شعر البرعي
في
ميزان الكتاب والسنة
قدم له فضيلة الشيخ :
عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
المحاضر بجامعة الإمام محمد بن سعودالإسلامية
كتبه:
عمر بن التهامي بن عبد الرحمن
مقدمة فضيلة الشيخ : عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإنَّ الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة ورضىَ لنا الإسلام ديناً .
ومن ثمار ذلك الإكمال والتمام والرضى بيان أبواب الخير والحثّ عليها والترغيب في ولوجها . وبيان أبواب الشرِّ والتحذير منها والترهيب من قُربها .
وكان من ضمن أبواب الشرِّ المحذَّر منها : الأئمة المضلون . كما قال (: " ... وإنما أخاف على أمتي الأئمَّة المضلين ... ". أخرجه أبو داود وغيره عن ثوبان رضي الله تعالى عنه؛ وهذا من كمال شفقته وتحذيره (لأمته ؛ ذلك لأنَّ ضرر أُولئك الأئمَّة يتعدى إلى شريحةٍ كثيرةٍ من الناس ممن يسمع منهم أو عنهم فيُخْدع بهم وبخاصةٍ أتباعهم ومن سار في ركابهم , ويزيد شرُّ أولئك الأئمَّة ويعظُمُ خطرهم وضررهُم إذا كان ضلالهم عقائدياً .
وفي هذه الرسالة سترى بياناً وردّاً لأنواع من الضلال العقدي : مِن وصف الله تعالى بالنقائص ، ومن إسباغ بعض صفات الخالق على بعض المخلوقين ، ومن تعليق فلاح الناس ونجاحهم باتباع بعض الناس دون الرسول (، ومن تقرير وحدة الوجود ،والحلول والاتحاد . كل هذه الضلالات وغيرها سترى بياناً شافياً وردَّاً مُفحماً مُلزِماً قام به الشيخ عمر التهامي. بعد ما تتبَّع بعض الأشعار التي تضمَّنت هدم التوحيد وبناء الشرك .(1/1)
فجزى الله الشيخ عمر التهامي خير الجزاء على نصرته للتوحيد وأهله كما نسأله عز وجل أن يردَّ من ضلَّ إلى صراطه المستقيم ودينه القويم وليعلم من كان ذا أتباع أنه إن أحسن فله مثل أجورهم لا ينقص من أجورهم شيئاً ، وإن أساء فعليه مثل أوزارهم لا ينقص من أوزارهم شيئاً ، اللهم أعز التوحيد وأهله وارفع رايتهم واجمع شملهم .
والحمد لله الذي بنعمته تم الصالحات .
عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
الرياض : 20/9/1423هـ
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له . وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، أما بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي رسول الله -(- وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد :
فاعلم رحمك الله أنّ كثيراً من شيوخ الطرق الصوفية وأتباعهم يعتقدون اعتقادات فاسدة منها ما هو كفر صريح بالله ، ومنها ما هو دون ذلك . فمن الاعتقادات الكفرية التي يعتقدونها والتي تخرج صاحبها من الإسلام ، اعتقادهم أنَّ الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً يتصرّفون في هذا الكون ، وينوبون عن الله في تدبيره ، فيرزقون العباد ، ويُحيون ويُميتون ، ويُسعدون ، ويُشقون ، ويُعزُّون ، ويُذلُّون ، وأنهم يعلمون الغيب .
ليس هذا فحسب بل يعتقد بعضهم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - يحل في الصالحين ويتحد معهم ، فيصبح الصالح كأنّه هو الله، بل هو الله ، وهؤلاء هم أتباع الحلاج وغيره من الزنادقة ، ويعتقد بعضهم كذلك وهم أتباع ابن عربي أن كل شيء في الوجود هو الله ، حتى الكلب والخنزير - تعالى- الله عمّا يقولون علواً كبيراً ، وهؤلاء هم شرُّ طوائف أهل الكفر على الإطلاق كما بيَّن ذلك أهل العلم .(1/2)
هذا بعض فسادهم في الاعتقاد ، وأما فسادهم في العبادة فهو أكثر من أن يُحصر ، فهم يعبدون الصالحين في غيابهم وبعد موتهم فيدعونهم ويستغيثون بهم في جميع أحوالهم سواءً في الرخاء ، أو الشدة ، بل في الشدائد لا يلجأون إلاَّ إليهم . ويذبحون وينذرون لهم ويطوفون بقبورهم .
ويتبرَّكون بها ، ويُعفِّرون وجوههم في ترابها ، ويبكون عندها ، ويتذللون لأصحابها ، ويخشعون عندهم أكثر من خشوعهم لله ، ويخافون منهم وهم أموات أشد من خوفهم من الله ، لذلك قد يحلف أحدهم بالله كاذباً ، ولا يحلف بشيخه إلاَّ وهو صادق . ويثنون على الصالحين أكثر من ثنائهم على الله ، ويلهجون بذكرهم .
وإذا عبدوا الله عبدوه بالبدع المحدثات والأمور المنكرات ، فتجد أحدهم يرقص الليل كلّه ويستمع الدفوف والألحان ظناً منه أنها تقربه من الله ، بل تجد أحدهم يذكر الله آلاف المرات بذكر مبتدع ما أنزل الله به من سلطان ، فصاروا بهذه الاعتقادات والأعمال والأقوال من أشرِّ أهل الأرض ، وأخبثهم ، ومن أكفر الناس على الإطلاق.(1/3)
ومع كل هذه الاعتقادات الباطلة ، والكفر البيِّن ، والشرك الواضح الجلي ، والبدع المحدثة ، والمنكر العظيم ، يدَّعون أنهم أولياء الله وأحباؤه وأصفياؤه ، وأحباب رسوله -(- السائرون على دربه المتمسكون بسنَّته ، ولا غرابة في ذلك ، فهذا شأن أهل الباطل في كل العصور والأزمان ، فإنَّ اليهود والنّصارى مع كفرهم بالله ومحاربتهم له ، ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، أي أصفياء الله قال - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة (وقالت اليهود والنّصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فلمِ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر مِمَّن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير ((18) بل ادّعوا أنّه لا يدخل الجنة إلا من سلك طريقهم ، واهتدى بهديهم ، قال - سبحانه وتعالى - في سورة البقرة (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ((111) وكذلك المشركون مع أن سعيهم في الحياة الدنيا كلّه ضلال ، إلاّ أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً قال - سبحانه وتعالى - في سورة الكهف : (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً (103) الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ( (105) وأهل التصوف مع أنهم يعتقدون هذه الاعتقادات الباطلة ، ويعبدون الصالحين مع الله ، إلاّ أنهم يُبطنون هذه الاعتقادات ولا يُظهرونها ، بل يُظهرون للناس أنهم أهل زهد وورع وأنهم يحبون الرسول -(- ويُكثرون من مدحه والثناء عليه بمنظوم الكلام ، ومنثوره ، لعلمهم أنَّ عامَّة المسلمين والسواد الأعظم منهم تشدّه عواطفه لمدح النبي -(-، والثناء عليه ، ومن خلال هذه الأشعار وغيرها ينشرون باطلهم بطريق خفي ، وقد يظهرونه أحياناً ، ويدعون إليه جهاراً ، وأهم الأشياء عندهم جمع الأتباع وإخراجهم من عبادة الله وحده(1/4)
إلى عبادة الصالحين معه وترك الاستغاثة بالله وحده والاستغاثة بالصالحين معه ، سواءً الأحياء منهم أو الأموات ، ومن أهم أهدافهم أن يجعلوا الناس أتباعاً وعبيداً لهم ، ليس هذا فحسب بل يطلبون منهم أن يكون أحدهم أمام شيخه كالميت بيد المغسل .
فإذا انخدع الإنسان بهم وبما يظهرون من حب الرسول -(- وسلك معهم طريقتهم ، فعندها يزجّونه في الباطل شيئاً فشيئاً ، ويُعظّمون له شأن أوليائهم حتى يعتقد أنهم هم المتصرفون في الكون ، وأن الله أشركهم في الأمر والتدبير ، وأنهم إذا بلغوا مرحلةً معينة اتّحد الله معهم ، وحلَّ فيهم ، فيكون أحدهم كالله تماماً لا فرق بينه وبين الله في العلم والإحاطة والقدرة وجميع الصفات .
ومِن هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في محاربة الموحِّدين ، والاستهزاء بهم ، والتنفير منهم ، والدعوة لهذا الفساد العظيم والشرّ الجسيم ، صوفي يُدعى عبد الرحيم البرعي ، سُمِّي على البرعي اليماني تبرُّكاً وتيمُّناً به ، وما أشبه الليلة بالبارحة فإنه اسم على مُسمّى ، فهو من الشعراء الذين يُكثرون من مدح النبي -(-، والأولياء الصالحين ، لكنَّه مع ذلك ما ترك معتقداً كفرياً فاسداً يعتقده غلاة المتصوفة ، إلا وصرّح به في هذا المديح ، فبدا جلياً خبث منهجه ، وسوء معتقده ، وهو وأتباعه على شفا هلكة ، وعلى خطر عظيم ، إن لم يرجعوا إلى الله ، ويتوبوا إليه مما يعتقدونه ويدعون إليه من الكفر القبيح ، والشرك الصريح ، فنسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى أن يهدينا وجميع المسلمين ، إلى الحق ، وأن يعفو عنا وعنهم إنه - سبحانه وتعالى - وليّ ذلك و القادر عليه .(1/5)
وفي هذه الرسالة المختصرة نستعرض معكم بعض الأبيات من أشعاره ، في مدح النبي -(- والأولياء الصالحين ، لتروا بوضوح تام الاعتقادات الكفرية البيّنة في شعره ، ولتروا الخطر العظيم على قارئها المعجب بها ، إذا لم يكن عنده شيء من العلم بالتوحيد الصحيح والعقيدة الصحيحة ، خاصة وأن قصائده وأشعاره انتشرت انتشاراً واسعاً في السودان ، وفي جميع الأوساط بين العامة والخاصة ، والكبار والصغار ، والرجال والنساء .
تنبيه : يجب أن يُعلم أن كثيراً من زنادقة المتصوفة كذبوا على كثير من الصالحين من سلف هذه الأمة ونسبوا لهم أقوالا شركية وكفرية هم بريئون منها كل البراءة كما نسب المشركون الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم شركهم إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وادّعوا أنهم من أتباعهما ، وفي هذه الرسالة سترد أسماء أناس ليسوا من أهل البدع المنكرة قد نسب إليهم هؤلاء المبتدعة الغلاة أقوالا هم بريئون منها ، لأن النقل إلى هؤلاء الصالحين غير صحيح ، لما عُرف عن المبتدعة الغلاة من الكذب والبهتان على الله ورسوله والصالحين من عباده ،ولما ثبت عنهم من التحذير عن مثل هذه الأقوال ، لذلك سيكون ردُّنا على شُبه هؤلاء سواء اشتمل على ذكر هذه الأسماء أو لم يشتمل ، ولهذا وجب التنبيه لمثل هذا .
الباب الأول
اعتقاد البرعي أنَّ الله سبحانه وتعالى يَحُلُّ في الأولياء الصالحين ويتَّحد معهم وتمنِّيه الوصول لهذه المرتبة المزعومة وثناؤه على أهل الحلول والإتحاد أمثال الحلاَّج والبسطامي
ما هي عقيدة الحلول الاتحاد:(1/6)
عقيدة الحلول والاتحاد التي يعتقدها كثير من المتصوفة تتلخص في أنّ العبد إذا وصل إلى مقام معيَّن من مقامات الولاية - أي صار وليّاً من أولياء الله حقيقة -حَلَّ الله - سبحانه وتعالى - فيه كما يَحِلُّ الماء في الكأس ، وأصبحت صفات ذلك العبد كصفات الله تماماً ، وهذه هي عقيدة الحلول. وبعضهم يقول إن الله يتَّحد بعبده كما يتَّحد الماء بالَّلبن فيصبح هو الله لا فرق بينه وبين الله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وهذه هي عقيدة الاتّحاد. وهذه المرحلة التي يتَّحد فيها الله مع عبده أو يَحِلُّ فيه هي الغاية المنشودة عند أئمة المتصوفة ، بل عندهم من لم يصل إلى هذه المرحلة فإنه لم يصل إلى معرفة الله حقيقة . والسبيل عندهم لبلوغ هذه الغاية كما زعموا تمرين النفس بأنواع الرياضات والمجاهدات . وهذه العقيدة التي اعتقدها الصوفية سبب اعتقادهم إياها ناشئ من جهلهم العظيم بالله وأسمائه وصفاته ، واتِّباعهم لفلسفات الملاحدة والزنادقة ونظريات فلاسفة اليونان الوثنين وغيرهم " يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أَنَّى يؤفكون " .
أقوال أئمة التصوف التي تثبت قولهم بالحلول والاتحاد :
قال الحلاَّج في ديوانه ص (82) مُبيِّناً لعقيدة الحلول التي تبنَّا ها:
تمزج الخمرة بالماء الزلال فإذا أنت أنا في كل حال .
مزجت روحك في روحي كما فإذا مسَّك شيء مسَّني .
في البيت الأول ادَّعي الحلاَّج أن الله اتَّحد معه كما تتَّحد الخمرة بالماء الزلال ثم بيَّن أنه أصبح هو الله في كل حال بعد هذا الاتحاد التام.
ويقول أيضاً في ديوانه ص (17) :
ناديت إياك أم ناجيت إياي يا جملتي وتبا عيضي وأجزائي .
أدعوك بل أنت تدعوني فهل ياكُلَّ كلي وياسمعي ويا بصري .(1/7)
ويقول الحلاَّج في كتابه الطواسين ص (126): "إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافاً للعبد!! " وقال عبيد الله أحرار النقشبندي - وهو من كبار أئمة المتصوفة - كما في الأنوار الأقديسة للشعراني (ص 163):
"إنّ العارف من فنيت ذاته وصفاته في ذاته تعالى وصفاته فلم يبق له اسم ولا رسم " .
وقال البسطامي في كتاب النور من كلمات أبي طيفور (ص 1106) : "عجبت ممن عرف الله كيف يعبده ".
وقال في نفس الكتاب ص(101):"سبحاني سبحاني ما أعظم شأني حسبي من نفسي حسبي " ، ويقول أيضاً ص (79) : " سبحاني سبحاني أنا ربي الأعلى" .
قال الذهبي في السير في ترجمة الحلاج (14/313-353 ) :
"الحسين بن منصور بن محمد الفارسي الصوفي كان جده مجوسياً ، وكان الحلاج مشعبذاً محتالاً مقداماً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم ويدَّعي عند أصحابه أنَّ الإلهية حَلَّت فيه ، قصد إلى الصين والهند في رحلة طويلة طور فيها أفكاره الصوفية وراض نفسه على التَّصوف الهندي ، قُتل على زندقته بحكم مجلس القضاء في زمن الخليفة المقتدر بالله جعفر بن المعتضد أحمد بن الأمير محمد سنة 309هـ " .
هؤلاء هم أئمة الهدى الذين يَقتدى بهم البرعي ، وهم مثله الأعلى ، لذلك سلك دربهم ، واتَّبع طريقتهم ، في وحدة الوجود ، وفي الحلول ، والاتحاد ، وأثنى عليهم ومدحهم وفضَّلهم على غيرهم من الموحِّدين ، بل إنَّ الموحِّدين عنده في إنكارهم على أهل وحدة الوجود ، كالكلاب النابحة كما صرَّح بذلك في ديوانه وهذا من جُرْأَته على الحقِّ ومشابهته لليهود الذين وصفهم الله بقوله : ( ألم تر إلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً ( ، (52) نسأل الله السلامة والعافية .
ونُلخِّص الأمور التي تُثبت أنَّ البرعي يقول بالاتحاد والحلول في النقاط الآتية:(1/8)
(1) ثناؤه على أئمة القائلين بالحلول والإتحاد كالحلاج والبسطامي وتمجيده لمقالتيهما الكفريتين واعتباره أن ما تفوَّها به من الكفر هو قمة المعرفة .
قال في قصيدته ( اذكر إلهك رب العرش ) صفحة (67) من ديوانه رياض الجنة :
رقت وراقت على لون من الطاس فلا تصدع ناشئ منها على الرأس وضعته ياله من عارف كاس بساحل منه رسل سادة الناس ما حاك في الصدر من ران وأد ناس .
وخمرة الذكر بين القوم صافية بكر على أيدي أبكار تدار قال الحسين على معبود كم قدمي وقائل خضت بحراً زاخراً وقفت طوبى لمن ذاق منها رشفة غسلت .
والحلاج هو الحسين ابن منصور وهو القائل ( إن إلهكم الذي تعبدون تحت قدمي هذه )، وأبو يزيد البسطامي هو القائل (خضنا بحراً وقفت الرسل بساحله) فدَّل ثناء البرعي عليهما ، وتمجيده لمقالتيهما على أنه يرتضي منهجهما كل الارتضاء ، بل يقول بالحرف الواحد : (طوبى لمن ذاق رشفة من تلك الخمرة التي شرب منها الحلاج وأبو يزيد فجعلتهما يتفوَّهان بما قالا من الكفر!!! ).
(2) اعتباره أنَّ قتل الحلاج كان ظلماً :
قال في قصيدته قمر السماء صفحة (149) من ديوانه المذكور:
التكاثر منه والإنتاج .
يتهافتون على الربا بضراوة وعلى .
إلى أن قال :
كما سفك الذين خلوا دم الحلاج .
سفكوا دماء الأبرياء ظلموا .
في هذا البيت لم يتورَّع البرعي أن يصف أهل العلم الذين أفتوا بكفر الحلاج ، وكذلك الحكام الذين طبقوا فيه حكم الله ، لم يتورَّع أن يصفهم بالظلم ، وفي نفس الوقت يثني على أهل الزندقة والكفر ، فدَّل هذا بما لا يدع مجالاً للشك أنَّه يؤمن بعقيدة الحلول والإتحاد .
(3) سؤاله الله أن يمُنَّ عليه بالإتحاد معه:
قوله في قصيدته الخضرا أم قزاز صفحه (271) :
عد ما حادي حدا في رقاد الوحدا .
له صلى الأحدا بها برعى اتحدا .
وقال في قصيدته من مكة سار ذهاب .
لي من أقام الحد وبدا ساسه بالأحد .
صلى سلم يا أحد البرعي اتحد .(1/9)
في هذه الأبيات يسأل البرعي الله - سبحانه وتعالى - أن يمُنَّ عليه بالاتحاد معه ، مما يدلّ على أنّه يعتقد أنَّ الله يَحلُّ في الصالحين ويتَّحد معهم فيصير بعدها الصالح كأنَّه هو الله له نفس صفات الإلهية، كما زعم ذلك النّصارى في أنّ الله حلَّ في المسيح واتّحد معه . فسبحانه وتعالى عن أماني المخرّفين ، وسؤال الجاهلين ، وزندقة الملحدين ، وهذا ليس بمُستغرب على الصوفية فإنّ أصحاب الطريقة الشاذلية لهم نفس الدعاء فمن أورادهم " وزج بي في بحار الأحادية وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحسّ إلا بها " من كتاب النفحة العلية في الأوراد الشاذلية (ص 16 ) .
الرد على البرعي وغيره من الصوفية القائلين بالحلول والإتحاد .
