتحصينات "خط بارليف"، والمانع المائي الذي أمامه وهو قناة السويس، قالوا: إنه لا يمكن تدميره إلا إذا استخدمت القنبلة الذرية.
وسبحان الله القويِّ العزيز الذي أضاء بصيرة رجالنا البواسل ليتغلبوا على الساتر الترابي المرتفع الذي كان يعتمد عليه "خط بارليف" بفكرة بسيطة، وهي استخدام تيار مائي قوي بواسطة طلمبات ميكانيكية لتجريف الرمال وفتح الثغرات في الحائط الترابي. وقد وفق الحق سبحانه وتعالى المهندسين المصريين إلى هذه الفكرة، والتي كانوا قد استخدموها من قبل في بناء السد العالي.
ووقف قادة إسرائيل في حيرة وندم بعد أن دمر هذا الخط الدفاعي الذي تكلف حوالي 200 مليون دولار في ذلك الوقت، وأخذوا يتلاومون، بل إن وزير الدفاع "موشى ديان" تبرأ منه، وقال: إن هذا الخط كان كقطعة الجبن الهشة. وكان من قبل يقول: إن هذا الخط لن يمكن التغلب عليه ولو بعد مائة عام.
إن اقتحام قناة السويس وتدمير "خط بارليف" عمل شجاع حقًا يوضح قدرة الجندي المسلم على القتال؛ فقد تحطمت نظرية الأمن الإسرائيلي، وثبت لإسرائيل أن فكرتها عن الحدود الآمنة فكرة خاطئة.
الثبات في المعركة
كان ثبات قواتنا في حرب رمضان واضحًا منذ بداية الحرب حتى نهايتها. وذلك امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ)، وليس أدل على ذلك من أن إصابات رجالنا كلهم كانت في الصدور التي واجهوا بها العدو.
وعلى العكس من ذلك، عندما رأى أفراد العدو هجوم قواتنا فروا هاربين، تاركين مواقعهم الحصينة، وخزانات اللهب التي أعدوها على الضفة الشرقية لقناة السويس لتشتعل مياه القناة، وتحيلها إلى صفحة من اللهب. والتي لم يجدوا الفرصة لاستخدامها، وصدق الله العظيم؛ حيث يقول: (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ).
وبعد أن فر جنود إسرائيل في الأيام الأولى للقتال، ودارت عليهم الدوائر وصلهم العون الخارجي من أسلحة ودبابات وطائرات، فقاموا بعمل ثغرة على الضفة الغربية للقناة، واتجهوا شمالاً إلى مدينة "الإسماعيلية" للاستيلاء عليها، ولكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من قوات المدينة الباسلة، فرجعوا عنها خاسرين.
ثم اتجهوا بعد ذلك جنوبًا في اتجاه مدينة "السويس" الصامدة، ولم يتمكنوا من دخولها، نظرًا لثبات رجال القوات المسلحة وأهالي المدينة في وجه العدو، وقدموا بطولات كثيرة ردت قوات العدو، وعادوا منها مدحورين.
لقد كان ثبات قواتنا في المعركة عن عقيدة إيمانية صادقة امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ(.
التعاون
لعل من أهم الضمانات التي تمت لنجاح المعركة هو تنظيم التعاون مع الجبهة السورية، مما اضطر العدو للقتال على جبهتين في الزمان والمكان اللذين حددهما الجانب العربي، ووفق الأسلوب القتالي الذي حدده العرب. وكانت هذه هي أول مرة يضطرّ فيها العدو إلى التخلّي عن أساليبه في القتال، ويعمل في ظروف غير مناسبة له. وكان الجيش الإسرائيلي في الجولات السابقة هو الذي يحدد مكان المعركة وزمانها بعد أن يعد قواته بما يضمن تفوقه ونجاحه في العمليات. لقد كان قرار الحرب المشترك بين القاهرة ودمشق المفاجأة الاستراتيجية الكبرى في حرب رمضان. وكانت أولى الحقائق المذهلة للعدو في هذه المعركة أن الجبهتين المصرية والسورية فتحتا النار في لحظة واحدة في حين لم يتوقع العدو ذلك. كذلك أثبتت هذه الحرب فائدة اتحاد المسلمين وترابطهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي. وكان هذا الاتحاد سببًا مباشرًا لقيام موقف عربي موحّد لأول مرة في تاريخ الأمة الحديثة. وساهمت كافة الدول العربية على قدر طاقتها في المعركة؛ سواء بالطائرات أو الدبابات أو المدفعيات أو القوات، أو بتقديم الوقود اللازم دون مقابل أو بالأموال، ولذلك لم تحارب مصر وحدها، ولم تقاتل سوريا بمفردها. لقد نالت أمتنا كلها نصرًا كبيرًا رفع الروح المعنوية للشعب. وذلك عندما توحدت كلمتها. وجاء ذلك مصدقًا لقوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ). وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن ابن عباس: "يد الله مع الجماعة" وكان للقرار التاريخي للدول العربية بوقف ضخّ البترول للدول المنحازة إلى إسرائيل كبير الأثر في تفجّر أزمة الطاقة في أوروبا، وأدرك الأوروبيون عاقبة مساندة المعتدين.
العقيدة أولاً
لقد قرّر قادة قواتنا أهمية العقيدة والإيمان. وتولد عن هذا الإيمان العميق روح معنوية عالية تعد من أعظم الأسلحة التي في يد القائد بفضل ما تودع في نفوس الرجال من صبر وعزيمة وفداء.
كانت الروح المعنوية العالية لقواتنا هي السلاح الرهيب الذي أدهش العدو؛ حيث وجد رجالاً يقذفون بأنفسهم إلى الموت، ويستهينون بالنار طلبًا للنصر أو الشهادة.
وكان إيمان القادة والجنود جميعًا بالله سبحانه وتعالى ناصر الحق وهازم المعتدي هو خير دافع لهم للقتال ومواجهة العدو. وكان إيمانهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها أكبر حافز لهم على الصبر عند لقاء العدو.
إن كل هذه المعاني والقيم كانت تولِّد في الضباط والجنود طاقات هائلة لا يمكن وصفها أو تحديدها، فانقلب الرجل منهم يقاتل بعشرة رجال في استبسال منقطع النظير. وكانت صيحاتهم المدوية "الله أكبر" تزلزل أقدام العدو. فكانت هذه الصيحة طلبًا للمدد من الحق سبحانه وتعالى فكتب لهم النصر. وحقق الله أمنيتهم بعد أن قدموا من العمل الجاد المخلص ما يستحقون عليه النصر وذلك مصداقًا لقوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
كان جنودنا ينظرون دائمًا إلى الأمام إلى أرضهم السليبة يريدون استرجاعها، وكانوا ينظرون إلى العدو يريدون الثأر منه، ويريدون هزيمته وتدميره.
وكان للنصر الذي حققته قواتنا في الأيام الأولى للقتال تأثير عميق على قواتنا في رفع روحها المعنوية.
ومن جهة أخرى فقدت القوات الإسرائيلية في الأيام الأولى للقتال معظم دفاعاتها على القناة ونسبة كبيرة من قواتها وأسلحتها، مما أثّر على روحها المعنوية، وجعلها تميل إلى الانسحاب والفرار. ووقع في أيدي قواتنا عدد كبير من الأسرى؛ الأمر الذي لم يحدث في الجولات السابقة مع إسرائيل.
خاتمة
إن نصر العاشر من رمضان لم يكن من قبيل المصادفة، إنما هو ثمرة عوامل كثيرة أولها: الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله سبحانه وتعالى. فكان التخطيط الدقيق، والتدريب الشاق، والإعداد الكامل، والتنسيق الشامل على كافة المستويات. وقد توّج كل هذا بقلوب عامرة بالإيمان بالله سبحانه، وقوله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، وهكذا نجد أن طريق النصر هو تقوية الصلة بالله جل جلاله، حتى يؤيدنا ويقف بجانبنا. أما القوات التي تبتعد عن الله فإنه يتركها لعدوها قوة أمام قوة وسلاحًا في مواجهة سلاح، ويتحكم في الصراع العوامل المادية فحسب.
إن حرب "رمضان" التي اتخذت شعارًا لها "الله أكبر" كانت حربًا عادلة تهدف إلى مقاومة الظلم والعدوان الإسرائيلي قام بها رجال ملأ الإيمان قلوبهم.
وفي الختام نقول: إن حرب رمضان (أكتوبر 1973 ) كانت نصرًا من عند الله سبحانه وتعالى وتمكينًا لنا في الأرض. وكان واجبًا علينا قبل ذلك وبعده أن ننفذ أوامر الحق جل جلاله في قوله الكريم : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)
ــــــــــــــــــــ(1/140)
فتح مكة -الفتح المبين
ـ كان ذلك في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وسببها أن أناسًا من بني بكر، كلموا أشراف قريش في أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح. (وخزاعة كانت قد دخلت في عهد المسلمين)، فأجابوهم إلى ذلك، وخرج حشد من قريش متنكرين متنقبين، فيهم صفوان بن امية، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فالتقوا مع بني بكر في مكان اسمه الوتير، وبيتوا خزاعة ليلاً وهم مطمئنون آمنون، فقتلوا منهم عشرين رجلاً، وعندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بما أصابهم، فقام وهو يجر رداءه قائلاً:
"لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي" وقال: "إن هذا السحاب ليُستهل بنصر بني كعب".
وندمت قريش على ما بدر منها، فارسلت أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة ويماددها. وقدم أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئًا، فذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أنا بفاعل".
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: "أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به (والذر صغار النمل)".
وانطلق أبو سفيان عائدًا إلى مكة خائبًا، لم يأت بشيء.
وتجهز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أخفى أمره، وقال: "اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة".
ولما أجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسير، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يحذرهم من غارة عليهم من المسلمين. قال علي رضي الله عنه: "فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد. فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرءً ملصقًا في قريش أي كنت حليفًا لهم ولست منهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم ، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم، فأنزل الله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق..[ الآيات إلى قوله تعالى: ]فقد ضل سواء السبيل[. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حسين، وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب: أسلم وغفار ومزينة، وجهينة وغيرهم، فالتقى كلهم في الظهران مكان بين مكة والمدينة وقد بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف. ولم تكن الأنباء قد وصلت قريشًا بعد، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرًا بسبب فشل ابي سفيان فيما جاء به إلى المدينة، فأرسلوا أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء ليلتمسوا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون، حتى دنوا إلى مر الظهران فإذا هم بنيران عظيمة، فبينما هم يتساءلون فيما بينهم عن هذه النيران، إذ رآهم أناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان".
قال ابن إسحاق يروي عن العباس تفصيل إيمان أبي سفيان: "فلما أصبحن غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! .. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد. وقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله، فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك.. أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وان محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
قال العباس: فقلت يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير مقبلاً إلى مكة، قال للعباس: احبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فخرجت فحبسته عند مضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى اله عليه وسلم أن أحبسه، ومرت القبائل عليها راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ .. وهكذا، حتى مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار!.. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد اصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا ! .. فقال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن".
ثم قال له العباس: "النجاة إلى قومك!..فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة قبل أن يصلها رسول الله، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فأقبلت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه وهي تقول: اقتلوا الحُميْت الدسم الاحمس، قُبِّح من طليعة قوم! .. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من نفوسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم والى المسجد".
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان عندما رآه في مضيق الوادي: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة" فلم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله هذا، وقال: بل اليوم يوم الرحمة، اليوم يعظم الله الكعبة. وأمر قادة جيوشه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا ستة رجال وأربعة نسوة، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، وهم عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نُقَيد، وعبد الله بن هلال، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتَنى وقرينة (وكانتا جاريتين تتغنيان دائمًا بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم).
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها (كداء) وأمر خالد بن الوليد أن يدخل بمن معه من أسفلها (كدى). فدخل المسلمون مكة من حيث أمرهم، ولم يجد أحد منهم مقاومة، إلا خالد بن الوليد، فقد لقيه جمع من المشركين فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، فقاتلهم خالد فقتل منهم أربعة وعشرين من قريش، وأربعة نفر من هذيل. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بارقة السيوف من بعيد، فأنكر ذلك، فقيل له: إنه خالد قوتل فقاتل، فقال: "قضاء الله خير".
روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر والحاكم عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرًا (متعممًا) بشقة بردٍ حَبِرة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
وروى البخاري عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع.
ودخل صلى الله عليه وسلم مكة متجهًا إلى البيت، وحوله ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده، وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". وكان في جوف البيت أيضًا آلهة، فأبى أن يدخل وفيه الآلهة، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل فيه".
وكان قد أمر صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة (وهو من حجبة البيت) أن يأتيه بالمفتاح، فجاءه به، ففتح البيت، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح، وقال له: خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم (أي حجابة البيت) ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. يشير بقوله هذا إلى قول الله تعالى ]إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها[ [النساء: 4/58].
وأمر رسول الله بلالاً فصعد فوق الكعبة فأذن للصلاة. وأقبل الناس كلهم يدخلون في دين الله أفواجا. قال ابن إسحاق: وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بعضادتي باب الكعبة وقد اجتمع الناس من حوله ما يعلمون ماذا يفعل بهم، فخطب فيهم قائلاً:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: ]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا عن أكرمكم عند الله أتقاكم[. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وروى الشيخان عن أبي شريح العدوي أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما خاطب به الناس يوم الفتح: "إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها أناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الأخر أن يسفك بها دمًا أو يعضد بها شجرًا، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له فيه ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب".
ثم إن الناس اجتمعوا بمكة لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنها. فلما دنون منه ليبايعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئًا، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرًا ما أخذته على الرجال، وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلاً لي أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان شاهدًا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال عليه الصلاة والسلام: وإنك لهند بنت عتبة؟ فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين، قالت: وهل تزني الحرة قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارًا وقتلتهم يوم بدر كبارًا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر من قولها حتى استغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
قال: ولا تعصينني في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر. وكان رسول الله لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تمسه، إلا امرأة أحلها الله له".
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام، بهذه الآية: لا يشركن بالله شيئًا، قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها". وروى مسلم عن عائشة بنحوه.
"وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، يوم الفتح، رجلاً من المشركين، وكان علي رضي الله عنه يريد قتله، قالت: فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، وفاطمة بنته تستره بثوب، قالت: فسلمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد، ثم انصرف. فقلت: يا رسول الله. زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلاً أجرته، فلان: ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
وأما أولئك النفر الذين كان رسول الله قد هدر دمهم، فقد قُتل بعضهم وأسلم الآخرون: قتل الحويرث وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة، وقتلت إحدى الجاريتين المغنيتين وأسلمت الأخرى. وشفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وحسن إسلامه، وأسلم عكرمة ، وهبار، وهند بنت عتبة.
روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة؟ قال: نعم: فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه".
ومرّ فضالة عائدًا إلى بيته بامرأة كان يميل إليها ويتحدث معها، فقالت له: هلمّ إلى الحديث، فانبعث يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت: لا ... يأبى عليّ الله والإسلام
لو ما رأيت محمدًا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينًا ... والشرك يغشى وجه الإظلام
ــــــــــــــــــــ(1/141)
دروس من فتح مكة
من أعظم بشائر القرآن الكريم
الأستاذ/ حسن ضياء الدين عتر
انهمك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبطال الميامين بعد الهجرة في ردع الأعداء الكائدين هنا وهناك في أرجاء الجزيرة العربية، لا يُخمدون نارًا إلا أوقد العدو للحرب نارًا أخرى.
في هذه الغمرة جاءتهم بشارة عظيمة فريدة فوق الذي في حسبانهم يومئذ، إن الله سيمنحكم نصرًا عظيمًا وعزًا وطيدًا، ويفتح لكم قلعة الشرك الحصينة؛ أم القرى، مكة المكرمة؛ ويتهاوى الشرك كله.. ويدخل الناس معكم في دين الله أفواجًا.. نزلت هذه البشارة تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامهم وقائدهم: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)
ذهب العلامة عبد الرحمن بن رجب الحنبلي رحمه الله مذهب جمهور المفسرين، إلى أن سورة النصر نزلت قبل فتح مكة إذْ أخبر الله بفتحها قبل وقوعه. وجاء مستقبل الزمان بتحقق الفتح، كما أنبأ الله تعالى من قبل وأخبر. فسورة النصر علم من أعلام نبوة سيد المرسلين وإلهية رسالته.
لقد استدل الحافظ ابن رجب على نزول سورة النصر قبل الفتح بدلائل أهمها:
1) ظاهر النص القرآني، فقد دلت اللغة العربية على أن "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان. وعوّلَ على هذا بعض أئمة اللغة كالزمخشري في كشافه.
2) روى النسائي من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت: ]إذا جاء نصر الله والفتح[ إلى آخر السورة، قال ابن عباس: نُعْيَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنُزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "جاء الفتح، وجاء نصر الله، وجاء أهل اليمن" فقال رجل: يا رسول الله ، وما أهل اليمن"، قال: (قوم رقيقة قلوبهم، لينة قلوبهم، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان".
أقول: إن المقصود بـ "أهل اليمن" في الحديث هم الأشعريون، فإنهم طليعة وفود اليمن، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة عند فتح خيبر، ويدلك ذلك على نزول سورة النصر قبل فتح مكة. وهو قول الجمهور، وإليه ذهب الإمام ابن رجب رحمة الله عليه.
تكشف لك الدراسة العلمية أن هذه السورة الجليلة علم ساطع من أعلام نبوة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وبرهان باهر على إلهية رسالته، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن سقوط معقل الشرك في المستقبل القريب، لتقرَّ عين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتطهير مكة من دنس الشرك والوثنية، قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، تباركت أسماؤه وتعالت صفاته.
قال الإمام الجليل عبد الرحمن بن رجب الحنبلي في قوله تعالى: ]إذا جاء نصر الله والفتح[: "أما (نصر الله): فهو معونته على الأعداء، حتى غَلَبَ صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، واستولى عليهم من قريش وهوازن وغيرهم". وقال الإمام الألوسي في قوله تعالى: (إذا جاء): "المراد بالمجيء الحصول".
وفي قوله تعالى (نصر الله): "أي إعانته تعالى وإظهاره إياك (يا رسول الله) على عدوك".
وقال الإمام أبو السعود العمادي: "والتعبير عن حصول النصر والفتح بالمجيء، للإيذان بأنهما متوجهان نحوه عليه السلام، وأنهما على جناح الوصول إليه عن قريب".
وذكر القاضي البيضاوي نحو ذلك وزاد عليه قوله: "وقد قرب النصر من وقته فكنْ مترقبًا لوروده، مستعدًا لشكره".
ذهب الإمام ابن رجب الحنبلي مذهب جمهور المفسرين وفيهم ابن عباس وغيره إلى أن المراد بالفتح: "هو فتح مكة بخصوصها". ثم قال: "قال ابن عباس وغيره، لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على مكة". وفي صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال: "وكانت العرب تلَوِّم [أي تنتظر] بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامه، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.." الحديث.
وقد استدل العلامة ابن كثير بفتح مكة على نبوة سيد المرسلين وساق استدلاله تمهيدًا لحديث عمرو بن سلمة الذي أوردناه آنفًا.
وعن الحسن قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ قالت الأعراب: أما إذْ ظفر بأهل مكة؛ وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل؛ فليس لكم به يدان. فدخلوا في دين الله أفواجا".
الحق أن فتح مكة علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى حمى بيته من أهل الضلالة والبغي، وهم أصحاب الفيل. بينما فتح أبوابها وذلل وعرها، وأخضع أعناق جبابرتها وصناديدها لسيد المرسلين حبيبه محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير: "والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولاً واحدًا" وتدل عليه أحاديث كثيرة، وإذا أطلق لفظ "الفتح" فالمراد به فتح مكة المكرمة، وقد ورد هذا في القرآن العظيم. قال الله تعالى:
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) [الحديد]
سيد المرسلين يوم الفتح الأعظم
كشف الله تعالى ما يكون بعد الفتح من شأن سيد المرسلين، وهو شأن إخوانه المرسلين قبله. فإنك لا تجد في تاريخ أحد منهم، قبل النصر ولا بعده، بعض ما تجده في زعماء الضلالة من طغيان وتكبر وتجبر وتطاول وظلم وإذلال للناس.. فهذه سورة النصر تُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة وتوجه قلبه إلى جانب عظيم من جوانب الصلة بالله تبارك وتعالى [فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا].
وفتح الله على رسوله الأمين وأصحابه الميامين أعتى قلاع الشرك في الجزيرة العربية فدخل مكة ظافرًا؛ بجيش عظيم منيع من أصحابه، لم يجتمع من أبناء الجزيرة العربية نظيره قط، وذلك في أواخر شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة من الهجرة، دخلها خاشعًا لله متواضعًا، ذاكرًا عابدًا، يقرأ سورة الفتح على ناقته. روى البخاري في صحيحه عن معاوية بن قُرةَّ قال: "سمعت عبد الله بن مُغفَّل يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يُرجعُ. وقال [أي معاوية بن قُرة]: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع".
"الترجيع": ترديد القارئ الحرف في الحلق. يفيدك هذا التعبير أن الرسول صلى الله عليه سلم في هذا النصر العظيم كان يمعن في تلاوة ألفاظ هذه السورة وفي التفكير بمعانيها اعترافًا بفضل الله عليه. أجل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة على مشهد من جمع عظيم، وقد كاد له الذين ناصبوا دعوته العداء حتى أخرجوه من بلده، لكنه لم يدخلها مزهوًا مختالاً. إنما دخلها خاضعًا متواضعًا لله خير الناصرين، وذلك في شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة من الهجرة.
روى الإمام الحاكم وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله متخشعًا".
وفي رواية البيهقي عن أنس قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعًا".
وأفادت رواية الواقدي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توسط الناس على هذه الحال.. "تواضعًا لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال صلى الله عليه وسلم : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة".
لقد رتب الله على الفتح والنصر أمرًا جليلاً عظيمًا: [فسبح بحمد ربك واستغفره. ]فإن الصلة بالحق تباركت أسماؤه وتعالت صفاته لا يجوز أن تكون قاصرة على أيام الشدة، إذ يفتقر العبد إلى مولاه، فيناديه من أعماقه رباه! رباه! وهو في أمرِّ حالات الافتقار وأشدِّ حالات الظلام، ولكن الصلة الواجبة بين العبد وربه صلة دائمة لا تنقضي ولا تنقطع مدى الحياة، مهما أمد الله له في النعم، وأزجى له من العز والنصر والسؤدد.
كانت العرب تنتظر نتيجة الصراع بين المصطفى "صلى الله عليه وسلم" وبين قلعة الشرك والوثنية. دخل الرسول الكريم مكة ظافرًا متنصرًا.. ودانت له الرقاب.. لكنه دخلها متذللاً لله رب العالمين. فليس في النصر إغراء يحوله عن طريقته الفضلى..!! ولا ما يستدعي أن يقترف شيئًا من جرائم الجبارين، زعماء الغرور والطغيان، من سفك دماء العزل من السلاح، وهتك أعراض الحرائر المسالمات، وسلب الأموال وتخريب الديار وانتهاك حرمات الله، وإهانة الشرفاء والفضلاء، وإذلال الناس وكبت حرياتهم، وملء السجون بجموع النبغاء والكرماء والفضليات الشريفات!!.
إن للجبابرة الطغاة شاكلة شهيرة ملأت التاريخ الغابر والمعاصر نكبات ومآسي وفواجع.. ولقد أماطت الأحداث اللثام عن طغاة استلبوا زعامات في الماضي والحاضر فعاثوا في أقوامهم فسادا..!! وعن طغاة بغوا في الأرض، ظلمًا وعدوانًا، تجبرا وغرورا، فاقترفوا من فظائع الجرائم ما تذهل له العقول..!! ولا تغيب عن بالك مجازر اليهود وأذنابهم في فلسطين ولبنان، ولا مجازر الهندوس والوثنيين في مسلمي الهند، ومثل ذلك في أفريقيا. وغير ذلك كثير في عصرنا. طغيان وسفك دماء.. وانتهاك أعراض.. وسلب أموال.. وتخريب ديار.. ذاكم صنيع الجبارين، كما أخبر الله عنهم، قال تعالى: } قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل].
أما نحن معشر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلنا شاكلة أخرى وطريقة مثلى، رسمها الحق تبارك وتعالى، وها أنت تشهدها في دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في أعظم نصر، وقد طأطأ رأسه.. خاشعًا مخبتًا متذللاً لله واهب النصر رب العالمين ]وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم[ [سورة الأنفال:10] إن ذلك التواضع الجم والأدب الكامل والتذلل والاستكانة بين يدي الحق جبار السموات والأرض، لنا طريقة التعامل مع عباد الله، كل حسب حالة (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [سورة المائدة: 54].
لقد آذت قريش رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذى مريرًا، فصبر عليهم ثلاث عشرة سنة بعد البعثة ثم هاجر مضطرًا من مكة إلى المدينة.
واستمرت المصاولة بينه وبينهم بعد الهجرة ثماني سنين حتى أظفره الله عليهم إذْ داهمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم. وسبق إليه أبو سفيان، الذي جلب الأحزاب لحربه وتسبب وزوجته بواسطة وحشي في قتل عمه حمزة والتمثيل به، فلاطفه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاه للإسلام.. فقال: ويحك يا أبا سفيان.. ألم يأنِ لك أن تعلم وتشهد أن لا إله إلا الله!؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك وأكرمك!! ثم جعل الرسول له مكرمة خاصة لدى اقتحام المسلمين مكة، فجعل الأمان لمن دخل داره فقال: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن). واجتمع الذين حاربوا الله ورسوله يستمعون إلى الحكم فيهم، وهم يظنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى عن استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم، فقال: ما تقولون أني فاعل بكم!!) فقالوا: أخٌ كريم وابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف )قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [سورة يوسف: 92].
وضح لك من ذلك كله تفوق رسول الله صلى الله عليه سلم على الناس أجمعين بسعة الصدر، ولين العريكة، وكرم العشرة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس بل هو صلى الله عليه وسلم يفوقهم في جميع محاسن الأخلاق.. حتى رحُب صدره لأجلاف الجاهلية؛ وهم من أغلظ البشر طبعًا وأقساهم معاملة. وإن عظيم عفوه هذا يكشف عن تأهيل الله سيدنا محمدًا لمقام الرسالة العظمى، وهو من أعلام نبوته الساطعة الباهرة صلى الله عليه سلم
ــــــــــــــــــــ(1/142)
معركة البويب -وقعت في السنة الثالثة عشر من الهجرة.
قال ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" (7 / 30): وكانت هذه الواقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام، فقد بعث أمراء النفوس جيشًا لهم بقيادة مهران واكتمل صف المسلمين تحت إمرة المثنى بن حارثة، فتوافوهم وإياهم بمكان يقال له "البويب" قريب من مكان الكوفة اليوم وبينهما الفرات قالوا: إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم، فقال المسلمون: بل اعبروا إلينا فعبرت الفرس إليهم فتوافقوا، وذلك في شهر رمضان. فعزم المثنى على المسلمين في الفطر فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم، وعبأ الجيش وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء على القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت، وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بجيلة وجماعة من سادات المسلمين. وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول، فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم. واقتتلوا قتالاً شديدًا، ورأى المثنى في بعض صفوفه خللاً فبعث إليهم رجلاً يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم : لا تفضحوا العرب اليوم فاعتدلوا. فلما رأى ذلك منهم ـ وهو بنو عجل ـ أعجبه وضحك وبعث إليهم يقول: يا معشر المسلمين عاداتكم، انصروا الله ينصركم، وجعل المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر. فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة.
قال محمد بن إسحاق: وحمل المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران قائد الفرس فطعنه واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلاً، وسبق المثنى بن حارثة إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون. فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن بعد إلى الليل فيقال: أنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف ولله الحمد والمنة وغنم المسلمون مالاً جزيلاً وطعامًا كثيرًا، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقد قتل من سادات المسلمين في هذا اليوم بشر كثير أيضًا، وذلت لهذه الموقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة فغنموا شيئًا عظيمًا لا يمكن حصره
ــــــــــــــــــــ(1/143)
وفاة خالد بن الوليد
هو خالد بن الوليد من أجلّ الصحابة وأبرعهم وأشجعهم، وهو سيف الله المسلول لم يقهر في جاهلية ولا إسلام.
وأبوه هو الوليد بن المغيرة سيد قريش في عصره.
وأمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وقد أسلم رضي الله عنه بعد الحديبية في العام الثامن الهجري، وشهد مؤتة، وانتهت إليه الإمارة يومئذ من غير إمرة، فقاتل يومئذ قتالاً شديدًا لم ير مثله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحه فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه"، ومن يومئذ سُمي "سيف الله"، وشهد خيبر وحنينًا، وفتح مكة وأبلى بلاءً حسنًا.
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العزى، وكانت لهوازن فكسر قمتها أولاً ثم دعثرها وجعل يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ثم حرقها.
وقد استعمله أبو بكر الصديق رضي الله عنه على قتال أهل الردة ، ولما أمَّره الصديق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، خالد بن الوليد سيف من سيوف الله" رواه الإمام أحمد في مسنده.
وله آثار مشهورة في قتال الروم بالشام والفرس بالعراق، وافتتح دمشق، وقد روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثًا. وقد ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.
ولما حضرته رضي الله عنه الوفاة قال: "لقد شهدت مائة زحف أو نحوها وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء وما لي من عمل أرجى من لا إله إلا الله وأنا متترس بها".
وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحزن عليه عمر والمسلمون حزنًا شديدًا، وقد جعل رضي الله عنه سلاحه وفرسه في سبيل الله.
وقد توفي في 18 رمضان سنة 21هـ، وصلى عليه عمر بن الخطاب، ودفن بجوار حمص.
رضي الله تعالى عنه وأرضاه
ــــــــــــــــــــ(1/144)
وفاة عمرو بن العاص
وكانت في رمضان سنة 43هـ.
أسلم عمرو بن العاص بعد تفكير طويل وتدبر كبير،وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص" [رواه الإمام أحمد والترمذي].
" اللهم أمرتنا فعصينا ... ..
"ونهيتنا فما انتهينا ... ولا يسعنا إلا عفوك يا أرحم الراحمين"
بهذا الدعاء الضارع الراجي ودّع عمرو بن العاص الحياة واستقبل الموت.
وقصة حياة عمرو بن العاص غنية حافلة، كسب خلالها للإسلام قطرين كبيرين من أقطار المعمورة هما: "فلسطين" و "مصر".
تبدأ هذه القصة قبل الهجرة بنحو نصف قرن من الزمان حيث ولد عمرو بن العاص رضي الله عنه وتنتهي في سنة ثلاث وأربعين بعد الهجرة حيث وافاه اليقين.
أما أبوه فهو "العاص بن وائل" أحد حكام العرب في الجاهلية وسيد من ساداتهم المرموقين، وأما أمه فلم تكن كذلك.
شرح الله صدره للإسلام في السنة الثامنة للهجرة فقدم على النبي فبسط الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يده لعمرو فقبض عمرو يده عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "ما لك يا عمرو"؟!
فقال: أبايعك على أن يُغفر لي ما تقدم من ذنبي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الإسلام والهجرة يجبان ما قبلهما"
فبايعه عند ذلك، ولكن هذه الحادثة تركت أثرها في نفس عمرو بن العاص، فكان يقول: "والله ما ملأتُ عينيَّ من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تمليت من النظر إلى وجهه حتى لحق بربه.
ولقد أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش المسلمين في غزوة "ذات السلاسل" على الرغم ممن كان في الجيش من المهاجرين والأنصار لما لمسه فيه من طاقات فذة. وأبلى رضي الله عنه في حروب الردة أعظم البلاء.
وبعد ذلك استعان الفاروق عمر بقدرات عمرو وخبراته ووضعها في خدمة الإسلام والمسلمين، ففتح الله على يديه سواحل "فلسطين" وآلت "القدس" إلى المسلمين في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وكان الفاروق إذا ذُكر أمامه حصار "بيت المقدس" وما أبدى فيه عمرو بن العاص من براعة يقول:
لقد رمينا "أرطبون الروم" "بأرطبون العرب"
ثم توج عمرو بن العاص انتصاراته الكبرى بفتح "مصر"
وبذلك فتح أمام جيوش المسلمين أبواب إفريقيا وبلاد المغرب وإسبانيا" وكان عمرو بن العاص من أحسن الناس بيانًا وأنصحهم لسانًا:
ومن بليغ كلامه رضي الله عنه : قوله: الرجال ثلاثة:
رجل تام، ونصف رجل، ولا شيء.
أما الرجل التام فهو الذي كمل دينه وعقله ..
فإذا أراد أن يقضي أمرًا استشار أهل الرأي فلا يزال موفقًا.
وأما نصف الرجل فهو الذي يُكمل الله له دينه وعقله ..
فإذا أراد أن يقضي أمرًا لم يستشر فيه أحدًا، وقال: أي الناس أتبعه وأترك رأيي لرأيه؟ فيصيب ويخطئ.
وأما الذي لا شيء فهو من لا دين له ولا عقل، فلا يزال مخطئًا مدبرًا..
والله إني لأستشير في الأمر حتى خدمي.
ولما مرض رضي الله عنه مرض الموت، وأحس بدنو الأجل غلبته العَبرة، وقال لابنه: كنت على ثلاث حالات عرفت نفسي فيها،
كنت أول شيء كافرًا، فلو مت حينئذ لوجبت لي النار.
فلما بايعت الرسول صلى الله عليه وسلم كنت أشد الناس حياء منه حتى إني ما ملأت عيني منه قط، فلو مت حينئذ لقال الناس: هنيئًا لعمرو أسلم على خير ومات على خير..
ثم تلبستُ بعد ذلك بأشياء فلا أدري أعليَّ أم لي؟
ثم أدار وجهه إلى الجدار وهو يقول:
اللهم أمرتنا فعصينا ... ونهيتنا فما انتهينا
ولا يسعنا إلا عفوك يا أرحم الراحمين.
ثم وضع يده في موضع الغلِّ من عنقه ورفع طرفه إلى السماء وقال:
اللهم لا قويٌّ فأنتصر ... ولا بريء فأعتذر
وما أنا بمستكبر ... وإنما مستغفر، فاغفر لي يا غفار
ولم يزل يرددها حتى فاضت روحه.
رضي الله تعالى عنه وأرضاه
ــــــــــــــــــــ(1/145)
بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن في رمضان سنة 10 هجرية.
قال الحافظ البيهقي فيما رواه عن أبي إسحاق عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه سلم بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يقفلأي يعود خالدًا إلا رجلاً كان ممن مع خالد فإن أحب أن يعقبأي يبقى مع علي فليعقب معه. قال البراء: فكنت فيمن عقب مع علي، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ثم تقدم فصلى بنا علي ثم صفنا صفًا واحدًا ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعًا، فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدًا ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همدان، السلام على همدان". قال البيهقي: رواه البخاري مختصرًا من وجه آخر.
وروى ابن ماجه والإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شريك عن سماك عن حنش عن علي كرم الله وجهه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله، تبعثني إلى قوم أشد مني وأنا حدث لا أبصر القضاء. قال فوضع يده على صدري وقال: "اللهم ثبِّت لسانه، واهدِ قلبه، يا عليّ إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك" قال: فما اختلف عليَّ قضاء بعد، أو ما أشكل عليَّ قضاء بعد
ــــــــــــــــــــ(1/146)
وفاة فاطمة رضي الله عنها
توفيت السيدة فاطمة في الثالث من رمضان سنة 11 هـ ، وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها خديجة بنت خويلد ولدتها وقريش تبني البيت قبل النبوة بخمس سنين وهي أصغر بناته صلى الله عليه وسلم وتزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في السنة الثانية من الهجرة في رمضان وبني بها في ذي الحجة، وولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم ومحسنًا ومات صغيرًا.
وكانت لها مكانة عظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يناديها بأم أبيها لما كان فيها من الحنان والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن حياتها قال عامر الشعبي: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، ومالي ولها خادم غيرها، وبلغها أنه جاءه رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال:"على مكانكما" فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال:" ألا أدلكما على خير مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أتيتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين فهو خير لكما من خادم" أخرجه البخاري ومسلم.
وعن عائشة قالت: أقبلت فاطمة رضي الله عنها كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسها عن يمنيه أو عن شماله. ثم إنه أسرّ إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: اختصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه ثم تبكين؟ ثم إنه أسرّ إليها حديثًا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قُبِض صلى الله عليه وسلم سألتُها فقالت: إنه أسرّ إلي فقال: "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة وإنها عارضني به العام مرتين ولا أراه إلا قد حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحوقًا بي ونعم السلف أنا لك" فبكيت لذلك، ثم قال:" ألا ترضين أن تكوني سيدة (نساء) هذه الأمة أو سيدة نساء المؤمنين؟" قالت: فضحكت لذلك" أخرجاه في الصحيحين.
وروى البيهقي: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت فاطمة أبا بكر عن الميراث فأخبرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة". فسألت أن يكون زوجها ناظرًا على هذه الصدقة فأبى ذلك وقال: إني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعول، وإني أخشى إن تركت شيئًا مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله أن أضل، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه سلم أحب ألي أن أصل من قرابتي. فكأنها وجدت في نفسها من ذلك، فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها فجعل يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت. فرضيت رضي الله عنها.
ولما حضرتها الوفاة أوصت إلى أسماء بنت عميس امرأة الصديق أن تغسلها فغسلتها هي وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، وصلى عليها زوجها علي وعمه العباس ودفنت ليلاً وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة وقيل أنها لم تضحك في مدة بقائها بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وأنها كانت تذوب من حزنها عليه وشوقها إليه صلى الله عليه وسلم
رضي الله عنها وأرضاها
ــــــــــــــــــــ(1/147)
قطز قاهر التتار -في معركة عين جالوت
بقلم اللواء الركن: محمود شيت خطاب
السلطان
الملك المظفر قطز قاهر التتار هو السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي، تسلطن بعد أن خلع الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك في يوم السبت 17من ذي القعدة سنة 657 هـ 1959م، بعد أن تفاقم خطر التتار، وأصبحت مصر مهددة بغزوهم الوشيك.
وكانت مصر على إثر وفاة ملكها الصالح، ومقتل ولده الملك المعظم قد رفعت على عرشها امرأة هي: شجرة الدر أرملة الملك الصالح، فكانت أول ملكة، كما كانت آخر ملكة اعتلت عرش مصر الإسلامية. وأقيم للسلطنة نائب قوي، هو الأمير عز الدين أيبك كبير المماليك البحرية، ليعاون شجرة الدر في تدبير الأمور، وبالرغم مما أبدته شجرة الدر من حزم وبراعة في تسيير أمور الدولة، وتصفية الموقف مع الصليبيين وإجلائهم عن مصر فقد كان جلوس امرأة على عرش مصر نذيرًا بوقوع الفتن والاضطرابات، حيث أبى معظم الأمراء أن يحلفوا يمين الطاعة للملكة الجديدة، لذلك رأت شجرة الدر أن تتزوج من الأمير عز الدين أيبك، فلما لم تفلح هذه الخطوة في تهدئة الأمور رأت أن تتنازل عن العرش لزوجها، فتولى الأمير عز الدين أيبك عرش مصر باسم الملك المعز، وذلك في آخر ربيع الثاني سنة 648 هـ 1250م، وحكم مصر زهاء سبع سنين.
وكانت شجرة الدر وراء زوجها تعينه في تصريف الأمور، حتى دب الخلاف بين الزوجين، لاعتزام المعز الزواج ثانية، فدبرت شجرة الدر مؤامرة لاغتياله، ونفذتها في بيتها يوم الثلاثاء 23 من ربيع الأول من سنة 655 هـ 1257م.
وتولى الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، المُلْكَ يوم الخميس 25 من ربيع الأول من سنة 655 هـ 1257م، وكان عمره 15 سنة، فلم يكن قادرًا على تحمل أعباء الملك في ظروف حرجة للغاية؛ إذ كانت البلاد مهددة بالغزو التتري، لذلك خلعه قطز، وتولى الملك مكانه سنة 657 هـ 1259م، وكان هدفه: حرب التتار، وإنقاذ مصر خاصة والبلاد العربية عامة من خطر غزوهم الكاسح.
الموقف العام
ولعل في عرض الموقف العام العصيب التي كانت مصر والبلاد العربية تجتازه من جراء الغزو التتري الجارف ما يبرز مبلغ التضحية التي بذلها قطز في قبوله تحمل المسؤولية حينذاك، في بلد مهدد بغزو خارجي ماحق، وارتباك داخلي فظيع، وقد كان بإمكانه أن يستمتع بالسلطة الفعلية بالرغم من بقاء الملك المنصور في الحكم دون أن يكون المسؤول الأول في مثل تلك الظروف الحرجة، ولكنه آثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، فقضى أولاً على الارتباك الداخلي، ووضع الأمور في نصابها، ثم وجه همه إلى العدو الخارجي، فاستطاع بأعجوبة خارقة حقًا إحراز النصر وإنقاذ مصر والبلاد العربية من التتار وقواتهم الضاربة.
ففي سنة أربع وخمسين وستمائة هجرية 1256م، مَلَكَ التتار سائر بلاد الروم بالسيف، فلما فرغوا من ذلك، نزل هولاكو بن طولوي بن جنكيز خان كالإعصار على بغداد في صفر من سنة ست وخمسين وستمائة هجرية 1285م، ودخلوها دخول الضواري المفترسة، وقتلوا مئات الآلاف من أهلها، ونهبوا خزائنها وذخائرها، وقضوا على الخلافة العباسية، وعلى معالم الحضارة الإسلامية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد أسرته وأكابر دولته..
وتقدم التتار إلى بلاد الجزيرة، واستولوا على "حران" و"الرُّها" و"ديار بكر" في سنة سبع وخمسين وستمائة هجرية 1259م، ثم جاوزا الفرات، ونزلوا على "حلب" في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية 1260م، واستولوا عليها وجرت الدماء في الأزقة أنهارًا.
ووصل التتار إلى "دمشق"، وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب، فخرج هاربًا ومعه أهل اليسار، ودخل التتار دمشق، وتسلموها بالأمان، ثم غدروا بأهلها وفتكوا بهم، ونهبوا وسلبوا ودمروا.
وتعدوا دمشق، فوصلوا إلى "نابلس"، ثم إلى "الكرك" وبيت المقدس، وتقدموا إلى "غزة" دون أن يلقوا مقاومة تذكر، واضطر هولاكو فجأة إلى مغادرة سورية، بعد أن جاءته الأخبار بوفاة أخيه الأكبر "منكوقاآن" في الصين، وبتنازع أخويه الآخرين "قوبيلاي" و"أريق بوكا" ولاية العرش.
وقد استثمر التتار حرب الصاعقة، التي تعتمد على سرعة الحركة، كما استثمروا حرب الأعصاب إلى أقصى مدى، فنشروا الذعر والخوف في كل مكان، وحيثما اتجهت قواتهم كانت تسبقهم الأقاصيص عن طغيانهم وقسوتهم ومذابحهم.
موقف أوروبا
فرحت أوروبا النصرانية بانتصار التتار على المسلمين، فقد كانوا من أصدقاء النصارى وفيهم بعض النصارى، ولهولاكو نفسه زوجة نصرانية، فضلاً عن أن القائد الذي ولي أمر سورية عندما غادرها هولاكو كان نصرانيًا، كل هذا جعل البابوات وحكام غرب أوروبا ينظرون إلى التتار وكأنهم حلفاؤهم في قتال المسلمين.
والواقع أن فكرة تكوين حلف من الأوروبيين والتتار لتدمير البلاد الإسلامية، كانت موضع تفكير البابوات في عصور متتالية، وكانت سياسية هؤلاء تهدف إلى نشر الدين النصراني بين التتار، وقد تبادل التتار وحكام أوروبا البعوث، وعلى سبيل المثال: فقد دعا لويس التاسع قسمًا من رجال أمير التتار إلى فرنسا، حيث فاوضهم على عقد اتفاقية عسكرية، تنص على أن يقوم طرفاها بعمليات حربية على المسلمين، يكون فيها دور التتار غزو العراق وتدمير بغداد والقضاء على الخلافة الإسلامية، ويكون دور الصليبيين حماية هذا الغزو التتري من الجيوش المصرية, وتجريد جيوشهم لمنع نجدة القوات المصرية للمسلمين في آسيا، وبالأحرى تقوم بعزل مصر عزلاً تامًا عن سائر البلاد العربية.
ولم يكفّ لويس التاسع عن العمل لاستمالة التتار، وتسخير قوتهم المدمرة لضرب الإسلام، ففي السابع عشر من يناير سنة 1249م سنة 646هـ أرسل إلى أمير التتار هدايا ثمينة حملها إلى الأمير وفد على رأسه الراهب الدومنيكي "أندريه دي لونجيمو"، ومما يذكر أنه كان من بين هذه الهدايا قطعة من الصليب المقدس وصورة للسيدة العذراء، ومختلف النماذج الصغيرة لعديد من الكنائس.
ويقول الأسقف "دي مسنيل Du Masnil" نائب مدير البعثات التبشيرية في روما في كتابه عن الكنيسة والحملات الصليبة: "اشتهر هولاكو بميله إلى النصارى النسطوريين، وكانت حاشيته تضم عددًا كبيرًا منهم، من بينهم قائدهم الأكبر "كتبغا" وهو تركي الجنس نصراني نسطوري، كما كانت الأميرة "دوكس خاتون" زوجة هولاكو نصرانية أيضًا.
ولقد لعب نفوذ هذه الأميرة على زوجها دورًا خطيرًا، تفخر به الكنيسة في تجنيب أوربا النصرانية أهوال الغزو التتري، وتوجيه غزوهم إلى العرب المسلمين في الشرق العربي، حيث ذبحت قوات التتار العرب المسلمين في مذابح بغداد، في الوقت الذي أبقت فيه على النصارى في تلك المدينة، فلم تمسهم في أرواحهم أو أموالهم بأذى، كما لعبت الأميرة دورًا في إغراء زوجها باحتلال سورية الإسلامية.
ويصف الأسقف حملة التتار فيقول: "لقد كانت الحملة التترية على الإسلام والعرب حملة صليبية بالمعنى الكامل لها، حملة نصرانية نسطورية، وقد هلل لها الغرب وارتقب الخلاص على يد "هولاكو" وقائده النصراني "كتبغا" الذي تعلق أمل الغرب في جيشهما، ليحقق له القضاء على المسلمين، وهو الهدف الذي أخفقت في تحقيقه الجيوش الصليبية، ولم يعد للغرب أمل في بلوغه إلا على أيدي التتار خصوم العرب والمسلمين.
وقد بادر "هاتون الأول" ملك إرمينية و"بوهومونت السادس" أمير طرابلس ، وأمراء الإفرنج "صور" و"عكا" و"قبرص" بادر هؤلاء جميعًا إلى عقد حلف مع التتار، يقوم على أساس القضاء على المسلمين كافة في آسيا، وتسليم هؤلاء الأمراء بيت المقدس.
ويقول "دي مسنيل" في كتابه عن تاريخ التبشير: "إن النصارى هم الذين حرضوا "هولاكو" على الرحيل عن سورية إلى بلاده، ومحاربة أخيه هناك، بسبب موالاته للإسلام".
وأخيرًا انتهى أمل الصليبيين بدخول التتار في الإسلام، وفي ذلك يقول الأسقف "دي مسنيل" واصفًا هذه الخاتمة: "وهكذا نرى الإسلام الذي كان قد أشرفت قوته على الزوال، يسترد مكانته، ويستعيد قوته، ويصبح أشد خطرًا من ذي قبل".
لقد كانت مهمة قطز صعبة جداً، لأنه كان عليه أن يواجه الخطر الداخلي المتمثل بالارتباك والفوضى في نظام الحكم والصراع على السلطة، وفي الوقت نفسه كان عليه أن يواجه الخطر الخارجي المتمثل بالغزو التتري الداهم المتحالف مع الصليبيين في الغرب والشرق معًا.
زحف التتار
قبل مغادرة "هولاكو" سورية أرسل رسولاً من رجاله وبرفقته أربعون رجلاً من الأتباع إلى قطز يحملون إليه رسالة منه جاء فيها:
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا القائد الأعظم: باسمك اللهم، باسط الأرض، ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفُّون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر. وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سَلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدّرة، والأحكام المدبرة، فكبيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى".
وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة هجرية "أوائل سنة 1260م".
فلما سمع قطز ما في هذا الكتاب جمع الأمراء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم، واعتقلوا، وأمر بإعدامهم فأعدموا توسيطًاأي:ضربوا بالسيف في وسطهم ليشطروا شطرين ، كل مجموعة منهم أمام باب من أبواب القاهرة، وعُلقت رؤوسهم على باب "زويلة". لقد عقد قطز العزم على حرب التتار، وكان قراره نهائيًا لا رجعة عنه؛ إذ هو المسوغ الوحيد لاستيلائه على السلطة، وتواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر، كما علم المصريون باستيلاء التتار على سورية وفلسطين، كما وصل إلى القاهرة كمال الدين عمر بن العديم أحد العلماء الأعلام رسولاً من الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب والشام يطلب من قطز النجدة على قتال التتار.
وجمع قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه من أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، وحضر أصحاب الرأي في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والقاضي بدر الدين السنجاري قاضي الديار المصرية، وأفاضوا الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام، وخلاصة ما قال: "إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائصأي:حزام الرجل وحزام الدابة المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا يجوز".
وانفض المجلس على ذلك، ولم يتكلم السلطان، وهو الملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك، لعدم معرفته بالأمور ولصغر سنه، فلهج الناس بخلع السلطان وتولية قطز حتى يقوم بهذا الأمر المهم. فقد علم قطز أنه لا بد من خروجه من مصر على رأس قواته العسكرية لقتال التتار، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، لأن الآراء مغلولة لصغر سن السلطان، ولأن الكلمة مختلفة، فجمع قطز الأمراء والعلماء من أصحاب الرأي، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثل هذا الوقت الصعب، ولا بد من أن يقوم بأمر الملك رجل شهم يطيعه كل أحد، وينتصب للجهاد في التتار، فأجابه الجميع: ليس لها غيرك.
لقد كان الجواب على رسالة هولاكو هو: القتال، ولا شيء غير القتال. وكان هذا القرار متفقًا عليه من الجميع قبل وصول وفد هولاكو، وقبل وصول رسالته إلى القاهرة.
ولم يكن إعدام الوفد إلا حافزًا جديدًا لقطز وقواته على القتال، دون أن يتركوا الباب مفتوحًا لحل آخر غير القتال.
وهذا موقف لقطز في مثل تلك الظروف التي كانت تحيط به، موقف يُحمد عليه، لأنه انتزع آخر أمل من نفوس المترددين والانهزاميين في احتمال رضوخ قطز إلى مطالب التتار، فقال قطز قولته الحاسمة: "إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق".
الحشد
خرج قطز يوم الإثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658 هـ 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة، يريد معسكر الصالحية، معسكر مصر الكبير في شرق الدلتا.
وقبل ذلك، وفي اليوم نفسه، أحضر قطز رسل "هولاكو" وأعدمهم، ليضع قواته المسلحة أمام الأمر الواقع: لا مفر من القتال.
ونودي في القاهرة والفُسطاط وسائر أقاليم مصر بالخروج إلى الجهاد، وتقدم قطز إلى جميع الولاة يحث الأجناد للخروج إلى القتال، وسار حتى وصل إلى الصالحية، وتكامل حشد قواته، فجمع الأمراء وكلمهم بالرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا عن الرحيل، فقال لهم: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
وتكلم الأمراء الذين اختارهم وحلّفهم مؤيدين له في المسير، فلم يسع البقية غير الموافقة. لقد جمع قطز قادته قبل المسير، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار في البلاد التي غزوها من شنيع السفك والتخريب، وما ينتظر مصر وأهلها من مصير مروع إذا انتصر التتار، وحثهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين من هذا الخطر الداهم، فضج القادة بالبكاء، ووعدوا ألا يدخروا وسعًا في سبيل مقاتلة التتار، وإنقاذ مصر والإسلام من شرهم.
ولكن لماذا خاف قادة قطز التتار؟
كان هولاكو في خلق لا يحصيهم إلا الله، ولم يكونوا من حين قدومهم على بلاد المسلمين سنة 616 هـ 1219م يلقاهم عسكر إلا فلّوه، وكانوا يقتلون الرجال ويسبون النساء ويستاقون الأسرى وينهبون الأموال، لذلك آثر قادة قطز بعد إكمال حشد قواتهم حماية مصر لا غير، لكثرة عدد التتار واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، لأن التتار لم يقصدوا إقليمًا إلا فتحوه، ولا عسكرًا إلا هزموه، ولم يبق خارج حكمهم إلا مصر والحجاز واليمن، وقد هرب جماعة من المغاربة الذين كانوا بمصر إلى المغرب، لقد كانت المعنويات منهارة، فلا عجب أن يبذل قطز كل جهده لرفع معنويات قادته ورجاله خاصة، والشعب المصري عامة، وأن يستحث القادرين على حمل السلاح للجهاد بأرواحهم، والقادرين على تقديم الأموال للجهاد بأموالهم، وأن يحشد كل طاقاته المادية والمعنوية للحرب، فلا يعلو صوت على صوت المعركة، ولا يُقبل عذر من أحد قادر على الجهاد بماله وروحه، وقد قدم قطز مثالاً شخصيًا رائعًا في الجهاد بماله وروحه في سبيل الله.
كما أن قطز صمّم على لقاء التتار خارج مصر، وألا ينتظرهم في مصر للدفاع عنها على الأرض المصرية، حتى يجنب مصر ويلات الحرب أولاً، ويرفع معنويات رجاله ومعنويات المصريين ثانيًا، ويوحي للتتار بأنه لا يخافهم فيؤثر ذلك على معنوياتهم ثالثًا، ولأن المدافع لا ينتصر مطلقًا إلا في نطاق ضيق محدود بعكس المهاجم الذي يؤدي انتصاره إلى كارثة تحيق بعدوه رابعًا، ولأن الهجوم أنجح وسائل الدفاع خامسًا وأخيرًا.
إن تصميم قطز على قبول المعركة خارج مصر، كان قرارًا عسكريًا فذًا.
المعركة
وخرج قطز من مصر في الجحافل الشامية والمصرية، في شهر رمضان من سنة 658 هـ 1260م وغادر معسكر الصالحية بجيشه، ووصل مدينه "غزة" والقلوب وجلة، وكان في "غزة" جمع التتار بقيادة "بيدر"، وكان بيدر هذا قد أخبر قائده "كتبغا نوين" الذي كان في سهل "البقاع" بالقرب من مدينة "بعلبك" بزحف جيش قطز، فرد عليه: "قف مكانك وانتظر". ولكن قطز داهم "بيدر" قبل وصول "كتبغا نوين" فاستعاد غزة من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم غادرها شمالاً باتجاه التتار.
وكان "كتبغا" مقدم التتار على جيش "هولاكو" لما بلغه خروج قطز، وكان في سهل البقاع قد عقد مجلسًا استشاريًا، واستشار ذوي الرأي في ذلك، فمنهم من أشار بعدم لقاء جيش قطز في معركة، والانتظار حتى يجيئه مدد من "هولاكو" ليقوى على مصاولة جيش المسلمين، ومعنى هذا مشاغلة جيش قطز بالقوات المتيسرة لديه ريثما ترده النجدات التي تضمن له النصر، ومنهم من أشار بغير ذلك قبل المعركة اعتمادًا على قوات التتار التي لا تقهر، وهكذا تفرقت الآراء، وكان رأي "كتبغا نوين" قبول المعركة ومواجهة جيش قطز، فتوجه من فوره جنوبًا باتجاه القوات المصرية.
وكان أول الوهن اختلاف الآراء وظهور رأي يحبذ الانسحاب، ورأي يحبذ عدم الانسحاب وقتال قطز.
وبعث قطز طلائع قواته بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري لمناوشة التتار واختبار قواتهم، واستحصال المعلومات المفصلة عن تنظيمهم وتسليحهم وقيادتهم، فالتقى بيبرس بطلائع التتار في مكان يقع بين "بيسان" و"نابلس" يدعي: "عين جالوت" في "الغور" غور الأردن، وشاغل التتار حتى وافاه قطز على رأس القوات الأصلية من جيشه، وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658هـ 6 سبتمبر1260م نشبت بين الجيشين المتقابلين معركة حاسمة، وكان التتار يحتلون مرتفعات "عين جالوت"، فانقضوا على جيش قطز تطبيقًا لحرب الصاعقة التي دأب التتار على ممارستها في حروبهم، تلك الحرب التي تعتمد سرعة الحركة بالفرسان، وكان القتال شديدًا لم يُر مثله، حتى قتل من الجانبين جماعة كثيرة.
وتغلغل التتار عميقًا، واخترقوا ميسرة قطز، فانكسرت تلك الميسرة كسرة شنيعة، ولكن قطز حمل بنفسه في طائفة من جنده، وأسرع لنجدة الميسرة، حتى استعادت مواقعها.
واستأنف قطز الهجوم المضاد بقوات "القلب" التي كانت بقيادته المباشرة، وكان يتقدم جنوده وهو يصيح: "واإسلاماه.. واإسلاماه.." واقتحم قطز القتال، وباشر بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم أعظم البلاء، وكانت قوات "القلب" مؤلفة من المتطوعين المجاهدين من الذين خرجوا يطلبون الشهادة، ويدافعون عن الإسلام بإيمان، فكان قطز يشجع أصحابه، ويحسّن لهم الموت، ويضرب لهم المثل بما يفعله من إقدام ويبديه من استبسال.
وكان قطز قد أخفى معظم قواته النظامية المؤلفة من المماليك في شعب التلال، لتكون كمائن، وبعد أن كر بالمجاهدين كرة بعد كرة حتى زعزع جناح التتار، برز المماليك من كمائنهم وأداموا زخم الهجوم بشدة وعنف.
وكان قطز أمام جيشه يصرخ: "واإسلاماه.. واإسلاماه.. يا الله انصر عبدك قطز على التتار"، وكان جيشه يتبعه مقتديًا بإقدامه وبسالته، فقتل فرس قطز من تحته، وكاد يعرض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه، فنزل له عن فرسه.
وسارع قطز إلى قيادة رجاله متغلغلاً في صفوف أعدائه، حتى ارتبكت صفوف التتار، وشاع أن قائدهم "كتبغا نوين" قد قُتل، فولوا الأدبار لا يلوون على شيء.
وكان "كتبغا نوين" يضرب يمينًا وشمالاً غيرة وحمية، وكان يكر على المسلمين، فرغَّبه جماعة من أتباعه في الهرب، ولكنه لم يستمع إليهم وقال: "لا مفر من الموت هنا، فالموت مع العزة والشرف خير من الهرب مع الذل والهوان".
ورغم أن جنوده تركوه وهربوا فقد ظل يقاتل حتى قُتل، وفي رواية أخرى أن جواده كبا به، فأسره المسلمون، والرواية الأولى أصح.
وكانت هناك مزرعة للقصب بالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها فوج من التتار، فأمر قطز جنوده أن يضرموا النار في تلك المزرعة، وأحرقوا فوج التتار جميعًا.
وبدأ المسلمون فورًا بمطاردة التتار، كما طاردهم المسلمون الذين لم يكونوا من جيش قطز، حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلها بالابتهاج.
وامتدت المطاردة السريعة إلى قرب مدينة حلب، فلما شعر التتار باقتراب المسلمين منهم تركوا ما كان بأيديهم من أسارى المسلمين، ورموا أولادهم، فتخطفهم الناس، وقاسوا من البلاء ما يستحقونه.
أسباب النصر
يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لمعرفة أسباب انتصار قطز على التتار.
إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكن الواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار.
فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثل تجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غير المجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له.
وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلى نصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنوده منهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا.
وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر في معنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصر على الجيش الذي تكون معنوياته منهارة.(1/148)
وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيش التتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرة إلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب.
والجيش الذي يتحلى بالكفاية خاصة في ميدان التدريب العملي ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه.
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيش التتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلاله أرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر.
وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا، مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سمات حرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلى بهذه الميزة.
وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلك المواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحت سيطرة التتار.
وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر
وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستند على قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها، بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها في إعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانت القضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديان والقفار.
هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية:
التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة، وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعة واحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروم والفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟
أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهم الدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص، وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًا طاهرًا من الذنوب.
وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكان مصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب.
ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختياره الهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادة وجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون في الحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء.
إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد.
ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه من المجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحراز النصر.
إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطز إلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًا على نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا.
لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء.
الشهيد
لم تمض أسابيع قلائل، حتى طُهرت بلاد الشام كلها من فلول التتار، فرتب قطز أمور البلاد، واستناب على دمشق أحد رجاله، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر، إلى أن وصل إلى "القصير"، وبقي بينه وبين الصالحية المعسكر الذي حشد فيه قواته قبل الحركة لقتال التتار مرحلة واحدة، ورحلت قواته إلى جهة الصالحية، فانقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته، ذلك يوم السبت 16 من ذي القعدة سنة 658 هـ أكتوبر 1260م، ولم يمض يومان على قتله حتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.
وقد دفن قطز في موضع قتله، وكثر أسف الناس وحزنهم عليه، وكان قبره يُقصد دائمًا للزيارة..
وكانت سلطنة قطز سنة إلا يومًا واحدًا.وكان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، كما قال فيه الذهبي، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوض الله شبابه بالجنة ورضي عنه.لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.
قُتل قاهر التتار مظلومًا، فخسر روحه وربح الدنيا والآخرة، وسجله التاريخ في أنصع صفحاته رضي الله عنه وأرضاه، وجعله قدوة صالحة لقادة العرب والمسلمين، فما أشبه غزو التتار بغزو الصهاينة، وما أشبه دعم الصليبيين القدامى للتتار بدعم الصليبيين الجدد للصهاينة، وما أحوجنا اليوم إلى مثله قائدًا يتخذ الهجوم مبدأ، ولا يكتفي بالدفاع، ويتخذ العمل منهجًا ولا يكتفي بالكلام، ويقاتل العدو الصهيوني في الأرض المحتلة، ولا ينتظر أن يقاتله في أرضه، ويطلب الموت لتوهب له الحياة
ــــــــــــــــــــ(1/149)
قطز ... الصائح: "وا إسلاماه"
كان سيف الدين قطز عبدًا لرجل يسمى "ابن العديم" بدمشق ثم بِيع من يدٍ إلى يد حتى انتهى إلى "عز الدين أيبك" من أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر. وتدرج في المناصب حتى صار قائدًا لجند أيبك، ثم قائدًا للجيوش عندما تولى "عز الدين أيبك" السلطنة مع شجرة الدر.
ثم صار وصيًا على ابنه "المنصور" بعد مقتله ومقتل زوجته شجرة الدر من بعده. وقد استشار كبار رجال الدولة والعلماء في أمور البلاد في حضور "المنصور"، وقد انصرف "المنصور" عن المجلس دون أن ينطق بكلمة، فأشاروا على "قطز" بعزله وتولي أمر البلاد؛ فاستجاب لهم وعزل "المنصور"، وقام باعتقال مجموعة من أمراء المماليك الموالين لعز الدين أيبك وابنه، ووضع على قيادة الجيوش ركن "الدين بيبرس".
ويروي شمس الدين الجزري في تاريخه عن "سيف الدين قطز": ".. لما كان في رِقِّ ابن العديم بدمشق، ضربه سيده وسبَّه بأبيه وجده، فبكى ولم يأكل شيئًا سائر يومه، فأمر سيده الفرّاش أن يترضاه ويطعمه، فروى الفرّاش أنه جاءه بالطعام وقال له: كل هذا البكاء من لطمة؟ فقال قطز: إنما بكائي من سَبِّه لأبي وجدي وهما خير منه؛ فقلت: من أبوك؟ واحد كافر؟!.. فقال: والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك، فسكت وترضيته" كما يروي أنه أخبر في صغره أحد أقرانه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بشَّره بأنه سيملك مصر ويكسر التتار، ومثل هذه الروايات وإن كان الشك يحوطها تعني أن الرجل كان يعتبر نفسه صاحب مهمة، وأن له دورًا في صناعة التاريخ، وتغيير الواقع الأسيف الذي يحيط به من كل جانب.
مُلك مصر
لقد وصل "سيف الدين قطز" للسلطة في مصر والأخبار تتوالى عن اقتحام التتار للشام، واستباحتهم للمدينة تلو الأخرى في طريقهم إلى مصر، وما لبثت رسلهم أن وقفت أمام "قطز" وهو في أيامه الأولى على عرشه تقرأ الرسالة التالية: "من ملك الملوك شرقًا وغربًا، القائد الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء، نُعلم أمير مصر "قطز"، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذه الأرض، بعد أن ابتاعوا إلى التجار بأبخس الأثمان أما بعد.. "فإنا نعبد الله في أرضه، خلقنا من سخطه، يسلطنا على من يشاء من خلقه، فسلموا إلينا الأمر؛ تسلموا، قبل أن ينكشف الغطاء؛ فتندموا، وقد سمعتم. أننا أخربنا البلاد، وقتلنا العباد، فكيف لكم الهرب،؟! ولنا خلفكم الطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، وأنتم معنا في الأقفاص، خيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، فقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فمن طلب حربنا ندم، ومن تأخر عنا سلم. .. فلا تهلكوا أنفكسم بأيديكم، فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم فجرة، والله يلقي الكفرة على الفجرة.."
وحذره في آخر الرسالة من أن يلقى مصير الخلافة العباسية المنكوبة في بغداد، فما كان من قطز إلا أن حبس الرسل حينًا، وأرسل يستشير الأمراء والعلماء. وفي ذات الوقت انتشر الهلع بين الناس، وشرع المغاربة في الرحيل تجاه الغرب، وآخرون رحلوا إلى الحجاز واليمن فأشار الجميع بضرورة الخروج لملاقاة التتار، وإلا خربت البلاد بسبب الهلع والخوف قبل أن يخربها التتار بدخولها.
وهنا وقف العلماء وعلى رأسهم الشيخ "العز بن عبد السلام" رحمه الله أمام الأمراء وقادة الجند، وهم في سبيلهم لجمع الأموال للإعداد للحرب، فقرروا ألا يؤخذ من الناس شيئًا إلا إذا كان بيت المال فراغًا، وأخرج الأمراء والتجار وأغنياء الناس من أموالهم وذهبهم وتساوى الجميع، فنزل قطز على حكم العلماء ممّا أحدث جفوة مع بعض الأمراء.
وتوجه قطز إلى رسل هولاكو فوسّطهم (أي قتلهم بأن ضربهم بالسيف ففصل أجسادهم من وسطها) وعلَّقهم على أبواب القاهرة؛ رغم أن الرسل لا يُقتلون، ولكنه أراد أن يشعر الناس بقوة وهيبة دولته. وجاء الخبر بوقوع أمير دمشق في قبضة هولاكو، وأن جموع التتار استباحت مدن الشام تعيث فيها فسادًا وتهتك الحرمات، وتنهب الثروات، فكان لا بد من سرعة التحرك لوقف الزحف المرتقب على مصر.
نادى "قطز" في البلاد للخروج لحرب التتار، فاستجاب له جند من مصر ومن الشام، واجتمع تحت يديه قرابة الأربعين ألفًا من الجند، فتقدم بهم إلى منطقة البقاع إلى أرض الشام. فوصل الخبر لأحد قادة التتار بالشام ويسمى "كتبغا نوين"، واستشار من حوله فاختلفوا فمنهم من رأى أن يتمهل حتى يصل إليه مدد من "هولاكو"، ومنهم من رأى أن يسرع بلقائه قبل أن يجتمع حول "قطز" الجند الفارون من الحرب السابقة؛ فتزيد خطورة الموقف. فاستجاب للرأي الأخير وذلك "ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً".
فتقدم "كتبغا نوين" من جيش قطز، فتلاقيا عند "عين جالوت" من أرض فلسطين، وقد كان ذلك في 25 رمضان 658هـ 6 سبتمبر 1260م.