أولاً : هذه العقيدة كغيرها من العقائد تحتاج إلى دليل من الكتاب أو السُّنَّة صريح صحيح لأنه ما من عقيدة يجب على المسلم اعتقادها إلا ووضَّحها الله أتَّم وضوح في كتابه أو سُنَّة رسوله -(- حتى إنَّ أقلَّ النّاس فهماً وإدراكاً يستطيع فهمها وإدراكها بدون أيّ مشقَّة وتكون عنده من أكثر الأشياء وضوحاً لذلك من يعتقد أنَّ الله يحلُّ في عباده أو يتَّحد معهم فليأت بالدَّليل على هذا الاعتقاد ، وطلب الدليل ممنَّ يقول بهذا القول هو من باب تعجيزه ودحض باطله ، وإلا فإنَّه ليس لهذه العقيدة دليل من كتاب الله أو سُنَّة رسوله -(- بل إنَّ هذه العقيدة تنافي أشدَّ المنافاة كلام الله وكلام رسوله وهي عقيدة وثنية باطلة أخذها أهل التّصوُّف من ألهنادكه والنّصارى وغيرهم من المشركين .(1/10)
ثانياً : بيَّن - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم أنّ ذاته العلية لا تماثلها ذات على الإطلاق وكذلك صفاته لا تماثلها صفات وأنه - سبحانه وتعالى - ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال - سبحانه وتعالى - "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " (11) قال السَّعدي - رحمه الله - : (أي ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لأن أسماءه كلها حُسنى وصفاته صفات كمال ، وعظمته وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك فليس كمثله شيء لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه ). انتهى .
وقال ابن كثير : ( ليس كخالق الأزواج كلها شيء ؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ) انتهى .
وهذه الآية تعنى أنّه لم يكن مثله شيء فيما مضى ، ولن يكون مثله شيء في المستقبل ، كما أنه ليس هناك شيء مماثل له الآن . وهي تدلُّ دلالة واضحة على أنه لن يرقي شيء من الأشياء إلى مماثلة الله أبداً فمن قال إنّ الله يتَّحد مع الأولياء دلَّ قوله هذا على أن هناك أشياء مثل الله إن لم تكن مثله اليوم فسيأتي يوم وتكون مثله عندما يحلّ فيها الله أو يتّحد معها وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر . كمثال إذا قلنا إن الله لا يماثله شيء من الأشياء كعبد القادر والتجاني والبدوي وهذا هو الحق وهو يعني أن الله - سبحانه وتعالى - سيكون متَّصفاً بصفاته الأزلية العلية إلى الأبد التي لا يماثله فيها شيء ، وعبد القادر والتجاني والبدوي وغيرهم من الأشياء ستكون صفاتهم كصفات المخلوقين لا تماثل صفات الله إلى الأبد .(1/11)
فيأتي من يعتقد هذه العقيدة الباطلة ويقول لا إن عبد القادر ستكون صفاته كصفات الله يوماً ما لأن الله سيتّحد معه أو أنّ الله سيحلُّ فيه فتكون صفاته كصفات الله فهذا القول الباطل ينقض تمام النقض قوله -تعالى-:" ليس كمثله شيء " ولو كان ذلك كذلك لما قال - سبحانه وتعالى- ليس كمثله شيء فتبين أن قوله تعالى : ليس كمثله شيء ، أنه لن يماثله شيء قط سواء كان ملكاً أو رسولاً أو وليّاً ولن يتّحد جلَّ جلاله مع مخلوق من مخلوقاته أبداً .
ثالثاً : مما يدلّ على بطلان القول بأنَّ الله يتّحد بمخلوقاته أو يحلُّ فيها أن الله حكم بالكفر على من قال هذا القول ، لأن هذه العقيدة ليست حديثة على بني البشر ، بل اعتقدها بعضهم وصرّح بها وهي من أبطل العقائد واشدِّها كفراً .
ومن الذين قالوا بهذا القول النّصارى فإنهم قالوا إن الله حلّ في عيسى وأمّه فصارا إلاهين وأن الله اتّخذ عيسى ولداً أي اصطفاه وحلَّ فيه فصار له نفس صفات أبيه فحكم الله بكفرهم ، وأخبر أن هذه العقيدة تنافي الحق ، وأن فيها من الكذب ومن الإفتراء الشي العظيم ، وأن السماوات يَكدْن يتفطَّرن وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً من شدة شناعتها ، وشتمها الله قال - سبحانه وتعالى - في سورة مريم (تكاد السماوات يتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً (90) أنْ دَعَوْا للرحمن ولداً (91) وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً (92) إنْ كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً ( (93) .(1/12)
وقال - تعالى - في سورة المائدة : (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ واحد وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم( (73) . والنّصارى حكم الله بكفرهم مع أنهم خصَّصوا حلول الله في مخلوقاته واتّحاده معها بعيسى وأمِّه فكيف بمن قال إن الله يتّحد بكلّ من بلغ رتبة الولي ، فتبيَّن أن قول الصوفية أخبث وأشنع من قول النّصارى وأشدّ كفراً من كفرهم .
والمتصوِّفة الذين يقولون هذا القول قد يقولون إنّا لسنا كفاراً لأنا لا نقول الأولياء هم أبناء الله ، أو هم الله . وهذا الاعتراض ردُّهُ من وجهين :
الأول : أنّ النّصارى يقولون إن الله حلّ في عيسى وأمِّه كحلول الماء في الإناء وهم النسطوريّة من النّصارى . وبعضهم يقولون اتّحد معهما كاتحاد الماء واللبن وهو قول اليعقوبية من النّصارى ، والمتصوفة الحلولية الاتحادية يقولون كذلك إن الله يحلُّ في الصالحين كحلول الماء في الإناء وبعضهم يقولون إن الله يتَّحد مع الصالحين كاتّحاد الماء مع اللبن والخمر ، كما قال الحلاج: (مُزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال) . وقال عبيد الله أحرار النقشبندى :( إن العارف من فنيت ذاته وصفاته في ذاته تعالى فلم يبق له اسم ولا رسم ). فتبيَّن أن الصوفية القائلين بالحلول والإتحاد هم تماماً كالنّصارى القائلين بأن الله اتخذ ولداً أو أن الله ثالث ثلاثة . فدل هذا على أن حكمهم واحد ؛ لأنه من المعلوم أن التسمية لا تُغيِّر من الحقائق شيئاً .(1/13)
فمن شرب الخمر متعمِّداً وسمَّاها ماءً ما شرب في الحقيقة إلا خمراً وأقيم عليه الحدُّ وإن لم يعترف أنه شرب خمراً ، وكذلك من أخذ الرِّشوة وسمَّاها هدية لم يأخذ إلا رشوة ، وكذلك من أخذ الرِّبا وسمَّاه فائدة لم يُغيرِّ من الحقائق شيئاً ، بل الذي يُغيِّر اسم المُنكر باسم غيره للتغطية والتمويه هو أخطر وأخبث ممن يسمّى المنكر باسمه كما أخبر النبي - (- أن أمته في آخر الزمان تشرب الخمر يُسمُّونها بغير اسمها .
الثاني : أن المتصوِّفة القائلين بالحلول والاتحاد منهم من قال إنه هو الله ومع هذا يثني عليهم أتباعهم ومنهم البرعي ، فدل هذا على أن لهم نفس حكم النّصارى القائلين إن الله هو المسيح أو إن الله ثالث ثلاثة ، قال عبدالكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي وهو من كبار الصوفية في كتابه الإنسان الكامل :
جميع الورى اسم وذاتي مسماه لي الغيب والجبروت منى منشأه .
وإني رب للأنام وسيد لي الملك والملكوت نسجى وصنعتي .
وقال أبو يزيد البسطامي كما في كتاب النور من كلمات أبي طيفور ص (101) : " سبحاني سبحاني ما أعظم شأني حسبي من نفسي حسبي ".ويقول أيضاً (ص 79): ( سبحاني سبحاني أنا ربي الأعلى" .
وقال في صفحة (84) لمَّا دقَّ عليه رجل الباب قال له أبو يزيد: ( من تطلب ؟ قال أبا يزيد ، فقال له أبو يزيد : " مر ويحك فليس في الدار غير الله ".
وقال الحلاج : (ما في الجبَّة إلا الله ) فتبيَّن مِمَّا مضى أن الصوفية القائلين بأن الله يحلُّ في الأولياء ويتّحد معهم أشدّ كفراً من النّصارى واليهود .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى الكبرى (2/339): (الحلول والاتحاد أربعة أقسام ):(1/14)
الأول : هو الحلول الخاص : وهو قول النسطورية من النّصارى ونحوهم ممن يقول إن اللاهوت ( الله ) حلَّ في النَّاسوت ( العبد ) وتدرَّع به كحلول الماء في الإناء وهؤلاء حقَّقوا كفر النّصارى بسبب مخالطتهم للمسلمين وكان أوَّلهم في زمن المأمون وهو قول من وافق هؤلاء النّصارى من غالبية هذه الأمة كغالية الرافضة الذين يقولون إنه حلَّ بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته ، وغالية النُّسَّاك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية أو بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم وغيرهم.
والثاني : هو الاتحاد الخاص : وهو قول يعقوبية النّصارى وهم أخبث قولاً وهم للسودان والقبط ، يقولون : إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء وهو قول من وافق هؤلاء من غالبية المنتسبين إلى الإسلام ) انتهى .
رابعاً : والآن نستعرض جزءً يسيراً من حياة سيد ولد آدم نبيِّنا محمد - ( - لنرى هل كان الله متحداً معه :
روى الإمام البخاري - رحمه الله - (664) عن الأسود قال : "كُنّا عند عائشة - رضي الله عنها - فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها قالت ، لما مرض رسول الله -(- مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذّن فقال : مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالنّاس،فقيل له : إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يُصلِّى بالنّاس ،وعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة فقال : إنَّكنَّ صواحب يوسف مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالنّاس : فخرج أبو بكر يصلي فوجد النبي - ( - من نفسه خِفَّة فخرج يُهادي بين رجلين كأني أنظر رجليه يخطّان الأرض من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي - ( - أن مكانك ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه " .(1/15)
والشاهد من الحديث أن النبي - ( - لم يستطع أن يصلي من شدَّة المرض - ولم يستطع المشي على قدميه إلا بين رجلين ومع ذلك كانا يخطّان الأرض : فدلّ ضعفه الشديد في وقت مرضه على أن صفاته صفات البشر وليست صفات القوى المتين فدل هذا على أن الله لم يتَّحد معه ولم يحلّ فيه . وكذلك أداؤه الصلاة يدل على أنه عبد وليس برب ولو كان الله حالاًّ فيه أو مُتَّحداً معه لما صلَّى إذ كيف يصلي لله وهو الله .
وروى الإمام البخاري (3412) عن أبي هريرة :" لا تخيّروا بين الأنبياء فإن الناس يُصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشقُّ عنه الأرض".وروى الإمام مسلم(5940) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - ( - " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع " .
الشاهد من الحديث على بطلان عقيدة الحلول أن النبي - ( - أخبر أنه أول من ينشقّ عنه القبر ولو كان الله مُتَّحداً معه أوحالاً فيه لما قُبِر أصلاً فكونه موجوداً في الأرض إلى قيام الساعة ثم بعثه منها يوم القيامة يدل على أن قول الصوفية أن الله يحلُّ في الصالحين من الكذب البيِّن .
- وروى الإمام مسلم (480) في حديث الشفاعة الطويل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ( - قال " فيأتوني : أي الناس فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ، ثم يفتح الله عليَّ ويلهمني من محا مده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي . ثم قال : يا محمد ارفع رأسك سل تُعطه ، اشفع تُشفَّع فأرفع رأسى فأقول يا ربِّ أمتي أمتي ".(1/16)
والحديث من أوضح الأدلة على أن الله - سبحانه وتعالى - لم يحل في النبي - ( - ولم يتَّحد معه . فلو كان الله متّحداً مع النبي -(- لما أتى تحت العرش ووقع ساجداً لله ثم انتظر الإذن برفع رأسه والشفاعة .
وكذلك قول الناس للنبي -(- أنت رسول الله : ولم يقولوا له أنت الله ولم يقولوا له كذلك أنت الذي حلَّ الله فيك واتّحد معك . فلوكان هذا من فضائله التي أنعم الله بها عليه لذكروها له ووصفوه بها كما قالوا له أنت الذي غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر .
وفي قوله - تعالى- مخاطباً النبي -(- : " يا محمد إرفع رأسك : دليل عظيم كذلك على أنه - سبحانه وتعالى - لم يتّحد مع النبي -(- ولم يحلّ فيه وإلا لما خاطبه أصلاً إذ كيف يخاطب نفسه ويقول يا محمد إرفع رأسك".
فتبيّن من الأدلة الماضية أن خاتم الأنبياء والمرسلين لم يحلّ الله فيه ولم يتّحد معه . فدل هذا بما لا يدع مجالاً للشكِّ بطلان قول البرعي وأمثاله من المتصوفة أن الله يحلُّ في الصالحين ويتّحد معهم .
الباب الثاني
اعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يشاركون الله
في الحكم والأمر والتَّدبير
يعتقد البرعي كغيره من الصوفيين أن الأولياء الصالحين يتصرفون في الكون ، وينوبون عن الله في الحكم ، وتتنوَّع وظائفهم بحسب مراتبهم وقُربهم من الله ، وهذا كفر بالله وإشراك به ، أعظم من شرك المشركين الأوائل ، إذ إنه شرك في ربوبية الله وأسمائه وصفاته .
ذكر النصوص عن البرعي التي تدل على أنه يعتقد ما أشرنا إليه:
قال في ديوانه (رياض الجنة ونور الدجنة) يمدح العارفين بالله (ص 126):
نفعتم ولم يمكث على الأرض غيركم*وقدعمّ سكَّان السماوات خيركم
إلى أن قال :
فما زال مسبولاً على الناس ستركم وألهث عطشاناً وقد فاض بحركم وأنتم عيال الله والأمر أمركم تشاءون ما قد شاء لله دركم .(1/17)
ألا يا رجال الغيب أنتم حصوننا أيلحقني ضيم وأنتم حمايتي فحاشى وحاشى أن تضيع عيالكم إذا شئتم شاء الإله وأنكم .
في هذه الأبيات يدَّعي البرعي أموراً :(1) أن أولياء الله هم أهل الغيب،
أي الذين يعلمون الغيب.(2) أن سترهم ما زال مسبولاً على الناس. (3) أن الأمر هو أمرهم ، أي الأمر القدري الكوني. (4) أنَّ مشيئة الله تابعة لمشيئتهم.
وقال يمدح عبدالقادر الجيلاني ص( 107) :
أفاض على الأكوان كالبحر والسيل ويظهر شيئاً ليس يدرك بالعقل يكون له ستراً من النار والهول بأمر رسول الله يالها من رجل ويحكم بالإحسان و الحق والعدل .
هو القطب والغوث الكبير هو الذي وعند ظهور الحال يخطو على الهوى بأكفان من قد مات إن كتب اسمه وكل ولي عنقه تحت رجله ينوب عن المختار في حضرة العلا .
في هذه الأبيات ادَّعى البرعي أموراً منها: (1) أن عبدالقادر الجيلاني هو القطب والغوث ، وسنوضحِّ ماذا تعني هذه الكلمة عند المتصوِّفه .
(2) أن اسمه إذا كتب على كفن الميت لن تصيبه النار ، وهذا يدل على أن البرعي يعتقد أن لعبد القادر الجيلاني تصرُّفاً في الدنيا والآخرة ، فاسمه فقط إذا كتب على الكفن يمنع من النار سواءً كان الميت كافراً أو فاسقاً فاجراً ، فكيف إذا حضر عبد القادر بنفسه ، أو أمر بإخراج أحد من النار ، أو نهى عن تعذيبه .
(3) وأخطر ما في الأبيات وأشدّها كفراً ، اعتقاده أن عبد القادر الجيلاني ينوب عن المختار وهو الله ، في حضرة العلا في الملأ الأعلى ، ويحكم بالإحسان والحق والعدل ، أو ينوب عن النبي في الحضرة النبوية في تصريف أمور الكون ، كما يعتقد ذلك كثير من المتصوفة ، فيحكم بالإحسان والحق والعدل ، وسواءً كان المقصود بالمختار هو الله أو النبي ، فكِلا الإعتقادين كفر بالله ، إذ ليس للنبي تصرُّف ولا حكم في أمور الكون .
وقال في مدح التجاني (ص121) :
هو قطب الأولياء بعصره وممدهم بالسرِّ والإعلان
وقال في قصيدته مصر المؤمَّنة :(1/18)
والكتب الأربعة واقطابنا الأربعة في القبل الأربعة العشرة في أربعة .
ندعوك بالأربعة والفقهاء السبعة أوتاد الأرض الأبدال والنقبا .
وفي هذه القصيدة بدا جلياً أن البرعي يعتقد أن للأرض أوتاداً ، ويعتقد كذلك أن في الكون أقطاباً ، وأبدالاً ، ونقباء ، من الصالحين .
وأوردنا كل هذه الأبيات لنُبيِّن أنَّ البرعي يعتقد أن للكون أقطاباً ، وأوتاداً ، وأبد الاً ، ونقباء ، يتصرَّفون في الكون وهي عقيدة وثنية نصرها البرعي وصرَّح بها في مدائحه .
والآن نستعرض النصوص التي وضَّح فيها علماء الصوفية مراتب الأولياء :
قال الزنديق الأكبر ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية عند ذكره مرتبة القطب (3/244) : "فمنهم الأقطاب الأئمة ، ومنهم الأوتاد ، ومنهم الأبدال ، ومنهم النُّقباء ، ومنهم النُّجباء ، ومنهم الرجبيون ، ومنهم الأفراد ، وما فيهم طائفة إلا قد رأيت منهم ، وعاشرتهم ببلاد المغرب ، وببلاد الحجاز ".
وقال الهويجري في كشف المحجوب ص (447-448) متحدثاً عن هذه المراتب والألقاب : "هم أهل الحلِّ والعقد وقادة حضرة الحق جلَّ جلاله فثلاثمائة يدعون الأخيار ، وأربعون آخرون يُسمَّون الأبدال ، وسبعة آخرون يُقال لهم الأبرار ، وأربعون يُسمَّون الأوتاد ، وثلاثة آخرون يُقال لهم النُّقباء ، وواحد يُسمّى القطب ، والغوث ، وهؤلاء جميعاً يعرفون الآخر ، ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض ".
وقال لسان الدين الخطيب في "روضة التعريف بالحب الشريف (ص432) :
"خواص الله في أرضه ورحمة الله في بلاده على عباده : الأبدال والأقطاب والأوتاد والعرفاء والنُّجباء والنُّقباء وسيّدهم الغوث ".
ويلاحظ الإختلاف الكبير في عدد الرتب بين علماء الصوفية وهذا من أوضح الأدلة على أن هذه المراتب اخترعوها من عند أنفسهم لذلك اختلفوا فيها هذا الاختلاف البيِّن قال - تعالى - :" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ".(1/19)
والآن نأخذ بعض النصوص من علماء الصوفية لنرى ماذا تعني كلمة القطب التي يُكثر من ذكرها البرعي في أشعاره .
قال ابن عربي في الفتوحات المكيّة :
"الأقطاب جمع قطب ، وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في العالم ، ويقال له الغوث وهو على قلب اسرافيل ". وقال كما في كتاب اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر (2/82) : "واعلم أن لكل بلدة أو قرية أو أقليم قطباً غير الغوث ، به يحفظ الله -تعالى- تلك الجهة ، سواءً أكان أهلها مؤمنين أو كفاراً ، وكذلك القول في الزُهَّاد والعُبَّاد والمتوكلين وغيرهم ، لابُدَّ لكل صنف منهم من قطب يكون مدارهم عليه".
وقال أحمد التجاني في جواهر المعاني (2/80) :
"إنَّ حقيقة القطبانية هي الخلافة العُظمى عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة وتفصيلاً ، حيثما كان الرب إلاهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من له عليه ألوهية لله -تعالى-، فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً من كان من الحق إلا بحكم القطب ، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرَّه من ذرَّات الوجود ، فترى الكون أشباحاً لا حركة وإنما هو الروح القائم فيها جملة وتفصيلاً ، ثم تصرُّفه في مراتب الأولياء فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه ، فهو المتصرِّف في جميعها والممد لأربابها ، به يرحم الوجود وبه يبقى الوجود" .(1/20)
وهذا الكلام كفر صريح بالله ، إذ بيَّن فيه التجاني أن لله نائباً ينوب عنه في تصريف الأمور : وهذا افتراء على الله أوَّلاً ، واشراك به ثانياً ، وقد أقرَّ البرعي التجاني على قوله هذا ومدحه وأثنى عليه بل وصفه بأنه هو القطب المعْنِي في هذا الكلام ، فقال في مدحه "وهو قطب الأولياء بعصره وممدَّهم بالسرِّ والإعلان". وانظر إلى قول التجاني في تعريفه للقطب : "فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه فهو المتصرِّف في جميعها والُممِدُّ لأربابها ". وبيَّن قول البرعي: "هو قطب الأولياء بعصره وممدّهم بالسِّرِّ والإعلان " ترى التَّوافق الكبير بينهما في تعريف القطب . ( أتواصوا به بل هم قوم طاغون( .
الرَّدُّ على البرعي وغيره من المتصوِّفة في ادِّعائه أنّ للأرض أوتاداً من الصالحين وأقطاباً وغيرهم يُديرون الكون ويتصرَّفون فيه بالإنابة عن الله .
أولاً : كل اعتقاد يُنسب إلى الله تعالى يجب أن يكون مبنياً على دليل واضح وبرهان بيِّن من الله - سبحانه وتعالى - لذلك يُسْأل البرعي وكل من اعتقد وادَّعى أن الأولياء يتصرَّفون في الكون :ما هو دليلكم وبرهانكم على ما ادَّعيتم من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين؟ ولن يأتي البرعي وأتباعه وجميع المتصوِّفة ببرهان على هذا الاعتقاد ، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط .(1/21)
وسؤال البرعي وأتباعه عن دليلهم على هذا الاعتقاد هو من قبيل سؤال اليهود والنَّصارى عمّا هو الدليل على أن عيسى هو ابن الله ، أو عزير ابن الله ، أو سؤال المشركين ما هو الدليل على أن الملائكة بنات الله ، أو أن الله اتخذ شفعاء ووسطاء بينه وبين المشركين يقرِّبونهم إلى الله زُلفى . ليس لأهل الكتاب ولا للمشركين أي دليل من علم صحيح منقول عن الأنبياء والمرسلين ، وإنما هو الكذب والافتراء على الله وعلى رسله وأنبيائه، وكذلك هؤلاء ليس لهم دليل صحيح من الكتاب أوالسُنَّة على اعتقادهم هذا ، وإذا أجابوا بجواب فإنما هو الافتراء والكذب على الله ، كما يفتري اليهود والنصارى والمشركون الكذب على الله .
ثانياً : مما يوضِّح بطلان هذه العقيدة الوثنية الشركية التي تبنَّاها المتصوفة ومنهم البرعي أن الله - سبحانه وتعالى - بيَّن أنّ الأمر كله في هذا الكون له وحده لا شريك له ، وأن تدبير الأمر له وحده لا شريك له ليس لأحد سواه فيه نصيب ، سواءً كان ملكاً أو نبياً أو وليّاً ، والأمر الذي بيَّن - سبحانه وتعالى - أنه منفرد به يشمل الأمر الشرعي والأمر القدري الكوني ، فالأمر الشرعي يشمل جميع أحكام الشرع ، كفرض الصلاة والزَّكاة وغيرها من الأحكام الشرعية ، وهو ملك لله وحده فالله هو المُشرِّع وحده لا شريك له ، والأمر القدري الكوني يشمل كل أفعال الله من : الإحياء ، والإماته ، والإعزاز ، والإذلال ، والإغناء ، والإقناء، والإفقار ، والرزق وما إلى ذلك من الأمور ، فتبيَّن أن الله هو مالك جميع الأمور والمتصرِّف فيها وحده لأن الأمور جميعها لا تخرج عن كونها شرعية أو قدرية .
الأدلة على أن الأمر لله وحده :(1/22)
(1) قال - سبحانه وتعالى - في سورة الأعراف : (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين (54) (.
فبيَّن - سبحانه وتعالى - أن الشمس والقمر والنجوم جمعيها تسير بأمره وحده لا بأمر الغوث أو القطب كما زعم أهل الباطل وكما ادَّعى البرعي .
وقال - تعالى - في سورة هود : (ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( (123) . فبيَّن - سبحانه وتعالى - أن الأمر كله راجع إليه ، وقال - تعالى - في سورة الرعد : (ولو أنَّ قرآناً سُيِّرت به الجبال أو قُطِّعت به الأرض أو كُلِّم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحلُّ قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ( (31) .
قال ابن كثير " بل لله الأمر جميعاً " أي مرجع الأمور كلها إلى الله - عز وجل - : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، والبرعي يقول ما شاءه أولياؤه يشاؤه الله .
ثالثاً : مما يدل على بطلان عقيدة إشراك الله - سبحانه وتعالى - للأولياء الصالحين في الحكم قوله تعالى في سورة الكهف : (قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من وليٍّ ولا يُشرك في حكمه أحداً( (26) .(1/23)
فبيَّن -سبحانه وتعالى- أنه لا يشرك في حكمه أحداً كائناً من كان سواءً كان نبياً ، أو وليّاً ، أو ملكاً مُقرَّباً ، فالزَّعم الذي زعمه الصوفية أن الله هو الذي أشرك الأولياء في الحكم هذا القول هو افتراء على الله وكذب عليه ، نفاه الله في هذه الآية بقوله : (ولا يشرك في حكمه أحداً( "وأحداً" هي نكرة في سياق النفي فتعمُّ كل شيء . وحكم الله يشمل حكمه الشرعي وحكمه القدري الكوني ، والذي ادَّعاه الصوفية أن الله يشرك في حكمه القدري الكوني الأولياء الصالحين ، فيُحيون ويرزقون ويُعزُّون ويُذلُّون وما إلى ذلك من الأمور ، فدلت هذه الآية القرآنية المحكمة على أنهم مفترون في ادِّعائهم هذا الكذب على الله ، تماماً كما افترى المشركون من قبلهم الكذب على الله ، حينما قالوا إن الله اتخذ آلهتهم شفعاء عنده ووسطاء بينه وبين خلقه ، وأجاز عبادتهم ودعاءهم ، والاستغاثة بهم ، فنسبوا ذلك إلى الله فردَّ الله عليهم بقوله : ( قل أتنبِّئون الله بمالا يعلم في السماوات ولا في الأرض( فبيَّن - سبحانه وتعالى - أنه لا يعلم أنه اتخذ شفعاء على هذا النحو الذي زعمه المشركون وما لا يعلمه الله فهو غير موجود . وقوله تعالى : (ولا يشرك في حكمه أحداً( ردٌّ على المتصوفة في قولهم إنَّ الله أشرك الصالحين في حكمه وأمره قال ابن كثير : ( وقوله (ما لهم من دونه من وليٍّ ولا يشرك في حكمه أحداً ( أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدَّس ) إنتهى.
وقال السَّعدي - رحمه الله -في قوله تعالى: (ولا يشرك في حكمه أحداً ( : " وهذا يشمل الحكم الكوني القدري ، والحكم الشرعي الديني ، فإنه الحاكم في خلقه قضاءً ، وقدراً ، وخلقاً ، وتدبيراً ، والحاكم فيهم بأمره ، ونهيه ، وثوابه وعقابه " انتهى .(1/24)
وقوله -تعالى- : (ولا يشرك في حكمه أحداً ( مع أنه أوضح من الشمس في نفيه لاشتراك أحد مع الله في الحكم ، إلا أنَّ أهل الباطل يخالفونه تمام المخالفة ، بل البرعي يقول بالحرف الواحد في مدحه للتجاني: "ينوب عن المختار في حضرة العلاء ويحكم بالإحسان والحق والعدل " فاستعمل كما نبَّهناك سابقاً نفس اللفظ الذي نفاه الله عما سواه وهو الحكم وأثبته لأوليائه فقال عن التجاني "ويحكم بالإحسان والحق والعدل " فجعل التجاني نائباً لله في الحكم -تعالى ربنا- وتقدَّس أن يكون له نائباً أو مشاركاً في الحكم .
(2) كذلك نفي الله - سبحانه وتعالى - في سورة سبأ اتخاذه نوَّاباً ومساعدين وخلفاء في حكمه قال - سبحانه وتعالى - :(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير (22) ، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير( (23) .
فقوله تعالى : (وما له منهم من ظهير ( يدل على أنه -سبحانه- لم يتخذ من الأولياء الصالحين عوناً ولا نائباً ولا مستشاراً . قال ابن كثير: "بين تبارك وتعالى أنه إلاله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا نظير له ولا شريك له ، بل هو المستقلُّ بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض وقوله ( وما لهم فيهما من شرك ( أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة ( وماله منهم من ظهير( أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه قال قتادة في قوله -عز وجل - (وماله منهم من ظهير ( :"من عون يعينه". وقال السعدي : " أي معاون ووزير يعاونه على المُلك والتدبير" .(1/25)
فبدا جلياً أن الله لم يتخذ من الأولياء الصالحين والأنبياء المرسلين والملائكة المُقرَّبين مساعدين ، أو معينين ، بل وضّح أنه لا يشاركه منهم أحد في الملك والحكم ، وهو كذلك لا يشرك منهم أحداً تفضُّلاً من عنده وتكرُّماً ، والمتصوِّفة يقولون إنه أشركهم في حكمه ، وأتوا بأسماء وهمية لا حقيقة لها ورِثوها من ابن عربي الزِّنديق الأكبر والشيخ النَّجس كما حكم عليه بذلك علماء الإسلام ، فمن نُصدِّق ؟ من أصدق قيلاً ، أم من أكذب حديثاً ؟!!
رابعاً : ومما يدل كذلك على أنّ الأولياء الصالحين لم يُملِّكهم الله من الأمر شيئاً ولم يُشركهم في حكمه بيانه - سبحانه وتعالى - أن أفضل الخلق وإمام المتَّقين لا يملك من الأمر شيئاً ولو مثقال ذرة ، فإذا ثبت أن النبي - ( - لم يُملِّكه الله شيئاً من الأمر دلَّ بطريق الأولى أن غيره لم يُملّكه الله شيئاً من الأمر .
قال - سبحانه وتعالى - في سورة آل عمران مخاطباً النبي -(-: ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذِّبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ( (129) .
وقوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء ( أي ليس لك منه شيء سواءً كان صغيراً أو كبيراً في الدنيا أو الآخرة في حياتك أو بعد موتك .(1/26)
قال ابن كثير في تفسيره :" ثم اعترض جلَّ جلاله بجملة دلَّت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال -تعالى-: ( ليس لك من الأمر شيء ( أي بل الأمر كله إليّ كما قال -تعالى-:( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ( ، وقال : (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ( ، وقال : ( إنَّك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء ( - ثم قال - وقال البخاري حدَّثنا حبان بن موسى أنبأنا عبد الله أنبأنا مَعْمَر عن الزهري ، حدّثني سالم ، عن أبيه " أنه سمع رسول الله -(- يقول إذا رَفَع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر : اللهم العن فلاناً وفلاناً ، بعدما يقول سمع الله لمن حمده ، ربَّنا ولك الحمد ، فأنزل الله -تعالى- :(ليس لك من الأمر شيء ( الآية". وهكذا رواه النَّسائي من حديث عبد الله بن المبارك . وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو عقيل - قال أحمد : وهو عبدالله بن عقيل صالح الحديث ثقة - حدثنا عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله -(- يقول : "اللهم العن فلاناً وفلاناً ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت هذه الآية (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم ( فتيب عليهم كلهم". وقال أحمد حدثنا معاوية العلائي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن عبد الله " أن رسول الله -(- كان يدعو على أربعة ، قال : فأنزل الله ( ليس لك من الأمر شيء( إلى آخر الآية ، قال وهداهم الله للإسلام" انتهى كلامه" .
ووجه الدلالة من الآية والأحاديث أن الله بيَّن بياناً واضحاً كالشمس أن النبي - ( - لا يملك من الأمر شيء وأنه - سبحانه وتعالى - لم يُملِّكه منه ولو مثقال ذرة .(1/27)
خامساً : مما يدل على بطلان عقيدة الأغواث والأقطاب والأوتاد الوثنية الشركية أن الله -سبحانه وتعالى - أخبر أن جميع الأولياء ، والأنبياء ، والملائكة وغيرهم من أهل الأرض والسماء لو كانوا مجتمعين وسلبهم الذباب شيئاً ما استطاعوا أن يستنقذوه منه ، فكيف يكون لأحد منهم تدبير أمور الكون بأجمعه أو جزء منه .
قال -سبحانه وتعالى - في سورة الحج : (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطَّالب والمطلوب (73) ما قدروا الله حقَّ قدره إنَّ الله لقوي عزيز ( (84) .
فقوله - سبحانه وتعالى - (إن الذين تدعون من دون الله( تشمل كل من هو دون الله ومن المعلوم أن الأنبياء والأولياء والملائكة هم دون الله ، ومن قال إ نهم ليسوا دون الله كفر بالله العظيم ، ومما يدل على أن قوله - سبحانه وتعالى - من دونه يشمل الأحياء ، قوله -تعالى- في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً " ومن أظلم مِمَّن ذهب يَخلق كَخَلْقِي ، فليخلقوا مثل خلقي ذرّة أو ذبابةً أو حبّةً ". وأخرجه البخاري ومسلم من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي - ( - قال : " قال الله - عزَّ وجلَّ - ومن أظلم مِمَّن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرّة فليخلقوا شعيرةً ". وفي هذا الحديث تحدّى الله المصوِّرين الّذين يُصوِّرون الصُّور أن يخلقوا ذبابة ، وهم بلا شك من الأحياء فدل هذا على أن قوله -سبحانه وتعالى - (إن الذين تدعون من دون الله ( يشمل كل من دُعي من دون الله سواء كان حيًّا أو ميِّتاً ، نبياً أو ولياً أو مَلكاً .(1/28)
ومع كل هذا العجز الذي وصف الله به من هو دونه ، إلا أن المتصوِّفة يُكذِّبون كلام الله ، ويخالفونه أشدَّ المخالفة ، فمن قال إن الله سبحانه وتعالى أعطى الأولياء الصالحين القدرة على أن يستنقذوا ما سلبه الذباب منهم كان مُكذِّباً لله ، فكيف من ادَّعى أن الله أعطاهم القدرة على تدبير أمور الكون ، وجميع النّاس في البرِّ ، والبحر، والجوِّ ، وجميع المخلوقات - فسبحانك - هذا بهتان عظيم .
سادساً : ثبت بالأدلة الواضحة أن النبي - ( - هو أفضل الخلق على الإطلاق ، وأحبُّ النّاس إلى ربِّ العالمين ، فإنْ كان هناك إنسان في هذه الأمة يستحق أن ينال درجة الغوث الأكبر أو القطب الأعظم الموجودة في خيال المتصوفة ، والشيعة لكان النبي - ( - أحقّ الناس بها، ولن أستعرض حياته فإن حياته كلها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا ضراً ، فضلاً أن يملكه لغيره ، ولكن أُورد حديثاً واحداً لأبُيِّن أنّ النبي - ( - لم يكن في إمكانه أن يدبِّر أمور نفسه، فضلاً أن يدبِّر أمور الكون .
روى الإمام مسلم (1420) عن علي - رضي الله عنه - قال : " لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله - ( - : ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً ، كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ".(1/29)
الشاهد أن النبي - ( - شغله الكفار يوم الأحزاب فما استطاع من شغلهم له أن يؤدّي ما فرضه الله عليه من صلاة العصر حتى غابت الشمس ، فلو كان النبي - ( - لا يشغله شيء عن شيء ، وأمْر عن أمْر، لصلّى العصر في وقتها ، ولَمَا أخَّرها حتى غربت الشمس ، فدل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أحياناً القيام بأمر ما أو تدبيره إذا اشتغل بأمر آخر ، مما يبيِّن أنه لا يملك من الأمر ولو مثقال ذرة : فإذا كان خاتم الأنبياء لا يستطيع تدبير أمرين في نفس الوقت إذا اشتغل بأحدهما ، فهل يظن البرعي أن التجاني أو عبد القادر الجيلاني أو غيرهما من الأولياء يستطيع أحدهم أن يدبِّر الكون كله ولا يشغله شيء عن شيء ،- فسبحانك- هذا بهتان عظيم - أما علم البرعي أنه يولد في الصين فقط في اليوم الواحد ما يزيد على المائة ألف طفل وأن البشر بلغ عددهم ما يزيد على ستة آلاف مليون ، فهل كل هؤلاء تحت رعاية غوثه الأعظم وقطبه الأكبر الذي يأكل الطعام ، ويبول ، ويتغوَّط ، وهو الآن مدفون تحت التراب ، سبحان الله وتعالى عن شرك المشركين وانتحال المبطلين .
سابعاً : سؤال يُوَجَّه إلى البرعي:هل الغوث الأكبر هو عبد القادر الجيلاني ، أم هو أحمد التجاني ، أم هو الرفاعي ؟ لأن اتباع عبدالقادر الجيلاني لا يعترفون ولو قطعوا أن التجاني أفضل من عبدالقادر الجيلاني ، وكذلك الرفاعية لا يتفوَّهون بكلمة واحدة تدل على أن هناك وليّاً من الأولياء أفضل من أحمد الرفاعي ، فكل طريقة صوفية تدَّعي أنّ شيخها هو الغوث الأعظم ، والقطب الأكبر المزعوم . إذا علمت هذا تبيَّن لك أنَّ المسألة ما هي إلا ادِّعاء خالٍ من الدليل وأنها ظنون القوم ، وأمانيهم التي أضلَّتهم ( تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( ، (إن يتَّبعون إلا الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً( .
الباب الثالث(1/30)
بيان شرك البرعي وتفانيه في الدعوة إليه وحثه النَّاس للإشراك بالله عند الشدائد والكروب .
…اعلم رحمك الله تعالى أن البرعي يرى أن إشراك الصالحين مع الله في الدعاء والإستغاثة لا حرج فيه بل هو مستحب ، فهو وكثير من المتصوفة يتقرَّبون إلى الله بالشرك ويرونه من الأدب والتَّعظيم لله ، تماماً كما كان يظن مشركو مكة فإنهم كانوا يدعون الصالحين كاللات وغيره ويظنّون أنّ ذلك الفعل من الأمور التي تقرِّبهم إلى الله ، قال - تعالى- مبيِّناً حالهم في سورة الزمر : (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى إنَّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إنَّ الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفّار( (3) .
بل إن البرعي يأمر الناس إذا حلَّت بهم مصيبة أن يلجأوا إلى أصحاب القبور ويستغيثوا بهم ، قال مستغيثاً بالنبي - ( - في قصيدته شددت رحال عزمي :
على نجب الرجا نحو الكريم أب الضعفاء كفّال اليتيم الوادي في الليل البهيم .
مريض الجسم ذو قلب سقيم ولا هضماً أيا عبد الرحيم .