عين جالوت
واشتعل القتال بين الطرفين، والمسلمون الأقل عددًا يحاولون أن يوقفوا هجمات التتار الشرسة، وضغط التتار على ميسرة جيش المسلمين فانكسرت، فما كان من "قطز" وقائد جيوشه "بيبرس" إلا أن التفا من الخلف مع فريق من المقاتلين ليمنعوا التفاف جيش المغول حول المسلمين، ونجحوا في نهاية اليوم في وقف هجمة المغول من هذا الجانب؛ ولكن بعد خسارة كبيرة. وبدأ اليوم الثاني: واستمر القتال فيه سجالاً بين الطرفين. وفي مطلع اليوم الثالث: خطب "قطز" في جيشه يرغبهم في الجنة. ويُحسن لهم الموت في سبيل الله، وما أن اشتعل القتال حتى انطلق جيش التتار في حملة شديدة كادوا أن يكسروا فيها جيش المسلمين، فما أن رأى قطز ذلك حتى نزل عن فرسه وضرب عنقه، وخلع عنه خوذته في وسط ميدان المعركة صائحًا "واإسلاماه" وثبت معه طائفة من الفرسان الأشداء، فما لبث أن عاد الفارون من الميدان إلى المعركة من جديد، ونزل أحد الفرسان عن فرسه ليركبه قطز، فرفض صائحًا: ما كنت أمنع نفعك عن المسلمين الآن (يقصد أن في هذا الموقف لكل فرد دور يجب أن يؤديه، وأن استمرار الفارس في ركوبه لفرسه أنفع من ركوبه هو وخروجه من هذا الموقف) فإذا بجند الإسلام ينقضون على جيش التتار، فتنكسر هجمة التتار وتتخلخل صفوفهم، فيشرع "كتبغا نوين" في قيادة جنوده بنفسه وينزل إلى ساحة المعركة، ولكن سيوف المسلمين تقتلع شره وتقضي عليه، فينهزم جيش التتار لأول مرة في المعركة، ولأول مرة منذ خروجهم لغزو أمة الإسلام. ويقود "بيبرس" مجموعة من الفرسان الأشداء ويتبعهم حتى يقضي على بقيتهم، وانطلق "قطز" بجيشه إلى "بيسان" من الشام حيث كان اللقاء الثاني مع التتار، وقد كانت سيوف المسلمين ذاقت دماء التتار في الوقعة الأولى وعرفت طريقها إلى رقابهم، فكان في هذا اللقاء مثل ما كان في اللقاء الأول، وانهزم جيش التتار، وتبعهم أيضًا "بيبرس" حتى دمشق، ففروا أمامه وتركوا ما كان في أيديهم من الأسرى المسلمين.
وزال خطرهم عن مصر والشام إلى حين (حيث تكررت محاولتهم مرة ثانية ولكن في عهد حكم بيبرس، وقد قضى عليهم تمامًا في هذه المرة) واستقر حكم "قطز" في كل من مصر والشام، وخضع أمراء البيت الأيوبي لسلطان قطز، ونظم شئون الشام، وقد كان وعد قائده "بيبرس" بحكم حلب؛ ولكنه أخلف وعده وأعطاها لآخر. وبدأ رحلة العودة، وأرسل البشير إلى القاهرة بانتصاره، وقد كان "قطز" كما قيل:
أحسنتَ ظنَك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخفْ غبَّ ما يأتي به القدرُ
وسالمتْك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
إذ تآمر عليه أمراء المماليك وعلى رأسهم قائد جنده ووضع على قيادة الجيش "ركن الدين بيبرس"!! فما أن خلى "قطز" لبعض شأنه حتى التفوا حوله فقتلوه!! وكان ذلك بالقرب من الصالحية في 16 من ذي القعدة عام 658هـ/ 1260م، وبالرغم أن فترة حكمه لم تتعدَ العام، إلا أنها ستبقى حاضرة في ذاكرة المسلمين عزة.. وكرامة.. ونصرًا..
عماد حسين
باحث في التاريخ
ــــــــــــــــــــ(1/150)
غزوة تبوك
لم يذكر التاريخ حربًا خاضها المسلمون في شهر رمضان الكريم ولم ينتصروا فيها، وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن تلك القوة الروحية التي يمتلكها الصائمون كانت أهم أسباب ذلك.
ومن تلك الحروب التي تذكرها كتب السيرة النبوية والتاريخ والتفسير والحديث "غزوة تبوك" التي اختلف في تحديد زمنها بين شهر رجب وشهر رمضان. وكما يذكر ابن هشام في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالتهيؤ لها في شهر رجب، لكنه عاد من هذه الغزوة في رمضان، وتدل الأحداث التي جرت للتجهيز للغزوة والمسير إلى تبوك التي تقع في الشمال الغربي للمدينة في منتصف الطريق بينها وبين دمشق أن المسلمين في الغالب لم يتحرّكوا من المدينة قبل حلول شعبان، ولم يعودوا إلا أثناء شهر رمضان، وعلى هذا فأغلب الظن أن أحداث هذه الغزوة بدأت في شهر شعبان، وانتهت قبل نهاية شهر رمضان المبارك، فالمعروف أن شهر رجب من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال.
بين يدي الغزوة
بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا بقي أمام المسلمين أكبر قوة عسكرية في ذلك الزمان، وهي قوة الرومان التي بدأت بالتعرض للمسلمين بقتل مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي الذي كان يحمل رسالة إلى عظيم "بصرى"، وكان أن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطدامًا عنيفًا في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين، إلا أنها تركت أروع الأثر في نفوس العرب، ونبهت قيصر عظيم الروم إلى خطر المسلمين الذي بدأ يتقدم ويخطو إلى حدوده، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، ولهذا بدأ قيصر يعد جيشًا من الرومان والعرب التابعة لهم من الغساسنة وغيرهم.. ليجهز بهم لمعركة فاصلة مع المسلمين.
وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وكان المسلمون في زمن عُسرة، والحرارة شديدة، والثمار طابت، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم.
القرار الحاسم
كان صلى الله عليه وسلم يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف، وتركهم ليجوسوا خلال الديار في المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه حتى يأتوا المدينة لكان له أسوأ الأثر على سمعة المسلمين، خاصة وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن هناك مجموعة من المنافقين يتربصون بالمسلمين، ويتصلون بملك الروم، وهم على أتم الاستعداد لطعن المسلمين من الخلف في الوقت الذي تهجم فيه الروم من الأمام.
ولهذا قرّر صلى الله عليه وسلم القيام بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان على حدودهم، فلا يمهلهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام، فأعلن التأهب والتجهز للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب، وإلى أهل مكة يستنفرهم، وكان ذلك في شهر رجب سنة تسع للهجرة، وكان من عادته إذا أراد غزوة يواري بغيرها، لكنه نظرًا لخطورة الموقف أعلن أن اللقاء سيكون مع الرومان في تبوك، حتى يستعد الناس استعدادًا كاملاً، وحض الناس على الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل تجهيز الجيش.
واستجاب الناس لدعوة الرسول الكريم، وبدأت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة، وكان أهل الفاقة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتجهزن به للقتال، فإذا قال لهم: (لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ).
وتسابق المسلمون في إنفاق الأموال لتجهيز الجيش، حتى بلغ ما أنفقه عثمان بن عفان رضي الله عنه وحده عشرة آلاف دينار وثلاثمائة بعير وخمسين فرسًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارض عن عثمان، فإني راضٍ عنه"، وجاء أبو بكر الصديقرضي الله عنه بكل ما لديه، وجاء عمر بن الخطابرضي الله عنه بنصف ماله، وهكذا كان الحال مع عبد الرحمن بن عوف، والعباس وطلحة وعاصم بن عديرضي الله عنهم، وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن.
المثبطون والمنافقون
قال ابن هشام في سيرته: وبينما رسول الله يدعو للتجهز للخروج إذ جاءه الجد بن قيس، وقال: يا رسول الله: أو تأذن لي ولا تفتنّي؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر "الرومان" ألا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك. فنزل قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ).
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد، وشكًا في الحق، وإرجافًا برسول الله فنزل قوله تعالى: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ* فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).
ووصل حجم جيش المسلمين ثلاثين ألفًا، وقبل أن يغادروا المدينة ولى رسول الله محمد بن مسلمة على المدينة، وعليّ بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، وعيّنَ أبا بكر الصديق قائدًا عامًا للجيوش، والزبير بن العوام قائدًا للمهاجرين، وأسيد بن خضير قائدًا للأوس، والحباب بن المنذر على الخزرج، وعلى حرس الجيش عباد بن بشر.
وتحرّك الجيش من المدينة حتى مر على "الحجر"، فنزل المسلمون بها، واستقوا من بئرها، فلما راحوا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحبه".. ففعلوا ذلك.
ثم مضى صلى الله عليه وسلم سائرًا بعد ذلك، فأخذ يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول:"دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه".
ويصل الجيش إلى تبوك، ويخطب صلى الله عليه سلم خطبة بليغة يحض فيها الناس على الجهاد، ويرفع معنوياتهم، أما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف جيش المسلمين أخذهم الرعب فتفرّقوا في البلاد، وبقي المسلمون في تبوك بضع عشرة يومًا جاءهم "يوحنا" صاحب "آيلة" ومعه أهل قرية "جرباء" وأهل "أذرح"، فصالحهم رسول الله على إعطاء الجزية، وكتب ليوحنا كتابًا جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا أمَنَةٌ من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل آيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنحوا ماء يردونه، ولا طريقًا يريدونه من برٍ أو بحرٍ". وبعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأتى به وصالحه رسول الله على الجزية، واستشار النبي أصحابه في مجاوزة تبوك لمقابلة جيش الرومان حيث يجدونه، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، إن كنت أُمِرتَ بالسير فسر، فرد عليه الصلاة والسلام: "لو كنت أمرت لم أستشر"، فأشاروا عليه بالعودة بعد أن اكتفوا بفزع الروم وهروبهم، ورجع الجيش مظفرًا للمدينة، وكفى الله المؤمنين القتال.
المخلفون
وبعد قدوم الرسول المدينة في شهر رمضان كان قد تخلّف عنه رهط من المنافقين، وتخلف ثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فقال رسول الله لأصحابه: لا تكلمُنَّ أحدًا من هؤلاء الثلاثة، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم، ولم يكلم الناسُ أولئك الثلاثة لمدة خمسين يومًا، حتى تاب الله عليهم، ونزل قوله تعالى: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ... ) إلى قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ).
قال كعب بن مالك: فوالله ما أنعم الله عليَّ نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم من صدقي رسول الله يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك من كذبوا، ومن قال عنهم الله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين)
ــــــــــــــــــــ(1/151)
فتح جزيرة رودس
رمضان 53هـ
يقول ابن كثير في البداية والنهاية: "في سنة ثلاث وخمسين افتتح المسلمون وعليهم جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس، فأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيء على الكفار، يعترضون لهم في البحر ويقطعون سبيلهم، وكان معاوية يدرّ عليهم الأرزاق والأعطيات الجزيلة، وكانوا على حذر شديد من الفرنج، يبيتون في حصن عظيم عنده، فيه حوائجهم ودوابهم وحواصلهم، ولهم نواطير على البحر ينذرونهم إن قدم عدو أو كادهم أحد، وما زالوا كذلك حتى كانت إمرة يزيد بن معاوية بعد أبيه، فحوّلهم من تلك الجزيرة، وقد كانت للمسلمين بها أموال كثيرة وزراعات غزيرة. (الجزء السابع البداية والنهاية).
وبشيء من التفصيل نقول: إن معاوية بن أبي سفيان اتجه إلى إسقاط العاصمة البيزنطية "القسطنطينية"، فأعد لذلك عدة هائلة لتحقيق هذا الأمل الخطير، وكانت هذه العدة تشمل ثلاثمائة مركب ثقيلة عليها أسلحة، وبخاصة المنجنيقات، وكل مركب منها تحمل ألف رجل، كما تشمل خمسمائة مركب خفيفة تحمل كل منها مائة جندي.
وحرص معاوية على أن يسيطر على جزر البحر المتوسط لتأمين أسطوله الزاحف للقسطنطينية، ولم يكن المسلمون قد احتلوا حتى عهد معاوية غير جزيرة قبرص، فاتجه معاوية لاحتلال جزر أخرى حتى يضمن الأمان لأسطوله من جانب، وحتى تكون هذه الجزر محطات تموين للأسطول من جانب آخر، وكانت "رودس" جزيرة شديدة الأهمية للمسلمين؛ إذ تقع قرب ساحل آسيا الصغرى، وكان الروم يغيرون منها على مراكب المسلمين ومدنهم الساحلية، ولهذا بدأ بها المسلمون، وفتحها الله عليهم في رمضان عام 53 هجرية.
وأسرع معاوية، فأنزل بها أسرًا إسلامية، ورتب لهم العطاء، وأصبحت جزيرة رودس قاعدة هامة للبحرية الإسلامية، فكانت مركز اطمئنان لقوات المسلمين، ومركز ذعر لقوات الأعداء، وقد ساعدت كثيرًا على فتح جزر أخرى بالبحر المتوسط، وبالتالي على حصار القسطنطينية.
هكذا كان فتح رودس والاستيلاء عليها خطوة مهمة لدعم القوات الإسلامية والنكاية بالقوات البيزنطية، التي كانت تعد البحر المتوسط بحيرة تابعة لها، وقد انتهى هذا الادعاء بالزحف الإسلامي في البر والبحر الذي شهد رمضان المعظم بعض مآثره
ــــــــــــــــــــ(1/152)
مذبحة الحرم الإبراهيمي 15 رمضان 1414هـ
* لم يجرؤ الإعلام الغربي على وصف " باروغ غولدشتاين السفاح الصهيوني " بالإرهابي لأنه إسرائيلي.
* كانت ثلاث مذابح في مذبحة واحدة، شارك فيها الجيش الإسرائيلي وجموع مستوطني " كريات أربع " في تحد سافر لكل ما يتردد عن السلام مع العرب لتؤكد قول الله ـ تعالى: ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ... )
مجاهد مليجي
في فجر يوم الجمعة 15 من رمضان المبارك 1414 هـ الموافق 25/2/1994 م كانت ثلاث مذابح في مذبحة واحدة، شارك فيها الجيش الإسرائيلي وجموع مستوطني " كريات أربع " في تحد سافر لكل ما يتردد عن السلام مع العرب؛ لتؤكد قول الله ـ تعالى ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ... ) وكان كلبها الخنزير " باروخ جولدشتاين "الدكتور اليهودي الأمريكي الأصل الذي يعمل ضابطًا في جيش العدو الصهيوني ،.. وذهب ضحيتها حوالي 90 شهيدًا وثلاثة أضعاف هذا العدد من الجرحى، كانوا داخل الحرم الإبراهيمي، وكانوا يؤدون صلاة الفجر، هذا النبأ الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية بشأن المجزرة يؤكد بأنها مذبحة جماعية وليست فردية، وقد وضعت هذه المجزرة القضية الفلسطينية مرة أخرى في بؤرة الأحداث، ورفعت من فعاليات الانتفاضة ..
ومدينة الخليل حيث وقعت المجزرة مدينة إسلامية عريقة بناها العرب منذ آلاف السنين، وتعود أغلب مبانيها الحالية إلى العصر الأموي الذي اهتم خلفاؤه بقبور الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وزوجاتهم، وكان الحرم الخليلي ملكًا خالصًا للمسلمين إلى أن وقع الاحتلال الصهيوني عقب حرب الأيام السبعة سنة 1967م ، وسمحت سلطات الاحتلال الإسرائيلي للمتطرفين اليهود بتدنيسه؛ بحجة إقامة الطقوس اليهودية فيه، وككل خطوات الإسرائيليين ابتدأت الطقوس بالأفراد لتنتهي بالاستيلاء على أكثر من ثلثي الحرم، وإحاطته بحراسة دائمة ومشددة بحجة حماية المستوطنين، ومنع وقوع احتكاك بينهم وبين المسلمين .
و هكذا اتخذت زيارة اليهود للحرم الإبراهيمي طابعًا استفزازيًّا تظاهريًّا حين قام الإرهابي الصهيوني الحاخام مائير كهانا زعيم " رابطة الدفاع اليهودية " المعروفة باسم " كاخ " باقتحام مدينة الخليل على رأس مجموعة من أتباعه وإقامة طقوس يهودية بشكل جماعي وعلني يوم 27 /8 / 1972م ، وفى 31 /10/1972م استدعى الحاكم العسكري الإسرائيلي مدير أوقاف الخليل ورئيس قيِّمي الحرم وأبلغهما قراره بسقف المسجد الداخلي المكشوف، وتخصيصه لليهود، وزيادة عدد الكراسي، ووضع خزائن لحفظ التوراة، ومنع المسلمين من الصلاة على موتاهم فيه، وتقليص عدد الساعات المسموح لهم بالصلاة فيها؛ مما أدى إلى رفض الهيئة الإسلامية العليا في القدس للقرار، واعتباره انتهاكًا لمقدسات المسلمين، بالإضافة إلى عدم قانونيته، ومن المعلوم أن مستوطني "كريات أربع" المجاورة للخليل وهم من العناصر الموتورة والمتطرفة لم تتوقف اعتداءاتهم على الحرم بشكل دائم ومستمر، بما في ذلك نهب محتوياته، وتمزيق المصاحف فيه، وإنزال الهلال عن قبته التاريخية، وسرقة ساعاته الأثرية، والاستيلاء على مخطوطات إسلامية لا تقدر بثمن، وفي كل مرة يتم فيها مواجهة أهل الخليل للمستوطنين دفاعًا عن الحرم؛ كانت مطالب المستوطنين للإشراف على الحرم تزداد إصرارًا، وإجراءاتهم تتصاعد في الاعتداء على السكان العرب، إلا أن واقعة المجزرة الأخيرة جاءت ضمن سلسلة تصاعدية من الاعتداءات المتكررة التي لم تجد من جانب السلطات الإسرائيلية إلا أذنًا صماء وعينًا عمياء.
من هذا الإرهابي؟
والإرهابي الذي نفذ المجزرة يهودي أمريكي الأصل، هاجر منذ 11 سنة واستقر في الخليل إيمانًا والتزامًا منه بشعارات الإرهابي كهانا، وعرف عنه تشدده وكراهيته لكل ما هو عربي مع معارضته للانسحاب من أي جزء من الأراضي المحتلة، ودعوته إلى ترحيل كل العرب عما بقي لهم من أراضٍ بمختلف الوسائل إلى خارج فلسطين كلها.
سجل أسود
وليست هذه المجزرة يتيمة في سجل اليهود الأسود في نيلهم من أهل فلسطين وما جاورها من البلدان، فالمجزرة ذكّرت اللبنانيين بمجزرة "صبرا وشاتيلا" التي ذهب ضحيتها مالا يقل عن خمسة آلاف ما بين رجل وامرأة وطفل، معظمهم ذُبِّح ذَبْح النعاج، يوم كانت بيروت تحت الاحتلال الإسرائيلي صيف عام 1982 م، كما أعادت المجزرة إلى الأذهان مذابح دير ياسين، وكفر قاسم، والهجوم المسلح على الحرم القدسي الشريف يوم 11/4/1982 والهجوم المسلح على الطلاب داخل حرم كلية الخليل الجامعية ومقتل مجموعة منهم يوم 26/7/1983 ، ومذبحة "ريشون ليتسون" في ضاحية تل أبيب عندما قتل مجند إسرائيلي ثمانية عمال عرب مسلمين أمام عين الشرطة الصهيونية في 20/5/ 1990، ومذبحة الحرم القدسي يوم 8/11/1990 وذهب ضحيتها 18 فلسطينيًا برصاص جنود الاحتلال في أعنف مواجهة شهدتها القدس، هذا بالإضافة إلى حريق المسجد الأقصى الشهير عام1969م .
ردود الأفعال العالمية
وجاءت ردود الأفعال العربية والإسلامية والدولية غاية في الضعف والخذلان لإدانة المذبحة مع تفاوت في لهجة الاستنكار وفي تحميل المسئولية، فقد حملت الدول العربية المسئولية كاملة للسلطات الصهيونية التي تسلح المستوطنين، وتعزز مواقعهم في مواجهة العرب العزّل، وتشجيعهم على عمليات الضرب والمصادرة والاعتداء على الممتلكات والأرواح.
كما إنه في هذه الليلة ذكر شهود العيان أن الحراسة كانت على الباب الرئيسي للحرم الإبراهيمي ساعة ارتكاب المذبحة، مما أتاح المجال للمسلح الإسرائيلي بالتسلل بكل يسر وبدون عوائق ولا رقابة، فالمستوطن الذي اتهم بالجنون طبيب يمارس عمله بتصريح من الكيان الصهيوني، ويحمل السلاح بترخيص منه أيضا، ويعيش حياته اليومية بحماية من الكيان الصهيوني، وينظم المسيرات والحملات الإعلامية، ويهاجم مناطق التجمعات العربية، ويتظاهر مطالبًا بطردهم والقضاء عليهم بمباركة من السلطات الصهيونية، وكل القرائن تشير بشكل لا يدع مجالا للشك إلى الأصابع الحقيقية التي تتبنى الإرهاب وتمارسه وتشجع عليه.
# عرض لأهم الاعتداءات التي تعرض لها الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل على أيدي اليهود:
# تشرين الثاني 1967 منع دائرة الأوقاف من فرش المسجد بالسجاد .
# 18/12/ 1967 إدخال خزانة حديدية إلى الحرم تحوي أدوات عبادة يهودية .
# 13/1/1967 مستوطنون يهود يقتحمون الحرم ويقومون بأداء طقوس دينية يهودية .
# 25/9/1968 سلطات الاحتلال تسمح لفئة يهودية بالصلاة في الحرم الإبراهيمي في تحد سافر لمشاعر المسلمين .
# 11/10/1968 سلطات الاحتلال تنسف درع الحرم الإبراهيمي ، والبوابة الرئيسة المؤدية إليه وهما أثران تاريخيان .
# تشرين الثاني 1968 م سلطات الاحتلال تهدم موقع البكر الأثري التابع للحرم .
# حزيران 1968 مستوطنون من اليهود يُدخلون كراسي خاصة بهم إلى الحضرة الإبراهيمية.
# 11/10/1971م مستوطنون من اليهود يُدخلون طاولة خشبية إلى الحضرة الإبراهيمية. 1971
# الحاكم العسكري الإسرائيلي في الخليل يدلي بتصريحات تُوحي بأن سلطاته تعتبر الحضرة الإبراهيمية ( وهي قلب الحرم الإبراهيمي ) جزءًا " كنيستا" يهوديا.
# 17/12/1972 الحاكم العسكري الإسرائيلي يصدر أوامره بإغلاق الباب الشرقي للحرم الشريف. 9
# /9/1972 منع المسلمين من أداء صلاة العصر بسبب أن طائفة من اليهود كانوا ينشدون الأناشيد الدينية بأصوات مرتفعة وينفخون في البوق .
# 1/10/1973 الحاكم العسكري في الخليل يسمح بإدخال 50 كرسيًّا خشبيًّا إلى الحضرة اليعقوبية في الحرم الشريف .
# 10/11/1973 سلطات الاحتلال تقوم بتغطية صحن الحرم الشريف في محاولة لتغيير معالمه الإسلامية .
# حزيران 1974 سلطات الاحتلال تقوم بسلسلة من الحفر في محيط الحرم الإبراهيمي من بينها أسفل أرضية " الإسطبلان " وأسفل الباب الثلاثي إلى الداخل وإلى الغرب قليلا من الباب الثلاثي، وأسفل المدرسة الحنفية .
# في مطلع 1975 سلطات الاحتلال تقوم بتحويل جزء كبير من الحرم الإبراهيمي إلى "كنيست" وتقوم بتقسيم الحرم الشريف .
# 14/7/1975 قام عدد من المستوطنين اليهود برفع العلم الإسرائيلي على أحد أركان الحرم. 27
# /7/1975 عشرون من المستوطنين من مستوطنة " كريات أربع " يقتحمون الحرم، ويسرقون مفتاح باب المئذنة، ويكسرون أنبوب المياه الموصل للحرم .
# 1/11/1975م مستوطنان مسلحان يدخلان قبيل صلاة العصر، ويمنعان القارئ من تلاوة القرآن في حضور الضابط العسكري .
# 2/11/1976 مستوطنون يعتدون على الحرم، ويدوسون المصاحف بأقدامهم، ويعتدون على المسلمين المصليين بالضرب.
# 18/11/1976 الحاخام المتطرف "مائير كهانا" يعلن أنه سيحول الحرم الإبراهيمي إلى قلعة للمتطرفين اليهود بهدف ترحيل المواطنين الفلسطينيين من مدينة الخليل.
# 8/3/1977 الهيئة الإسلامية تعلن عن مفقودات ذات قيمة اختفت بعد فترة من منع المسلمين دخول الحرم الشريف.
# 23/1/1976 ثلاثة مسلحين يهود يقتحمون الحرم برفقة سبعة مستوطنين ويعبثون بمحتويات المسجد. 16
# /3/1976 مستوطنون يمنعون المسلمين من أداء الصلاة في الحضرتين: اليعقوبية والإبراهيمية .
# 21/10/1976 جنود الاحتلال يحولون قسمًا من الحرم إلى ثكنة عسكرية ويضعون فيه سريرين وأمتعة للنوم .
# 24/11/1976 السلطات الإسرائيلية تمنع العمال الفلسطينيين من العمل في الحرم الإبراهيمي أيام السبت.
# 16/5/1977 عدد من المستوطنين يقتحمون الحرم برفقة الحاخام إيفجر ويقومون بالرقص داخل الحضرة الإبراهيمية.
# 4/7/1977 أحد المستوطنين يُشهر مسدسه تجاه عدد من المصلين أثناء صلاة الظهر.
# 8/7 / 1977 ضابط وجندي إسرائيليان يقومان بقذف مادة مسيلة للدموع على المصلين.
# 16/2/ 1977 سلطات الاحتلال تُدخل شمعدانا يهوديًا بتسعة قناديل للحرم.
# 27/2/1978 أحد المستوطنين يقتحم الحرم، ويعبث بمحتوياته أمام بصر الجنود.
# 24/4/1978 مستوطنان يدخلان نسخة جديدة من التوراة، ويقومان باحتفال كبير برعاية جنود الاحتلال.
# 5/6/1978 200 من المستوطنين يقتحمون الحرم، وهم يرفعون الأعلام الإسرائيلية.
# 1/7/1978 جنود الاحتلال يصبون مادة محرقة على باب الحرم، وإصابة المؤذن بجروح.
# 27/2/1979 : 20 مستوطنًا يقتحمون الحرم، وهم يرفعون الأعلام الإسرائيلية.
# 31 /5/1979 جنود الاحتلال يقتحمون الحضرة الإبراهيمية، ويضعون كراسي فيها ويمنعون المسلمين من الوصول إلى الحرم.
# 24/6/1984 المستوطنون يقومون بعمل ختان طفل في الحضرة الإبراهيمية.
# 11/9/ 1984 الجنود يقومون بتركيب عدسات تلفزيونية داخل الحرم لمراقبة المصلين.
25/9/1984 عدد من المستوطنين يعتدون على أحد حراس الحرم المسلمين
- - - - - - - - - - - - - - -
شعر وأدب ...
دعاء اليوم
... أهلاً رمضان
... في نور الصيام
... إني صائم
... زين الشهور
... هل الصيام
... رمضان شهر الرحمة
... شهر الحق والخير
... ليلة القدر
... بدر
... رمضان في الشعر العربي
أهلاً رمضان
محمد التهامي
تَهادَى في مرابِعِنا ضياء َ ... وأشرقَ في مواجعِنا دواءَ
وجاءَ وكلُّنا شوقٌ تناهَى ... إلى أمَلٍ على كفَّيْه جاءَ
وحلَّقَ بالصَّفاءِ .. وكم تَمَطَّتْ ... لَيَالِينا ولم تَلِدِ الصفاءَ
* * * * * *
له نفَسٌ يطهِّرُ كلَّ حيٍّ ... ويجْعَلُ طينةَ الدنيا سماءَ
يطوفُ على جوارحِنا دعاءً ... يُحيل عِنادَها الباغى رضاءَ
ويغْرِسُ في حنايا النفسِ عزْمًا ... منَ الإيمان يحكُمُ كيف شاءَ
فيَحْيا الصائمون من البرايا ... ملائكةً فقد صاروا سواءَ
يزيدُ كرامةَ الإنسانِ فيه ... ويغرِسُ في مشاعره الإباءَ
تُلِحُّ عليه حاجاتٌ ضَوارٍ ... فلا يَقْضِي لحاجته نداءَ
ويقتاتُ الإرادةَ وَهْىَ تَسْمُو ... ويَلْقى من كرامته اكتفاءَ
ويُسقَى من رِضاءِ اللهِ شَهْداً ... وكلُّ الكائناتِ غدتْ ظِماءَ
فلم يُصبحْ لِدُنْيا الناسُ عَبْداً ... وقدْ صَارتْ بعالَمِه هباءَ
* * * * * *
هو الإنسانُ .. بالإيمانِ يسمُو ويملأُ حولَه الدنيا بَهاءَ
تسيطرُ روحُه وتُرَدُّ عنه ... لدى إنسانِه طيناً وماءَ
هو الإنسان .. ما نبغيه حقاً يردُّ لنا .. لعالَمِنا .. النَّقاءَ
يرد جهامةَ الأحداثِ عنّا ... ويغرِسُ في غياهبِها السناءَ
ويَرْدَعُ ما تسُوقُ لنا الليالي ... ويَرْفَعُ عن نواظرِنا الغطاءَ
فنَسْمو في مرابِعِنا الغوالي ... ونُشْبِعُ حولَنا الدنيا عطاءَ
ويَدْفَعُ كفَّنا دفْعاً فنَبْنِي ... ونرْفَعُ فوقَ هامتِنا البناءَ
فكم حفِظَتْ لنا الأيامُ ذِكْرًا وكم ساقتْ لنا الدُّنْيا ثناءَ
ــــــــــــــــــــ(1/153)
في نور الصيام
محمد التهامي
الصوم للحيران طوق نجاةِ ... وطريقه الهادي إلى الجناتِ
وعليه معراج اليقين إلى الهدى ... يمتد فوق مهالك الشهوات
ويطهر الإنسان حتى إنه ... روح يكاد يضيء في الظلمات
* * * * * *
ويرى على نور الحقيقة عالماًٍ ... متألق الأعماق والجنباتَ
فيه الحياة تراجعت أدرانهاً ... وتطهرت من حمأة النزوات
وغدت كدار الخلد طيَّب ريحها ... نفَسُ الملائك طاف بالرحمات
إن ضاقت الدنيا وقل ضياؤها ... ومضت مسالكها إلى العثراتَ
وتنوعت فيها الكروب وعُبّئَت ... ترمي قلوب الناس بالحسرات
وتزيد في ليل العذاب شجونه ... تنساق أمواجاً من النكباتَ
وتهيل فوق النيّرات غبارها ... فترد نور الكون للظلمات
فإذا بخطو السائرين على اللظىً ... يمتد في درب من الجمرات
زكّى الصيام لها عزيمة صابر ... يمشي على رمضائها بثبات
* * * * * *
يسعى ويؤمن أن ربك قادر ... والنصر بالصبر الجميل مُوات
مهما طوانا الليل في أعماقه ... فالفجر منتظر على العتبات
ولنا بموصول الكفاح خلاصنا ... يأتي بما نبغيه من ثمراتَ
وصيامنا يحيي موات حياتنا ... ويدق نبض الروح في العزمات
ويضيء في كل الدروب علامة ... تهدي بها ما اعوجّ من خطواتَ
ويعيد في غبش الحياة بريقها ... لترى وتمعن صادق النظرات
فتهمّ تكتسح الطريق وتستوي ... تطوي الذي قد فات من وقفات
يا رب في ألق الصيام ونوره ... وطهارة الأنفاس في الصلواتَ
أدعوك من قلبٍ لفرط صفائه ... تتطهر الدعوات بالعَبرات
ــــــــــــــــــــ(1/154)
إني صائم..!
الأستاذ كامل محمد عجلان
هذا هو المضطرب الصاخب، وذاك هو التكالب المريح، والتطاحن الدائب، فأنزل إليه وساهم فيه، وألق دلوك في الدلاء، وخذ في العلائق، وتعلق بالأسباب: أسباب التشادق الذي خدع الناس؛ واصطنعه بعضهم، وعاش منه وعليه وله..
هكذا هجست وتلمظت النفس ... غير أني وقفت وهي تراودني وتطارحني الهمهمة، وكادت قناتي تلين حين أشارت إلى أناس يعدهم الناس من الأخيار، ويحسبهم الغبي من الأتقياء.
وكادت قناتي مرة أخرى تهن
... ثم عدت إلى النفس أتسمع حسيسها ولا أجيب، وتغلي أهواؤها ولا تفور، وجعلت أتصنع الوعي عنها والفهم ... وجعلت تؤزّني أزًا وتهزني هزًا، وأخيرًا قلت لها بعد أن قالت لي:
أيتها النفس: أجملي شغفًا، وهوني عليك. أيتها النفس: "إني صائم"
نعم ... إني صائم ...
أعرف هذا من حرماني ... تمسك عن الطعام والشراب؟
وضحكت من نفسي وأثخنتها باللوم، وأرهقتها من سخرياتي، ودميت جوانبها، كأنما أحارب عدوًا يشهر سلاحه في وجهي.
أيتها النفس: صومك عن الطعام والشراب بعض ما في الصوم من تكليف، أيتها النفس: لا حاجة لله في هذا اللون من الحرمان، أنْ جريت في ميدان خَبَّ فيه غيرك ووضع. أيتها النفس: لا تذكري الأهواء وأنت صائمة، ولا تجري وراء الخدع وأنت صائمة، ولا تخوضي في حديث اللاهين وأنت صائمة، ولا تمدي عينًا وأنت صائمة، ولا تجهري أو تخافتي بضغينة وأنت صائمة.. ولا ولا..
وهنا شدهت النفس قائلة: قدْكَ قدْكَ:
كنت أحسب الصوم ... ...
ولم أدعها تهجس بما عندها من باقٍ وما في قراراتها من قول ... بل رحت في نشوة المنتصر أغرقها في خضمّ من معاني الروح وصفاء القلب، وأسوق إليها طرائف وطُرَفًا من طيبٍ بالغ في العظة والتذكير، حتى إذا اطمأنت وأخذها صحو الاعتبار كسرت من شوكتها وألقت إليَّ السمع.
أيتها النفس: نهاري نهار الناس وليلي ليلهم، ولكنّ وراء الليل والنهار صومٌ تمرَّن عليه في شهر لتذكرَّه في كل شهر ولتعمل به آناء الليل وأطراف النهار.
ذاك هو الصبر على المكاره، والترفع والإبقاء على نعمة العقل وحسن الرضى وصحة الرأي، وتوثيق العقيدة، والتعلق بحب الله ورسوله، وإفساح الصدر، حتى يطرد منه ضيق الجاهلية، ودعوة الحمقى، وغرور المدعين، وصخب المبطلين.
أيتها النفس إني صائم ... وأنت ... ؟
إني صائمة ...
تصومين أيتها النفس؟
نعم أصوم النهار وأقوم الليل!
يا عجبًا ... !
ولم العجب ... !
أعرف النفس أمارة بالمطامع، همَّازة مشَّاءة إلى كل ما يردي ...
تعرفني ولكن؟
ولكن ماذا ... ؟
إنه الصوم، وإنها فطرة طيبة، إذا فُتِّحتْ أبوابُها غُلِّقتْ منافذُ الشيطان وقُطِّعتُ دابرُ الفتنة، واطمأنت الروحُ من غاشيات قاسية قاصمة.
وصامت النفس أبد الحياة، وحرّمت على صاحبها مسالكَ الطغيان والجور.
وفي زحمة الانتصار على النفس تنفستُ وتلفتُّ فإذا الحياة جميلة، وإذا طيوب الصوم تلفني، ولا أجدُ في حرمانه غير طِلاوة الهدوء، وسكينة الاطمئنان، وراحة الأمل، وبشرى السلامة من عقاب الله، وفي ظل اللياذ بعفوه ورجاء مثوبته، والطمع في رحمته التي وسعت كل شيء. ,لاق. أيتها النفس: "إني صائم".
أيها القلب: وأنت طول الدهر صائم، فإلى مائدة الروح. إليها. إليها ...
وأما حاجات النفس، فإلى أطواء الحرمان، حتى نلقى الله الذي يتولى السرائر، ويضع الموازين في ملتقى لا ينفع فيه إلا سلامة القلب، وصوم الدهر عن زيوفٍ زخرفتْها أناملُ الخدع، ورقَّشَتْها ريشةٌ لَوَّن في طلائها، فتانُ الأبالسة، ومُفتنُ الشياطين.
* * * * *
أيتها النفس .. هل تلاقينا ... ؟
أكبر الظن بل عين اليقين أني وإياك لمختلفان ...
أيتها النفس: هذا حداء الصائم في بيداء الحياة، ولعلك تذكرين غنوة الصحراوي الذي صحب ناقته إلى هدف يحبه، سمع حنين الناقة إلى ما خلفته، فراح يشكو وهي تشكو ... وراح يحنّ وهي تحنّ، وكل يغني على ليلاه..
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى وإني وإياها لمختلفان
أيتها النفس هنيئًا لي ولك صومُ شَهْرٍ ومِرانُ دْهَر.. هنيئًا مريئًا غير هاجسات مخامرة أيتها النفس: "إني صائم".
ــــــــــــــــــــ(1/155)
زين الشهور
محمد أمين الجندي
رمضان يا زين الشهور، وخيرَها ... وأميرَها في دولة الأزمان
أيامك الغُرُّ الوضاء قصيدة ... نظمت معاني الحُسن في الأكوان
ضُمِّنت أشرف ليلة ميمونة ... يهفو لسحر جلالها الثَّقلان
هي ليلة القدر السَّني بهاؤها ... بالروح، والأملاك، والرضوان
وعلى الرسول تنزَّلت آي الهدى ... فيه، ورفَّ الوحي بالفرقان
وليوم "بدر" فيك آيات بَدَت ... في نصرة الإسلام للأعيان
زحف البغاةُ المشركون بقضِّهم ... وقضيضهم في جحفل العُدوان
يبغون غزو محمدٍ في "يثرب" ... غضبًا لسيدهم "أبي سيفان"
والمسلمون وهم قليلٌ يومها ... نفروا نفار القَسْور الغضبان
يتسابقون إلى الشَّهادة في الوغى ... في لهفة الظَّمآن للغُدران
وكتائب الأملاك قاد لواءها ... "جبريل" قد هَبطَت إلى الميدان
فإذا بجيش المشركين مفزَّعًا ... ومصرَّعا، قد خَرَّ للأذقان
وفلوله نَكَصَت على أعقابها ... مذهولة كالهائم الحيران
وإذا "بمكة" كل بيت مأتم ... ومناحة مشبوبة الأحزان
الله أكبر قد أعزَّ محمدًا ... وأذلَّ أهل الشِّرك والطغيان
وتتابع النَّصر المبين وصَلْصَلت ... أجراسُه كالشَّدو في الآذان
واستسلمت للفتح "مكة" وانجلى ... عنها ظلام الشرك والأوثان
وأُبيدت الأصنام آلهةُ الأُلى ... ضلَّوا ضلال الصُّم والعميان
ثم انبرى العرب الكُماة "لرودس" ... فاستسلمت للقادة الفرسان
ولفتح "أندلس" على يد "طارق" ... نصرٌ، به نلنا أعز مكان
وعلى "التتار" وجنده مجدٌ لنا ... في "عين جالوت" عظيم الشان
لا بالجيوش يُنال نصرٌ حاسم ... لكنه بالصبر والإيمان
يا أيها الشهر الذي بلغ المدى ... في البر والحسنات والإحسان
أهلا بمقدمك الكريم، ومرحبًا ... بك يا طبيب الروح والأبدان
يا خير سوق للمكارم، والنَّدى ... والبذل للمحروم، والضِّيفان
فتقربوا لله فيه، بكل ما ... يرضاه من خير، ومن قربان
وامضوا على سنن الهداية، وارشفوا ... شهد الحديث، وسَلْسَل القرآن
وابنوا على الأخلاق جيلا صالحا ... قمنا بحمل رسالة الأوطان
وذروا المطامع في التملك، إنها ... سبب البلاء، ومبعث الخذلان
فبها غدونا أَعْبدًا لعبيدنا ... ورهائنا في قبضة الحَدَثان
فمتى تعودوا مثلما كنتم إلى ... عرش القضاء، وعزَّة السلطان؟
فلطالما سعد الأنام بعهدكم ... في ظلِّ عدلٍ وارفٍ وأمان
والله أسأل أن يوفَّق قومنا ... للصالحات قصيَّهم والدَّاني
ويعيد للإسلام سالفَ مجدِه ... في وحدةٍ مشدودة الأركان
وعلى الطَّريق المستقيم يسوسُنا ... عدلٌ، يبارك عدله العمران
ــــــــــــــــــــ(1/156)
هلَّ الصيام
محمد التهامي
هلَّ الصيامُ يسوق في خطواته نوراً يُصفِّي الليلَ من ظلماته
واشتد في الأيام منطلق الخطى ليريح دنيانا على نفحاته
فلعله يدري بأن نفوسنا ظمأى تبل الشوق في عتباته
فلكم طوانا الليل في أعماقه وأطال في أيامنا وقفاته
ولكم دعونا الفجر يرحم ليلنا فتضيء دنيانا على بسماته
فأبى وخلّفنا لدى أهوالنا في الليل نضرب في غيوب شتاته
حاد الطريق بنا وجانبه الهدى فمضى يجر الناس في عثراته
في كل ركن مسلم متعثر كل يحدث عن صدى مأساته
وكأن كل الأرض قد ضاقت به وتجمّعت لتسد درب حياته
من لم تمزقه الذئاب تَرَكْنَه يضوي وقد حرمته من أقواته
عرّتْه حتى لم يعد في كفِّه ما يستر المحظور من عوراته
واحتاج .. والدين الحنيف بقلبه كنز يفيض الخير من جنباته
لو أحسن الإيمانَ أرضى ربه وانساقت الدنيا إلى مرضاته
تعطيه نصر المهتدين وعزهم ويثيبه الرحمن في جناته
يا رب .. خلِّ الصوم يدرك جمعنا ويُقِيلُه في الأرض من كبواته
ويرد نبض الروح في إنساننا فيخلص الإنسان من غفواته
يصحو ويمتلك الحياة بعزمه ويصونه الإيمان في وثباته
يا رب .. من قلبي وكل مشاعري ولسان صدق غص من عبراته
أدعوك يا من عز فوق سمائه وأفاض رحمته على ملكوته
ــــــــــــــــــــ(1/157)
رمضان شهر الرحمة
الأستاذ/ رفعت عبد الوهاب المرصفي
رمضان نهر بالتراحم جارِ رمضان نجم بالهداية سارِ
رمضان عطر نرتوي بعبيره ونذوب شوقًا في سنى الأسحارِ
رمضان وجه لا مثيل لحسنه روح القصيد ونشوة الأوتارِ
يهفو علينا.. ننتشي بأريجه وترطب النسمات كل أُوارِ
والرحمة المهداة تطلق في الورى مدفوعة كالموج من تيارِ
كل الخلائق ترتوي من نبعه والكون يعبق من شذى التغفارِ
أسمى الأماني في أواخر عشرة حيث انعتاقٌ من سعير النارِ
والقدر ليلته تفج بنورها فتبارك الأيام بالأنوارِ
يا قدس إنك في العروق وفي النهى زيت يؤجج موعدًا للثارِ
إن كان باعُ الغدر فرَّق بيننا فالليل دومًا مخلف بنهارِ
وغدًا هلال الصوم يشرق في المدى والمسجد الأقصى طليق إسارِ
ويعود للإسلام مجد "صلاحه" ونقيم فيه تشكُّرًا للباري
وتسود روح الصف أكرم أمة والمسلمون لبعضهم كجدارِ
ــــــــــــــــــــ(1/158)
شهر الحق والخير
أ/ عبد العزيز أحمد رضوان
شذا الأنسام والعطرِ وأنفاس من الزهرِ
ورائحة من المسك سماء الكوكب الدرِّي
وأقباس تلألأ في بين الأنجم الزُّهرِ
ووجه ضاحك وضا ء يشرق باسم الثغرِ
ونور الرحمة العلويِّ صوت الحق والخيرِ
وصوت الحق في رمضان يأتي رائع النصرِ
وفتح الله للإسلام لنا من محكم الذكرِ
وأنغام مرتّلة تُتلى آية الشكرِ
وفي ساحات بيت الله الإيمان والطهرِ
وجبريل يقود ملائك والآيات والأمرِ
تنزل بيننا بالحق تحيط بنا ولا ندري
تحيينا وتغبطنا حتى مطلع الفجرِ
سلام دائم النفحات والإعنات والإصرِ
وعتق من لظى النيران لنا في ليلة القدرِ
تحية ربنا الهادي عصرًا طيّب الذكرِ
أعيدي ليلة القرآن قوام النهي والأمرِ
به القرآن دستور ويُبكي جلمد الصخرِ
يذيب الدمع في حزن للطاعات والبرِّ
يوجه أسرة الإسلام هدايات على طهرِ
ويجمعنا العفاف على معنى الحق والخيرِ
يقيم بدولة الإسلام في العسر وفي اليسرِ
يطيع الخالق الديَّان من وكر إلى وكرِ
يطارد عصبة التضليل ويقطع دابر الكفرِ
يقيم العدل ميزانً ... وفيض النور والبشر
ــــــــــــــــــــ(1/159)
ليلة القدر
أ/عبد الرحمن البجاوي
يا ليلة القدر طوفي ملء دنيانا وكبري في رحاب الكون إعلانا
وهللي فرحة بالنور منطلقاً وحيًا يضيء هذى النفس إيمانا
وأذني في ليالي العشر مشرقة فطالما اشتاقت الأرواح ريحانا
في موسم الخير يهمي في جوانحنا فيضاً ترقرق حتى فاض هتانا
وعانقي مهجة ظمأى لمعرفة لمّا تزل في ضمير الغيب كتمانا
تسامقت في معاني النور موقنة أن الحروف تزيد العقل تبيانا
ولم تزل تتحدى العلم مؤتلقا إذ رام بين فضاء الله ( كيوانا )
سبحان من جعل الآيات معجزة لأحمد الخير إذ واتته قرآنا
ونودي : اقرأ ، فلبت كل خافقة وجاء ( جبريل ) بالآيات برهانا
في ليلة قدر الخلاق طلعتها فضَوّأ الأفق للساعين شكرانا
واستيقظ الكون لمّا طاف طائفها وظل يرجو من الرحمن غفرانا
فكم تمزق أبنائى ، وما برحوا يكيد بعضهمو للبعض ألوانا
وذُبّح الحرم الأقصى ، وكم هُتكت أعراضنا ، واستبدّ الليل طوفانا
إنَّا إلى الله ندعو أن يؤلفنا ويجمع الشمل بين الروض أفنانا
في ليلة القدر حيث العرش تحمله ملائك الله تسبيحاً وعرفانا
ونسأل العون في عصرٍ تحرّكه أطماع باغين ما لانوا لشكوانا
ولن نملّ دعاء الله ناصرنا في ليلة القدر حيث النور وافان
ــــــــــــــــــــ(1/160)
بدر
أ/ محمد بدر الدين
أنفاس الهادي في بدر مازالت تعبق في صدري
وتجدد ذكرى أمجاد ومآثر أصحاب غرّ
يوم الفرقان بأرض العز سنذكره أبد الدهر
وثرى بدر بمفاخره أغلى من لأْلاء الدر
ومواطئ أحمد في الوادي أسمى من أنجمنا الزهر
فهنا جبريل سعى يرمي أعداء الملة بالقهر
وملائكة التثبيت أتت وتجلى ربي بالنصر
يسعى حيزوم بفارسه والرعب يزلزل في الكفر
ورسول الله يصكهمو بحصى يرميهم بالذعر
يا عدوتنا الدنيا تيهي فعلاك أجلُّ من الفخر
فعليك تنزلت الأسرار وغوث الغوث بها يسري
وعريش العزة فوق التلة فيه الداعي للخير
يدعو والله يبادره فيطيل السجدة للشكر
أمجاد لا تنسى أبدًا ومكان أضوأ من بدر
ورجال فيها شيمتهم لا يحصيها طول الشعر
فسماحتهم وودادتهم وقراهم أكبر من شكري
ورجالهمو ونساؤهم صنوان بساحات البرّ
يا حيّا الله مكارمهم وأدمهم طول الدهر
ــــــــــــــــــــ(1/161)
رمضان في الشعر العربي
عبير صلاح الدين
لم يترك الأدب العربي شيئًا إلا تناوله، وكان لشهر رمضان حظ من الشعر ما بين ترحيب بمقدمه وتوديع له، ورصد لأحداثه ومظاهر الاحتفاء به واستقبال العيد.
فتذكر كتب التاريخ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع المصلين لأول مرة في صلاة التراويح خلف إمام واحد في السنة الثانية من خلافته الراشدة، فقال أحد الشعراء:
جاء الصيام فجاء الخير أجمعه ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح
فالنفس تدأب في قول وفي عمل صوم النهار وبالليل التراويح
ومن أحسن ما قيل في التهنئة بقدوم شهر رمضان:
نلت في ذات الصيام ما ترتجيه ووقاك الله له ما تتقيه
أنت في الناس مثل شهرك في الأشـ هر أو مثل ليلة البدر فيه
ولهبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك في التهنئة بقدوم شهر رمضان من قصيدة طويلة:
تَهَنَّ بهذا الصوم يا خير صائر إلى كل ما يهوى ويا خير صائم
ومن صام عن كل الفواحش عمره فأهون شيءٍ هجره للمطاعم
ويقول عمارة اليمني:
وهنئت من شهر الصيام بزائر مناه لو أن الشهر عندك أشهر
وما العيد إلا أنت فانظر هلاله فما هو إلا في عدوك خنجر
وللأمير تميم بن المعز لدين الله يهنئ الخليفة العزيز بالله بقدوم شهر رمضان:
ليهنئك أن الصوم فرض مؤكد من الله مفروض على كل مسلم
وأنك مفروض المحبة مثله علينا بحق قلت لا بالتوهم
وقال أيضًا تميم يمدح الخليفة العزيز:
شهر الصيام أجل شهر مقبل وبه يمحص كل ذنب مثقل
وكذاك أنت أبر من وطئ الحصى وأجل أبناء النبي المرسل
وتحدث الكثير من الشعراء العرب على مر العصور الإسلامية عن فضائل الشهر الكريم فقال أحدهم:
أدِم الصيام مع القيام تعبدا فكلاهما عملان مقبولان
قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتي المنية بغتة فتساق من فرس إلى أكفان
يا حبذا عينان في غسق الدجى من خشية الرحمن باكيتان ...
وللصاحب بن عباد:
قد تعدَّوا على الصيام وقالوا حرم العبد فيه حسن العوائد
كذبوا في الصيام للمرء مهما كان مستيقظًا أتم الفوائد
موقف بالنهار غير مريب واجتماع بالليل عند المساجد
وأنشد القاضي أبو الحسن ابن النبيه:
حبذا في الصيام مئذنة الجامع والليل مسبل إزباله
خلتها والفانوس إذا رفعته ْصائدًا واقفًا لصيد الغزالةْ
ويبدو أن فانوس رمضان والحلوى الخاصة التي تصنع فيه للصائمين كانت موضوعًا للكثير من قصائد شعرائنا.. فيقول علي بن ظافر الأديب المصري المتوفى 613هـ: اقترح بعض الحاضرين في مجلس الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي أن ينشدهم شيئًا عن الفانوس بقصد تعجيزه فقال
ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه ولكنه دون الكواكب لا يسري
ولم أر نجمًا قط قبل طلوعه إذا غاب ينهى الصائمين عن الفطر
أما حلوى رمضان الخاصة مثل القطائف والكنافة فيقول فيها الشاعر المصري الفاطمي ابن نباتة:
رعا الله نعماك التي من أقلها قطائف من قطر النبات لها قطر
أمد له كفي فأهتز فرحة كما انتفض العصفور بلله القطر
ولبرهان الدين القيراطي قصيدة كتبها إلى القاضي نور الدين بن حجر والد القاضي شهاب الدين يقول فيها:
مولاي نور الدين ضيفك لم يزل يروي مكارمك الصحيحة عن عطا
صدقت قطائفك الكبار حلاوة بغمر وليس بمنكر صدق القطا
ونجد وثائق تاريخية شعرية عن رمضان وأحداثه التي منها مقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على يد عبد الرحمن بن ملجم ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من رمضان سنة أربعين للهجرة، والتي يذكرها الطبري فيما قاله أبو الأسود الدؤلي
أفي شهر الصيام فجعتمونا بخير الناس طرًا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا وحنّسها ومن ركب السفينا
والمعروف أن شهر رمضان يدور على فصول السنة كلها مرة كل 33 عامًا، فيأتي في الصيف والشتاء والخريف والربيع، وبالطبع يكون أشد ما يكون في الصيف حين ترتفع درجة الحرارة، ويزيد شعور الصائمين بالظمأ كما يصف ذلك ابن الرومي مبالغًا:
شهر الصيام مبارك ما لم يكن في شهر آب
خِفت العذاب فصمته فوقعت في نفس العذاب
ويكمل المعنى نفسه شاعر آخر قائلاً:
اليوم فيه كأنه من طوله يوم الحساب
والليل فيه كأنه ليل التواصل والعتاب
أما وداع رمضان فنجده في هذه القصيدة التي يصف فيها الشاعر كيف سيكون مآل الناس، وهل ستقبل أعمالهم عند رب العزة العظيم؟:
أي شهر قد تولى يا عباد الله عنا
حق أن نبكي عليه بدماء لو عقلنا
كيف لا نبكي لشهر قد قُبلنا أم حُرمنا
ثم لا نعلم أنّا المحروم والمطرود منا
ليت شعري من هو مرَّ بالغفلة عنا
ويودع الشاعر الأبيوردي رمضان قائلاً:
صوم أغار عليه فطر كالنجم بر سناه جمر
بِنْ يا صيام فلم تزل فرعًا له الإفطار بحر
وله الشهور وإنما لك من جميع الحول شهر
ما كنت أول راحل ودعت بالزفرات جمر
كالظعن ليلة فاح في خيب التفرق منه عطر
ثم يأتي عيد الفطر وتبدأ التهاني بقدومه كما في قول شاعر الدولة الفاطمية تميم بن المعز:
أهنيك بالعيد الذي أنت عيده ... ونور سنا إقباله حين يسطع
أما شاعر الدولة العباسية ابن المعز فيقول مهنئًا الخليفة:
لئن أتى العيد من لقياك في فرح لقد مضى الصوم من منآك في ثكل
برزت فيه بروز الشمس طالعة وقد أعاد الضحاء النفع كالطفل
ولمحمد بن الرومي:
ولما انقضى شهر الصيام بفضله تحلى هلال العيد من جانب الغرب
كحاجب شيخ شاب من طول عمره يشير لنا بالرمز للأكل والشرب
ولابن قلاقس:
وهلال شوال يقول مصدقًا ... بيدي غصبت النون من رمضان
ولابن المعتز:
أهلاً بفطر قد أتاك هلاله فالآن فاغد إلى السرور وبكِّر
فكأنما هو زورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر
ويهنئ الشاعر العباسي البحتري الخليفة المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد لصيام شهر رمضان ولحلول عيد الفطر:
بالبر صُمتَ وأنت أفضل صائم وبسنة الله الرضية تُفطر
فانعم بعيد الفطر عيدًا إنه يوم أغر من الزمان مُشهرُ
وفي التهنئة بالعيد ما كتبه ابن سكرة الهاشمي مهنئًا أبا الحسن محمد بن عمر:
أتاك العيد مقتبلاً جديدًا وجدّك فيه مقتبل جديد
تهني الناس بالأعياد فينا وأنت لنا برغم العيد عيد
- - - - - - - - - - - - - - - -
أطفال رمضان ...
... الفرحة وهلال رمضان
... مدفع الإفطار وفانوس رمضان
... لماذا نصوم
... أول سنة صوم
... قرآني في رمضان
... بداية جديدة مع معدتي
... صيام الأنبياء
... الفتح الأكبر
... بلاط الشهداء
... شهر الخيرات
... عين جالوت
... يوم عمورية
... منيب في رمضان
... التراويح
... حوت يونس عليه السلام
... أصحاب الغار
... اصح يا نائم
... الاعتكاف
... العابد والشجرة
... ليلة القدر
... معركة المنصورة
... فتح بلاد البلقان
... زكاة الفطر
... أول قيام ليل..
... كيف نشكر الله
... بر الوالدين..
الفرحة وهلال رمضان
شعبان مصطفى قزامل
كلّ عام وأنتم بخير، رمضان كريم ... تحية طيبة ودعاء جميل، أسمع أبي يردده كلما قابل صديقاً أو رجلاً يعرفه، وأسمع أمي، وهى تتبادل التهنئة مع جيراننا من السيدات.
فما أجمل هذا الشهر، شهر رمضان المبارك، الذي يستقبله المسلمون بالفرحة والسرور.
قبل أيام، تعاونت مع أصدقائي، فملأنا الشارع الذي نسكن فيه بالزينات الجميلة وبالفوانيس الملونة الرائعة.
هذا الشهر أُحبّه من أعماق قلبي، لأنه شهر الجود والمساعدة لكل محتاج وإطعام لكل مسكين، وفيه تملأ الشوارع موائد الرحمن، ويتراحم المسلمون، ويتعاونون فيصومون معًا، ويمسكون عن الطعام في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، في صورة جميلة للمجتمع المسلم.
والصوم لا يكون بالامتناع عن الطعام والشراب فقط بل أيضًا بالامتناع عن فعل الشر وعن ارتكاب الذنوب والسيئات، والإكثار من فعل الخير، وشهر رمضان هو الشهر التاسع من السنة الهجرية، وسمي بذلك؛ لأنه يرمض الذنوب (أي يحرقها) بالأعمال الصالحة، وقد فرض الله عز وجل صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وهو شهر مبارك نزل فيه القرآن الكريم، وتُفتَّح فيه أبواب الجنة، وتغلَّق فيه أبواب النار، وتقيد فيه الشياطين، وينادى منادٍ كل ليلة : يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر .. وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
ولعظمة هذا الشهر الكريم، يستقبله الأطفال بالبهجة، وهذا الاستقبال قديم ، ففي مصر كانت رؤية هلال رمضان يصاحبها موكب جميل، وفى هذا الموكب السنوي كان أصحاب الحرف والصناعات يعدون عربات لكل حرفة .. وكان الكنفاني يظهر في أول الموكب ومعه فرن الكنافة الحقيقي محمولاً على عربة "كارو" كبيرة يجرها حصان، ويقوم بصنع الكنافة، ثم يأتي صناع الحرير وأمامهم الأنوال والمناسج، والنجارون ومعهم الخشب وأدوات النجارة، والقباقيبي يعرض القباقيب (أحذية خشبية) ويصنعها، والقصاب (الجزار)، والفطاطري والسماك والشرباتلي (صانع الشربات والعصائر)، والقهوجي وغيرهم .
وكان الموكب يخرج بعرباته من ميدان باب الخلق أمام محافظة القاهرة في زفة كبيرة وأمامه الموسيقات وخيالة البوليس التي تحوطه حتى يصل إلى ميدان القلعة ساعة الغروب، ثم تعلن رؤية الهلال، وتطلق المدافع من القلعة، وتزغرد النساء، ثم تسهر المدينة حتى السحور، وتصبح القاهرة شعلة من ضياء ونور، وتفتح الدكاكين وتعم الفرحة.
ولو عدنا إلى الوراء مئات السنين نجد أنه في سنة 155 هجرية خرج والي مصر عبدالرحمن بن عبدالله بن لهيعة ومعه الناس في موكب حافل بالزينات، وصعدوا إلى سطح جبل المقطم بالفسطاط القديمة في مكان كان يعرف بجامع محمود، وكان بجانبه مقعد على مكان مرتفع ويمكن منه مشاهدة هلال رمضان.
وبلغ موكب الرؤية أَوْجَهُ من الأبهة والجلال في عهد الفاطميين، حيث إن الخلفاء حرصوا على أداء شعائر الدين في العالم الإسلامي، وتتفق مع ما وصلت إليه دولتهم من ثراء وسلطان، فكان الخليفة الفاطمي يشترك بنفسه في الموكب ومعه كبار رجال الدولة وأرباب الحرف في البلاد تتقدمهم وحدات رمزية من الجيش، بينما يقوم الناس بتزيين الطريق الذي يسلكه الموكب بأشياء من تجارتهم، وسائر ألوان نشاطهم الاقتصادي التماساً لطلب البركة من هذه المناسبة الكريمة.
وقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول حين نرى الهلال: "اللهم أهلَّه علينا باليُمن والإيمان ، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله "[ الترمذي والدارمي ].
ويثبت شهر رمضان برؤية الهلال، أو إكمال شهر شعبان ثلاثين يوماً قال النبي صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عده شعبان ثلاثين يوماً" [البخاري ومسلم]
مدفع الإفطار وفانوس رمضان
شعبان مصطفى قزامل
ما أجمل سماع صوت "مدفع الإفطار"، بعدها أكون جالسًا أمام المائدة مع أسرتي لتناول وجبة الإفطار، بعد يوم كامل من الصوم.
وقصة مدفع الإفطار قصة جميلة .. فكما تقول رواية من رواياته ، حدث أن الناس اختلط عليهم وقت الإفطار ووقت السحور، وتساءلوا: كيف يعرفون وقت كل منهما؛ خاصة أنهم أحيانًا لا يسمعون الأذان، وأحيانًا يكون الجو مظلمًا في فصل الشتاء فلا يعرفون متى تغرب الشمس.
واقترح أحد الفلاحين على شيخ من شيوخ الأزهر قائلاً: مدافع محمد علي باشا حاكم مصر في ذلك الوقت بالقلعة تقلقني في الظهيرة.. لماذا لا تقلقنا ليلاً في إفطارنا وإمساكنا؟ سكت شيخ الأزهر قليلاً ثم قال: حقًا والله إنها فكرة يا أخي. وفى التوِّ ذهب شيخ الأزهر إلى محمد علي باشا، وقال له: يا والي البلاد، إن القاهرة قد اتسعت كثيرًا، ومن الناس من لا يسمع الأذان .. وقد اقترح عليّ فلاح مصري الآتي..... وحكى له.
فأمر محمد علي باشا بتنفيذ الفكرة، وسحب الجنود مدفعًا كبيرًا، ووضعوه فوق قلعة صلاح الدين.
وقبل رمضان بيوم جاء أربعة جنود إلى المدفع، واحد منهم "معمارجي"، ومهمته أن يضع الطلقة في مكانها داخل ماسورة المدفع فيعمِّرها، والثاني "رامٍ"، ومهمته أن يقوم بتشغيل الترباس الذي يحكم إخراج الطلقة، والثالث "طومار"، وهو الذي يقوم بتبريد الماسورة بعد إخراج المقذوف، والرابع مهمته إحضار الطلقة للمعمارجي.
ويقيم هذا الطاقم بجوار مدفع الإفطار طوال شهر رمضان، وعند ثبوت الرؤيا رؤيا الهلال يطلق الطاقم إحدى وعشرين طلقة ابتهاجًا واحتفالاً بقدوم شهر رمضان الكريم.
وفي أيام رمضان يطلق الطاقم طلقة ساعة الإفطار، وطلقة وقت الإمساك عند السحور. وبعد طلقة الإفطار يخرج الأطفال إلى الشوارع وهم يغنون وينشدون الأهازيج الرمضانية، والفوانيس الملونة على كل لون وشكل تتأرجح بين أيديهم، فمنهم من يمسك فانوسًا مربعًا، ومنهم من يحمل فانوسًا مثمنًا أي ثماني الأضلاع، ومنهم من يحمل فانوسًا مكورًا. ويطوفون بالشوارع في مهرجان جميل يكرر كل ليلة من ليالي رمضان مصحوبًا بكلمات جميلة يقولون فيها: وحوي يا وحوي.. إلياحه، وكمان وحوي.. إلياحه.
ويردّدون أغنية: حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو، ويتبادلون المكسرات والقطايف والكنافة، ومنهم من يذهب لأداء الصلوات، صلوات التراويح التي تستمر حتى ساعة متأخرة من الليل، ومنهم من يجتمع حول الجدة العجوز وهي تحكي لهم عن الحكايات الجميلة التي شهدها شهر رمضان، وحكايات الشاطر حسن وست الحُسن والجمال، وحكايات الصياد الفقير، وألف ليلة وليلة، وسندباد، وغيرها من الحكايات الجميلة المسلية التي يحبها الصغار وينجذبون إليها.
وكانت بداية الفانوس في عهد الدولة الفاطمية، فالأنوار التي كان يحملها أهل مصر في أيديهم للزينة والاستدلال بها لاستطلاع الهلال كانت هي الشكل الأول للفانوس الذي نعرفه اليوم، ثم جاء الخليفة الفاطمي ليأمر بأن يُعلَّق فانوس كبير على رأس كل حارة من الحارات المصرية، فإذا تبيّنوا هلال رمضان وتيقنوا بقدوم الشهر الكريم عمت الفرحة الجميع، ونزلوا إلى شوارع القاهرة يهللون ويكبرون ويتصايحون بالفرحة الغامرة، ويقوم الأغنياء بتوزيع الهدايا والصدقات، ويقوم الناس بتهنئة بعضهم بعضًا، ويستعدون لأول سحور في الشهر
ــــــــــــــــــــ(1/162)
لماذا نصوم ؟!
شعبان مصطفى قزامل
أصدقائي الصغار .. لا أخفي عليكم سراً، لقد تحيَّرت كثيراً وأنا أسأل نفسي: لماذا يصوم الناس؟ وما الحكمة في أن نجوع ونعطش ونصبر عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طوال شهر كامل كل عام، وهو شهر رمضان؟
لكن سرعان ما أدركت الإجابة، فقد هداني الله إليها بعد أن ذقت حلاوة الصوم، وعرفت أهميته للناس .. وسجدت لله شاكراً؛ لأنه فرض علينا هذا الفرض العظيم؛ لكي نحس بآلام الفقير الجائع الذي لا يجد قوت يومه، فإذا صُمنا أدركنا مدى ما يعانيه هو وأولاده، فترق قلوبنا، ونعطف عليه ببعض المال؛ ليحفظ له الحياة.
وليست هذه هي حكمة الصيام فقط بل اتضح لي أن هناك حكمًا كثيرة، أريد منكم أن تعرفوها، وهي :
* أننا نصوم كي نتقي كثيرًا من الأمراض التي تضر الإنسان، مثل التخمة والسكر، وتصلب الشرايين، وضغط الدم، والتهاب الكلى واضطراب الأمعاء المزمن، فالمعدة هي بيت الأمراض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه" [الترمذي].
* نصوم لأن الصوم يمنعنا من المعاصي والسيئات، فالصائم يبتعد عن ارتكاب الآثام والرذائل، فإذا شتمه أحد قال له: إني صائم .. إني صائم. وبذلك يتقي الشر والصدام.
* ونصوم لأن الصوم يكفر ذنوبنا ويقربنا من الله سبحانه وتعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه" [النسائي وأحمد].
* ونصوم لأن الصوم يعلمنا الصبر، والصبر من الإيمان، والإيمان يدخلنا الله به الجنة، فيدخل الصائم من باب يسمى "الريان".
* ونصوم لأن صوم شهر رمضان يدربنا على التحمل ، ويغرس فينا العزيمة وقوة الإرادة، فنستطيع أن نعيش إذا قل الطعام أو تعرضنا لمشاكل الفقر والحرمان والبعد عن الوطن والأهل.
* ونصوم ليجتمع المسلمون في أنحاء العالم، فيصومون ويمتنعون عن الطعام والشراب في وقت واحد، ويفطرون ويُعيِّدون في وقت واحد.
* وقبل كل ذلك نصوم لأن هذا الصوم طاعة لله عز وجل الذي فرضه علينا، ما دمنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [ البقرة: 83].
وعموماً يا أصدقائي إن حكم الصوم كثيرة جدًّا، لذلك فعندما فرضه الله علينا، فرضه لمصلحتنا؛ لأنه يحبنا ويريد أن نقترب منه سبحانه، ونكون مجتمعًا مثاليًّا لا يعرف الشر ولا الكراهية، إنما يسوده الحب والسلام والرخاء.
وفرضه علينا ليمتحن صبرنا وطاعتنا له، وتكفل بأنه يغفر للصائم ما تقدم من ذنوبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" [متفق عليه].
أضف إلى معلوماتك:
موسى عليه السلام
واحدً من أولي العزم من الرسل.
ولد موسى عليه السلام لأم من بني إسرائيل، وقد نجا بأعجوبة من الموت المحقق الذي كان هو قضاء فرعون المطبق على رقاب كل الذكور من أبناء بني إسرائيل.
هرب من مصر إلى الشام وذلك خوفًا على حياته، ولبث فيها مدة في خدمة شعيب عليه السلام بعد أن تزوج إحدى ابنتيه، ثم عاد إلى مصر، وفي طريق العودة جاءته الرسالة، وأنزلت عليه التوراة والألواح، وأعطي تسع آيات بينات تصديقا لدعوته، وأرسل إلى بني إسرائيل.
ذهب ومعه أخوه هارون عليه السلامإلى فرعون ليدعوه، فجمع له فرعون السحرة، الذين ما لبثوا أن آمنوا به بعد أن رأوا صدق آياته، ولحق فرعون وجنوده بموسى ومن معه من المؤمنين حتى فلق الله للمؤمنين البحر فلقين ليجتازه المسلمون ثم ما لبث أن أطبق البحر على فرعون وجنده ليغرقهم
ــــــــــــــــــــ(1/163)
أول سنة صوم
شعبان مصطفى قزامل
أول مرة أصوم فيها كانت منذ سنتين، كان عمري وقتها سبع سنوات. في البداية كنت أصوم حتى الظهر، أو أصوم حتى العصر عن الطعام فقط، وأشرب حين أحس بالعطش. ومكثت طوال شهر رمضان أصوم هكذا، وقبل انتهاء رمضان صمت ثلاثة أيام كاملة، كانت آخر أيام في رمضان. وفي العام الماضي صمت أكثر من نصف رمضان، وكان أبى يحفزني ويعلن عن مكافأة مالية لي ولإخوتي إذا أتممنا الصيام حتى المغرب، وكانت حكاياته عن الجنة التي وعد الله بها المؤمنين الذين يؤدون الفرائض بإخلاص، وحكاياته عن فضل الصيام وأن الخالق تبارك وتعالى قد جعل الجزاء عنه له وحده، ففي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، وحكاياته عن الملائكة وما يفعلون من عبادات تقربهم من الله ورضا الله سبحانه وتعالى، وعن عباده المخلصين؛ كل هذه الحكايات كانت كفيله بتقوية عزيمتي وتشجيعي على إكمال الصيام طمعًا في رضاء الله تبارك وتعالى.