شددت رحال عزمى يا نديمي رسول الله مصباح البرايا أتيت إليه من فج عميق أجوب إلى أن قال :
أغثني يا رسول الله إني وقل لا تخش مهما عشت ضيما .
في هذه الأبيات يُصرِّح البرعي بإستغاثته بالرسول - ( - ويشركه مع الله في الدعاء والإستغاثه وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخرج صاحبه من المِلَّة ؛ لأنّ الله - سبحانه وتعالى - نَهى عن دعاء غيره فقال جلَّ وعلا : (وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً (، وبيَّن -سبحانه وتعالى- أنه لا أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجب له إلى يوم القيامة قال- تعالى - في سورة الأحقاف : (ومن أضلّ ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5) وإذا حُشِر النّاس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين( (6) .
وقال في قصيدته سعادة الروح (ص 40 ) :(1/31)
وجوهنا نحوه كلاً نوليها نفساً تتوق إلى أعلى أمانيها .
يا سيِّدي يا رسول المستعان ومن انظر لعبد الرحيم البرعي إن له .
وقال مستغيثاً أيضاً بالنبي - ( - في قصيدته لجأت إلى باب الرسول صفحة (23) :
و ورى كاف الأمر عنى ونونه وأغلق باب الوصل دونى ودونه هدى ومن كان حياً بالضريح سكونه .
وقد تاه في البيدا وأنت ضمينة بها يلزم التقوى ويقوى يقينه ليطهر من رجس الطباع مهينه يهون كساه ملحه وعجينه .
يضيق لها صدر الحليم المصابر وأنت ملاذي يوم تبلى سرائرى وركن ومفتاح لعين البصائر وأنت دليل قد هدى كل حائر .
إذا ما طفى ماء الزمان ونونه وأعرض عنّى من أحبّ لقاءه لجأت إلى باب الرسول الذي إلى أن قال :
عبيدك يا مختار ناداك حائراً له فيك حب هل له منك نظرة وجمّله بالأنوار قلباً وقالباً تكفَّلْ عليك الله صلى برزقه
.
وقال في قصيدته مهبط الوحي ص (19):
إليك رسول الله أشكو مصائباً فأنت رجائي في الخطوب وعمدتي وأنت لنا غوث وعون وملجاء وأنت لمرضانا شفاء ورحمة .
ولم يكتف البرعي بالإستغاثة بالنبي -(- التي هي من أعظم الكفر ، بل أخذ يستغيث بأوليائه ويشركهم مع الله في الدعاء قال في قصيدته دعني أصاحب سادتي (ص 144) :
دوماً على رغم الحسود الواشي بركاتهم وأنا لديهم خاشي إلا وعنى ذاهب متلاشي هم ملجائي في كُلِّ خطيب فاش هم مورد يروى لكل عطاش .
دعني أصاحب سادتي و أماشي وأزورهم في كل حين طالباً ما مسني سوء وجئت رحابهم هم عدتي عند الشدائد كلها هم موئلي عند الكروب ونصرتي .
ليس هذا فحسب بل أمر الناس إن نابهم خطب أن يستغيثوا بولي الله إسماعيل ، قال في مدح إسماعيل بن عبد الله الولي ( ص 119) :
قل يا وليَّ الله إسماعيل قد خصَّه من ربه التبجيل .
إن ناب خطب في الزمان نزيل قطب الوصال الكردفاني الذي .(1/32)
وهذا من أعظم المحاداة لله والإشراك به لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنه هو وحده الذي يجيب دعوة المُضطر قال - سبحانه وتعالى - في سورة النمل : (أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السّوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكَّرون( (62) .
قال ابن كثير في قوله تعالى ( أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ( : " أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضُرَّ المضرورين سواه" انتهى.
بل إنّ هذا الشرك الذي وقع فيه البرعي وأمر به ودعى إليه ، ما كان يفعله مشركو مكة ؛ لأنهم كانوا إذا أصابتهم شِدَّة لجاءوا إلى الله وحده ونسوا كل ما سواه.قال - تعالى - مبيِّناً حالهم عند الشَّدائد في سورة الأنعام ( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ((41) .
وقال - تعالى - في سورة الإسراء : (وإذا مسَّكم الضُّرُّ في البحر ضلَّ من تدعون إلاّ إياه فلمَّا نجَّاكم إلى البرِّ أعرضتم وكان الإنسان كفوراً( (61) . فإذا علمت أن مشركي مكة كانوا لا يلجاؤن في الشدائد إلا إلى الله ، تبيَّن لك أن شرك عبدالرحيم البرعي أعظم من شركهم واشدّ ، وأن البرعي من أكثر الناس وأعظمهم محاربة لتوحيد رب العالمين ومعاداة له ، وأن أساس دعوته ولُبُّها هو الإشراك بالله وهدم التوحيد والدين الصحيح نسأل الله العافية .
الباب الرابع
إعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يرون النبي -(- جهرةً بعد موته ويجلسون معه ويُحدِّثهم ويُحدِّثونه
يعتقد البرعي كغيره من أهل التّصوُّف أنَّ الأولياء الصالحين يجالسون النبي - ( - بعد موته ويتلقَّون عنه الأوامر والنواهي والأوراد، ويمنحهم حق التَّصرُّف في الكون ، ويُحدِّد لكلٍّ رتبته ومقامه ، وكذلك يخصُّهم بالعلوم العظيمة التي لا يخصُّ بها غيرهم .
قال في مدح أحمد الطيب بن البشير ص (111) :(1/33)
وقال إبراهيم أبي له أب فنال بها علماً عن الغير يحجب إلى ذاته من كمل القوام أقرب .
تبناه خير المرسلين بحضرة وقد تفل المختار في فيه تفلة ولم يحتجب عنه الرسول لأنه .
وقال يمدهه في قصيدة أخرى متحدِّثاً عن كراماته :
منها رؤياه للمصطفى أحمد …جهراً عياناً قولاً صحيح بأكد
وقال في قصيدته أهل الطريق (ص 138) :
ورووا حديثاً صحَّ عن مختارهم من غير واسطة البخاري ومسلم
مما يدل على أن النبي - ( - يجالسهم ويقابلونه حقيقة على حدِّ زعمه .
وهذا الذي يعتقده البرعي هو اعتقاد كثير من المتصوفة : قال محمد سعد الرباطابي في كتابه شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية ص (25) مُكذِّباً ومفترياً على الله ورسوله :" ( وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله - ( - لسيّدنا الشيخ - رضي الله عنه - يقظة لا مناماً ، فمن فضلها أنَّ المرَّة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية ، وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يُحبّه النبي - ( - ، وأن النبي - ( - والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذَّاكر عند السابعة منها ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها ".
هذا هو اعتقاد المتصوِّفة في النبي - ( - وغيره من الصالحين . وكذبهم وضلالهم في هذا الباب أوضح من الشمس في رابعة النهار .
ونُورد الرَّدَّ عليهم فيما يلي :
1- أولاً : من الأشياء المجمع عليها بين أهل الحق أن الأموات لا يُبعثون إلا يوم القيامة بعد النَّفخة التي وضَّحها جلّ جلاله بقوله : (ونُفخ في الصُّور فصَعِقَ من في السّماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نُفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون( ، فمن زعم أنّ الموتى يقومون من قبورهم قبل هذه النَّفخة فقد كَذَّب الله .(1/34)
وقال - سبحانه وتعالى - في سورة المؤمنون : (ثم إنَّكم بعد ذلك لميِّتون (15) ثُمّ إنَّكم يوم القيامة تُبعثون( (16) . فبيَّن - سبحانه وتعالى - أنَّ الموتى لا يُبعثون إلا يوم القيامة : فتبيَّن أنّ قول الصوفية أن الأولياء يُجالسون النبي - ( - ويرونه جَهرةً ما هو إلا كذب مُفْتَرى وادِّعاء باطل.
و مما يدل على أن البعث يكون يوم القيامة ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله -(- قال: " إن أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيُقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " ورواه البخاري برقم (1379)، ومسلم برقم (2871) ، وأبو داود برقم (475) ،فدلّ الحديث على أن الصالحين وغيرهم لا يُبعثون من قبورهم إلا يوم القيامة .
ثانياً : ثبت بالأدلة الثابتة من الكتاب والسُّنَّة وإجماع المسلمين أن النبي - ( - قد مات ومنها قوله - تعالى-: ( إنَّك ميِّت وإنهم ميِّتون( (30) الزمر .(1/35)
وقال - سبحانه وتعالى - : في سورة آل عمران : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإيْن مات أوقُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشَّاكرين( (144) . وما رواه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - (1241)، أن أبا بكر قال في الجمع العظيم يوم وفاة النبي - ( - : " أمّا بعد فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً - ( - قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيّ لا يموت ". والبرعي وغيره من المتصوفة إذا سألتهم أين النبي - ( - قالوا لك مدفون في قبره بالمدينة النبوية . وهذا ما أجمع عليه المسلمون قاطبة أن النبي - ( - مات ودُفن في بيته بالمدينة النبوية وهذا أيضاً ثابت في كتب التاريخ والسيرة والحديث . فلا مجال لأحد أن يدَّعي أنّه عليه الصلاة والسلام حيٌّ كما يزعم ذلك أصحاب الضَّلال البعيد والهوى المُتَّبع .(1/36)
ثالثاً : مما يدل على أن النبي - ( - لا يرجع إلى الدنيا بعد موته ما بيَّنه عليه الصلاة والسلام أن الأرض تنشقّ عنه يوم القيامة في الحديث الذي رواه البخاري (3412) : "لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه يُنفخ في الصور فيُصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم يُنفخ فيه أُخرى فأكون أوّل من يُبعث فإذا موسى آخذ بالعرش ، فلا أدرى أحُوسِب بصعقته يوم الطُّور أم بُعث قبلي ". وما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة:قال قال رسول الله -(- : " أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وأوّل من ينشقّ عنه القبر ، وأوّل شافعٍ ، وأوّل مُشفَّع ".فبيَّن النبي- ( - أنّ القبر لا ينشقّ عنه إلا يوم القيامة وأنه لا يُبعث إلا بنفخة الصُّور يوم القيامة .ومع ذلك يدَّعي البرعي وغيره من المتصوفة أن شيوخهم يقابلون النبي - ( - ويرونه يقظةً لا مناماً . ومما يدل على أن الأرواح لا تُرجع إلى الجسد كما كانت قبل الموت ما رواه الإمام مالك في الموطأ أنّ كعب ابن مالك كان يُحَدِّث أن رسول الله - ( - قال : " إنّ نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ".(1/37)
رابعاً : ومما يدل كذلك على أن حياة البرزخ التي يعيشها الأموات والشهداء لا تُمكِّن الأموات من الرجوع إلى الدنيا ما رواه الإمام مسلم (4885) عن مسروق قال : " سألنا عبد الله [ هو ابن مسعود] عن هذه الآية : (ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون( [آل عمران : (169) : قال أمّا إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلّقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطّلع إليهم ربهم إطّلاعةً فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أيّ شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟! ففعل ذلك بهم ثلاثة مرّات فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب نريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرَّة أُخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا ".(1/38)
و أرود ابن كثير حديثاً في تفسير قوله تعالى : (ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً ( قال : قال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا هارون بن سليمان أنباءنا علي بن عبدالله المدني أنباءنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن شبير بن الفاكة الأنصاري ، سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمت الأنصاري قال سمعت جابر بن عبدالله قال : " نظر إليّ رسول الله - ( - ذات يوم فقال : يا جابر مالي أراك مُهتمّاً ؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك دَيْناً وعيالاً، قال : فقال : " ألا أخبرك ما كلَّم الله أحدً قطُّ إلا من وراء حجاب وإنه كلَّم أباك كِفاحاً - قال علي : والكفاح المواجهة - قال : سَلْني أُعطك ، قال : أسألك أنْ أُردّ إلى الدّنيا فأُقتل فيك ثانيةً . فقال الرَّبُّ - عزَّ وجلَّ - : إنَّه قد سبق مِنِّي القول : إنهم إليها لا يرجعون .قال : أيْ ربِّ فأبلغ مَن ورائي ، فأنزل الله (ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً ( وفي رواية للإمام أحمد " إني قضيت إنهم لا يرجعون ".
والشّاهد : أن الله - سبحانه وتعالى - أخبر أن الشهداء أحياء بعد موتهم ، ولكن هذه الحياة برزخية لا علاقة لها بالحياة الدنيا دل على ذلك قول الشّهداء يا ربَّنا نُريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرّة أُخرى ، وقولهم هذا "نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا " أي نريد أن تردّها إلى أجسادنا كما كُنا قبل الموت ، وإلا فإن أرواحهم مرتبطة بأجسادهم في قبورهم ارتباطاً برزخياً . فدل هذا على أن الموتى لا يرجعون إلى الدنيا ، لماذا ؛ لأنّ الله قضى ووعد أنهم إليها لا يرجعون .(1/39)
دل الحديث كذلك على أن الموتى لا يرجعون إلى الدنيا وإن كانوا شهداء وإن طلب منهم الله أن يسألوه ما يريدون ، فإنهم لو طلبوا الرجوع إلى الدنيا لما أرجعهم إليها كما هو ظاهر جداً من الأحاديث المتقدمة ، بل وإن كان قصدهم من الرجوع إلى الدنيا الجهاد في سبيل الله.
دل الحديث كذلك على أن الحياة التي يحياها الشهداء وغيرهم في البرزخ لا تُمكِّنهم أبداً من الرجوع إلى الدنيا .
خامساً : مما يدل على أن النبي - ( - لم يرجع إلى الدنيا بعد موته ولن يرجع ما رواه البخاري (6576) عن المغيرة قال : سمعت أبا وائل عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - ( - قال :" أَنَا فرطكم على الحوض وليرفعنّ رجال منكم ثمّ ليختلجنّ دوني فأقول : يا رب أصحابي ، فيُقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
وفي رواية (6585) : " فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى ". وفي رواية لمسلم (5969) : " فأقول : سُحقاً سُحقاً لمن بدَّل بعدي ".
وروى البخاري (3349) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - ( - قال : " إنكم تُحشرون حُفاة عُراة غُرْلاً - ثم قرأ - (كما بدأنا أوّل خلق نُعيده وعداً علينا إنا كُنّا فاعلين (الأنبياء(1040)، وأوّل من يُكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام فيُقال : إنهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذ فارقتهم .فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيداً ما دُمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم ( المائدة (117-118) .
والشاهد من الحديث أن النبي - ( - قِيل له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فلم يعترض على هذا الكلام ، بل قال : بُعداً لمن غيَّر بعدي . واعتذر بقوله ( وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرَّقيب عليهم ( فدل هذا بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن النبي - ( - بعد أن فارق بموته أصحابه لم يرجع إلى هذه الدنيا لذلك انتهت شهادته على أمته .(1/40)
ولو كان النبي - ( - يخرج من قبره قبل يوم القيامة أو يُفتح له من البرزخ ويزور الدنيا وأهلها وينظر إليهم لعلم أن زمرة من أصحابه ارتدّوا من بعده ،فدل الحديث على أن النبي - ( - محجوز في البرزخ وروحه في الرَّفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين مُنعَّمة في الجنّة ولو كان يعلم ما يدور في الدنيا من أحوال أُمَّته لأصابه الكَرْب والحَزَن الذي أخبر أنه لن يصيبه بعد موته عندما قالت فاطمة رضي الله عنها :"وا كرب أبتاه" ، فقال لها : " ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم" ، ولو كان يعلم ما يدور في الدنيا من أحوال أُمَّته لما قيل له : " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
سادساً : من المعلوم أن الصُّحْبة قد انتهت بموت النبي - ( - فمن قال بهذا القول يستلزم ذلك أن تكون الصحبة مستمرة إلى يوم القيامة وهذا من أبطل الباطل ، لما روى مسلم عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم -فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال : - ثمّ يتخلّف من بعدهم خَلْف تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " .
سابعاً : روى الإمام مسلم (1917) قول الشهداء : " اللهم بلِّغ نبينّا عنَّا أنَّا لقيناك فرضيت عنَّا ورضينا عنك " ، فإذا كان النبي - ( - الذي هو أفضل البشر على الإطلاق ما كان يجالس أصحابه بعد الموت ولم يكن يخاطبهم ، بل كان يُوحي الله إليه ما قالوه عن طريق الوحي وهذا واضح من قول الشهداء " اللهم بلّغ نبيّنا عنّا " أفيَظنّ المتصوفة أن شيوخهم يجالسون من يريدون من الموتى .
الباب الخامس
بيان اعتقاد البرعي أنَّ شيخه بعد موته يحضرعند قبض روح مريده ويُلقِّنه الحُجَّة ويكون كذلك حاضراً عندما يسأله الملكان ويُلقِّنه كذلك الحُجَّة ويُؤانسه في قبره ويُدخله الجنَّة .
الأدلة من شعر البرعي التي تُبيِّن أنّه يعتقد ما أشرنا إليه:(1/41)
قال يمدح أحمد الطيب بن البشير في قصيدة يا نفسي أمرحي :
ذاكر مولاه الواحد الكبير للحجة يلقن بأحسن التعبير في جنان الخلد شاهد مولاه الكبير .
فهو الغوث الكبير اللقيمان خبير يحضر مريده في النزع والقبير وله يؤانس في الوحدة والشبير .
في هذه الأبيات يدّعى البرعي أن شيخه يحضر مريده في النَّزع ، أي عند نزع روحه ، وكذلك في القبير والقبير تصغير للقبر، ويُلقِّنه الحُجَّة ويؤانسه في الوحدة ، والشبير وهو اللحد ثم يدخل المريد جنان الخُلد . وهذه العقيدة الباطلة التي يعتقدها البرعي هي عقيدة إخوانه من المتصوفة . قال السيد إبراهيم الأعزب في قلادة الجواهر (ص 193) :
"حضرت في بعض الأيام عند السيد أحمد الرفاعي قال : أي فقراء الشيخ عثمان السالم آبادي قدّس سرّه يصعد كل يوم عند غروب الشمس إلى ديوان الربوبية وينظر ديوان ذريته فما يجد من سيئة يمحها ويكتب عوضها بلا معارضه . قال السيد إبراهيم الأعزب : فأخذتني الغيرة من ذلك ، فالتفتَ إليَّ السيد أحمد الرفاعي وقال : أي إبراهيم ، لا يكون الرجل ممكناً في سائر أحواله حتى يعرض عليه عند غروب الشمس جميع أعمال أصحابه وأتباعه وتلامذته بالقرب والبعد فيمحو منها ما يشاء ويثبت فيها ما يشاء بكرم الله ولطفه ، أي إبراهيم لا يكون الشيخ شيخاً كاملاً في سائر أموره وأحواله وأقواله وأفعاله ولا يصح له الجلوس في المخدّة حتى يحضر عند تليمذه في أربعة مواضع عند : خروج روحه من جسده ، وعند مسألة منكر ونكير له ، وعند جوازه على الصراط ، والميزان .
وهذه المواضع الاربعة التي ذكرها أحمد الرفاعي للولي الكامل هي التي أثبتها البرعي لشيخه بقوله :
يحضر مريده في النزع والقبير للحجة يلقن بأحسن التعبير.
وله يؤانس في الوحده والشبير في جنان الخلد شاهد مولاه الكبير
وهذا القول قاله البرعي بعد وفاة شيخه بأكثر من مائة وخمسين سنة وفيه من الكفر الصريح الآتي :(1/42)
1- يدل على أنه يعتقد أن لشيخه المقدرة على التصرف حتى بعد موته.