والحمد لله أن شهر رمضان في هذه السنوات يأتي في فصل الشتاء، فاليوم قصير، يمر بسرعة، ولم أعد أحس بالجوع أو العطش، وهذا من حسن حظي وحظ كل الأطفال في الدنيا، والذين يصومون مثلي لأول مرة.
فالصوم في هذه الأيام لذيذ، وتدريب للصوم الذي سيأتي مستقبلاً إن شاء الله تعالى في فصل الصيف.
وأذكر موقفاً طريفاً حدث لي، لقد ضعفت يومًا في رمضان الماضي، ولم أكمل صيامي، وكنت في الثامنة من عمري، بعد أن لعبت مباراة لكرة القدم مع زملائي، وتعبت ولم أستطع مقاومة العطش، ثم أكملت اللعب بعد أن شربت، وعندما عدت إلى البيت جلست مع الأسرة على مائدة الإفطار وكأني صائم، وكان أبي قد أصدر أمراً بأن من يفطر لا يجلس على مائدة الإفطار، مما جعلني أدّعي الصوم، حرصًا مني على مشاركة الأسرة طعام الإفطار والسحور.
ولكن فجأة أحسست بالذنب، فقد امتلأت معدتي بالطعام، ولم أملك إلا أن أعترف لوالدي بما حدث ... ضحك والدي، ووضع يده على رأسي وقال: لا عليك يا صغيرى، فأنت في حاجة إلى الطعام، لأنك في مرحلة النمو. ولكن إذا استطعت الصيام فصم، فالله سبحانه وتعالى لم يفرض الصيام إلا على من بلغ السن التي يكون فيها قادراً على تحمل الجوع والعطش. وهذه رحمة من سماحة الدين الإسلامي، هذا الكلام شجّعني أكثر، وجعلني أحرص على الصوم، فزاد عدد الأيام التي صمتها في رمضان الماضي عن نصف الشهر. وهذا العام إن شاء الله نويت أن أصوم الشهر كله، فالجو جميل ومشجع على الصوم.
ما أجملك يا شهر رمضان! وما أجملنا حين نقول داعين الله وقت الإفطار: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وعليك توكلت، وبك آمنت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله، يا واسع الفضل اغفر لي، الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت" أبو داود.
وبعد الأكل: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين". فإذا أكلنا عند قريب لنا دعانا للإفطار معه دعَوْنا له قائلين: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة". أو "اللهم أطعم من أطعمنا، واسق من سقانا".
أضف إلى معلوماتك: شعيب عليه السلام : هو (شعيب بن سيكيل بن يشجر بن مدين أحد أولاد إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والتسليم ) وقد أرسل إلى قوم مدين ،وهم عرب يسكنون بلاد الحجاز ، مما يلي جهة الشام ، قريبا من (خليج العقبة) من الجهة الشمالية منه ، وكانوا أهل تجارة وزراعة ، وكانوا أصحاب رفاهية ونعيم ، وقد فشت فيهم منكرات عديدة ، منها (التطفيف) في المكاييل والموازين ، فكانوا يبخسون الناس أشياءهم ، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون ،وقد بعث الله إليهم (شعيبا) عليه السلام فدعاهم إلى توحيد الله وذكّرهم بعذابه ، ونهاهم عن تطفيف المكيال والميزان و أمرهم بالإصلاح وعدم الإفساد فآمن به قليل وكذّبه الأكثر ون ، ولما ألح عليهم شعيب عليه السلام في الدعوة والموعظة جاهر وه في العداء ، وادعوا أنهم لا يفقهون كلامه ، ولا يعرفون غرضه وتوعدوه بأنه لولا أن له أنصارا لقتلوه ثم هدّدوه وتوعدوه بالإخراج والطرد من القرية ، هو والذين آمنوا معه إلا أن يعودوا في ملتهم ، ويدخلون في دين قومهم ،ولقد كان من شدة حماقتهم أن يطلبوا إلى (شعيب) أن يسقط عليهم كسفا (قطعا) من السماء ، إن كان من الصادقين في دعوته ، فأخذهم عذاب (يوم الظّلة) بأن سلط الله عليهم الحر سبع أيام حتى غلت مياههم ، ثم ساق إليهم غمامة فاجتمعوا تحتها للاستظلال فرارا من شدة الحر . فلما تكامل عددهم في ظلها تزلزلت بهم الأرض ، وجاءتهم الصيحة وأمطرت عليهم السماء نارا فاحترقوا وصدق الله حيث يقول (فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم ..)
ــــــــــــــــــــ(1/164)
قرآني في رمضان
شعبان قزامل
أَذْكُرُ جيدًا مِثْلَ هَذا اليومَ من رمضان منذ أربعة أعوام. كان عمري وقتها خمس سنوات. التحقت بكتّاب المسجد المجاور لبيتنا. ورأيت عددًا كبيرًا من الأطفال، من هم في مثل عمري، أو أكبر أو أصغر قليلاً.. كانوا جميعًا يحيطون بشيخ جليل يُحَفظهم القرآن، فيرددون وراءه ما يقول.
اقتربت وجلست في أقرب مكان خالٍ، وأخذت أردد مع الأطفال خلف الشيخ.. كان يومًا جميلاً، أحسست فيه براحة عجيبة.
أما الآن.. فعمري يقترب من التاسعة، وقد أنعم الله عليّ بحفظ معظم سور القرآن الكريم.
وأشد ما يُفرحني أنه كلما هَلّ علينا شهر رمضان المبارك تذكرت أول يوم انتظمت فيه لحفظ القرآن الكريم. إنه فعلاً شهر كريم، أحمل له في قلبي مكانة عظيمة.
أصدقائي.. كم أنا سعيد وأنا أتحدث معكم، وأهمس لكم عن مشاعري! فالقرآن أعظم كتاب، ورمضان أعظم شهر، لأنه نزل فيه القرآن، يقول الله تعالى: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
وما أجمل أن أتلو القرآن الكريم في شهر رمضان! فهو دستوري الذي يهديني الله بفضله إلى الصواب في كل شيء، مَنْ حفظه يحفظه الله من كل سوء، ومن وعاه وعمل به أدخله الله الجنة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ).
لهذا أحرص كل رمضان على دعوة أصدقائي، فنجتمع سويًا بين صلاة العصر وصلاة المغرب، ونتلو ما تيسر لنا من القرآن الكريم، حتى نختمه بفضل الله مع نهاية هذا الشهر الكريم، ليس هذا فقط، بل نتبادل تفسير آياته وتدبرها، وقراءة كتب التفسير المختلفة؛ حتى نعرف ديننا، ونتقن لغتنا، ويفصح لساننا، وتزكو نفوسنا، وتطهر قلوبنا بنور الله سبحانه وتعالى. وأنا وأصدقائي نعلم جيدًا أن الصيام والقرآن يُدخِلان الجنة بأمر الله، ويشفعان للعبد يوم القيامة، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفِّعني فيه، فيشفعان" [أحمد].
ولعلك تساءلت معي
لماذا أنزل الله عز وجل القرآن؟ لقد سألت الشيخ الذي يحفظني القرآن هذا السؤال من قبل، فقال: أحسنت أيها الفتى.. إنه سؤال جميل.. لقد أنزل الله القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، وقال الشيخ: إن القرآن يُعمِّرُ القلب بنور الإيمان كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" [الترمذي].
وفي ليالي رمضان يحلو الحديث عن القرآن الكريم، وقراءة المعلومات المفيدة حوله. ولقد عرفت بعض المعلومات القيمة أهديها إليك يا صديقي. فالقرآن يشتمل على مائة وأربع عشرة سورة كريمة، يبدأ بسورة الفاتحة، وينتهي بسورة الناس. ولقد نزلت في مكة المكرمة ثمان وثمانون سورة، ونزلت بالمدينة المنورة ست وعشرون سورة. واشتملت بعض السور على آيات نزلت في مكة وآيات نزلت في المدينة؛ كسورة البقرة، فجميع آياتها مدنية إلا الآية رقم 281، وهي قوله تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ (، وهي آخر آية نزلت من القرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أضف إلى معلوماتك:
عدد آيات القرآن الكريم "6236" آية.
عدد حروفه "321181" حرفًا.
القرآن الكريم ثلاثون جزءاً.
القرآن الكريم ستون حزبًا.
القرآن الكريم له أسماء كثيرة عددها خمسة وخمسون اسمًا؛ منها: القرآن، والفرقان، والكتاب، والذكر، والنور، والهدى، والشفاء، والحكيم، والروح، والحق
ــــــــــــــــــــ(1/165)
شهر رمضان المبارك
بداية جديدة مع معدتي
اشتكت معدتي من زحام الطعام والشراب كل يوم، وتمنت أن يجيء رمضان في أسرع وقت، لقد طال انتظارها للراحة، واشتاقت إلى الحياة الجديدة في رمضان.
أسمعها تصرخ وتئنّ وتتعطف، كأنها تقول: ارحمني يا صغيري ... كفاك أكل الشيكولاتة واللحم وما لذ وطاب ... لقد تعبت من العمل ليل نهار طوال السنة، لم أرتح يومًا..
أحسست بمعاناة معدتي، وأشفقت عليها وخفت منها، فربما يصيبها الإرهاق والتعب فتتعبني وتؤلمني. وكان مجيء شهر رمضان فرصة طيبة لأن أجدد عهدها، فلا أرهقها بالطعام والشراب، لأن شهر رمضان يتطلب مني ومنكم أن نقتصد في كل شئ؛ خاصة في الطعام والشراب.
وكم كنت أتعجّب في العام الماضي عندما صمت رمضان لأول مرة، وكنت أرى الناس يملأون موائدهم بالطعام والشراب، كأنهم لم يأكلوا منذ شهور، وسألت نفسي: هذا شهر صوم أم شهر طعام؟ .. عجبًا لأحوال الناس في هذا الشهر الكريم.
المهم.. انتهزت فرصة رمضان، ونويت أن أجدد حياتي، وأجدد علاقتي بالله عز وجل وأزيد من صلتي به وثقتي فيه بالإخلاص له.
فما من إنسان يخلص لله في صيامه وقيامه إلا ويشعر في آخر رمضان بأنوار تتلألأ في قلبه، واطمئنان تسكن إليه نفسه، وراحة تغمر وجدانه، وتفتح لمعاني الحياة الحقيقية يسيطر على عقله. ولو استمر الناس بعد رمضان على ما كانوا عليه في رمضان لكانوا أشبه ما يكونون بالملائكة. فالله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: "كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنما يذر أي يتركشهوته وطعامه وشرابه لأجلي" . ثم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". ويقول: "للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عن لقاء ربه".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، فتحت أبواب الجنان، ونادى منادٍ في كل ليلة إلى انفراج الصبح: هل من مستغفر يُغْفَرُ له؟ هل من تائب يتوب الله عليه؟ هل من داعٍ يستجاب له؟ هل من سائل يُعطى سؤله؟".
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم".
فلنتوجه جميعًا نحن أطفال المسلمين إلى الله عز وجل أن يتقبل دعاءنا وتوبتنا، ويهبنا حياة جديدة واعية مع هذا الشهر الكريم، حتى نعبد الله سبحانه وتعالى وحده .
أضف إلى معلوماتك:
في هذا الشهر المبارك أعطيت للمسلمين خمس خصال لم تعطهن أمة قبلهم،كما قال لناصلى الله عليه وسلم :
"خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" أي الرائحة التي تخرج من فمه نتيجة طول الصيام.
"تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا"
"تصفد فيه الشياطين" أي تقيد بالسلاسل.
"يزين الله تعالى كل يوم الجنة، ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يكف عنهم السوء والأذى".
"يغفر لهم في آخر ليلة منه"، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل يُوفّى أجره إذا قضى عمله"
ــــــــــــــــــــ(1/166)
صيام الأنبياء
سألت أبي: كيف كان الأنبياء يصومون؟ فابتسم، ووضع يده فوق رأسي، وأجاب: الصيام يا صغيري أقدم فريضة عرفتها الإنسانية، كانت البداية أمرًا من الله تعالى إلى سيدنا آدم، وامتد ذلك إلى كل الأنبياء والديانات.
فما من أمة إلا وجعلت الصوم عبادة تتقرب بها إلى الله، والصوم قد يكون امتناعًا عن تناول الطعام والشراب، كصوم المسلمين، وقد يكون امتناعاً عن الكلام، مثل صوم مريم ابنة عمران، قال تعالى: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)، وكصوم نبي الله زكريا عليه السلام قال تعالى: (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا)، وقد يكون الصوم امتناعًا عن بعض الطعام دون الباقي، كصوم النصارى عن البَيْض واللبن ومنتجات اللحوم. وكصوم نبي الله آدم عليه السلام حين أباح الله له الأكل من جميع الثمار، ونهاه عن الأكل من شجرة معينة، قال تعالى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ).
ولقِّب نبيُّ الله إدريس عليه السلام بصائم الدهر، لكثرة صيامه لله؛ إذ كان يصوم أربعة أيام من كل أسبوع طوال حياته، وكان النبي داود عليه السلام يصوم يومًا ويفطر يومًا. وصام نبي الله موسى أربعين يومًا عندما ذهب ليكلم ربه.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم يوم عاشوراء، وعندما فرض الله تعالى بعد ذلك صيام رمضان، ونزل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) ـ كان من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يطعم مسكينًا بدلاً من الصوم أطعم مسكينًا ولم يصم. فلما نزل قول الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه ... ) أوجب الله تعالى صوم رمضان على المقيم، وأجاز الفطر للمريض والمسافر.
وكان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يتطوعون ويصومون كثيرًا من الأيام، وحدث أن علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أقسم أن يصوم النهار ويقوم الليل طيلة حياته، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال عبد الله: قد قلته بأبي أنت وأمي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر". قال عبد الله: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: "فصم يوماً وأفطر يومين". قال عبد الله: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام". قال عبد الله: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أفضل من ذلك" (متفق عليه).
أضف إلى معلوماتك:
إبراهيم الخليل (عليه السلام)
نبي الله، بل أبو الأنبياء، وجدُّ العرب من جهة ابنه إسماعيل.وجدُّ العبريين من جهة ابنه اسحق، كان قومه يعبدون الأصنام وكان أبوه ينحت الأصنام ويبيعها فلما بعث الله إبراهيم إلى قومه دعا أباه إلى ترك عبادة الأصنام وتأدب في دعوته، فلما أبى عبادة الله أعرض عنه، ودعا قومه إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، وكسر الأصنام ليدلهم على كونها لا تنفع ولا تضر، فأرادوا إحراقه فأنجاه الله من النار، فتبرأ من قومه الذين رفضوا التوحيد وأبوا أن يعبدوا الله، ولم يؤمن به إلا زوجه وابن أخيه لوط عليه السلام
ــــــــــــــــــــ(1/167)
الفتح الأكبر
كلما جاء شهر رمضان هبَّت علينا نسائم الرحمة والانتصارات الكبيرة التي نصر الله سبحانه المسلمين فيها. ومن هذه الانتصارات: فتح مكة.
ففي شهر ذي القعدة سنة 6 للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة لأداء العمرة، فلما علمت قريش بذلك تجمّعت لصدّ المسلمين عن بيت الله الحرام، وبعد محاولات ومحاورات بين الطرفين اتفقا على صلح بينهما سمي بصلح الحديبية، وشروطه هي: وقف الحرب بين الطرفين لمدة عشر سنوات.
من يذهب إلى المسلمين من قريش يردّه رسول الله، ومن يذهب إلى قريش من المسلمين لا يُردّ.
أن يرجع المسلمون عن مكة هذا العام، ويأتوا في العام القادم، ويمكثوا في مكة ثلاثة أيام فقط، ليس معهم سلاح إلا السيوف يدفعون بها عن أنفسهم شر الطريق.
من أراد من القبائل أن يدخل في عهد المسلمين فليدخل، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش فليدخل، فدخلت خزاعة في عهد المسلمين، ودخلت بكر في عهد قريش.
ولكنّ قريشًا نقضت العهد؛ حيث ساعدت قبيلة بكر في حربها ضد خزاعة، وأحسّت قريش بخيانتها، فأرسلت أبا سفيان إلى المدينة؛ ليقوم بتجديد الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم ويزيد في مدّته، ولكنه فشل في ذلك، وعاد إلى مكة خائبًا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على فتح مكة، فأخذ يُعِدّ العدّة لذلك في سرية وخفاء. وفي اليوم العاشر من شهر رمضان في السنة الثامنة من الهجرة تحرّك عشرة آلاف صحابي تحت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وخرجوا من المدينة وهم صائمون، وفى الطريق إلى مكة، قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس مهاجرًا مع أهله إلى المدينة، فصَحِب العباس رسول الله في سيره إلى مكة، بينما تابع أهله طريقهم إلى المدينة.
وفى مرّ الظهران نزل الجيش المسلم، وكان الليل قد دخل، فأمر رسول الله بإيقاد النار، فأوقد الجيش نارًا عظيمة، مما أدخل الرعب في قلوب المشركين.
وتحرّك الجيش، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، واتجه إلى ذي طوى، وخرّ ساجدًا شكرًا لله سبحانه وتعالى على ما أكرمه به من العزة وذلّ الكافرين. وفي ذي طوى قسم رسول الله الجند، فسار الزبير بن العوام بجزء من الجيش، وانطلق سعد بن عبادة بقسم آخر، ثم أخذ علي بن أبي طالب الراية، ودخل خالد بن الوليد مكة من جانب آخر، وسار أبو عبيدة بن الجراح بين يدي رسول الله حتى نزل أعلى مكة.
ولم يلق المسلمون أية مقاومة تُذكَر أثناء دخولهم مكة سوى بعض المناوشات بين خالد بن الوليد وبعض رجال قريش هرب المشركون بعدها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بألا يقاتلوا إلا من قاتلهم.
وبعد أن هدأت أوضاع الناس دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام وحوله الأنصار والمهاجرون، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، فأخذ يطعنها بالقوس، ويقول: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مِفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، وفتحها ثم دخلها، فرأى صورًا فمحاها، وحطّم الأصنام، ثم صلى في داخلها، وخرج فوجد المسجد قد امتلأ بأهل مكة ينتظرون مصيرهم، فخطب فيهم، ثم قال: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم"؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء". ثم أعطى رسول الله مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة.
وتمّ فتح مكة، وكان لهذا الفتح أثر كبير في تاريخ البشرية، فقد قضى على الأوثان والشرك في مكة تمامًا، وتسابقت الشعوب والقبائل إلى الدخول في الإسلام، ودخلت الجزيرة العربية بأكملها في دين الله، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في بعث الرسل إلى البلاد المجاورة. ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الأسس الخالدة التي قامت عليها الفتوحات الإسلامية، مثل عدم الاعتداء على المدنيين، وعدم قطع شيء من النبات بلا فائدة، والعفو والصفح عند المقدرة.
أضف إلى معلوماتك:
نزول القرآن في غار حراء.
وفاة أبي طاب عم الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من البعثة.
في 10 رمضان في السنة العاشرة من البعثة توفيت خديجة رضي الله عنها فكان هذا عام الحزن.
في 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر.
وفي نفس السنة في رمضان فرضت زكاة الفطر.
في 21 رمضان من السنة الثامنة للهجرة كان فتح مكة.
وفي نفس السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدم الأصنام ومنها العزى, وبعث كذلك عمرو بن العاص لهدم سواع، وبعث سعد بن زيد الأشهلي لهدم مناة فأدى كل منهم مهمته بنجاح.
في السنة التاسعة كانت غزوة تبوك.
في السنة العاشرة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم الأمام علي كرم الله وجهه في سرية من المسلمين إلى بلاد اليمن وخاصة قبيلة همدان التي أسلمت جميعها في يوم واحد وصلوا خلف الأمام علي كرم الله وجهه.
في السنة الحادية عشر توفيت الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
17 رمضان عام 40هـ قتل الأمام علي كرم الله وجهه.
عام 53هـ. فتح العرب جزيرة رودس.
عام 58هـ. توفيت زوج النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ودفنت بالبقيع.
عام 91هـ. نزول المسلمون إلى الشاطئ الجنوبي لبلاد الأندلس وغزوا بعض الثغور الجنوبية.
عام 92هـ. انتصر القائد المسلم طارق بن زياد على الملك رودريك في معركة فاصلة
ــــــــــــــــــــ(1/168)
بلاط الشهداء (بواتييه)
في مثل هذا الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك سنة 114هـ/ 732م، كانت موقعة بلاط الشهداء (تور أو بواتييه).
فما هي هذه الموقعة؟ وكانت بين مَنْ؟ وما نتائجها؟ هذه هي الحكاية.
نور الإسلام الذي أضاء معظم آسيا وأفريقيا أيام الدولة الأموية، لم يقف عند هذه الحدود الجغرافية، وإنما امتد حتى جنوب أوروبا. فالقادة المسلمون الفاتحون لم يتوقفوا عند الأندلس فحسب، بل دفعهم الحماس لدينهم إلى عبور جبال البرانس الفاصلة بين الأندلس وفرنسا؛ ليبشروا بهذا الدين العظيم، دين الإنسانية، ودين العلم والحضارة.
كان أول مَنْ فكر في هذا الأمر القائد العظيم موسى بن نصير، الذي أراد دخول فرنسا ثم باقي أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية عاصمة الدول البيزنطية من الغرب.
وظلت فكرة فتح فرنسا حلمًا يراود كل القادة المسلمين، حتى قام بالفعل والي الأندلس "الحر بن عبد الرحمن الثقفي" بدخول جنوب فرنسا، وجعل مدينة "أربونة" قاعدة لمن أراد من المسلمين فتح أوروبا.
وخلف "السمح بن مالك" والي الأندلس "الحر بن عبد الرحمن" فعبأ جيوشه لغزو فرنسا، وما إن وصل إلى غرب فرنسا، حيث يجري نهر الجارون، حتى تصدى له القائد الفرنسي "أودون" في معركة قرب "طولوشة"، استهد فيها القائد "السمح بن مالك"، وانهزمت الجيوش المسلمة، ورجعت إلى أربونة.
ولم تضعف للمسلمين عزيمة، ولم تلن لهم قناة، وبرغم الصعوبات والمشاق التي اعترضتهم، فإنهم لبوا نداء القائد "عبد الرحمن الغافقي"، حين دعاهم للجهاد ونشر نور الإسلام في أنحاء العالم، وأعلن الجهاد في الأندلس وشمال إفريقيا.
وجاء المجاهدون من كل حدب وصوب إلى القائد عبد الرحمن الغافقي.
وتحرك الجيش المسلم في عدة وعدد ترهب أعداء الإسلام، وما مر ببلدة بفرنسا إلا وامتلأت قلوب أهلها هلعًا ورعبًا وخوفًا حتى وصل المسلمون إلى بلدة بواتييه، والتي تبعد عن باريس 70 كيلو مترًا. وكان خوف الفرنسيين نتيجة الإشاعات والدعاية الكاذبة عن المسلمين والإسلام من قبل اليهود والقسيسين أصحاب المنفعة في أن تظل البلاد بعيدة عن الإسلام. وعند بواتييه، أعلن "شارل مارتل" النفير العام، لمواجهة زحف المسلمين نحو أوروبا، وأرسل له بابا الكنيسة جيشًا؛ ليشد أزره، ففاق عددهم عدد المسلمين.
والتقى الجيشان في منطقة قد غُطت بالغابات والأحراش، وهناك دارت رحى معركة طاحنة، استمرت عدة أيام، أحسن فيها المسلمون البلاء والقتال، ولولا هطول الأمطار المستمر، الذي أعجز خيول المسلمين عن الثبات، وكثرة الغابات والأحراش لانتصر المسلمون. ولكن سقوط القائد عبد الرحمن الغافقي شهيدًا مع صفوة من جنده، اضطر المسلمين للانسحاب من أرض المعركة في جنح الظلام، تاركين وراءهم ذكرى أليمة، وأملاً قد تحطم أمام أعينهم طالما راودهم في نشر الإسلام في ربوع أوروبا.
وأطلق المسلمون على هذه المعركة اسم "بلاط الشهداء" لكثرة شهداء المسلمين فيها. وهكذا توقفت فتوحات المسلمين ناحية الغرب بعد هذه المعركة.
واستمرت عصور الظلام تخيم على أوروبا، بينما المناطق التي فتحها المسلمون في الأندلس شهدت تقدمًا حضاريًا وعلميًا عريقًا، كان نقطة الانطلاق في التقدم التكنولوجي والعلمي الحالي.
أضف إلى معلوماتك:
أبو بكر الصديق
هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة العتيق الصديق. أما العتيق فهو الجميل، الغاية في الجود والخير، وأما الصديق فهو الذي يصدقه الناس ولا يكذبونه، والذي أسرع إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه.
ولد بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين وبضعة أشهر.
كان أول مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم من الرجال البالغين.
كان هو وحده رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى يثرب، وصاحبه في الغار.
هو والد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من العشرة المبشرين بالجنة.
كان أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تولى الخلافة عام 10 من الهجرة واستمر فيها سنتين وثلاثة أشهر.
من أكبر فضائله في التاريخ أنه جمع المصحف بعد أن كان أشتاتًا في الرقاع، ومحفوظًا في الصدور.
حارب المرتدين عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ليوحد شمل المسلمين ويؤلف صفوفهم .
تزوج في الجاهلية: قتلة، وأم رومان، وفي الإسلام: أسماء وحبيبة، وتوفي وكانت حبيبة حاملاً.
كان لأبي بكر من الولد ستة: ثلاثة بنين وثلاثة بنات أما البنون هم: عبد الله وعبد الرحمن، ومحمد، وأما البنات فهن: أسماء ، وعائشة أم المؤمنين وأم كلثوم.
توفي وعمره 63 عامًا مثل عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى وكان ذلك عام (13هـ634م).
دفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة عائشة رضي الله عنها
ــــــــــــــــــــ(1/169)
شهر الخيرات
شعبان قزامل
حكى سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم من شعبان، قال: "يا أيها الناس قد أظلَّكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتقًا لرقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء". قال: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطي الله هذا الثواب من فطر صائمًا على تمرة، أو على شربة ماء أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، واستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما. فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الله الجنة. وتعوذون به من النار، ومن سقى صائمًا سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة". [ابن حبان والبيهقي وابن خزيمة].
خطَرَ هذا الحديث النبوي الشريف على ذهني وأنا أرى ثلث رمضان يمر وهو ثلث الرحمة، وبقي الثلثان المغفرة والعتق من النار، داعيًا لنا أن ننتهز فرصة رمضان قبل أن ينتهي، ننتهزه في المزيد من التقرب إلى الله عز وجل بفعل الخير، وإقامة الصلوات، والتصدق على الفقراء والمساكين.
فرمضان موسم عطاء إلهي للمسلمين، اختصه الله سبحانه وتعالى بأن جعله أثلاثًا.. فأوله رحمة يتجلى الله بها على عباده الصائمين، وأوسطه مغفرة يمحو الله بها الخطايا.. وآخره عنق من النار؛ ليستقروا في رحاب جنته، ينعمون فيها بما أولاهم به من النعيم والرضوان.
اللهم نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونستعيذ بك من النار وما قرب منها من قول وعمل.
أضف إلى معلوماتك
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما أعده الله للمؤمنين الطائعين في هذا الشهر من فضائل:
الأولى : فإنه إذا كان أول ليلة منه نظر الله إليهم، ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبدًا. الثانية : فإن الملائكة تستغفر لهم كل يوم وليلة.
الثالثة : فإن الله يأمر جنته يقول لها: تزيني لعبادي الصائمين، يوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي.
الرابعة : فإن رائحة أفواههم حين يمسون أطيب من ريح المسك.
الخامسة: فإنه إذا كان آخر ليلة منه غفر الله لهم جميعًا، فإن العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم
ــــــــــــــــــــ(1/170)
عين جالوت
شعبان قزامل
في اليوم الخامس عشر من رمضان سنة 658هـ وقعت موقعة عين جالوت، والتي انتصر فيها المسلمون بقيادة الأمير"قطز" على التتار، وتم توحيد مصر وبلاد الشام.
بداية الحكاية:
ظل العالم الإسلامي يتصدى لحملات الصليبية الشرسة على مدى قرنين من الزمان، والتي بدأت من سنة 490هـ/ 1096م، وظلت تتدفق على شواطئ الشام ومصر في محاولة للسيطرة على رأس الحربة في بلاد المسلمين، ومن ثم القضاء على الإسلام والمسلمين.
وما إن انتهت تلك الحملات حتى ظهر على الساحة الإسلامية خطر عظيم، لا يقل ضراوة عن خطر الحروب الصليبية؛ إنه خطر المغول والتتار، الذين لم يهددوا العالم الإسلامي فحسب، بل هددوا العالم بأسره.
والمغول كانوا شعبًا بدائيًا، عاش في هضبة منغوليا بجوار الدولة الخوارزمية الإسلامية، والتي كانت على علاقة طيّبة بالمغول، ولكن سرعان ما ساءت العلاقة بينهم لمقتل بعض تجار المغول. فخرج "جنكيز خان" ملكهم بجيوشه لمحاربة المسلمين، فما دخل قرية إسلامية إلا وأحرقها، وقتل سكانها الأبرياء.
واستمر المغول في زحفهم المدمر حتى دخلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، واستطاع "هولاكو" حفيد جنكيز خان إسقاط الخلافة العباسية، وقتْل الخليفة العباسي سنة 1258م، وتدمير بغداد عاصمة الخلافة.
وواصل هولاكو تقدمه، فاستولى على حلب ودمشق، ولم يبق أمامه إلا مصر، حصن الإسلام المنيع، وكنانة الله في أرضه، فأرسل هولاكو رسالة تهديد لحاكم مصر آنذاك السلطان "سيف الدين قطز"، ويطلب منه الاستسلام، فأبى السلطان قطز، وأخذ يعد جيوشه، ويستعرضها في شوارع القاهرة ليرفع به من معنويات المسلمين.
وأرسل قطز قوة استطلاعية بقياد "بيبرس" الذي استطاع أن يهزم إحدى الفرق المغولية، ووصل الجيش المصري المسلم بقيادة قطز إلى عين جالوت في شهر رمضان من سنة 658هـ، وهناك دارت تلك المعركة الفاصلة بين الفئة المؤمنة وأهل البغي والفساد من المغول، وحقق المسلمون نصرًا ساحقًا على جيش المغول، وأسروا قائدهم، وأمر "قطز" بقتله.
وانتهت بانتهاء معركة عين جالوت أسطورة الجيش المغولي الذي لا يقهر، واستطاع المسلمون إنقاذ العالم كله من همجية المغول وخطرهم، والذين أخذوا يفرون إلى ديارهم وهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة في عين جالوت.
وكانت هذه المعركة البداية لدولة المماليك في مصر والشام.
أضف إلى معلوماتك
بائعة اللبن
في إحدى الليالي خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه خادمه "أسلم"، ومشيا في طرقات المدينة يتعسسان ويطمئنان على أحوال الناس.
وبعد مدة شعرا بالتعب من كثرة المشي، فوقفا يستريحان بجوار أحد البيوت، فسمعا صوت امرأة عجوز داخل هذا البيت تأمر ابنتها أن تخلط اللبن بالماء، قبل أن تبيعه للناس، فرفضت الابنة أن تغش اللبن بالماء، وقالت لأمها: إن أمير المؤمنين نهى أن يُخلط اللبن بالماء، وأرسل مناديًا ليخبر الناس بذلك.
فألحت الأم في طلبها، وقالت لابنتها: أين عمر الآن؟! إنه لا يرانا. فقالت الابنة المؤمنة الأمينة: إذا كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا، وهل نطيع أمير المؤمنين أمام الناس ونعصيه في السر؟! فسعد أمير المؤمنين بما سمعه من هذه الفتاة، وأعجب بإيمانها وأمانتها.
وفي الصباح سأل عنها، فعلم أنها أم عمارة بنت سفيان بن عبد الله الثقفي، وعرف أنها غير متزوجة، فزوّجها لابنه عاصم، وبارك الله لهما، فكان من ذريتهما الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
إنها الأمانة، ذلك الخلق الجميل، فما أجمل أن يراعي المسلم أمانته مع ربه عز وجل ومع نفسه، ومع الناس، مستجيبًا لأمر الله سبحانه في قوله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا). فالأمانة خلق كريم يدل على الورع والإخلاص ومراقبة الله عز وجل وسائر الأخلاق الحسنة
ــــــــــــــــــــ(1/171)
يوم عمورية
مع أيام شهر رمضان المبارك تهلّ علينا ذكرى انتصارات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في سبيل نشر دين الله عز وجل .
ومن هذه الانتصارات انتصار المسلمين على الروم في موقعة عمورية في رمضان سنة 223هـ.
فقد طمع "تيوفيل بن ميخائيل" ملك الروم في بلاد المسلمين، خاصة عندما علم أن جنود المسلمين جميعهم في أذربيجان يواصلون فتوحاتهم. فأخذ يعبئ الجنود، وخرج قائدًا على مائة ألف من الروم لقتال المسلمين، فوصل إلى حصن "زبطرة"، فقتل الأطفال والشيوخ، وخرّب البلاد، وأسر النساء وسباهن، وانتهك أعراضهن وحرماتهن، ومثّل بكل من وقع في يده من المسلمين.
وكان من ضمن النساء امرأة اقتادها جنود الروم للأسر، فصرخت هذه المرأة، وقالت: "وامعتصماه".
فلما وصل الخبر إلى "المعتصم" خليفة المسلمين استشاط غضبًا، وأخذته الحمية والغضب لله، وقال: "لبيك". وأخذ في الاستعداد، وجمع الجنود، وأعدّ العدة، وخرج على رأس جيش لنجدة المسلمين، وعسكر بهم في غربي نهر دجلة.
وبعث "المعتصم" عجيف بن عنبة وعمرًا الفرغاني لنجدة أهل زبطرة. فوجدا أن الروم كانوا قد رحلوا عنها بعد الفواحش الكثيرة التي ارتكبوها بأهلها. ولكن المعتصم أصرّ على تتبع الروم وعدم الرجوع عن قتالهم، فسار إلى بلادهم، وسأل عن أقوى حصونها، فعلم أنها عمورية؛ حيث لم يتعرض لها أحد من القادة المسلمين من قبل، وأنها أفضل عند الروم من القسطنطينية نفسها، فصمّم أمير المؤمنين المعتصم على فتح هذه المدينة، رغم ما تلقاه من تحذيرات المنجمين وتخويفهم له من أن ذلك الوقت ليس وقت فتح عمورية؛ إذ قال له المنجمون: "رأينا في الكتب أن عمورية لا تفتح في هذا الوقت، وإنما وقت نضج التين والعنب". لكن المعتصم لم يستجب لهم، ولم يرضخ لخرافاتهم، وقرر فتح عمورية.
أقام المعتصم على نهر سيحان، وأمر أحد قادته وهو "الإفشين" أن يدخل بلاد الروم عن طريق "الحدث"، كما أمر "أشناس" أن يدخل عن طريق "طرسوس"، وحدد لهما يومًا يلتقيان فيه عند أنقرة. واجتمع الجيش عند أنقرة، ثم دخل المدينة، وسار حتى وصل عمورية، ونظّم المعتصم الجيش، فجعل نفسه في القلب، و"الإفشين" على الميمنة، و"أشناس" على الميسرة، وقام الجيش الإسلامي بحصار المدينة حصارًا شديدًا، حتى استطاع أن يُحدث ثغرة في سورها، فاندفع الجنود داخل المدينة، وحاربوا بكل قوة وشجاعة؛ حتى سيطروا على المدينة، وانتصروا على الروم.
وهكذا تم فتح أصعب الحصون الرومانية، مما كان له أكبر الأثر في نفوس المسلمين، حيث قويت معنوياتهم، وسهل لهم استمرار الفتوحات في شرق أوروبا.
كما أضعف هذا النصر من معنويات الروم، لأنه أظهر لهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وأنهم أصبحوا قوة لا يستهان بها، ويخشى الأعداء بأسها.
كذلك عايش بعض الروم الحياة الإسلامية، وأعجبوا بأخلاق المسلمين وطهارة سيرهم، وعظمة دينهم، فدخلوا في الإسلام، بعد أن شعروا برحمته وعدله.
وقد خلّد الشاعر أبو تمام هذا النصر بقصيدة عظيمة، قال في أولها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب
وجاء فيها:
فَتْحُ الفتوح تعالى أن يحيط به
فتحٌ تَفَتَّح أبوابُ السماء له
يا يوم وقعة عمورية انصرفت
أبقيتِ جدَّ بنى الإسلام في صَعَدٍ ... نظم من الشعر أو نثر من الخُطَبِ
وتبرز الأرضُ في أثوابها القُشُبِ
عنكِ المُنى حُفّلاً معسولةَ الحَلَبِ
والمشركين ودارَ الشرك في صبَبِ
أضف إلى معلوماتك
الراعي الأمين
خرج عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مع رفيق له في سفر. وبعد سير طويل شعرا بالتعب، فجلسا يستريحان بجوار سفح جبل.
وبينما هما جالسان مر بهما راعي غنم يسوق غنمه، فناداه عبد الله، وسأله: أنت راع لهذه الأغنام؟ أجاب الراعي: نعم. فقال له عبد الله: بع لي شاة من أغنامك. فقال الراعي: هذه الأغنام ليست ملكي، بل إنني أرعاها لسيدي.
فأراد عبد الله أن يختبر أمانة الراعي، فقال له: قل لسيدك قد أكلها الذئب. فقال الراعي: أيها الرجل! إن قلت ذلك لسيدي لأنه لا يراني، فماذا أقول لله الذي يراني إن سألني عنها يوم القيامة؟!
فأعجب عبد الله رضي الله عنه بما قاله الراعي، وبكى من خشية الله.ر ثم علم أن هذا الراعي مملوك، فأسرع إلى سيده، واشتراه منه، وأعتقه، واشترى الغنم، وأعطاها لذلك الراعي مكافأة له على أمانته وإيمانه
ــــــــــــــــــــ(1/172)
منيب في رمضان
أحسّ "منيب" باشتداد الجوع عليه أثناء الفسحة، فتوجه إلى مطعم المدرسة، واشترى بعض المأكولات والحلوى، وقد نوى أن يفطر بعيدًا عن أعين أصدقائه، رجع منيب إلى البيت وقد اشتد به ألم الجوع فدخل حجرته وأغلق عليه الباب، وفتح الحقيبة بسرعة، وأخرج ما فيها من طعام، فإذا بالإمساكية التي أهداها إليه زميله همام تخرج معه.
سأل منيب نفسه: ترى كم بقي من اليوم؟ وبعد أن نظر في الإمساكية قال: أكثر من ثلاث ساعات، إنه لوقت طويل حقًا، لا يمكن أن أنتظر كل هذه المدة.
فكّر منيب في أن يفض أغلفة المأكولات ويبدأ الطعام، ولكنه لمح عنوانًا على غلاف الإمساكية وهو يهم بإرجاعها إلى الحقيبة يقول: "الترهيب من الفطر في رمضان" فقرّبها إلى عينيه وأخذ يقرأ بإمعان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر يومًا في رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه".
فقال في نفسه: يا سبحان الله! كيف أجرؤ على اقتراف هذا الجرم الشنيع الذي لا يمكن تعويضه أبدًا، ما أهون الصبر على هذه السويعات الباقية إذًا، ثم أخذ المأكولات ووضعها في الحقيبة وأغلقها بعصبية.
ولما حان أذان المغرب قطع صيامه ببعض التمرات، ثم قام إلى صلاة الجماعة، وبعدها جلس إلى المائدة وهو يردد: الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت، وقد غمرته الفرحة بانتصاره على نفسه أولاً، وبتوفيق الله له وعونه ثانيًا، وبانتظار ثواب الصيام الجزيل أخيرًا.
صلاتنا تذكِّرنا بعدوِّنا
فرغ الأب من صلاة الجماعة مع ابنه فبادره الابن قائلاً: لاحظت يا أبي أمرين أثناء الصلاة لم أعرف لهما تفسيرًا.
الأب: وما هما يا بنيّ؟
الابن: لفت انتباهي علو نبرة الصوت عندما تمر على قول (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ) من الفاتحة، وسمعتك كذلك تهمس بدعوات بعد التشهد لا أعرفها.
الأب: بارك الله فيك يا بنيّ، هذا دليل جديد على ما حباك الله به من قوة الملاحظة، إن الصلاة تذكّرنا بدايتها ونهايتها بأشد الناس عداوة لنا معشر المسلمين.
الابن: تقصد اليهود يا أبي؟
الأب: ومن غيرهم يا بنيّ؟!
الابن: وما علاقة هذا يا أبي بالملاحظات التي أبديتها؟
الأب: إنهم يا بنيّ هم المغضوب عليهم المذكورون في الفاتحة، والمسيح الدجال واحد منهم.
الابن: وما سر هذا الغضب الإلهي الذي يلاحقهم يا أبي؟
الأب: لقد ارتكبوا يا بني أبشع الجرائم في حق أقدس مقدساتهم، أما ما يفعلونه بالمسلمين من فظائع فأمور تفوق الوصف.
الابن: زدني تفصيلاً يا أبي.
الأب: يكفي يا بني أن تعلم حالهم مع الله تعالى، ومع رسلهم المرسلة إليهم، ومع كتبهم المنزلة، فقد وصفوا الله تعالى بأقبح الأوصاف لتبجحهم وفجورهم فقالوا: (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ)، وقالوا: (إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء). الابن: لعنهم الله.. ألهذا الحد بلغ كفرهم؟ وماذا فعلوا مع الرسل إذًا؟
الأب: إذا أتى الرسول بما يخالف أهواءهم أو مصالحهم، كان لهم معه أحد موقفين؛ إما أن يكذبوه وإما أن يقتلوه.
الابن: يا حفيظ يا رب، إنهم شياطين لا بشر، وماذا عن حالهم مع كتبهم؟
الأب: تخيل يا بني كل الجرائم التي يمكن ارتكابها في حق الكتب المنزلة.
الابن: التكذيب بها، أو كتمانها أو تحريفها أو تأليفها، فهذا كل ما يصل إليه الخيال في هذا الشأن، فهل فعلوا هذا كله مع كتبهم يا أبي؟
الأب: نعم يا بني.. ولو بقيت جرائم أخرى غيرها ما ترددوا في اقترافها، وقد فصل القرآن الكريم هذا كله في مواضع مختلفة منه.
الابن: لا حول ولا قوة إلا بالله، إن أمرًا واحدًا مما ذكر ليكفي لحلول غضب الجبار عليهم، فماذا عن الدجال الذي أشرت إليه يا أبي؟
الأب: إنه المسيح الدجال أو المسيخ، وقد سمي كذلك لمسخ الخلقة الذي ابتلاه الله به، فهو أعور، عينه كالعنبة الطافية، ومكتوب بين عينيه: "كافر"، وقد أعطاه الله تعالى بعض الخوارق، وسيستغلها حين يظهر لفتنة ضعاف الإيمان ويدعوهم إلى اتخاذه إلهًا من دون الله، وسينطلق هنا وهناك يعيث في الأرض فسادًا، حتى ينزل عيسى بن مريم رسول الله عليه السلام فيتصدى له ويقتله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويرى الناس دمه يقطر من السيف حتى يتيقنوا من كذبه ودجله.
الابن: ثبِّتنا يا رب، من أجل هذا تدعو يا أبي بعد التشهد؟.
الأب: إننا نتبع هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نجاتنا وصلاحنا وفلاحنا في الدنيا والآخرة، وقد كان يقول بين ما يقول قبل التسليم: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال".
الابن: الآن يا أبي فهمت كيف تذكرنا صلاتنا بأعدائنا اليهود في بدايتها وفي نهايتها فجزاكم الله خيرًا
ــــــــــــــــــــ(1/173)
التراويح
ليالي شهر رمضان حافلة بالخير، والمسلم الذاكر هو الذي يحييها بالقيام، ليفوز بمغفرة الله ورضوانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" [البخاري].
ومعنى "إيمانًا" أي تصديقًا بوعد الله تعالى، و"احتسابًا" أي طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه. ومن صلى التراويح كما ينبغي فقد قام رمضان.
والتراويح: هي الصلاة التي يؤديها المسلمون جماعة بعد صلاة العشاء. وقد سنَّها الرسول صلى الله عليه وسلم حين صلى بأصحابه ليلتين أو ثلاثًا، ثم تركها خشية أن تفرض عليهم، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيمًا، فعلها الصحابة فرادى، حتى جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصلاة خلف أبي بن كعب رضي الله عنه .
ذات ليلة من ليالي رمضان، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، وكان هناك عدد من الناس، فصلى بهم ثماني ركعات، ولما أصبح الناس تحدثوا عن هذه الصلاة.
وفي تلك الليلة، اجتمع في المسجد أناس أكثر ممن كانوا في الليلة السابقة، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات، وتكرر ذلك في الليلة الثالثة. وفي الليلة الرابعة، اجتمع عدد كبير من الناس في المسجد، حتى امتلأ عن آخره. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من بيته في هذه الليلة، وظل الناس ينتظرون حتى حان وقت صلاة الفجر، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم صلاة الفجر، فلما انتهت الصلاة، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وقال لهم: "أما بعد.. فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها". [البخاري].
ومرت سنوات، وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي شهر رمضان، دخل أمير المؤمنين المسجد النبوي ذات ليلة، فوجد الناس يُصلون صلاة التراويح؛ وكان منهم من يصلى وحده، ومنهم من يُصلي في جماعة، فلما رأى عمر ذلك قال: إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل (أي من الأفضل أن يصلوا في جماعة واحدة وخلف إمام واحد). ثم أمرهم أن يصلوا جميعًا في جماعة واحدة خلف أُبي بن كعب رضي الله عنه فكانوا يصلون خلفه التراويح بعد العشاء.
وفي ليلة أخرى من ليالي رمضان ، دخل عمر المسجد، فوجد الناس يصلون خلف أُبيّ، ففرح وانشرح صدره، وأثنى على طاعتهم، ولكنه كان يفضل أن يصلي صلاة التراويح في الثلث الأخير من الليل في بيته". [البخاري].
والتراويح جمع: ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام، وسميت بالتراويح لاستراحة المصلين عند أدائها بعد كل عدد من الركعات.
وتصلى صلاة التراويح: ركعتان ركعتان، فلو صلى أربع ركعات كالصلاة المفروضة بتسليمة واحدة لم يصح.
وتكون صلاة التراويح جماعة في المسجد أو انفرادًا بالبيت، ويفضل صلاتها جماعة في المسجد عند بعض الفقهاء، ويفضل صلاتها بالبيت عند بعض الفقهاء الآخرين.
وبعض المسلمين يصلون التراويح إحدى عشرة ركعة، وبعض آخر يصلي ثلاثا وعشرين، وبعض ثالث يصلي إحدى وأربعين.
ومن صلى بإحدى عشرة ركعة فقد اهتدى بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، قالت السيدة عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" [البخاري].
وصلاة التراويح سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يواظب المسلمون عليها، فترى بيوت الله تزدحم بالمصلين في ليالي رمضان، وقد رحم الله عز وجل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي كان أول من فكر في إنارة المساجد في رمضان؛ ليستطيع المسلمون في الشهر المبارك من إقامة صلاة التراويح، إضافة إلى إحياء شعائر الدين الحنيف. وقد مر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إحدى ليالي رمضان على المساجد فوجدها مزدانة ومضاءة بالقناديل من الداخل ومن الخارج، فقال: نور الله على عمر بن الخطاب في قبره، كما نور علينا مساجدنا".
أضف إلى معلوماتك
مالك بن أنس
ولد بالمدينة المنورة عام 93هـ من أبويين عربيين من أصل يماني.
حفظ القرآن وهو صغير وكانت أمه أشد المتحمسين لتعليمه وقد عنيت بثيابه ومظهره الخارجي واختارت له احسن المعلمين، ووجهته نحو العلماء وساعدته على التنقل في مجالسهم.
كان يدرس العلم في المسجد النبوي وقد اختار من المسجد المكان الذي كان عمر بن الخطاب يجلس فيه، كما اتخذ من الدار التي كانت لعبد الله بن مسعود دارًا له.
كلفه المنصور بتدوين كتاب في الفقه والحديث فاستجاب وصنف كتاب (الموطأ) وهو أول كتاب من نوعه تم تدوينه وهو كتاب فقه وحديث، ذكر فيه الأمام مالك المواضيع الفقهية ومع كل موضوع الأحاديث الواردة حوله، ثم وضع عمل أهل المدينة، ثم آراء وفتاوى الصحابة والتابعين.
وتوفي الأمام مالك عام 179هـ
رحمه الله تعالى رحمة واسعة ورضي عنه
ــــــــــــــــــــ(1/174)
حوت يونس عليه السلام
أرسل الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى بأرض الموصل بالعراق؛ ليهديهم إلى طريق الرشاد، فيؤمنوا بالله سبحانه، لكنهم كذبوه وأصروا على كفرهم وعنادهم، فلم ييأس يونس واستمر في دعوته، ومرت الأيام، وقوم يونس لم يؤمنوا بدعوته، ولم يستجيبوا لله ولرسوله، فضاق يونسعليه السلام بهم وبأفعالهم، فخرج من بينهم غاضبًا بعد أن أخبرهم أن عقاب الله نازل بهم. ولما خرج يونس عليه السلام من نينوى، خاف قومه من عذاب الله فخرجوا إلى الصحراء، وأخذوا أولادهم وأنعامهم وسجدوا لله، واعترفوا بذنبهم، وارتفعت أصواتهم بالدعاء، واشتد بكاؤهم، نادمين على ما صنعوا، طالبين من الله العفو والمغفرة، فرحم الله ذلهم ومسكنتهم، ورفع عنهم العذاب الذي حذّرهم منه يونس عليه السلام، قال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).
ولما خرج يونس من نينوى في اتجاه البحر وجد سفينة توشك على الإقلاع فركبها، وسارت السفينة حتى وصلت وسط البحر، وفجأة هبت العواصف، وارتفعت الأمواج وأوشكت السفينة على الغرق، فألقى الركاب الأحمال التي معهم في الماء، لتخفَّ حمولة السفينة، وتُكتب لهم النجاة، ولكن بقيت السفينة عرضة للخطر لثقل وزنها، فاستقر أمرهم على أن يجروا قرعة، ومن وقعت عليه ألقوه في البحر، فأجروا القرعة فوقعت على يونسعليه السلام فاستسلم لقضاء الله تعالى، قال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)، وألقى يونس بنفسه في الماء، فأرسل الله سبحانه وتعالى حوتًا ضخمًا، ابتلع يونس، وراح يطوف به في البحار.
وجد يونس نفسه وحيدًا في بطن الحوت، فأيقن أنه ميت، وأن ما أصابه لم يكن إلا بسبب تركه دعوة قومه وخروجه دون إذن من ربه، وما لم تتداركه رحمة الله، ويتنزل عليه عفوه، فسيكون من الخاسرين، فأخذ يذكر الله ويسبحه ويحمده، ويمجده ويوحده، ويستغفره، ويقر بالذنب بين يديه، ويقول: (لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
وأخذت كلمات يونس طريقها إلى الله عز وجل واستجاب الله دعاءه، فأمر الله عز وجل الحوت أن يلقي يونس برفق على الشاطئ، فأخرجه، وقد أصابه الضعف والجهد، فأنبت الله عليه شجرة ليستظل بظلها، وليأكل من ثمارها، حتى عادت إليه قوته وعافيته، قال تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، فالمؤمن يستقبل قضاء الله بنفس راضية، ويصبر على الدعوة إلى الله، ويوقن أن بعد العسر يسرًا، وأن فرج الله قريب مهما كانت الأزمة شديدة أو الضائقة التي وقع فيها عسيرة.
أضف إلى معلوماتك
الإمام الشافعي
هو: محمد بن إدريس الشافعي الذي يلتقي نسبه بنسب النبي .
ولد في غزة عام 150هـ.
ولد يتيم الأب فحملته أمه إلى مكة وهناك وجهته إلى طلب العلم.
نشأ الشافعي في مكة ونال قسطًا من المعارف الإسلامية واللغوية وحفظ القرآن،وعندما بلغ العاشرة اتجه نحو علم الحديث.
عند بلوغه العشرين من عمره ذهب إلى المدينة ولازم أمام أهل الحجاز مالك ابن أنس واخذ منه العلم لمدة تسع سنوات.
الشافعي هو مؤسس علم أصول الفقه وباني قواعده الأولى.
من مؤلفاته كتاب الأم وكتاب الرسالة.
سافر إلى بغداد واشتهر بها ثم ذهب إلى مصر عام 199هـ حتى مات عام 204هـ.
كان في غاية الذكاء بليغًا نهل العلم طوال حياته وقد مدحه كل من عرفه أثنوا عليه خُلُقًا وعلمًا وتدينًا وإخلاصًا في طلب العلم
رحمه الله تعالى رحمة واسعة ورضي عنه
ــــــــــــــــــــ(1/175)
أصحاب الغار
قصة اليوم هذه من أجمل القصص التي قرأتها، وهي قصة حكاها النبي صلى الله عليه وسلم، ورواها البخاري ومسلم، وتتمثل فيها قيم وأخلاق حسنة كثيرة، كالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والبر والإيمان.
ففي يوم من الأيام.. كان ثلاثة رجال يسيرون في طريق، فأمطرت عليهم السماء، ودخل عليهم الليل، فاضطروا إلى أن يدخلوا غارًا للمبيت فيه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم. قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق أي: لا أقدم في شرب اللبن الذي أحلبه قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي أي: بَعُدَ بي طلب الشجر يومًا فلم أرح أي: أرجع عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فبتُّ والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون أي: يصيحون من الجوع عند قدميّ، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه. قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍ كانت أحب الناس إليَّ، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمَّت بها سنة من السنينأي: أصابها فقر فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعَلَتْ، حتى إذا قدرتُ عليها قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه أي: لا تفعل ذلك إلا بعد الزواج، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركت المال الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله، أدِّ إليّ أجري.
فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق.
فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي.
فقلت: لا أستهزئ بك.
فأخذه كله فاستاقه أي: أخذه كله فلم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.
وكانت أعمالهم الصالحة سببًا في إنقاذهم من الموت داخل الغار.
أضف إلى معلوماتك
أحمد بن حنبل
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني
من كبار المحدثين وأحد أئمة الفقه الإسلامي وصاحب المذهب الحنبلي.
ولد في بغداد عام (164هـ 780م)
توفي والده قبل ولادته بشهور.
تولى أمره ورعايته بعد ولادته أمه وعماه "عبد الله بن حنبل، وإسحاق بن حنبل".
حفظ القرآن وهو صغير.
حفظ الحديث وعلومه على يد شيخه "أبي يوسف" تلميذ أبي حنيفة وكذلك (هثيم بن بشير السلمي).
خرج من بغداد لطلب العلم عام (186هـ 802م) قاصدًا البصرة والحجاز.
التقى في الحجاز بالإمام الشافعي ولازمه وأخذ عنه فقهه وأصوله وعرف فضله، وكان يقول عنه: "يرحم الله الشافعي، ما أصلي صلاة إلا دعوت لخمسة هو أحدهم ما يتقدمه منهم أحد".
كان معروفًا بذاكرته القوية الواعية، وكان يقوم بحفظ أحاديث النبي وفتاوى الصحابة والتابعين، وكان يتفهم ذلك كله تفهمًا تامًا ويفقهه.
كان مشهورًا بصفات عظيمة مثل: الصبر والجلد والزهد والورع والإخلاص في العمل والاقتداء التام بكل ما يصدر عن النبي من أقوال وأفعال.
في عام (218هـ 833م) تعرّض لمحنة قاسية حين أعلن "المأمون" دعوته إلى القول بخلق القرآن، وحمل الناس على قولها قهرًا، وسجن في عهد "المعتصم" حوالي 28 شهرًا.
ومن مؤلفاته: المناسك الكبير، والزهد، والناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله تعالى.ر والمسند وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنّة؛ حيث يحتوي على أربعين ألف حديث استخلصها من 750 ألف حديث.
توفي في 12 من ربيع الآخر 241هـ 30 أغسطس 855م، وعمره 77 عامًا ، ودفن في بغداد
رحمه الله تعالى رحمة واسعة ورضي عنه
ــــــــــــــــــــ(1/176)
اصح يا نائم
"اصح يا نايم.. وحد الدايم" نداء جميل أسمعه في رمضان فقط.. أسمعه قبل الفجر، ثم تتبعه طرقات على طبلة صغيرة، يحملها المسحراتي، ويدور بها على البيوت، وينادي أصحابها كل فرد باسمه؛ حتى يستيقظوا لتناول طعام السحور.
هذه الدعوة الجميلة للسحور عرفها المسلمون منذ صدر الإسلام، وكان "بلال بن رباح" رضي الله عنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذن بصوته الجميل، يشاركه "عبد الله بن أم مكتوم" رضي الله عنه في إيقاظ الناس للسحور وصلاة الفجر.
أما في مصر.. فقد كان الولي "عتبة بن إسحاق" أول من نادى بالتسحير عام 238هـ، وكان يخرج بنفسه ينادي: يا عباد الله، تسحروا فإن في السحور بركة". ومع مرور الأيام والسنين أصبحت مهنة يحترفها عدد من الناس، سُمّوا المسحراتية، وكان المسحراتي يبدأ جولاته بعد منتصف الليل، ممسكًا طبلة صغيرة، وحزاماً من الجلد الغليظ، يضرب به عليها، مصطحباً معه غلامًا يحمل فانوسًا، وهو يردد: "اصح يا نايم وحد الدايم".
وفي مكة قديمًا كان "الزمزمي" يتولى التسحير، فيمسك طرف حبل بيده، فيتدلى قنديلان كبيران معلقان أعلى الصومعة، فمن لم يسمع النداء ينظر القنديلين يهبطان، فإذا لم يسمع أو لم يرَ أحد القنديلين يعلم أن وقت السحور فات.
والسحور والإفطار هما الوجبتان اللتان يأكلهما الصائم في رمضان. فقبل أذان المغرب بدقائق أتوضأ للصلاة، وأذهب إلى المسجد المجاور بيدي ثلاث رطبات أتناولها بعد سماع طلقات مدفع الإفطار وأذان المغرب، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يفطر في رمضان على رطبات. فإن لم يجدها فعلى تمرات، فإن لم يجدها فعلى حسوات من ماء.
وبعد صلاة المغرب، أعود لبيتي وأجلس مع أسرتي إلى مائدة الطعام وأسمي الله وأحمد كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: "الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت". وكنت ألاحظ أبي يبتسم عندما يراني أتعجل الطعام، ويقول لي: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" [صحيح مسلم].
ويستحب في رمضان أن نعجل من الإفطار، وأن نؤخر من السحور، فقد كان بعض الصحابة يعجلون الفطر عندما تغيب الشمس، وكان بعضهم الآخر يؤخرون الفطر إلى دخول الليل. وسمع رجال من التابعين ذلك الأمر، فأرادوا أن يعرفوا أيهما أفضل: تعجيل الإفطار أم تأخيره؟ فذهبوا إلى السيدة عائشة رضي الله عنها وقالوا لها: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كلاهما لا يألوأي:لا يدخر جهدًا عن الخير؛ أحدهما يُعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، فقالت السيدة عائشة: أيهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قالوا: عبد الله بن مسعود، قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. [صحيح مسلم].
والإفطار يكون بعد غروب الشمس.. ففي يوم من أيام رمضان، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر مع أصحابه وكانوا صائمين، فلما غربت الشمس أمر الرسول صلى الله عليه سلم أحد أصحابه أن يجهز الطعام ويأتيه به.
فلما نظر الرجل إلى الشمس رأى آثار الضياء والحمرة في السماء، بعد غروب الشمس، فظن أن الإفطار لا يكون إلا بعد ذهاب الضياء والحمرة. ولما رأى الرجل ذلك طلب من النبي صلى الله عليه سلم أن ينتظر حتى يختفي الضياء ويأتي الظلام.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز الإفطار، ثم قال: "إذا غابت الشمس من ههنا وأشار بيده إلى المغرب، وجاء الليل من ههنا وأشار بيده نحو المشرق، فقد أفطر الصائم" [متفق عليه].
وأنا لا أجعل شهر رمضان موسمًا للأكل والطعام كما يفعل بعض الناس، ولكني أجعله شهر صيام وعبادة، فالطعام ضرورة من ضرورات الحياة ومتعها في نفس الوقت، والإنسان يأكل ليعيش، وليس يعيش لكي يأكل، وعدم الدقة في تنظيم الأكل والشرب، وعدم رعاية مقاديرهما الكافية يؤدي إلى خطرين؛ خطر الهزال والضعف، وخطر السمنة والبدانة.
وكلا الخطرين شر، يؤدي إلى الأمراض، فإذا شئنا أن نحيا حياة مليئة بالصحة والسعادة فعلينا أن نتبع الاعتدال في الطعام والشراب.
ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فثلث لطعامنا، وثلث لشرابنا، وثلث لنفَسنا،وعلينا أن نحرص على تحري الحلال، وإطعام الجائع وإفطار الصائم بلا إسراف ولا تقتير، "فما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه".
أضف إلى معلوماتك
المسجد الأموي
هو المسجد الجامع بمدينة دمشق، أنشأه الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان سنة 88هـ 707م، وجاء تصميمه على هيئة المسجد النبوي بالمدينة، وهو أول مسجد يتضمن محرابًا ومقصورة ومآذن وميضأة.. وعنه أخذت المساجد الأخرى شكلها وترتيبها.
وقد استغرق بناء المسجد تسع سنوات وقيل اشترك في بنائه نحو اثني عشر ألف عامل.
وقد توفي الوليد قبل أن يكتمل بناء المسجد بعام فأكمله أخوه (سليمان بن عبد الملك) تعرض المسجد لحريق كبير أتى عليه كلية في عام (1311هـ 1893م) ولم يبق منه إلا الجدران.
وفي سنة (1314هـ 1896م) بُدء في بناء المسجد ثانية وافتتح في رمضان (1316هـ 1898م) وللمسجد ثلاثة مداخل محورية وكان في كل ركن من أركانه الأربعة برج ولا يزال البرج الجنوبي الغربي باقيًا حتى اليوم.
وبالمسجد بضع نوافذ تشتمل على أقدم زخارف هندسية إسلامية معروفة.
وتعتبر أبراج المسجد الأربعة (المآذن الأولى في الإسلام) وبقي تأثيرها في تصميم المآذن ولا سيما في شمالي إفريقيا والأندلس.
كان المسجد مقرًا لأهل العلم، حيث يدرسون ويتعلمون ويعتكفون فيه وكان منهم حجة الإسلام الإمام (أبو حامد الغزالي)
ــــــــــــــــــــ(1/177)
العشر الأواخر والاعتكاف
أصدقائي: ونحن نبدأ من الليلة العشرة أيام الأخيرة من رمضان، دعوني أذكركم بفضل هذه الأيام، كما أخبرنا نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شهر رمضان: "هو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار".
وشهر رمضان كله خير وبركة، والمسلم يجتهد ويجد في هذا الشهر الكريم؛ لينال من هذا الخير، ويزيد في عبادته في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ لأن فيها الخير الكثير والكثير، ولها من الفضل الوفير، وفيها ليلة القدر.
ونحن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ عن السيدة عائشةرضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان مالا يجتهد في غيرها" [مسلم]. وقالت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد مئزره" [البخاري ومسلم].
ومما يدل على فضل العشر الأواخر من رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله فيه للصلاة والذكر؛ حرصًا على اغتنام هذه الليالي المباركة، بما هي جديرة به من العبادة، فإنها فرصة العمر، وغنيمة لمن وفقه الله عز وجل وينبغي على المؤمن العاقل ألا يفوّت هذه القصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليالٍ معدودة، ربما يدرك الإنسان فيها رحمة من رحمات اللهعز وجل فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة.
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان: الاعتكاف، وهو لزوم المسجد، والمكث فيه فترة معينة؛ بنية التقرب إلى الله تبارك وتعالى وهو سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، ويستحب الاعتكاف في غيرها، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها :"كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر في رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه بعده". [البخاري ومسلم].
وقالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة ايام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرينًا" [البخاري]. وكما أن الصيام ورع للقلب يقيه شرور الإسراف في الطعام والشراب، فكذلك الاعتكاف ينطوي على سر عظيم، وهو حماية العبد من آثار ارتكاب الذنوب.
وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "من اعتكف عشرًا في رمضان كان كحجتين أو عمرتين".
وفي العشر الأواخر توجد ليلة القدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان" [البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" [البخاري]. وليلة القدر خير من ألف شهر، أنزل الله فيها القرآن الكريم، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا لم يعطهن نبي قبلي، أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم، ومن نظر إليه الرحمن لم يعذبه أبدًا، وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يُمْسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، وأما الرابعة فإن الله يأمر جنته فيقول لها استعدي وتزيني لعبادي، يوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة فإذا كان آخر ليلة من رمضان غفر الله لهم جميعًا".
فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر يا رسول الله؟ فقال: لا.. ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم". [أحمد والبيهقي والبزار].
وعن علي بن عروة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أربعة من بني إسرائيل، عبدوا الله ثمانين عامًا لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب، وزكريا، وحزقيل بن العجوز، ويوشع بن نون، قال: فعجب أصحاب رسول الله من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك، فقرأ عليه: "إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر".
أضف إلى معلوماتك
رحمة الله تعالى
كانت مدة الإفطار تبدأ من غروب الشمس، وتستمر حتى أذان العشاء فقط، وكان المسلمون إذا نام أحدهم ساعة الإفطار دون أن يفطر واصل الصيام إلى اليوم التالي.
وذات يوم، كان رجل من الأنصار صائمًا، ولما غربت الشمس ذهب إلى بيته كي يفطر، فلم يجد طعامًا، فنام من شدة التعب والإرهاق، وذهبت زوجته لتحضر الطعام، فلما عادت وجدته نائمًا، فأيقظته كي يأكل، لكنه واصل الصيام؛ لأن وقت العشاء كان قد حان.
وفي اليوم التالي، ذهب ليعمل، فوقع على الأرض من شدة الجوع والتعب، فأخبر الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونزل قول الله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" [البقرة: 187].
فأصبحت مدة الإفطار من الغروب، وحتى أذان الفجر، وذلك من رحمة الله تعالى بالمسلمين
ــــــــــــــــــــ(1/178)
العابد والشجرة
يحكى أنه كان في بني إسرائيل رجل عابد، فجاءه قومه، وقالوا له: إن هناك قومًا يعبدون شجرة، ويشركون بالله، فغضب العابد غضبًا شديدًا، وأخذ فأسه، وذهب ليقطع الشجرة. وفي الطريق، قابله إبليس في صورة شيخ كبير، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال العابد: أريد أن أذهب لأقطع الشجرة التي يعبدها الناس من دون الله. فقال إبليس: لن أتركك تقطعها.
وتشاجر إبليس مع العابد، فغلب العابد إبليساً، وأوقعه على الأرض، فقال إبليس: إني أعرض عليك أمرًا هو خير لك، فأنت فقير لا مال لك، فارجع عن قطع الشجرة، وسوف أعطيك عن كل يوم دينارين.فوافق العابد. وفي اليوم الأول.. أخذ العابد دينارين، وفي اليوم الثاني أخذ دينارين. ولكن في اليوم الثالث لم يجد الدينارين، فغضب العابد، وأخذ فاسه، وقال: لا بدأن اقطع الشجرة.
فقابله إبليس في صورة شيخ كبير، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟
فقال العابد: سوف اقطع الشجرة.
فقال إبليس: لن تستطيع، وسأمنعك من ذلك.
فتقاتلا، فغلب إبليس العابد في هذه المرة، وألقى به على الأرض.
فتعجب العابد من أمره كيف استطاع أن يهزم هذا الرجل في المرة الأولى بسهولة، وفي هذه المرة يُهزم منه بنفس السهولة.
سأل العابد إبليساً: كيف غلبتني هذه المرة؛ وقد غلبتك في المرة السابقة؟ فقال إبليس: لأنك غضبت في المرة الأولى لله تعالى، وكان عملك خالصًا له، فأمكنك الله مني، أما في هذه المرة، فقد غضبت لنفسك لضياع الدينارين، فهزمتك وغلبتك.
هذه القصة الرائعة تدلنا إلى أن طريق الإخلاص في العمل هو أقصر الطرق لتحقيق الهدف والغاية. فالمخلص في عمله وفعله وقوله وإيمانه يحبه الله ويعينه ويسانده. قال تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرًا عظيمًا) [النساء: 146].
أضف إلى معلوماتك
محمد الفاتح
* مولده:
ولد "بأدرنة" بتركيا في 26 من رجب سنة 833هـ ، الموافق 20 أبريل سنة 1429م.
* شيوخه وأساتذته:
(أ) الملا أحمد بن إسماعيل الكوراني وهو أول أستاذ درسه، وهو الذي حبب إليه العلم، وحفّظه القرآن الكريم كله.
(2) الشيخ ابن التمجيد وكان إلى جانب صلاحه وتقواه شاعرًا حسن النظم بالعربية والفارسية.
(3) الشيخ سراج الدين الحلبي.
* اللغات التي يجيدها:
لغته التركية، وكذلك العربية والفارسية واللاتينية والإغريقية والسلافية وبعضًا من الإيطالية.