2- يدل على أنه يعتقد أن شيخه يعلم الغيب بعد موته فمن أين لشيخه أن يعلم أن مريده يحتضر .
3- يدل على أن شيخه له المقدرة على إغاثة من استغاث به ، لا بل يغيث كل مُريد له سواء استغاث به أم لم يستغث به .
4- يدل على أن لشيخه المقدرة على تثبيت المريد داخل القبر عند سؤال الملكين ، ليس هذا فحسب ، بل يؤانسه في تلك الوحشة ، والمقصود بمريده أي كل مريديه فكل واحد منهم يحصل له نفس ما حصل للآخر من التثبيت .
5- يدل على أن لشيخه التصرف في الجنة ؛ لأنه يُدخل من يشاء من أتباعه الجنة .
وهذه خمسة اعتقادات فاسدة يستلزمها قول البرعي الذي ذكرناه في هذا الباب : -
أولاً : الاعتقاد الأول والثالث والرابع : منها بيَّنَّا بطلانه في الرَّدِّ على من يدّعى أن لشيخه التصرف في الكون ، وفي الأدلة على أن النبي - ( - لا يرجع إلى الدنيا .
فإذا كان النبي - ( - لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً والله بيَّن كذلك أن جميع الخلق لا يملكون ولو مثقال ذرَّة من هذا الكون وليس له مساعد في تدبير وتصريف أمور الكون ، فكيف يكون لشيخ البرعي مقدرة على التصرف ، فيثبِّت أتباعه ويدخلهم الجنة ، و كذلك إذا حكم الله بأن الموتى إلى الدنيا لا يرجعون ومنهم نبينا محمد - ( - فكيف يرجع إليها شيخ البرعي ويلقّن مريده الحجة عند نزع روحه وعند سؤال الملكين له هذا من أعجب العجب وأبعد المحال .(1/43)
ونضيف إلى ما ذكرناه هناك بعض الأدلة لزيادة إيضاح بطلان هذه العقيدة ، قال ابن كثير :"جاء في صحيح مسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعه فقال : ماذا تبغون؟ فقالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا مالم تُعط أحداً من خلقك؟! ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا ،قالوا :نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى لما يرون من ثواب الشهادة ، فيقول الربّ جلَّ جلاله : إني كتبت إنهم إليها لا يرجعون " .
الشاهد : أن الشهداء وهم في الجنة يُنعَّمون ، وقد طلب منهم الله أن يسألوه ما يريدون ليعطيهم إياه وكرر عليهم السؤال ثلاث مرات ، ولكنهم عندما سألوه أن يرد أرواحهم في أجسادهم أبي عليهم ذلك وأخبرهم أنه كتب أنهم - أي الأموات - إليها - أي الدنيا - لا يرجعون. هذا هو حكم الله حكم به ، وكلماته وهي لا تُبدَّل ( لا تبديل لكلمات الله ( . ومع هذا يدَّعي المتصوفة ومنهم البرعي أن أولياءهم يرجعون إلى الدنيا ، ليس هذا فحسب ، بل ويعلمون من هو محتضر من مريديهم ، ومكان احتضاره، ويحضرون عند ذلك ، ويثبّتونه -فسبحان- من أضلّ الضالين وأعمى بصائر الظالمين .
ثانياً : الرد على زعم البرعي أن الأولياء يعلمون الغيب بعد موتهم
وهذا الاعتقاد الذي يعتقده البرعي هو اعتقاد كثير من الصوفية فقد قال الشعراني في كتابه الكبريت الأحمر (2/3) : " وأما سيِّدي علي الخواص فسمعته يقول : لا يكمل الرجل عندنا حتى يعلم حركات مريده في انتقاله في الأصلاب وهو نطفة من يوم ( ألست بربكم ( إلى استقراره في الجنة أو النار " .(1/44)
(1) ومما يدل على أن علم الغيب لا يعلمه إلا الله قوله تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيَّان يُبعثون ( النمل (60)،وهذه الآية تشمل الأنبياء والأولياء والرسل والملائكة، فكلهم لا يعلمون الغيب . ومع أن الآية بينَّت أنه لا يعلم الغيب إلا الله إلا أن الصوفية يدّعون أن أولياءهم يعلمون الغيب في حياتهم وبعد مماتهم .
(2) روى البخاري (458) عن أبي هريرة " أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كان يَقُمُّ المسجد فمات فسال النبي - ( - عنه ، فقالوا : مات ، قال : أفلا كنتم آذنتموني ؟ دلُّوني على قبره أو قال على قبرها فأتى قبرها فصلى عليها " .
وجه الدلالة أن النبي - ( - وهو حيٌّ مات أحد أصحابه فلم يعلم بموته ولم يشهده ، هذا وهو حيٌّ يُرزق ، وهو نبي الله ، دل هذا على أن قول البرعي أن شيخه وهو ميت يعلم بموت مريده بل كل من يموت من مريديه ويشهده في ذلك اليوم من أكذب الحديث وأعظم الفرى . وكذلك قول النبي - ( - " دلوني على قبرها " يدل على أنه بعد أن علم بموتها لم يعلم مكان قبرها وهو حي وهو رسول الله ، والبرعي يدّعي أن شيخه بعد موته يعلم مكان قبر مريده ويشهده ويلقنه الحجة فكم من مريد يموت له في اليوم الواحد إذا علمت أن مريدي شيخه يفوقون الخمسة مليون بالسودان .
(3) روى البخاري (6576) عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - ( - قال : " أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول : يا رب أصحابي ، فيُقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " .(1/45)
فدل قول الله لرسوله - ( -: " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " على أنه لا يعلم بوقت احتضار أصحابه وأنه لا يشهدهم عند الاحتضار وعند سؤال الملكين فلو كان يحضر عند احتضار أصحابه ويعلم على أي شيء ماتوا ، وكذلك لو كان يحضر عند سؤال الملكين لهم ويعلم بماذا أجابوا لما قيل له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ولما قال لهم بُعداً وسُحقاً لمن بدّل بعدي ، ولما قال ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم( ، ومع أن النبي - ( - لم يعلم بوقت احتضار أصحابه ولم يعلم بخاتمتهم أعلى خير أم على شر كانت ، إلا أن شيخ البرعي يعلم بوقت احتضار مريديه ، ويعلم خاتمتهم، بل وتكون خاتمتهم على خير إذ هو المثبِّت لهم ، مع أن النبي - ( - كان وهو حي يموت أحد أصحابه فلا يدري بِم خُتم له .
الباب السادس
بيان بطلان اعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يُختم لمريديهم بحسن الخاتمة، وأنهم يكونون آمنين يوم القيامة وأنهم يدخلون الجنة مباشرة بلا عذاب .
ذكر أقوال البرعي التي تدل على أنه يعتقد ما أشرنا إليه :
1- ذكرنا أن هذا هو لازم قول البرعي في مدحه أحمد بن الطيب ابن البشير حيث قال في مدحه :
للحجة يلقن بأحسن التعبير في جنان الخلد شاهد مولاه الكبير .
يحضر مريده في النزع والقبير وله يؤانس في الوحدة والشبير .
وقال في مدحه في موضع آخر في قصيدته (ص 111) :
بصدق له تاج الولاية يوهب سعيداً وذو الإنكار في الحال يعطب .
ومن زاره لله ثم أحبه يموت على حسن الختام مكرماً .
وقال يمدح محمد عبد الكريم السماني المدني (ص 109) :
يكفيك أن مريده حقاً ولو عند الممات يفوز بالرضوان
وولاية كبرى وحسن خواتم والأمن يوم الحشر والميزان
وعقيدة البرعي هذه توافق عقيدة جزء كبير من الصوفية . يقول أحمد التجاني في جواهر المعاني : (1/ 132) :(1/46)
"من رأني فقط غايته يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ولا يعذب ولا مطمع له في عليين إلا أن يكون ممن ذكرتهم وهم أحبابنا ومن أحسن إلينا ، ومن أخذ عنا ذكراً فانه يستقر في عليين معنا ، وقد ضُمن لنا هذا بوعد صادق لا خُلف له " .
بيان بطلان قول البرعي وغيره من الصوفية في هذا الباب :
أولاً : تثبيت المؤمنين عند خروج أرواحهم وعند سؤال الملكين لهم هذا من خصائص الله - سبحانه وتعالى - التي لا يشاركه فيها غيره أبداً ، قال - سبحانه وتعالى - في سورة إبراهيم : ( يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( (27) قال السَّعدي : " يخبر تعالى أنه يثبّت عبادة المؤمنين أي الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام ، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويُثْمرها ، فيثبّتهم الله في الحياة الدنيا ، عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين ، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها ، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة ، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح إذا قيل للميت من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن " الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيّي " ، (ويُضلُّ الله الظالمين ( عن الصواب في الدنيا والآخرة وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم " انتهى .(1/47)
وقال ابن كثير :" قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن طاووس عن أبيه (يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا( قال : لا إله إلا الله (وفي الآخرة( المسألة في القبر . وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح (وفي الآخرة( في القبر". وقال ابن كثير:"قال المسعودي عن عبدالله بن مخارق عن أبيه عن عبدالله قال : " إن المؤمن إذا مات أُجلس في قبره فيقال : ما ربك ؟، ما دينك ؟، من نبيك؟ فيثبِّته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد - ( - وقرأ عبد الله ( يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة (".
وخلاصة الأمر: أن الله هو الذي يثبِّت عبادة المؤمنين وليس غيره ولذلك يسأل الناسُ اللهَ أن يثبّت ميّتهم عند السؤال كما جاء في الحديث " سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل " وأما قول المتصوفة إن الولي الفلاني يثبت مريده عند الموت فهذا غاية الضلال ، لأن هذا مساواة له بالله ، فالله يقول : ( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( والبرعي وكثير من الصوفية يقولون : "يثبت الأولياء مريدهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " كما هو ظاهر جداً من قولهم.
ثانياً : روى الإمام مسلم (2846) عن ابي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - ( - قال : "احتجَّت الجنة والنار فقالت النار فيَّ الجبَّارون والمتكبِّرون ، وقالت الجنة :فيَّ ضُعفاء الناس ومساكينهم ، فقضى الله بينهما : إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليّ ملؤها " .(1/48)
فبيَّن - سبحانه وتعالى - أن الجنة هي رحمته يصيب بها من يشاء وليست هي رحمة أحد غيره ولو كان نبياً أو ملكاً فضلاً عن أن يكون شيخ طريقة صوفية ، فليست الجنة هي رحمة أولياء الصوفية يَعِدُوْنَ بها من يشاؤن ، ويَضْمنونها لمن يشاؤن ، ومع هذا البيان الواضح الصريح من الله بقوله : " إنك الجنة رحمتي ارحم بك من أشاء " إلا أن الزنادقة يدَّعون أنها هي رحمة أوليائهم يصيبون بها من يشاؤن . وقد علمت أن صفة هؤلاء القوم الضالين هي مساواة أوليائهم بالله في كل شيء في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فلا تستبعد منهم القول أن الجنة تحت تصرف أوليائهم ولكن اعلم ، واحذر ، واسال الله الثبات على الحق ، واستعذ به من سلوك سبيل الضالين ، ونهج الكافرين ، واشكره على نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم ، فإنها خير من ملء الأرض ذهباً ، وأغلى ، وأعز .
ثالثاً : روى الإمام مسلم (309) عن عبدالله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب :" قال لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي - ( - فقالوا : فلان شهيد وفلان شهيد ، حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد ، فقال رسول الله - ( - : "كلا إني رأيته في النار في بُردة غلَّها ، أو عباءة " .
وفي رواية : "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من المغانم يوم خيبر لم تصبها المقاسم " .(1/49)
الشاهد : أن هذا الصحابي كان من الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، بل كان من المجاهدين في سبيل الله ، ليس هذا فحسب بل قُتل في سبيل الله ، ولكنه أذنب ذنباً وهو أخذه الشملة قبل قسمة الغنائم وهذا من الغلول . فهل ثبته النبي - ( - في سكرات الموت أو في القبر ؟ لا ، لم يكن ذلك بل أوحى الله إليه أنه يُعذب في قبره بسبب تلك الشملة أو العبادة التي غلها ومع أن النبي - ( - علم ذلك إلا أنه لم يصرف عنه ذلك العذاب ولم يقل لله إنه صاحبي وقد قُتل معي فكيف يُعذَّب في عباءة غلَّها لم يفعل ذلك النبي - ( - ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لايملك لنفسه ضراً ولا نفعاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولأن عذاب العباد راجع إلى الله وحده ( لله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ( فإذا علمت هذا تبين لك أن الأنبياء والأولياء لا يثبّتون اتباعهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ( القبر) ، ولا يصرفون عنهم عذاباً ، ولا يدخلونهم جنة ونعيماً ، وإنما الأمر كله لله ، والبرعي يقول إن شيخه يدخل مريديه الجنة وإن فعلوا ما فعلوا ، وإن كانوا مستحقين للعذاب ، فإن عبد الكريم السماني سيدخلهم الجنة على حدّ قول البرعي ، وأنا أقول له إن استطاع عيسى ابن مريم أن يدخل الجنة النّصارى الذين يحبونه ويقولون إنه ابن الله ويستغيثون به ، فإن السماني سيدخل مريديه الجنة، الذين يعبدونه بالاستغاثة ، والدعاء ، فإن امتنع الأول ، كان امتناع الثاني ، من باب أولى وأولى .(1/50)
رابعاًَ : روى الإمام البخاري - رحمه الله تعالى- (3073) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " قام فينا النبي - ( - فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره ، قال : لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ،على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك ، على رقبته صامت فيقول : يا رسول أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك" .
فالنبي - ( - يوم القيامة يتبرأُ من أتباعه إذا أخذ أحدهم من الغنائم فرساً أو بعيراً أو أقل من ذلك قبل أن تُقسم ، يتبرأُ منه ويقول له لا أملك لك شيئاً فضلاً أن يُدخله الجنة ، والبرعي يظن أن الأمر بيد شيخه وأن الجنة هي ملكه يدخل فيها من يشاء ، والشرط أن يكون الإنسان من مريديه ، وأما التجاني الذي مدحه البرعي فقد أتى بشيء لم يسبقه قبله به أحد من العالمين ، فقد ادعى أن كل من راءه وإن لم يكن من أحبابه ومريديه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ومع هذا يدعي البرعي أن التجاني هوالغوث الأعظم ، فسبحان الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم الحليم .
خامساً : روى الإمام البخاري ( 1243) عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء امرأة من الأنصار بايعت النبي - ( - أخبرته "أنه أقتسم المهاجرون قرعة ، فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه ، فلما توفي وغُسل وكُفَّن في أثوابه دخل رسول الله - ( - فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي - ( - : وما يدريك أن الله قد أكرمه ؟ فقلت : بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله ؟ فقال عليه السلام : أما هو فقد جاءه اليقين ، والله إني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ، قالت : فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً " .(1/51)
هذا الحديث من أكبر الأدلة التي توضح :
1- أن النبي - ( - لا يثبت أحداً عند الموت ولا في القبر عند سؤال الملكين بل أقسم النبي - ( - أنه لا يدري ما يفعل به فضلاً أن يحكم لعثمان بن مظعون بأن الله أكرمه أم لا ، مع أنه أي عثمان بن مظعون من أصحاب النبي - ( - ومن المهاجرين الأوائل ومع هذا فلم يشهد له النبي - ( - بالجنة ، والإكرام من الله . والبرعي يقول إن شيخه يدخل من مات من أحبابه الجنة - ،والتجاني يقول إن كل من راءه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وقد يأتي آخر ويقول إن مقام أقل اتباعه مرتبة في الجنة أعلى من مقام محمد - ( -، فلا تستبعد هذا ، فالأمر ما هو إلا ادّعاء ، وكذب ، وافتراء . فأصحاب الكفر الباطن إذا كان عند أحدهم جرآءة قال ما قال من الكفر ، ولا يبالي خاصة إذا كانت له شوكة وقوة .
سادساً : روى البخاري (5673) أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - ( - يقول :" لن يُدخل أحداً عملُه الجنَّة " قالوا : و لا أنت يا رسول الله ، قال: لا ، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ولا يتمنى أحدكم الموت ، إما محسنا فلعله أن يزداد خيراً ، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب " .
والشاهد : أن الذي قال ولا أنا إلا إن يتغمدني الله برحمته هو اتقى الناس وأخشاهم لله وأحبهم وأكرمهم عنده وهو أعظم الناس عند الله منزلة ، وهو الذي سيقيمه الله المقام المحمود ومع هذا قال ما قال ، فدل قوله على ما يلي :
(1) أن الأمر كله لله لا يتصرف فيه إلا هو ، ومن أعظم الأشياء التي يملكها الله وحده وليس لأحد فيها ملك مع الله دار كرامته ، وهي الجنة بل ليس للنبي - ( - فيها ملك ولو مثقال ذرة ، وإنما مالكها والمتصرف فيها هو الله وحده يدخل فيها من يشاء ويُحرِّمها على من يشاء .(1/52)
(2) أن أهل التصوف في ضلال بعيد وفي غرور عظيم وفي وَهْمٍ عريض وإنهم يتبعون الأماني الباطلة فهم يدعون أن أولياءهم يتصرفون في الكون ليس هذا فحسب بل جنة الله تحت تصرفهم يدخلون فيها من يشاؤن والشرط أن يكون الإنسان من اتباعهم قال تعالى حاكياً عن اليهود ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (.
وكل هذا الإدعاء حتى يصرفوا الناس إلى عبادة أوليائهم ، فإذا كان أولياؤهم مالكين للدنيا وللآخرة إذاً فلماذا يسأل المريد الله شيئا وهذا شيخه يتصرف في الكون ، ويدخله الجنة يوم القيامة . فسبحان الله العظيم.
واعلم أن هذا العقيدة التي بيّنا بطلانها وهي اعتقاد الضالين أن أولياءهم يحضرون عند نزع أرواحهم ، وعند سؤال الملكين لهم في القبر ، ويثبتونهم على الحق ، هذه العقيدة من مكر الشيطان العظيم بهم فزين لهم، وخدعهم أن أولياءهم يحضرونهم عند الموت فيثبتونهم بالقول الثابت . وهذا الاعتقاد إذا اعتقده المريد فإنه من أخطر الأشياء عليه عند الموت وبيان ذلك أن الشيطان سيحضر عند موت المريد في صورة شيخه ، لأن الله أعطى الشيطان المقدرة على التَّكَون بصور الآدميين ماعدا صورة نبينا محمد -(- ومن الأدلة على هذا أن النبي -(- قال : كما ورد في البخاري " فإن الشيطان لا يتكونني " فدل هذا على أن الشيطان يتكون في صورة غيره ، ومن الأدلة كذلك على أن الشيطان يتكون في صورة الآدميين أنه جاء إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - في صورة إنسان فقير يطلب الصدقة ، وأنه جاء إلى المشركين وهم مجتمعون في دار الندوة حينما أرادوا المكر بالنبي -(- ليثبتوه ، أو يقتلوه ، أو يخرجوه ، فجاءهم في صورة شيخ وقور من أهل نجد .(1/53)
لذلك سيأتي الشيطان إلى المريد في سكرات الموت في صورة شيخه ، فيراه المريد فيستبشر لذلك استبشاراً عظيماً ، لأنه يكون في أضعف أحواله ، وعندها يأمره الشيطان الذي هو في صورة شيخه ، بأن ينطق بكلمة الكفر مثل أن يقول له استغث بي ، أو قل يا تجاني أغثني ، أو يا رفاعي أغثني ، أو يقول له إني لا أستطيع أن اشفع لك عند الله حتى تسجد لي ، ويختار الشيطان بمكره لكل مريد ما يناسبه من ألفاظ الكفر ، وأفعاله ، فإذا فعل ذلك المريد هلك ، وخُتم له بالكفر ، وعندها يتبرأُ منه الشيطان ، قال تعالى : (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بري منك إني أخاف الله رب العالمين ( فإذا تدبرت في هذا علمت أن الشيطان بعد أن أضلهم في هذه الدنيا فقادهم إلى عبادة أوليائهم ، إلا أنه لا يطمئنُ حتى يُختم لهم بالكفر الأكبر عياذاً بالله من ذلك ، لذلك زين لهم هذا الاعتقاد ، وحسنه في قلوبهم .