* صفاته:
كان السلطان محمد الفاتح قمحي اللون، متوسط الطول متين العضلات، كثير الثقة بنفسه، ذا بصر ثاقب وذكاء حاد ومقدرة على تحمل المشاق، يحسن ركوب الخيل واستعمال السلاح، ندر أن أدى صلاة في غير مسجد جامع، يريد بذلك التقرب من الله سبحانه وأن يوفق للعمل للإسلام، كان محبًّا للتفوق، سريعًا في فهم المواقف، يحسن معالجة الأمور، كبير اليقظة، بعيد النظر، وكان محبًا للعلماء ورجال الأدب، ولا يخلو مجلسه من ندمائه الأدباء والشعراء والفلاسفة ورجال الدين.
* أعظم أعماله:
القضاء على الدولة البيزنطية وفتح مدينة القسطنطينية وكذلك توطيد دعائم الخلافة العثمانية. فقد انتصر في العديد من المعارك، وقنن القوانين، وعمل على استقرار الحياة الداخلية، وأشاع الأمن والطمأنينة بين المسلمين.
* مدة حكمه:
إحدى وثلاثون سنة.
* من أقواله العظيمة:
نصيحته لولده وخليفته من بعده:
"ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لأني تارك خلفًا مثلك، كن عادلاً صالحًا رحيمًا، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الإسلام، فإن هذا هو واجب الخلفاء في الارض، وقدِّم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر، وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها. وسع رقعة البلاد بالجهاد، واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين، وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة؛ فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك، وأكرمه. رحمه الله تعالى
ــــــــــــــــــــ(1/179)
ليلة القدر
احتفل ويحتفل المسلمون بليلة القدر التي نزل فيها القرآن الكريم. وقد اختلف المسلمون في أي الليالي هي، وأشهر الأقوال أنها في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، إلا أننا أُمرنا أن نتحراها أي:نتوقعهافي الأيام الفردية من الأيام العشرة الأخيرة في رمضان،أي ليالي 21،23،25،27،29 من رمضان.
وليلة القدر هي ليلة الشرف وعلو المكانة، وهي خير من ألف شهر، قال الله عز وجل: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)
فيما نزلت أول آية من القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتعبد في غار حراء بعيدًا عن الناس، نزل قول الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
ثم توالى نزول القرآن الكريم رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وعن ليلة القدر روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا أصحابه فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر من رمضان، فقال ابن عباس لعمر: إني لأعلم أي ليلة القدر هي، فقال عمر: وأي ليلة هي؟ فقال: سابعة تمضي أو سابعة تبقى، من العشر الأواخر، فقال عمر: من أين علمت ذلك؟، قال ابن عباس: خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام، وإن الشهر يدور على سبع، وخلق الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، فقال عمر: لقد فطنت لأمر ما فطنا له.
وسميت ليلة القدر بهذا الاسم لأن الله تعالى يقدر فيها الأرزاق والأعمار وكل شيء في العالم، قال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، وسميت كذلك لعظم قدرها وشرفها، ولأنها تكسب من أحياها قدرًا عظيمًا لم يكن له قبل ذلك وتزيده شرفًا عند الله تعالى، ولأن العمل في هذه الليلة له قدر عظيم.
وقد خص الله سبحانه وتعالى أمة الإسلام بهذه الليلة المباركة، وأخفاها عنهم رحمة بهم، حتى يزيدوا في طاعته بانتظارهم لها وترقبها في العشر الأواخر من رمضان.
وليلة القدر لها علامات تعرف بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، وكأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ"النسائي.
وفي هذه الليلة يكثر نزول الملائكة إلى الأرض، ويكثر فيها نزول الرحمات والعمل فيها خير من عمل ألف شهر، وصيامها وقيامها خير من عبادة ألف شهر.
وليلة القدر سلام حتى مطلع الفجر، لذلك أحرص على أن أجد واجتهد لكي أنال بركة هذه الليلة، فأنا أعلم أنه لن ينال كسلان أو غافل ثوابها وبكرتها، وأن الذي يراقب الله فيقوم ليله ويصوم نهاره، ويتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار ويعتكف في مسجد الله يسبحه ويستغفره ويدعوه، ويرجو رحمته ويخشى عذابه، هو الذي سيفوز بهذه الليلة وبركتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
وفي هذه الليلة أدعو ربي قائلا: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" لما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله..إن وافقتُ ليلة القدر فماذا أدعو؟ فقال صلى الله عليه وسلم لها:" قولي:اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"الترمذي والنسائي.
فينبغي علينا جميعا أن لا ندع فرصة هذه الليلة العظيمة التي يستجاب فيها الدعاء تفوتنا،بل نحييها بالصلاة والقيام والدعاء لأنفسنا ولأهلنا وللمسلمين في كل مكان.
أضف إلى معلوماتك
رزق ساقه الله إليك
كانت أم إسحاق رضي الله عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأحضر رجل وعاء فيه طعام وعليه بعض اللحم، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه أم إسحاق حتى شبعت ... ثم قطع النبي صلى الله عليه وسلم قطعة من اللحم وناولها أم إسحاق، فتذكرت أم إسحاق أنها كانت صائمة ولكنها نسيت، وأكلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم فترددت في أن تأخذ اللحم منه صلى الله عليه وسلم، وأخذت تفكر، تمد يدها وتؤخرها، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: مالك؟ فأجابت: كنت صائمة، فنسيت، فقال ذو اليدين: الآن، بعدما شبعت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك" أحمد
ــــــــــــــــــــ(1/180)
معركة المنصورة
في مثل هذه الأيام المباركة من شهر رمضان، نتذكر معركة من معارك المسلمين ضد الظلم والكفر، كللها الله بالنصر المبين على أعداء الإسلام والمسلمين، هذه المعركة هي معركة "المنصورة" التي كانت في شهر رمضان سنة 647هـ ضد الصليبيين.
فقد قدم "لويس التاسع" ملك فرنسا يقود جيشًا قوامه 110 آلاف مقاتل، مزودين بأحدث أنواع الأسلحة، في أحدث حملة صليبية، وهي الحملة الصليبية السابعة ضد مصر، كان طابع الحملة استعماريًّا اقتصاديًّا، وقام الملك لويس التاسع بالاتصال مع المغول للضغط على الشرق الإسلامي من الجانبين، وواصل زحفه حتى استولى على دمياط سنة 1249م، ثم توجّه إلى المنصورة، وعلى ضفاف البحر الصغير دارت معركة حامية، اشترك فيها العربان والمشايخ والفلاحون، واشترك في تعبئة الروح المعنوية "العز بن عبد السلام" وهو يومئذ ضرير، وكان قائد الجيوش فخر الدين ابن شيخ الإسلام الجويني، وانتهت المعركة بأن أسر المسلمون من الصليبيين مائة ألف وقتلوا عشر آلاف، وأُسر الملك لويس التاسع، وسجن بدار ابن لقمان بالمنصورة، ثم افتُدي الملك بدفع (40 ألف دينار)، وأٌطلق سراحه.
وأثناء المعركة توفي الملك الصالح أيوب؛ فقاد مماليكه الحرب، وبدأت بهم الدولة المملوكية.
ويطلق اسم الحروب الصليبية على الحروب التي شنتها أوروبا ضد الشرق الإسلامي والمسلمين في الأندلس لمدة قرنين من الزمان، وبدأت مقدماتها في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) بهجوم بيزنطة على الشام، وهجوم دول الشمال الإسباني، مدعومة من البابوية ومن دول الفرنجة، منذ أواسط القرن الحادي عشر على الأندلس ، واحتلال طليطلة سنة 1085م، ثم احتلال صقلية من قبل النورماند سنة 1091م، واستمر النضال بين المسلمين والصليبيين حتى سقطت القسطنطينية في يد العثمانيين، وسقطت غرناطة في المقابل في يد الصليبيين سنة 1491م.
بدأت الحملة الصليبية الأولى سنة 1095م، وكانت تحمل في الظاهر الطابع الديني وحمل المحاربون على طول أجسامهم علامة الصليب، لتكون حربًا مقدسة، لكن الأطماع في ثروات بلاد المشرق كانت السبب الخفي. وكانت الحملة الصليبية الثانية بين عامي (1147 1149م) ، والثالثة بين أعوام (1189 1192م)، والرابعة بين عامي ( 1202 1204م)، والسابعة بين عامي (1248 1250م) والثامنة والتي قادها أيضًا لويس التاسع بعد أن أطلق سراحه، وتوجه بها إلى تونس سنة 1270م وقد توفي هناك، وفشلت الحملة. ثم تمت تصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام بعد ذلك على يد السلطان قلاوون (الذي حكم بين سنتي (1279 1290م)، والذي استولى على طرابلس، ثم استولى ابنه "خليل" على عكا، وأخْرَج منها سنة 1291م آخر القوى الصليبية في الشام.
وكانت الحروب الصليبية مناسبة مأساوية للقاء الشرق والغرب، ولكنها سمحت لأوروبا أن تستفيد كل الفائدة من الحضارة الإسلامية، والعلوم والاكتشافات التي توصل إليها علماء المسلمين، مما بعث فيها عصر النهضة، والذي كان الطريق نحو تقدمها العلمي والتكنولوجي الذي نشهده اليوم.
أضف إلى معلوماتك
الأجر للمفطر
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه بعض الصحابة في سفر طويل، وكانت الشمس في ذلك اليوم مُحرقة وشديدة الحرارة، فصام بعض الصاحبة، وافطر بعض آخر.
وبعد فترة من السير في الصحراء، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوقف في مكان ليستريحوا فيه. فقعد الصائمون، ولم يستطيعوا الحركة من شدة التعب والجوع والعطش، وقام المفطرون فنصبوا الخيام، وسقوا الإبل، وأخذوا يخدمون الصائمين.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" [مسلم]. أي أخذوا أجر قيامهم بالأعمال وثواب خدمتهم لإخوانهم الصائمين
ــــــــــــــــــــ(1/181)
فتح بلاد البلقان
في مثل هذا الأيام من شهر رمضان سنة 932هـ فتح المسلمون بلجراد، ومُهّد الطريق أمام المسلمين لفتح وسط أوروبا.
ففي عام 1520م تولى السلطان العثماني "سليمان القانوني" الخلافة، فأرسل سفيرًا إلى ملك المجر، يطالبه الالتزام بمعاهدة الصلح التي تم التوصل إليها مع الدولة العثمانية، فأمر ملك المجر بقتل السفير، فأعد السلطان سليمان حملة وجيشًا قويًّا يتكون من (100 ألف مقاتل)، و(300 مدفع)، و(800 سفينة) في نهر الدانوب؛ لنقل الجنود من شاطئ إلى شاطئ آخر، فقد كانت كثرة الأنهار والقنوات المائية تشكل عائقًا أمام الجيوش في هذه المنطقة من شرق أوروبا ووسطها.
وفي مثل هذا الأيام من شهر رمضان سنة 932هـ فتح الجيش العثماني مدينة بلجراد، وواصل الفاتحون زحفهم حتى فتحوا جزيرة رودس في البحر المتوسط، والتي كان يحتلها فرسان "القديس يوحنا"، وكانت تشكل عائقًا بين إسطنبول والقاهرة، وتعترض سفن الحجاج المبحرة من تركيا إلى الحجاز.
وبعد فتح بلاد الصرب، خرج جنود المجر، وتوقفت الجيوش العثمانية على هذه الجبهة فترة خمس سنوات؛ لانشغالها بالجهاد على جبهات أخرى.
وفي عام 1526م تحرك الجيش العثماني تحت قيادة السلطان "سليمان القانوني"، بعد أن انضمت إليه الحاميات العثمانية التي كانت مقيمة في بلاد الصرب نحو المجر، وجعل بلجراد قاعدة إدارية للجيش، وبعد أن فتح السلطان عددًا من القلاع الحصينة على نهر الدانوب، وصل إلى وادي "موهاتش" في 28 أغسطس سنة 1526م، ودارت أكبر معركة في تاريخ الدولة العثمانية ضد جيش المجر بقيادة الملك "لويس الثاني" الذي انهزم، وانتهت المعركة بقتله وتمزيق جيشه.
وطاردت قوات الجيش العثماني فلول وبقايا الجيش المجري حتى اقتربت من أبواب عاصمة المجر (بودا)، فسارع قادتها بتسليم مفاتيح المدينة إلى السلطان سليمان، الذي دخلها مُتوّجًا بالنصر في 10/9/1526م، وجمع السلطان سليمان رجال المدينة، واستشارهم في تعيين أمير "تراسلفانيا" (جان زابولي) ملكًا عليهم، فوافقوا، وبذلك انتهت مملكة المجر، وأصبحت تابعة للدولة العثمانية.
بقيت النمسا بعيدة عن الصراع حتى تلك الفترة، لكن ملكها "فرديناند" طمع في أن يضم بلاد المجر لملكه، فوجه جيشًا حارب الملك زابولي وانتصر عليه، فأرسل زابولي إلى السلطان سليمان، وأخطره بما حدث، فقاد السلطان جيشًا من 250 ألف جندي، و300 مدفع، وسار حتى وصل إلى "موهاتش" في سنة 1529م، فانضم إليه زابولي، وسار معه إلى "بودا" عاصمة المجر، فهرب منها ملك النمسا "فرديناند" إلى "فيينا" عاصمة بلاده، فطاردته القوات العثمانية حتى أبواب "فيينا"، فحاصرتها وقصفتها بالمدافع، وأمكن فتح عدد من الثغرات في أسوارها، ولكن لم يتمكن العثمانيون من فتحها سنة 1531م، فقرر السلطان سليمان رفع الحصار والعودة إلى عاصمته.
وبعد مناوشات بين الطرفين، توصلوا إلى صلح بينهما، ضمن الاستقرار في بلاد الصرب والبلقان، فتعرف أهالي هذه المنطقة على الإسلام والمسلمين من خلال التعامل معهم على أساس الشريعة الإسلامية.
ولكن استمرت النمسا في تنظيم التحالفات، وتوجيه الحروب ضد العثمانيين، خصوصًا بعد أن وجه البابا نداءً إلى الدول الأوروبية سنة 1594م، لإقامة تحالف ضد المسلمين.
وفي سنة 1595م اجتاحت قوات النمسا بلاد المجر مرة أخرى، وهزمت واليها، وقتلت والي البوسنة والهرسك "حسن باشا"، فقام الصدر الأعظم "سنان باشا" بالتحرك على رأس جيش كبير، استرد به القلاع والمدن التي احتلها النمساويون، فما كان من ملك النمسا "رودلف الثاني" إلا أن نظم تحالفًا ضد العثمانيين ضم ألمانيا ورومانيا وترانسلفانيا، وقام أمير رومانيا بجمع 4000 مسلم وقطع رقابهم، فقاد "سنان باشا" جيشه ودخل مدينة بوخارست عاصمة رومانيا، وأخضعها، ودمر الكثير من قوات هذا التحالف، وفي السنة التالية (1596م) قاد السلطان سليم الثاني جيشه، وهز التحالف الأوروبي، وكانت أرض المجر هي ساحة النزاع والحرب، وكان أهلها يفضلون حماية المسلمين لهم عن حماية النمساويين الذين كانوا يسترقونهم ويسيئون معاملتهم، وهو ما دفع أهل المجر إلى انتخاب الأمير "بوسكاي" ملكًا عليهم سنة 1605م، ووافقت عليه الدولة العثمانية.
أضف إلى معلوماتك:
* تسمى سورة الزلزلة نصف القران الكريم.
* تسمى سورة البقرة سنام القران الكريم.
* تنبت شجرة الزقوم في قعر جهنم .
* كان أول عيد فطر في الإسلام في العام الثاني للهجرة.
* سمي الصحابي قتادة بن النعمان الأنصاري ذو العينين أو ذو العين ، وذلك حين أصيبت عينه يوم أحد وسقطت ، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكانها.
* أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أهل مكة ليقرأ عليهم الآيات العشر الأولى من سورة التوبة
ــــــــــــــــــــ(1/182)
زكاة الفطر
صديقي العزيز.. حديثنا اليوم عن زكاة الفطر أو صدقة الفطر، وزكاة الفطر أو الإفطار هي مبلغ بسيط يدفعه المسلم عن طيب نفس للمحتاج، شكرًا لله تعالى على فضله وتوفيقه له وإعانته على الصيام، كما أنها تطهير لصيام المسلم من الشوائب التي أحاطت به وأنقصت من أجره، قال صلى الله عليه وسلم: "صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين" رواه أبو داود، كما أنها إشاعة للبر في العيد لتعم الفرحة كل المسلمين، فيدفع القادر من المسلمين إلى غير القادر مبلغًا يطهر به ماله ونفسه من البخل، وينقي غير القادر قلبه من الحقد والحسد، فتسود المحبة والمودة المجتمع المسلم قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"، وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته أن يُتْبِعَ صيام رمضان بكل ما فيه من تزكية للنفس بتزكية أخرى تبث البسمة والفرحة في قلوب المسلمين جميعًا.
* على من تجب:
زكاة الفطر يخرجها المسلم عن نفسه وعمن يعول أي: من يصرف عليهم من زوجته وأطفاله وخادمه ووالديه، بشرط كونه قادرًا على طعامه وطعام من يعول.
* متى تجب:
تجب بإدراك جزء من رمضان وجزء من شوال، ويجوز إخراجها من أول يوم من رمضان، ويكره تأخيرها عن صلاة العيد، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، ولا تسقط بالتأخير بعد الوجوب، بل تصير دينًا في الذمة حتى تؤدى.
* مقدارها:
مقدار زكاة الفطر صاع من غالب قوت ما يأكله أهل البلد، وهو ما يعادل تقريبًا دولارًا أمريكياً واحداً، ويجوز إخراج القيمة نقدًا إذا كان ذلك أنفع للفقير والمسكين.
* لمن تُصرف:
تصرف زكاة الفطر إلى الفقراء والمساكين، وفي وجوه البر العام، ويجوز إنفاقها لتعمير المساجد وإقامة الملاجئ والمستشفيات ودور العلم.
أضف إلى معلوماتك:
ذو الكفل عليه السلام
نسبه:
قال أهل التاريخ ذو الكفل هو ابن أيوب عليه السلام ونسبه هو نسب أيوب عليه السلام، وقد بعثه الله بعد أيوب وسماه ذا الكفل لأنه تكفل ببعض الطاعات فوفى بها، وكان مقامه في الشام، وأهل دمشق يتناقلون أن له قبرا في جبل هناك يشرف على دمشق يسمى قاسيون، ويرى بعض العلماء أنه ليس بنبي و إنما هو رجل من الصالحين من بني إسرائيل وقد رجح ابن كثير نبوته لأن الله تعالى قرنه مع الأنبياء فقال عز وجل في سورة الأنبياء ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) قال ابن كثير: فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام وهذا هو المشهور، والقرآن الكريم لم يزد على ذكر اسمه في عداد الأنبياء أما دعوته ورسالته والقوم الذين أرسل إليهم فلم يتعرض لشيء من ذلك لا بالإجمال ولا بالتفصيل، لذلك نمسك عن الخوض في موضوع دعوته حيث أن كثيراً من المؤرخين لم يوردوا عنه إلا النزر اليسير، ومما ينبغي التنبه له أن (ذا الكفل) الذي ذكره القرآن هو غير (الكفل) الذي ذكر في الحديث الشريف، ونص الحديث كما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً، على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال لها ما يبكيك ؟ أكرهتك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط وإنما حملتني عليه الحاجة، قال : فتفعلين هذا، ولم تفعليه قط؟ ثم نزل فقال: اذهبي فالدنانير لك، ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه : (قد غفر الله للكفل)، قال ابن كثير: ورواه الترمذي وقال : حديث حسن، وروي موقوفا على ابن عمر وفي إسناده نظر، فإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وإنما لفظ الحديث الكفل من غير إضافة فهو إذاً رجل آخر غير المذكور في القرآن.
ويذكر بعض المؤرخين أن ذا الكفل تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم ويقضي بينهم بالعدل فسمي ذا الكفل وذكروا بعض القصص في ذلك ولكنها قصص تحتاج إلى تثبت وإلى تمحيص وتدقيق
ــــــــــــــــــــ(1/183)
أول قيام ليل
أذكر أول مرة قمت فيها الليل، كان ذلك في الليلة الخامسة والعشرين من رمضان منذ 4 سنين، كان عمري حينها أحد عشر عامًا.. يومها أخذني والدي معه إلى المسجد، كانت الساعة تقترب من الواحدة والنصف صباحًا.. وكنت قد استعددت جيدًا لهذا السهر، فأخذت قسطًا جيدًا من النوم بعد صلاة العشاء، حتى أستطيع أن أؤدي هذا العمل العظيم بهمة ونشاط.
ولا أنسى أبدًا هذا اليوم ما حييت، فلا زال عالقًا في ذهني مشهد دخولي المسجد من الداخل، حيث بهرت وقتها بالأضواء، ولا أدري لماذا، فهذه الأضواء أراها كل يوم في صلاتي المغرب والعشاء، ولكن لا أدري لماذا بهرتني الأضواء هذه المرة، هل لأن المنطقة كلها مظلمة ودخلت على المسجد المنار، فكانت المقارنة بين الظلمة والنور؟ أم هل لأنني لم أتوقع أن أجد هذا النور ونحن في جوف الليل؟ لا أدري.. كل الذي أدري أنني لن أنسى هذا المشهد ما حييت.
ومما لفت انتباهي أيضًا هذا الكم الكبير من المصلين، فقد توقعت أن يكون العدد قليلاً نظرًا لتأخر الوقت، ولكني على العكس من ذلك وجدت المسجد ممتلئًا بالمصلين، وسرني أن أرى عددًا لا بأس به من المصلين الصغار مثلي جاءوا مع ذويهم لينالوا الثواب والأجر، وكان المشهد يهز القلوب، ويستحوذ على المشاعر، فجلال القرآن وجماله له هيبة ووزن وتأثير، والصوت النديّ للإمام يزيده تأثيرًا وتملكًا من القلب، لذلك أوصانا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نحسن أصواتنا في القراءة، وأخبر أبي بن كعب رضي الله عنه بأنه أوتي مزمارًا من مزامير داود، نظرًا لجمال صوته، وحسن قراءته للقرآن.
فتهيأت نفسيًا للخشوع قبل أن أدخل الصلاة، ولما دخلت في الصلاة عشت مع جلال القرآن، أفكر في كل كلمة فيه، أحاول فهمها وتدبر معناها، أسبِّح الله سبحانه عندما يرد ذكره، أو ذكر شيء من نعمه وآياته، أدعو بدخول الجنة إذا قرأ الإمام عنها، وأتعوذ من النار حين ذكرها، حتى إذا ركع الإمام ركعت، وأخذت أسبح الله طويلاً، وفعلت مثل ذلك في السجود، حيث أكثرت من الدعاء لله تعالى لي ولوالدي ولأهلي ولإخوتي وللمسلمين في كل مكان.. دعوت الله أن يرحمني، وأن يتقبلني عنده في عباده الصالحين، ودعوت لوالديَّ اللذين ربياني صغيرًا واعتنيا بي، ودعوت لإخوتي وأصحابي بالهداية والتوفيق والنجاح، ودعوت للمسلمين في كل مكان بأن ينصرهم الله، ويرفع عنهم بأس عدوهم، وأن يهديهم إلى فهم الإسلام والعمل به.
والغريب والجميل في آن واحد أنني لم أشعر بالتعب، رغم أن الركعتين قد استغرقتا حوالي نصف الساعة، وما ذلك إلا لعون الله لي أولاً، ثم لخشوعي مع الإمام في الصلاة، مما أنساني تعب الجسم في ظل سعادة القلب.
وهكذا أكملت صلاة الركعات الثماني، ثم صليت الشفع والوتر، وعدت مع والدي إلى البيت، وأنا أشعر أني إنسان جديد، إنسان ذو همة عالية، وقلب رقيق، وأخلاق حسنة، نعم يا إخوتي.. هذا ما فعلته صلاة قيام الليل فيَّ، فقد علمتني كيف أكون حسن الصلة بالله، وفهمتني فضل أهلي عليَّ، وحثتني على أن أكون تقيًا حسن الخلق مع الناس جميعًا.
ولذلك طلبت من والدي أن يأخذني معه كل يوم، ولكنه أشفق عليَّ، وذكرني بأن عليَّ الذهاب للمدرسة كل يوم في الصباح الباكر، ولذلك فهو سيأخذني هذا العام أربع مرات فقط، على وعد منه أن يزيد عدد المرات في رمضان التالي، وقد كان، ثم زيارة أخرى في رمضان الذي يليه، وهكذا، حتى أصبحت أصلي القيام كل ليالي العشر الأواخر من رمضان.
وهذه الصورة "صورة أول قيام ليل" لا زالت عالقة في ذهني واضحة تمامًا رغم مرور أربع سنوات عليها، صليت خلالها الكثير من الليالي بفضل الله تعالى ولكنها تبقى هي الأجمل، لأنها الأولى
ــــــــــــــــــــ(1/184)
كيف نشكر الله؟
مع الأيام الأخيرة لشهر رمضان.. قال لي والدي: قد أوشك رمضان على الانتهاء، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا، ولكن علينا أن نشكر الله تعالى أن جاءنا رمضان ونحن بصحة وعافية، فتمكنا بمعونة الله من الصيام ومن أداء العبادات.
فقلت: وهل الله في حاجة لهذا الشكر؟ قال: نحن الذين في حاجة للشكر يا ولدي، فالشكر اعتراف منا بنعم الله، وهو طريق لبقاء النعمة وعدم زوالها، وقد روي عن الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه أنه قال: "النعمة موصولة بالشكر"، فحتى تبقى النعمة وتزاد فعلينا أن نشكر الله تعالى عليها؛ لأنه سبحانه قد تفضَّل بها علينا، ورمضان هو من أعظم هذه النعم؛ لأنه كما عرفت سابقًا يا ولدي شهر الثواب الكبير، فأوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ونحن لا ندري إن كنا سندرك رمضان القادم لننال هذا الأجر العظيم أم لا.
قلت: وكيف نشكر الله تعالى يا أبي؟
قال: شكر الله تعالى يكون بعدة طرق:
يكون باللسان، وذلك بتسبيح الله تعالى وذكره الدائم، وشكره على نعمه الواسعة.
ويكون الشكر بالقلب، وذلك بتعظيم الله تعالى وإجلاله وتوقيره.
ويكون الشكر كذلك بالعمل، وذلك بعمل ما أمر الله به، والابتعاد عما نهى الله عنه، تخيل معي يا بني لو أن شخصًا أحسن إليك، أو قدم إليك خدمة، ثم بدلاً من أن تشكره على ذلك إذا بك تشتمه وتسبه، فهل هذا الفعل يليق؟ قلت: بالطبع لا، وكيف يكون ذلك؟ قال: فلله تعالى المثل الأعلى، فنعمه لا يمكن أن تقارن بأي شيء أو أحد في الدنيا، وصدق الله تعالى حين قال: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)، فهل يليق بنا ونحن لا نستطيع أن نحصي نعم الله تعالى أن نفعل ما يغضبه؟ إن المعاصي والذنوب من أشد ما يغضب الله تعالى لأننا بذلك كأننا نجاهره سبحانه بالعداوة، ومن يستطيع أن يفعل ذلك مع الله الجبار القهار؟ وانظر يا بني إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كم كان شاكرًا لربه عارفًا لفضله، فكما روى الإمام البخاري:أنَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَكان يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَهُ:أوما قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَيَقُولُ: " أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".
قلت: صلى الله عليه وسلم.. ونحمد الله على نعمه الكثيرة، وفضله العظيم..
قال: يا ولدي، إذا ما حدث لك شيء تحبه، أو زال عنك شيء تكرهه، فاسجد لله تعالى شاكرًا.
قلت: شكرًا لله دائمًا.. ففضله أكبر من أن يشكر.. والحمد لله دائمًا.
أضف إلى معلوماتك
في رواية الحديث
أبو هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وروى 5374 حديثا ، وبعده عبد الله بن عمر ثم انس بن مالك ثم عائشة ثم ابن عباس رضي الله عنهم.
علم النحو
ينسب علم النحو إلى الشاعر والنحوي أبو الأسود الدؤلي، أول من وضع علم النحو وأول من وضع نقاط الحروف ، كان ذلك زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
التقويم الهجري
أمر الخليفة عمر بن الخطاب بالعمل بالتقويم الهجري بعد 16 عاما من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، وتتألف السنة فيه من 12 شهرا وكل شهر يساوي 29 يوما أو 30 يوما وعدد أيام السنة 354 يوما أو 355 يوما ويبدأ التاريخ به من 16 يوليو 622
ــــــــــــــــــــ(1/185)
بر الوالدين
مع الأيام الأخيرة من رمضان، جلست أنا وأختي، وأخذنا نتحدث كيف مضى هذا الشهر الجميل بسرعة كبيرة كعادته كل سنة، وكيف هو شهر مطلوب منا فيه الطاعة والعبادة. قالت لي أختي: أليس من الأمور المستحبة في رمضان صلة الرحم وبر الوالدين؟
قالت: صلة الرحم وبر الوالدين مطلوبان في كل وقت، ولكنهما في رمضان أكثر استحبابًا، لأن رمضان هو شهر الودّ والمحبة وشهر اجتماع الأسرة وتقاربها.
قالت: وهل تحفظ شيئًا مما وصى به ديننا عن بر الوالدين؟
قلت: نعم أحفظ قال تعالى: "وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"، وقال: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بصحبتي؟
قال: "أمك"، قال: ثم من؟، قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك ثم أبوك"، وقال صلى الله عليه وسلم: "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم، والحج والعمرة، والجهاد في سبيل الله".
قالت: يا الله، كم نحن مقصرون في حقهما رغم الثواب العظيم الذي أعده الله لمن أطاعهما، ولكن كيف نستطيع أن نكون بارين بهما؟
قلت: لا أدري بالتحديد، ولكني أظن أننا علينا أن نطيعهما في كل ما يطلباه منا، فلا نكذب عليهما في شيء، وأن نساعدهما في أعمال المنزل، وأن نزور أهلنا وأقاربنا، لأن في زيارتهما إسعاد لهم، وبالتالي إسعاد لوالدينا.
قالت: أظن أن اجتهادنا في الدراسة يدخل في بر الوالدين لأن هذا الأمر يسعدهما.
قلت: أحسنت، نعم هذا أمر مهم، إن اجتهادنا الدراسي جزء مهم من طاعتنا لوالدينا يغفل عنه الكثيرون، ولذلك يجب التنبيه وتذكير جميع أصحابنا بذلك.
قالت: وماذا سنعمل الآن؟
قلت: أهم شيء أن نفكر ثانية في علاقتنا بوالدينا، خاصة في العيد، حيث تعم الفرحة الجميع، ووالدينا هما أولى الناس بإفراحهما.
قالت: فلنتفق على ذلك.
قلت: اتفقنا، فهيا إذن إليهما لنقبل يديهما، ونجدد حبنا لهما.
أضف إلى معلوماتك:
الربيع بن خُثيم
هو الربيع بن خثيم بن عائذ، الإمام القدوة، العابد ، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له صحبة، قال فيه عبد الله بن مسعود: "يا أبا يزيد لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرتُ المخبتينأي: الخاشعين لله".
كان شديد الخوف من الله تعالى، قالوا: صحبت الربيع عشرين عامًا ما سمعت منه كلمة عتاب، وسئل يومًا: كيف أصبحت؟ قال: ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. وكان يقول: ما أنا عن نفسي براض، فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس، تعالى في ذنوب الناس.
وكان يحب أن يخفي عمله، فإذا نشر المصحف وجاءه رجل غطى المصحف بثوبه حتى لا يراه أحد، وكان يحب أن يعطي خير ما عنده لله، فإذا جاءه مسكين قال: أعطوه سكرًا فإن الربيع يحب السكر، وكان يعطي للسائل رغيفًا ويقول: إني استحي أن ألقى ربي وفي صحائفي نصف رغيف.
وكان الربيع رحيمًا حتى بمن يؤذيه، فقد سُرق منه فرس، فقال له أهل المجلس: ادع الله عليه، فقال: بل أدعو الله له "اللهم إن كان غنيًا فاقبل بقلبه، وإن كان فقيرًا فأغنه".
من أقواله:
أقلّوا الكلام إلا بتسع: تسبيح، وتكبير، وتهليل، وتحميد، وسؤالك الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءة القرآن.
ما غائب ينتظره المؤمن خير من الموت.
لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة فسد علي.
أكثروا من ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثله، فإن الغائب إذا طالت غيبته وجبت محبته وانتظره أهله وأوشك أن يقدم عليهم.
وفاته:
توفى الربيع قبيل سنة خمس وستين وكانت وصيته: "هذا ما أوصى به الربيع على نفسه وأشهد الله وكفى بالله شهيدًا وجازيًا لعباده الصالحين ومثيبًا، إني رضيت بالله ربًا، وبمحمد نبيًا، وبالإسلام دينًا، ورضيت لنفسي ومن أطاعني بأن أعبد الله في العابدين، وأحمده في الحامدين، وأنصح لجماعة المسلمين"
- - - - - - - - - - - - - - - -
فتاوى الصيام قبل شهر رمضان
قضاء ما فات من رمضان في شهر شعبان
الدكتور يوسف القرضاوي
ما فات من رمضان من أيام على المسلم أو على المسلمة أن يقضيه عند الاستطاعة حينما تتاح له الفرصة، طيلة أشهر العام، قبل رمضان التالي، ومعنى هذا أن أمام المسلم أحد عشر شهرًا يستطيع أن يقضي فيها ما فاته من رمضان، سواء كان أفطر لعذر مرض أو سفر أو لعذر حيض أو لغير ذلك من أعذار.
وهناك نوع من السعة في الشرع لقضاء ما فات من رمضان، يستطيع المسلم أن يقضي في شوال أي بعد رمضان مباشرة وما بعد شوال.
ولا شك أن المبادرة أفضل، مسارعة في الخيرات، كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ولأن إنسانًا لا يضمن أجله، ولهذا يكون الأحوط لنفسه والأضمن لآخرته أن يعجل بإبراء ذمته بقضاء ما فاته.
فإذا أجّله لعذر ما، كشدة الحر، أو لضعف وعجز في صحته، أو طرأت عليه مشاغل لم يتمكن معها من الصوم قضاء ما فاته، يستطيع أن يقضي إلى رمضان الآتي.
فإذا جاء شعبان ولم يقض ما فاته، فإن عليه أن يقضي في شعبان، لأنه الفرصة الأخيرة وقد كانت تفعل ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه، فقد كانت كثيرًا ما يفوتها بعض أيام من رمضان، فتقضيها في شعبان.. وذلك لا حرج فيه، وإن كان هناك اشتباه لدى بعض الناس في هذا الأمر، فهذا لا أساس له من الشرع؛ إذ كل الشهور يمكن أن تكون محلاً لقضاء ما فات من رمضان.
ولكن هب أن إنسانًا كان مريضًا في شهر رمضان الماضي، وحتى الآن، وقد وافاه رمضان التالي وهو على حاله من المرض، لا يستطيع قضاء ما فاته إلا بمشقة شديدة وحرج وإعنات. ومثل هذا يبقى ما فاته من صيام رمضان دينًا مؤجلاً عليه إلى ما بعد رمضان، حين يستعيد صحته ومقدرته على الصيام، ولا حرج عليه في ذلك؛ فالله تعالى ختم آية الصوم بقوله: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).
------------------
التتابع في صيام رجب وشعبان رمضان
الدكتور محمد سيد أحمد المسير**
الصيام عبادة فيها نبل وسمو إنساني وتشبه بالملأ الأعلى، وشأن المسلم أن يجعل من أيام دهره أوقات للصيام، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهرة العامة لصيام الرسول الكريم أنه لم يصم شهرًا كاملا إلا رمضان، ولم يكن يخلي شهرًا من صيام ، وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا كله ؟ قالت: ما علمته صام شهرًا كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه ، حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم .
وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخص شهر شعبان بمزيد الصيام عن باقي الشهور، وتقول السيدة عائشة: وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان .
أما ما ورد من قولها كان يصوم شعبان كله، فمفسر برواية أخرى تقول: كان يصوم شعبان إلا قليلا ً
أما شهر رجب فقد قال الإمام النووي : لم يثبت في صومه نهي ولا ندب لعينه ولكن أصل الصوم مندوب إليه ، وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ، ورجب أحدها .
وعلى هذا فتتابع الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان بالصيام ليس من السنة والاتباع أولى، فيمكن للمسلم أن يصوم من رجب ما شاء الله دون أن يستكمله ويصوم من شعبان ما شاء الله دون أن يستكمله ثم يتم صيام رمضان على جهة الفريضة .
ويصف لنا ابن عباس صيام رسول الله في النافلة فيقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم .
فالمسألة -إذن راجعة إلى انشراح الصدر للعبادة والإقبال على الطاعة بفرح وسرور بلا ملل أو فتور .
_________________
** الأستاذ بجامعة الأزه
قضاء الصيام عن سنوات ماضية
ماذا تفعل المرأة التى لم تقض ماأفطرته من رمضان فى سنوات ماضية؟ ... السؤال
21/09/2005 ... التاريخ
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي ... المفتي
الحل ...
... الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد
على المرأة أن تقضي ما فات من رمضانات ماضية، إن كان هذا التأخير عن عذر، ولا شيء عليها، أما إن كان هذا التأخير بغير عذر ، أو كان الإفطار في رمضان بغير عذر فتقضي مع الإثم أيضا، فإن عجزت عن الصيام فعليها الكفارة.
من كان عليه صيام أيام من رمضان، أفطر فيه بعذر، كالمريض والمسافر والحائض، والنفساء، ومن شق عليه الصوم، مشقة شديدة، فأفطر، والحامل والمرضع، عند من يرى عليهما القضاء، فينبغي له أن يبادر بقضاء ما فاته بعدد الأيام التي أفطر فيها، تبرئة لذمته، ومسارعة إلى أداء الواجب، واستباقًا للخيرات.
أما المريض والمسافر فقضاؤهما ثابت بالقرآن: (فعدة من أيام أخر) وأما قضاء الحائض والنفساء، فهو ثابت بالسنة، عن عائشة: كنا نحيض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة.
ولا يأثم بالتأخير مادام في نيته القضاء لأن وجوب القضاء على التراخي، حتى كان له أن يتطوع قبله على الصحيح.
ويدل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون علىَّ الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان 703).
وكذلك من أفطر بغير عذر من باب أولى، كمن أفسد صومه عامدًا، بما يوجب الكفارة، كالجماع، أو بما لا يوجب الكفارة، كالأكل أو الشرب، عند أكثر الفقهاء فعليه القضاء أيضًا، كما بينا ذلك في موضعه.
ويجوز أن يكون قضاء رمضان متتابعًا وهو أفضل، مسارعة إلى إسقاط الفرض، وخروجًا من الخلاف (فقد أوجبه بعض العلماء لأن القضاء يحكى الأداء، وهو متتابع) وأن يقضيه مفرقًا، وهو قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل، لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه فيه، فأما بعد انقضاء رمضان، فالمراد صيام عدة ما أفطر، ولهذا قال تعالى: (فعدة من أيام أخر) ولم يشترط فيها تتابعا.. بل قال بعدها: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
ومن أفطر في قضاء رمضان متعمدًا ولو بالجماع فلا كفارة عليه، وإنما عليه يوم مكان يوم، وذلك لأن الأداء متعين بزمان له حرمة خاصة، فالفطر انتهاك له، بخلاف القضاء، فالأيام متساوية بالنسبة إليه.
ومن أتى عليه رمضان آخر، ولم يقض ما عليه من رمضان الفائت، فإن كان ذلك بعذر فلا شيء عليه بالإجماع، لأنه معذور في تأخيره.
وإن كان تأخيره للقضاء بغير عذر، فقد جاء عن عدد من الصحابة: أن عليه عن كل يوم إطعام مسكين، كفارة عن تأخيره.
وأخذ بذلك مالك والثوري والشافعي وأحمد وغيرهم (المغني مع الشرح الكبير 81/2).
وهناك رأي آخر: أن لا شيء عليه غير القضاء وهو رأي النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، ورجحه صاحب (الروضة الندية) لأنه لم يثبت في ذلك شيء، صح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم، وهي ليست حجة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدًا من عباده، والبراءة الأصلية، مستصحبة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح (الروضة الندية لصديق حسن خان 232/1).
وأرى الأخذ بما جاء عن الصحابة على سبيل الاستحباب، لا الوجوب، فهو نوع من جبر التقصير بالصدقة، وهو أمر مندوب إليه. أما الوجوب فيحتاج إلى نص من المعصوم ولم يوجد.
على كل حال، فإن حدث معك مثل هذا فعليك القضاء جزمًا، أما الإطعام أو الفدية فإن فعلتيها فحسن، وإن تركتيها فلا حرج عليك إن شاء الله، حيث لم يصح شيء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
أما عند الشك في عدد الأيام، فيعمل الإنسان بغالب الظن، أو باليقين .. فلكي يطمئن الإنسان على سلامة دينه وبراءة ذمته، فليصم الأكثر، وله على ذلك مزيد الأجر والثواب.
والله أعلم
ــــــــــــــــــــ(1/186)
حكم تأخير القضاء فى الصيام
ما حكم من جاءعليهارمضان قبل أن تقضى الأيام التى عليها؟ ... السؤال
16/11/1999 ... التاريخ
الحل ...
جمهور العلماء يوجب فدية على من أخّر قضاء ما فاته من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، وتتأكد هذه الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم بما يكفيه غداء وعشاء إذا كان تأخير القضاء لغير عذر، واستدلوا على هذا الحكم بحديث موقوف على أبي هريرة، أي أنه من كلامه هو، ونسبة هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رفعه إليه ضعيف، كما أن هذا الحكم مروي عن ستة من الصحابة، ولم يعلم يحيى بن أكثم مخالفًا لهم، منهم ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا فدية مع القضاء، وذلك لأن الله تعالى قال في شأن المرضى والمسافرين: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يأمر بفدية، والحديث المروي في وجوبها ضعيف لا يؤخذ به.
قال الشوكاني "نيل الأوطار ج4 ص318" منتصرًا لهذا الرأي: ليس هناك حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وأقوال الصحابة لا حجة فيها وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالتكاليف حتى يقوم الدليل النقلي عليها، ولا دليل هنا، فالظاهر عدم الوجوب.
وقال الشافعي: إن كان تأخير القضاء لعذر فلا فدية، وإلا وجبت، وهذا الرأي وسط بين الرأيين السابقين، لكن الحديث الضعيف أو الموقوف الوارد في مشروعية الكفارة لم يفرق بين العذر وعدمه. ولعل القول بهذا الرأي يريح النفس لمراعاته للخلاف بصورة من الصور، ثم إن قضاء رمضان واجب على التراخي، وليس على الفور وإن كان الأفضل التعجيل به عند الاستطاعة، فدين الله أحق بالقضاء العاجل، وثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد أن عائشة رضي الله عنها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان، ولم تكن تقضيه فورًا عند قدرتها على القضاء.
ويلزم في القضاء التتابع والموالاة، فقد روى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه سلم قال في قضاء رمضان: (إن شاء فرق وإن شاء تابع).
- - - - - - - - - - - - - -
أعيادنا
في بيوت الانتفاضة.. عيد مختلف جدًّا
اعتدال قنيطة
فلسطين الجيل للصحافة ... 26/12/2000
فقد عيد الفطر الكثير من الأمور التي اعتاد عليها الشعب الفلسطيني، وأُطلق العديد من الأسماء على هذا العيد الذي تميز بكثرة الشهداء ومآسيه مثل: عيد الحزن، عيد الشهداء، عيد اليتيم.
ولكن هل ستقتصر مظاهر العيد القادم في الأراضي الفلسطينية على الصلاة فقط؟ وكيف سيستقبل أهالي الشهداء والجرحى العيد الأول لشهدائهم؟ وما هو أهم ما سيطرأ على الشارع الفلسطيني في هذا اليوم لمواساة منكوبيه؟
ذكريات أبناء الشهداء
التقينا بـ هويدا بسام البلبيسي "17 " عاما الطالبة في الصف الثاني الثانوي ابنة الشهيد بسام البلبيسي الذي ارتفع شهيدا أثناء محاولته إنقاذ الطفل محمد الدرة ووالدته قالت بعدما ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها " كل طفل وطفلة في العالم ينتظر العيد بسعادة ليلبس ملابس العيد الجديدة ويأكل الحلوى ويذهب مع والده الى الأماكن العامة للتنزه وزيارة أقاربه، إلا أنا وأمثالي من أبناء الشهداء، لا نتمنى أن يأتي العيد إلينا؛ لأنه عيد حزن وبكاء على فراق الأب الحنون الذي حرمنا بموته معاني الفرح بقدوم العيد وسأمضي أنا وإخوتي في كل لحظة من أيام العيد مع ذكريات أبي، وفي هذا الركن كان يجلس ونحن حوله، وفي هذا الوقت كان يذهب معنا لزيارة أقاربنا، وكان وكان ... وهكذا حزن وبكاء لا ينقطع وكذلك أمي وجدتي المكلومة التي لم تجف دموعها بعد على ولدها الوحيد.
العزاء من جديد
أضافت هويدا وهي تمسح دموعها "يوم العيد لن يمر حتى كيوم عادي، بل هو أسوأ وأحزن أيام العام، سنفتح باب العزاء بوالدي من جديد، وسنستقبل المواسين لنا من الأهل والجيران لفقدان والدنا؛ فيوم العيد سيكون اليوم الرابع للعزاء؛ لأنه سيكون شبيها بيوم مواراة جسد أبي الطاهر الثرى من الحزن والبكاء والمواسين وسنذهب لزيارة قبره.
أما أختها الطفلة نسب "6 " سنوات فقالت بلهجة غاضبة " لا أحب العيد " وما فائدة العيد وأبي غير موجود بيننا؟ يشتري لنا الحلي والملابس ونذهب معه لزيارة عماتي ونأخذ منه العيدية مثل كل الأطفال لنفرح بها.. لن أخرج يوم العيد من المنزل لألعب مع الأطفال كما كنت أفعل في السابق، وسأحبس نفسي في الغرفة حتى لا أرى الأطفال وهم يلعبون فرحين بملابس العيد وبزيارة أقاربهم ووجود والدهم معهم.
يذكر أن الشعب الفلسطيني اعتاد في الأعياد زيارة ذوي الشهداء والجرحى ومن فقد عزيزا، وفي هذا العيد الذي يأتي والشعب مثخن بالجراح ستتحول فيه مقابر الشهداء المنتشرة في الأراضي الفلسطينية إلى بيوت عزاء كبيرة، وسيفتح الجرح من جديد في كافة بيوت الشهداء التي ستتحول هي الأخرى الى بيوت عزاء.
عيد الجرحى أيضا
أما أهالي الجرحى الذين أدميت قلوبهم بإعاقة ولدهم وعدم قدرته على العودة إلى حالته الأولى من القدرة على الخروج معهم أو ما زال يرقد أحد أفرادهم في المستشفى ويتلقى العلاج فيها، فالتقينا بعدد من جرحى انتفاضة الأقصى في مستشفى الشفاء بغزة، فالشاب عماد جرور "24" عامًا متزوج وله طفلان ما زال يرقد على سرير العلاج في مستشفى الشفاء إثر إصابته بشظايا قذيفة صهيونية في 18/12 في مدينة رفح التي يقطنها قال: "ما زال وضعي الصحي لا يسمح لي بمغادرة المستشفى، ومضطر لأن أقضي العيد على فراش المرض داخل المستشفى، وسيحضر إلى المستشفى زوجتي وأولادي وأقاربي ليهنئوني بالعيد "الحزين"، ولا أدري إن كان يستطيع أهلي القدوم الى المستشفى لصعوبة التنقل بين مدن قطاع غزة رغم صغرها وتلاصقها ببعضها البعض بسبب الحواجز العسكرية التي فصلت بها قوات الاحتلال الصهيونية جنوب القطاع عن مدينة غزة وشماله والخطر الذي يتعرض له القادم من جنوبه لكثرة عمليات الاغتيال على الحواجز العسكرية في قطاع غزة، وأضافت زوجته التي ترافقه منذ اليوم الأول لإصابته " لا يستطيع إخوة عماد زيارته والمكوث بجواره بسبب الأوضاع الصعبة التي نعاني منها بسبب كثرة عمليات الاغتيال على الحواجز والغضب الذي يندفع مرة واحدة على المواطنين الفلسطينيين بدون مبرر، فيطلق الجندي الصهيوني العنان لرشاشه ودبابته ليصطاد مَن يشاء من المواطنين وبدون ذنب ارتكبه، واضطررت أنا للمكوث بجواره بعدما تركت أطفالي عند والدتي لتعتني بهما طوال فترة غيابي".
وقاطعها عماد الجريح قائلا: "منذ اندلاع انتفاضة الاقصى وأنا لا أستطيع أن أذهب إلى عملي مثل غيري الكثيرين من العمال الفلسطينيين الذين أوشك أن ينكشف عنا الغطاء؛ لانعدام الدخل علينا، وحرمتْ نفسي من أن تفرح بأول عيد يأتي على ابنتي الصغيرة وارتدائها ملابس العيد، ولن أستطيع أن أعطي أخواتي ما قسم الله لهن كما اعتدت على ذلك كل عام، ولا أدري كيف أقابلهن هذا العام بيدٍ لا تحمل حتى ولو هدية رمزية بسيطة".
عيد بالهاتف فقط؟!!
وبدا الفتى باسل اللداوي 17 عاما في الصف الثاني عشر الذي ما زال يرقد على سرير العلاج في مستشفى الشفاء منذ إصابته برصاص جيش الاحتلال بساقه بتاريخ 28/11 بدا حزينًا جدًّا وخائفًا من اضطراره إلى قضاء عيد الفطر داخل المستشفى وعلى سرير المرض، وقال: كم أتمنى أن أتمكن من المشي ثانية لأخرج في العيد أفرح مع أصدقائي، نتجاوز الحزن الشديد الذي غطى على جميع معالم الحياة في الشارع الفلسطيني، سأؤكد للصهاينة الكلاب أن كثرة عدد الشهداء والمصابين لن تمنعنا من الابتهاج والفرح بقدوم عيد الفطر الذي فرضه الله علينا. وأعرب باسل عن أمله بأن تمر أيام العيد بدون شهداء أو جرحى، وإن كان الجيش الصهيوني سيحاول بقدر الإمكان أن ينغص علينا عيدنا بعدوانه الغاشم علينا، وأكمل اللداوي بنبرة حزينة سنحاول أن نرسم البسمة على وجوهنا ونبدو سعداء بالعيد، وإن كنت لا أدري كيف ستقضي أمي العيد وأنا في المستشفى؟! لا شك أنها ستبكي كثيرا كلما تذكرتني أو رأت أحدا من أصحابي، ولن يتمكن العديد من أهلي من زيارتي بسبب الحواجز العسكرية التي يفرضها علينا الجيش الصهيوني، ويقطع من خلالها أوصال شعبنا، وسيكتفون بتهنئتي بالعيد على الهاتف فقط !!!!.
يحرم عليّ لبس الجديد
أما أم مصطفى الزرد "50 عاما، والدة مروان الزرد المعتقل في السجون الإسرائيلية منذ 10/1993 بتهمة الانتماء إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس ويقضي حكمًا بـ 4 مؤبدات؛ فقد انفجرت بالبكاء قائلة: "العيد لأصحابه وليس لنا كشعب منكوب، العيد للشهداء والجرحى والأبطال الذين ما زالوا يقبعون خلف قضبان السجون الإسرائيلية، يوم العيد والفرحة يوم أن يعود لنا الوطن ويحرر أسرانا والأسير العزيز علينا المسجد الأقصى، وتساءلت: يا حسرة قلبي كيف لي أن أفرح وأنا لم أزر ولدي مروان منذ ما يزيد عن ثلاثة شهور، ولم أدر ما هي أخباره؟ وكيف يقضي فصل الشتاء بدون ملابس أو أغطية ثقيلة تقيه برد الشتاء؟ وأعلم أنه هو وإخوانه المعتقلون يعانون من نقص المواد الغذائية بسبب عدم سماح إدارة السجون الإسرائيلية الحاقدة للأهالي بتزويد أبنائهم الأسرى بالمواد الغذائية واحتياجاتهم الأخرى، وكيف لي أن أفرح وأنا أشعر أن فلذة كبدي خلف القضبان بدون أكل أو ملابس تدفئه؟! بالإضافة للشهداء والقصف المدفعي وتضيف أم مصطفى: لقد صمم إخوته على التضامن مع أخيهم وحرموا على أنفسهم أدنى مظاهر العيد حتى طفلتي الصغيرة هدى "6 "سنوات قالت لي " يحرم علي لبس الجديد، وأخي في السجن بدون مأكل وملبس".
عيد بلا كعك
اعتاد الشعب الفلسطيني في أواخر شهر رمضان على عمل الكعك استعدادًا لاستقبال عيد الفطر، ولكن هذا العام امتنع الكثير من الأهالي عن صنع الكعك؛ فقد تزايد عدد الشهداء والجرحى وحرص جميع الأهالي على مواساة بعضهم البعض وحرصهم على مشاعر غيرهم حتى بدت الشوارع والأسواق خالية من مكونات كعك العيد والمارة على غير عادتهم؛ حيث تمتلئ المحال التجارية بمكونات الكعك وتكتظ الأسواق بالمارة الذين يشترون متطلبات العيد، وتمنع السيارات من دخول تلك الشوارع، وقد بدت الأسواق حزينة وكأن الأهالي لن تستقبل العيد ، وعبرت عن ذلك أم أحمد من معسكر خان يونس " لقد اتفقت أنا وجميع نساء المعسكر على عدم صنع الكعك هذا العيد تضامنا مع أمهات شهداء معسكر خان يونس وأصحاب البيوت التي دمرت منه بسبب القصف الإسرائيلي المستمر علينا يوميًّا، وقالت: " أي كعك نصنعه وفي كل أسرة شهيد أو جريح ما زالت عائلته تبكيه وقصف الطائرات والدبابات يطاردنا في كل بيت؟! وكل واحد منا يتوقع أن يسقط عليه بيته بسبب تعرضه لقذيفة أو صاروخ، والدمار عمّ على كل أجزاء المعسكر، والواحدة منا توشك أن تبكي دما بدل الدموع على ما لحق بالمعسكر من خراب ودمار وأيدتها في الرأي رويدا أبو لبن من مدينة غزة وزوجة الشهيد حسين أبو لبن الذي ارتقى إلى العلا في الانتفاضة الأولى " الانتفاضة الجديدة فتحت كل الجروح القديمة، وعدت أتخيل صورة زوجي في وجه كل شهيد أراه على شاشة التلفاز، وبت أشعر بالخوف الشديد على إخوتي الذين يسكنون في مدينة خان يونس؛ لذلك طلبت منهم ألا يأتي أحد منهم لزيارتي في العيد؛ خوفا أن يصيبهم رصاص الجيش الإسرائيلي الغاشم عند الحواجز العسكرية التي كثرت عمليات الاغتيال فيها ورغم أني موظفة في الجامعة، ولا أعاني من أي نقص مالي فإنني رفضت أن أشتري لابني ملابس العيد أو أصنع الكعك كما كنت أفعل سابقا.
ــــــــــــــــــــ(1/187)
زكاة المشاعر
سحر عبده ... 26/12/2000
تقبل الله صيامكم وقيامكم وصالح أعمالكم.. وكلَّ عام وأنتم إلى
الله أقرب، وعلى طاعته أدوم.
للعيد فرحته وبهجته، ومن سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أن ندخل السرور على بعضنا، ولكني أستميحكم عذراً إذا أثار موضوعي بعض الشجون، ولكن الهدف هو ـ صدقوني ـ إدخال السرور والسعادة على قلوبكم؛ فسامحوني..
من وريقات دفتر حياتنا نقرأ ونتذكر، فكثير منا قد رحلوا في يوم من أيام العمر.. في ساعة من ساعات الوعي العميق.. في لحظة من تلك اللحظات التي تتمزق فيها الحجب عن المعاني والأشياء؛ فتبدو أشد نضارة وأعمق مغزى، وفي رحلة الحياة كثير منا رحلوا، صاعدين هابطين في منحنى حياتهم؛ ليصلوا إلى اليوم أو اللحظة الفريدة التي تتكشف فيها أمامهم القيم والأقدار.
وكل منا قد أحس وهو يصل إلى قمة المنحنى عبث حياته الماضية، وتفاهة أيامه الخاوية وسخف ملايين اللحظات التي عاشها؛ فيعبر حدود ذاته المغلقة وتتبلور أمام عينيه المعاني والحقائق في الكون من حوله وفي داخل نفسه عبر مساحات الوجدان ...
وفي أول ورقة دخلت دار رعاية اليتيمات قدراً وبلا إعداد مسبق؛ فقابلتني عيونهم البريئة المليئة بالدموع وتمسحوا بي كالقطط الصغيرة فوجدتني أقف للحظة، ثم أحملهم بحب غير مبالية بحالتهم وهيئتهم، وجلسنا معًا لساعات لم أشعر بمرورها ولم أكن أحمل معي إلا قليلا من الحلوى، ولكن ما كانوا يحرصون عليه هو أن أضمهم إلى صدري وأقبلهم، وخرجت وقد امتلأ قلبي بمشاعر فياضة وصفاء نفسي كنت أفتقده من قبل فسبحان الله ما أحوجني إليه! شعرت يومها بمدى نسياني لنعم كثيرة لا أحمدها ولا أشعر بها، أبسطها وأعظمها أن لي أبا وأما وأني لست مجهولة النسب والهوية، وأن لي من يرعاني ويضمني ويمنحني الدفء العاطفي والأمان، واكتشفت أني حقا شحيحة رغم ما أوصف به من كرم، ولكنه شح النفس وشح المشاعر.
ووالله ما يبذله الإنسان ويفيض به من قلبه على من حوله يعود إليه أضعافاً مضاعفة، ويمتلأ قلبه رضا، ويكتشف ما هو فيه من ترف نفسي وعقلي يظهر في غضبه وانشغاله بأشياء لا وزن لها ببصيرته الجديدة التي مَنّ الله بها عليه؛ فأصبح يرى بقلبه، وكل الأمور أصبح لها معنًى آخر حقيقي يلمس شغاف القلوب؛ فيمدها بالقوة التي تعينه على ما يقبله، ومرت الأيام والسنوات وكبرت اليتيمات، وأكملن تعليمهن، وبعضهن قد تزوجن ولله الحمد؛ فما المانع أن نزكي ببعض مشاعر الأمومة؛ فيخلف الله علينا في أمومتنا بالخير والبركة والنماء، ويبارك لنا في فلذات أكبادنا.
ونقلب الوريقات في دفتر حياتنا؛ فتقابلنا ورقة ثانية اسمها "كريمة" وهي فتاة معاقة ذهنيًّا تزوج أخوها وتوفي والداها، وأصبحت تعيش في حجرة صغيرة تحت السلم، حين التقيت بها كانت تعيش من عمل يدها فتساعد الجيران وتقضي حاجاتهم وتقوم بأعمال النظافة، كريمة تفهم جيداً، ولكن لا تتكلم إلا كلمات بسيطة غير مفهومة، وعلمت أنها قد أصيبت بسرطان الثدي وتم استئصاله، ولكن عاودها المرض وكنت أزورها أسبوعيًّا وبرغم كل شيء فالابتسامة لا تفارق وجهها، ولا تسمع منها سوى كلمة "يارب" ومع عودة المرض وشده فقرها أصبحت المنطقة في صدرها شديدة الالتهاب وأحضرت لها الطبيب ووقفت بجانبه وهو يغير على جرحها، وفي حياتي لن أنسى ما رأيت فلأول مرة أجد "الديدان تأكل لحم إنسان حي" فالجروح في حالة تعفن شديد؛ غالبت نفسي ودموعي، ولسان كريمة لا يلهج إلا بقول "يارب يارب" وذهبت لمعهد السرطان فلها هناك ملف، ولكنهم أجابوني بأن حالتها متأخرة؛ فذهبت لوحدة "علاج الألم" ولكن الطبيبة أخبرتني أن الألم أصبح أقوى من أي مخدر أو مسكن، وأرجع إلى كريمة فأجدها تقول "يارب يارب" ولا تبكي فتعجبت من نفسي حين آلمني "ضرسي" وصرت أبكي ولا أنام، وأكاد أفقد عقلي من الألم؛ فتعلمت الصبر من كريمة رحمها الله، وامتلأ قلبي ونفسي بالرضا.
وتقابلنا الورقة الثالثة حين ضرب الزلزال مصر امتلأت المستشفيات بالمصابين وذهبنا لزيارتهم، واستوقفنا صوت رجل يتأوه بصوت عالٍ فذهبنا تجاهه، وتحدثت أخت منا إليه عن الصبر، وأن الصبر لا جزاء له إلا الجنة وتبادلنا معه الحديث فسأل: هل سيغفر لي ربي؟ قلنا نعم؛ فأكثر من الاستغفار ومن قول: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" فظل يرددها وتركناه والتفتنا لنغادر القسم، ولكن الممرضة جرت صوبنا لتقول: إن الرجل قد أسلم روحه إلى خالقه غفر الله له ورحمه؛ فبكينا جميعاً وحمدنا الله، وازداد اليقين في قلوبنا، وملأت قلوبنا السكينة والرحمة.
وبعد.. فأحبائي، في قلب كل منا مشاعر إذا فاضت لملأت الكون حبًّا وعطفاً ورحمة وإيثارًا ... فلنفرح في عيدنا، ولكن من الممكن أن نزكي من مشاعر الفرح ويشاركها فيها اليتامى، والمساكين والمرضي، ولنصحب أطفالنا بعد صلاة العيد؛ لزيارتهم لتمتلئ قلوبنا بالرحمة والرضا والحياة.
ــــــــــــــــــــ(1/188)
في العيد.. هل ننساها؟؟
لا تكوني وحيدة وقلبي يحوم
دعاء جمال ... 26/12/2000
أهلا به يزورنا كل عام .. يُطل علينا بطلعته البهية.. ضيفًا عزيزًا على القلوب والنفوس .. يفرح له الصغار ويهش به الكبار.. أهلا بك أيها العيد .. حللت أهلا ونزلت سهلا بعد طول اشتياق .. جئت ولك في قلوبنا أسمى مكان .. أتيت تذكرنا بأعز الأحبة .. تذكرنا بأسمى معنى في الوجود وأعذب كلمة نطقت بها الألسنة وتغنت بها.. أتيتنا لنفرح بأزهى باقة ورد في حياتنا.. بأمّنا الحنون ... بمن نغفل عنها في فرحتنا الطاغية بالعيد .. بنبع السعادة الذي ننسى أن نسعده ليبقى دائمًا يفيض علينا بالسعادة وننهل منه بأطيب رحيق.. ففي العيد يمضي الكل في طريق سعادته، هذا هنا وذاك هناك .. هذا يمرح مع أصحابه وتلك مع صويحباتها .. وقد تبقى الأم - أساس السعادة - لا تجد من يدخل السعادة على قلبها؛ فالكل لاهٍ مشغول في سعادته وكيفية قضائه للعيد.. ويظل في ذهن البعض دائما أن الأم هي ينبوع السعادة والعطاء الذي لا ينضب، وأن كونهم سعداء يكفي لإسعادها.
إن الأم لها حقوق علينا.. وحق علينا إسعادها كما تسعدنا ولو لنرد لها الجميل.
يا أمي الحبيبة، هنيئًا لك العيد وفرحته.. يا نبع وفاء صاف لم يعرف الكدر يوما .. يا عُشًّا ما تركتُهُ لحظة إلا اشتقت إليه ثانية .. يا قلبًا حوى الكون، وملأه حنانا وألفة .. يا نورًا أرى به في ظلمة الأيام .. يا شمسًا مزقت غيوم الحزن والكآبة.. يا صفحة بيضاء ناصعة، وريحانة خضراء يانعة، وزهرة بنفسج يافعة.
يا كلمة في كتاب أنتِ معناه ومحتواه.. يا قمرا ربيعيا أَنَار دربنا فعرفناه .. يا لحن خلود أطربنا فعشقناه .. يا نجمة سابحة في سماء الحياة ..يا وردا نشر طيبه في الأفق الرحب فأغناه..
أمي حبك فوق وصفي، والنفس تعجز كل حين عن بوح ما فيها.. وأنت بالإشارة تفهمين .. في طفولتي كم بكيت؛ فكنت لي دوما معينًا..
أماه عذرا .. لست أدري كيف أرد لك الجميل .. في حضنك كم غفوت وكنت لي نعم العرين .. أشتاق ذاك الحِضْن يا أمي يشدني دوما حنين.
أماه كم صار اختلاف بيننا هل تذكرين؟! ولا يدوم لنا سوى الحب الدفين.. فألف عذر يا حياتي إن كنت مني تغضبين .. فليس لي سواك أمّ تحبني عبر السنين.
أماه .. في صدري تختنق الكلمات.. وفي عيني آلاف العبرات
أماه لا تنسي فؤاداً يدعو لك في كل حين .. ولا تكوني ذات يوم وحيدة وقلبي يحوم..
.. فليس لي سواك قلب يحبني عبر السنين.. وهنيئا لك يا أم بالعيد.
ــــــــــــــــــــ(1/189)
المراصد الفلكية في الحضارة الإسلامية
خالد عزب
عرفت الحضارات القديمة علم الفلك وارتبط فيها بالتنجيم ومعرفة الغيب، وهو ما ألقى بظلاله على علم الفلك عند المسلمين حتى عهد قريب، ولكن في حضارة الإسلام، تلك الحضارة التي نبذت التنجيم واعتبرته مخالفًا لعقيدتها، انفصل علم الفلك عن التنجيم، وأصبحت له قواعده العلمية التي يرتكز عليها. ولم يكن هذا الانفصال وليد الصدفة، بل وليد التجربة العلمية والقياس والاستنباط، والحاجة الإسلامية لتحديد مواعيد الصلاة واتجاه القبلة، حتى أصبحت المساجد الجامعة لا تخلو من فلكي يقوم بتحديد الوقت من خلال واحدة من الآلات الفلكية التي عرفها وابتكرها المسلمون.
لقد كان علم الفلك في الحضارات القديمة تائهًا، ولكن مع العصر العباسي وفي خلافة المأمون بن هارون الرشيد، صار لهذا العلم موقع خاص، فلأول مرة نرى مراصد كبيرة لها مواقعها الثابتة والمتميزة، وآلاتها الضخمة المصنعة بعناية، والرعاية التي حظيت بها من قبل الدولة، وعدد الفلكيين الذين ارتبطت أسماؤهم بها.
ويرى آيدين صاييلي أبرز الباحثين الأتراك الذين درسوا المراصد الفلكية أنه نشأت ظروف اقترنت بالإسلام، وكانت مواتية لتطور المراصد كمؤسسات، ذلك أن هناك ما يبرر القول بأن الإسلام شكل بيئة مناسبة لنشأة المراصد وتطورها، فلقد كانت هناك مرتبة خاصة لعلم الفلك في العالم الإسلامي، وكان هناك اهتمام بالرصد المباشر، وبدقة القياسات، وبالنظريات الرياضية، وبزيادة حجم الآلات، وبالإصرار على ممارسة الفلكيين أعمالهم في مجموعات، وبالميل إلى التخصص في مجالات ضيقة، وبالنزعة التجريبية عند علماء الإسلام.
كان للمراصد في عصر المأمون عدة سمات هامة لعل أهمها البرامج البحثية المحددة، كانت المهمة الكبرى لتلك المراصد الأولى إيجاد جداول فلكية مبنية على أرصاد حديثة للشمس والقمر فقط. ولكن فضلاً على كون البرامج المرسومة لها محدودة، فإنها كانت بُدائية بعض الشيء من حيث الإدارة والتنظيم المالي، والواقع أن طبيعة العمل المحددة التي نيطت بمرصدي المأمون في الشماسية وقاسيون قد جعلتهما لا يرقيان إلى مستويات المراصد المتكاملة التي عرفها العالم الإسلامي فيما بعد.
ظهر المرصد الإسلامي بشكل أكثر تطورًا بعد زمن المأمون بحوالي قرن ونصف قرن، وكان أكثر تنظيمًا من الناحية الإدارية، وعندما نشأ مرصد شرف الدولة أصبح له مدير يشرف على تدبير شؤونه، واقترن ذلك بتوسعة برنامج الرصد بحيث صار يشمل الكواكب كافة، ولقد أمكن تحقيق هذا الجانب الأخير من تطور المراصد على مرحلتين، ذلك أن هناك دليلاً على أن بعض برامج الرصد قد اقتصرت على مشاهدة الكواكب السريعة فقط إلى جانب الشمس والقمر.
كانت المهمة الرئيسية للأعمال التي يضطلع بها المرصد تتمثل في إقامة جداول فلكية جديدة لكل الكواكب مبنية على أرصاد حديثة. وكان هناك ميل واضح نحو تصنيع آلات تزداد حجمًا على مر الزمن ونزوع إلى توفير هيئة عاملة متميزة، وذلك بموجب التقدم الذي أمكن تحقيقه في هذا الاتجاه أيضًا، ومن شأن التطورات أن تعمل على تعزيز اعتقاد مفاده أن نشأة المراصد، باعتبارها مؤسسات، ترجع في أصلها إلى الخلفاء والملوك.
ويعد المرصد الذي شيده السلطان السلجوقي ملك شاه في بغداد مرحلة أخرى من مراحل تطور العمل في المراصد، وإن لم يتوافر لدينا إلى الآن معلومات كافية حول عمل هذا المرصد، وظل هذا المرصد يعمل لفترة تزيد على عشرين عاماً، وهي فترة زمنية طويلة نسبيًّا بالنسبة لعمر المراصد، وقد رأى الفلكيون آنذاك أنه يلزم لإنجاز عمل فلكي فترة زمنية لا تقل عن 30 عاماً.
مرصد المراغة
يعد القرن السابع الهجري أهم حقبة في تاريخ المراصد الإسلامية؛ لأن بناء مرصد المراغة تم هذا القرن، ويعد هذا المرصد واحدًا من أهم المراصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتقع المراغة بالقرب من مدينة تبريز. بُني المرصد خارج المدينة، ولا تزال بقاياه موجودة إلى اليوم، وقد أنشأه "مانجو" أخو "هولاكو". كان مانجو مهتمًا بالرياضيات والفلك، وقد عهد إلى جمال الدين بن محمد بن الزيدي البخاري بمهمة إنشاء هذا المرصد، واستعان بعدد هائل من العلماء منهم: نصير الدين الطوسي، وعلي بن عمر الغزويني، ومؤيد الدين العرضي، وفخر الدين المراغي، ومحيي الدين المغربي وغيرهم كثير.
ويعد مرصد المراغة أول مرصد استفاد من أموال الوقف؛ إذ وقفت عليه عقارات وأراضٍ، لكي يتم ضمان استمرارية العمل به؛ ولذا ظل العمل جاريًا في المرصد إلى عام 1316م وشهد حكم سبعة سلاطين اهتموا به وبرعايته.
وتكمن السمة الثالثة لمرصد المراغة في النشاط التعليمي الهام الذي تم فيه، فقد تم تعليم العديد من الطلبة في المرصد علم الفلك والعمل على الآلات الفلكية. كما كان بالمرصد مكتبة ضخمة ضمت آلاف المخطوطات في شتى مجالات المعرفة.
مرصد سمرقند
أسس هذا المرصد "أولغ بك" حفيد "تيمورلنك" في سمرقند، وفي عام 1908 تم الكشف عن موقع هذا المرصد حين نجح "ج.ل فاتكن" في العثور على وقفية من وقفياته تحدد مكانه بالضبط في المدينة، واستطاع في أثناء تنقيباته الأثرية أن يعثر على قوس كبيرة كانت تستخدم في تحديد منتصف النهار، وتعتبر أهم الأدوات الفلكية في المرصد.
يقع فناء المرصد الذي يبلغ ارتفاعه حوالي 21 مترا على تل ذي قاعدة صخرية، وتبلغ مساحة السطح لذلك التل حوالي 85 مترًا من الشرق إلى الغرب، وحوالي 170 مترًا من الشمال إلى الجنوب. وتحيط بالمبنى الرئيسي للمرصد حديقة، وأماكن إقامة لغرض السكن. وهذا ما يدل على فخامة المبنى وعظمته، ويستدل من الاكتشافات الأثرية أن ذلك المبنى كان أسطواني الشكل وذا تصميم داخلي دقيق ومحكم.
ولم يكن دمار مرصد سمرقند وزواله ناجمين، في رأي فاتكن، عن عوامل طبيعية؛ إذ من المحتمل أن يكون بعض الدمار قد نجم عن استخدام رخامه في عمليات بناء أخرى. وقد وضعت جداول فلكية في المرصد، عرفت بجداول "أولغ بك" وتعد من أدق الجداول في العالم. ومن المعروف أن قبة المرصد، استغلت في وضع الجداول؛ حيث كان يوجد بها نقوش تحدد الدرجات والدقائق والثواني وأعشار الثواني لأفلاك التدوير، وللكواكب السبعة، وللنجوم المتحيرة، وللكرة الأرضية بتقسيماتها من حيث الأقاليم والجبال والصحارى. وممن عملوا في هذا المرصد "غياث الدين الكاشي" الذي برع في ميدان النماذج الميكانيكية للحركات السماوية.
ــــــــــــــــــــ(1/190)
الزمن وقصة التقاويم
عماد حسين محمد
الزمن هو أكثر أمور الحياة تعقيداً؛ فهو علاقة بين حركة الشمس أو القمر مع الأرض مع الإنسان، ومنذ بداية التاريخ والإنسان يجتهد في وضع نظام لهذا الزمن؛ ومن ثم عرفنا عدة نظم عُرفت باسم التقويم، وسنعرض لبعض منها فيما يلي:
التقويم العربي
جعل العرب اليوم يبدأ من غروب الشمس، ومن ثم عُرف التقويم العربي باسم التقويم الغروبي، وقد قسّم العرب يومهم إلى اثنتي عشرة ساعة لليل ومثلها للنهار، وتم تقسيم الساعة إلى خمس عشرة درجة، وقسّموا الدرجة إلى أربع دقائق تقريبًا؛ وعلى ذلك فإن التوقيت الغروبي يختلف من مدينة إلى أخرى، كذلك فإن المدة الفعلية للساعة تختلف مع الأيام بين الشتاء والصيف، وعلى ذلك فإن القيمة الحقيقية للدرجة تتراوح بين ثلاث دقائق وثلث، وأربع دقائق وسدس دقيقة من دقائقنا، وهذا النظام يصنع توازناً في ساعات العمل صيفًا وشتاء، ولكن فروق التوقيت بين المدن قد تسبب ارتباكاً للأعمال.
ومن المعروف أن العرب يستخدمون السنة القمرية، وعدة الأشهر اثنا عشر شهرًا (ستأتي فيما بعد أسماؤها)، وقد كانوا يتخذون من الأحداث الهامة بداية لتواريخهم، منها بناء الكعبة المشرفة (في حدود سنة 1871 ق.م)، وسيل العَرِمِ (في حدود سنة 120 ق.م)، وعام الفيل سنة 571م.
أما هيئة التقويم العربي وأسماء الأشهر فقد أخذت هيئتها عام 412م، وقد بدأ التقويم الهجري في عهد عمر بن الخطاب، وقد اتخذ من الهجرة بداية لهذا التقويم (وكان ذلك للاختلاف حول يوم الميلاد بين 1821 بصورة قاطعة) وقد بدأ العمل بالتقويم الهجري في يوم الأربعاء 20 من جمادى الآخرة عام 17 هجرية، وعلى ذلك يكون أول المحرم سنة 1 للهجرة هو يوم الجمعة 16 تموز/ يوليو سنة 622 ميلادية وسنة 338 قبطية. وقد انتشر التقويم الهجري في العالم مع الفتوحات الإسلامية، وعلى أساسه تم ضبط العبادات الإسلامية من زكاة وصيام وحج.
التقويم المصري
يعود هذا التقويم إلى عام 4241 ق.م، وكان قدماء المصريين يستخدمون السنة الشمسية وقد قاموا بتقسيم العام إلى اثني عشر شهرًا، كل شهر ثلاثون يومًا، وفي الشهر الأخير منها فقط ويسمى مسرى يضيفون خمسة أيام أطلقوا عليها اللواحق، وقد قسّموا العام إلى ثلاثة فصول مرتبطة بفيضان النيل وعملية الزراعة، وكان بدايتها مع الاعتدال الخريفي (21 سبتمبر)؛ لأنه بداية عملهم في الزراعة، وأسماء الشهور ارتبطت بآلهتهم، وهي مستمرة حتى اليوم تحت اسم السنة أو التقويم القبطي، حيث لم يكن للمصريين حادثة يرتبط التقويم بها، حتى جاء الإمبراطور دقلديانوس في العصر المسيحي وقتل من المسيحيين مقتلة عظيمة؛ فاتخذ مسيحيو مصر بداية عهده الموافق 284 ميلادية بداية لتقويمهم؛ وعلى هذا فالتقويم القبطي شمسي في سنواته، فرعوني في أسماء شهوره، مسيحي في بدايته.
التقويم العبري
هو تقويم شديد التعقيد والغموض لا يحسن حسابه إلا الآحاد من أحبارهم، وهم يقولون إنه يبدأ من عام 3760 ق.م وهي سنة الخلق في زعمهم، والسنة في جملتها تتوافق مع السنة الشمسية ولكن بدايات الشهور عندهم قمرية، وهي تبدأ في النظام المدني بشهر "تشرين"، وأولها محرّم العمل فيه، ولكن السنة الدينية تبدأ بشهر "نيسان" الذي غيّروا اسمه إلى "أبيب"، وعدد أيام السنة يتراوح بين 353354383384385 يومًا، وفي الحالات الثلاث الأخيرة يضيفون شهرا كاملاً إلى سنتهم يسمونه آذار.
التقويم الروماني
اقتبس الرومان تقويمهم من جيرانهم الألبان، وجعلوا العام عشرة أشهر فقط في البداية، وجعلوا بدايته عام 753 وهو عام تأسيس روما، وكانت الأشهر كما يلي:
1.مارس نسبة للمريخ وهو إله الحرب الروماني وهو 31 يومًا.
2.إبريل وهو يرمز للأزهار رمز الإلهة "فينوس" وهو 30 يومًا.
3.مايو وهو يرمز للإلهة اليونانية "مايا" الخاصة بالخصب والنماء وهو 30 يومًا.
4.يونيو وهو يرمز للاسم Junius وهو اسم أكبر القبائل الرومانية وهو 30 يومًا.
5.الأشهر من الخامس إلى العاشر ترمز إلى مكانها، وأسماؤها: كونيلس أي الخامس وهو 31 يومًا، ثم سكستيلس أي السادس وهو 30 يومًا، سبتمبر أي السابع وهو 30 يومًا، ثم أكتوبر أي الثامن 31 يومًا، نوفمبر أي التاسع 30 يومًا، ديسمبر العاشر 31 يومًا.
6.وعدد أيام السنة 304 أيام، ولما في هذا النظام من خلل واضح؛ تم إدخال عدة تعديلات أهمها:
تعديل نوما Numa Pompilus وهو ثاني أباطرة الرومان، وقد حكم بين 715 إلى 672 قبل الميلاد واشتملت تعديلاته على الآتي:
1.أضاف شهرًا قبل مارس سماه يناير (وهو يرمز إلى الإله "يانوس" إله الشمس عند الرومان وهو حارس أبواب السماء).
2.أضاف شهرًا بعد ديسمبر أسماه فبراير (وهو يعني الكفارة أو شهر التطهر والتقديس).
3.أضاف شهرًا طوله 22 يومًا أو 23 يومًا مرة كل سنتين.
وفي سنة 452، قام أحد الأباطرة الرومان بجعل شهر فبراير بين يناير ومارس أي في مكانه الحالي، ولكن الكهنة تلاعبوا بهذا التقويم حتى جاء يولويس قيصر وأدخل تعديلاته، وكان ذلك بمساعدة فلكي مصري اسمه "سوسيحنيو"، فكانت صورة التقويم كالتالي:
1.جعل السنة الشمسية هي أساس التقويم.
2.جعل السنة الكبيسة 366 يومًا والعادية 365 يومًا.
3.جعل سنة 718 رومانية تساوي 445 يومًا لإعادة ضبط التقويم.
4.جعل مبدأ التاريخ الروماني أول يناير 709 تبعًا للروماني.
5.جعل الشهور فردية العدد مثل يناير ومارس 31 يومًا والزوجية 30 يومًا.
6.جعل شهر فبراير 29 يومًا في السنة العادية و30 يومًا في الكبيسة.
وفي عام 44 ق.م تم إطلاق اسم يوليوس قيصر على الشهر السابع فصار اسمه "يوليو"، وفي عام 31 ق.م أطلق اسم الإمبراطور إكتافيوس الملقب بأغسطس (أي المهيب) على الشهر الثامن فصار اسمه أغسطس، وحتى لا يكون في عدد أيامه أقل من سلفة زِيد في أيامه يوم أُخذ من شهر فبراير، ثم حدث تعديل لعدد أيام كل من سبتمبر ونوفمبر وهي أشهر فردية وجعلها 30 يومًا فقط، وبذلك انتهى وضع الشهور على ما عليه الآن، ولكن البداية اختلفت بتعديلين الأول بتقويم أكسيجوس الراهب (المتوفى عام550 ميلادية)، وقد توصل هذا الراهب إلى رواية من "كليمنت السكندري" مفادها: أن المسيح ولد في 25 ديسمبر من عام 28 لحكم القيصر أغسطس إكتافيوس، وهذا يساوى سنة 754 رومانية، وقد أخطأ كل من كليمنت وأكس يجوس دون شك في هذا التحديد لأسباب أهمها أن كليمنت السكندري سجل انتصار إكتافيوس في موقعة إكتيوم 727 رومانية بينما هي 723 رومانية.على كلٍّ استقر الأمر بهذا التعديل المعروف باسم التقويم اليولياني المسيحي أن جعل بداية السنة الميلادية بيوم البشارة في 25 آذار/ مارس، وجرى الناس على ذلك فترة ثم وقع الاختيار على الأسبوع الذي يلي تاريخ الميلاد ليكون بداية السنة الجديدة وهو المستقر للآن. أما التعديل الأخير فقد عرف باسم التقويم الجريجوري. ومبدأ الأمر أن التقويم اليولياني استقر على أن السنة تعادل 365 يومًا وربع اليوم، بينما في الواقع تنقص السنة عن ذلك بمقدار 11 دقيقة و14 ثانية. ومع توالي السنين بدأ الفرق يتضح، وقد لاحظ ذلك بطريرك الفاتيكان جريجوري الثالث عشر أن في 325 ميلادية عقد مجمع نيقية في 21 آذار/ مارس أي في يوم الاعتدال الربيعي، وفي سنة 1582 ميلادية أن المجمع وقع في آذار فاستدعي الراهب كلافيوس لإصلاح التقويم فقام بعملين في آن واحد:
*حسب الفرق بين السنة اليوليانية والسنة الشمسية، فبلغ ثلاثة أيام كل 400 سنة.
*قرر استقطاع عشرة أيام من سنة 1582 ميلادية، فجعل يوم الجمعة الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر يساوي الجمعة الخامس عشر من ذات الشهر.
وبذلك ظهر التقويم الجريجوري، وقد طبقت فرنسا النظام فور صدوره، ثم أخذت به إنجلترا عام 1752،، واليابان 1872م، وأخذت به مصر في عام 1875م، وفي الصين عام 1912م واليونان سنة 1913م، وقد تم تطبيقه في سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق في أيام الاحتلال الإنجليزي والفرنسي، وتم تطبيقه في الاتحاد السوفيتي عام 1923م، وفي تركيا عام 1923.
وفي ختام الحديث يجب أن نشير أن الأرمن يعدون يوم 9 تموز/ يوليه عام 553 ميلادية هو بادية لتاريخهم؛ بسبب عقد مجمع "تيبتين" في تلك السنة، وهو الذي فصل بين كنيسة الأرمن والكنيسة اليونانية.
التقاويم المختلفة
العربي
السرياني*
الروماني
القبطي
العبري
المحرم
آب
أغسطس
توت
تشرى
صفر
أيلول
سبتمبر
بابة
مرحشوان
ربيع1
تشرين 1
أكتوبر
هتور
كسلا
ربيع2
تشرين2
نوفمبر
كيهك
طابات
جمادي1
كانون 1
ديسمبر
طوبة
شباط
جمادي2
كانون 2
يناير
أمشير ...
آذار
رجب
شباط
فبراير
برمهات
نيسان
شعبان
آذار
مارس
برمودة
آيار
رمضان
نيسان
ريل
بشنس
سيوان
شوال
آيار
مايوونة
تموز
ذو القعدة
حزيران ...
يونيو
أبيب
آب
ذو الحجة
تموز
يوليو
مسرى
أيلول
*أسماء الشهور السريانية يرجع في أصلها إلى آلهة بابلية في معظمها، وهي ترجع إلى تقويم الإسكندر، وهو يبدأ عند أغلب العلماء من عام 312 ق.م، وهو العام الذي فتح فيه أحد قواد الإسكندر (وهو سلوقس)مدينة بابل، وقد اندثر هذا التقويم منذ القرن الـ 17 الميلادي، ولكن استمرت أسماء الشهور.
ــــــــــــــــــــ(1/191)
صوموا لرؤيته.. وأفطروا لرؤيته
04/11/2002
...
بثينة أسامة **
يستعد العالم الإسلامي لاستطلاع رؤية هلال رمضان. وقد اعتاد الناس الجدل الواسع حول رؤية أهلة الشهور القمرية.. واختلافها أو اتفاقها مع الحسابات الفلكية. ورغم وجود خلل تاريخي في تلك الحسابات (تم تلافيه في السنوات الأخيرة) فإن اختلاف الرؤية من مكان إلى مكان على الكرة الأرضية ما زال وارداً.. بل ويؤكد عليه علماء الفلك.
نشأة الخلل في الحسابات الفلكية
التقويم الإسلامي أو الهجري هو طريقة لتأريخ الزمن، بدأ بهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعتمد على الشهور القمرية؛ حيث يبدأ الشهر القمري في التقويم الإسلامي برؤية الهلال استنادًا إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
وقد قام علماء الفلك والرياضة في عصر الحضارة الإسلامية (من القرن الثالث الهجري إلى القرن السابع الهجري) بوضع القواعد والمعايير الدقيقة للتنبؤ بالأهلة التي اعتمدت على تطوير المعايير البابلية القديمة، وقد انتشرت تلك المعايير لعدة قرون في معظم أنحاء العالم الإسلامي، لكن مع اضمحلال تلك الحضارة والضياع التدريجي لتلك المعرفة العلمية بدأت العديد من الدول الإسلامية في الرجوع إلى تقويماتها التقليدية كالتقويم الميلادي أو الصيني أو الهندي حيث أدى هذا إلى حدوث خلل في أسلوب التنبؤ بالتقويم الهجري.
فمعظم تلك التقويمات تعتبر أن بداية الشهر القمري هي الوصول إلى نقطة التزامن أو الاقتران بين الأرض والقمر والشمس، أي وقوعها على خط واحد مع وجود القمر بين الأرض والشمس؛ حيث يصبح القمر في هذه الحالة غير مرئي تمامًا، وهو ما يطلق عليه المحاق، وهذا ما يتعارض مع البداية الشرعية للشهر التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" حيث اعتبر هنا أن بداية الشهر القمري مع بداية القدرة على رؤية القمر (الهلال) الذي لا يمكن رؤيته إلا بعد 17 إلى 20 ساعة من الوصول إلى المحاق أي حوالي ثلاثة أرباع يوم.
مولد الهلال ورؤيته
خلال الشهر القمري في دورة القمر حول الأرض يجتمع كل من الأرض والقمر والشمس مرتين على خط واحد تقريبي: أولاهما عندما يكون القمر بدرًا؛ حيث تكون الأرض بين القمر والشمس، والثانية بعدها بحوالي 14.5 يومًا عندما يصبح القمر محاقا؛ حيث يكون القمر بين الشمس والأرض، وحيث إن القمر ليس نجمًا بل جرمًا مظلمًا فهو لا يرسل أي أشعة؛ لذلك لا يمكن رؤيته من على سطح الأرض إلا عن طريق قيامه بعكس الأشعة الواقعة عليه من الشمس التي تصل تقريبًا إلى الصفر في وضع المحاق؛ حيث يكون القمر كالمرآة التي أعطت ظهرها لمصدر الضوء، وبالتالي لا تجد أشعة لتعكسها؛ لذلك لا يمكن رؤيته.
ولكي يولد الهلال الجديد أي يمكن رؤية القمر مرة أخرى من على سطح الأرض يجب أن يخرج القمر من تزامنه على خط واحد مع الأرض والشمس بالقدر الذي يمكنه من عكس مقدار كافٍ من أشعة الشمس يمكن أن تلتقطه العين الآدمية. ولكي يصل القمر إلى هذا الحد الأدنى من الرؤية يكون عمره قد أصبح من 17 إلى 20 ساعة، ويكون قد أخذ زاوية مقدارها حوالي 12 درجة من الشمس، غير أن هناك شرطًا أساسيًّا آخر حتى يمكن رؤية الهلال، وهو أن يحدث وضع المحاق قبل غروب الشمس بوقت كافٍ يسمح للقمر بأن يصل للوضع الذي يصبح فيه مرئيًّا حتى يمكن رؤيته بعد غروب الشمس مباشرة، ففي هذه الحالة يبقى القمر مرئيًّا لمدة 48 دقيقة فقط بعد الغروب، أما إذا حدث وضع المحاق عند الغروب أو بعده فلا يمكن في هذه الحالة رؤية الهلال.
وهكذا تكون تلك الـ 17 ساعة ما بعد المحاق من أهم العوامل التي قد أحدثت خللًا في التنبؤ بالتقويم الهجري، ومع العلم أن دورة القمر حول الأرض تأخذ حوالي 29.5306 يومًا، إذن لا يوجد شهر 29 يومًا بالضبط أو 30 يومًا بالضبط؛ لذلك يلعب التقريب دورًا كبيرًا في الحسابات الفلكية لبداية كل شهر قمري مما قد يجعله عاملا آخر من عوامل الخلل في التنبؤ بالتقويم.
أسلوب جديد للتنبؤ بالأهلة
هناك عامل آخر يؤثر على التنبؤ برؤية الهلال، لكنه ما زال غير معروف على نطاق واسع وهو الخط الزمني القمري أو International Lunar Dateline ويرمز له I.L.D.L فالهلال يمكن أن يرى في مكان ما دون أن يعني هذا إمكانية رؤيته في جميع الأماكن الواقعة على نفس خط الطول؛ وذلك لوجود خط زمني يأخذ شكل المنحنى على سطح الكرة الأرضية إلى الغرب من هذا المنحنى يمكن أن يرى الهلال، لكن إلى الشرق منه لا يمكن رؤيته وقريبًا من هذا الخط على كل من جانبيه يوجد منطقة عدم تأكد صغيرة يمكن أو لا يمكن رؤية الهلال فيها، وتقدر تلك المنطقة بحوالي 10 درجات شرقًا وغربًا.
وقد اكتشف هذا الخط وقام بتسميته العالم الفلكي الدكتور "محمد إلياس" وهو ماليزي الجنسية، وعبر هذا الخط المنحني قسم العالم إلى 3 مناطق تتحد في رؤية الهلال وهي: الأمريكتان، وأوروبا وأفريقيا وغرب آسيا، وشرق آسيا والمحيط الهادي. وقد وضع في كتابه "الأوقات والقبلة" (Times & Qibla) الذي صدر عام 1984 البيانات اللازمة لرسم I.L.D.L لمدة 25 سنة، تم تجربة هذا الخط الزمني ومقارنة نتائجه مع الرؤية الفعلية لأكثر من 10 سنوات في أكثر من دولة إسلامية، وقد أثبت دقة فائقة في التنبؤ؛ حيث إنه يعتمد على القاعدة الشرعية لبداية الشهور الهجرية، وهي رؤية الهلال وليس المحاق، ورغم الدقة التي أصبحت تحققها أساليب الحساب الفلكي فإنه لا يمكن التغاضي عن الرؤية الشرعية.
يمكنك تجربة الحساب الفلكي لمعرفة متى سيظهر هلال رمضان عبر هذا الرابط:
*http://www.starlight.demon.co.uk/mooncalc/
اقرأ أيضاً:
*الحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور العربية
المصادر:
*Uniform Islamic Lunar Calendar of crescent prediction (Mazhar Korashy)
*Islamic Crescents' Observation Project
** محرر صفحة العلوم والتكنولوجيا بالموقع
ــــــــــــــــــــ(1/192)
الحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور العربية
دكتور مسلم شلتوت
القمر كما هو معروف جرم تابع للأرض وجسم مظلم لا يضيء بذاته، بل يعكس ما يسقط عليه من ضوء الشمس إلى الأرض؛ فيصبح مرئيًا بالنسبة لسكان الأرض. وهذه الإضاءة واتساع مساحتها تختلف باختلاف زاوية موقع القمر اليومي من الأرض والشمس، مما ينشأ عنها ظاهرة أوجه القمر المعروفة، والتي استخدمها المسلمون أساسًا للتقويم الهجري المعمول به؛ تطبيقًا لقول الله تعالى في كتابه الكريم "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج". حيث يتم تثبيت يوم بدء الشهر القمري برؤية الهلال بعد غروب الشمس في يوم 29 من الشهر القمري السابق، وإذا تعذرت رؤية الهلال يتوجب إكمال عدة الشهر القمري السابق 30 يومًا، ثم يبدأ بعد ذلك الشهر القمري الجديد؛ وذلك لأداء فريضتي الصوم والحج عند المسلمين.
لذلك كان لدراسة حركة القمر أهمية كبيرة لتحديد ميلاد الأهلة التي تساعد كثيرًا في تحديد بدايات الأشهر القمرية؛ وذلك لأن أمر الهلال يثير اهتمام الكثير من الناس وخاصة المسلمين الذين دأبوا في أقطارهم المختلفة للتطلع إلى الأفق لرؤيته بعد غروب الشمس للتثبت من بعض مناسباتهم الدينية. فبعضهم قد يوفق في رؤية الهلال، بينما يشتبه الآخرون فيتوهمون رؤيته، ومنهم من لا يتمكن من رؤيته البتة؛ وبذلك قد يحصل الاختلاف بين الأقطار العربية والإسلامية في تعيين موعد إقامة الشعائر الدينية.
لذلك نجد أن الواجب يحتم على الفلكيين المسلمين المساهمة من أجل تقديم العون للمسلمين، من خلال حساباتهم الفلكية التي قد تساعد كثيرًا في هذا المجال؛ لتضييق شقة الخلاف إن وجدت.
ومدار القمر حول الأرض يتخذ شكل القطع الناقص كما هو الحال بالنسبة إلى مدارات الكواكب السيارة الأخرى، إلا أنه يختلف عن كونه غير منتظم وفيه الكثير من التعقيد بسبب التأثير الجذبي الواقع عليه من قبل كل من الشمس والأرض، ولهذا فإن الاختلاف في مداره المركزي يكون غير ثابت وسرعته في المدار غير ثابتة أيضًا؛ ونظرًا لوجود هذا التفاوت في الاختلاف المركزي للمدار، فإن التصحيحات اللازمة والأخذ بعين الاعتبار الكثير من العوامل والمؤثرات التي تؤثر على حركة ومدار وموقع القمر خلال دورانه حول الأرض؛ لأن كل هذه العوامل تؤثر بشكل أو بآخر على زمن دورة القمر وموقع القمر في السماء وبعده وقربه عن الأرض، هذا بالإضافة إلى تأثير الكواكب السيارة القريبة من الأرض على حركة ومدار القمر. وعلى الرغم من أن هذه التأثيرات بسيطة فإنه يجب مراعاتها في الحسابات الفلكية، وخاصة إذا ما توخينا الدقة العالية في حسابات مدة الدورة ولحظة ميلاد الهلال وموقع القمر في أي لحظة مطلوبة، ونعنى بمواقع القمر في السماء بعده عن الشمس، وموقعه بالنسبة لأفق راصد معين، وزمن شروقه وزمن غروبه، وما إلى ذلك من الأمور الأخرى التي تسهل عملية الاستدلال على القمر ومشاهدته، وخاصة عندما يكون في طور الهلال.
ولقد تمكن العالم الفلكي الأوروبي "براون" في نهاية القرن التاسع عشر من وضع جداول مفصلة لتحديد حركة القمر، ثم تمكن الباحثون الفلكيون في القرن الحالي من تصحيح هذه الجداول ووضعها بصيغة معادلات يمكن استعمالها لتحديد موقع القمر. وبعد انتشار الحاسبات الآلية، فقد قام بعض الفلكيين المسلمين بتطوير برامج للحاسب الآلي لتحديد حركة الأرض حول الشمس بالاستناد إلى قوانين "كبلر"، وذلك لتحديد زمن غروب الشمس بالدقة المطلوبة، وبعد ذلك يتم تحديد موقع الهلال، استنادًا إلى المعادلات المشتقة من جداول "براون" لحركة القمر.
ولقد برز من الفلكيين المسلمين الذين تطرقوا إلى موضوع استخدام الحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور الهجرية العديد من العلماء، أشهرهم "البتاني" 850929م، و"البيروني" 9731048م، "ونصير الدين الطوسي" 12581274م. وفي القرن الماضي قام اللواء المصري "محمد مختار باشا" 18461897 بتأليف كتابه القيِّم "التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنجية والقبطية من سنة 1 إلى سنة 1500 هجرية". وقد قام الدكتور "محمد عمارة" بدراسة وتحقيق وتكملة هذا الكتاب، وتم نشر الطبعة الأولى منه عام 1400هـ1980م، عن طريق المؤسسة العربية للدراسات والنشر في مجلدين. أما في السنوات الأخيرة، فقد برز اهتمام المسلمين بالموضوع، ولعل السبب هو تطور طرق المواصلات والاتصالات بين أرجاء العالم الإسلامي المختلفة، في حين لا زال المسلمون يختلفون في أوقات أعيادهم وحتى في الدول المتجاورة مما لا يمكن تفسيره.
وقد برز في هذا المجال عدد من البحوث، أهمها تلك التي نشرها الأستاذ الماليزي الدكتور/ "محمد إلياس" في السبعينيات، وتلك التي نشرها الأستاذ الدكتور "حميد مجول النعيمي" ومجموعته بقسم الفلك - كلية العلوم - جامعة بغداد في الثمانينيات. كما أن الحساب الفلكي لأوائل الشهور العربية أصبح يتم في كل من مرصد حلوان، وهيئة المساحة المصرية كجزء من العمل الروتيني اليومي في هذه الجهات.
ولتحديد بداية الشهر القمري الشرعي، يجب تحديد الشروط اللازمة التي تسمح للعين المجردة بتمييز هلال الشهر الجديد، وهناك عوامل كثيرة تؤثر على عملية الرؤية هذه أهمها:
1 عمر الهلال وبعده الزاوي عن قرص الشمس.
2 ارتفاع الهلال عن مستوى الأفق وقت الغروب.
3 بعد القمر عن الأرض.
4 طبيعة الظروف الجوية وشفافية الهواء.
إن العاملين الأول والثاني هي الرئيسة
في تحديد القدرة على الرؤية، أما الفقرة الثالثة فتأثيرها قليل؛ حيث إن بعد القمر عن الأرض يتغير بحدود + 4%، ولا يؤثر ذلك كثيرًا على قابلية الرؤية ومن الممكن إهماله، أما الفقرة الرابعة فتعتمد على العديد من العوامل المحلية في وقت الرؤية ولا يمكن معرفتها مسبقًا.
وقد اتخذ قرار من اللجنة الفقهية خلال المؤتمر الإسلامي الذي عقد في مدينة "إسطنبول" بتركيا عام 1978 بشأن تحديد ظروف رؤية الهلال تحت الشروط التالية:
1 ألا تقل زاوية ارتفاع الهلال عن الأفق في لحظة غروب الشمس عن 5 درجات قوسية.
2 ألا يقل بعد القمر الزاوي عن الشمس عن 8 درجات قوسية، وعندما تظهر الحسابات الفلكية تطابق هذه الشروط أو أحسن منها، فسوف يتم اعتبار اليوم التالي لتوفر هذه الشروط هو بداية ذلك الشهر القمري.
وقد تم التأكيد على هذه الشروط من قبل الأستاذ الماليزي الدكتور/ "محمد إلياس"؛ حيث قدر ظروف جودة الرؤية للهلال بعمر يبلغ 2 ساعة زائد أو ناقص 24 دقيقة زمنية.
كما قام الدكتور/ "حميد مجول النعيمي" ومجموعته بتطوير شروط اللجنة الفقهية لمؤتمر إسطنبول ضمن أربعة احتمالات لزاويتي ارتفاع الهلال عن الأفق وبعده عن الشمس، وهذه الاحتمالات سميت كالآتي: مستحيلة - وصعبة - ومتوسطة - وجيدة، وحسبوا ظروف الرؤية هذه لخمس مدن إسلامية روعي في اختيارها التوزيع الجغرافي في العالم الإسلامي، واعتبروا اليوم الذي يلي يوم ظروف الرؤية الذي يتحقق فيه الاحتمالات أعلاه عدا احتمال (مستحيل) أول يوم من ذلك الشهر القمري. وبطلب من جامعة بغداد، فإن هذا البحث تم تحكيمه وفحصه من قبل الأستاذ الدكتور/ "مسلم شلتوت" أستاذ ونائب رئيس شعبة الشمس والفضاء بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بحلوان، واتضح أن هذه الحسابات الفلكية أجريت بدقة عالية جدًّا، بحيث إن مقدار الخطأ لا يزيد عن دقيقة زمنية واحدة للحظة ميلاد الهلال لكل شهر.
يتضح مما سبق أن حساب حركة القمر في الوقت الحاضر هي ممكنة وبدقة عالية جدًا، ولكن تبقى المشكلة الرئيسة في تحديد الأشهر القمرية، ولا يمكن تحديد ذلك إلا بإجراء إرصاد في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي ولفترة عدة سنوات، يتم بعدها تحليل هذه المعلومات إحصائيًا لهذا الغرض. إن إنجاز هذا العمل على مستوى الدول الإسلامية سوف يساهم في القضاء على العديد من الاختلافات، أهمها اختلاف أوقات الأعياد والمناسبات الدينية بين الدول الإسلامية.
إن اعتماد بداية الشهر العربي على رؤية الهلال هو أمر استقر عليه العرب قبل الإسلام، فالحديث النبوي الشريف "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، هو إقرار لما درج عليه الناس من اعتبار الهلال دليلاً على طول الشهر.
وكانت القبائل العربية تُعنى بالرؤية من أجل تحديد الأشهر الحرم في أوقات الخصومات والحروب المستعرة بينهم ومن أجل مواسم الحج، ولم نقرأ وكذلك لم نسمع بوسيلة أخرى أو معيار آخر لتحديد بداية الشهر العربي، ولا يعقل أن تكون لهم غير هذه الوسيلة الواضحة.
ومن ناحية أخرى يتبين لمن عرف سيرة النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يختار أيسر الأمور وأهونها "ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما"، وقد وصفه القرآن الكريم بقوله سبحانه "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم"، وأن التوجيه الإلهي لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) هو: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر". وعلى هذا الأساس لم يكن من المعقول أن تقرر الشريعة وسيلة أخرى لم تكن بحسبانهم أو في مقدورهم، ولكن لا يعني ذلك رفض أية وسيلة علمية تؤدي نفس الغرض وبنفس الوضوح إذا تهيأت للأجيال في مستقبل الأمة كما تهيأت في عصرنا.
والآن... ما هو رأي الفقهاء في الأخذ بالحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور العربية؟
إن فقهاء الإسلام الأوائل في المذاهب المختلفة يكاد يتفق رأيهم في عدم اعتبار الطرق الحسابية الفلكية في إثبات بداية الأشهر الهجرية؛ حيث إن الحساب الفلكي في أزمنتهم كان مقرونًا بالتنجيم، إلا أن الحساب الفلكي الآن يختلف عن التنجيم من حيث الدقة العلمية، حيث يعتمد على علمين حديثين هما الهندسة الكروية والميكانيكا السماوية، وهما العلمان الأساسان اللذان استطاع بهما الإنسان الهبوط على سطح القمر منذ حوالي الربع قرن.
لذلك فقد قال العلامة الشيخ الدكتور "مصطفى أحمد الزرقا": "لا أجد في اختلاف علماء الشريعة المعاصرين اختلافًا يدعو إلى الاستغراب بل إلى الدهشة أكثر من اختلافهم من جواز الاعتماد شرعًا على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية في عصر ارتاد علماؤه أجزاء من الفضاء الكوني وأصبح من أصغر إنجازاتهم النزول على القمر. وإذا كان الرصد الفلكي وحساباته من الزمن الماضي لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم إلى يومنا هذا؟
وقال أيضًا: إن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع يبرز العلة السببية في أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته، ويبين أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافر العلم بالنظام الفلكي المحكم الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف ولا تتخلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر وفي أي وقت، تمكن رؤيته بالعين الباصرة إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية؛ فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الحالات التي أصبحت مخجلة بل مذهلة حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم والإفطار بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام.
ويضيف: أن الفقهاء الأوائل لم يعتمدوا الحساب المبني على الحدس والتخمين، ولم يكن في وقتهم علم للفلك قائمًا على رصد دقيق بوسائل محكمة.
وقد لخص العلامة الشيخ الأستاذ "المختار السلامي" رأيه في أن يعتبر الحساب وسيلة يقينية لثبوت دخول الشهور القمرية ونهايتها، وأن العبرة بوضع القمر وضعاً تمكن رؤيته، وأن كل دعوى رؤية تخالف الحساب هي دعوى مرفوضة يكذب صاحبها شأن الشهادة بما يخالف الواقع، وأن القصد هو العمل على توحيد المسلمين في أعيادهم وفي صومهم ونسكهم.
أما دار الإفتاء المصرية، فإن موقفها الثابت خلال الفترة الأخيرة هو: أن الرؤية البصرية هي الأساس لثبوت دخول الشهور القمرية ونهايتها، وأن الحساب الفلكي يكون دليلاً عليها لا بديل لها وأن كل دعوى رؤية تخالف الحساب هي دعوى مرفوضة، وعلى أساس أن الإسلام يدعو للأخذ بالعلم الصحيح.
والآن... ومع بشائر قدوم شهر رمضان المعظم، فإنه يبدأ معه النقاش في يومه الأول وفي يومه الأخير، ونتيجة لتلك المناقشات التي قد تنتهي بالاختلاف يصوم شعوب بعض البلاد الإسلامية في يوم سابق، وشعوب بلاد أخرى في يوم لاحق، والحالة نفسها تتكرر في الأعياد والمناسبات الدينية الأخرى.
إن الاختلافات هذه ناتجة عن استخدام الطرق المختلفة فيما بينها لتعيين أوائل الشهور، إضافة إلى تباعد البلاد الإسلامية فيما بينها على سطح الكرة الأرضية. ففي بعض البلاد الإسلامية يتم تعيين أوائل هذه الشهور القمرية بالحساب؛ حيث تقيم حساباتها على أساس وقت المحاق وعندها تعلن أول الشهر القمري، وفي البلاد الأخرى تعتمد الزمن الذي يمكن أن يُرى فيه الهلال، وعندها تعتبر الأيام التي تلي أيام الرؤية أول الشهور المذكورة، وهناك بلاد إسلامية أخرى (تركيا على سبيل المثال) تعتمد على قرار اللجنة الفقهية للمؤتمر الإسلامي الذي عقد في مدينة "إسطنبول" عام 1978م بشأن تحديد ظروف الهلال.
ــــــــــــــــــــ(1/193)
جانا العيد
حسام عبد القادر
...
25/12/2000
بعد انتهاء شهر الصيام يحتفل المسلمون في جميع أنحاء العالم بعيد الفطر؛ فيلبسون أزهى ملابسهم، ويبدءون يومهم بصلاة العيد، ويمارسون شعائرهم وعاداتهم الجميلة في العيد، ولكن كيف كان يحتفل المصريون بعيد الفطر قديمًا؟ يحكي لنا المؤرخ إبراهيم عناني عضو اتحاد المؤرخين العرب فيقول: في عصر الإمبراطورية العثمانية كان الاحتفال الرسمي يبدأ عقب أداء صلاة فجر أول أيام العيد، حيث يصعد أمراء الدولة والقضاة في موكب إلى القلعة، ويتوجهون إلى جامع الناصر محمد بن قلاوون داخل القلعة لأداء صلاة العيد ثم يصطفون لتهنئة الباشا. وفي اليوم التالي كان الباشا ينزل للاحتفال الرسمي بالعيد في (الجوسق) المعد له بميدان الرملية (القلعة) والذي فُرش بأفخر الوسائد والطفافس، ويتقدم للتهنئة الأمراء الصناجق (كبار البكوات المماليك) والاختيارية (كبار الضباط) وكتخدا اليكنجرية (الانكشارية) وتقدم القهوة والحلوى والشربات، وتفوح روائح المسك والبخور، ثم يخلع الباشا على أرباب المناصب والأمراء، كما يأمر بالإفراج عن بعض المساجين.
ويسهر الناس ليلة العيد في ابتهاج وسرور، وقد أعدوا الكعك والحلوى لتقديمها للأهل والزوار ويأخذ رب الأسرة زينته ويصطحب أولاده إلى المسجد لأداء صلاة العيد، كما اعتاد الناس زيارة المقابر للتصديق على أرواح موتاهم وإشعارهم بالأنس والمحبة، ويحرص الشباب على الخروج في جماعات للنزهة في النيل، كما يشهد خليج القاهرة وبِرْكة الأزبكية وبركة الفيل وجزيرة الروضة ازدحامًا هائلاً.. وكانت مدافع القلعة تُطلق أيام العيد الثلاثة في أوقات الصلاة الخمسة.
كعك العيد
في الثلث الأخير من شهر رمضان يبدأ الناس في الإعداد لعيد الفطر وأبرز مظاهر هذه الاستعدادات (كعك العيد) ويرجع صنع الكعك إلى العصر الفرعوني؛ حيث كانوا يضعونه مع الموتى داخل المقابر.. وكانوا ينقشون على الكعك رسم الشمس (آتون) التي عبدوها لزمن طويل، ومن المدهش أن القاهرة الإسلامية قد عرفت فكرة القوالب، فمتحف الفن الإسلامي يحتفظ ببعض منها مكتوب عليه: (بالشكر قدوم النعم) ... (كل هنيئا) (كل واشكر) أما في الأعياد؛ فكانوا يشكلونه على هيئة عرائس.
وفي طلعة العيد كانت تحرص المصريات خاصة في الريف وصعيد مصر على تقديم كعك على هيئة (حلقات) محلاة بالسكر؛ ليوزع على الفقراء بالمقابر؛ ففي معتقداتهم أن (ملاك الرحمة) يقوم بتعليقها من منتصفها في أحد فروع شجرة الحسنات.
العصر الحديث
أما في العصر الحديث فيقول إبراهيم عناني: كان المصلون يحتشدون بعد طلوع الشمس مباشرة في أبهى حلة في الجوامع، ويؤدون صلاة العيد، ويحرص الجميع على ارتداء ملابس جديدة، كذلك يقدم أرباب البيوت ثياباً جديدة لخدمهم الذين يحصلون أيضًا على العيدية من الزوار الذين أتوا للتهنئة بالعيد، ويُؤكل أيام العيد: الكعك - الفطير - الشريك - السمك المملح، وكميات هائلة من المكسرات، والبعض يفضل أطباقًا من اللحم والبصل والطحينة ... ومعظم المحلات تغلق أبوابها خلال أيام العيد.
ــــــــــــــــــــ(1/194)
عيد الفطرالفاطمي موائد عامرة.. وحلل جديدة
عماد حسين
كانت احتفالات عيد الفطر لها طابع مميز في عهد الدولة الفاطمية، فهو عندهم "الموسم الكبير"، على حد تعبير المقريزي، كما كان يطلق عليه عيد "الحُلل" لتوزيع الكسوات على جميع موظفي الدولة كبيرهم وصغيرهم فتعم الجميع من الخليفة إلى أدنى موظفي القصر.
وقد بدأ الفاطميون احتفالهم الرسمي بهذا العيد منذ قدوم الخليفة المعز لدين الله سنة 362هـ/972م فيذكر ابن زولاق أن المعز ركب في هذا العام لصلاة عيد الفطر إلى المصلى الذي يقع شرقي القصر الكبير ، وقد بناه القائد جوهر لهذا الغرض.
كما يروى في أحداث سنة 380هـ/990م أن الخليفة العزيز خرج في موكب صلاة عيد الفطر في هذا المصلى وقد أقيمت لهذا الغرض مصاطب على الطريق الذي يسلكه الخليفة بين المصلى والقصر، وقد اصطفّى عليها المؤذنون، كما يجلس على كل مصطبة جماعة من أنصار الدولة من الشيعة تخرج بأسمائهم كشوف من قاضي القضاة وداعي الدعاة محمد بن النعمان، فيجلس هؤلاء الاتباع إلى المصاطب حسب ترتيب أسمائهم، ويبدأ التكبير والابتهالات من القصر إلى المصلى بين المؤذنين الذين على المصاطب، والخليفة يخترق هذا الطريق في موكبه الضخم الذي يضم طوائف العسكر في أبهى زينة، وكان يشترك في هذا الموكب الفيلة والزرافات والأسود المزينة بالأجلة والحرير وعليها قباب الذهب.
وكانت الفيلة المشتركة في الموكب عليها الأسرة يجلس فوقها العسكر بكامل زيهم وسلاحهم، والموسيقى المصاحبة للموكب تصدح بأنغام قوية وتحوي بين آلاتها أبواقًا خاصة لا تعزف إلا بمصاحبة الخليفة، وقد انتشرت في كل مكان البنود (أي الإعلام) والمفضضة والتي تحمل عبارات النصر على أسنة الرماح، والناس محتشدون على جانب الطريق للتطلع إلى الخليفة ولمشاهدة ما يحويه الموكب من مظاهر القوة والفخامة. وعند وصول الخليفة إلى المصلى كان يؤم الناس في صلاة العيد طبقًا لرسوم محددة. وفي طريق عودة الخليفة إلى القصر، يحتشد الناس لمشاهدة الألعاب التي يقوم بها طائفة من أهل برقة يطلق عليها "صبيان الخف" تخصصت في الألعاب البهلوانية، وكانت الدولة تخصص لها إقطاعات ومرتبات ورسوم، ويبدو أن الخليفة كان يقف بموكبه لمشاهدة ألعابهم عند باب القصر، فكانوا يمدون حبلين من أعلى باب القصر إلى الأرض وينزل على الحبلين جماعة منهم وهم يركبون خيلا من خشب، ويحملون الرايات ويحمل الراكب فردًا آخر معلقًا بيديه ورجليه، وآخر خلفه!! ويقومون بمجموعة من الألعاب المذهلة. كما يركب جماعة منهم على الخيول ويتقلبون عليها وهي مسرعة، ويخرج الواحد منهم من أسفل الفرس ثم يعود للركوب من الجهة الأخرى، ومنهم من يقف على ظهر الحصان وهو مسرع!!
وكانت هذه الألعاب والاستعراضات تجري أمام الخليفة في عيدي الفطر والأضحى وفي موكب فتح الخليج. وكان من عادة الخلفاء في هذه المناسبة أن يزوروا تربة الزعفران التي تحوي رفات الخلفاء الفاطميين السابقين للترحم عليهم وتوزيع الصدقات.
وكان من أهم مظاهر الاحتفال بعيد الفطر توزيع الحلوى على جميع موظفي الدولة وإقامة الأسمطة الضخمة التي تحوي كل طريف في القصر، وقد أنشئ لهذا الغرض مطبخ لصناعة الحلوى أطلق عليه "دار الفطرة"، وقد أنشئت في عهد الخليفة العزيز بالله وهو أول من بنى "دار الفطرة" وقرر فيها عمل ما يحمل للناس في العيد، ويبدأ العمل في هذه الدار منذ نصف رجب فيخزن داخلها كميات كبيرة من السكر والعسل وقلوب اللوز والجوز والفستق والبندق والدقيق والتمر والزبيب والمواد العطرية، ويستمر العمل استعدادًا لحول عيد الفطر في صنع أصناف الحلوى المختلفة مثل: الرقاق المحشو وبالفستق واللوز (الخشكنانج) وحلى تصنع من الدقيق والملح (البستندود) وكعب الغزال ولقمة القاضي وغيرها، وتخزن هذه الأصناف في مخازن داخل دار الفطرة، وكان الخليفة يحضر نفسه بصحبة الوزير للاطمئنان على سير العمل في النصف الثاني من شهر رمضان، ثم يبدأ من هذا التاريخ توزيع الحلوى على جميع أرباب الرتب في الدولة والموظفين كبيرهم وصغيرهم في صوانٍ تحمل كل صينية اسم صاحبها، ويختلف حجم الصينية وكمية الحلوى حسب مكان كل فرد، ويحمل هذه الحلوى فراشون مخصصون لهذا العمل، وهم في أتم زينة ويرتدون الثياب الفاخرة.
وكان يقام في القصر سماطان (أي مائدتان) بمناسبة عيد الفطر، السماط الأول: يباح للناس ولعامة موظفي القصر من أرباب الوظائف الصغيرة، كان يبدأ في إعداد هذا السماط من ليلة العيد في الإيوان الكبير المطل على الشباك الذي ينظر منه الخليفة، ويحتشد السماط بأصناف الأطعمة والحلوى والتي صنعت في دار الفطرة، فإذا صلى الخليفة صلاة الفجر جلس في الشباك المطل على الإيوان وحضر إليه الوزير وأمر أن يسمح للناس بالطعام، فيقبل الجميع على السماط فيأكلون كفايتهم ويسمح لهم ما يستطيعون حمله حتى أن بعضهم كان يبيع من هذه الحلوى ما لا حاجة له بها.
أما السماط الثاني: فكان يقام في قاعة الذهب بالقصر بعد عودة الخليفة من صلاة العيد الفطر، فتوضع أمام سرير الملك الخاص بالخليفة مائدة ضخمة من الفضة تسمى "المدورة" عليها من الأطعمة في أوانٍ من الذهب والفضة والخزف الصيني، وهي خاصة بالخليفة فلا تحوي من الأطعمة إلا الخاص الفائحة الطيب من غير خضروات سوى الدجاج الفائق المسمن المعمول بالأمزجة الطيبة ،ونُصب على رأس السماط قصران كبيران من الحلوى قد صنعا لهذا المناسبة في دار الفطرة مدهونان بأوراق الذهب وبهما تماثيل من سكر في غاية الدقة في صناعاتها كأنها مسبوكة في قوالب، وكان هذا السماط مخصصا لكبار رجال الدولة والأمراء. ويعم أهل القاهرة والفسطاط من هذه المائدة طعام وفير وتستمر المائدة إلى قرب الظهر، وخلال الطعام يقرأ القراء ويكبر المؤذنون وينشد المنشدون ويتبارى الشعراء في إلقاء قصائدهم في هذه المناسبة، ويتقدم كبار رجال الدولة من الشيوخ والقضاة والشهود والأمراء والكتاب والفقهاء ورجال العلم وأعيان القاهرة والفسطاط للسلام على الخليفة كما يتقدم للسلام أيضا زعماء اليهود برئيسهم، والنصارى ببطريقهم ويوزع على الجميع خلال ذلك الحلل والهبات حسب العادة المتبعة.
وبمغادرة الخليفة لمجلسه ينتهي السماط ثم يتبعه الوزير وباقي الحاضرين، وكان الوزير يقيم سماطًا آخر مختصرًا في دار الوزارة لأهله وحاشيته.
وكان عيد الفطر من المناسبات التي ترسل فيها المكاتبات المعطرة إلى أنحاء الدولة الفاطمية، والأقطار الخاضعة لها لتصف عظمة موكب الخليفة وعودته سالمًا إلى قصره وانتهاء الاحتفالات بسلام
ــــــــــــــــــــ(1/195)
ليلة عيد صورة قلمية
منير عتيبة
البهجة البريئة المقطرة أتشمم عبيرها الآن.. أحاول استعادة إحساسي القديم.. الليلة ليلة عيد.. يقترب الفجر حثيثًا.. أتأمل البخار المتكاثف فوق مياه الترعة الرقراق..
نجرى إلى ساحة القرية أمام المسجد.. نلعب بجوار النخلتين المتعانقتين.. "وحنفية المياه" التي تملأ منها كل بيوت القرية.. نخلع ملابسنا.. نقف عرايا تحت الحنفية.. نتقاذف بالمياه المندفعة في هدأة ليلة العيد كموسيقى ذات وقع حلمي.. نكتفي.. نرتدي ملابسنا.. نرى "جدو" قادماً في خطى شاب تعدى الثمانين بعدة سنوات.. شاب فعلاً لا يستند على عصا.. العزيمة تملأ جسده النحيف المحنى الأكتاف ووجهه الممصوص ورقبته المعروقة، عروقها مثل "زعازيع" القصب.. الطاقية الشبيكة يبين من تحتها شعره الفضى الخفيف. اسمه عبد الرازق.. كل القرية تقول له "يا جدو".. مات مرتين.. أقصد قيل أنه مات مرتين.. وغُسِّل.. وكُفِّن.. وتم تجهيز المسجد والساحة التي أمامه لاستقبال المعزين.. ثم يقوم بأكفانه ويضحك "والله لأوصلكم كلكم للقبر بيدي يا بلد عيال" فقد كانت إغماءة طويلة..
نجرى إلى جدو.. يناول مفتاح المسجد لأحدنا.. يسرع صاحب المفتاح ويفتح.. نخلع أحذيتنا ونلقى بها أمام المسجد.. ونبدأ في "خدمة العيد" كما كان يسميها جدو.. أحدنا يمسك المكنسة.. وآخر يأخذ دلوًا ويذهب ليملأه من الحنفية.. وثالث يلملم الحصير ويضعه أمام المسجد.. نكنس المسجد جيدًا.. ونغمره بالماء أكثر من مره.. ونجففه.. وننفض الحصير ليصبح كالجديد.. ونفرشه.. ونجرى إلى "جنينة الدياش" (التي أصبحت الآن مصنعاً للأدوات الصحية!!) ونقطف بعض الورود ونضعها في أركان المسجد.. ويخرج جدو من جيب الصديري زجاجة المسك التي جلبها معه "الحاج رضوان" الذي كان يؤدى عمرة رمضان هذا العام.. يرش جدو الزجاجة كلها في المسجد..
ننتهي من العمل كله والفجر ما زال بعيدًا.. بقيت ساعة أو أكثر.. يطلب منا جدو أن ننام على الحصير لنستريح.. لكن الأولاد لا ينامون في ليلة العيد.. نخرج من المسجد.. نلعب حول النخلتين.. نقذفهما بالطوب ونجمع البلح المتساقط.. يتسلقهما بعضنا ليجلب مزيدًا من البلح.. نغسل البلح.. نجرى به إلى جدو.. يفرح به جدو "سنعطى بلحة لكل مصلى".. نتحمس.. نجرى لنأتي بكمية أخرى من البلح ونغسلها ونعطيها لجدو..
نشعر بالتعب.. فنسرع إلى الحنفية.. نخلع ملابسنا.. نستحم.. نرتدي ملابسنا.. نجرى إلى المسجد.. جدو مستند برأسه إلى الحائط.. وصوت شخيره يملأ المسجد.. يُقبل "الشيخ عبد المحسن".. "السلام عليكم.. كل عام وأنتم بخير يا أولاد"..، "وأنت بخير يا سيدنا الشيخ.. وأنت طيب يا مولانا" يستيقظ جدو من غفوته.. يرى الشيخ عبد المحسن.. يبتسم.. يهم بالوقوف.. يضع الشيخ عبد المحسن يده على كتف جدو ليمنعه من الوقوف.. ويجلس بجانبه.. يتعانقان.. "كل سنة وأنت طيب يا جدو" "كل سنة وأنت طيب يا شيخ".. يصعد الشيخ عبد المحسن فوق سطح المسجد.. "الله.. الله.. الله" ثم ينشد بعض التواشيح بصوته الندي الشجي.. يتوافد المصلون والمعيدون.. الوجوه نضرة مغسولة بالفرحة.. الملابس زاهية الألوان.. تمر النساء بجوار المسجد بملابسهن السوداء في طريقهن إلى المقابر ليعيدن على أمواتهن.. بُح صوت الشيخ عبد المحسن وهو يؤكد أن زيارة النساء للمقابر حرام ولا أحد يستجيب..
يمتلئ المسجد والساحة أمامه بالمصلين.. تنتهي الصلاة.. ننطلق إلى بيوتنا.. نتناول فطور العيد مع العائلة.. نرتدي الملابس الجديدة.. نخرج لنلعب بالبمب.. نركب المرجيحة التي يقيمها "حمدي الأعرج" ببعض عروق الخشب القديمة..
"الله.. الله.. الله".. صوت "الشيخ منصور" يأتيني عبر الميكروفون.. يأخذني من الذكريات الجميلة.. أقوم فأتوضأ.. أذهب مع المصلين في ذهني أبيات لا أتذكر قائلها :
وطن النجوم أنا هنا حدق أتذكر من أنا
ألمحت في الماضي البعيد فتى غريرًا أرعنا
جذلان يمرح في حقولك كالنسيم مدندنًا
أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ها هنا
ــــــــــــــــــــ(1/196)
خطبة العيد.. زمان
* في أول أيام العيد كان الوزير الفاطمي أو المملوكي يسير يوم العيد من منزله ومعه كبار رجال الدولة في ملابسهم الجديدة إلى باب القصر، ويركب الخليفة بهيئة المواكب العظيمة، وتكون ملابسه في العيد بيضاء موشاة بالفضة والذهب ومظلته كذلك، وكان يخرج من باب العيد على عادته في ركوب المواكب .. إلا أن عساكره في هذا اليوم من الأمراء والأجناد والركبان والمشاة تكون أكثر وينتظم الجند له في صفين من باب القصر إلى المُصلَّى.
ويركب الخليفة إلى المصلى ويدخل من شرفتها إلى مكان يستريح فيه فترة ثم يخرج محفوفًا بحاشيته قاصدًا المحراب والوزير والقاضي وراءه .. فيصلى العيد ويقرأ في الركعة الأولى ما هو مكتوب في الستر الأيمن ويقرأ في الثانية ما هو مكتوب في الستر على يساره.
فإذا انتهت الصلاة وسلم صعد المنبر لخطبة العيد، فإذا انتهى إلى ذروة المنبر جلس على الطراحة الحريرية بحيث يراه الناس، ويقف أسفل المنبر الوزير والقاضي والحاشية، ثم يشير الخليفة إلى الوزير بالصعود فيصعد حتى ينتهي إلى سابع درجة مقدمًا إلى الخليفة نص الخطبة التي أعدها ديوان الإنشاء وسبق عرضها على الخليفة.
وبعد مقدمات وإشارات يستر الخليفة باللواءين المركزين في جانبي المصلى وينادى على الناس بالإنصات فيخطب الخليفة من النص الذي قدم له، فإذا فرغ من الخطبة أخلى المنبر فيهبط ويدخل المكان الذي خرج منه يلبث قليلا ثم يعود بموكبه ويحضر مع أفراد الشعب "أسمطة" الولائم من أنواع الأطعمة والحلوى. *"العيدية" من أهم مظاهر الاحتفال بالنسبة للأطفال في العيد حيث يقوم الكبار بإعطاء صغارهم عيدية العيد وهى غالبا ما تكون مبلغًا من المال .. والعيدية كلمة عربية منسوبة إلى العيد بمعنى العطاء أو العطف، وترجع هذه العادة إلى عصر المماليك. فكان السلطان المملوكي يصرف راتبًا بمناسبة العيد للأتباع من الجنود والأمراء ومن يعملون معه؛ وكان اسمها "الجامكية". وتتفاوت قيمة العيدية تبعًا للراتب، فكانت تقدم للبعض على شكل طبق مملوء بالدنانير الذهبية، وآخرون تقدم لهم دنانير من الفضة، إلى جانب الدنانير كانت تقدم المأكولات الفاخرة. وفى العصر العثماني أخذت العيدية أشكالاً أخرى فتقدم نقودًا وهدايا للأطفال، واستمر هذا التقليد إلى العصر الحديث
ــــــــــــــــــــ(1/197)
العيد في الفضاء
هيام السيد
وعندما اقترب موعد العيد، وجدتني أفكر في شئ غريب ومختلف لم يخطر ببالي من قبل، ففكرت كيف يكون العيد، وكيف تكون مظاهره في الفضاء الخارجي؟! لا أعرف لماذا خطر لي هذا الخاطر؟.. ووجدتني أشارك فيه من حولي وأطرح عليهم نفس السؤال الذي طرح نفسه على ذهني:
كيف تكون مظاهر العيد في الفضاء؟!
وكانت المفاجأة أن كل من حولي قد استنكر عليّ السؤال، وقام بعضهم بترديد بعض التعليقات الظريفة وربما السخيفة على هذا السؤال، وأعتقد أن هذا هو ما جعلني أبحث عن إجابة أو بمعنى أصح أتخيل تلك الإجابة، فتخيلت كيف يكون العيد في العوالم الأخرى!! وإذا كانت هناك مخلوقات تعيش على سطح الكواكب والمجرات فماذا سترتدى يوم العيد؟! هل عندهم ثياب جديدة يرتدونها مثلنا.
ولكن قابلتني مشكلة صعبة التخيل ! ماذا لو وجدت "مراجيح" في الفضاء؟! وماذا سيكون شكلها وهيئتها؟! "فالمراجيح" أهم ما يميز العيد ومظهر هام من مظاهر الفرحة به، أعتقد أنها لو وجدت هناك فلا بد أنها ستكون على شكل أقمار صناعية صغيرة متشابكة مع بعضها البعض فيما يشبه المجموعة الشمسية تدور في الفراغ حول نفسها دون أي جاذبية. تخيلات غريبة جدًّا تلك التي أصابتني، والأغرب منها هو لماذا أتخيلها وأبحث فيها؟!! هل هذا نتيجة طبيعية لكل التطورات الحديثة التي تمر بنا ونتعامل معها في هذا العصر؟ أو نتيجة لقدوم الألفية الجديدة؟ وأن هذا هو أول عيد فيها، وربما أيضًا يكون نتيجة لأنني أتعامل الآن وبشكل يومي ومباشر مع فضاء آخر من نوع جديد ألا وهو الفضاء الإليكتروني، حيث أصبح لي عالم آخر ودنيا جديدة أعيش وأتعايش معها على شبكة الإنترنت.
هذا العالم الجديد الذي فرضته علينا كل مستحدثات التكنولوجيا الحديثة من سرعة هائلة تكاد تكون مخيفة، ومن تطورات سريعة ومتلاحقة في مختلف المجالات والعلوم والفنون، هذا العالم الذي اختلفت حوله الأقوال والآراء وكثر الحديث عن إيجابياته وسلبياته أصبح لي فيه دنيا حياة خاصة جدًا. فمن خلال تلك الشاشة الصغيرة ومن خلال لوحة المفاتيح التي كنت دوما أعتقد أنها مجرد مجموعة من المفاتيح التي تؤدى دور الكتابة والحروف، ومن خلال هذا الجهاز الصغير اطلعت على هذا الفضاء الإليكتروني وأصبحت كل الأشياء ذات صفات ومعانٍ جديدة؛ فأصبحت الشاشة الصغيرة عالمًا كبيرًا وفضاء حقيقيًّا أسبح فيه كل يوم وكل ليلة، وأصبحت تلك المفاتيح البيضاء (Key board ) هي اللغة الموحدة للتخاطب مع العالم بأكمله بالرغم من اختلاف اللهجات واللغات والجنسيات.
في البداية خفق قلبي بشدة وشعرت بالفعل أنني رائدة فضاء ولكنني في فضاء لا أعرف عنه شيء، ولكن بمرور الوقت واكتساب بعض الخبرات أصبحت أملك هذا العالم الجديد، أملك دنيا مختلفة تماما عن تلك التي أعيش فيها، فأصبح لي عبر تلك الشاشة صداقات حقيقة مع أشخاص ربما يكونون غير حقيقيين؛ فهم أشخاص لم أقابلهم، ولم أتعرف على صورهم، ولكني أعرف شخصياتهم، ولى أيضا بخلاف الأصدقاء أسرة وأخوة وأخوات وزملاء دراسة وعمل، والعجيب في الأمر أن يكون لي أبناء أيضا!!
كل هذا الفضاء الخيالي أو الإليكتروني أصبح جزءاً هامًا من حياتي لا يمكن الاستغناء عنه، وأصبح لي موعد محدد لا بد أن انطلق فيه إلى عالمي الخاص. وربما يثير الدهشة والابتسام أيضا أن لي عملاً خياليًّا، ولى دفتر أوقع فيه كل يوم بالحضور والانصراف، وأحيانا نفرض بعض الغرامات على المتأخرين عن موعد الحضور أو المتغيبين دون عذر مسبق، هذا كله بخلاف خبرات وعلاقات العمل والتي اكتسبت منها الكثير بالفعل، وأضافت لي ولعملي مهارات جديدة ومفيدة.
وإذا كنا في البداية تخيلنا العيد في الفضاء فالعيد في فضائي الإليكتروني له شكل مختلف وطابع خاص، فالكثير والكثير من المواقع الإليكترونية على شبكة الإنترنت قد خصصت جزءًا كبيرًا ومواقع خاصة لإرسال كروت التهنئة بعيد الفطر، وكذلك جميع الأعياد والمناسبات، وتلك الكروت الإليكترونية هي بمثابة برقيات التهنئة والمعايدة، وبالطبع لا تخلو هذه المواقع من بعض الكروت ذات الطابع الفكاهي الظريف، والتي نرسلها لبعضنا البعض من باب الدعابة وإدخال السرور (مقالب يعنى) كذلك فقد اتفق معي بعض الأصدقاء على القيام بنزهة خلال إجازة العيد بالرغم من اختلاف البلاد التي نعيش فيها لكننا اتفقنا على أن يصحب كل واحد منا الآخرين معه في نزهة خاصة داخل بلده ليعرفهم عليها ونستمتع سويا بزيارة كل هذه البلاد، وليصبح العيد الإليكتروني عندنا شيئًا جديدًا ومفيدًا. وبالطبع فلم ننس كعك العيد حيث تهتم به الكثير من البلاد العربية، فلقد اتفقنا أيضا على إرسال عينات من هذا الكعك على البريد الأليكتروني (Email) الخاص بكل منا على أن يكون ملف (File) محشو بالعجمية والمكسرات ومحفوظ (Save) بالسكر.
أعلم أنه عالم غريب وربما خيالي ولكنني بالفعل أعيش فيه وأتفاعل معه كل يوم وليلة، وأصبح فضائي الإليكتروني كوكبًا جديدًا أعيش على سطحه وأخوض تجربته بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات وأفراح وأعياد، ولعلنا نكتشف المزيد من تلك الكواكب ونصبح روادًا حقيقيين في عالم غير حقيقي.
وكل عام وأنتم بخير
ــــــــــــــــــــ(1/198)
غِبْ يا هلال!
عبد الرحمن عشماوي
غِبْ يا هلالْ..
إني أخاف عليك من قهر الرجالْ
قِف من وراء الغيم
لا تنشر ضياءك فوق أعناق التلالْ
غِبْ يا هلالْ..
إني لأخشى أن يُصيبك
حين تلمحنا الخَبَالْ
أنا يا هلالْ
أنا طفلةٌ عربيةٌ فارقت أسرتنا الكريمهْ
لي قصةٌ
دمويةُ الأحداث باكية أليمهْ
أنا يا هلالْ
أنا من ضحايا الاحتلالْ
أنا من وُلدت
وفي فمي ثَدْيُ الهزيمهْ
شاهدتُ يومًا عند منزِلِنا كتيبهْ
في يومِها
كان الظلامُ مكدسًا
من حول قريتنا الحبيبهْ
في يومِها
ساق الجنودُ أبي
وفي عينيه أنهارٌ حبيسهْ
وتجمعت تلك الذئابُ الغُبْرُ
في طلب الفريسَهْ
ورأيت جنديًا يحاصر جسم والدتي
بنظرته المريبهْ
ما زلت أسمع يا هلالْ
ما زلت أسمع صوت أمِّي
وهْي تسْتجدي العروبهْ
ما زلت أبصر نصل خنجرها الكريمْ
صانتْ به الشرفَ العظيم
مسكينةٌ أمِّي
فقد ماتتْ
وما عَلِمَتْ بموْتتها العروبهْ
إني لأعجب يا هلال
يترنَّح المذياعُ من طرب!!
وينتعش القدحْ!!
وتهيج موسيقى المرحْ!!
والمطربون يرددون على مسامعنا
ترانيم الفرحْ!!
وبرامج التلفاز تعرضُ لوحة للتهنئهْ
"عيدٌ سعيدٌ يا صغارْ"..!!
والطفلُ في لبنان يجهل منشأهْ
وبراعم الأقصى عرايا جائعونْ
واللاجئونَ
يصارعون الأَوْبئَهْ
غِبْ يا هلالْ
لا تأتِ بالعيد السعيد
مع الأنينْ
أنا لا أريد العيد مقطوعَ الوتينْ
أتظنُ أن العيدَ في حلوى
وأثواب جديدهْ؟!
أتظنُ أنَّ العيد تهنئهْ
تُسطَّر في جريدهْ؟
غِبْ يا هلالْ
واطلعْ علينا حين يبتسم الزمنْ
وتموت نيران الفتنْ
اطلع علينا
حين يُورق بابتسامتنا المساءْ
ويذوب في طرقاتنا ثلج الشتاءْ
اطلعْ علينا بالشذا
بالعز بالنصر المبينْ
اطلعْ علينا بالتئام الشمل
بين المسلمينْ
هذا هو العيدُ السعيدْ
وسواهُ
ليس لنا بِعيدْ
غِبْ يا هلالْ
حتى ترى رايات أمتنا ترفرفُ في شَمَمْ
فهناك عيدٌ
أي عيدْ
وهناك يبتسم الشقيُّ مع السعيدْ
- - - - - - - - - - - - - - -
نفحات رمضان
مشاريع رمضانية
الحمد لله رب العالمين، تفضل على عباده بمواسم الطاعة، ليتميز أولو العزم والهمة، ولينكشف على الحقيقة أصحاب التراخي والمهانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أثنى على نفسه خيراً، وثنى بالتحية على عباده الذين اصطفى " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرُ البرية وأزكاها صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله ورضى الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
معاشر المسلمين: بُشراكم جميعاً شهر الصيام، أهلّه الله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام ، وجعله الله علينا وعلى المسلمين شهر بركة وخير، ومغفرة للذنوب، ورفعة للدرجات.