الباب السابع
وهْم البرعي في أنَّ الخبر إذا كان متواتراً كان حقاً في نفسه وسلوكه سبيل المشركين في الاحتجاج بالتواتر
قال في قصيدته " يا نفسي أمرحي " يمدح الطيب ابن البشير :
يرويها جماعة لا خبر آحاد الآبا والجد .
كراماته ما بتنعد كالبحربل أزيد خبر صَحَّ ومتواتر عن .(1/54)
يدعى البرعي في هذين البيتين أن كرامات شيخه وصلت منقولة له بالتواتر عن آبائه وأجداده مما يدل على أنها حق ، وهذا من الجهل العظيم ، فوصول الخبر إلى أحد ما بالتواتر لا يدل على أحقية الخبر المتواتر أو بطلانه ، وإنما يدل على ثبوت الخبر عن المخبر عنه ، فإذا كان المخبر عنه معصوماً عن الباطل كان الخبر حقاً ، وإن كان المُخْبر عنه كذاباً دجالاً كان الخبر باطلاً ، كمثال وصل إلينا بالتواتر أن النبي -(- قال إنه نبي مرسل من الله ، فهذا الخبر ثابت عن النبي -(- وهو حق ؛ لأن النبي -(- معصوم من الكذب على الله . ووصل إلينا بالتواتر أيضاً أن مسيلمة الكذاب قال إنه نبي ، فهل يدل هذا على أنه حقاً نبي لأن الخبر عنه وصل إلينا بالتواتر ؟ لا يدل على ذلك أبداً ، وإنما يدل على أنه حقاً قال إنه نبي .
والمشركون كذلك وصل إليهم الشرك عن آبائهم بالتواتر ، فإن آباءهم الأولين فعلاً كانوا يعبدون الأصنام ، فادَّعى المشركون أن عبادة الأصنام حق ، لأنها وصلت إليهم متواترة عن آبائهم ، وهذا جهل ، وكذب ، وكلام باطل ، لأن آبائهم الأولين ضلوا الطريق المستقيم عندما عبدوا غير الله .
وكذلك البرعي وصلت إليه هذه الكرامات التي لا تتفق مع العقل والفطرة والشرع عن طريق التواتر ، ولكن من الذي افتراها واخترعها إنه كذاب من الكذابين قالها فصدقه الناس ، ثم تناقلوها عنه جيلاً بعد جيل ، تماماً كعبادة الأصنام ، فإن أول من أتى بها عمرو بن لحي الخزاعي ، ثم تناقلها الناس عنه جيلاً بعد جيل .
الباب الثامن
بيان إعتقاد البرعي أنَّ ثواب المرّة الواحدة من صلاة الفاتح يعدل ثواب قراءة القرآن ستة آلاف مرة ، وأنَّ فضل المرة الواحدة من جوهرة الكمال يعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومدحه لأحمد التيجاني بقصيدة كاملة
تعريف بصلاة الفاتح وجوهرة الكمال :(1/55)
هما أحد الأذكار المبتدعة التي أحدثها أهل الباطل واخترعوا لها فضلاً من عند أنفسهم ، ثم نسبوه إلى الله كذباً وزوراً وافتراءً ، يقول أحمد التجاني كما في كتاب " جواهر المعاني لعلى براده (1/114 ) : "سألت النبي -(- عن فضل صلاة الفاتح لما أغلق فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات ، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار "، ثم قال أحمد التجاني (ص 1/116) :فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة ".
وأما جوهرة الكمال فقد قال عنها محمد سعد الرباطابي في شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية (ص 25) : " وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله -(- لسيدنا الشيخ - رضي الله عنه - يقظة لا مناماً فمن فضلها أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية ، وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يحبه النبي -(-، وأن النبي -(- والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها" .
هذه هي فضائل صلاة الفاتح وجوهرة الكمال عند أهل الزندقة والإلحاد والكذب البين على الله ورسوله ، ولا أظن أن كذباً كهذا يخفى على من له أدنى علم بشريعة النبي -(- ، ومع وضوح هذا الإفتراء والكذب إلا أن البرعي آمن به ، وصدقة ، وأقرَّه ، ودعى إليه ، وأثنى عليه . فقال في قصيدته في أحمد التجاني (ص 121) :
وعلى كتاب الله ذي التبيان ورواتباً كالروح والريحان للسالكين وكالثمار الداني في الفضل والبركات والرجحان قد أشرقت أنوارها بمعاني يحظى بوصل للمهيمن داني .
وبني على نهج النبي طريقة ورداً تشم المسك في نفحاته ووظيفة كالتبر وهو يصوغها كم للصلاة الفاتحية من يد بل كم لجوهرة الكمال من السنا لا عيب فيها غير أن مريدها .(1/56)
في هذه الأبيات أثنى البرعي على التجاني وأوراد طريقته وكذلك أثنى على صلاة الفاتحة وفضلها الذي افتراه التجاني وأثنى كذلك علىجوهرة الكمال وفضلها مما يدل على أنه يعتقد أن ثواب المرة الواحدة منها يعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة.
قال محمد خضر الجكني في كتابه مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني (ص 259) :" ومن زعم أن شيئاً من كلام البشر أفضل من القرآن فقد كفر بما أُنزل على محمد وذلك لأن القرآن كلام الله تعالى وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فتفضيل كلام بعض المخلوقين على كلام الله كتفضيل بعض المخلوقين على الله و فاعل ذلك لا يشك في كفره " انتهى .
ومما يوضح ضلال أحمد التجاني الذي مدحه البرعي بقصيدة كاملة ما ورد في البحث المختصر عن الطائفة التجانية الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، حيث جاء فيه في خاتمته الآتي : " إن ما تقدم في الاعداد من بدع التجانية قليل من كثير مما ذكره علي حرازم في كتابه جواهر المعاني وغاية الأماني ، وما ذكره عمر بن سعيد الفوتي في كتابه رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم ، وهما من أوسع كتب التجانية وأوثقها في نظر أهل هذه الطريقة .
إن ما ذكر في الإعداد إنما هو نماذج لأنواع من بدع التجانية تتجلى فيها عقائدهم وتكفي لمن عرضها على أصول الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله -(- أن يحكم على كل من يعتقد هذه العقائد المبتدعة المنكرة .
ونلخص فيما يلي جملة من عقائدهم التي تضمنها البحث :
1- غلو أحمد بن محمد التجاني مؤسس الطريقة وغلو أتباعه فيه غلواً جاوز الحد حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه .
2- إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه .(1/57)
3- زعمه رؤية النبي -(- يقظة ، وتلقين النبي -(- إياه الطريقة التجانية وتلقينه وردها والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك .
4- تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي -(- أولا ثم يفيض منه على الأنبياء ثم يفيض من الأنبياء عليه ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور ويزعم أنه يفيض أحياناً من النبي -(- عليه مباشرة ثم يفيض منه على سائر الخليقة ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه .
5- تهجمه على الله وعلى كل وليّ لله وسوء أدبه معهم إذ يقول:" قدماي على رقبة كل ولي". فلما قيل له :" إن عبدالقادر الجيلاني قال - فيما زعموا - قدمي على رقبة كل ولي". قال :"صدق ولكن في عصره ، أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور"، فلما قيل له :" أليس الله قادر على أن يوجد بعدك وليا فوق ذلك؟ قال : "بلى ولكن لا يفعل كما أنه قادر على أن يوجد نبيا بعد محمد -(- ولكنه لا يفعل "ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه .
6- دعواه كذباً أنه يعلم الغيب وما تخفى الصدور وأنه يصرف القلوب وتصديق مريديه ذلك وعدُّه من محامده وكراماته .
7- إلحاده في آيات الله وتحريفها عن مواضعها بمايزعمه تفسيرا إشارياً كما سبق في الإعداد من تفسيره قوله تعالى : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ( .ويعتقد مريدوه أن ذلك من الفيض الإلهي.
8- تفضيله الصلاة على النبي -(- على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره .
9- زعمه هو وأتباعه أن مناديا ينادي يوم القيامة والناس في الموقف بأعلى صوته يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا .. الخ .
10- زعمه أن كل من كان تجانياً يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب .(1/58)
11- زعمه أن من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر.
12- زعمه أنه يجب على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسّل لا اختيار له ، بل يستسلم لشيخه فلا يقول : لِم ؟ ولا كيف ؟ ولا علام ؟ ولا لأي شيء .. إلخ .
13- زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم ، علمه إياه النبي -(- ثم هول أمره وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات ، خرصاً وتخميناً ورجماً بالغيب واقتحاماً لأمر لا يعلم إلاّ بالتوقيف .
14- زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمنا محدوداً يتفاوت بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء .
15- زعمه أن النبي -(- يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم وكذا الخلفاء الراشدون .. إلخ .
إلى غير ذلك مما لو عرض على أصول الإسلام اعتبر شركاً وإلحاداً في الدين وتطاولاً على الله ورسوله وتشريعه وتضليلاً للناس وتبجحاً منهم بعلمه الغيب .. إلخ هذا ما تيسر والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد و آله وصحبه وسلم .
الباب التاسع
بيان اعتقاد البرعي أنّ الميت لا يعذب في القبر إذا كتب اسم عبد القادر الجيلاني على كفنه أو قال الدافن هذا قبر أحمد الطيب .
الأدلة من شعر البرعي على أنه يعتقد ما أشرنا إليه :
قال في مدح أحمد الطيب بن البشير:
ومن قال هذا قبر أحمد أولاً ……فصاحبه في القبر ليس يعذب
وفي قصيدة له أخرى يقول :
واليذكر اسمه عند القبر يسعد
وقال في مدح الشيخ عبد القادر الجيلاني:
بأكفان من قد مات إن كتب اسمه …يكون له ستراً من النار والهول(1/59)
في هذه الأبيات يدعي البرعي أن الميت مهما عمل من الأعمال القبيحة وإن استحق العذاب فإنه سينجو منه ولا يعذب إذا كتب اسم عبد القادر الجيلاني على أكفانه أو قال الدافن هذا قبر أحمد الطيب . فهذان شرطان عند البرعي لمنع الميت من العذاب .
بيان بطلان هذا الادعاء :
أولاً : على البرعي أن يأتي بدليل واضح من الكتاب والسنة على أن اسم عبد القادر الجيلاني إن كتب على كفن الميت فإنه لا يعذب ، أو إذا ذكر اسم أحمد الطيب عند القبر، ولن يأتي بدليل من الكتاب والسنة على هذا الادعاء حتى يلج الجمل في سم الخياط.
ثانياً : ما ادعاه البرعي هذا من أقبح الكذب وأعظم الإفتراء على الله - سبحانه وتعالى - فمن أين علم البرعي أن الله لا يعذب من كتب اسم عبد القادر على كفنه ، أو ذكر اسم الطيب على قبره ، هل أوحى الله إليه بذلك ؟ وهل يظن البرعي أنه نبي مرسل يُوحى إليه ثم يبلغ هو عن الله هذا التبليغ ، أم هو الكذب ، والافتراء على الله الذي يظنه البرعي من الأمور المباحة التي لا يؤاخذ بها الإنسان ، قال - تعالى - في سورة الأنعام : (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون( (93) .
فهذا هو جزاء الذين يقولون على الله الكذب ، فلْيعِ البرعي هذا الأمر جيداً هو واتباعه ، فإن الله - سبحانه وتعالى - يقول( وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد(.(1/60)
ثالثاً : هذا الكلام الذي ذكره البرعي غريب جداً ، بل هو غاية في الغرابة ، والبشاعة ، وأنا والله أقف حائراً كيف أعلق على افتراء كهذا، ألهذا الحد بلغ بالناس الافتراء ، وإلغاء العقول ، وتسفيهها ، والازدراء بالله ، وبشرعه وبأوامر الله التي أمر بها ، ونواهيه التي أمر باجتنابها ، ونار الله العظيمة التي اعدها لمن خالف شرعه ، وأمره ، ونهيه ، هذه النار لكي يُنجى منها الإنسان نفسه أو صاحبه عليه أن يكتب على كفن صاحبه اسم عبد القادر الجيلاني ، أو يذكر اسم احمد الطيب ، وبعدها فإنَّ صاحبه لا يعذب ، وإن كان مستحقاً للعذاب !! ما أعظم فرحة العاصين والمذنبين التاركين للصلوات ، والمحاربين لله ، والآكلين لمال اليتيم ، دعوة صريحة لهم من البرعي أن لا يخافوا ولا يحزنوا ، وأن يبشروا بالأمن الكامل من عذاب القبر ، وحتى يتحقق ذلك لهم فقط على أوليائهم أن يكتبوا اسم عبد القادر على اكفانهم ، ويا حسرة من مات قبل أن يخلق عبدالقادر الجيلاني منذ أن خُلِقَ آدم ، المستحقين للعذاب لو علموا هذا وكتب على اكفانهم اسم عبد القادر لنجو من عذاب الله الأليم ، ولما كان هناك عذاب قبر أصلاً للكافرين فضلاً عن الموحدين . فاستمع أخبار القوم يا رعاك الله لتعلم أنه لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .(1/61)
رابعاً : ما قاله البرعي وأخبر عنه وحث عليه فيه أن اسم الشيخ أعظم تأثيراً من اسم الله تعالى ، وهذا من الشرك بالله الذي ما كان يفعله المشركون ، خاصة إذا صاحبه اعتقاد أن اسم الشيخ يمنع من النار ، فهو شرك في الألوهية والربوبية ، فإن المشركين كانوا يبدأون كتاباتهم باسم الله روى الامام البخاري (2731) في قصة صلح الحديبية عندما كاتب النبي -(- قريشاً على الصلح قال: " فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً فدعا النبي -(- الكاتب فقال النبي - ( - اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو ؟ ولكن أكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي -(- اكتب باسمك اللهم".
ومن نظر في هذا الحديث تبين له الآتي:
(1) أن سهيل بن عمرو حلف بالله فقال "والله" وهو يومئذ مشرك فدل هذا على أن المشركين كانوا يقسمون بالله ، وكثير من أصحاب الطرق الصوفية يحلفون بأوليائهم أكثر من حلفهم بالله ، بل إذا حلف أحدهم بالله قد يحلف وهو كاذب ، وإذا قيل له احلف بشيخك لا يحلف به إلا إذا كان صادقاً ، وهذا يدل على أن شركهم أعظم من شرك النصارى القائلين ، إن الله ثالث ثلاثة أو ثاني إثنين . فالنصارى يخشون المسيح كخشية الله وأما الصوفية فمنهم من يخشى من شيخه أشد من خشيته لله ، ويرهبه اشد من رهبته لله ، وهذا واقع مشاهد كالذي يحلف بالله ، كاذباً وإذا حلف بشيخه حلف صادقاً.
(2) قول سهيل بن عمرو "اكتب باسمك اللهم" وهو ابتداء ببسم الله وكذلك عندما كتبوا الصحيفة التي بموجبها تم فصل النبي -(- وأصحابه في الشعب ابتدؤها ببسمك اللهم . فإذا ثبت أنهم كانوا يبتدئون أمورهم العظيمة ، ومكاتباتهم ، وشروطهم ، ببسم الله تعظيماً، له وتكريماً مع انهم كانوا مشركين دل هذا على انهم أفضل حالاً من مشركي زماننا، الذين يحفرون القبور باسم شيوخهم .(1/62)
خامساً: ثبت عن النبي -(- أنه قال :"كل شيء لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" هذا إذا لم يُذكر اسم الله صار العمل أبتراً لا خير فيه ، ولا بركة ، فكيف إذا استبدل اسم الله العظيم الأعظم والجليل الأكرم والرحمن الرحيم باسم غيره رجاء لبركة ذلك الغير وتعظيماً له وتشريفاً واعتقاداً فيه أنه ينفع ويضر ، ومن نفعه أنه يمنع من العذاب . فأي بركة بعد ذلك ترتجى ، وأي خير بعد ذلك يؤمل لو كان يفقه ذلك الجاهلون . لا إله إلا الله ما أشد ظلم المشركين ، وما أعظم نسيانهم لرب العالمين ، وما أشد تعلقهم بالمخلوقين نسأل الله العافية . ولا يظن ظان أني بإنكاري على البرعي في دعوته الصريحة لكتابة اسم شيخه على الكفن وادعائه أنها تقي صاحبها من النار أدعو لكتابة اسم الله على الكفن ، ليس هذا من شأني ولا هو من حقي ، فإن الحكيم العليم والإله الحق الذي له الأمر كله وهو الذي يحكم لا معقب لحكمه لم يأمر بكتابة اسمه على أكفان الموتى ، سواء الكفار منهم أو المسلمين ، ولا رسوله كذلك ، فدل هذا على أنه سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك وأنه لا يحبه ولا يرضاه ، وأنّ من كتب اسم الله على الكفن فهو مبتدع ضال ؛ لأنه مخالف لله ورسوله ، ولأنه كتب اسم الله في مكان لم يأذن الله له بكتابته فيه ، ولأنه لو ادعى أنه يعظم الله بذلك فقد اتهم إمام المعظمين لله جل وعلا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعظم الله حق تعظيمه عندما ترك كتابة اسم الله على أكفان أصحابه الذين قتلوا في بدر وأحد وغيرهم ممن ماتوا بالمدينة وغيرها . ولأنه لو ادعى أن ذلك أنفع للميت وأن هذا هو شرع الله الذي يحبه الله ويرضاه فقد اتهم الرسول الكريم الذي بلّغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام بأنه لم يدل أمته على ما ينفع موتاها وأنه كتم الوحي ، وكفى بهذا قدحا في إمام الأنبياء وسيد الأولياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ومع كل هذه الاعتقادات الباطلة يريد جماعة من(1/63)
المسلمين من الصوفية أن تنهض بالأمة ، ويرجون منها فلاحاً ونصراً . والله الذي لا إله إلا هو لن تنهض الأمة وينصرها الله،حتى تُنكَّسَ رايات الصوفية وَيَخِرُ عليها السقف من فوقها ، وإلا والصوفية هي الغالبة والمسيطرة على العقول ، فلن تفلح هذه الأمة أبداً (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم( .
الباب العاشر
بيان اعتقاد البرعي أنَّ رِضَى الله لا يُنال إلا عن طريق شيخ من شيوخ الطرق الصوفية - تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً- ،وأنَّ من شروط ذكر الله مبايعة أحد شيوخ الطرق الصوفية
ذكر الأدلة من شعره التي تبيّن ما أشرنا إليه :
قال في قصيدته حلقات الذكر (ص 63) :
فيض الذي برأ الأكوان يأتيكا
أخلاقه وبذكر الله يحييكا .
الذكر نور مفاض في السريرة من
وشرطه العارف الشيخ الذي كملت .
وقال في قصيدته أجل الفؤاد ص (65) :
جوف الليالي وانت جد وحيد
كما نوّرت قلباً من التسويد
بالله حقاً عارف ورشيد .
أجل الفؤاد بكلمة التوحيد
كم علمت كم جمّلت كم كمّلت
لكن بشرط الأخذ عن متصوف .
وقال في قصيدته أهل الطريقة ص (131):
إلا بشيخ عارف ومعلم
وأخشاهم دوماً كخشية ضيغم
واحذره في دنياك حذر الأرقم .
لا وصل للمتوجهين لربهم
سلم لقومك ثم كن عبداً لهم
وكذاك عادى من يكون عدوهم .
وقال في قصيدته في مدح عثمان الميرغني:
قد جاء نصاً كالنبي في قومه
إلاّ به يا مدعيه بجزْمِه
شيطانه يسعى به في المَهْمَهِ .
والشيخ واسطة المريد لربه
والشيخ شرط لا وصول لسالك
من لاله شيخ يؤم فشيخه .
الرد على البرعي في ادعائه هذا :
أولاً : اعلم أن اشتراط البرعي وغيره من الصوفية شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية لمن يريد أن يصل إلى الله هو نوع من أنواع كذبهم ، وافترائهم على الله ، وقصدهم واضحٌ جداً وهو تكثير سوادهم ، ودعوة الناس إلى باطلهم ، واستعبادهم بل وأخذ البيعة على ذلك ، وهذا واضح من واقعهم ومن قول البرعي:
وأخشاهم دوماً كخشية ضيغم .(1/64)
سلم لقومك ثم كن عبداً لهم .
ثانياً: عليه أن يأتي بالدليل على أن الله - سبحانه وتعالى - قال لا وصول إليَّ إلا بشيخ من شيوخ الطرق الصوفية ، أو أن النبي -(- قال عليكم بأهل الطرق الصوفية فإنه لا وصول إلى الله إلا بهم ، ولن يأتي به حتى يلج الجمل في سمِّ الخِياط ، لأن الله قال في كتابه (وإذا سألك عبادي عني فأني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان( ولم يقل فإني قريب بشرط أن تتوسلوا إليّ بشيوخ الطرق الصوفية ، وهذا هو النبي -(- يقول :"من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر" . فهل اشترط لقولها عالماً عارفاً أو فقيهاً مجتهداًً أو محدّثاً حافظاً ، فضلاً أن يشترط لقولها شيخاً زندقياً ، أو كاهناً ساحراً، أو مشعوذاً نجساً ، أو مجذوباً مهبولاً ، أو تاركاً للصلاة منافقاً يدّعي أنه يصلي بالحرم وهو من التاركين للصلاة ، ثم يصدقه من هم أضل من الأنعام. فإذا لم يأت بالدليل ولن يأتي به ، فليعلم أن قوله هذا هو من افتراءاته التي لا تحصى ، ولا تعد ، والتي اخترعها أهل التصوف حتى يهدموا بها الإسلام من داخله، لأن أئمة الصوفية الذين وضعوا هذه القيود كأمثال الحلاج وغيره هم من الكفار الباطنيين الذين ينكرون وجود الله ، ويؤمنون بوحدة الوجود والحلول والاتحاد ولكنهم يُظهرون الإسلام .(1/65)
ثالثاً : هذه الطرق الشيطانية التي يوجب البرعي الانتماء إليها هي من البدع المحدثة التي لا أصل لها ، والتي حذر منها المصطفى -(- بقوله: " إن شرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ، وقوله: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ، فهذه الطرق الصوفية مردودة على أصحابها ، لا تزيد من انتمى إليها من الله إلا بعداً ، لأنها ليست من الإسلام في شيء ، وليست هي من هدي نبينا -(-، وإنما هي من هدي الشيطان . وإن قال قائل إنها من الإسلام ، ولا وصول للسالكين إلا بها كما يدعي البرعي ، قلنا له فما هي طريقة أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وهل كانوا من أتباع الطريقة القادرية ، أم الأحمدية ، أم الشاذلية الدسوقية . وما هي طريقة الإمام مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة هل كانوا من أتباع الطريقة التجانية ، أم الرفاعية ، فإن قال قائل إنهم كانوا على طريقة محمد -(- قلنا له هذا هو الحق ، ولا وصول للسالكين إلى ربهم إلا باتباع طريقته ، ونحن كذلك على طريقة خاتم الأنبياء وسيد الأولياء ، وكل من حاد عن طريقته فهو مبتدع ضال هالك (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هوداً أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله ( .(1/66)
رابعاً : قول البرعي:" إنَّ هذه الطرق الصوفية توصل السالك إلى الله" كلام باطل ؛ لأن الله لا يتوصل إليه إلا بما أمر به على ألسنة رسله ، فلو آمن الإنسان بالله ورسوله ولكنه لم يعبد الله بشريعته وطريقته ، أي بما أمر الله به على لسان رسوله ما وصل إلى الله أبدا ، بل لم يزدد منه إلا بعداً ، وهذا حال هذه الطرق فإنها ما تزيد المتمسك بها من الله إلاّ بعداً، وإنما تزيده تعلّقاً وحباً في الشيخ حتى يحبه كحب الله ويطيعه كطاعة الله . فإن أرباب الطرق الصوفية لم يجدوا طريقاً لإستعباد الناس الإستعباد الحقيقي إلا عن طريق إبتداع مثل هذه الطرق ، ومما يدل على خبث سرائرهم وسوء مقاصدهم أنهم يقولون لمن سلك الطريق الصوفي على يديهم يجب عليك أن لا تنكر على الشيخ أبداً ، وإن رأيته يأتي بالمنكرات العظيمة وعليك أن تكون بين يديه كالميت بيد المغسل ، قال البرعي يحذر من الإنكار عليهم :
في قولهم أو فعلهم لمحرَّم
تأويل خير مؤول ومترجم .
وإذا بدا لك منكر ألفيته
أوِّل بفقه ما تشابه منهم .
وقال :
واخشاهم دوماً كخشية ضيغم .
سلم لقومك ثم كن عبداً لهم .(1/67)
ولهذا تجد أتباعهم عبيداً لهم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فهم يعبدونهم كعبادة الله بل أشد ، ومن أنواع عبادتهم لهم أنهم يخافون منهم في السر ، فتجد المريد يعتقد أن شيخه يعلم الغيب فيخاف منه في غيابه ، وكذلك يحبونهم مع الله ، ويطيعونهم كطاعة الله ، فليس عند أتباع الشيخ هذا حلال وهذا حرام ، كل ما يفعله الشيخ يقبله المريد بصدر رحب ، بلا إنكار لماذا ؟ لأن من آداب المريد عندهم أن لا ينكر على شيخه. وقد رأيت أحدهم يقف بجوار الشيخ طائعاً مختاراً بدون أجر ساعات طويلة منتظراً لأوامر شيخه وإذا أتت الصلاة نقرها كنقر الديك وقد لا يصلي بحجة أن أمر الشيخ أهم ، والشيخ سيشفع له ويضمن له الجنة مما يدل دلالة واضحة أنهم يطيعونهم أكثر من طاعة الله . بل إذا استحل شيخه شيئاً من المحرمات استحلها معه وإن حرم شيئاً من الحلال حرّمه تبعاً لشيخه ، مما يدل على أنه اتخذه رباً ثانياً مع الله .(1/68)
خامساً : الشروط التي وضعوها في طرقهم كلها باطلة ومنها البيعة فهل كان النبي -(- يأخذ البيعة على الصحابة أن يذكروا ذكراً معيناً ؟ أو اشترط عليهم أن يستأذنوا منه إذا أراد أحدهم أن يزيد ورده ؟ كل هذا لم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام وإنما كان يقول : "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له في يوم مائة مرة كان من أفضل أهل الأرض عملاً ولم يأت أحد بمثل ما جاء به إلا رجل عمل مثل ما عمل أو زاد عليه ". وهل كان أبو بكر وعمر يأخذان البيعة على الصحابة في أذكار معينة أو أوراد معينة ؟ ، وكذلك هذه الأوراد التي يلزمون بها أتباعهم هي من البدع المحدثات التي ما ذكر النبيُّ -(- ولا أصحابه بها اللهَ - سبحانه وتعالى - فمثلاً (يا لطيف) مائة مرة أو (يا الله) أو (ياهو)، لو بحثت في الكتاب والسنة لن تجد ذكراً كهذا وإنما أسماء الله يدعى بها، فلم يثبت عن النبي -(- أنه قال يا لطيف مثلاً عشر مرات أو ثلاث عشر مرة بعد الصلوات أو غيرها وإنما كان يدعو الله بأسمائه مثلاً : يا حي يا قيوم برحمتك استغيث أصلح لي شأن كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين . فخلاصة الأمر على الصوفية أن يأتوا بدليل خاص لكل ذكر ابتدعوه ، لأنه ما من ذكر إلا وله دليل خاص كما قال النبي -(- :"من قال -سبحان الله- وبحمده في يوم مائة مرة غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر".
سادساً : مما يدل على بطلان ما ادعاه البرعي قوله تعالى في سورة الرعد " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) .(1/69)
قال السعدي - رحمه الله -:" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله( أي يزول قلقها واضطرابها ، وتحضرها افراحها ولذاتها ( إلا بذكر الله تطمئن القلوب( أي حقيق بها وحريّ أن لا تطمئن لشي سوى ذكره ، فأنه لاشيء ألذ للقلوب ولا أحلى من محبة خالقها والأنس به ومعرفته " انتهى . والصوفية ومنهم البرعي يقولون إن القلوب لا تطمئن إلا إذا بايعت شيخاً من شيوخهم ، بل إذا ذكر إنسان الله ولم يكن له شيخ من شيوخهم فشيخه الشيطان كما قال البرعي:" من لا شيخ له فالشيطان شيخه" . فانظر إلى أي درجة يُنفِّرون من ذكر الله بدون شيخ فتبّاً لهم ولمن سلك طريقهم ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (.
الباب الحادي عشر
- بيان اعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يسعهم الخروج عن شريعة النبي -(- ومخالفتها كما خرج الخضر عن شريعة موسى - على حدِّ زعمه - ، وأنه لا ينبغي أن يُنكر عليهم ولو أتوا بمنكر واضح يخالف شريعة الله ويجب على من رآهم على مُنْكر ما أن يرضى بذلك ويتذكر قصة موسى والخضر حتى تكون عوناً له على عدم الإنكار .
قال في قصديته أهل الطريقة صفحة ( 138 ) :
في قولهم أو فعلهم لمحرم
تأويل خير مؤول ومترجم
إن صافحت يدهم كذات المحرم
فيها الكفاية للفتى المستفهم
وبنى الجدار بغير أجر فافهم
للغير أهدر ماله بعد الدم
صبراً عليه فكيف بالمتعلم .
وإذا بدا لك منكر الفيته
أوِّل بفقه ما تشابه منهم
يجدون لمس الأجنبية عندهم
للخضر مع موسى الكليم قضية
قتل الغلام وللسفينة خارقاً
علم الحقيقة من أباح بسرِّه
لم يستطيع موسى الكليم لخضره .
ردُّ قول البرعي وغيره من المتصوفة أنه يجوز للولي أن يخرج عن شريعة النبي -(- ويجب على اتباعه وكل من رآه أن لا ينكر عليه :
احتجاج الصوفية بقصة الخضر باطل لعدة أسباب منها :(1/70)
(1) أن الخضر نبي على أصحِّ القولين وليس بولي ؛ لأن الأدلة تدل على أنه نبي من الأنبياء ومنها قوله تعالى في سورة الكهف: ( فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه مِن لَدُنّا رحمة وعلَّمناه مِن لَدُنا علماً ( (65) قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان :"ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم الذي امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى : (وما فعلته عن أمري( أي وإنما فعلته عن أمر الله جلَّ جلاله وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جلَّ وعلا ، ولا سيما قتل النفس البريئة في ظاهر الأمر وتعييب سفن الناس بخرقها ؛ لأن العدوان على سفن الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى- إلى أن قال- وبالجملة فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي فمن ادعى أنه غني عنه في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته .
والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصر قال الله - تعالى- : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ( (الإسراء) ولم يقل حتى نلقي إلهاماً في القلوب وبذلك تعلم ان ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقة باطلة توافق الحق عند الله تعالى ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة وذريعة إلى الانحلال بالكلية عن دين الإسلام بدعوة أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره" انتهى كلامه - رحمه الله - من أضواء البيان (4/173-174) .(1/71)
وبهذا نصل إلى أن الخضر نبي وليس بولي مما يبطل دعوى الزنادقة بأن الولي أعلم من النبي بناءً على قصة الخضر مع موسى حيث يدعون ان الأولياء يعلمون علم الحقيقة الذي لا يعلمه الأنبياء ويستدلون بقصة الخضر مع موسى . و يبطل كذلك دعواهم انه يجوز للولي الخروج عن شريعة النبي -(- وأنه يستطيع أن يصل إلى مرضاة الله من غير طريق النبي -(- لأن الخضر و إن جاز له الخروج عن شريعة موسى ومخالفتها فإنه لم يكن ولياً إنما كان نبياً.
(2) مما يدل على ان احتجاج الصوفية بقصة الخضر باطل : أن الخضر سواء كان ولياً او نبياً لم يكن واجباً عليه متابعة شريعة موسى ، لأنه لم يكن من أمة موسى ولم يكن موسى مبعوثاً إليه . وموسى عليه السلام إنما بعثه الله إلى بني إسرائيل فقط ، كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي -(- أنه قال عندما ذكر ما فضّله الله به على الأنبياء :"وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت للناس عامة ". ومما يدل على ان الخضر لم يكن من بني إسرائيل أنه عندما جاء موسى إلى الخضر قال موسى : السلام عليكم ، فقال الخضر : وأني بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى ، فقال الخضر : موسى بني إسرائيل .(1/72)
(3) ومما يبطل دعواهم في احتجاجهم بقصة الخضر أنه حتى وإن كان الخضر ولياً وإن كان من بني إسرائيل وإن كان يجوز لأولياء بني إسرائيل مخالفة أنبيائهم إلا أن هذه الأمة -أعني أمة النبي -(- لا يجوز لأي أحد منها أن يخالف شريعة النبي -(- ولو في مسألة واحدة لأنها ناسخة لكل الشرائع وعامة إلى كل الانس والجن ، ومن احكامها المحكمة ، وشرائعها المفصلة ، أنه لا يجوز لأحد مخالفة هذا النبي الأمي -(-، ولو في مسألة واحدة ولو كان المخالف من أعظم الأولياء ، بل ولو كان المخالف هو صدّيق الأمة الأكبر أبو بكر الصديق ، أو محدَّثها المُلهَم عمر بن الخطاب ، ليس هذا فحسب بل ولو كان هناك نبي من أولي العزم من الرسل حياً لما جاز له مخالفة النبي الكريم محمد بن عبد الله كما قال النبي -(- : "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي". فمن زعم أنه يجوز للولي أو غيره الخروج عن شريعة النبي -(- فهو كافر مرتد .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى (24/239) :
"ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام على أن من الأولياء من يستغني عن محمد -(- كما استغنى الخضر ومثل قول بعضهم أن خاتم الأولياء له طريق إلى الله يستغني به عن خاتم الأنبياء وامثال هذه الأمور التي كثرت في كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقر والتصوف والكلام والتفلسف وكفر هؤلاء قد يكون من جنس كفر اليهود والنصارى وقد يكون أعظم وقد يكون أخف بحسب أحوالهم ".
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/746):
"فمن ادعى أنه مع محمد -(- كالخضر مع موسى أو جوّز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه وليشهد شهادة الحق فإنه بذلك مفارق لدين الإسلام بالكلية فضلاً أن يكون من خاصة أولياء الله وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه وهذا الموضع مقطع ومفرق بين زنادقة القوم وبين الاستقامة منهم " .
الباب الثاني عشر(1/73)
بيان اعتقاد البرعي أنّ الأولياء الصالحين يُوحى إليهم ، وأنَّ الله - سبحانه وتعالى - يكلمهم مباشرة ، وأنهم يسمعون منه ذلك الكلام
ذكر الأدلة من شعر البرعي التي تدل على أنه يعتقد ما أشرنا إليه :
قال البرعي في قصيدته أهل الطريقة صفحة 138من ديوانه المذكور:
ساروا بإسلام ودين قيم
من حكمة نسجت بقول محكم
من غير واسطة البخاري ومسلم
نالوا وما تاهوا بليل مظلم
.
أهل الطريق على الصراط الأقوم
سمعوا من المولى كلاماً ياله
ورووا حديثاً صح عن مختارهم
تاهوا على الأكوان فخراً بالذي .
وهذه الأبيات فيها من المفاسد العقدية الشي الكثير ومن ذلك :
1- أن النبوة لم تختم وأن الأولياء يُوحى إليهم بعد النبي -(- ليس عن طريق المَلك فحسب ، بل يكلمهم الله تعالى كما كلّم موسى عليه السلام .
وهذا الاعتقاد الكفري الأخير تلقاه البرعي من علمائه الذين أوضح أنهم قدوته ومثله الأعلى ، فقد كانوا يعتقدون أن الوحي لم ينقطع من السماء وأنه يوحى إليهم .
*ذكر النصوص عن علماء التصوف التي تبين أنهم يعتقدون ما ذكرناه :
من شيوخ الصوفية الذين يدّعون أن الله يوحي إلى الأولياء الدجال الأكبر محي الدين ابن عربي .
قال ابن عربي متكلماً عن وحي الله للأولياء :
" وقد يكون ذلك في كتابه ويقع هذا كثيراً للأولياء وبه كان يوحي لأبي عبد الله قضيب البان وغيره كبقيّة بن مخلد - رضي الله عنه- لكنه كان أضعف الجماعة في ذلك فكان لا يجده إلا بعد القيام من النوم مكتوباً في ورقة ، ثم قال : وقد رأيت ورقة نزلت على فقير في المطاف بعتقه من النار على هذه الصفة فلما رآها الناس علموا أنها ليست من كتابه المخلوقين فإن وُجِدت تلك الورقة فتلك الورقة من الله -عز وجل-". نقله عنه الشعراني في اليواقيت والجواهر (2/83-84) فادعى الزنديق أن الوحي ينزل على الأولياء كتابةً من الله -عز وجل- وادعى أنه شاهد ذلك ورآه بعينه .(1/74)
وقال ابن عربي أيضاً معللاً سبب تفريق الغزالي بين النبي والولي في طريقة التلقي عن الله " ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله واخبرهم بتنزل المَلك على الولي لقبلوا ذلك ولم ينكروه . قال : وقد نزل علينا مَلك فلله الحمد". ذكره عنه (الشيطاني) الشعراني في اليواقيت والجواهر في عقيدة ( الاسافل) الأكابر(2/85) فزعم ابن عربي في هذا النص أن الله يوحي إليه عن طريق الملك فهل هناك فرق بينه وبين مسيلمة الكذاب ، وهل بعد هذا الكفر من كفر ومع هذا هو الكبريت الأحمر والإمام الأعظم عند أهل الباطل من الصوفية .
وقال أبو يزيد البسطامي في كتاب الجواهر والدرر للشعراني بهامش الابريز للدباغ (86) :" أخذتم علمكم ميتاً عن ميت ونحن أخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت" .