عباد الله : يحق لنا أن نفرح بهذا الضيف العزيز بعد طول عناءٍ، وبعد رحلة شاقة في دروب الحياة الدنيا، تملأ بالصد والإعراض، والإسراف في الذنوب، والظلم للنفس أو للآخرين، يشهد الكون فيها على الجراح النازفة، والبلايا والخطوبِ النازلة، والفتن والملاحم المتتابعة، والضعف والفُرقة، والتخاذل بين المسلمين - إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم - كيف لا نفرحُ فيك يا شهرَ الصيام! ونفرٌ من المسلمين لا يُحسون بالآم الجوع إلا حين يصومون، ومن إخوانهم من يتضورون جوعاً وهم مفطرون،وكيف لا نفرح فيك يا شهر رمضان ونفرٌ من المسلمين تكادُ أن تكون صلتُهم بالقرآن مقطوعةً إلا في شهر رمضان ، أجل لقد جفّت مآقينا عن البكاء، فهل نجد فيك يا شهر الصيام باعثاً للبكاء على خشية الله ؟
طال سُباتُ نومنا، فهل يكون شهرُ الصيام موقظاً لقلوبنا بالصيام؟ واختلط اللغو، وكادت أصواتُ الخَنا والغناء أن تصمّ الآذان، فهل تكون يا شهرَ الصيام سبباً لسلامةِ أسماعنا؟ وتفنن الأعداءُ وأصحابُ الأهواء والشهوات في إخراج الصّور الفاضحة، ليصدوا الناس ويفتنوهم، فينشر الإثمُ عارياً. فهل يكون شهر رمضان سبباً في حفظِ أبصارِنا والمحافظةِ على قيمنا ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الاسراء:36).
معاشر الصائمين : إننا قبل الصيام وبعد الصيام مدعوون لأمرٍ عظيم، هو غايةُ الصيام وحكمتُه- وهو وصية الله وكلمته - وسوقُه روج في الصيام أكثر من غيرِه، كيف لا وقد قال الله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) (البقرة:182)
إن التقوى: وصيةُ الله للأولين والآخرين (( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)) (النساء: 131) .
وهي وصيتُه سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ )) (الأحزاب: 1) .
تقوى الله: وصيتُه سبحانه وتعالى للمؤمنين خاصة (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ )) (آل عمران:102) .
وهي وصيتُه للناس كافة: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) (النساء: 1) .
وبالتقوى: أوصى محمدٌ صلى الله عليه وسلم على الدوام وحيثما كان الزمان والمكان (( اتق الله حيثما كنت))
وإن سألتم عن حقيقة التقوى وآثارِها، أُجبتم بأن تقوى اللهِ نورٌ في القلوب، تظهر آثارُه على الجوارح، إنها سببٌ للفلاح والنجاح ((فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (المائدة: 100) .
ومنبعٌ للصلاح والإصلاح، ودليل للفرقان " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً" التقوى عمادٌ للمؤمنين في الدنيا، و أنيسه في القبر، ودليلُه إلى جناتٍ ونهرٍ، تقوى الله حصن حصينٌ في الأزمات، وذخيرةٌ حين الشدائدِ والملمات، تُثبت الأقدامَ في المز الق، وتربط القلوب في الفتن،
إنها أعظمُ كنزٍ يملكه ويحمله الإنسانُ في الدنيا، وأعظمُ نور يرد به على الله يوم المعاد (( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة:197)
أفلا تستحق بضاعةٌ تلك بعضُ صفاتِها وآثارِها أن يُسعى لها فهذا أوانُها، وذلك الشهرُ خيرُ معينٍ على تحقيقِها.
كم يدخل علينا من رمضانٍ ولم نمتحن أنفسنا على اكتساب التقوى، فهل يكون العام بآلامِه وآمالِه - فرصةً أكبر للتفطن لها وملءِ القلوب بها ، وتسيرِ الجوارحِ على مقتضاها، إنه كسبٌ عظيمٌ، وتجارة رابحة، نسألُ الله أن يعيننا على تحقيق التقوى- ومساكينُ من دخل عليهم رمضانُ وخرج، ورصيدُ التقوى جامدٌ لا يتحرك- أو يتحرك ببطء لا يكاد يُرى، إنني أدعو نفسي وإياكم إلى تحقيق التقوى، وافتح لنفسي ولكم مشاريع تُسهم في تحقيق التقوى، ومن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها،
أيها المسلمون : وأولُ هذه المشاريع الجالبة للتقوى: التوبةُ النصوح ، فالتوبةُ: هي بدايةُ الطريقِ ونهايتُه، وهي وظيفةُ العمر وبدايةُ العبد ونهايتُه، ودليلُه إلى الخيرِ وسائقُه، وهي المنزلةُ التي يفتقر إليها السائرون إلى الله في جميع مراحلِ سفرِهم ، وحيث حلوا أو ارتحلوا، إن التوبةَ ليست من منازل العصاةِ والمخلّطين فحسب، كما يظن كثيرٌ من الناس - وإن كان هؤلاء العصاة أحوجَ من غيرِهم إليها - بل هي عامةٌ للطائعين والعابدين والعاصين، وهذا سيدُ الطائعين، وإمامُ العابدين محمدٌ صلى الله عليه وسلم يخاطب الناسَ كافةً ويقول : (( يا أيها الناسُ توبوا إلى الله فإني أتوبُ إلى الله في اليوم مائة مرة )) رواه مسلم وأهلُ الإيمان يُدعون للتوبةِ ويقول الداعي سبحانه (( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (النور: 31) .
إنه نداءُ الرحمن أفلا نستجيب؟ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) (التحريم: 8)
نعم يا عبادَ الله، كلُنا محتاجٌ إلى التوبةِ النصوح - فكلنا مخطئون، وكلنا مقصّرون، وما أعظمَ ربُنا وأرحمه، وهو يدعونا إلى التوبةِ ليغفِر لنا ذنوبنا، ويكفر سيئاتنا، ويفتح لنا باب الرجاء، وبها يدخلنا الجنة ويعيذنا من النار .
إنها - أعني التوبة - تبدأُ بالهمةِ الصادقةِ، وتستمرُ العزيمةُ القويةُ لتتحوّل الشهواتُ المحرمةُ إلى طاعا ت وقربا ت تأنس بها في الدنيا، وتجد أجرَها يوم ترد على الله ،
يا من غلبتهم شهواتُهم وأهواؤُهم في رجب وشعبان، أفلا تغلبونها في رمضان ومن بعد رمضان ؟
ويا من سوّفت في التوبة، وأرجأت الإقلاعَ عن المعصية، ها هو شهر رمضان حلّ، وما تدري أتدركه عاماً آخر أم لا، بل ولستَ تدري أتُتِمُ شهرَ الصيام حيّاَ أم تكونُ في عداد الموتى، وشهرُ الصيام لا يزال حيّاَ ؟
إنني أدعو نفسي وإياك للتوبة دائماً، وفي شهر الصيام فابدأ وتوكل على الله ، واعلم بأنك تَرِدُ على كريمٍ غفار، يبسط يدَه ليتوب مسيئُ النهار، ويبسطُ يدَه بالنهار ليتوبَ مسيئُ الليل، فلا تستكثر معاصيك عن التوبة، وفتش وأنت أدرى بنفسك وبمعاصيك، واعقد العزمَ على التوبة، واحمد ربَّك على أنه بلغك شهر رمضان، وستجد له طعماَ آخر حين تبدأه بالتوبة، وتختمه بالشكرِ والحمد لله (( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ )) (النحل:53) (( وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ )) (النمل:40)
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، والصلاة والسلام عل المبعوثِ رحمةً للعالمين، والسراج المنير وعلى إخوانه من النبيين .
أيها الصائم: وثمة مشاريعُ - تؤكدُ حقيقةَ التقوى، ويُدلك بها على التوبة النصوحة - هذه المشاريع ساريةُ المفعولِ في كل حين- ولكنها تزكوا ويعظمُ أجرُها في شهر الصيام.
ومنها:
أولاً : مشروعُ الذكر والدعاء - وكم نُفرِّط في الذكر، وهو من أسهل العبادات وأزكاها، وخيرٌ من إنفاق الذهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم،
وما أروع المسلمَ والمسلمةَ ( إذا ظلَّ لسانُهما رطباً بذكر الله ، وما أجمل الصائمَ يُمضي شطراً من ليلِه ونهاره ذاكراً لله ، يُسبح ويحمد ويكبر ويهلل ، يستغفر لنفسه ولوالديه والمؤمنين ، ويدعوا بما شاء من خيرِيِ الدنيا والآخرة، ولا يخص بالدعوة نفسه بل يشمل غيره، ففضلُ الله واسع، والملكُ الموكلُ بالدعاءِ للآخرين بظهر الغيب يقول للداعي: ولك بمثل ما دعوتَ به ،
أيها الداعون : ولا تنسوا أمواتَكم بالدعاء، وتعلموا آداب وسننَ الدعاء
يا عبد الله: كم في الذكر من فائدة - وقد أوصلها بعضُهم إلى المائة أو تزيد.
وكم نُخطئُ بالليل والنهار؟ وفي الاستغفار تُحرق الخطايا وتذوب .
وكم لنا من حاجة ؟ وكم بإخواننا المسلمين من بأساء؟ فهل نتضرعُ إلى اللهِ بالدعاء لرفعها، والكريمُ يقولُ لنا "أدعوني استجب لكم " وللصائم دعوةٌ لا ترد ، لا سيما عند فطره، وفي الأسحار حين ينزل الرب وبين الآذان والإقامة، وفي السجود، وحين تلين القلوب ونحوها من مواطن إجابة الدعاء. فهل نستثمرُ فرصة الذكر والدعاء في رمضان ؟
إنها مكاسبُ سهلةُ الجهد، عظيمةُ الأثر .
ثانياً: مشاريع الإنفاقِ والصدقة : أيها الصائمُ شعارنا وأدلتُنا في القرآنِ والسنةِ تقول لنا في حينٍ (( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)) (سبأ:39) ((اللهم أعطِ منفقاً خلقاً وأعطِ ممسكاً تلفاً))
وفي شهرِ رمضان للنفقة والصدقة مزية، فرسولُنا وقدوتُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان أجودَ الناسِ بالخيرِ، وأجودُ ما يكونُ في رمضان، هل نقتدي وهل تتضاعفُ صدقاتُنا في شهرِ مضاعفةِ الحسنات؟
هذا معسرٌ نفك من إعساره ، وهذا محتاج نسد حاجَته ، وثالث مدين نقضي دينَه، ورابعٌ جائعٌ فنطعمه، وهكذا
وشابٌ يريد الزواجَ فنعينه وفي الحديث (( أفضلُ الأعمال أن تُدخل على أخيك المؤمنِ سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً ))
إن فُرصَ النفقة والإحسان كثيرةٌ للأ يامى واليتامى والمساكين، وللشباب الراغبين في الزواج، وللمسلمين المتضررين، والمجاهدين الصادقين، وتفطير الصائمين، إن في داخل بلادِنا، أو في عالمِنا الإسلامي ، زكاةً وصدقةً، وهديةً وصلةً، عوّد نفسك أيها المسلم على الصدقة في كل يومٍ من أيامِ رمضان، قلّ ذلك أم كثر، ودرب أهلك وأولادك على الصدقة والإحسان، فهذا شهر الإحسان، ولا ينسيك الغنى عن الفقراء، ولا الشبع عن الجوعى والله إن جعلك يداً عُليا تُعطي ولا تأخذ ، وتذكر أن المال مالُ الله ، وأنت ممتحن فيه.
ثالثاً: مشاريع الدعوة إلى الله تعالى، وكم للدعوة من أثارٍ إيجابية على الداعي والمدعو، على الفرد والمجتمع، وبالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنا خيرَ الأمم، والدعاةُ الآمرون بالمعروف والنّا هون عن المنكر، هم المفلحون بشهادةِ القرآن (( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) (آل عمران:104)
وهل أحسن قولاً من الدعوة والدعاة ؟ والله يقول (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) (فصلت:33)
وفي رمضان تُفتح القلوبُ للدعوة ، ويَسمع الصائمون للدعاة، كيف لا وأبوابُ الجنة تفتح وأبوابُ النار تغلق، ومردةُ الشياطين تُصفد، إن روحانيةَ الصيام تشجع على الدعوة، وأنت أيها المسلم حريٌ بك أن تمارسَ الدعوةَ، وتتحين الفرص المواتية لقبولِها - مع ابنك وأخيك، وزوجك وابنتك ، ومع جيرانك وزملائك في العمل، ومع العامل والسائق والخادمة،
أيها المعلمُ: هل جربت الدعوةَ مع طلابك في رمضان ؟ أيها البائعُ أو المشتري هل مارستما الدعوةَ حال البيع والشراء؟ إن الدعوةَ قد تكون بكلمة طيبة، وابتسامةٍ لطيفة، ومعاملةٍ حسنةٍ، فكيف بما هو فوق ذلك؟
معاشرَ الرجال والنساء، والشيوخ والشباب، والمتعلمين والأميين، هل نجعل من رمضان فرصةً للدعوة بكل وسيلة، وفي أي مناسبة، ومع الناطقين بالعربية أو غيرهم ؟
توزيع الكتاب المفيد، والشريط النافع بالهدية ومع الصدقة ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يحقرَ نفسَه عن هذه المهمة الشريفة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (( بلغوا عني ولو آية))
وينبغي أن يعلم أن الدعوة طريق واسع، ومهم للتوبة، وهي بريدٌ للتقوى، وسببٌ للسعادة أبداً،
خامساً: مشاريع القيام وتلاوة القرآن: إن رمضان شهرُ الصيام وشهرُ القرآن، هل يعجزك أخي المسلم أن تقوم مع الإمام حتى ينصرف؟ وهل تعلم أنه يكتب لك قيامُ ليلةٍ كاملةٍ، أم يراودك الشيطانُ ثم يخرجك من المسجد، لتذهب إلى القيل والقال، ومشاهدةِ ما هبط من الأفلام في البيوت الوهمية أو في البيوت الحقيقية ؟
تذكَّر أخي المسلم: أن من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، فوطّن نفسك على القيام من أول الشهر إلى آخره.
لئن قصرت في قيام الليل، أو تلاوة القرآن فيما مضى من أيامٍ، فحنانيك أن تضيعَ ذلك في شهر رمضان ؟ إنني حين أنصحك ونفسي بالإكثار من تلاوة كتاب الله، أنصح بالتدبر في آياته، والوقوف عند عجائبه، وكم في القرآن من كنوز تحتاج إلى تدبر وربُنا يقول لنا ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد:24)
ويقول ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)) (ص: 29)
أمة القرآن: إن أهلَ القرآنِ أهلُ اللهِ وخاصتُه، وكيف يكونُ من أهلِ القرآن من اتخذه مهجوراً ؟ نحن أمةٌ أعزنا اللهُ بالإسلام، وأعلى قدرنا بالقرآن، فهل نجعلُ للقرآن من أوقاتنِا وعقولنا وقلوبنا ما يستحق ؟ إن رمضانَ فرصةُ لصلة تبدأ ولا تنتهي مع القرآن، وعلى قدر محبتك لمن أنزل القرآن فاقرأ القران ! وكفى.
سادساً : مشاريعُ اقتصادية: من مشكلاتنا - بشكلٍ عام - الإسرافُ وعدمُ الاقتصاد، وفي رمضان دروسٌ عامة، ودروسٌ خاصةٌ بالاقتصاد، فالصائمُ ممسك عن الطعام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا مشجعٌ على القضاء على التخمة، ومروضٌ للنفس على الصبر، ومهذبٌ للأرواح، ومريحٌ لوظائف الجسم، ومذكرٌ للصائم بمن يحتاجون للطعام فلا يجدونه (صاموا أم أفطروا) ولكن هذه المعاني وأمثالها من اقتصاديات الصوم تضيع، بل تُفهم فهماً خاطئاً عند قومٍ ما، أن يتسامعوا شهر رمضان حتى تمتلئ بهم الأسواق، فيشترون ما يحتاجون وما لا يحتاجونه، ويجمعون ما لا يأكلون، ومن خلال الدراسات والتحقيقات تبين أن الإعلانات التجارية، تمارس دوراً كبيراً في خداعِ المستهلك، ودفعِه إلى المزيد من الشراء لأشياء كثيرة لا حاجة له بها، بل يتجاوز الأمرُ مجردَ الدعاية إلى التسهيلات في عمليات الشراء، وحمل السلع إلى المستهلك في مقر بيته، ثم يأتي أسلوبُ الدفع بالبطاقات، أو الأقساط أو مكافأة المشتري كلما زاد من نسبة الشراء، وسيلةً ثالثةً تُسهم في الإسراف، ومزيد الاستهلاك
فهل نتنبه لهذه المخاطرِ الاقتصادية، ونجعل من شهر الصيام فرصةً للاقتصادِ غيرَ المُقتر، لتسلم بطونُنا من التخمة، وجيوبُنا من النفقة المُسرفة، إنها ملاحظةٌ تستدعي النظرَ والعملَ، وإذا شاع عند أبناءِ العالم الآخر مصطلح ( ولد ليشترى) فعندنا معاشرَ المسلمين المصطلح يقول : ( ولد ليعبد الله ) والشراءُ ليس هدفاً بذاتِه بل وسيلةً للعبوديةِ .
ــــــــــــــــــــ(1/199)
الاعتكاف: فضله وآدابه وأحكامه
ماهو فضل الاعتكاف ؟وماهى أحكامه؟ ... السؤال
16/10/2005 ... التاريخ
الشيخ محمد صالح المنجد ... المفتي
الحل ...
... بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الاعتكاف : هو لزوم المسجد بنية مخصوصة ، لطاعة الله تعالى : وهو مشروع مستحب باتفاق أهل العلم ، قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود : ( لا أعلم عن أحد من العلماء إلا أنه مسنون )
وقال الزهري رحمه الله : ( عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل ).
فائدة الاعتكاف وثمرته :
إن في العبادات من الأسرار والحكم الشيء الكثير ، ذلك أن المدار في الأعمال على القلب ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) رواه البخاري ( 52 ) ومسلم ( 1599 ) .
وأكثر ما يفسد القلب الملهيات ، والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل من شهوات المطاعم ، والمشارب ، والمناكح ، وفضول الكلام ، وفضول النوم ، وفضول الصحبة ، وغير ذلك من الصوارف التي تفرق أمر القلب ، وتفسد جمعيته على طاعة الله ، فشرع الله تعالى قربات تحمي القلب من غائلة تلك الصوارف ، كالصيام مثلاً ، الصيام الذي يمنع الإنسان من الطعام والشراب ، والجماع في النهار ، فينعكس ذلك الامتناع عن فضول هذه الملذات على القلب ، فيقوى في سيره إلى الله ، وينعتق من أغلال الشهوات التي تصرف المرء عن الآخرة إلى الدنيا .
وكما أن الصيام درع للقلب يقيه مغبة الصوارف الشهوانية ، من فضول الطعام والشراب والنكاح ، كذلك الاعتكاف ، ينطوي على سر عظيم ، وهو حماية العبد من آثار فضول الصحبة ، فإن الصحبة قد تزيد على حد الاعتدال ، فيصير شأنها شأن التخمة بالمطعومات لدى الإنسان ، كما قال الشاعر :
عدوك من صديقك مستفاد *** فلا تستكثرن من الصّحاب
فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أو الشراب
وفي الاعتكاف أيضاً حماية القلب من جرائر فضول الكلام ، لأن المرء غالباً يعتكف وحده ، فيُقبل على الله تعالى بالقيام وقراءة القرآن والذكر والدعاء ونحو ذلك .
وفيه كذلك حماية من كثرة النوم ، فإن العبد إنما اعتكف في المسجد ليتفرغ للتقرب إلى الله ، بأنواع من العبادات ، ولم يلزم المسجد لينام .
ولا ريب أن نجاح العبد في التخلص من فضول الصحبة ، والكلام والنوم يسهم في دفع القلب نحو الإقبال على الله تعالى وحمايته من ضد ذلك .
الجمع بين الصوم والاعتكاف :
لا ريب أن اجتماع أسباب تربية القلب بالإعراض عن الصوارف عن الطاعة ، أدْعى للإقبال على الله تعالى والتوجه إليه بانقطاع وإخبات ، ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف ، حتى قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطراً قط ، بل قالت عائشة : ( لا اعتكاف إلا بصوم ) أخرجه أبو داود ( 2473 )
ولم يذكر الله سبحانه وتعالى الاعتكاف إلا مع الصوم ، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم .
فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف : ( أن الصوم شرط في الاعتكاف ، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ) زاد المعاد 2/87،88
واشتراط الصوم في الاعتكاف نقل عن ابن عمر وابن عباس ، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة ، واختلف النقل في ذلك عن أحمد والشافعي .
وأما قول الإمام ابن القيم رحمه الله : ( ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطراً قط ) ففيه بعض النظر ، فقد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ، اعتكف في شوال ) رواه البخاري ( 1928 ) ومسلم ( 1173 ) . ولم يثبت أنه كان صائماً في هذه الأيام التي اعتكافها ، ولا أنه كان مفطراً .
فالأصح أن الصوم مستحب للمعتكف ، وليس شرطاً لصحته .
مع النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه : اعتكف عليه الصلاة والسلام في العشر الأول من رمضان ثم العشر الأواسط ، يلتمس ليلة القدر ، ثم تبيّن له أنها في العشر الأواخر فداوم على اعتكافها .
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجاور في العشر التي وسط الشهر ، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة ، ويستقبل إحدى وعشرين ، يرجع إلى مسكنه ، ورجع من كان يجاور معه ، ثم إنه أقام في شهر ، جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها ، فخطب الناس ، فأمرهم بما شاء الله ، ثم قال : ( إني كنت أجاور هذه العشر ، ثم بدالي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه ، وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، في كل وتر ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين ) .
قال أبو سعيد : مطرنا ليلة إحدى وعشرين ، فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت إليه ، وقد انصرف من صلاة الصبح ، ووجهه مبتل ماء وطيناً فتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات نبوته .
ثم حافظ صلى الله عليه وسلم ، على الاعتكاف في العشر الأواخر ، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده . رواه البخاري ( 1921 ) ومسلم ( 1171 )
وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يوماً البخاري ( 1939 ) . أي العشر الأواسط والعشر الأواخر جميعاً ، وذلك لعدة أسباب :
أولها : أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين البخاري ( 4712 ) . فناسب أن يعتكف عشرين يوماً ، حتى يتمكن من معارضة القرآن كله مرتين .
ثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم أراد مضاعفة العمل الصالح ، والاستزادة من الطاعات ، لإحساسه صلى الله عليه وسلم بدنو أجله كما فهم من قول الله تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ) سورة النصر . فإن الله عز وجل أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالإكثار من التسبيح والاستغفار في آخر عمره ، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يكثر في ركوعه وسجوده من قول : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي ) يتأول القرآن . رواه البخاري ( 487 ) ومسلم ( 484 )
ثانيها : أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليه من الأعمال الصالحة من الجهاد والتعليم والصيام والقيام وما آتاه من الفضل من إنزال القرآن عليه ورفع ذكره وغير ذلك مما امتن الله تعالى به عليه .
وكان صلى الله عليه وسلم يدخل معتكفه قبل غروب الشمس فإذا أراد مثلاً أن يعتكف العشر الأواسط دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر ، وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين .
أما ما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه رواه البخاري ( 1928 ) ، ومسلم ( 1173 ) والترمذي ( 791 ) . فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد بعد صلاة الفجر ، فقد كان يعتكف في مكان مخصص لذلك ، كما ورد في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية . رواه مسلم ( 1167
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه وهو معتكف في المسجد إلى عائشة رضي الله عنها وهي في حجرتها ، فتغسله وترجله ، وهي حائض ، كما جاء في الصحيحين . البخاري ( 1924 ) ، ( 1926 ) ومسلم ( 297 ) .
وفي مسند أحمد أنه كان يتكئ على باب غرفتها ، ثم يُخْرج رأسه ، فترجّله . أحمد ( 6/272 )
وفي ذلك دليل على أن إخراج المعتكف بعض جسده من المعتكف لا بأس به ، كأن يخرج رجله أو رأسه . كما أن الحائض لو أدخلت يدها أو رجها مثلاً في المسجد فلا بأس ، لأن هذا لا يُعدّ دخولاً في المسجد .
ومن فوائد هذا الحديث أيضا أن المعتكف لا حرج عليه أن يتنظف ، ويتطيب ، ويغسل رأسه ، ويسرحه ، فكل هذا لا يخلّ بالاعتكاف .
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم في اعتكافه ما راوه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ، ثم دخل معتكفه ، وإنه أمر بخبائها فضرب ، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، بخبائه فضرب ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية ، فقال : ( آلبرَّ تُردْن ؟) فأمر بخبائه فقوض ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان ، حتى اعتكف في العشر الأول من شوال البخاري ( 1928 ) ومسلم ( 1173 ) .
ومعنى قوله : ( آلبرّ تردْن ؟ ) أي : هل الدافع لهذا العمل هو إرادة البر ، أو الغيرة والحرص على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
والأظهر والله أعلم أن اعتكافه صلى الله عليه وسلم في شوال من تلك السنة بدأ بعد العيد ، أي في الثاني من شوال .
ويحتمل أن يكون بدأ من يوم العيد ، فإن صح ذلك فهو دليل على أن الاعتكاف لا يشترط معه الصوم ، لأن يوم العيد لا يصام .
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم في اعتكافه ما رواه الشيخان أيضا أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد ، في العشر الأواخر من رمضان ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت تنقلب ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها ، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة ، مر رجلان من الأنصار ، فسلّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : ( على رسلكما ، إنما هي صفية بنت حيي ) ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله ! وكبُرَ عليهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ) وفي لفظ : ( يجري من الإنسان مجرى الدم ) ، ( وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً ) وفي لفظ : ( شراً ) .
فمن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم ، على صدق إيمان هذين الأنصاريَّيْن ، وخشية أن يلقى الشيطان في قلوبهما شيئاً ، فيشكَّا في الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون ذلك كفراً ، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة ، بيّن صلى الله عليه وسلم الأمر ، وقطع الشك ، ودفع الوسواس ، فأخبرهما أنها صفية رضي الله عنها وهي زوجته .
هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف : وهديه صلى الله عليه وسلم في لاعتكاف كان أكمل هدي ، وأيسره ، فكان إذا أراد أن يعتكف وُضع له سريره وفراشه في مسجده صلى الله عليه وسلم ، وبالتحديد وراء أسطوانة التوبة كما جاء في الحديث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه ، أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة ) رواه ابن ماجه 1/564 .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب له خباء مثل هيئة الخيمة ، فيمكث فيه غير أوقات الصلاة حتى تتم الخلوة له بصورة واقعية ، وكان ذلك في المسجد ، ومن المتوقع أن يضرب ذلك الخباء على فراشه أو سريره ، وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، فكنت أضرب له خباء ، فيصلي الصبح ، ثم يدخله .. الحديث ) رواه البخاري 4/810 فتح الباري .
وكان دائم المكث في المسجد لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان ، من بول أو غائط ، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها حين قالت : ( .. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً ) رواه البخاري 4/ 808 فتح الباري .
وكان صلى الله عليه وسلم يؤتي إليه بطعامه وشرابه إلى معتكفه كما أراد ذلك سالم بقوله : ( أما طعامه وشرابه فكان يؤتى به إليه في معتكفه ) ص 75 .
وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نظافته ، إذْ كان يخرج رأسه إلى حجرة عائشة رضي الله عنها لكي ترجّل له شعر رأسه ، ففي الحديث عن عروة عنها رضي الله عنها ( أنها كانت ترجّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض ، وهو معتكف في المسجد ، وهي في حجرتها ، يناولها رأسه ) رواه البخاري 4/807 فتح الباري .
قال ابن حجر: ( وفي الحديث جواز التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل ، والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد ) 4/807 فتح الباري
وكان صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ، وذلك من أجل التركيز والانقطاع الكلي لمناجاة الله عز وجل ، ففي الحديث عن عائشة أنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ بالمريض وهو معتكف ، فيمرّ كما هو ولا يُعرِّج يسأل عنه ) وأيضا عن عروة أنها قالت : ( السنّة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ) رواه أبو داود/ 2/333 .
وكان أزواجه صلى الله عليه وسلم يزرْنه في معتكفه ، وحدث أنه خرج ليوصل إحداهن إلى منزلها ، وكان ذلك لحاجة إذ كان الوقت ليلاً ، وذلك كما جاء في الحديث عن علي بن الحسين : ( أن صفية رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، فلما رجعت مشى معها ، فأبصره رجل من الأنصار ، فلما أبصر دعاه ، فقال : تعال ، هي صفية ) وربما قال سفيان : ( هذه صفية ، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) قلت لسفيان : ( أتته ليلاً ؟ قال : وهل هو إلا ليلاً ) رواه البخاري 4/819 .
فرأى صلى الله عليه وسلم أن خروجه معها رضي الله عنها أمر لا بد منه في ذلك الليل ، فخرج معها من معتكفه ، ليوصلها إلى بيتها .
وخلاصة القول : أن هديه صلى الله عليه وسلم في اعتكاف كان يتسم بالاجتهاد ، فقد كان جل وقته مكث في المسجد ، وإقبال على طاعة الله عز وجل ، وترقب لليلة القدر .
مقاصد الاعتكاف
تحري ليلة القدر .
الخلوة بالله عز وجل ، والانقطاع عن الناس ما أمكن حتى يتم أنسه بالله عز وجل وذكره .
إصلاح القلب ، ولم شعثه بإقبال على الله تبارك وتعالى بكليته .
الانقطاع التام إلى العبادة الصرفة من صلاة ودعاء وذكر وقراءة قرآن .
حفظ الصيام من كل ما يؤثر عليه من حظوظ النفس والشهوات .
التقلل من المباح من الأمور الدنيوية ، والزهد في كثير منها مع القدرة على التعامل معها .
أقسام الاعتكاف :
واجب : ولا يكون إلا بنذر ، فمن نذر أن يعتكف وجب عليه الاعتكاف ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ) وفي الحديث أن ابن عمر رضي الله عنهما : أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام ، قال : ( أوف بنذرك ) البخاري 4/809.
مندوب : وهو ما كان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان ، ومحافظة على هذا الأمر وهو سنة مؤكدة من حياته صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث التي أشير غليها عند الحديث عن مشروعية الاعتكاف .
حكم الاعتكاف:ـ سنة مؤكدة داوم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقضى بعض ما فاته منها ، ويقول في ذلك ( عزام ) : " والمسنون ما تطوع به المسلم تقرباً إلى الله ، وطلباً لثوابه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت أنه فعله وداوم عليه ) ص114
شروط الاعتكاف : يشترط للاعتكاف شروط هي :
الإسلام : إذ لا يصح من كافر ، وكذلك المرتد عن دينه .
التمييز : إذ لا يصح من صبي غير مميز .
الطهارة من الحدث الأكبر ( من جنابة ، وحيض ، ونفاس ) وإن طرأت مثل هذه الأمور على المعتكف أثناء اعتكافه وجب عليه الخروج من المسجد ، لأنه لا يجوز له المكث على حالته هذه في المسجد .
أن يكون في مسجد : قال الله تعالى ( ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد والأفضل أن يكون الاعتكاف في مسجد تقام فيه الجمعة ، حتى لا يضطر إلى الخروج من مسجده لأجل صلاة الجمعة .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم . والصواب أن الاعتكاف جائز في كل مسجد تصلى فيه الفروض الخمسة ، قال الله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) سورة البقرة 187 ، فدل عموم قوله تعالى : ( في المساجد ) على أنه جائز في كل مسجد . ويستحب أن يكون في مسجد جامع ، حتى لا يحتاج المعتكف إلى الخروج للجمعة .
وأما حديث ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 4/20 فهو على القول بصحته مؤول بمعنى أنّ أكمل ما يكون الاعتكاف في هذه المساجد كما قال أهل العلم .
وقد يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) : أي لا اعتكاف يُنذر ويسافر إليه . والاعتكاف يصح في كل مسجد ، وقد أجمع الأئمة خاصة الأئمة الأربعة على صحة الاعتكاف في كل مسجد جامع . ولم يقل بعدم صحة الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين ، لا الأربعة ولا العشرة ولا غيرهم ، وإنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله عنه وواحد أو اثنين من السلف .
وإذا نذر المرء أن يعتكف في المسجد الحرام وجب عليه الوفاء بنذره ، فيعتكف في المسجد الحرام . ولكن لو نذر مثلا أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي أو في المسجد الحرام ؛ لأن المسجد الحرام أفضل .
ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى ، جاز له أن يعتكف في المسجد الأقصى أو المسجد الحرام أو المسجد النبوي ، لأنهما أفضل من المسجد الأقصى .
أركان الاعتكاف : ـ
1ـ النية : لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) البخاري 1/15 .
2ـ المكث في المسجد : كما في قوله تعالى : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود ) سورة البقرة /125 وفي هذا تأكيد على أن مكان الاعتكاف هو المسجد ، ودلّ على ذلك أيضاً فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده أزواجه وصحابته رضوان الله عليهم ، ففي الحديث عن يونس بن زيد أن نافعاً حدثه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، قال نافع : وقد أراني عبد الله رضي الله عنه المكان الذي يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد أخرجه مسلم 8/308 .
مكانه وزمانه وبداية وقته :ـ
مكان الاعتكاف المسجد كما دلت عليه الآية في قوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) البقرة /187 .
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه وصحابته رضوان الله عليهم اعتكفوا في المساجد ، ولم يرد عن أحد منهم أنه اعتكف في غير المسجد
وأما بالنسبة لزمانه فإذا كان في رمضان فآكد وقته العشر الأواخر منه ، ويجوز في أي وقت في رمضان وغيره ، فهو لا يختص بزمن معيّن ، بل مستحب في جميع الأوقات ، ويجب إذا ألزم نفسه بنذر ، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت نذرت في الجاهلية ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام . قال : ( أوف بنذرك ) البخاري 4/809
وأما بالنسبة لبداية وقته فقبل غروب الشمس لمن أراد أن يعتكف يوماً وليلة أو اكثر وقال بعض العلماء يدخل معتكفه فجرا .
آداب الاعتكاف:ـ للاعتكاف آداب يستحب للمعتكف أن يأخذ بها حتى يكون اعتكافه مقبولاً وكلما حافظ عليها المعتكف كان له الأجر الجزيل من رب العالمين وكلما أخل بهذه الآداب نقص أجره .
ومن آداب الاعتكاف ما ذكره ابن قدامة في المعنى :
يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وتلاوة القرآن وبذكر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة ويجتنب مالا يعينه من الأقوال والفعال ولا يُكثر الكلام لأن من كثر كلامه كثر سقطه وفي الحديث ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشي من ذلك ولا بأس بالكلام لحاجة ومحادثة غيره روى الشيخان أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد ، في العشر الأواخر من رمضان ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت تنقلب ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها ، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة ، مر رجلان من الأنصار ، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : ( على رسلكما ، إنما هي صفية بنت حيي ) ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله ! وكبُرَ عليهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم ) وفي لفظ : ( يجري من الإنسان مجرى الدم ) ، ( وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً ) وفي لفظ : ( شراً ) .
قال الحافظ وفي الحديث فوائد :
جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره وإباحة خلوة المعتكف وزيارة المرأة للمعتكف .
وروى عبد الرزاق عن علي قال : من اعتكف فلا يرفث في الحديث ولا يساب ويشهد الجمعة والجنازة وليوص أهله إذا كانت له حاجة ، وهو قائم ولا يجلس عندهم .
وأما إقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث فقد اُختلف فيه . فعند الإمام أحمد أنه لا يستحب ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به .
قال المروزي : قلت لأبي عبد الله إن رجلاً يُقرئ في المسجد وهو يريد أن يعتكف ولعله أن يختم في كل يوم فقال :
إذا فعل هذا كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب إلي .
وذهب الشافعي كما في المغني : إلى استحباب لأنه أفضل العبادات ونفعه يتعدى .
والقول ما ذهب إليه الإمام أحمد وهو الأفضل والله أعلم .
ملحوظة (1) : بعض الناس يعدون الاعتكاف فرصة خلوة ببعض أصحابهم وأحبابهم ، وتجاذب أطراف الحديث معهم ، وليس هذا بجيد .(1/200)
حقا أنه لا حرج في أن يعتكف جماعة معا في مسجد ، فقد اعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم معه ، حتى لقد كانت إحداهن معتكفة معه ، وهي مستحاضة ترى الدم وهي في المسجد رواه البخاري ( 303 ، 304 ) ، فلا حرج أن يعتكف الشخص مع صاحبه أو قريبه ، ولكن الحرج في أن يكون الاعتكاف فرصة لسمر والسهر ، والقيل و القال ، وما شابه ذلك . ولذلك قال الإمام ابن القيم بعدما أشار إلى ما يفعله بعض الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عِشْرة ، ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الحديث بينهم ، قال : ( فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون ) زاد المعاد .
ملحوظة (2) : بعض الناس يترك عمله ، ووظيفته وواجبه المكلف به ، كي يعتكف ، وهذا تصرف غير سليم ؛ إذ ليس من العدل أن يترك المرء واجبا ليؤدي سنة ؛ فيجب على من ترك عمله المكلّف به واعتكف ، أن يقطع الاعتكاف ، ويعود إلى عمله لكي يكون كسبه حلالا ، وأمّا إذا استطاع أن يجعل الاعتكاف في إجازة من عمله أو رخصة من صاحب العمل فهذا خير عظيم .
محظورات الاعتكاف :
أ الخروج من المسجد : يبطل الاعتكاف إذا خرج المعتكف من المسجد لغير حاجة ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان ، وهي حاجته إلى الطعام ، إن لم يكن بالإمكان أن يؤتى إليه بالطعام ، كما كان يؤتى بطعام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد إذ يقول ( سالم ) : " فأما طعامه وشرابه فكان يؤتى به إليه في معتكفه ) .
وكذلك خروجه للتطهر من الحدث الأصغر ، والوضوء لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجّله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً ) فتح الباري 4/808 .
ب مباشرة النساء : ومنها الجماع ، فهذا الأمر يبطل الاعتكاف ، لورود النهي عنه صريحاً في قوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) سورة البقرة /187 .
ج الحيض والنفاس : فإذا حاضت المرأة المعتكفة أو نفست وجب عليها الخروج من المسجد ، وذلك للمحافظة على طهارة المسجد وكذلك الجنب حتى يغتسل .
د قضاء العدة : وذلك إذا توفي زوج المعتكفة وهي في المسجد وجب عليها الخروج لقضاء العدة في منزلها .
هـ الردّة عن الإسلام : حيث إن من شروط الاعتكاف الإسلام ، فيبطل اعتكاف المرتد .
الجوانب التربوية للاعتكاف :
(1) تطبيق مفهوم العبادة بصورتها الكلية :
يؤصل الاعتكاف في نفس المعتكف مفهوم العبودية الحقة لله عز وجل ، ويدربه على هذا الأمر العظيم الذي من أجله خلق الإنسان ، إذ يقول الحق تبارك وتعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات/56 . حيث إن المعتكف قد وهب نفسه كلها ووقته كله متعبداً لله عز وجل .
ويكون شغله الشاغل هو مرضاة الله عز وجل ، فهو يشغل بدنه وحواسه ووقته من أجل هذا الأمر بالصلاة من فرض ونفل وبالدعاء ، وبالذكر ، وبقراءة القرآن الكريم ، وغير ذلك من أنواع الطاعات
وبهذه الدُّرْبة في مثل أيام العشر الخيرة من شهر رمضان المبارك يتربى المعتكف على تحقيق مفهوم العبودية لله عز وجل في حياته العامة والخاصة ، ويضع موضع التنفيذ قول الحق تبارك وتعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) الأنعام /163 ، قال القرطبي ( محياي ) أي : ما أعمله في حياتي ، ( ومماتي ) أي : ما أوصي به بعد وفاتي ، ( لله رب العالمين ) أي : أفرده بالتقرب بها إليه ) 7/69 .
(2) تحري ليلة القدر:
وهو المقصد الرئيسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم إذ بدأ اعتكافه أول مرة الشهر كله وكذلك اعتكف العشر الأواسط تحرياً لهذه الليلة المباركة ، فلما علم أنها تكون في العشرة الأخيرة من شهر رمضان اقتصر اعتكافه على هذه العشر المباركة .
(3) تعوّد المكث في المسجد
فالمعتكف قد الزم نفسه البقاء في المسجد مدة معينة . وقد لا تقبل النفس الإنسانية مثل هذا القيد في بداية أمر الاعتكاف ، ولكن عدم القبول هذا سرعان ما يتبدد عادة بما تلقاه النفس المسلمة من راحة وطمأنينة في بقائها في بيت الله .
ومعرفة المعتكف بأهمية بقائه في المسجد أثناء اعتكافه تتجلى في الأمور التالية :
1أن الرجل الذي يمكث في المسجد قد احب المسجد من قلبه ، وعرف قدر بيوت الله عز وجل ، وهذا الحب له قيمة عند الله عز وجل ؛ إذ يجعله من الفئات التي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
2 أن الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة له أجر صلاة ، وأن الملائكة تستغفر له ، ففي الحديث الذي أورده أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، لا يزال أحدكم في مصلاه ما دامت الصلاة تحبسه ، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ) البخاري 2/360 فتح الباري .
3 البعد عن الترف المادي والزهد فيه :
في الاعتكاف يتخفف المعتكف من الكثير من هذه الأمور ، ويصبح كأنه إنسان غريب في هذه الدنيا ، وطوبى للغرباء ، فهو من أجل مرضاة الله عز وجل ارتضى أن يقبع في ناحية من المسجد ليس لديه في الغالب إلا وسادة يضع عليها رأسه وغطاء يتغطى به ، قد ترك فراشه الوثير وعادته الخاصة من أجل ذلك الرضا .
أما طعامه فهو مختلف في وضعه ، إن لم يكن في نوعه ، إن كان طعامه يأتيه من منزله ، فهو عادة لا يأتيه بالكثرة ولا يتناوله بالوضع الذي كان يتناوله في منزله على طاولة وكرسي مع أهله وولده ، بل يأكل كما يأكل الغريب ، ويأكل كما يأكل العبد الفقير إلى ربه ، وإن خرج إلى السوق من أجل الطعام فهو يعمل جاهداً على التعامل مع ما هو متوفر ولا يشترط نوعاً معيناً ، لأنه مطلوب منه العودة إلى معتكفه ، وعدم الإطالة في مثل هذه الأمور ، وبهذا يعرف أن الحياة يمكن إدارتها بالقليل الذي يرضى عنه الله ، وكذلك يمكن إدارتها بالكثير الذي لا يُرضي الله عز وجل ، والفرق بينهما كبير .
(5) الإقلاع عن كثير من العادات الضارة :
في ظل غياب مفهوم التربية الإسلامية في كثير من المجتمعات الإسلامية ، وفي كثير من بيوت المجتمعات الإسلامية . نشأت وتفشّت لدى أفراد هذه المجتمعات كثير من العادات التي تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف ، وعمّت هذه العادات المنكرة حتى أصبحت نوعاً من المعروف الذي لا يرى فيه ضرر على الدين والنفس ، ومن تلك العادات : التدخين ، وسماع الموسيقى ، ومشاهدة ما يبث في القنوات الفضائية من مشاهد وأحاديث تضادّ عقيدة المسلم وتُنافي حياءه وعفّته ، وغير ذلك من عادات لها ضررها على الدين والنفس .
وتأتي فترة الاعتكاف لتكشف للفرد المسلم زيف تلك العادات ، وزيف ذلك الاعتقاد الذي سكن في نفوس كثير من المسلمين بعدم القدرة على التخلص من مثل تلك العادات ، لأنها قد استحكمت في النفوس .
ويتعرف الإنسان المسلم في فترة الاعتكاف ، وقد خلا إلى خالقه ، على مفهوم العبادة بصورتها الشاملة ، وأنه يجب أن يكون متعبداً لله عز وجل على مدار الساعة في حياته العامة والخاصة .
فهو عندما يتخذ مرضاة الله عز وجل ومحبّته ميزانا يزن به كل عمل يقوم به ، يجد أن تلك العادات التي أشرنا إليها آنفاً وكثير غيرها لا تتفق مع هذه المحبة لله عز وجل بل تعمل في اتجاه معاكس لها ، ويجد بذلك أن مثل تلك العادات تخرجه عن دائرة العبودية الصادقة لله ، وإذا كان الأمر كذلك فيجب عليه أن يتخلص منها في أسرع وقت ممكن .
وفي فترة الاعتكاف لا يحق للمسلم أن يخرج إلا لحاجة إيجابية ترتبط بتسهيل أمر الاعتكاف في المسجد ، وما عدا ذلك يجب أن يمتنع عنه وإن كان مباحاً ، فهو على سبيل المثال لا يحق له أن يتجول في الأسواق ولو لفترة بسيطة ليشتري منها ما لا ارتباط له بأمر الاعتكاف ، فلو خرج لشراء سواك لم يكن في هذا حرج على اعتكافه ، لأنه من متطلبات الصلاة في اعتكافه ، ولكن لو خرج لشراء هدية لزوجته ، أو لأحد أبنائه ، فذلك مبطل لاعتكافه ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد سابقاً كان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ، فكيف إذا خرج المعتكف لأمر محرم كشرب الدخان مثلاً أو لمشاهدة برنامج فضائي قد اعتاد مشاهدته ، لا شك أن ذلك مبطل لاعتكافه لا محالة
وكذلك لو خرج يشرب خمرا أو يتعاطى تدخينا بطل اعتكافه . وعموما فإنّ أي خروج لغير عذر يبطل الاعتكاف ومن باب أولى الخروج للمعصية ، ولا يجوز له حتى لو خرج لقضاء حاجته أن يُشْعل في الطريق سيجارة يدخنها .
فالاعتكاف فرصة سنوية يستطيع فيها المعتكف أن يتخلص من هذه البلايا عن طريق التوبة والالتجاء إلى الله عز وجل أولاً ، وعن طريق فطام النفس عن تلك المعاصي في فترة الاعتكاف ، وعدم تحقيق رغبة النفس منها ، وتعويدها على ذلك .
هذه الطاعات المستمرة لله عز وجل تحتاج إلى صبر مستمر من قِبَل المعتكف ، وفي هذا تربية للإرادة ، وكبْح لجماح النفس التي عادةً ما ترغب في التفلّت من هذه الطاعة إلى أمور أخرى تهواها .
وهناك الصبر على ما نقص مما ألِفته النفس من أنواع الطعام المختلفة التي كان يطعمها في منزله ، فتلك الأنواع لا تتوفر في المسجد ، فيصبر على هذا القليل من أجل مرضاة عز وجل .
وهناك الصبر على نوع الفراش الذي ينام عليه ، فلن يوضع له سرير في المسجد ، أو فراش وثير كالذي ينام عليه في منزله ، فهو ينام على فراش متواضع جداً إن لم يكن فرش المسجد .
وهناك الصبر على ما يجد في المسجد من مزاحمة الآخرين له ، ومن عدم توفر الهدوء الذي كان يألفه في منزله إذا أراد النوم .
وهناك الصبر عن شهوة الزوجة إذ يحرم عليه مباشرتها عند دخوله إلى منزله للحاجة حتى التقبيل والعناق ، وهي حلاله ، وفي هذا الأمر تتجلى قيمة الصبر وقيمة القوة في الإرادة وضبط النفس ، ومن خلال هذه المواقف وغيرها نجد أنه يمكن تربية الإنسان على القدرة على تأجيل كثير من الأمور والرغبات العاجلة من أجل أمور أهم منها ، فهو يؤجل كل هذه الحاجات النفسية والمادية العاجلة من أجل الفوز برضى الله تبارك وتعالى .
(9) الاطمئنان النفسي
(10) قراءة القرآن وختمه
(11) التوبة النصوح
(12) قيام الليل والتعود عليه
(13) عمارة الوقت
(14) تربية النفس
(15) صلاح القلب وجمعه على الله عز وجل .
نسأل الله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد .
والله أعلم
ــــــــــــــــــــ(1/201)
ما أحوج المسلمين إلى أمر جامع!
الشيخ/ محمد أبو زهرة رحمه الله
تفرقت كلمة المسلمين؛ فلا جامعة تجمعهم، ولا أمر جامع يشدهم إلى ما دعاهم إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم"، وقوله تعالى: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة"، وما يوجبه الدين الحنيف من عدم التفرق والانقسام، وعدم التنابز والخصام؛ فقد قال تعالى مخاطبًا نبيه الكريم: "فأقم وجهك للدين حنيفًا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، منيبين إليه واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرّقوا دينهم، وكانوا شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون".
وإن المتأمل في هذا النص الكريم يجد فيه أسباب الاجتماع وذرائع الافتراق، بين جماعات الناس، وخصوصًا أهل الإسلام، وإنه ليجد أسباب العزة، وأسباب الذلة، ويجد أسباب القوة وأسباب الضعف. فأسباب القوة والعزة والاجتماع، كما تدل الآية الكريمة، ثلاثة: أولها: الاتجاه إلى الله تعالى بإقامة دينه والإخلاص في طلب الحق؛ وثانيها: تقوى الله تعالى وخشيته وحده، وطلب ما عنده؛ وثالثها: ألا يسلكوا مسلك المشركين في أي عمل من الأعمال، فلا يعبدوا غير الله، ولا يخافوا غيره ولا يحسبوا لغيره حسابًا، ويتجهوا لطلب الحق لذاته، لا يغرهم مال يبتغونه، ولا جاه من غير طريق الحق يطلبونه، فذلك قوام الأمة، ومناط عزتها. ولقد سأل عمر بن الخطاب معاذ بن جبل، فقال: ما قوام هذه الأمة، فقال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهو الفطرة ؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة.
ولا شك أن الطاعة هي التنفيذ للأمر الجامع الذي يجتمع عليه المسلمون، أو فيه تحقيق لحقيقة مقررة ثابتة يجتمع عليها المسلمون ويقررها الدين. ولقد قال سبحانه وتعالى في ذلك: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنونك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم". وهذه صورة لطاعة الإمام العادل الذي ينفذ أمر الله تعالى.
هذه هي الأمور الثلاثة التي تكوِّن قوة الأمة. أما الأمور التي تفك قوتها وتسلمها إلى الذل والهوان؛ فهي: التفرق فيما بينهم بعصبية جامحة، أو بإقليمية ظالمة، فيكونون قوى متنافرة، بأسهم بينهم شديد، والسيف يخطر فيهم، فيعين قوم منهم على قوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان أن ينزع في يده، فيقع في حفرة من حفر النار".
التفرق في الدين
وثاني الأمور الموهنة لقوة الأمة: التفرق في الدين، فيكون لكل طائفة منزع تنزع إليه، ليس من لب الدين، ولكن يتفرقون فيه ويشدون أنفسهم إليه شدًّا من غير مراعاة للفكرة الجامعة بينهم، ولا لرحم الحق القائمة في هذا الدين. والأمر الثالث الذاهب بكل عزة وبكل قوة: أن يسري في نفوسهم الوهن؛ وهو حب الدنيا بما فيها من جاه ومال، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم الوهن الذي يذهب بالعزة، ويؤدي إلى الضعف وأن تصير أمة الإسلام أوزاعًا متفرقة، فقال: "إنه حب الدنيا وكراهية الموت"، ولا يكون حب الدنيا وكراهية الموت إلا إذا شغرت بالقلوب من التقوى، وامتلأت بمنازع الأهواء والشهوات، وترددت في التناحر والتنازع، وتخاذلت القوى ، ويصير المؤمن يرى أخاه المؤمن فريسة لعدوهما فلا يمد إليه يد المعونة، وقد تصل به الحال إلى أن يغري أعداء الإسلام به، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره وما توادَّ رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما. والمحْدِث شر، والمحدث شر، والمحدث شر".
ذهبت المنجيات أو ضعفت، أو اختفى صوتها، وظهرت المهلكات ونتأت رءوسها، كما تنتأ رءوس الشياطين، وقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الأمر العظيم، فقد قال عليه السلام: "ويل للعرب من شر قد اقترب" فسأل راوي الحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون" فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا كثر الخبث" نعم إذا كثرت الأعمال الخبيثة، وسيطر الخبيثون، وظهر الجو معتكرًا بالفساد وضعف صوت الحق فلم ينطق، ولجلج الباطل فلم يسكت، وأصبح الناس لا يسمعون إلا لغطًا، ولا يصل إلى آذانهم إلا باطل، واستمرأت الألسنة النطق بما يؤدي إلى الفرقة والانقسام، فإن الانفصال بين الدول الإسلامية يكون هو الأصل، والتقارب غيره، وكأن الأمة الإسلامية ليست إلا أشتاتًا من الناس، لا تجمعهم جامعة، ولا يربطهم ميثاق.
لقد أصبحنا لا نرى إلا دويلات متقاطعة متدابرة لا تجمعها جامعة ولا تربطهم رابطة دينية، اللهمّ إلا الصلوات في أوقاتها، والاتجاه إلى الكعبة وصوم رمضان، ويحجون البيت الحرام من غير تفهم لمعنى العبادات وغاياتها.
إن المسلمين لا ينظرون إلى الدين إلا على أنه علاقة نفسية تكون في الصلاة والصوم والحج في أضيق صورة حتى صاروا يظنون أن الإسلام دين المعابد والصوامع، حتى لقد صار المسلم ينظر إلى المسلم الذي يفارقه في المنزع الفكري نظرة الخصم المتربص، لا المخالف في النظر. يفرقهما الطريق، ولكن يجمعهما المقصد والغاية.
الأمر الخطير الآن بعد أن خلعت كل دولة اسمها من أن تكون محكومة بالإسلام، بل صارت محكومة بأحكام الزمان هو أن الدولة الإسلامية تنظر إلى غيرها من الدول الإسلامية على أنها مغايرة لها في كل شيء، لا تربطها بها رابطة؛ لا رابطة حضارة إسلامية كانت تجمعهم، ولا تراث فكري كان يربطهم، ولا القرآن وما اشتمل عليه من شرائع وأخلاق ونظم، ولا السُّنّة وما فيها من حكمة بالغة ولا صاحبها الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب، بل إنك تغشى دور الثقافة في كل إقليم إسلامي، فترى فيها تقديس عظماء الغرب قديمهم وحديثهم، وقد جعلوا كل ما هو إسلامي في جانب من جوانب الفكر غير متصل بالحياة والأحياء، ومعاهد العلم التي يغشاها أكثر شبيبة المسلمين لا يوجد فيها علم الإسلام ولا يوجد علم تراثه إلا عند طائفة يعلقون عليه، ولا يزيدون عمن يعلقون على الآثار القديمة إلا من حيث العدد، ومن حيث أن هؤلاء يعتقدون أنه دين وأنهم البقية الباقية التي تحفظ علم الإسلام وتصل ماضيه بحاضره، ولولا هذه البقية في احتفاظها بعلم الإسلام، لصار نسيًا منسيًّا، ولصار علمًا مهجورًا، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم فيما رواه الصحيحان البخاري ومسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة. وفي رواية: "حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" وأنه قد وجد من بين هؤلاء من أخذ يؤول القرآن بغير تأويله، ويذهب بغير مذاهبه، وينسب ذلك إلى الإسلام وإلى علم القرآن، ولكنه لم يجد آذانًا مصغية، فبقيت الطائفة القائمة على شرع الله من العلماء الذين انصرفوا إلى علم الإسلام وبيان حقائقه، وستبقى إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى.
ثغرات استعمارية
إن تفرق الدول الإسلامية بعد أن خلعت الدين من نظمها، فلم يكن ذا سلطان في توجيه أمورها، قد أوجد الثغرات لغير الدول الإسلامية من النفوذ إلى السيطرة عليها إن لم يكن بقوة السلطان والتوجيه النظامي، حتى إننا نجد دولاً تعلن نفسها دولة إسلامية، والثقافة فيها إنجليزية أو أمريكية أو فرنسية أو غير ذلك من أنواع الثقافات.
بل إنها تجاوزت الثقافة إلى الاقتصاد، فتلك دولة إسلامية تستمد اقتصادها من إنجلترا وهذه من أمريكا، وتلك من غيرها من غير تعاون بين متكافئين، بل فيه أخذ المُستعين من المعين، والطالب من المطلوب، بل تجاوز ذلك إلى الاستعانة بأدوات القتال، فصارت الدول الإسلامية لا تأخذ بقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون".
وبدل أن تعد كل دولة سلاحها من داخلها، أخذ الكثير منها يستعين بالسلاح من غيرهم، وبعبارة القرآن الصادقة السامية من عدو الله تعالى وعدوهم، ومن آخرين من دونهم لا نعلمهم والله تعالى يعلمهم، والله تعالى يقول: "يأيها الذين آمنوا، لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، وَدُّوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات، إن كنتم تعلمون. هأتنم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم، إن الله عليم بذات الصدور، إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا، إن الله بما يعملون محيط".
وصرنا نرى سيوفًا إسلامية تستعد لضرب المسلمين، فوق نشر الآراء الهادمة لمعاني الإسلام، ولكن هل نيئس ونترك الأمر للمقادير؟ إن ذلك ضد الإسلام، وضد مبادئه؛ فلا بد من عمل، ولا بد من مقاومة تلك الأدواء. وإن شعوب الإسلام ما زال فيها الإيمان القوي، وإنْ كانت أكثر الحكومات لا تحمي الإسلام في سياستها، ولا تتبعه في أعمالها، ولا في علاقاتها. وإن الشعوب تريد منارًا ينير السبيل، لا من داخل الأقاليم، ولكن من جماعات تعمل على جمع الوحدة؛ فلا بد من أمر جامع تلتقي عنده الشعوب الإسلامية، وترجع إليه، ويسير بها في طريق اللقاء من غير تدخل في سلطان الحكام، ولكن لمنع أن يكون الحكام بعضهم لبعض عدوًّا: "إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون".
ــــــــــــــــــــ(1/202)
الإسلام والمجتمع المُتحضِّر *
للدكتور/ محمد البهي رحمه الله
(المدير العام للثقافة الإسلامية)
ربما يُقَال أيضًا: وكثيرًا ما قيل إن الإسلام دين صالح للبدائيين من الناس؛ هو يُعينهم على الانتقال من حالهم إلى مستوًى أفضل؛ ولذا صلح لقبائل الصحراء، ولكن المجتمع المتحضر ليس في حاجة إليه!
أي مجتمع متحضر؟ مجتمعنا المعاصر مثلاً! . إنه مجتمع الحضارة المادية الصناعية؛ مجتمع العلم الطبيعي والرياضي. والحضارة المادية الصناعية تعين على تبليغ الإنسان مستوًى رفيعًا في المعيشة؛ ولكنها لا تستطيع أن تبلغه مستوًى إنسانيًّا رفيعًا؛ لأنها لا تمارس مهمتها في القيم، وإنما تباشرها في المادة والآلة. والعلم الطبيعي الرياضي يلعب دوره في الكشف عن القوى الكونية، ولكنه لا يعالج القيم الإنسانية، بل ربما حمل الناس على الإغراء بالقوة المادية، والسخرية بالقيم المعنوية.
ليس هناك تلازم بين مستوى الحضارة المادية والمستوى الفاضل للإنسانية، ولا بين العلم الطبيعي الرياضي من جانب والقيم الإنسانية من جانب آخر، إن الذي يبلغ إلى المستوى الفاضل في الإنسانية وإدراك القيم الإنسانية هو التوجيه. والذي يُوصِّل إلى القيمة العليا وهي الله الدين. والإسلام دين، "وتوجيه" معًا.
قد يرتفع المجتمع الإنساني في الحضارة المادية، ومع ذلك ينخفض في المستوى الإنساني. وقد يتقدم العلم في مجال الطبيعة والرياضة، ومع ذلك يتأخر وضع العلماء ووضع مجتمعهم في القيم الإنسانية.
فإذا طغت الأنانية والفردية، ووهنت روابط المجتمع، وضعف الإيمان بالله أو انعدم؛ فلا توجد خصائص المستوى الإنساني الرفيع. وإذا دفعت الحضارة المادية الصناعية إلى الاحتكاك والاصطدام؛ أي إذا دفعت إلى الاعتداء على البشرية؛ انعدم المستوى الفاضل للإنسانية بين أصحاب هذه الحضارة.
وإذا استخدم الإنسان العلم الطبيعي والرياضي للقلق، والاضطراب، والإبادة، أو الترشيد، فأصحابه ليسوا ذوي مستوى فاضل في الإنسانية.
إن الإنسانية غير الآلة؛ الإنسانية حرة لها مشيئة، والآلة عديمة المشيئة والاختيار. فلا يكفي أن تُدَار الآلة بل لا بد لها من قيادة. وقيادتها في الإنسان. وقيادة الإنسان لنفسه وللآلة معًا قيادةً صالحةً يوم يُدرِك القِيم؛ يوم يدرك الخير والشر، ويوم يدرك الأخوة والتعاون، ويوم يدرك الله.
إن التقوى، وهي تقوى الله، وهي البر، والتعاطف، والصبر، والمثابرة، غير العلم الطبيعي والرياضي. والعلم الطبيعي والرياضي لا ينفع إلا إذا صحبته التقوى.
الإسلام توجيه نحو المستوى الفاضل للإنسانية. هو توجيه نحو هذا المستوى أينما وُجِد الإنسان، في بادية أو في مدينة؛ في مجتمع عديم الحضارة المادية، أو في آخر له حضارة صناعية.
المجتمع الإسلامي كما وصفه الله ـ تعالى ـ في الآية التالية: رسالة التزكية والطهر من طغيان الحيوانية، ورسالة الحكمة المُمثَّلة في إدراك القيم والمُثُل، ورسالة الانتقال من الانحراف إلى الاستقامة في السلوك الإنساني. سواء لمن جاء القرآن لهم وقت مجيئه، أو لمن كان معهم بغير لغة العرب، أو لمن يجيئون بعدهم من جميع الأجناس في الأجيال القادمة، في أي مكان وأي زمان.
"هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيينَ رسولاً منهم يتْلُو عليهم آياتِهِ ويُزكِّيهِمْ ويُعلِّمهُمُ الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا منْ قبلُ لفي ضلالٍ مُبينٍ * وآخَرينَ منهم لَمَّا يَلحَقُوا بهم وهو العزيزُ الحكيمُ". صدق الله العظيم.
النظام التربوي لا يكفي:
ولكن ربما يُقَال: إن نظام التربية قد يقوم بهذه الرسالة التي يؤديها النظام الإسلامي نحو تبليغ الإنسان إلى المستوى الفاضل في الإنسانية، إنه قد يوجه الإنسان إلى القيم الرفيعة؟
أي قيمة رفيعة؟. أَإِلى المشيئة والاختيار، أو إلى المجتمع، أو إلى وحدة الألوهية؟. إن كان هذا النظام يبلغ إلى ذلك فهو الإسلام أخذ اسم نظام التربية. وإن أوصل إلى القيم، عدا الألوهية ووحدة الله فيها فهو لم يُوصِّل الإنسان إلى منتهى القيم! ولذا يقصر عن أن يوصل إلى المستوى الفاضل الكامل في الإنسانية.
على أن الإسلام ليس نظامًا توجيهيًّا فحسب. بل هو دين يدفع عن طريق الإيمان بالله أولاً، وعن طريق الخشية منه ثانيًا. تتكون الخشية من الله، فيتكون الضمير، فيندفع الإنسان دفعًا ذاتيًا إلى إدراك القيم وتمثلها في نفسه، ثم يعمل طبقًا لما تمثَّلَه في نفسه منها؛ فيكون عمله عملاً صالحًا.
هنا في الدين، قد عمر قلب الإنسان أولاً بالإيمان، ثم أدرك عقله القيم ثانيًا. "واتَّقُوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ".
أما توجيه التربية فهو توجيه للإدراك والعقل أولاً، وقلما يتكون إيمان يسكن القلب ويعمره.
ــــــــــــــــــــ(1/203)
بطولات إسلامية -بطولة إنكار الذات
بقلم الأستاذ/ أحمد الشرباصي*
إن إنكار الذات خلقٌ من أخلاق الذين سَمَت هممهم وعلت نفوسهم، فصاروا من الأبطال الصادقين في هذه الحياة؛ لأن حب الذات والأثرة والأنانية من الغرائز المستكينة في صدور الناس، فإن استطاع المرء أن يقتلع من نفسه جذور هذه الذاتية، أو يقطع عليها طريق تأثيرها، أثبت أنه قد صار بطلاً مضحيًا في سبيل غيره، صادق الكفاح في سبيل مبادئه وعقائده وقومه ووطنه.
ولعل المجتمعات الهزيلة لا تصاب بداء كداء المفاخرة العريضة والتباهي المسرف؛ لأن هذا الداء يصرف الهمم والعزائم إلى الرياء والادعاء، ويَحُول بينها وبين الإخلاص والتواضع، وقد يفتح عليها أبواب النفاق والتلون؛ ولذلك وصف القرآن المنافقين بأنهم يراءون الناس، وجاء في الحديث الشريف: " إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء".
ولقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ماله؟ فأجاب النبي: "لا شيء له، فأعادها الرجل ثلاث مرات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتغي به وجهه!".
وكذلك جاء رجل إلى الرسول فقال: يا رسول الله، إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يُرى موطني، فتلبّث الرسول في الرد حتى نزل قوله تعالى: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا".
والإسلام الحنيف يدعو أهله إلى هذا الخلق النبيل؛ وهو إنكار الذات. ويحرضهم على أن يؤدوا أعمالهم المختلفة يريدون بها وجه الله، ويبتغون بها ما عنده من الثواب العظيم والنعيم المقيم: "والآخرة خير وأبقى"، "وما عند الله خير للأبرار"، "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان" (أي الحياة الكاملة) "لو كانوا يعلمون".
ولذلك، لا يقيم الإسلام كبير وزن للصدقة إذا أريد بها الافتخار والاشتهار: "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا"، والمؤمن المنكر لذاته هو "الذي يؤتي ماله يتزكى وما عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى".
هؤلاء أنكروا ذواتهم
وقد استطاع الإسلام أن يخرج من أبنائه أبطالاً عمالقة، سادوا وقادوا، وفعلوا المكارم، وأتموا جلائل الأعمال؛ ومع ذلك لم يتباهوا بما فعلوا، ولم يفخروا بما قدّموا، بل أنكروا ذواتهم وكتموا أعمالهم، وابتغوا وجه ربهم الذي لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، والذي يعلم السر والنَّجوى: "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى".
وهذا موقف من مواقف البطولة الخالدة، ومعرض من معارض الجندية المجهولة، يتألق في تاريخ الإسلام والعرب؛ فقد كان مسلمة بن عبد الملك أميرًا على جيش من جيوش الدولة الأموية التي قدمت ما قدمت في نصرة العروبة وتوطيد الدولة العربية المسلمة. وكان مسلمة يحاصر بجيشه حصنًا من حصون الأعداء، واستعصى هذا الحصن على الجيش، فلم يستطع له فتحًا ولا اقتحامًا؛ فحرض الأمير مسلمة جنده على التضحية والإقدام حتى يحدث بعضهم في ذلك الحصن ثغرًا أو نقبًا، فتقدم من وسط الجيش جندي ملثم غير معروف وقذف بنفسه إلى جهة الحصن غير مبال بسهام الأعداء ولا خائف من الموت؛ حتى أحدث فيه نقبًا كان سببًا في سقوط الحصن ودخول الجيش فيه..
وفرح مسلمة بذلك كثيرًا، ونادى في وسط الجيش: أين صاحب النقب؟ فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي فعزمت عليه (أي حلفت) ألا جاء. وكان يريد أن يخصه بجزء من الغنائم ويمجده.
وبعد فترة جاء الرجل إلى حاجب مسلمة، وقال له استأذن لي على الأمير فقال له الحاجب: أأنت صاحب النقب؟ فأجاب أنا أخبركم عنه..
واستأذن له الحاجب على الأمير، فلما صار بين يديه قال له: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط هي: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تسألوه مَنْ هو، وألا تأمروا له بشيء. قال مسلمة: فذلك له. فقال الرجل في استحياء: أنا صاحب النقب! ثم ولى مسرعًا، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها قائلاً: اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة!!
وكأن هذا الرجل المحتسب المجاهد المتستر كان يتذكر خير التذكر أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر (أي ليرتفع ذكره) والرجل يقاتل ليُرى مكانه (أي ليشتهر بالشجاعة) فمَنْ في سبيل الله؟ فأجاب الرسول: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وكأنه كان يتذكر أيضًا نِعْمَ التذكر أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: يا رسول الله أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: "يا عبد الله إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا".
مواقف باهرة
ونضيف إلى الموقف السابق موقفًا آخر فيه عفة رائعة وفيه إنكار للذات باهر.
جاء في تاريخ الطبري: لمّا هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض (أي الغنائم قبل أن تقسم) أقبل رجل بحق معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. فقالوا: هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به. فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟ فقال: ولا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني، ولكن أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن قيس!!
وهذا التوجيه الإسلامي الرائع إلى البطولة المحتسبة مَثَلٌ أعلى، يصور الحرص على نشر روح الجندية المضحية في تواضع وصمت وإنكار للذات.
ومن رحاب هذه البطولة أرادت بعض الدول في العصور الأخيرة أن تحتفل احتفالاً ماديًّا ومعنويَّا بتكريم الجندي المجهول، وهو اتجاه أوحت به الرغبة في تجديد الكفاح الصامت الذي يعمل في الخفاء، ولا يثير من حوله الصخب أو الضوضاء؛ لأن الجندي المجهول -كما يقول أحمد شوقي: "تمثال من إنكار الذات والفناء في الجماعات، وصورة من التضحية المبرأة من الآفات المنزهة عن انتظار المكافآت".
فعلى الذين يؤمنون بربهم وعقائدهم وأوطانهم ومبادئهم، أن ينطلقوا خفافًا وثقالاً في ميادين العمل المبرور، والسعي المشكور؛ لينصروا مبادئهم، ويخدموا بلادهم، واثقين أن المعروف لا يذهب بين الله والناس "وما عند الله خير للأبرار".
ــــــــــــــــــــ(1/204)
الدين الصناعي
للأستاذ/ أحمد أمين رحمه الله
هل تعرف الفَرْق بين الحرير الطبيعي والحرير الصناعي؟
وهل تعرف الفَرْق بين الأسد وصورة الأسد؟
وهل تعرف الفَرْق بين الدنيا في الخارج والدنيا على الخريطة؟
وهل تعرف الفَرْق بين عملك في اليقظة وعملك في المنام؟
وهل تعرف الفَرْق بين النار أمامك وهي تلتهب وتأتي على كل ما يُقدَّم لها من وقود، وبين نطقك بكلمة النار وهي تجري على لسانك فلا تمسه بسوء؟
وهل تعرف الفَرْق بين إنسان يسعى في الحياة، وبين إنسان من جبس في متجر؛ لتعرض عليه الملابس؟
وهل تعرف الفَرْق بين النائحة الثَّكْلَى والنائحة المُستأجَرَة، وبين التكحل في العينين والكحل؟
وهل تعرف الفَرْق بين السيف يُمسكه الجندي المُحارِب وبين السيف الخشبي يُمسكه الخطيب يوم الجمعة؟
وهل تعرف الفَرْق بين الناس في الحياة والناس على الشاشة البيضاء؟
وهل تعرف الفَرْق بين الصوت والصدى؟
إن عرفتَ ذلك فهو بعينه الفَرْق بين الدين الحق والدين الصناعي
يكد الباحثون أذهانهم، ويجهد المؤرخون أنفسهم في تقليب صحفهم ووثائقهم عن تعرف السبب في أن المسلمين أول أمرهم أتوا بالعجائب؛ فغزوا وفتحوا وسادوا، والمسلمين في آخر أمرهم أتوا بالعجائب أيضًا؛ فضعفوا وذلوا واستكانوا، والقرآن هو القرآن، وتعاليم الإسلام هي تعاليم الإسلام، و"لا إله إلا الله" هي "لا إله إلا الله".
وكل شيء هو كل شيء؛ ويذهبون في تعليل ذلك مذاهب شتَّى، ويسلكون مسالك متعددةً. ولا أرى لذلك إلا سببًا واحدًا هو الفَرْق بين الدين الحق والدين الصناعي.
حرارة الدين الحق
الدين الصناعي دين حركات وسكنات، وألفاظ، ولا شيء وراء ذلك، والدين الحق دين رُوح وقلب وحرارة.
الصلاة في الدين الصناعي ألعاب رياضية، والحج حركة آلية ورحلة بدنية، والمظاهر الدينية أعمال مسرحية وأشكال بهلوانية.
و(لا إله إلا الله) في الدين الصناعي قول جميل لا مدلول له، أما في الدين الحق فهي كل شيء؛ هي ثورة على عبادة المال، وثورة على عبادة السلطان وثورة على عبادة الجاه، وثورة على عبادة الشهوات، وثورة على كل معبود غير الله.
(لا إله إلا الله) في الدين الصناعي تتفق مع إحناء الرأس والخضوع لشهوة البدن، وتتفق مع الذلة والمسكنة، و(لا إله إلا الله) في الدين الحق لا تتفق إلا مع الحق.
(لا إله إلا الله) في الدين الصناعي تذهب مع الريح، وفي الدين الحق تُزلزل الجبال.
الدين الصناعي صناعة كصناعة النجارة والحياكة، يمهر فيها الماهر بالحذق والمران، أما الدين الحق فرُوح وقلب وعقيدة، ليس عملاً، ولكنه يبعث على كل عمل جليل وكل عمل نبيل.
الدين الحق (إكسير) يحل في الميت فيحيا، وفي الضعيف فيقوى.
هو "حجر الفلاسفة" تضعه على النحاس والفضة والرصاص فتكون ذهبًا.
هو العقيدة التي تأتي بالمُعجِزات فيقف العلم والتاريخ والفلسفة أمامها حائرةً: بِمَ تُعلَّل، وكيف تُشرَح؟!
هو التِّرْيَاق الذي تتعاطى منه قليلاً فيذهب بكل سموم الحياة، هو العنصر الكيماوي الذي تُمزَج به الشعائر الدينية فتطير بكَ إلى الله، وتُمزَج به الأعمال الدنيوية؛ فتذلل العقبات مهما صعبت، وتصل بك إلى الغرض مهما لاقت.
هو الذي وجده كل مَن نجح، وهو الذي فقده كل مَن خاب.
هو الكهرباء الذي يتصل فيُدَوِّر العَجَل، ويُسيِّر العمل، وينقطع فلا حركة ولا عمل.
هو الذي يحل في الأوتار فتوقع وكانت قبلُ حبالاً، وفي الصوت فيُغنِّي وكان قبلُ هواءً.
نحيا به ونحارب له
الدين الحق يحمل صاحبه على أن يحيا له ويحارب له، والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يحيا به ويُتاجر به ويحتال به.
الدين الحق يجعل صاحبه فوق كل سلطة وفوق كل سياسة، والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يلوي الدين ليخدم السلطة ويخدم السياسية.
الدين الحق قلب وقوة، والدين الصناعي نحو وصرف وإعراب وكلام وتأويل. الدين امتزاج بالرُّوح والدم، وغضب للحق، ونفور من الظلم، وموت في تحقيق العدل. والدين الصناعي عمامة كبيرة، وقباء يلمع، وفَرَجِيّة واسعة الأكمام.
"الشهادة" في الدين الحق هي ما قاله الله تعالى: (إنَّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفُسَهُم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّةَ يُقاتِلون في سبيلِ اللهِ فَيَقْتُلُون ويَقْتُلُون). و"الشهادة" في الدين الصناعي إعرابُ جملةٍ، وتخريجُ متنٍ، وتفسيرُ شرحٍ، وتوجيه (حاشيةٍ)، وتصحيحُ قولٍ مُؤلَّفٍ ورد الاعتراض عليه.
الدين الحق تحسين علاقة الإنسان بالله، وتحسين علاقة الإنسان بالإنسان؛ لتحسن علاقتهم جميعًا بالله. والدين الصناعي تحسين علاقة صاحبه بالإنسان لاستدرارِ رزقٍ، أو كسبِ جاهٍ، أو تحصيلِ مَغنَمٍ، أو دفعِ مَغرَمٍ.
لقد صدق مَن قال: إن هذا الدين (لا يصلُح آخره إلاَّ بما صلُح به أوله) وهل كان أوله إلا دين رُوحٍ، وهل كان آخره إلا دين صناعةٍ؟
جناية أهل كل دين أن يبتعدوا - كلما تقدم بهم الزمان - عن رُوحه ويحتفظوا بشكله، وأن يقلبوا الأوضاع، ويعكسوا التقدير، فلا يكون للرُّوح قيمة، ويكون للشكل كل القيمة.
شأن "الإيمان" شأن العشق، يُحوِّل البرودة حرارةً، والخمول نباهةً، والرذيلة فضيلةً والأثرة إيثارًا.
والإيمان الحق كالعصا السحرية، لا تمس شيئًا إلا ألهبته، ولا جامدًا إلا أذابته، ولا مواتًا إلا أحيته.
من لي بمن يأخذ الدين الصناعي بكل ما فيه، ويبيعني ذرةً من الدين الحق في أسمَى معانيه؟
ولي كَبِدٌ مقروحةٌ مَن يبيعُني بها كَبِدًا ليستْ بذاتِ قُرُوح
ــــــــــــــــــــ(1/205)
المدينة الفاضلة في الإسلام
للأستاذ الشيخ/ محمد الخضر حسين
في عام 1931هـ
"هؤلاء رحلوا عنا "رحمهم الله" ولكن بقي علمهم بيننا ومضات على الطريق"
أخذ نبهاء الأمم الخاملة أو مهضومة الجانب يسعون إلى أن تكون أممهم في رقي وسعادة، وخطوا في هذا السبيل خطواتٍ قصيرةً أو واسعةً، ووضعوا أسسًا متينةً أو واهيةً، والذي يعنينا في هذا المقام أن نقول كلمةً في وسائل نهوض الشعوب الإسلامية إن كانت خاملةً، أو ظفرها بالحرية الصادقة إن كانت محرومةً من التمتع بحقوقها التي أوصى بها دينها الحنيف.
لا نفتأ نذكر ذلك السلطان الكريم الذي بسطه خلفاء الإسلام الراشدون على المعمورة، فعلم الناس كيف يعيشون أحرارًا، والملوك كيف يقيمون عروشهم على قواعد العدل والمساواة، ورجال الدين كيف يدعون إلى الحقيقة والفضيلة في سماحة ووقار، ولا نجحد مع هذه الذكرى أن الشعوب الإسلامية قد وقعت منذ عهد بعيد في وهْدَة من الخمول، وانقطعت الصلة بينها وبين الأمم فَلَمْ تَدْرِ ماذا يصنعون؛ حتى تراءى لها ما نبهها من غفوتها وحثها أن تنهض من كبوتها؛ فمسك بقيادتها فريق كانوا على بصيرة من هداية الإسلام، وإن شئتَ فقُلْ: تقدم لقيادتها رجال مستنيرون من أبناء المعاهد الإسلامية، وآخرون مهتدون من القائمين على جانب من العلوم الكونية، فمن يتحدث عن النهضة المصرية مثلاً لا يحيد عن ذِكْر رجال استنارت عقولهم بين جدران الجامعة الأزهرية، ومن يتحدث عن النهضة التونسية ذَكَرَ في مقدمة رجالها فريقًا تلقوا معارفهم بين جدران الجامعة الزيتونية.
ولو استمر العمل لرقيِّنا المدني بأيدي طوائف تجمع بين رجال الدين المصلحين ورجال العلم الحديث المهتدين؛ لقطعنا في سبيل السعادة شوطًا أبعد مما قطعنا، ولَكُنَّا أثبت موقفًا وأقرب إلى أن يهابنا الذين يعملون لشقائنا، ولكن حركة تقدمنا لم تستمر على ما وصفنا، ومسها مرض إذا لم نبادر إلى إنقاذها منه كان شرها أكبر من خيرها، وخيبتها أقرب علينا من نجاحها.
إن الأمة التي تأخذ بنصائح الدين وتقتدي بآدابه في السر والعلانية لهي الأمة التي يمكنها أن تتحد وتتآزر في صفاء. وهي التي تستطيع أن تبني عظمةً وتحوط أكنافها بمَنعَةٍ. فلا تجد الأيدي العادية إلى هضم حق من حقوقها منفذًا.
سنواصل بتوفيق الله القول في نصائح الدين التي تأخذ بيد الجماعة إلى هضبة الشرف القصوى. ونقفّي على أثر النصيحة بأخرى حتى يستبين لك أن الإسلام صنع الله الذي أتقن كل شيء، وإنما أذكر في هذا المقام خصالاً كالدعائم يقوم عليها صرح الحياة المدنية، بهيّ المنظر شامخ البناء، وما هذه الدعائم إلا العلم الصحيح والعمل النافع والخلق الرفيع.
العلم والدين
أما العلم؛ فقد عني به الدين فيما عني، ونوه بذكره فيما نوه، فقال تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ومن دلائل أن الإسلام ينظر إلى العلم بإقبال ويعده في أكبر النعم التي يتقلب فيها الإنسان أنك ترى في أول ما نزل به الروح الأمين قوله تعالى: "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم".
وقد اندفع المسلمون إلى اقتناء ما لغيرهم من العلوم برغبة حريصة وهمم كبيرة، وتناولوا بحثها بعقول راجحة، علاوة على العلوم التي استمدوها من الكتاب والسنة كأحكام الفقه وأصوله، أو العلوم اللغوية كالنحو والبيان.
فالإسلام ينصح لأوليائه أن يبتغوا العلوم أينما كانت، ويحضهم على أن ينظموا شؤونهم الحيوية على مقتضى ما علموا، ولم يجئ الإسلام في عقائده أو أخباره بما يخالف العلم الصحيح، ولم يجئ في نصائحه بما ينقص الرغبة في العلم على اختلاف فنونه، فشأن الأمة التي تبتغيه دينًا أن تكون أصفى الأمم بصائر، وأغزرها معارف، وأبعدها في البحث نظرًا.
وإذا أضاف أحد على جهالة أو سوء قصد إلى الدين شيئًا لا يقبله العلم، فالإسلام كله حقائق، وهو من تبعة ما يلصقه به الجاهلون أو المفسدون براء، وإذا صدر من بعض المنتمين إلى الدين كلمة تصرِف الناس عن علم مادي أو أدبي فأقصى مصدر هذه الكلمة ذهن صاحبها، وليس بينها وبين الدين من صلة، بل شأن الدين أن لا يكون عنها راضيًا.
ولم يبق اليوم بعد أن ظهر من نتائج العلوم الكونية من أمثال هذه الغواصات والطائرات والمقذوفات ووسائل المخابرات مَنْ لا يرجع إلى قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" ويتفقه فيها أكثر مما كان يتفقه، ويشهد بأن العلوم التي يسمونها الطبيعيات والرياضيات هي من فروض الكفايات التي يجب أن تقوم عليها طائفة من الأمة، فإن الله لا يرضى لها إلا حياة العزة والكرامة، وهي لا تحيا هذه الحياة إلا أن تكون على بيّنة مما يعلم أو يصنع خصومها.
الإسلام ومكارم الأخلاق
وأما الأخلاق الشريفة؛ فإن الإسلام لم يدع مكرمة إلا نبه على مكانها وندب على التجمل بحليتها، وقد عني بمزايا هي أساس رقي الأمة وانتظام حياتها الاجتماعية، كالصدق والأمانة والعفاف والحلم والعفو والتراحم والعدل وعزة النفس والشجاعة وحرية الضمير والإقدام على قول الحق وبذل المال في وجوه البر، وسنبحث في هذه المزايا ببسط القول وإقامة الشواهد في مقام آخر إن شاء الله.
وأما العمل النافع؛ فإن الدين يحث على العمل لهذه الحياة كما يحث على العمل للحياة الأخرى، وجعل لعمل الشخص في هذه الحياة نصيبًا من ثواب الآخرة فوق ما ينال من منفعة عاجلة متى كان قصده من العمل خالصًا.
ولما نسميه أعمالاً أخروية وهي العبادات الأثرُ الطيب في الحياة الدنيا قبل الحياة الآخرة، أليست الصلاة المقرونة بحضور القلب وعمارته بجلال الله تنهي عن الفحشاء والمنكر، وتكف يد صاحبها عن أن يعمل سوءًا فتحميه من جرائم شأنها أن تجره إلى عقوبات بدنية أو مالية، وفيها بعد هذا غنى عن طائفة من الشُّرَط والسجون ينفق عليها أولو الأمر أموالاً طائلة؟
أوليس في الصيام رياضة النفوس وتدريبها على احتمال المكاره، والصبر عن الشهوات حتى لا تكون أسيرة في ملاذها، وفي النفوس التي اعتادت الصبر عما تشتهي وهو حاضر لديها قوة وجلادة لا تجدها في النفوس التي لا تكف عن المشتهيات إلا عند فقدانها؟ فالصيام بحق يشفي النفوس من علة الانحطاط في الشهوات كلما عرضت، ويسبكها في صورة النفوس القوية التي يسهل عليها أن تنصرف عن ملاذها ساعة ترى الخير في الانصراف عنها.
أوليس في الحج فوائد اقتصادية واجتماعية لو وجّه إليها زعماء الحجيج عنايتهم لعادوا إلى أوطانهم بما ينفعهم في الأولى بعد أن قدموا للآخرة من العمل الصالح ذخرًا باقيًا؟
ولا أرى حاجة إلى أن أذكر في هذا النسق فريضة الزكاة فإن أثرها في سد حاجات كبيرة من حاجات الأمة ظاهر ظهور الشمس في كَبِد السماء. وقد أتى مقال فضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الجبالي المنشور في الجزء الثاني على جانب من حكمها الاجتماعية والاقتصادية.
العمل والعبادة
ولم يشرع الدين من العبادات ما يضيق به وقت العمل للحياة مقدار أنملة؛ فنحن نرى الذين هم عن الآخرة غافلون يشغلون جانبًا من أوقاتهم في راحة ولهو، أفلا يحق للمؤمن أن يقضي جزءًا من وقت راحته في الوقوف بين يدي الخالق وابتغاء رضوانه، وهذا الجزء لا يزيد على ساعة في اليوم والليلة إذا شاء؟ ليفعل هذا وليقس حياته بحياة من يصرف أوقاته في جمع المال وإذا انتقل عنه فإلى راحة ولهو، فإنه يجد من طمأنينة القلب وارتياح النفس ما يجعل عيشه أهنأ وحياته أطيب مصداق قوله تعالى: "من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
لا أدري كيف حدث خاطر أن قلة إقبال المسلمين على العمل لجمع المال وتفشي الفقر في شعوبهم آتيانِ من ناحية دينهم، وهؤلاء علماؤنا يقررون أن كل صنعة تحتاج إليها الأمة فرض كفاية لا تخلص الأمة من واجبها حتى تقوم بها طائفة منهم، وقالوا: إن نحو التجارة هي مباحة بالنسبة للأفراد، أي يجوز للرجل أن يتخذها حرفة يستمر عليها، وله أن يختار غيرها في بعض الأحيان، ولو تركها الناس جميعًا لأثموا بتركهم لها؛ لأنها من الضروريات المأمور بها. وهذا الزركشي يقول في بحث فرض الكفاية من قواعده: "الدنيوي كالحرف والصنائع وما به قوام المعاش كالبيع والشراء والحراثة وما لا بد منه حتى الحجامة والكنس" ثم قال: "ولو فُرِضَ امتناع الخلق منها أثموا".
توكل لا تواكل
والتوكل في لسان الدين إنما يراد به توجه القلب إلى الخالق حال العمل واستمداد المعونة منه، فلم يكن داعية إلى البطالة والإقلال من العمل البتة، بل كان للتوكل الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على الأعمال الجليلة التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأسباب الحاضرة يقصران عن إدراكها، وإذا فسرته فئة غير عالمة بقبض اليد عن العمل وطرح الأسباب جملة، فذلك تفسير لا يقره الدين الذي يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم"، ويقول: "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم".
فالشريعة الإسلامية تأمر بالعمل لهذه الحياة وتجعل السعي على العيال والعمل للتعفف عما في أيدي الناس أو للإنفاق في سبيل الخير من قبيل العمل الذي يستحق صاحبه ثواب الله في الأخرى، وتكره للرجل أن يوصي بما فوق الثلث وتقول له: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم".
إن شريعةً هذا شأنها لشريعةٌ مدنية تجمع إلى تهذيب النفوس الذي هو القوة المعنوية أسبابَ البسطة في المال الذي هو القوة المادية، وإذا جمع قوم بين القوتين فقد أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا كما ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.
فالإسلام ينادي أممه إلى أن يتعلقوا من العلم بكل فن، وينوه بشأن الأخلاق أبلغ تنويه، ويجعل كل ما تدعو إليه حاجة الجماعة من العمل النافع أمرًا واجبًا، فما من أمة تريد أن تصعد إلى أفق السيادة الأعلى إلا وجدت في مبادئه أجنحة تطير بها إلى حيث تطمح همتها، وعلى قدر ما تنفق من عزمها، وكذلك قص علينا التاريخ الصادق أن الإسلام أخرج للناس أمة بهرت العالم بعلومها الزاخرة وأخلاقها الزاهرة وأعمالها الفاخرة، وإذا شاءت الشعوب الإسلامية أن تكون المَثَل الأعلى للمدنية الفاضلة؛ ففي استطاعتها أن تتحرى نصائح الدين الحنيف، وفي احترام رؤسائها وزعمائها لأحكام الدين ونصائحه أخذ بالسياسة الرشيدة وهي التصرف في شؤون الأمة على مقتضى إراداتها.
ــــــــــــــــــــ(1/206)
الصيام وبناء الضمير وتزكية النفس
الشيخ سلمان مندني
لرمضان وقْعٌ في النفس مختلفٌ، ينتقل به الإنسان إلى ميدان آخر، تزكو به نفسه وفكره وجوارحه، ويعيش الإيمان فيه واقعًا، لا يجد بين الإيمان والحياة فاصلاً، وإنما يترجم معاني رمضان في أفعاله وأقواله وسلوكه وتعامله.. فهو عف اللسان، عف اليد، عف القلب والخاطر.
ورمضان بحق مدرسة إيمانية؛ يتجدد معها إيمان العبد. كلما شعر بألم الجوع والعطش، ازداد إيمانه بالامتناع عن المباح وارتقت نفسه بالامتناع عن الحرام، وتسامى عنه، وحافظ على صيامه من أن تخدشه كلمة أو تؤثر فيه لفظة؛ فلا يصوم عن المباح ليفطر على الحرام.
لذلك كان الصيام مدرسة التقوى التي يعيش بها الضمير حيًّا حذرًا مدركًا، تفرحه الطاعة وتؤذيه المعصية. إن همّ صاحبه بسيئة نهاه عنها، وإن همّ صاحبه بحسنة حثّه عليها. يكبر ضميره وينمو حتى يكون في بصر العبد وأذنه وفي يده ورجله ولسانه، بل في خواطر نفسه وإحساسه. وهو بحد ذاته فوز، وأي فوز أكبر من أن ينتصر الإنسان على نفسه فيعمل بحسب ما يمليه عليه دينه وليس بحسب ما تهواه نفسه: "ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا".
ولا أدل على سمو مكانة الصوم ومنزلته من أن الله جلّ شأنه قال فيما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام لي وأنا أجزي به" رواه مسلم. فقد أضاف الجليل الصوم إلى نفسه، وليس بعد ذلك من تشريف ينسحب على من صام إيمانًا واحتسابًا. وفيه أيضًا أنه لا يطلع عليه أحد إلا الله، وكم ممتنع عن الأكل والشرب، غير أنه عند الله غير صائم وإن كان صائمًا في ظاهره كما يظن به الناس.
وهذا هو سر رقي الإنسان وتزكية نفسه وجوارحه وفكره؛ فهو يعيش الإيمان بهذا الإحساس فيزداد نقاءً وصفاءً وحسن معاملة؛ فهو عف اللسان لا يقول إلا حقًا ولا ينطق إلا صدقًا ويتعبد الله بذلك. وهو عف اليد، لا تمتد إلى حرام أو إيذاء أو شرور، وإنما هي يد عليا في كل شيء؛ يد خير وصلاح وعطاء وبناء، يد طيبة منفقة متصدقة معينة.
وهو عف القلب والخاطر مشغول الفكر والوجدان بالذكر والتسبيح والقرآن، فإن جال في نفسه شيء من وسوسة الشيطان تذكر؛ فإذا هو مبصر، واستغفر؛ فإذا هو مدرك، ورأى برهان ربه في قلبه وفكره نورًا وصلاة ويقينًا وعلمًا؛ فاندحر منهما الشيطان وعاد خائبًا خاسرًا مرددًا: "إلا عبادك منهم المخلصين" (الحجر: 40).
والصائم إذا امتنع عن الحلال المباح؛ استجابة لله وطاعة لأوامره، فإنه من باب أولى أكثر طواعية للامتناع عن الحرام وترفعًا عنه. فالحرام يصادم الفطرة والجبلة، والعبادة تتوافق مع الفطرة وتنسجم مع طبيعة الإنسان.
والصوم تربية للنفس على الإخلاص في العبادة والمراقبة وإحياء الضمير ويقظته، وهذا هو مراد الصيام: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة: 183). والتقوى هي ميزان المؤمن في الحياة؛ بها يتحرى الحق من الباطل والطيب من الخبيث والرشد من الغي والصحيح من السقيم، فيكون في نور من الله وعلى نور من الله، وهذا هو محصلة العبادات جميعها: "يا أيها الذين آمنوا اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة:21).
والصيام فوز للإنسان، فأي فوز أكبر من أن ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء والتي خلقت وفيها عوامل تعيقها: من غفلة ونسيان وسهو وضعف وعجز وتقصير، وغير ذلك. ولا يغلب ذلك كله إلا الإيمان؛ فهو الطاقة والوقود والعزيمة.
"احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" رواه أحمد. والعبد في صيامه قد ألجم وكبح جماح نفسه، وأعلن بذلك انتصاره عليها واستهان بحاجتها ودوافعها، فأصبح همه طاعة الله وعصيانها: "ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا" (الأحزاب:71)؛ لأنه عرف المسار، وأدرك طريقه، وتغلب على المعوقات الكثيرة والتي أشقها شهوات النفس ورغباتها.
=====================
العيد
يقول الشاعرعبد المعطي الدالاتي:
يعودُ العيدُ ياأحبابْ *** سعيداً يقرعُ الأبوابْ
يُحَيّينا .. ويُحْيينا *** ويدعونا إلى المحرابْ
يعودُ الحبُّ للقلبِ *** وهل أحلى من الحبِّ؟!
فنَهنا بالجنَا العذبِ *** وندعو الله َ: يا توابْ
***
نرى الفقراءَ قد ناموا *** وفي الأكبادِ آلام ُ
وقبلَ الصوم قد صاموا *** وأنتَ الرازق الوهّابْ
فكبِّر يا أخا الإسلامْ *** فهذا أسعدُ الأيامْ
وهيّا نمسح الآلامْ ***ونسقي الخير َبالأكوابْ
***************
دموعُ القدس خلف النارْ *** تنادي موكب الأحرارْ
فكبّرْ .. دمِّر الأسوارْ *** فربُّك هازمُ الأحزابْ
****************
أيا عيدُ متى النصرُ؟ *** متى حطينُ أو بدرُ؟
تُرى هل يشرقُ الفجرُ ؟ *** ونفرحُ فرحةَ الأصحابْ
****************
وفي ختام رمضان واستقبال عيد الفطر:
من ذلك قول ابن الرومي:
ولما انقضى شهر الصيام بفضله *** تجلَّى هلالُ العيدِ من جانبِ الغربِ
كحاجبِ شيخٍ شابَ من طُولِ عُمْرِه * يشيرُ لنا بالرمز للأكْلِ والشُّرْبِ
****************
وقول ابن المعتز:
أهلاً بفِطْرٍ قد أضاء هلالُه **** فالآنَ فاغْدُ على الصِّحاب وبَكِّرِ
وانظرْ إليه كزورقٍ من فِضَّةٍ *** قد أثقلتْهُ حمولةٌ من عَنْبَرِ
****************
ويستغل الشاعر محمد الأسمر فرصة العيد ليذكر بالخير و الحث على الصدقة فيه تخفيفًا من معاناة الفقراء والمعوزين في يوم العيد؛ فيقول:
هذا هو العيد فلتصفُ النفوس به *** وبذلك الخير فيه خير ما صنعا
أيامه موسم للبر تزرعه *** وعند ربي يخبي المرء ما زرعا
فتعهدوا الناس فيه:من أضر به ** ريب الزمان ومن كانوا لكم تبعا
وبددوا عن ذوي القربى شجونهم *** دعا الإله لهذا والرسول معا
واسوا البرايا وكونوا في دياجرهم *** بدراً رآه ظلام الليل فانقشعا
****************
وهذا الشاعر الجمبلاطي يستبشر خيراً بقدوم العيد، ويأمل أن يكون فرصة لمساعدة الفقراء والمكروبين حين يقول:
طاف البشير بنا مذ أقبل العيد *** فالبشر مرتقب والبذل محمود
يا عيد كل فقير هز راحته *** شوقاً وكل غني هزه الجود
****************
وللشاعر يحيى حسن توفيق قصيدة بعنوان «ليلة العيد» يستبشر في مطلعها بقوله:
بشائر العيد تترا غنية الصور *** وطابع البشر يكسو أوجه البشر
وموكب العيد يدنو صاخباً طرباً *** في عين وامقة أو قلب منتظر
****************
ويستمر في وصفه حتى يختمها بقوله:
ياليلة العيد كم في العيد من عبر *** لمن أراد رشاد العقل والبشر
****************
والعيد ما هو إلا تعبير عن السعادة التي تغمر الصائمين بنعمة الله التي أنعمها عليهم باكتمال صيام الشهر الفضيل يقول محمد بن سعد المشعان:
والعيد أقبل مزهوًا بطلعته *** كأنه فارس في حلة رفلا
والمسلمون أشاعوا فيه فرحتهم *** كما أشاعوا التحايا فيه والقبلا
فليهنأ الصائم المنهي تعبده *** بمقدم العيد إن الصوم قد كملا
****************
وما قيل في ذلك دالية المتنبي في وصف حاله بمصر والتي يقول في مطلعها:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ جِئْتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمْرٍ فيكَ تجديدُ
أمّا الأحِبة فالبيداءُ دونَهم *** فليت دونك بيداً دونهم بيدُ
****************
وشكوى المعتمدُ بن عباد بعد زوال ملكه، وحبسه في (أغمات) بخافية على أي متصفح لكتب الأدب العربي؛ حين قال وهو يرى بناته جائعات عاريات حافيات في يوم العيد :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا *** وكان عيدك باللّذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ *** فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً *** في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بعيد العزّ ممتهنٌ *** يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه *** ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا
وكنت تحسب أن الفطر مُبتَهَجٌ *** فعاد فطرك للأكباد تفطيرا
****************
ويبث الشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين شكوى أيام صباه الأولي في قصيدة رائعة قال فيها:
العيدُ أقبلَ تُسْعِدُ الأطفالَ ما حملتْ يداه
لُعَباً وأثواباً وأنغاماً تَضِجُّ بها الشِّفاه
وفتاكَ يبحثُ بينَ أسرابِ الطفولةِ عن (نِداه)
فيعودُ في أهدابه دَمْعٌ ، وفي شفتيه (آه)
****************
ويقول في قصيدة أخرى:
هذا هو العيدُ ، أينَ الأهلُ والفرحُ
ضاقتْ بهِ النَّفْسُ ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟!
وأينَ أحبابُنا ضاعتْ ملامحُهم
مَنْ في البلاد بقي منهم ، ومن نزحوا؟!
****************
وفي قصيدة ثالثة يقول:
يا عيدُ عرِّجْ فقد طالَ الظّما وجَفَتْ *** تِلكَ السنونُ التي كم أيْنَعَتْ عِنَبا
يا عيدُ عُدنْا أعِدْنا للذي فرِحَتْ *** به الصغيراتُ من أحلامنا فخبا
مَنْ غيّبَ الضحكةَ البيضاءَ من غَدِنا *** مَنْ فَرَّ بالفرحِ السهرانِ مَنْ هَربَا
لم يبقَ من عيدنا إلا الذي تَرَكَتْ *** لنا يداهُ وما أعطى وما وَهَبا
من ذكرياتٍ أقَمنا العُمرَ نَعصِرُها *** فما شربنا ولا داعي المُنى شَرِبا
يا عيدُ هَلاّ تَذَكرتَ الذي أخَذَتْ *** منّا الليالي وما من كأسِنا انسَكَبا
وهل تَذَكَّرتَ أطفالاً مباهِجُهُم *** يا عيدُ في صُبْحِكَ الآتي إذا اقتربا
هَلاّ تَذَكَّرتَ ليلَ الأَمسِ تملؤُهُ *** بِشْراً إذا جِئْتَ أينَ البِشْرُ؟..قد ذَهَبا
****************
أما الأهل في خارج السجن فلم يكن حالهم بأفضل من حال من بداخله حيث يصف الطاهر إبراهيم ذلك حين يقول:
يا رب هذا العيد وافى والنفوس بها شجون
لبس الصغار جديدهم فيه وهم يستبشرون
بجديد أحذية وأثواب لهم يتبخترون
ولذيذ حلوى العيد بالأيدي بها يتخاطفون
وهناك خلف الباب أطفال لنا يتساءلون
أمي صلاة العيد حانت أين والدنا الحنون؟
إنا توضأنا كعادتنا وعند الباب (أمي) واقفون
زفرت تئن وقد بدا في وجهها الألم الدفين
ورنت إليهم في أسى واغرورقت منها العيون
العيد ليس لكم أحبائي فوالدكم سجين
***************
ولقد وصف الشعراء مآسي الأمة وأحزانها خصوصًا كلما عاد العيد ومن ذلك قول الشاعر عمر بهاء الدين الأميري:
يقولونَ لي: عيدٌ سعيدٌ، وإنَّهُ *** ليومُ حسابٍ لو نحسُّ ونشعرُ
أعيدٌ سعيدٌ !! يالها من سعادةٍ *** وأوطانُنا فيها الشقاءُ يزمجرُ
وقوله:
يمرُّ علينا العيدُ مُرَّا مضرَّجاً *** بأكبادنا والقدسُ في الأسْرِ تصرخُ
عسى أنْ يعودَ العيدُ باللهِ عزّةً *** ونَصْراً، ويُمْحى العارُ عنّا ويُنْسَخُ
****************
وشكوى الشاعر عمر أبو الريشة :
يا عيدُ ما افْتَرَّ ثغْرُ المجدِ يا عيد *** فكيف تلقاكَ بالبِشْرِ الزغاريدُ؟
يا عيدُ كم في روابي القدسِ من كَبِدٍ *** لها على الرَّفْرَفِ العُلْوِيِّ تَعْييدُ؟
سينجلي لَيْلُنا عن فَجْرِ مُعْتَرَكٍ *** ونحنُ في فمه المشْبوبِ تَغْريدُ
****************
أما الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي فيقول في قصيدته (عندما يحزن العيد) راثيًا حال الأمة الإسلامية بما يشاهده من معاناتها:
أقبلت يا عيد والأحزان نائمة *** على فراشي وطرف الشوق سهران
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي *** قلوبنا من صنوف الهمِّ ألوان؟
من أين نفرح والأحداث عاصفة *** وللدُّمى مقل ترنو وآذان؟
****************
ثم ينتقل إلى الجرح الذي لم يندمل، والذي يؤرق الأمة الإسلامية ألا وهو جراحات مقدساتها العظيمة التي سلبها عدوّها لما نام عنها راعيها من المسلمين فقال:
من أين والمسجد الأقصى محطمة
آماله وفؤاد القدس ولها؟
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي
دروبنا جدر قامت وكثبان؟
****************
وبعدها يشتاق قلب الشاعر إلى إخوانه وأحبائه وأهله إلى كل من لم يطعم الراحة والهناء تحت ظل الأمة الإسلامية ليواسيهم، ويواسي جراحات قلبه وآلام نفسه فيقول:
أصبحت في يوم عيدي والسؤال على ** ثغري يئن وفي الأحشاء نيران
أين الأحبة وارتد السؤال إلى *** صدري سهامًا لها في الطعن إمعان؟
****************
وعندما سُئل الشاعر محمد المشعانُ عن العيد ماذا يقول له ؟ أجاب سائله وهو يتحسر على ما آل إليه حال أمته الإسلامية من التفرق والخصام قائلاً:
ماذا تقول لهذا العيد يا شاعر؟ *** أقول: يا عيد ألق الرحل أو غادر
ما أنت يا عيد والأتراح جاثمة *** إلا سؤال سخيف مرَّ بالخاطر
ما أنت يا عيد والعربان قد ثكلوا *** جمالهم والمراعي وانتهى الماطر ؟
ما أنت يا عيد في قوم يمر بهم ** ركب الشعوب وهم في دهشة الحائر
****************
وتتفاعل الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان مع أخواتها اللاجئات الفلسطينيات بين الخيام لتصور مأساتهن وما يعانينه من آلام التشرد واللجوء في يوم العيد فتقول:
أختاه, هذا العيد رفَّ سناه في روح الوجودْ
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ
وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالاً شقيًّا
متهالكاً, يطوي وراء جموده ألماً عتيًّا
يرنو إلى اللاشيء.. منسرحاً مع الأفق البعيدْ
أختاه, مالك إن نظرت إلى جموع العابرينْ
ولمحت أسراب الصبايا من بنات المترفينْ
من كل راقصة الخطى كادت بنشوتها تطيرُ
العيد يضحك في محيّاها ويلتمع السرورُ
أطرقتِ واجمة كأنك صورة الألم الدفينْ?
****************
وتذكر الشاعرة أخواتها بالعيد أيام الطفولة حيث المرح واللهو الطفولي في يافا وغيرها من مدن فلسطين التي استولى عليها المحتل الغاصب، وحرم أهلها من الابتسامة وفرحة العيد:
أترى ذكرتِ مباهج الأعياد في (يافا) الجميلهْ?
أهفت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولهْ?
إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهوٍ غريرِ
والعقدة الحمراء قد رفّتْ على الرأس الصغير
والشعر منسدلٌ على الكتفين, محلول الجديلهْ?
إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيبِ
تتراكضين مع اللّدات بموكب فرح طروبِ
طوراً إلى أرجوحة نُصبت هناك على الرمالِ
طوراً إلى ظل المغارس في كنوز البرتقالِ
والعيد يملأ جوّكن بروحه المرح اللعوبِ?
وقبل الختام أُعرِّج معك مع أبيات سارت أمثالاً وحكما تسري في كل مكان
أنقلها لك أخي القاريء من كتاب المختار من شواهد الاشعار
1 إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ *** فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ
2 إذا جاء موسى وألقى العصى *** فقد بطل السحر والساحرُ
3 إذا رضيتْ عني كرام عشيرتي *** فلا زال غضباناً عليَّ لئامُها
4 إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركباً *** فما حيلةُ المضطر إلا ركوبها
5 إذا ما أتيت الأمر من غير بابه *** ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدي
6 إن العدو وإن أبدى مسالمةً *** إذا راى منك يوماً غرّة وثبا
7 إذا ملكٌ لم يكن ذا هبهْ *** فدعه فدولته ذاهبهْ
8 إذا كان رب البيت بالدف ضارباً *** فشيمة من في الدار كلهمُ الرقصُ
9 إذا كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ *** وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ
10 إذا ما أراد الله إهلاك نملةٍ *** سمت بجناحيها إلى الجو تصعدُ
11 إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا *** أصبت حليماً أو أصابك جاهلُ
12 إذا قالت حذامُ فصدقوها *** فإن القول ما قالتْ حذامُ
13 إذا لم تستطع شيئاً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيعُ
14 إذا محاسنيَ اللاتي أُدِلُّ بها *** عُدَّتْ ذنوباً فقل لي كيف أعتذرُ
15 إذا اعتاد الفتى خوض المنايا *** فأيسر ما يمر به الوحولُ
16 إذا كنتَ ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ *** فإن فسادَ الرأي أن تترددا
17 إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى *** فأولُ ما يجني عليه اجتهادُهُ
18 إذا ما الجرحُ رمَّ على فسادٍ *** تبين فيه تفريطُ الطبيبِ
19 إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا *** كفى لمطايانا برؤياك هاديا
20 أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ *** ربداءُ تجفُلُ من صفير الصافرِ
21 أعمى يقود بصيراً لا أبا لكمُ *** قد ضل من كانت العميان تهديهِ
22 أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ من *** اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
23 ألم تر أن المرء تدوي يمينه *** فيقطعها عمداً ليسلم سائرهْ
24 ألم تر أن السيف ينقص قدرُه *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
25 ألا رُبَّ باغٍ حاجةً لا ينالُها *** وآخرُ قد تُقضى له وهو جالسُ
26 إن الرياح إذا اشتدتْ عواصفها *** فليس ترمي سوى العالي من الشجرِ
27 إن الأفاعي وإن لانتْ ملامسُها *** عند التقلبِ في أنيابها العطبُ
28 أوردها سعدٌ وسعد مشتملْ *** ما هكذا يا سعدُ تُورَد الإبلْ
29 بأبهِ اقتدى عدىٌ بالكرمْ *** ومن يشابهْ أبَه فما ظلمْ
30 بدأتم فأحسنتم فأثنيتُ جاهدا *** وإن عدتمو ثنيتُ والعودُ أحمدُ
31 بذا قضت الأيامُ ما بين أهلها *** مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
32 بالملح نُصلح ما نخشى تغيرهُ *** فكيف بالملح إن حلت به الغِيَرُ
33 ترى الرجلَ النحيل فتزدريهِ ***وفي أثوابه أسدٌ حصورُ
ويعجبك الطريرُ فتبتليهِ *** فيخلف ظنك الرجلُ الطريرُ
34 تعشَّقتُها شمطاءَ شاب وليدُها *** وللناس فيما يعشقون مذاهِبُ
35 تقولُ هذا مِجاجُ النحلِ تمدحُهُ *** وإن تشأ قلتَ ذا قيءُ الزنابيرِ
مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفهما *** والحق قد يعتريهِ سوءُ تعبيرِ
36 ترجوا النجاةَ ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبسِ
37 تضاحكتُ بينهمو معجَبا *** وشرُّ البليةِ ما يُضْحِكُ
38 تكاثرت الظباءُ على خراشٍ *** فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
39 حياك من لم تكن ترجو تحيته *** لولا الدراهمُ ما حياك إنسانُ
40 خذ ما تراه ودع شيئاً سمعتَ به *** في طلعةِ الشمسِ ما يغنيك عن زُحَلِ
41 خلا للِ الجو فبيضي واصفري *** ونقِّري ما شئتِ أن تنقري
وعارضها بعضهم بقوله :
42 خلا لكِ الجو فغني واطربي *** وخرِّبي ما شئتِ أن تُخَرِّبي
43 الخير لا يأتيك متصلاً *** والشر يسبق سيلَه مطرُهْ
44 ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ***وأخو الجهالة في الشقاء منعَّمُ
45 رُبَّ يومٍ بكيتُ منه فلما *** صرتُ في غيره بكيتُ عليهِ
46 رضيتُ ببعض الذل خوف جميعه ***كذلك بعضُ الشر أهونُ من بعضِ
47 زعم الفرزدقُ أن سيقتل مِربَعاً *** أبشرْ بطولِ سلامةٍ يا مِربعُ
48 زعم المسفّه أن يغالِبَ ربَّهُ *** ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالبُ الغلاّبِ
49 ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً *** ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ
50 ستذكرني إذا جربت غيري *** وتعلم أنني نعم الصديقُ
51 ستورُ الضمائرِ مهتوكةٌ *** إذا ما تلاحظت الأعينُ
52 سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماءِ يُفتَقدُ البدرُ
53 شكوتُ وما الشكوى لمثليَ عادة *** ولكن تفيضُ العينُ عند امتلائها
54 طفح السرورُ عليَّ حتى أنه *** من كُثْرِ ما قد سرني أبكاني
55 ظننتُ بهم ظناً جميلاً فخيبوا *** رجائي وما كل الظنونِ تُصيبُ
56 عتبتُ على عمروٍ فلما تركته *** وجربتُ أقواماً بكيتُ على عمروِ
57 العبدُ يُقرعُ بالعصا *** والحرُّ تكفيه الإشاره
58 أُعلل النفس بالآمالِ أرقُبُها ما *** أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ
59 فلم أر كالأيام للمرءِ واعظاً *** و لا كصروف الدهر للمرءِ هاديا
60 فما أكثرُ الأصحابِ حين تعدُّهم *** ولكنهم في النائبات قليلُ
61 فلو لبس الحمارُ ثياب خزٍ *** لقال الناس يالك من حمارِ
62 فإن كانت الأجسامُ منا تباعدت *** فإن المدى بين القلوب قريبُ
63 فإن يكُ صدرُ هذا اليومِ ولى *** فإن غداً لناظره قريبُ
64 قد تُنكر العينُ ضوءَ الشمسِ من رمدٍ *** وينكرُ الفمُ طعمَ الماءِ من سَقَمِ
65 قد زال ملكُ سليمان وعاوده *** والشمسُ تنحطُّ في المجرى وترتفعُ
66 قد يجمعُ المالَ غيرُ آكلِهِ *** ويأكلُ المالَ غيرُ من جمعهْ
67 قد يرك المتأني بعض حاجتهِ ***وقد يكون من المستعجل الزللُ
68 قد يدرك الشرفَ الفتى ورداؤه *** خَلَقٌ وجيبُ قميصِهِ مرقوعُ
69 كشقي مقصٍ تجمعتا *** على غير شيءٍ سوى التفرقهْ
70 كعصفورة في كف طفلٍ يسومها *** ورود حياض الموت والطفلُ يلعبُ
71 كالعيسِ في البيداء يقتُلُها الظما ***والماءُ فوق ظهورِها محمولُ
72 كل المصائب قد تمر على الفتى *** فتهون غيرَ شماتةِ الأعداء
73 كأنك من كل النفوس مركبٌ *** فأنت إلى كل الأنام حبيبُ
74 كالكلب إن جاع لم يمنعك بصبصة *** وإن ينل شبعاً ينبحْ من الأشرِ
75 لا تمدحنَّ امرأً حتى تجربه *** و لا تذمنّه من غير تجريبِ
76 لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها *** ولكنَّ أخلاق الرجال تضيقُ
77 لعل عتبك محمودٌ عواقُبهُ *** وربما صحَّت الأجسامُ بالعللِ
78 لِلموت فينا سهامٌ وهي صائبةٌ *** من فاته اليوم سهمٌ لم يفته غدا
79 ليس الغبيّ بسيدٍ في قومه *** لكنَّ سيدَ قومه المتغابيْ
80 وإن عناءً أن تُفَهِّم جاهلاً *** فيحسب جهلاً أنه منك أعلمُ
81 متى يبلغ البنيانُ يوماً تمامَه *** إذا كنتَ تبنيهِ وغيرُك يهدمُ
82 ما حكَّ جلدك مثلُ ظفركْ *** فتولَّ أنت جميعَ أمرِكْ
83 مِكَرٍ مِفَرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً *** كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ
84 من كان فوق محل الشمس رتبته *** فليس يرفعه شيءٌ و لا يضعُ
85 من الناس مَنْ يغشى الأباعدَ نفعُه ***ويشقى به حتى المماتِ أقاربهْ
86 موتُ النفوس حياتها *** من شاء أن يحيا يموتْ
87 المستجيرُ بعمروٍ عند كربته *** كالمستجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ
88 من يهن يسهلُ الهوانُ عليهِ *** ما لُجرحٍ بميتٍ إيلامُ
89 الناسُ للناسِ من بدوٍ وحاضرةٍ *** بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
90 هب الدنيا تقاد إليك عفواً *** أليس مصير ذاك إلى زوالِ
91 هل يضر البحر أمسى زاخراً *** أن رمى فيه صبيٌ بحجرْ
92 ولو كل كلبٍ عوى ألقمته حجراً *** لأصبح الصخرُ مثقالاً بدينارِ
93 ولم أر كالمعروف أما مذاقه *** فحلوٌ وأمل وجهه فجميلُ
94 وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ *** فهي الشهادةُ لي بأني فاضلُ
95 وتجلُّدي للشامتين أُريهمُ *** أني لريب الدهر لا أتضعضعُ
96 وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارَها *** ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ
97 وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفرصتهِ *** حتى إذا فاتَ أمرٌ عاتب القدرا
98 وفي السماء نجومٌ لا عِدادَ لها *** وليس يكسف إلا الشمس والقمرُ
99 وكأسٌ شرِبتُ على لذةٍ *** وأخرى تداويتُ منها بها
100 وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرهِ *** إذا استوتْ عنده الأنوارُ والظُلَمُ
101 وما المرءُ إلا حيث يجعل نفسهُ *** ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
102 وما طلبُ المعيشةِ بالتمني *** ولكن ألقِ دلوك في الدلاءِ
103 ومن يكن الغرابُ له دليلاً *** يمر به على جيف الكلابِ
104 وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلة *** كما أن عين السخط تبدي اساوي
105 و لا بد من شكوى إلى ذي مروأةٍ ***يواسيك أو يسليك أو يتوجعُ
106 ولكل شيءٍ آفةٌ من جنسهِ *** حتى الحديد سطا عليه المبردُ
107 وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ *** إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ
108 وما الناسُ بالناس الذين عرفتهم *** ولا الدارُ بالدار التي كنتُ أعهدُ(1/207)
109 ومن العجائبِ والعجائبُ جمةٌ *** أن يلهج الأعمى بعيبِ الأعورِ
110 ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى *** عدواً له ما من صداقته بدُّ
111 وكلٌ يميلُ إلى شكلهِ *** كميلِ الخنافسِ للعقربِ
112 وكم مرةٍ أتبعتكم بنصيحتي *** وقد يستفيد البغضةَ المتنصَّحُ
113 و يأبى الذي في القلبِ إلا تبيُّنا *** وكل إناء بالذي فيه ينضحُ
114 لا يسكن المرءُ في أرضٍ يهان بها *** إلا من العجز أو من قلة الحِيَلِ
115 يا ناطح الجبلَ العالي ليَكْلِمَه *** أَشفق على الرأسِ لا تُشْفِق على الجبلِ
116 كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنَها *** فلم يَضِرْها وأوهى قرنَه الوعِلُ
117 يبقى الثناءُ وتذهبُ الأموالُ *** ولكل دهرٍ دولةٌ ورجالُ
118 يريك البشاشة عند اللقا *** ويبريك في السر بري القلمْ
119 يريد المرءُ أن يُعطى مُناه *** ويأبى اللهُ إلا ما يشاءُ
120 يُقضى على المرء في أيام محنتهِ *** حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ
ــــــــــــــــــــ(1/208)
نهاية رمضان
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله وكرمه تزداد الحسنات وتغفر الزلات ، أحمده سبحانه على ما أولى وهدى ، وأشكره على ما وهب وأعطى ، لا إله إلا هو العلي الأعلى ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى ذو الخلق الأسمى ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي النهى والتقى والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد .
فاتقوا الله ربكم واشكروا له ((ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)) (الطلاق:5)
وقف المسلم يتأمل في أحوال المسلمين يتابع الغطرسة الصليبية والهجمة الحاقدة على الإسلام ، ويراقب بقلق الخطوات النفاقية العلمانية والتي تستهدف زعزعة البناء العقدي والأخلاقي في الأمة من خلال الطرح السافل ، والمعالجة المتهورة .
ويرقب الدعوات الآثمة لإفساد المرأة المسلمة من خلال دعوتها للتخلي عن الحجاب وإقحامها في أعمال لا تتناسب مع طبيعتها لا تتوافق مع دينها .
ويتأمل بحزن محاولات تغريب المرأة في مناهجها وتعليمها وإعلامها وسائر شؤون حياتها .
وفي الوقت ذاته يتأمل في مشاهد مبهجة ومواقف رائعة تتمثل في عودة الأمة لربها ، وإقبال الشباب حنبة الاستقامة .
ووعي المرأة المسلمة بالمخاطر من حولها .
ويشاهد بفرح بيوت الله في هذا الشهر المبارك تزداد بالعباد والزهاد والقائمين والعاكفين والركع السجود .
بينما المسلم شارد في تأملاته ، غارق في آهاته كأنه في حراسة فينتقل بين آلامه وآماله إذ حانت التفاتة فرأى ضيف الكريم شهر رمضان المعظم يجمع متاعه ويتأهب للوداع .
فقال لضيفه ، ما الذي أرى ، وما الذي جرى ، وما الذي يا ضيفنا جرى أو هكذا ترجل بعد مقام يسير وزمن قصير .
يا ضيفنا : كنا بالأمس نستقبلك ، وبهذه السرعة نودعك اعلم يا ضيفنا أنك تحمل شعوراً بالعتب ولكن في جنباتك شيئاً من الغضب ، لأن منا من جفاك ، ولم يقدرك حق قدرك لا تلمنا يا ضيفنا المكرم ،فهذا نتاج أزمة نفسية أحدثتها نعال اليهود والنصارى وأذنابهم من المنافقين
يا ضيفنا قد شغلونا عن لذتك وسلبونا العيش في متعتك يوم أن بلونا بهذه المحن وأحدثوا فينا تلك الفتن فكان البال منشغلا وأصبح القلب منذهلا ، فعذراً ثم عذراً
قال الضيف : وهو يتأهل للرحيل يا أيها المسلم ، قد جئتكم أحمل العطايا، وأبشر بالمنح الربانية والمواهب الرحمانية فنالها من نالها وخسرها من خسرها ، واليوم أودعكم وأنا أحمل معي شهادات بالفوز والرضوان موقعة من الرحيم الرحمة على لسانه الصادق الأمين ونصها : (( من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
وفي الوقت ذاته أحمل صكوك الخسارة والحرمان مذيلة بتوقيع الروح الأمين وممهورة بتأمين المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم ونصها : (( من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله قل آمين فقال المصطفى آمين)) .
بلغ أيها المسلم من ورائك إني راحل ، وعائد إليكم بعد عام سيولد فيه أناس ويموت أقوام ويسعد فيه أقوام ويشقى فيه فئام وكم من مؤمل بلوغي حال دونه الأجل .
بلغ أيها المسلم إخوانك أن من بدل عهده مع الله ونقض غزله من بعد قوة وعاد إلى الغي والفتور فإن ذلك علامة الخسران ودليل الرد والحرمان : (( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)) (الحج: 18) .
نعمة سابغة ورحمة واسعة أن تخرج من رمضان مغفوراً لك فحافظ على تلك النعمة ولا تبدلها نقمة بالعودة إلى العصيان بعد خروج رمضان .
عهدتك يا مسلم حياً حييياً في شهر الصيام فخذ على نفسك العهد أن تبقى على عهد الحياة والحياء بعد شهر الصيام ، فعسى أن يكون هذا العهد توبة من الله عليك وتوفيقاً وذخراً لديك فإذا أبرمت ذلك العهد فإياك والنكث : (( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ )) (الفتح: 10) .
واحذر أن تكون بنقض العهد ربع المنافق ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ )) (التوبة: 77) .
يا أيها المسلم إني قريب راحل بعد أن رأيت منكم وفاء وجاء فسلام الله على الموفين بالعهود ، ويا حسرة على أهل النكوص والعقود .
ثم خاطب المسلم إخوانه والدموع مدرارة والعبرات تسبق العبرات وقال : في نبرة حزن وألم .
وفي البكاء على الإخلال والدار واذكر لمن بات مدخل ومدجار
وإذا الدموع نحيبا وابك متأسفا عل فراق ليال ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار
يا لإثمي في البكاء زدني به كلفا واسمع غريب أحاديثي وأخباري
ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري
وفي التراويح للراحات جامعة فيها المصابيح تزهو قبل أزهار
إن هو إلا يوم أو ساعات وتغرب شمس من شموسه الخيرات والبركات ، ويخبو نور من أنوار النفحات الربانية والعطايا الإلهية ، إن تلكم الأيام المعدودات من نفائس أيام المؤمنين ، جرت فيها أحاسيس حية ومشاعر صدقة ، أثمرتها معالي الهمم ومسابقة النفوس الدائبة فلا عجب أن نستهل العبرات وتشتد الحسرات أسفاً على فوات خير عظيم وسعات صافية راضية ما أجمل نهاره المنير بالذكر والتلاوة والمعروف ، وما أطيب لياليه العامرة بالقيام وحداء الصالحين وأنين التائبين .
تذكرت أياماً مضت ولياليا خلت فجرت من ذكرهن دموع
ألا هل لها يوماً من الدهر عون وهل إلى وقت الوصال رجوع
إن للطاعات فيه منافع وأثاراً في النفوس أغنت عن لذات الطعام وزينة الحياة ومكاسب الأموال ، ورب صلاة صادقة أو قراءة خاشعة أعقبت سروراً مضيئاً امتزج بالدم والعصب لا يضاهيه طيب المأكل ولا أفراح الحياة وملاذها ومفاخرها لأنها لا تدوم وإن دامت لم تخل من تنغيص ، وإذا انقضت أورثت غموماً وأحزاناً وشدائد قاسيات .
فالحياة الحقيقية والسعادة الدائمة والعزة الشامخة ، إنما هي في طاعة الله تعالى وعبادته ، عبادة سائقها الإخلاص ، وحكمها التذلل ومنهجها الإتباع ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (النحل:97) .
يامسلمون : إن ضيفنا المعظم قد عزم على الرحيم ، فالعين لفراقه تدمع والقلب يوجل ، وإنا لفراقك لمحزونون .
شهر رمضان: إنه الآن بين أيدينا وملء أسماعنا وأبصارنا وحديث منابرنا وزينة منائرنا وبضاعة أسواقنا ومادة موائدنا وحياة مساجدنا فكيف الحال بعد فراقه .
ياشهرنا الكريم : يا لحسن الفائرين الذين اغتنموك بأكمل وجه من صلاة وصيام وتهجد وقيام وصدقة وإحسان فنظر الله إليهم وهم يبتهلون بالدعاء إليه فغفر لهم .
ويا لخسارة المفرطين الذين لم يعرفوا ذلك الفضل فأمضوا وقتهم بالملهيات واشغلوا أنفسهم بحظوظ الدنيا ومضى عليهم الشهر بهذه الحال .
يا مسلمون : إن ضيفنا قد قرب رحيله فاختموه بخير ختام واستغفروا ربكم من كل خلل وتقصير قال الحسن أكثروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة .
وكان نبيكم يقول (( إن لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ))
يا أيها العصاة ، وكذلك كلنا لا تقنطوا من رحمة الله بسوء أعمالكم وأحسنوا الظن بربكم وتوبوا إليه فإنه لا يهلك على الله هالك .
يا مسلمون : إن المحاسن التي جنتها النفوس المسلمة في رمضان ينبغي أن تكون طريقاً للزيادة والمضاعفة وسلماً للمجد والعلاء وليس التقاعس والانقلاب والنكوص على الأعقاب .
عاهد الله بالمحافظة على الطاعات ، وأنت في نهاية موسم الطاعات فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يعاهد الله على الطاعة في كل ساعة قبيل الليل وأول النهار فيقول في سيد الاستغفار ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك )
أخي : وأنت على عتبات الوداع لشهر الله المعظم وتترقب ساعات ا لرحيل الحزينة فإني مذكرك وناصح لي و لك فاستمع إني عليك من المشفقين ولك من الناصحين
إن الشياطين يتزاحمون عند بوابة الخروج على فك القيود التي سلسلوا بها خلال الشهر المبارك ، فهل تمنحهم أخي فرصة للوصول إلى مآربهم أم تراك تتمسك بهذا الطهر الذي منحك الله إياه ، والأخير بالخيرية أمثالك أخرى وأقرب .
أخي التجأ إلى الله عصر هذا اليوم فلربما تكون هي الساعات الأخيرة وإن فيها لساعة تجاب فيها الدعوات ، فتضرع إلى ربك واسأله لنفسك وأمتك وإن ربي لسميع الدعاء .
أخي : في ليلة العيد أحي شعيرة التكبير تعظيماً لله ولدينه (( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)) (البقرة: 185) .
أخي : زكاة الفطر شعيرة إسلامية وصورة روحانية لكن أصبحت اليوم في عصر التواكل والتوكيل عادة لا معنى لها ولا أثر ، ولذا فإني أوصيك بأن تشتريها بنفسك وتحضرها إلى بيتك وتعرضها أمام أبنائك وأهلك ليتربوا عليها ويستشعروا عبوديتها قبل أن يأتي جيل ينسي معالمها .
أخي : أيام العيد أيام بهجة وسرور ولحظات وفاء وصفاء وانشراح صدور وأوقات صلة وتزاور ، وهي أيام ذكر وطاعة وإذا كانت موسماً للترفيه والتسلية فإن الترفيه لا يعني الانفلات من الحدود الشرعية والتمر على القيم الأخلاقية .
العيد لهو بريء لكن لا يعني اختلاط الرجال بالنساء ولا المجاهرة بالغناء ولا يعني تضييع الصلوات وإتباع الشهوات ، فلنحذر مما يسخط الله ، ولنتجنب ما يغضبه ، وما يتنافى مع الغيرة والرجولة والمروءة وإنما نكمل الفرحة بطاعة الله : ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) (يونس:58) .
نسأله تعالى أن يختم لنا رمضان بالعفو والغفران والنجاة من النيران والفوز بالجنان
وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا (( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)) (الطور: 28)
أقول هذا القول .
الخطبة الثانية
أخي : احرص على صلاة العيد فهي من شعار الدين الظاهرة واخرج إليها بأحسن زينة وأبهى حلة بلا إسراف ولا مبالغة ، فإن المبالغة والسرف فيه خروج عن حد القصد والاعتدال ، وإضاعة وتبذير للمال وإضاعة للضعيف والفقراء ومفاخرة بلا ادب ولا حياء واعلم أن ليس من الزينة التجميل بما حرمه الله من حلق للحى وإطالة للشارب وقص للشعر بما يشبه فعل الكافر ، بل تلك مظاهر انهزامية ودليل تبعية وتشبيه بأعداء الله (( ومن تشبه بقوم فهو منهم )) .
أما بعد والأمة تعيش أيام شهرها الأخيرة وتترقب لحظات نزول الرحمات والعتق والغفران فإنها تنظر بعين العزة والإكبار والإشفاق إلى ما يجري في أرض العراق .
هناك حيث فتحت حامية الصليب وراعية الإرهاب فصلاً جديداً من فصول الحروب الصليبية على الإسلام والمسلمين .
أجل : إنها حرب صليبية ، وإن كان المخدوعون من دعاة تغيير المناهج الذي يطالبون بحذف الحروب الصليبية بدعوى أنها انتهت في وقتها (( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) (النحل: 59) .
إنها حرب صليبية رفع فيها جنود الصليب صلبانهم على فوهات المدافع وعلقوها في صدورهم واستهدفوا بنارهم ودمارهم أهل التوحيد والعقيدة هناك على أرض العراق قد حصحص الحق وانجلت الحقيقة وتبينت معالم الحرية والديمقراطية التي جاءت بها أمريكا لتبشر بها المسلمين وتنذر بها قوماً آخرين .
إنها حرب تقوم على حرق الأرض وهدم المساجد والمستشفيات ، إنها حرية يعبر إليها عبر بوابة الإبادة الجماعية والأسلحة الكيماوية .
إننا لسنا بحاجة إلى تحليلات سياسية أو اعترافات غربية أو توقعات صحفية تبين لنا الهدف من جحافل الصليب فذلك بين لنا ربنا في كتابه (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) (البقرة: 217) .
(( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)) (الممتحنة:2) .
فإلى متى نظل ساذجين مخدوعين تصنع آراءنا ومواقفنا وسائل الإعلام الكاذبة
هناك على أرض المفلوجة وما حولها تصنع لوحة من لوحات المجد والعز وترسم صورة رائعة للمفاخر والأثر .
أبطال الفلوجة القليلو العدد والعُدد يجابهون أقوى قوة طاغوتية على وجه الأرض فتنقل الأخبار من بطولاتهم عجباً على أرض الفلوجة تعانق صوت مدافع الأبطال مع دعوات إخوانهم في كل الأرجاء تنبعث من الحناجر المؤمنة ويتردد صداها في الآفاق لتظهر صوت مرصوص التلاحم والولاء بين المؤمنين .
على أرض الفلوجة تظهر آيات الله وبشائر نصره لأوليائه ، يرسل الأعداء طائرات فيرسل الله رياحا تسقطها(( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) (لأنفال: 17)
ويرسل الأعداء سموماً فينزل الله أمطاراً تمسح آثارها وترفع أخطارها .
على أرض الفلوجة تلتقي القلة المؤمنة الصابرة مع الكثرة الكافرين(( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (البقرة: 249) .
على أرض الفلوجة رجال يأبون الضيم ويرفضون القلم ولا يقبلون الدنية في دينهم .
في أرض الفلوجة تذكرة بوم مؤتة حيث بعث رسول الله × ثلاثة آلاف ليقاتلوا مأئتى ألف فهل ترى في ذلك تهوراً وانتحاراً
على أرض الفلوجة ظهرت آثار دعواتكم ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً)) (الفرقان:77) .
فواصلوا ولا تملوا ولا تستعجلوا فإن وعد الله حق ونصره آت ولو بعد حين
على أرض الفلوجة ظهرت خيانات أهل النفاق وأحقاد المجوس كما ظهرت من وهكذا على أرض الفلوجة ظهرت حقيقة الإرهاب ومعالمه ، وتبين صانعوه من هم ؟ وزارعوه على أرض الفلوجة وما حولها سيردد الأمريكان وحلفاؤهم ((رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)) (المؤمنون:107) .
إلى إخوتنا هناك ، إلى صانعي لوحة المجد والعز إن عز علينا أن نشارككم هذه الشرف فلن نضعف بإذن الله عن التفاعل معكم بدعائنا ومشاعرنا .
يا أسود العراق : (( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)) (محمد: 4) .
((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (لأنفال:67) .
(( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) (آل عمران:139) .
(( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ )) (النساء: 104)
إنه لفرق والله بين رجال يبذلون الدماء ويقدمون الأرواح ويصيدون الأعداء ويحمون الأعراض ويرابطون على الثغور وآخرين يسهرون على الأفلام والمسلسلات ويضيعون الصلاة ويتبعون الشهوات ولكن خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد .
يامجاهدي العراق : إننا إذ نحمد الله ونشكره على ما أولى وقدم وعلى ما تفضل به سبحانه من صور النصر والظاهرة حيث تهاوت طائرات الأعداء ودمرت دباباتهم وحنبد صناديدهم بل صناديقهم على ثرى الفلوجة ، وما حولها وحيث تجلت آيات الله الباهرة في نصر المؤمنين وإغاثة المظلومين ومع هذا فإننا فلا تستعجلوا النصر ولا تشعروا بالعجب والفخر ولا تقترحوا على الإله صورة من صور النصر فالله يحكم ما يشاء ويختار (( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ)) (الرعد: 8) .
يكفيكم نصراً ثباتكم على دينكم وعلى مبادئكم وصمودكم في وجه أهل التخذيل ودعاة الإرجاف وحاملي راية اليأس والقنوط يكفيكم نصراً أن أبرزتم للعالم أن القوة هي قوة الحق لا قوة العدد والعتاد وكشفتم للعالم القناع عن وجه الإرهاب الحقيقي وأعلنتم للعالم أن المسلم لا يذل ولا يزل ولا يمل ولا يكل حتى ينال إحدى الحسنيين .
يكفيكم نصراً أن أرغمتم وجه الصليبيين في التراب وحطمتم أسطورة أن أمريكا قوة لا تغلب ، ولا تواجه ، وبذرتم بذورة السقوط المرتقب بإذن الله لهذه الأمة الظالمة الطاغية .
وإننا ونحن نرقب الساعات الأخيرة لهذا الشهر المبارك ، والمسلمون قد اتصلت قلوبهم بالله وحسن ظنهم وزاد رجاؤهم به ، والمسلمون في المساجد الآن وفي ساعة ترفع فيها الدعوات وتسبق العبرات العبارات وتضم الحناجر بالابتهالات تتوجه إلى من له الخلق والأمر وبيده النفع والضر ومنه الهزيمة والنصر ونردد في ثقة ويقين .
يا ناصر المستضعفين ويا راحم البائسين ويا ملجأ المكروبين إنك ترى حال إخواننا في العراق وفلسطين وفي بلاد أخرى وتسمع بكائهم وأنينهم وأنت الأعلم بحالهم والأقدر على نصرتهم عز جارك وجل ثناؤك لا تضعف قوتك ولا يهزم جندك ولا يرد حكمك .
نسألك من قلب خاضع منكسر أن تجعل لإخواننا من كل هم فرجاً
ــــــــــــــــــــ(1/209)
رحيل رمضان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين .
أما بعد:
هاهو النصف الأول من رمضان رحل أو أوشك على الرحيل، وثمة حديث يخالج النفس في ثنايا هذا الوداع، تُرى ماذا حفظ لنا؟ وماذا حفظ علينا؟
إن ثمة تساؤلات عريضة تبعثها النفس في غمار هذا الوداع.
أول هذه التساؤلات كم تبلغ مساحة هذا الدين من اهتماماتنا؟ هل نعيش له؟ أم نعيش لأنفسنا وذواتنا ؟ كم نجهد من أجله؟ كم يبلغ من مساحة همومنا؟ إن العيش في حد ذاته يشترك فيه الإنسان مع غيره من المخلوقات، ولا ينشأ الفرق إلا عندما تسمو الهمم، وتكبر الأهداف.
وعلى أعتاب العشر الثانية آمل ألا يكون نصيبي ونصيبك قول الله عز وجل: ((رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ)) (التوبة:87).
فالسابقون مضوا، والسير حفظت لنا قول بكر بن عبد الله المزني: "من سره ينظر إلى أعلم رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا أعلم منه، ومن سره أن ينظر إلى أورع رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ابن سيرين إنه ليدع بعض الحلال تأثماً، ومن سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه فلينظر إلى ثابت البناني فما أدركنا أعبد منه، ومن سره أن ينظر إلى أحفظ رجل أدركناه في زمانه وأجدر أن يؤدي الحديث كما سمع فلينظر إلى قتادة.
وليت شعري أن نكون وإياك أحد هؤلاء.
سؤال آخر يتردد: حرارة الفرحة التي عشناها في مقدم رمضان تسائلنا: هل لا زالت قلوبنا تجل الشهر؟ وتدرك ربيع أيامه، أم أن عواطفنا عادت كأول وهلة باردة في زمن الخيرات، ضعيفة في أوقات الطاعات؟
ورحم الله سلفنا الصالح فلكأنما تقص سيرهم علينا عالماً من الخيال حينما تقول: قال الأوزاعي: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كانت لأحد من التابعين، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة، عشرين منها لم ينظر إلى أفقية الناس.
وكانت امرأة مسروق تقول: والله ماكان مسروق يصبح ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام، وكنت أجلس خلفه فأبكي رحمة له إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير من الضعف.
قال أبو مسلم: لو رأيت الجنة عياناً أو النار عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو قيل لي إن جهنم تسعّر ما استطعت أن أزيد في عملي. وكان يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلّفوا بعدهم رجالاً.
وفي ظل هذه الأخبار تُرى كم من صلاة في الجماعة ضاعت؟ وكم نافلة في صراع الأعمال تاهت؟ تُرى كم من لحوم إخواننا هتكناها بأنيابنا؟ تُرى كم هي الخيانة التي عاثتها أعيننا في رحاب المحرمات.
كم خطت أقدامنا من خطو آثم؟ كم، وكم، من عالم الحرمات هتّكت فيه الأسوار بيننا وبين الخالق؟ والمعصية أياً كانت، حتى لو عاقرناها في ليالي رمضان فلا تبقى خندقاً تحاصركم، وهي كما قال بعض العلماء: أي خلال المعصية لا تزهدك فيها: الوقت الذي تقطعه من نفيس عمرك حين تواقعها، وليس يضيع سدى، بل يصبح شؤماً عليك؟ أم الأخدود الذي تحفره في قلبك وعقلك ثم تحشوه برذائل الاعتياد والإلف السيء والإدمان الخبيث، والذكريات الغابرة التي يحليها لك الشيطان ليدعوك إلى مثلها، ويشوقك إليها؟ أم استثقال الطاعة والعبادة والملل منها وفقد لذتها وغبطتها، أم إعراض الله عنك وتخليته بينك وبين نفسك حتى وقعت فيما وقعت، أم الوسم الذي تميزك به حين جعلتك في عداد الأشرار والفجار والعصاة، أم الخوف من تحول قلبك عن الإسلام حين تجد حشرجة الموت وكرباته وغصصه، فيا ويلك إن مت على غير ملة الإسلام!.
سؤال ثالث: يتردد معاشر الدعاة والمصلحين والمربين، عُدّوا لي بارك الله فيكم في شهر رمضان فقط: ماذا قدمتم لمجتمعاتكم من خير؟ دينكم الذي تتعبدون به هل نجحتم في طريقة عرضه ؟ فالبائع ينجح بقدر ما يحسن في طريقة العرض، وأنتم أولى هؤلاء بحسن الطريقة، ونوعية التقديم . مجتمعاتكم بكل من فيها ماذا قدمتم لها ؟ مسجد الحي، وجيران البيت، وأقارب الأسرة، وميدان المدرسة أولى الناس بمعروفك فأين هم من مساحة اهتماماتك ؟ أسئلة تتردد على الشفاه ، أوليس رمضان فرصة سانحة للإجابة عنها؟ أملي أن يكون ذلك. وكل ما أرجوه أن لا تخرج نفسك أخي الفاضل من قطار الدعاة والمصلحين والمربين أياً كنت، وفي ظل أي ظروف تعيش، فالمسؤولية فردية.
وعندما نحسن فن التهرب من المسؤولية نكون أحوج ما نكون إلى من يأخذ بأيدينا، ويحاول إخراجنا من التيه الكبير.
يقول أبا إسحاق الفزاري: ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، وأما الثوري فكان رجل خاصة، ولو خيّرت لهذه الأمة لا خترت لها الأوزاعي.
سؤال رابع يتردد: هل مازلنا نمارس نوعاً من الجهالة في معاملة ربنا؟ إن خلوات الليل أياً كانت في نظرك إنا هي في منظورها الصحيح هتك للستر الذي بينك وبين الله تعالى، ونسيان لمعاني الربوبية التي اتصف بها ربك، ومكابرة من مخلوق ضعيف لا يملك شيئاً أمام جبروت الرب، وسلطان الخالق، وقهر الواحد الأحد.
هذه هي النظرة الصحيحة لها، ومن يسلي نفسه بغير هذا فليصحح النظرة، وليفكّر في عظمة من عصى، أشار إلى ذلك ابن القيّم في كتابه الداء والدواء فقال: "فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به؛ فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدّس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته.
وقال في موضع آخر: وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهمّ عنده من طاعته؛ فلله الفضلة في قلبه وعمله، وسواه المقدّم في ذلك؛ لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظّم نظر المخلوق إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحي من الناس ولا يستحي من الله تعالى، ويخشى الناس ولا يخشى الله تعالى، يُعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره " فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟! وإلا ستكون النتائج وخيمة وسيئة، وفرص التوبة لا تتكرر، وقد يحول الله تعالى بينك وبين التوبة جزاء التسويف والتأخير، وما يدريك فمن جعلته أصغر الناظرين إليك قد يرصد لك في وقت غفلة، ويرديك في وقت جذوة، والمعصية لا تأتي إلا إذا اجتمع جهل وكبر وعناد، وهذه لو تأمل العاصي واحدة منها لوجد أنها أهلكت أمما غابرة، وجنوداً غفيرة، فالله الله في زمن المهلة، فلا شهر أعظم من هذا! ولا وقت أنفس من هذا الوقت! والهالك لن يهلك إلا عن بينه، وحينئذ لا تأسف عليه.
سؤال خامس يتردد: القلوب المتنافرة أما آن لها أن تتصافح؟ هل لازالت معاندة للفطرة السوية، هل لازال الكبر يوقد ضرامها؟ ويشعل فتيلها؟ أما نجح رمضان في أن يعيد البسمة لشفاه طال انغلاقها؟ إن هذه القلوب يُخشى عليها إن لم تفلح المواعظ في ليها للحق، فإن لفح جهنم هو القادر على أن يكسر مكابرتها، ويلوي عناقها، ويرغم أنف باطلها.
لهؤلاء أن يسمعوا هذه النصوص وأن يضعوا أنفسهم في الترتيب اللائق بها عند ذلك: فهذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم سئل من أفضل الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ((كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
لقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً قبل موته فقال: ((ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فليستقد، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد)).
ورحم الله أبا دجانة، رئي وجهه يتهلل عند موته فسئل عن ذلك فقال: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، كتب رسالة في سجن القلعة بعد أن كثُر الحديث عمن كان السبب في سجنه فقال: فتعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا باطناً ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم ولا لوم أصلاً، بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً أو مخطئاً أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين. فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان قصّر، فلان ما عمل، فلان أُذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية.. فإني لا أسامح من آذاهم في هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علىّ أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم.. والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي.." اهـ رحمه الله.
وكانت النتائج أن قال ابن مخلوف وهو من أشد الناس عداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية، بل إنه أفتى بقتله، كان يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا.
ألا فما أحرى القلوب القاسية بفهم هذه الرسالة وإن لم تنتفع فيها ففي وعيد النبي المبلغ عن ربه خير واعظ حين قال: ((هجر المسلم كسفك دمه))، وحين قال: ((تُعرض الأعمال على الله كل إثنين وخميس إلا المتخاصمين فيقول الله: أنظروا هذين حتى يصطلحا)).
وإن لم يُفلح رمضان في إزالة صلابة هذه القلوب فوعيد الله تعالى غير بعيد حين قال تعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ *أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) (محمد:22، 23).
وقوم ولجت بيوتهم اللعنة أين يجدون طعم الراحة؟ وأين يتلذذون بطيب الرقاد؟
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
فإن رمضان شهر البر والصلة والصدقة، والأنفس الأبية هل التي تعطف على الفقراء، وتبذل لهم شيئاً من المعروف، فإن من معاني الصيام تذكر حالة البائسين والمعوزين والعطف عليهم ومواساتهم بالمال والإحسان، إن القلوب التي لا يشعرها رمضان بحال إخوانها الفقراء قلوب يصدق فيها وصف المنفلوطي حين قال في كتابه النظرات: فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافاً، أما الأول يعني الشحيح فلو كان جاراً لبيت فاطمة رضي الله عنها وسمع في جوف الليل أنينها، وأنين ولديها من الجوع ما مد أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه المتحجّر لا تنفذه أشعة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان.
يقول رحمه الله: ( لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ماشكى واحد منهما سُقماً ولا ألماً، لقد كان جديراً به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويطفئ غلته، ولكنه كان محباً لنفسه مغالياً بها فضم إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير فعاقبه الله على قسوته بالبطنة..إلى إن قال رحمه الله تعالى: لا أستطيع أن أتصوّر أن الإنسان إنسان حتى أراه محسناً، لأني لا أعتمد فصلاً صحيحاً بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة:
رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهذا هو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يُحسن إلى نفسه ولا يُحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعاً".
إن المحسن منكم أيها المسلمون من يسعى في رمضان وغير رمضان لرحمة يتيم يترقرق الدمع في عينيه أن لا يجد من يواسيه فقد أبيه! أو لرحمة أسرة فقدت معيلها، وضاعت خيراتها، أو رحمة كسير ومريض أقعده المرض وأجبره على نزف دموع الفقر والحاجة، أو رحمة أخ غريب بينكم، نأت به الديار عن أهله وذويه، ولئن بت آمناً في بيتك، معافى في بدنك، بين أهلك وأسرتك، فإنما يعيش هو وحيداً بلا أنيس، وفقيراً بلا معين، يتابع الإعلام فيرى صورة يهودي يهدّم بيته، ومأوى أسرته، أو يسمع صوت قنبلة أطاحت ببعض أهله أشلاء مفرقة.
فإن لم نكن هؤلاء فما أجدر وصف المنفلوطي بنا.
وأخيراً : رحل النصف الأول ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل، وما بقي أكثر مما فات، فلنري الله من أنفسنا خيراً، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون، وأن تستمر دواعي الكسل، فلقيا الشهر غير مؤكدة ، ورحيل الإنسان مُنتظر، والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة.
رحل النصف الأول وبين صفوفكم الصائم العابد، الباذل، المنفق، الجواد، نقي السريرة، طيب المعشر فهنيئاً له رحلة العشر بخيرات كهذه، ورحل النصف الأول وبين صفوفكم صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عامل فأكلت ماله، أو حفنة ربا فاجتالتها دون نظر إلى عاقبة أو تأمل في آخرة.
رحلت وبين صفوفكم من فاتته صلوات وجماعات، وقد آثر النوم والراحة على كسب الطاعة والعبادة، رحل النصف الأول وبين صفوفكم بخيل شحيح، أسود السريرة، سيء المعشر، دخيل النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعاً في عشرهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال البقية، وجعلهم في ما يستقبلون خيراً مما ودعوا. والله المسؤول أن يصلح نياتنا، وأن يغفر لنا.
ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قول الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً)) (الأحزاب:56) .
يقول ربنا سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (الصف:101112).
عباد الله ، في شهر الصيام وقعت الغزوة الكبرى التي انتصر فيها الإسلام، والتي سميت في القرآن بيوم الفرقان، والتي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حضرها، ((لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) .
في السنة الثانية من الهجرة فرض صيام شهر رمضان، وفي أول رمضان يصام في الإسلام وقعت غزوة بدر الكبرى في يوم الجمعة السابع عشر منه. فقد شاء الله تعالى أن تقع هذه الغزوة في شهر الصبر الذي يطلب فيه من أهل الإيمان أن يغتنموه بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والذكر والصدقة والإحسان، وهكذا أضاف ذاك الجيل المبارك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل ذلك، جهادا بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله وقمع عصابة الشرك والطغيان.
لقد علّمهم النبي عليه الصلاة والسلام أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، وعلمهم أنه بالصبر يظهر الفرق بين أصحاب العزائم والهمم وأهل الجبن والضعف، وعلمهم أن العبادة لا تؤدي كما أمر الله إلا بالصبر، وأن المعاصي لا تجتنب إلا بالصبر، وأن على المؤمن أن يصبر على ما قدره الله وقضاه فلا يتسخط ولا يضجر عند نزول البلاء، وتلا عليهم قول الله تعالى: ((وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ)) (النحل:126).
وقوله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (آل عمران:200) .
أي اصبروا على الطاعة ولازموها واصبروا عن الشهوات وامتنعوا عنها ورابطوا إما في الثغور في مواجهة العدو أو انتظار الصلاة في المساجد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط)).
وبالصبر يتحقق النصر بإذن الله، فهاهم أهل بدر عندما وقفوا في وجه أعداء الله خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين)) .
لقد رأى أهل بدر أن عدوهم يبلغ ثلاثة أضعاف عددهم وتتوفر معه مؤونة وسلاح وأنه جاء مستعدا متهيئا للقتال، بينما هم على العكس من ذلك، لقد كان الموقف حرجا جدا، فقريش في عز قوتها، والمسلمون في ضعف مادي شديد، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة بدر: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) .
فلو انهزم المسلمون في بدر لما قامت للإسلام قائمة، ولذلك بشر النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر بنزول ثلاثة آلاف من الملائكة، وأنهم إن صبروا على شدة الحرب وثبتوا في المعركة فإن الله تعالى يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة ، قال تعالى: (( بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ)) (آل عمران:125) .
روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب)) .
وقال في رواية أخرى: ((جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم، قال: من أفضل المسلمين أو كلمة بدرا من الملائكة)).
والنبي صلى الله عليه وسلم قاد المسلمين في غزوة بدر وشارك في القتال، عن علي قال: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا من العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا) فكان يجاهد بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى ويقاتل ببدنه جمعا بين المقامين الشريفين.
وحقق الله تعالى لعباده المؤمنين الصابرين النصر على عدوهم رغم قلة عددهم وعددهم قال تعالى: ((وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ )) (آل عمران:123) .
بسبب قلتهم ولكن الله تعالى نصرهم لصبرهم وثباتهم والله تعالى ينصر المؤمنين الصابرين الصادقين.
عباد الله : بين الله تعالى في كتابه الحكيم أن الجهاد في سبيله هو التجارة التي تنجي من عذاب أليم، قال العلماء نزل قوله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) (الصف:10) .
في عثمان بن مظعون وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أذنت لي فطلقت خولة وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ولا أنام بليل أبدا ولا أفطر بنهار أبدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
فقال عثمان فمن والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها فنزلت الآية.
فبالجهاد في سبيل الله ينجو المؤمن من عذاب الله وبالجهاد في سبيل الله انتصر المسلمون على أعداء الله وعندما ترك المسلمون الجهاد ضاعت الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام، وهاهي اليوم فلسطين تضيع بسبب ترك الجهاد في سبيل الله والمسجد الأقصى وفلسطين لن يعودا إلى المسلمين إلا بالجهاد في سبيل الله ، وغزوة بدر ستبقى درسا للمسلمين يتعلمون منها أن الله تعالى يؤيد المؤمنين الصابرين، ويمدهم بمدده الذي لا ينفد، فهو سبحانه وتعالى القائل: (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) (الروم:47).
ــــــــــــــــــــ(1/210)
وكان أجود ما يكون في رمضان
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن ، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة)) [1]
هذا الحديث له دلالاته الكثيرة ، وأحب قبل الانتقال إلى هذا الموضوع أن أقف وقفات :
إحداها : أن ابن عباس قدم لهذا الحديث بقوله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس " ، وهذا على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها ، مما قد يظنَّ أن جوده خاص في رمضان ونحو ذلك .
وقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس)) [2].
الثانية : الجود هو الكرم ، وهو في الشرع أعم من الصدقة ، ولذا عرّفه بعضهم بأنه : ( إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ) لكن من أعظم مظاهره : بذل المال ، وإلا فالشهيد يجود بنفسه في سبيل الله تعالى ، وفاعل الخير يجود بنفسه في خدمة إخوانه ، والعالم يجود بوقته وعلمه في سبيل نشر العلم ..وكهذا .
الثالثة : تشبيه جود الرسول صلى الله عليه وسم بالريح المرسلة ، بل هو أجود بالخير منها : فيه دلالة على أمرين عظيمين :
* السرعة ؛ كالريح ، فهو سريع في بذل جوده ببذل بدون تلكؤ أو توانٍ * وصف الريح بالمرسلة إشارة إلى أنها ريح خير تهبّ بالرحمة ، وإشارة أيضاً إلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع من تهبّ عليه من البلاد .
والآن ننتقل إلى الحديث عن الموضوع فنقول : إن جود الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم ، واقتداءنا به عليه الصلاة والسلام في ذلك ، إنّما جاء ضمن دلالات خاصة يختص به هذا الشهر المبارك ، أهمها :
* جود الله وعظيم فضله على عباده في رمضان .
* مدارسة القرآن وأثرها على النفس وغناها .
* مجالسة الصالحين وأثرها في استقامة السلوك وعلو الهمّة ، ومن ذلك : أن يبذل الإنسان ما له فيما ينفعه .
* فضل الصدقة عموماً ، فكيف إذا كانت في رمضان .
ما هي أهم مظاهر الجود ؟
أولاً : جود الله وعظيم فضله على عباده في رمضان :
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) [3] .
فإذا كان جود الله تعالى عباده تميز هذا التميز بالنسبة للصائمين ولا شك أن رمضان أفضل الصيام ؛ لأنه فريضة ، وأحب الأعمال إلى الله ما افترضه على عباده فكيف لا يجود العباد على إخوانهم في هذا الشهر الكريم من هذا المال الذي هو أولاً هبة وعطيّة من الله تعالى ، لا كما قال الكافر قارون : (( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)) (القصص : 78) .
ثم إنه ثانيا لا شك زائل ؛ لأنه إما أن يزول عنك ، أ, تزول عنه بالموت حين يتبعك مالك مع أهلك وعملك فيرجع اثنان المال والأهل ، وتبقى حبيس عملك فقط .
فرسول الله صلى الله كان أجود ما يكون في رمضان ؛ لما يرى من جود الله تبارك وتعالى .
ثانياً: مدارسة القرآن وأثرها : في هذا الحديث : (( وكان يلقاه أي جبريل في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن)) [4] .
هذه المدارسة تجدد له العهد بمزيد عنى النفس ، وهي ليست للحفظ فقط ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحفظ القرآن، فالمدارسة لأمور كثيرة منها :
* أن رمضان شهر القرآن .
* أهمية المدارسة بخشوع وتدبر وأثر ذلك في عظم العلم والفهم لكتاب الله تعالى .
* أثر القرآن على النفس وغناها ، ومن ثم جودها .
ومظاهر أثر القرآن في النفس كثيرة جداً - لا يمكن إحصاؤها - والله يقول : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )) (يونس : 57، 58 ) .
وأحب أن أقف وقفات قصيرة متعلقة بالاقتصاد والمال وتقويم الأشياء في القرآن :
الوقفة الأولى
علَّمنا الله في كتابه الحلال والحرام وأثرهما في الحياة فقال جل شأنه : (( يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) (البقرة: 276) وهذا يدلُّ على أمرين :
* أن جمع المال بطريق الربا والحرام مهما كثر هو عند الله ممحوق البركة ، وحين يمحق وتمحق بركته يتحول إلى وبال على صاحبه .
* أن الصدقات يربيها وينميها تعالى لعباده حتى تضاعف أضعافاً كثيرة
فـ ((اللقمة يربيها الله تعالى بيده حتى تصير مثل جبل أحد )) [5].
وهكذا :
* فالربا في المنهج الاقتصادي الإسلامي يساوي : لا شيء .
* والصدقة في المنهج الاقتصادي الإسلامي تساوي : مضاعفة إلا ما لا نهاية .
الوقفة الثانية
حين تقوم الموجودات التي يملكها الإنسان في الدنيا ، يأتي في المنهج القرآن بيان أن هناك شيئاً واحداً ، إذا ملكه الإنسان يتحول إلى أغنى غنيّ في العالم ، وليس أحد أغنى منه إلا من ملك مثل ما ملك .وهذا الشيء لا يقدر بثمن .
قال الله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة: 36) .
وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ )) ( آل عمران : 91) .
فهذا الشيء هو : الإيمان الصادق . فمن كان معه الإيمان كمن ملك أكثر من ملء الأرض ذهباً ، كما يدل عليه مفهوم هذه الآيات .
الوقفة الثالثة : مجالسة الصالحين
كان صلى الله عليه وسلم يجالس جبريل عليه السلام وهو يدل على عظم وأهمية الجليس خاصة بالنسبة للأغنياء.
* فالغني الذي يجالس أهل الدنيا ، لا يجد إلا المفاخرة بكثرة الأموال ، فيتأثر بذلك ويزداد طمعاً ويصبح همه مجاراة من فوقه من الأغنياء .
* من يجالس أهل الخير ، يذكروه بالله والدار الآخرة ويدلوه إلى الطريق الصحيح والنهج السديد في هذه الأموال ، ويقربوه إلى ربه وما أعده من النعيم لعباده المحسنين .
الوقفة الرابعة : فضل الصدقة ، وكيف إذا كانت في رمضان ؟
الآيات في القرآن كثيرة جداً بينت فضل الإحسان والصدقات عموماً ، وأما من السنة :
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ياعائشة استتري من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسدّ من الجائع مسدها من الشبعان)) [6] .
وفي رواية لمسلم : (( من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل)) .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله يقول : (( كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس . قال يزيد : فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلا وتصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة)) .[7]
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السر تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر )) [8].
هذه (سعدي) زوجة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما دخل عليها زوجها طلحة فرأت منه ثقلاً فقالت له : مالك ؟ لعلك رابك منا شيء فنعتبك أي نطلب رضاك - قال : لا ، ولنعم حليلةُ المرء المسلم أنتِ ، ولكن اجتمع عندي مال ، ولا أدري كيف أصنع به ؟ قالت : وما يغمّك منه ، ادع قومك فاقسمه بينهم ، فقال : يا غلام ! عليّ بقومي ، فسألت الخازن كم قسم ؟ قال : أربعمائة ألف )) [9].
الوقفة الخامسة : ما هي أعظم مظاهر الجود
كثير من الناس حصر جوده في رمضان فيما يسمى بعشى الوالدين وجعله في يوم الخميس فقط ، وهذا مع أنه أراد الخير ، إلا أنه قصر من عدة أمور :
* أنه حرم نفسه وتصدق عن والديه ، وفضل الله واسع فهذا مثل من يضحي عن أمواته ويترك نفسه
* أنه خصّ ذلك في يوم معين ، فتحول إلى عادة مستمرة لسنوات ، ويخشى أن يتحول إلى بدعة .
* أنه قصر القضية في صناعة الطعام ، قد يؤكل وقد لا يؤكل ، خاصة أن بعض الناس يصنع الطعام ، ثم يبحث عمن يأكله ، ولما كان الخير يعم في هذا الشهر ، فقد يضطر إلى رميه والتخلص منه .
لهذا ، فأحب أن أذكر نفسي وإخواني بأن مظاهر الجود عديدة :
* فهناك المحتاجون من الفقراء في الداخل ، وهناك فقراء كثيرون في الخارج ، ولا شك أن الأقربين والقريبين أولى ، ولكن في الخارج من هو أشدّ حاجة .
* وهناك مشاريع الإفطار أيضاً في الداخل والخارج وهي والحمد لله كثيرة .
* وهناك جمعيات ومدارس إسلامية منتشرة : وهي تشكو بخل إخوانهم المسلمين ، في مقابل نشاط تنصيري مدعوم .
* والمجاهدون في سبيل الله في البوسنة وفي كشمير وغيرهما من بلاد الإسلام بحاجة إلى دعم وتأييد .
* وهناك مراكز تحفيظ القرآن الخيرية ، وهي كثيرة جداً .
ولعل من ذلك : الاستكثار من الطعام وقت الإفطار بحيث يمتلئ الجوف من ذلك ، فلا يستفيد من صيامه في قهر عدو الله الشيطان وكسر الشهوة.
لأن الصائم تدارك عند فطره ما فاته ضحوة نهاره ، وربما زاد على ذلك في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان ، فيؤكل منها فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر .
ومعلوم أن مقصود الصوم كما يقول الغزالي الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على النفس ، فإذا دفعت المعدة ومنعت من أول النهار إلى آخره حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت ، زادت لذتها وتضاعفت قوتها ، وانبعثت من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها .
فروح الصوم وسرّه تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور ولن يحصل ذلك إلا بالقليل . وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم .
فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً لم ينتبع بصومه .
ومن ذلك : أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحسّ بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى ، فيصفو عند ذلك قلبه ، والناس في هذه الأيام خالفوا في هذين .
* نوم طويل بالنهار ، فلا يحسّون بصوم .
* وأكل كثير من ألوان الطعام في الليل فلا يستشعرون الصيام فتهيج شهواتهم وشياطينهم
________________________________________
[1] رواه البخاري (6) وفي غير موضع .
[2] رواه البخاري (1033) ، ومسلم (2307) .
[3] رواه البخاري (6) وفي غير موضع ، والنسائي (4/125) .
[4] سبق تخريجه .
[5] رواه البخاري (1410) وفي غير موضع ، ومسلم (1014) .
[6] انظر : صحيح الترغيب (559) ، والحديث رواه أحمد بإسناد حسن .
[7] انظر : صحيح الترغيب (866) ، والحديث رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم .
[8] انظر : صحيح الترغيب (880) ، والحديث رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن .
[9] انظر : صحيح الترغيب (916) .
ــــــــــــــــــــ(1/211)
وأن تصوموا خيراً لكم
قبسات من كتاب الله
القبس التاسع : ((وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة:184).
قد ورد هذا القبس من كتاب الله تعالى في آيات الصوم، وقد كان الصوم في أوّل الأمر ليس واجباً، فمن شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه، ثم نزلت الآية التي بعد هذه الآية فنسختها، واستقرّ الأمر على الوجوب إلا أصحاب الأعذار فقد بيّن الشارع حكمهم.. لكنّ الخيرية باقية على كلّ حال للقادر على الصيام فرضاً ونفلاً، وهي شاملة لخيري الدنيا والآخرة، وإن كان المسلم في الأصل إنّما يصوم امتثالاً لأمر الله، ورغبة فيما عنده في الآخرة، لكنّ ذلك لا يمنع من طلب الفوائد الدنيوية في الصيام، وهي فوائد متنوّعة؛ صحيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، ونفسية..
فأمّا الصحيّة، فهي كثيرة جدّاً، وطلباً للاختصار أوجزها فيما يلي:
* تقوية جهاز المناعة ، وتحسين المؤشّر الوظيفي للخلايا الليمفاوية عشرة أضعاف.
* وقاية الجسم من تكوّن حصيّات الكلى، إذ يرفع معدّل الصوديوم في الدم، فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم.
* ترميم الأسنان والحفاظ عليها وذلك عند امتناع الصائم عن تناول الطعام من طلوع الفجر إلى غياب الشمس.
* ثبت طبياً في دراسة علمية حديثة أنّ حوالي 80 في المئة من آلام الروماتيزم والمفاصل تزول بانتهاء شهر رمضان، حيث إنّ الامتناع عن الأكل والشرب في نهار رمضان يخفف من تراكم الأملاح والدهون في الجسم، مما يساعد في الشفاء من الأمراض الروماتيزمية.
* المساعدة على رفع معدّل الكلسترول الجيد " عالي الكثافة " الذي يقي القلب والجهاز الدوري من النوبات القلبية، والذبحة الصدرية، والجلطات.
* زيادة استرجاع الخلايا التالفة والتي انتهى عمرها الافتراضي، وسرعة إصلاح الأنسجة خاصة بعد الجروح.
* المساعدة على تحسين مقاومة الخلايا للأنسولين بالنسبة لمرضى الداء السكري " النوع الثاني " الذين لا يعتمدون على الأنسولين في علاجهم.
* وقاية الجسم من أخطار السموم المتراكمة في خلاياه، وبين أنسجته من جرّاء تناول الأطعمة وخصوصاً المحفوظة والمصنعة، وتناول الأدوية، واستنشاق الهواء الملوّث بهذه السموم.
* المحافظة على الشباب، وتأخير الشيخوخة، وقد أجريت دراسة في جامعة نبراسكا الأمريكية على مجموعة من حيوانات التجارب، حيث تم تقليل طعامها بنسبة الثلث، وتقليل كم السعرات الحراريّة بنسبة 40 في المئة يومياً، فجاءت النتائج مذهلة، حيث زاد المعدّل العمري لهذه الحيوانات 50 في المئة، وتأخّرت علامات الشيخوخة بدرجة كبيرة، وقلّت نسبة الأمراض..
هذه بعض الفوائد الصحيّة للصيام، وهي غيض من فيض.
أمّا الفوائد الاجتماعية؛ فأهمها قلة نسبة الجرائم في حال الصيام، وذلك أنّ الصيام يكبح جماع النفوس الشريرة، فتكفّ عن الشرّ، هذا مع ما أخبر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من تصفيد مردة الجنّ في رمضان.
* وأمّا الفوائد الاقتصادية فمن أهمها توفير كميات من الأموال التي تصرف في شراء الأطعمة المتنوعة ونحوها.
* وأمّا الفوائد النفسيّة ، فمنها: تهدئة ثورة الغريزة الجنسيّة، وخصوصاً عند الشباب، وذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية. كما أنّ المخّ أثناء الصيام يفرز مادة " الأندرفين " التي تعمل على تسكين الأعصاب وهدوئها..
هذه بعض فوائد الصيام الدنيويّة، وهي لا تتحققّ إلا في حال الصيام الصحيح، خلافاً لما عليه كثير من الناس اليوم من الكسل، وكثرة النوم، والتوسع في شراء الأطعمة في رمضان، والانهماك في الأكل بعد الإفطار، والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، فإنّ هذا ينافي الحكمة من الصيام، ولا يحقّق شيئاً من هذه الفوائد.
وصدق الله جلّ في علاه: (( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة:184).
ــــــــــــــــــــ(1/212)
من أسرار شهر الصيام
إخوة الإسلام: وكم هو عظيم شهر الصيام وكم فيه من حكم وإسرار يدرك كل صائم منها بحسب علمه وإيمانه وتعبده لمولاه، ويكفيه أنه باب مشرع لكل طرق الخير، من صيام وصلاة وزكاة وصدقة وذكر ودعاء وتلاوة وجود وإحسان وصبر ويقين واحتساب للأجر العظيم ويكفيه أنه طريق للتقوى، والتقوى جماع الخير وسبيل الفلاح والنجاح.
(( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً )) ( الطلاق :23) .
(( إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )) ( يوسف:90).
كم يكسر باعث الشهوة للنفوس عن السمو، وشهر الصيام يحطم كبرياء النفس بكسر باعث الشهوة في قلب المعاصي وهذا كما قال القرطبي رحمه الله وجه مجازي حسن في تأويل معنى قوله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) ( البقرة:183) .
وقيل: لتتقوا المعاصي بالصيام ، وقيل: وهو على العموم لأن الصيام كما ورد جنة ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات [1][1].
أجل إن الصيام جنة يتقى بها الصائم عن المآثم والسيئات والمهلكات المؤدية إلى النار كما يتقى المحارب بجنة حين القتال فيمنعه القتل ويسلمه من العدو بإذن الله.
يجسد هذا المعنى رسول الله صلى الله في اكثر من حديث ويقول: ((الصيام جنة إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم -مرتين[2][2])).
وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: ((الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)).
وفى الحديث الثالث: ((الصيام جنة، وهو حصن من حصون المؤمن)) .
إخوة الإسلام: وفى شهر الصيام فرصة للتخفيف من أثقال الأوزار، فيه تطهير للنفوس من الأدران وحماية القلوب من الأدران، وهذه وتلك قد لا يحس بواطأتها إلا من أثقلت نفوسهم المعاصي، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلما حل شهر رمضان وصاموا مع تفريطهم وأحسوا بانشراح صدورهم وخفة أرواحهم وانفراج في كربتهم وأنس بدل وحشتهم، وذلك بفعل الصيام، وكذلك تتنزل الرحمات في رمضان وغير رمضان.
فبشراكم معاشر المسلمين بشهر الصيام يرتفع فيه المؤمنون درجات وتحط به الأوزار عن أهل السيئات.
ولا يزال الصيام بالمسلم يحوطه ويؤنسه حتى يكون شافعا له لدخول الجنة والنجاة من النار يوم القيامة، وكذلك يفعل القرآن يقول النبي : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ويقول الصيام: أى رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه فيشفعان)) .
أيها المسلمون: ويدرك من فقه سر الصيام كم لرمضان من أثر على تريبة النفس وعبودية الجوارح بقية العام، ذلكم لأن شهر رمضان يدرب النفس على كثير من خلال الخير فتحيا المراقبة لله ويشيع الصدق في النفوس لصدقها مع الله في الصيام واجتناب الآثام وتتطبع النفوس بالكرم والجود وهوى الإحسان إلى المحتاجين والبر بالأقربين وتتهذب الأخلاق، فلا تسمع الآذان الحرام، ولا تنطق الألسنة بالفحش والسب ورديء الكلام، وتربى الأعين على عدم استدامة النظر في الحرام.
ذلك كله يهدي العارفين والمدركين لأسباب الصوم أن بإمكان المرء أن يغير من واقعه، وإن الفساد والحرام ليسا ضربة لازب له وتتحطم أسطورة الشيطان التى يوسوس بها النفوس حين يوحى لأوليائه بنقل الطاعات وصعوبة ممارسة الخيرات وعدم القدرة من الانفكاك من أسر الشهوات وكذلك ينبغي أن يستثمر العاقل هذه التوبة إلى الله وأن يسارع بتغيير واقعه إلى الأحسن بعد رمضان.
ما أحوج الأمة إلى شهر الصيام يأتي ليحسسها بقيمة الوقت وأهمية ملئه بالطاعات .. والصائم الفطن يقضي سحابة يومه في الذكر والتلاوة والصلاة والتحسر على الوقت الذي يضيع دونما فائدة وكذلك ينبغي أن يكون المسلم حريصا على وقته في رمضان وبعد
رمضان وأن يتخذ من حفظ وقته في رمضان وسيلة لحفظ أوقاته على الدوام.
وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة ويوحد الصفوف ويؤلف ويفطر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين ودعوة إلى تآخيهم وتوادهم وشيوع المحبة بينهم (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة )) . ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
وهذه الوحدة تقلق الأعداء فتراهم يسعون جاهدين لتفريق صف المسلمين، فهل يفقه المسلمون قيمة وحدتهم ويتداعون لجمع كلمتهم، ذلكم جزء من أسرار شهر الصيام، وما يعقلها إلا العالمون.
أيها الصائمون: وشهر الصيام فرصة لمزيد من الاهتمام بتربية الأهل والأولاد على البر والإحسان والتقوى، فحثهم على الصلوات وترغيبهم في الصدقات وتدريبهم على الصيام وتشجيعهم على كثرة الذكر وتلاوة القران وسائر الطاعات، كل ذلك يسير في التربية الواجبة في كل حال، لأن النفوس لديها استعداد في رمضان أكثر من غيره من مواسم البر ومواطن الدعاء وقيام الليل والاستغفار بالأسحار ما قد لا يتوفر مثله في سائر الأزمان .
والأب الناصح هو الذي يستثمر الفرص ويذكر بفضلها، والام الحانية هي التي تشجع على الخير وتآزر الأب في تربية الأبناء، وإذا وقع في أذهان البعض أن الأبوين المثاليين هما من يوفران للأبناء ما يحتاج إليه أبنائهم فذلك غير صحيح ، فالأبوة المثالية تتحقق في تربيتهم وحثهم على الخير خاصة في هذه الأيام الفاضلة هو نوع من الغفلة لا تليق، ونتيجته الخسارة لا في الدنيا فحسب بل وفي الدين.
وفانتبهوا لتربية أبنائكم على الدوام خصوصا في هذا الشهر الصيام والقيام بمزيد من العناية والاهتمام، فذلك جزء من واجبكم في وقايتهم من النار قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )) (التحريم : 00) .
وفي صلاحهم وتوجيههم نفع لكم في الحياة، وحين ترحلون إلى الدار الأخرى، فابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: الولد الصالح الذي يدعو له، وكم هي مأساة أن ترى الآباء والأمهات في أيام رمضان مع القائمين والراكعين الساجدين .. وأبناؤهم يسرحون ويمرحون، وربما حصلت منهم الأذية للمصلين أو ربما عكفوا وعكفت البنات معهم على مشاهدة ما لايحل أو سماع ما حرم الله والزمان زمان رحمة، الأيام فاضلة، والدعوة
مستجابة، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، ومن أساء فعليها.
اللهم ألهمنا رشدنا وأهدنا واهدبنا، وتقبل صيامنا وقيامنا، واشرح صدورنا للخير والإيمان ونور قلوبنا بالقران.
الخطبة الثانية
إخوة الإيمان: وشهر الصيام شهر المواساة .. ألا ترون الناس أجمع غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم،صغيرهم وكبيرهم يمسكون عن الطعام والشراب وسائر المباحات مع توفرها عند قوم وندرتها عند آخرين أفلا يوحي ذلك للقادرين أن بإمكانهم أن يتنازلوا عن بعض ما يملكون إلى غيرها من المحتاجين.
ولئن نسى المنعمون أو غلفوا عن حوائج المحتاجين طوال العام وما كان لهم أن ينسوه فشهر الصيام في كثرة إطعام الطعام وإفطار الصائمين، وكم هو مشهد إيماني محبب للنفس هذه الاجتماعات الجماعية على الإفطار.
وهذه المشروعات الخيرة بإذن الله لإطعام الصائمين تلك التي تنتشر في المساجد أو خارج المساجد، فيشعر المسلم بقرب أخيه منه وحنانه والتآلف والتواضع والصلة والإحسان، وتزداد عظمة المشهد كلما زادت مساحة التجمع وكثر المحتاجون ، وتبلغ قمتها في المسجد الحرام بمكة أو في المسجد النبوي في المدينة.
ومن مظاهر المساواة في شهر رمضان قضاء الدين عن المدينين وفك الرقاب على الغارمين وتفريج الكربات للمعسرين، وشهر الصيام يقوي عزائم هؤلاء وأولئك ليهيموا على وجوههم بحثا عن أهل الخير لسد حاجتهم، وعلى الموسرين أن تطيب نفوسهم بما يجودون به لهؤلاء من صدقات فضلا عن دفعهم للزكاة الواجبة، ولا ضير في التحري والدقة والسؤال والمعرفة ولا سيما في أهل الزكاة والمستحقين لها.
وشهر رمضان فرصة للمواساة مع شعوب العالم الإسلامي ... تلك التي أثخنتها الجراح، وعز فيها الطعام أو قل فيها الكساء أو توفر لهم الشراب أو الدواء، كل ذلك حتى تغزوهم بالأفكار وتقدم لهم المبادئ الكافرة وتصرفهم عن الإسلام الحق.
أوليس في غفلة المسلمين عن إخواهم فرصة لنجاح مهمة هؤلاء الأبالسة الماكرين .. أولسنا جميعا نتحمل مسئولية أي انحراف يقع نتيجة تراجعنا عن المساعدات الواجبة وتقدم غيرنا ؟
أما من يتضور جوعا أو يتقلب في قمم الجبال الباردة ولا يتوفر عنده ما يقيه شدة البرد فتلك مسؤولية أخرى يتحملها المسلمون بإزاء إخوانهم المسلمين.
يا إخوة الإسلام : إذا توفرت لكم المعلومات عن حاجة هذه الشعوب المسلمة وتوفرت لكم الأيدي والجمعيات الإسلامية والهيئات الموثوقة التي توصل هذه الصدقات إلى محتاجيها، فأي عذر لكم في الإحجام عن المساعدة. أولستم في شهر الصيام تتذكرون حاجة النفس إلى الطعام حين صومكم وقرقعة بطونكم؟ وتتذكرون حاجتها إلى الشرب حين يبس الشفاه وشدة العطش؟ فتتسلون بقرب الإفطار وتوفره، فتذكروا حاجة هؤلاء المحتاجين لا في رمضان فحسب، وتذكروا أن هؤلاء منتظرون مدد السماء وإعانات المحسنين وأهل البر والوفاء.
أولستم في فصول الشتاء تبحثون عن الفرش الوثيرة لتحتموا بها من لسع البرد القارص؟ فتذكروا من يشعرون بشعوركم ويحتاجون لحاجتكم أو أشد لكنهم لا يملكون ما به يتدثرون وينتظرون العون ممن أفاء الله عليهم وفتح عليهم ما لم يفتح على غيرهم.
شهر الصيام جدير بتذكيرنا بهذه المعاني وأكثر لمن تأمل وتدبر. أما الذين ينتهي تفكيرهم في الصيام عند الإمساك عند الفجر، والإفطار عند تحقق الغروب دون إحساس بالحكمة والسر العظيم من وراء ذلك، فما فقه هولاء حكمة الصيام، وما بالله حاجة أن يدع المرء طعامه وشرابه دون أن يورثه ذلك تقوى تدعوه لفعل الخيرات وتنأى به عن المحرمات وتهذب نفسه وترقق مشاعره وتخفف من حدة الشح أو البخل المصاحبة للنفوس في غياب التقوى .
ــــــــــــــــــــ(1/213)
شهر الصوم
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ , ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا , ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يُهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ , ومنْ يضلل فلا هاديَ له .
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) .(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1) . ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:7071) .
أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ? وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعدُ أيها المسلمون :
ففي يومنا هذا نسعد بحلول شهرنا العظيم, شهر الصيام, والقيام وقراءة القرآن, وحب المساكين وبحلول هذا الشهر الكريم تخطر في بالك تلك الآية المحكمة التي فرض الله تعالى من خلالها الصيام بقوله : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) (البقرة:183 ) .
فإنْ كان الصيام مفروضاً على من سبقنا من الأمم فإنه من الطبيعي جداً أنْ يُفرض على هذه الأمة خاصةً, وهي الأمة التي فُرضَ عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض, وللقوامة على البشرية, وللشهادة على الناس .
فالصوم هو مجال تقرير الإرادة الجازمة, ومجال اتصال الإنسان بربه ومولاه اتصال طاعة وانقياد, كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها, واحتمال ضغطها وثقلها إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع, وهذه كلها عناصرٌ لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات, والأشواك, والذي تتناثر مع جوانبه الرغبات والشهوات والذي تهتف لسالكيه آلاف المغريات والمثبطات, ومن خلال الآية الكريمة قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:183) . يلحظ اللبيب الفطن المتدبر لكتاب الله يلحظ الغاية التي من أجلها شرع الصوم ألا وهي تحقيق ثمرته وجني علته تلك التي أشار إليها القرآن بقوله : (( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) .
فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب, وتحيى بها الضمائر, وتسعد بها النفوس, وهي تؤدي هذه الفريضة العظيمة طاعة لله, وإيثاراً لرضاه , والتقوى هي: التي تحرس القلوب وتحفظ النفوس من مظلات الفتن, ووساوس الشياطين , والمخاطبون بهذا القرآن يدركون مقام التقوى عند الله, ووزنها في ميز انه سبحانه, فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم, وتشتاقها نفوسهم, وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها فإن لم يثمر الصوم خشيةً في القلوب, وإرهافاً في الشعور وتخل عن الذنوب, وندماً على الأعمار المهدرة والسنين المبعثرة إنْ لم يثمر الصوم هذا كله أو جله فهو مضيعة للوقت, وتبديد للجهد فيما لا فائدة فيه وإنْ لم يثمر الصوم عزماً صادقاً, ويقيناً واثقاً على التوبة النصوح, والاستقامة على الهدى, والعزيمة على التقى, فليس لله حاجه بأنْ يدعَ الصائمُ طعامه وشرابه .
أيها المسلمون : لقد أساء الكثيرون فهم الإسلام, واتخذوا أجل عبادته وأعظم شعائره اتخذوها عبادات جوفاء لا روح فيها, ولا تأثير لها, بل إنها أقرب للعادات منها للعبادات, وإلا فما معنى أنْ يتحول أعظم شهور هم وأنفس أوقاتهم شهر الصيام والقيام, شهر بدرٍ, وفتح مكة, ما معنى أنْ يتحول ذلك الشهر العظيم إلى شهر الأسواق المزدحمة ؟ والشوارع المكتظة, والموائد الممتدة بألوان الإسراف والتبذير, وما معنى أنْ يتحول أعظم الشهور وأقدس الدهور إلى شهر لعرض الفتنة ؟ وإثارة الغرائز, وتدمير الأخلاق, لقد نتج عن سوء فهم الإسلام, وسوء فهم شعائره ومقاصده ومراميه, ما تعانيه الأمة كلها من الذل والهوان, وتسلط الأعداء يسومونها سوء العذاب , ويسفكون دمائها, ويستبيحون ويدنسون عقائدها, ويعبثون بأخلاقها, وقيمها, بل إنهم ليمارسون وصاية ذليلة على شعوبها, ويرسمون للأمة سياساتها, ويوجهون زمام الأمور فيها وصدق فينا قول القائل :
ويُقضى الأمرُ حين تغيبُ تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ
لقد آن الأوان أنْ تستيقظ الأمة من رقدتها , وتتخلص من غفلتها وتراجع دينها مبعث قوتها, وسر نهضتها, ومصدر عزيمتها : (( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )) (الحديد:16) .
ألم يأن لشباب الأمة أن يصطلحوا مع ربهم, ويعودوا إلى رشدهم, ويعوا حقيقة دورهم, ألم يأن لشباب الأمة أن يدركوا ما يُخطط لهم, وما يراد بهم, من أولئك يعبثون بعقائدهم, ويسخرون من قيمهم وأخلاقهم, ويضيعون زهرة شبابهم في الفن والرياضة, وبذل الولاءت لها, ألم يأن لشباب الأمة أن يثأروا لإسلامهم الجريح, وعقيدتهم الممتهنة, وكرامتهم المهدرة, ألم يأن للآباء والشيوخ أنْ يغتنموا بقية أعمارهم, ونهاية آمالهم, فيلتمسوا رضى ربهم وعفو بارئهم في ساعات السحر, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, وإصلاح البيوت, وتفقد الأسر, وتعاهد الأبناء بالنصح والرعاية والتوجيه, ألم يأن للذين آمنوا أنْ تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق, أجيبوا بربكم أجيبوا ألم يأن لنا أنْ نستغل مناسبة كهذه نثب فيها إلى رشدنا, ونصلح ما بيننا وبين ربنا, ونعاهده سبحانه في هذا المكان الطيب المبارك, وفي هذا اليوم الفضيل خير يوم طلعت فيه الشمس في هذا الشهر الكريم, شهر القرآن, وليلة القدر نعاهده سبحانه على التوبة من كل ذنب, والندم على كل خطيئة, والعزيمة على الرشد والاستقامة : (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )) (الزمر:5361) .
هذا كلام ربنا فهل نفقه ما يقول سبحانه ؟ وهل نقبل نصحه جل جلاله ؟ أم نظل فريسة للشيطان, يتلاعب بنا كيف يشاء, ويسخر من عواطفنا, ويوهن عزائمنا, ويقوض إرادتنا, إلى متى نظل أسرى لشهواتنا, وضحايا لرغباتنا ونتناسى هادم اللذات, ومفرق الجماعات, ومضيق الصدور, ومدخل القبور.
أيها المسلمون: هذا رمضان حل بكم أياماً معدودات, وسيرحل قريباً أو عنه ترحلون, فأين المسارعون للخيرات, والمبادرون بالصدقات أين الراحمون للضعفاء ؟ القاصدون للفقراء ؟ أين الواصلون للقربات, المكثرون من القربات ؟ أين العافون عن الحرام ؟ الزاهدون في الآثام ؟ أين الهاجرون للموبقات ؟ التاركون للمحرمات؟ أين العلماء العاملون ؟ والدعاة المخلصون ؟ هذا شهرهم وهذا أوانهم (( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإنْسَانَ كَفُورٌ )) (الشورى:48)
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين . أمَّا بعدُ:
أيها المسلمون: فهذه بعض أحكام الصيام أسوقها للتذكير بها, وامتثالا لقوله تعالى : (( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )) (آل عمران:187) .
فمن أحكام الصيام وجوب تبييت النية من الليل, وتكفي نية واحدة لصيام الشهر كله على الصحيح من قولي العلماء, ومن أحكام الصيام سقوطه عن المريض فإن كان مرضه ملازماً له لا يرجى زواله فيطعم عن كل يوم مسكيناً, ومثله الكبير الهرم العاجز عن الصوم, وأمَّا إنْ كان المرض يرجى زواله, والشفاء منه فيلزم القضاء من غير إطعام, ومما يجب معرفته أنَّ المرض إنْ لم يكن شاقاً أو ضاراً بالمريض فلا يجوز له الفطر بتاتاً, وأما المسافر فيجوز له الفطر حتى وإن لم يشق عليه الصوم, أما الذين يتحايلون بالسفر من أجل الفطر على الطريق لقطعهم في الأسفار ففطرهم حرام لا يجوز, وأما مفسداتُ الصوم فسبعة :
الأول : الجماعُ في نهار رمضان : فمن جامع امرأته بطل صومه ولزمته الكفارة المغلظة, وهي عتق رقبة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع, فإطعام ستين مسكيناً .
والثاني : من مفسدات الصوم: إنزال المني بمباشرة أو نحوهما .
والثالث : الأكل والشرب: سواءً عن طريق الفم, أو الأنف بطريقة طبيعية, أو صناعية .
الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشرب: كالإبر المغذية, وأما غير المغذية فلا تفطر .
الخامس : التقيؤ عمداً: فإن لم يتعمده صح صومه ولا شيء عليه .
السادس : خروج دم الحيض والنفاس: ولو قبل المغرب بيسير .
السابع : إخراج الدم بالحجامة: أو ما يشابهها, كالعضد ونحوه .
وهذه المفطرات كلها لا تفطر الصائم إلا بثلاثة شروط :
الأول : أن يكون عالماً بالحكم , وعالماً بالوقت غير جاهل .
الثاني : أن يكون ذاكراً غير ناسٍ .
الثالث : أن يكون مختاراً غير مكره .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي .
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
ــــــــــــــــــــ(1/214)
أي رمضان رمضانك ؟!
لطالما حدثنا أنفسنا باهتبال فرصة رمضان، ولكم منيناها بصلاحها فيه ، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأوبةٍ حقةٍ، وتوبةٍ صادقةٍ، ودمعةٍ حارةٍ، ونفسٍ متشوقةٍ، ولكن كلما أتى قضى الشيطان على الأمنية، وخاست النفسُ الأمارةُ بالسوء بعهدها وغدرت، فثابت ليالٍ ورجعت أيام ثم عادت لسالف عهدها كان لم تغن بنور رمضان وضيائه...
وها نحن أيها الأحبة في الله يطالعنا شهرٌ وموسمٌ من الخير جديد فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانُك هذه المرة ؟!.. هل هو رمضانُ المسوفين الكسلانين ؟! أم رمضان المسارعين المجدين ؟!
هل هو رمضان التوبة أم رمضان الشِقِوة، هل هو شهرُ النعمةِ أم شهرُ النقمة؟!
هل هو شهر الصيام والقيام ؟! أم شهر الموائد والأفلام والهيام ؟!!
هذا ما يعتلج بالفوأد ويدور بالخلد ؟!
هاهو هلال رمضان قد حل ووجه سعده قد طل .. رمضان هل هلاله، وخيمت ظلاله، وهيمن جلاله، وسطع جماله، لقد أظلنا موسم كريم الفضائل، عظيم الهبات والنوائل ، جليل الفوائد والمكارم...
أيام وليالي رمضان: نفحاتُ الخير ونسائم الرحمة والرضوان ، فما ألذها من أيام معطرةٍ بالذكر والطاعة، وما أجملها من ليالٍ منورةٍ بابتهالات الراغبين وحنين التائبين.
رمضان: المنحةُ الربانية، والهبةُ الإلهية، قال تعالى: (( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) (البقرة:185).
شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ من ألف شهر فُضّلت تفضيلا
طوبى لعبدٍ صحَ فيه صيامه ودعا المهيمنَ بكرةً وأصيلا
وبليله قد قامَ يختم وردَه متبتلاً لإلهه تبتيلا
رمضان: أشرُف الشهور، وأيامُه أحلى الأيام ، يعاتبُ الصالحونَ رمضانَ على قلة الزيارة، وطول الغياب ، فيأتي بعد شوقٍ ويَفِدُ بعد فراق فيجيبه لسان الحال قائلاً:
أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبا زارنا في كل عامْ
قد لقيناك بحبٍ مفعمكُل حب في سوى المولى حرامْ
فاقبل اللهم ربي صومنا ثم زدنا من عطاياك الجسامْ
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
أخي الحبيب. إن رمضانَ فرصةٌ من فرصِ الآخرةِ التي تحمل في طياتها غفرانَ الذنوب وغسلَ الحوب..!! وكم تمر بنا الفرص ونحن لا نشعر.. هذه فرصة وما أعظمها، تحملُ سعادةَ الإنسان الأبدية فأين المبادرون، وأين المسارعون ..
إن الصيام هو المدرسة التي يتعلمُ منها المسلمون, ويتهذب فيها العابدون ويتحنث فيها المتنسكون..
جاء شهرُ الصيام بالبركات* فأكرم به من زائرٍ هو آت
نعم إنه شهر البركات والرحمات: فرمضان شهر الطاعة والقربى، والبر والإحسان، والمغفرة والرحمة والرضوان ، والعتق من النيران: ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم وسُلسُلت الشياطين)) .
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا كان أولُ ليلةٍ من رمضانَ صفدت الشياطين ومردة الجن وغُلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب وينادي مناد: ياباغي الخير أقبل وياباغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كُلَ ليلة)) رواه الترمذيُ وابنُ ماجةَ والنسائيُ وحسنهُ الألبانيُ.
الصيامُ يُصلح النفوسَ، ويدفع إلى اكتساب المحامد, والبعد عن المفاسد، به تُغفر الذنوبُ وتكفَّر السيئات وتزدادُ الحسنات، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
نعم ياعبد الله : رمضانُ سببٌ لتكفير الذنوب والسيئات إلا الكبائر قال صلى الله عليه وسلم: (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر )) رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( فتنة الرجال في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة)) متفق عليه.
رمضان فيه إجابةُ الدعوات وإقالةُ العثرات قال صلى الله عليه وسلم: (( لكل مسلمٍ دعوةٌ مستجابةٌ يدعو بها في رمضان )) ويقول صلى الله عليه وسلم : (( ثلاثة لاترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم)) رواه أحمد.
هذه هي فرصة رمضان فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانك، وتلك هي نعمة رمضان فماذا أنت فاعل وما ذا أنت صانع:
أتى رمضانُ مزرعةُ العباد لتطهيرالقلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً وزادكَ فاتخذهُ للمعاد
فمن زرع الحبوبَ وما سقاها تأوه نادماً يومَ الحصادِ
إن شهراً بهذه الصفات وتلك الفضائل والمكرمات لحرى بالاهتبال والاهتمام ، فهل هيأت نفسك أخي المسلم لاستقباله وروضتها على اغتنامه ؟!
عن أبي هريرةَ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله عليكم صيامه يفتحُ فيه أبوابُ الجنة ويغلقُ فيه أبواب الجحيم ، وتغلُ فيه الشياطين ، فيه ليلةٌ خير من ألف شهر من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ )). رواه أخرج أحمدُ والنسائيُ وصححه الألباني.
لقد كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان وإتيانه كُل ذلك شحذاً للهمم وإذكاءًا للعزائم وتهيئةً للنفوس، حتى تُحسنَ التعامل مع فرصةِ رمضان ، وحتى لا تفوتها, وهذا شأن السلف الصالح رحمهم الله تعالى قال معلى ابنُ الفضلِ عن السلف أنهم كانوا يدعون الله جل وعلا ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ويدعونه ستةً أخرى أن يتقبله منهم ، وقال يحيى بنُ كثيرٍ - رحمه الله - كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني فتقبله .
أيها الأحبة في الله : قدوم رمضان تلو رمضان يدل على تعاقب الأيام، فالأيام تمضي والسنون تجري وكُلٌ إلى داع الموت سيصغي:
تمر بنا الأيام تترى وإنما *** نساقُ إلى الآجال والعينُ تنظرُ
فلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مضى *** ولا زائلٌ هذا المشيبُ المكدرُ
عباد الله : هاهو شهر العزة والكرامة ، شهر الجهاد والنصر، شهر الجدية والعزيمة, هاهو قد أتى فهل آن للأمة أن تنفضَ عنها غبارَ التبعية، هل آن لها أن ترفعَ عن نفسها أسباب الذلة والهوان.
لقد زارنا رمضان مرات عديدة ، فما زارنا في مرة إلا وجدنا أسوأ من العام الذي قبله ، أممٌ متناثرةٌ، وقلوبٌ متناثرة ، ودولٌ متقاطعةٌ، وأحزابٌ متصارعة، وفتنٌ محدقةٌ،وشهواتٌ مفرقةٌ، الأمة في مساغبها ومجاعاتها وأمراضها..
رمضان أتى بخيراته وبركاته فكيف حال الناس بل كيف حال الأمة الإسلامية ، رمضان آتى والأمةُ تميد بها الأرض جراءَ تسلط الأعداء على ديارها، الأرضُ المباركةُ تعاني الذلة والهوان ، رمضان آت والأمة لا زالت تغالب الصليب في أفغانستان والعراق ،واليهود في فلسطين، والإلحادَ والشيوعيةَ في الشيشان، وتقاسي الأمرين وهي توصم ظلماً وزوراً بالغلو والتطرف والإرهاب.
رمضان آت يا عبد الله فأيُ رمضان يكون رمضانك؟ وما هو استعدادك وما هي مراسم استقبالك له. فالناس في استقباله أقسام: فهل أنت يا أخي من القسم الفرح بقدومه لأنه يزداد به قربى وزلفى إلى ربه جل وعلا، وهذا شأن المؤمنين: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ* قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) (يونس:57،58) .
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم على رأس هؤلاء يقول ابن عباس رضي الله عنهما : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)) متفق عليه.
وهناك صنف ثان وأعيذك بالله من حاله لا يعرف ربه إلا في رمضان فلا يصلي ولا يقرأ القرآن إلا في رمضان, وهذه توبةٌ زائفةٌ ومخادعةٌ وتسويلٌُ من الشيطان وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.. ويا حسرة على أقوام تعساء يستقبلونه بالضجر والتضايق والحرج على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي .. إن بعض العصاة يراونه مانعاً لهم من شهواتهم ومن مأربهم الباطلة فهم كالذئاب في الليل تعوي وكالجيف في النهار تخور كما يخور الثور.
وياعجباً هل يتأفف من شهر الرضوان والرحمة !! لا والله بل هو شهر الخير والنعمة والبركة، إن الواحد من هؤلاء هداهم الله يُحس بالحرمان من الشهوات ولذلك تراهم إذا قدم رمضان غيرَ فرحين بقدومه لأن هؤلاء يريدون أن يغترفوا من حمأة اللذة المحرمة حتى لقد قال بعض التعساء من أولاد الخلفاء كما ذكره الحافظ ابن رجب في الوظائف:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر** ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر** لاستعديت قومي على الشهر
والذي حصل لهذا الشاب أن ابتلاه الله بمرض الصرع فكان يُصْرَعُ في اليوم مراتٍ وكراتٍ ومازال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر، نسأل الله تعالى حسن الختام .
أيها المسلم : إن من نعم الله تعالى عليك أن مدّ في عمرك ومدّ في أنفاسك وجعلك تدرك خيرات هذا الشهر العظيم، فاحمدوا الله عباد الله أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامعٍ بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون: بلغناه وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه وكم قريبٍ لنا أضجعناه، صُمناه وكم عزيز علينا دفناه.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ***حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما *** فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً *** فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف *** من بين أهل وإخوان وجيران
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً *** فما أقرب القاصي من الداني
يا عبدًَ الله : يا أمةََ الله ، هل يأتي عليكما رمضان وأنتما في قوةٍ وعافيةٍ ؟ فكم من إنسان صام رمضان الفائت في عافيةٍ وصحة وقوة يأتي عليه رمضان القابل وهو قعيدُ الفراش أسيرُ المرضِ، هل يأتي عليك رمضان وأنت في أمن وأمان على نفسك واهلك ومالك.
يا عبد الله يا من تعيش آمناً مستقراً تتلذذ بخيرات الله خِل نفسك واحداً من هؤلاء الذين يصومون وهم أُسارى أو يتسحرون ويفطرون على الحدود وفي الملاجئ ، خِل نفسك واحداً من أولئك الذين يحتاجون إلى الفطر دفاعاً عن الملة والدين، خِل نفسك جائعاً مطرداً شريداً كما يحصل للمسلمين الفلسطينين وغيرهم من المسلمين في غير ما مكان الذين يعانون آلآم الحصار والتشرذم والشتات وتسلطَ الكفار والفجار.
رمضان شهر الشعور بإخوانك المسلمين فأي رمضان رمضانك: هل شعرت بإخوانك في أقاصي الأرض ومغاربها لابد للمسلم الصائم أن يشعر بآلام المسلمين ، وأن يستشعر حال إخوانه في كل مكان، فإذا جاع تذكر أن آلاف البطون جوعى تنتظر لقمةً فهل من مطعم ، وهو إذا عطش تذكر أن آلاف الأكباد عطشى تنتظر قطرةً من الماء فهل من ساقي، وهو إذا لبس تذكر أن آلاف الأجساد قد لحقها العري فهل من كاسي ، يشعر بنعمة الله جلا وعلا عليه أن أعطاه السحور والإفطار وغيره محروم ، أن ألبسه وغيره عارٍ، فالحمد لله على نعمائه.
رمضان شهر العبادة فأيُ رمضان رمضانك هل اتخذت منه فرصة لتربية نفسك على العبادة : فالصيام يربينا على العبادة فلئن كان المسلم يعبد ربه جلا وعلا في سائر شهوره وأيامه إلا أنه يأخذ في رمضان دورةً عباديةً يزيد فيها من جرعات الطاعة ونكهاتِ الإيمان والإخلاص حتى يقوى على ما تبقى من الشهور ويجعل هذه الفرصة منطلقاً إلى فعل الخيرات تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره " أخرجه مسلم.
وليالي رمضان تاج ليالي العام، ودجاها ثمينة بظلمائها، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة، قال صلى الله عليه وسلم: (( أفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل )), ورمضانُ شهر القيام يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
وقيام رمضان أمر مشروع فعلى المسلم أن يحرص على أداء صلاة التراويح وأن يكملها مع الإمام حتى ينصرف ، قال صلى الله عليه وسلم : (( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) ، رواه أهل السنن وهو صحيح .
فلله الحمد والمنة يقومُ المصلي ساعةً من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله.
ولا ننسى أيها الإخوة الاهتمام بالفرائض أولاً والمواظبة عليها في المساجد جماعة، فالله عز وجل يحب التقرب إليه بالفرائض، فلا ننسى الفرض ونهتم بالنوافل والمستحبات.
رمضان شهر النفحات والبركات : فلماذا لا نقوم رمضان ، لماذا لا نجرب لذة القران ، ولذة المناجاة والدعاء ، لماذا لا نجرب وقت الأسحار وهجيع الليل لماذا لا ننطرح بين يدي مولانا ، فربنا ينزل في ثلث الليل الأخير نزولاً يليق بجلاله وعظمته يعرض نفحاته ورحماته فلماذا لا نتعرض لرحمات الله!!
قم في الدجى واتل الكتاب *** ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتى المنية بغتة *** فتساق من فرش إلى أكفان
يا حبذا عينان في غسق الدجى *** من خشية الرحمن باكيتان
فالله ينزل كُلَ آخر ليلة *** لسمائه الدنيا بلا نكران
فيقولُ هل من سائلٍ فأجيبَه *** فأنا القريبُ أجيبُ منْ ناداني
ولكن يا حسرةً على المحرومين ، ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت السحر ووقت الاستغفار وقت نزول الإلهي فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات وتقليب الأبصار في الغانياتِ والمومساتِ يا حسرةً على العباد!! .
رمضان شهر التقوى فأي رمضان يكون رمضانك : هل دربنا نفوسنا ووطناها على هجر المعاصي فرمضان فرصة لترك الذنوب: فالمعنى السامي للصيام أنه يجمع بين التقوى الحسية والتقوى المعنوية فمن أخل بواحدةٍ منهما فما استكمل الصيام ، ولذا قال جلا وعلا : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة:183).
يؤكد هذا المعنى أيها الصوام قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) رواه البخاري .
قال بعض السلف: أهون الصيام: ترك الطعام والشراب .
فيا أهل اللهو والعبث ويا أهل البرامج والفوازير والمسابقات نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (( ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث )) رواه ابن حبان.
هذا هو الصيام فإذا تحقق فيه ذلك كان جنةً من المعاصي ، الصيام الذي لا يمنعك من النظر إلى الحرام والسب والشتم والتلاحي والخصام والغيبة والنميمة والقيل والقال والولوغ في الأعراض فليس بصيام، إنما الصيام من اللغو والرفث إذا تحقق هذا كان جنةً من المعاصي وبالتالي جنةً ووقايةً من النار قال صلى الله عليه وسلم: (( الصيام جنةٌ يستجن بها العبد من النار )) رواه أحمد وحسنه الألباني .
وقال أيضاً : (( الصيام جنة فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجهلْ فان سابه أحدٌ فليقل إني صائم )) رواه الشيخان .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر )) رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
وقال الصحابيُ الجليلُ جابرُ بنُ عبد الله رضي الله عنه : إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع عنك أذى الجار وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ ولا يكنْ يومُ صومِك ويومُ فطرِك سواءً. ويقول الإمام أحمد رحمه الله: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يماريَ في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظُ صومنا ولا نغتابُ أحداً.
إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
الخطبة الثانية
أيها الأحبة: وإذا كان سلفَ الأمة يستعدون لرمضان بهممٍ عالية وعزائمَ قويةٍ وإراداتٍ ماضية ليستغلوا رمضان في طاعة الله ليجعلوه منطلقاً للخيرات ومنطلقاً إلى التوبة وإصلاح النفس والحال.
ومع ذلك فإننا نجد عجباً من بعض الناس يستعدون لرمضان، ولكن بما يُفسد على الناس صومهم ويهدم أخلاقهم ويبعدهم عن تحسس واستشعار معاني الصيام والقيام، فيستعدون باللهو والعبث وبما يفسد حرمة هذا الشهر الكريم.. يستعدون لنا بالمسرحيات وبالمسلسلات وبالأفلام التي وإن لم تكن هابطة أو خالعة أو عارية - كما يقولون فلا تعدوا عن كونها مبعدةً للناس عن صومهم وقيامهم وعباداتهم!!
إنها مسلسلات جعلت هدفها الاستهزاء بسنة سيد المرسلين والسخرية بعباد الله الصالحين ومحاربة ثوابت الدين فمرةً يغمزون اللحية والغيرة وتارة يحتجون على المحرم للمرأة الخ.. ناهيك عن تصويرهم للمستقيم على دينه المتمسك بسنة نبيه بصورة الأبلة والموسوس والمتناقض !! أما ظهور الفاتنات من النساء فحدث ولا حرج .
يسبون دين الله في شهر صومهم *** فعن دينهم صاموا وبالكفر أفطروا
وبعض المفتونين يدير الريموت على أجساد العرايا ففي الليلة الواحدة يدور الواحد منهم على العالم شرقاً وغرباً يفسد صيامه بالنظر الحرام وباللهو الحرام وبالفعل الحرام.
إنني أقول لمن ابتلوا بهذه القنوات أو المجلات أو بتضيع أوقاتهم فيما لا يفيد ولا ينفع لماذا لا نفكر أن نبدل السيئة بالحسنة ، لماذا لا نغتسل بماء التوبة النصوح من حمأة الخطايا ، لماذا لا نجعل هذا الشهر الكريم بداية لأن نهجر هذه القاذورات سيما ونفوسنا مهيئةٌ للخيرات .
لعلها أيها الأحبة في الله أن تكون بداية النهاية إن شاء الله لكل شيء يبعد عن الله ويسخطه، ولعلها أن تكون بداية الانطلاقة الحقيقية في المسارعة إلى الخيرات وإرضاء رب الأرض والسماوات.
رمضان شهر التوبة فأي رمضان يكون رمضانك : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: (( آمين، آمين، آمين " فقيلُ: يا رسول الله ، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين !! فقال صلى الله عليه وسلم : " إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، قلت: آمين )) أخرجه ابنُ خزيمة وابنُ حبان انظر صحيح الترغيب والترهيب(2/625).
فالوحَى الوحَى قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرةَ تُقال، ولا يُفدى أحد بمال، فحُثوا حزم جزمكم، وشدوا لبَد عزمكم، وأروا الله خيراً من أنفسكم، فبالجد فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خابَ أمله، وتحقَّق فشله..
يا عبد الله : هذا أوان الجد إن كنت مجداً، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعداً ، هذا نسيم القبول هبّ ، هذا سيل الخير صبّ ،هذا الشيطان كبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحب، هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب ، قبل إغلاق الباب.
فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى .
هاهو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟! ومتى يعود إن لم يعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره، واغتنم زمنَ الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه؟ وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ ثم إلى دار الحساب.
جعل الله صيامنا صياما حقيقيا مقبولاً وجعله إيمانا واحتسابا إيمانا بما عنده، واحتسابا لثوابه، كما أسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين ممن صام الشهر، واستكمل الأجر، وفاز بليلة القدر، كما أسأله أن يجعلنا ممن يصومونه ويقومونه إيماناً واحتساباً. اللهم اكتب صيامنا في عداد الصائمين وقيامنا في عداد القائمين .
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ــــــــــــــــــــ(1/215)