وقال أيضاً :
"رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي : يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت زيِّنّي بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك ". فزعم الزنديق أن الله رفعه وخاطبه مباشرة كما زعم البرعي أن الله يكلم الأولياء مباشرة.وقال عبد العزيز الدباغ وهو من أئمة الصوفية :" وينزل الملك على الولي بالأمر والنهي " الأبريز للدباغ ص ( 143 ) .(1/75)
وكذلك زعم أحمد الرفاعي أن الله كلمه فقد أورد صاحب كتاب " قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي واتباعه الأكبار (ص180) " أن السيد ابراهيم الأعزب قال : كنت جالساً في الغرفة مع السيد أحمد الرفاعي - رضي الله عنه - ورأسه على ركبتيه فرفع رأسه وضحك بأعلى صوته فضحكت أنا أيضاً ثم ألححت عليه ليخبرني عن سبب ضحكه فقال : أي إبراهيم ناداني العزيز سبحانه أني أريد أن اخسف الأرض وأرمى السماء على الأرض فلما سمعت هذا النداء تعجبت وقلت إلاهي من ذا الذي يعارضك في ملكك وإرادتك قال : سيدي إبراهيم ، فأخذته الرعدة ووقع على الأرض وبقي في ذلك الحال زماناً طويلاً ".
الشاهد من النص زعم الرفاعي أن الله ناداه وكلمه وأنه تبادل الحديث معه كما هو واضح من النص تعالى الله ربنا عن مخاطبة أحمد الرفاعي علواً كبيراً . ومن كل ما أوردناه من النصوص يتبين لكل قارئ أن البرعي في ادعائه أن الأولياء يوحى إليهم وأن الله يكلمهم ويسمعون منه كلامه تماماً كما خطاب موسى عليه السلام ، ليس بمبتدع لهذا الكلام وإنما أخذه من كبار الزنادقة والملاحدة أهل النفاق الذين يدعون انهم مؤمنون بأن النبي -(- خاتم الأنبياء ، وحقيقة أمرهم أنهم كافرون بما ادعوه ومع كل هذا يدعون أنهم أحباب النبي -(- وأولياء الله وخاصته (كبرت كلمة تخرج من أوافههم إن يقولون إلا كذبا ( .
بيان بطلان هذا الإعتقاد الفاسد والكفر الصريح :
الأدلة على انقطاع الوحي من السماء بعد وفاة النبي -(- :(1/76)
(1)كل الأدلة التي تدل على أن النبوة قد ختمت تدل على أن الوحي قد انقطع من السماء قال - سبحانه وتعالى- في سورة الأحزاب : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شي عليماً((40)،فبين- سبحانه وتعالى- أن النبي -(- لا نبي بعده لأنه خاتم النبيين . فإذا ثبت أن النبي -(- هو خاتم النبيين دل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام هو آخر من يُوحى إليه. قال ابن كثير:" فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس وبهذا وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله -(- من حديث جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم" انتهى.
ومما يدل على أنه لا نبي بعد النبي -(- من كلامه عليه الصلاة والسلام ما رواه الإمام مسلم ( 4773 ) عن أبي حازم قال : "قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي -(- قال : كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال : فوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" .
وقال الإمام مسلم (6217) عن سعد بن أبي وقاص قال : "قال رسول الله -(- لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" . والشاهد من الحديثين أن النبي -(- بين ووضح أنه هو خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده .(1/77)
(2) ومما يدل كذلك على أن الوحي قد انقطع من السماء بموت النبي -(- ما رواه الإمام مسلم (6318) عن انس "قال أبوبكر - رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله -(- لعمر : انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها ، كما كان رسول الله -(- يزورها . فلما انتهينا إليها بكت ، فقالا لها : ما يبكيك ما عند الله خير لرسوله -(- ، فقالت : ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله -(- ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها .
والشاهد : أن أم أيمن وهي حاضنة رسول الله -(- أخبرت أن الوحي قد انقطع من السماء ووافقها على هذا وأقرَّها خليفة رسول الله -(- (أبو بكر الصديق ) خير هذه الأمة ، وأعلمها ، وأفضلها ، بعد رسول الله -(- والمحدَّث المُلهَم ، والعبقري الفذ صاحب رسول الله -(- أمير المؤمنين أبوحفص عمر بن الخطاب. بل إنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صرح بأن الوحي قد انقطع من السماء فيما أخرجه البخاري عن (2341) عبد الله بن عتبة قال :" سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - يقول : إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -(- وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيراً أمِنَّاه وقربناه ، وليس إلينا من سريرته شي، الله يُحاسب في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة" . فدل هذا على أن الوحي قد انقطع من السماء وفي الحديث كذلك بيان أن أبا بكر وعمر لم يكن يُوحى إليهما بعد رسول الله -(- ولو كان في هذه الأمة أحد يستحق أن يُوحى إليه بعد رسول الله -(- لكان أبو بكر ثم عمر - رضي الله عنهما - .(1/78)
والغريب في الأمر أنك إذا سألت البرعي وأهل التصوف هل ختمت النبوة لقالوا : نعم ، ولكن إذا سألتهم هل يُوحي الله إلى الأولياء الصالحين ، وتَحْدُث لهم مكاشفات يتحدثون فيها مع الله وتنزل الملائكة إليهم بالأمر من الله لقالوا : نعم . فإذا علمت هذا تبين لك أن المتصوفة ومنهم البرعي حقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بأن النبوة قد ختمت، ويدعون كذلك النبوة لأوليائهم وصالحيهم لكنهم يسمونها بغير اسمها . فإذا قال إنسان إن الله يوحي إلى فلان من الناس فقد اثبت له النبوة وإن لم يقل إنه نبي ، بل إن كثيراً من شيوخ المتصوفة يُبلِّغون ما ادعوا أن الله أوحاه لهم ويأمرون به اتباعهم وهؤلاء اثبتوا لأنفسهم النبوة والرسالة معاً. ومع كل هذا يصدقهم أتباعهم ويدافعون عنهم ولكنهم مع هذا لا يقولون أن الولي الفلاني نبي رسول ، بل ربما أنكروا على من يقول قولاً كهذا . ولكنَّ إنكارهم هذا لا ينفعهم عند الله أبداً لأنهم وإن قالوا أنهم مؤمنون بختم النبوة وأنه لا نبي بعد الرسول -(- إلا أن حقيقة أمرهم خلاف ما يدَّعون ، وهكذا هم دائماً يفعلون المنكر ويسمونه بغير اسمه كالشرك بالله يسمونه توسلاً ، وأفعال السحرة والكهان يسمونها كرامات . وإذا علمت كفر المتصوفة الباطن الذي يخفونه تحت مسميات أخرى ، تبين لك سبب تخلف المسلمين ونكباتهم المتتالية أمام أعدائهم ، والسبب هو أن أصحاب الكفر الباطن هم الغالبية في الأمة وهم المسيطرون على العقول وأصحاب النفوذ . وما كان الله أن ينصر المشركين والكفار والباطنيين أبداً .
الباب الثالث عشر
إيمان البرعي بعقيدة وحدة الوجود وادّعاؤه أنّ كل حيٍّ في الوجود هو الله ، ليس هذا فحسب بل كل موجود هو الله ، وأنّ كل فعلٍ يقع في الوجود إنما هو فعل الله ، تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً ، وإلزامه اتباعه بذكر شيطانيٍّ مُحْدَث يتضمّن وحدة الوجود
تعريف بعقيدة وحدة الوجود :-(1/79)
هي اعتقاد أن كل شيء في هذا الكون هو الله - سبحانه وتعالى- أي ، أن الوجود هو ذات الله ، فالشمس ، والقمر ، وجميع الجمادات هي الله وكذلك جميع الأحياء . والصوفية يُعبِّرون عن هذا المعنى بألفاظ متعددة ، ومختلفة ، يُموّهون بها على العامة ، وأحياناً يُصرِّحون به ، إذا أمِنُوا الإنكار عليهم ، ويعتبرون أن اعتقاد وحدة الوجود هو التوحيد الحق، تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً ، وهذه العقيدة هي أشدُّ العقائد فساداً ، وأعظمها بطلاناً ، لمخالفتها الصريحة للفطرة والعقل والشرع ويكفيها بطلانا أن إبليس مع كفره العظيم وتكبّره يعتقد خلافها ، وكذلك مشركو مكة ، وقد كانوا جميعاً يعتقدون أن الله خالقهم ، وخالق السماوات والأرض ، مما يدل على أنهم يُفرِّقون بين الخالق والمخلوق .
ومن كبار الزنادقة القائلين بوحدة الوجود محي الدين بن عربي الذي يعتبره كثير من المتصوفة خاتم الأولياء وإمام العلماء .
وإليك بعض أقواله في وحدة الوجود : قال في فصوص الحكم ص (83) متحدِّثاً عن الله :
ويعبدني وأعبده وفي الأعيان أجحده وأعرفه فأشهده .
فيحمدني و أحمده ففي حال أقربه فيعرفني وانكره .
ويقول :
يا ليت شعري من المكلف أو قلت رب أنى يُكلف .
الرب حق والعبد حق إن قلت عبد فذاك ميت .
ومن أقوله في فصوص الحكم ص (76) .
( ومن أسمائه الحسنى العلى على من ... وما ثم إلا هو فهو العلى لذاته أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى المحدثات العلية لذاتها وليست إلا هو _ إلى أن قال _ فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وهو المسمى أباسعيد الخراز وغير ذلك من المحدثات ).(1/80)
فالله - سبحانه وتعالى - هو المسمى أبا سعيد الخراز عند ابن عربي تعالى الله عمّا يقوله ابن عربي علواً كبيراً . وفي هذه الأبيات والنصوص يظهر جلياً قول ابن عربي بوحدة الوجود فما ثَمّ في الكون إلا الله على حدَّ زعمه ، ولا يظن ظانّ أن هذا هو مجموع كلامه في وحدة الوجود ، بل هذا جزءٌ يسير جداً من أقواله .
أقوال أهل العلم في ابن عربي :
قال عنه الذهبي في السير : "محي الدين محمد بن على بن أحمد الطائي الحاتمي المرسي . سكن الروم مدة _ ثم قال الذهبي _ من أردأ توا ليفه كتاب الفصوص فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر توفى سنة 638هـ ".
قال الإمام برهان الدين البقاعي عنه في مصرع التصوف (ص 217) :
"وقد تواتر نسبة ابن عربي وابن الفارض إلى الكفر تواتراً معنوياً وشاع ذلك على ألسنة المؤمنين الصادقين وإذا كان الله - سبحانه وتعالى- حكم بالكفر في كتابه الكريم على من قال إن الله هو المسيح فلم لا يحكم المسلمون على قطبي مذهب الحلول والاتحاد وكل منهما يقول : الله عين كل شيء " ص (217) .
وقال الإمام محمد بن عبد السلام عن ابن عربي حين سُئل عنه في مصر :
" إنه شيخ سوء مقبوح يقول بِقِدم العالم ولا يُحرِّم فرجاً ". مجموعة الرسائل والمسائل " لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/84) .
وقال الشيخ إبراهيم الجعبري : "رأيت ابن عربي شيخاً مخضوب اللحية وهو شيخ نجس يكفر بكل كتاب أنزله الله وكل شيء أرسله الله". مجموعة الرسائل والمسائل " لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/85) .
ذكر النصوص عن البرعي من أذكاره التي تدل على أنه يُقرُّ عقيدة وحدة الوجود .
لم يكتف البرعي باعتقاد وحدة الوجود فحسب بل أخذ يدعولها وينادي بها بين أتباعه ومريديه .ونوجز ما قام به في نشر هذه العقيدة الباطلة في الآتي :
أولاً : اخترع ذكراً محدثاً لم يُنزِّل الله به من سلطان يتضمن هذه العقيدة الفاسدة ويوضحها.(1/81)
ثانياً : الزم اتباعه بقول هذا الذكر وفرضه عليهم بل جعله أهم الأذكار التي تُبنى عليها أذكار طريقته البدعية وسمَّاه أساس الطريق .
ثالثاً : أخذ يُمجِّد في أشعاره أئمة الكفر الذين كانوا يعتقدون هذه العقيدة وينادون بها كأمثال ابن عربي والبسطامي .
الذكر الشيطاني المُحْدَث الذي أوحاه الشيطان إلى البرعي فأقرَّه واعتقده والزم به اتباعه وجعله أساساً لطريقته :
تقول : ( والمخاطب هو سالك الطريق على يد البرعي ) ياهو يا هو 100 جرد أو 20 سقط ( أي تعد بالمسبحة عداً أو تجرها جرداً ) .
ثم تغمض عينيك وتشير إلى السماء وتقول "ها" لا فاعل في الوجود إلا الله ، ثم تشير نحو اليمين والشمال وتقول : "هو" لاحي في الوجود إلا الله ، ثم تشير نحو الأرض وتقول "هي" لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات ) ، هذا الذكر هو أهم شيء في أذكار البرعي التي يُلزم بها من سلك الطريق على يديه أن يقوله كل يوم ، وأتباعه يُوزِّعون هذا الأساس مطبوعاً بأعداد كبيرة بين المسلمين نشراً لباطلهم ، ودعوة إليه . وفي هذا الأساس يبدو واضحاً جداً اعتقاد البرعي الكفري الخطير الذي يُربّي عليه أتباعه فقوله : لا حي في الوجود إلا الله ، أي كل حي هو الله .
وقوله لا فاعل في الوجود إلا الله ، أي أنّ كل الأفعال التي تحدث في الكون حتى معاصي العباد هي أفعال الله وليست أفعال العباد . وقوله لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات ، أي أن كل موجود هو ذات الله المنزَّه عن التشبيهات ، وهذا هو كلام ابن عربي وابن سبعين أئمة القائلين بوحدة الوجود بالحرف الواحد .
بيان بطلان أساس طريقة البرعي البدعية المبني على وحدة الوجود التي هي أفسد العقائد وأشدها كفراً :(1/82)
أولاً : قول البرعي : " لا حي في الوجود إلا الله " هذا القول هو من أقبح الأقوال ، وأشدها كفراً ، لأنه يستلزم أن يكون كل حي في الوجود هو الله كالإنسان ، والملائكة ، والشياطين ، والدواب ، وغيرها من الأحياء ، لأن الله - سبحانه وتعالى - أثبت الحياة لكثير من مخلوقاته قال - سبحانه وتعالى - في سورة الأنبياء :(أولم ير الذي كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون( (30). فدلّت الآية على أن هناك كثيراً من مخلوقات الله لها صفة الحياة .
وأثبت - سبحانه وتعالى - للبشر حياة كذلك فقال - سبحانه وتعالى- في سورة الحج : (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم إنّ الإنسان لكفور( (66) فبطل بهذا قول البرعي لا حي في الوجود إلا الله لأن الله وصف بني البشر الذين هم أحياء بأنهم عبيده ، وكذلك الجنّ وغيرهم من الأحياء فقال - تعالى - : ( إنْ كل مَن في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً (93) لقد أحصاهم وعدَّهم عدّاً ((94) .
ويستلزم قوله كذلك لا حي في الوجود إلا الله ، أن يكون إبليس هو الله : لأن إبليس من الأحياء قال - تعالى - : (قال ربِّ فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ( ، وهذا اللازم من أبطل الباطل الذي نفاه إبليس عن نفسه ، فإن إبليس أقرَّ أنَّ الله هو الذي خلقه فقال لله - سبحانه وتعالى- عندما أمره بالسجود لآدم (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ، وفرّق بينه وبين الله ، قال -سبحانه وتعالى- في سورة إبراهيم : ( وقال الشيطان لمّا قُضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ( (22) فبيَّن لأهل النار أن الله وعدهم وعد الحق و أنه أي الشيطان وعدهم فأخلفهم .(1/83)
- ويستلزم قوله الفاسد كذلك أن يكون الكلب هو الله لأن الكلب حي ، وكذلك الخنزير ، والفأر والثعبان وغيره من الدَّواب وهذا ما قال به أصحاب وحدة الوجود التي يدعو لها البرعي ، ويُمجِّد أصحابها ، قالوا :" وما الكلب والخنزير إلا إلهنا * وما الله إلا راهب في كنيسة " - تعالى- الله عمَّا يقولون علواً كبيراً .
واعلم أنّ الله - سبحانه وتعالى - قد حكم بالكفر على من قال إن عيسى ابن مريم هو الله مع أن عيسى من أُولى العزم من الرسل ، فكيف بمن قال إن الله هو الكلب والخنزير ، بل لا حي في الوجود إلا الله.
قال - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة : (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار( (72).
(2) قول البرعي في أساس طريقته: " لا وجود لغير الذات المُنزَّه عن التشبيهات " هذا القول أشدّ بطلاناً من القول قبله ، وأشدّ كفراً ، وبُهتاناً ، لأنه يستلزم أن يكون كل جماد وكل ميت هو الله ، وهذا نفس قول من يقول بوحدة الوجود . قال عبد الكريم الجيلي وهو من كبار ملاحدة الصوفية في كتابه الإنسان الكامل (1/61) وهو من القائلين بوحدة الوجود :
وما ثم مسموع وما ثم سامع هو السدرة اللاتي إليه المراجع هو الفلك الدّوار وهو الطبائع هو العنصر الناري وهو الطبائع .
فما ثم شيء سوى الله في الورى هو العرش والكرسي والمنظر العلى هو الأصل حقاً والرسوم مع الهوى هو النور والظلمات والماء والهوى .
بل ويستلزم قوله أن تكون أبوال الخنازير وفضلاتها وبول الإنسان وغائطة هو الله فتعالى الله عن قول البرعي علواً كبيراً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية أثناء تقسيمه للقائلين بالاتحاد في الرسائل والمسائل ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/29-31 )،قال :(1/84)
"الرابع : الاتحاد العام : وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين .
الأول : من جهة أنّ أولئك قالوا إنّ الربّ يتّحد بعبده الذي قرّبه واصطفاه بعد أن لم يكونا متّحدين وهؤلاء يقولون مازال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره .
والثاني : من جهة أن أولئك خصُّوا ذلك بمن عظَّموه كالمسيح ، وهؤلاء جعلوا ذلك سارياً في الكلاب والخنازير والقذر والأوساخ وإذا كان الله -تعالى- قال : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ( فكيف بمن قال : إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانيين والأنجاس والأنتان وكل شيء ، و إذا كان الله قد ردَّ قول اليهود والنّصارى لمّا قالوا : " نحن أبناء الله وأحباّؤه " وقال لهم " قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه وإن كل ناطق في الكون فهو عين السامع كما في قوله -(- "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها " وأن الناكح عين المنكوح ..." .
(3) وقول البرعي في أساس الطريقه " لا فاعل في الوجود إلا الله" يقتضي أن تكون السرقة والزنى وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ، والظلم هو من فعل الله ، تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً وهذا ما نفاه الله عن نفسه قال - تعالى - في الحديث القدسي "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً فلا تظالموا " فتبيَّن أنّ قول البرعي "لا فاعل في الوجود إلا الله " من أخبث الأقوال وأبطلها خاصة إذا علمت أن اتباعه يجب عليهم أن يقولوا هذا القول كل يوم .(1/85)
ثانياً : يقتضي قول البرعي " لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات ، وهو الله " أن كل من عبد صنماً أو حجراً أو شجراً أو شيطاناً هو مصيب لأنها من الموجودات ، وعلى زعم البرعي لا وجود لغير الله وهو الذات المُنزَّه عن التشبيهات ، فدَّل قوله هذا على أن الشجر هو الله ، والحجر هو الله ، فمن عبدهما فهو مصيب لأنه ما عبد إلا الله وهذا قول الزنديق الأكبر مميت الدين ابن عربي فإنه يجوز عبادة كل شيء قال في فصوص النغم :"فلله درجات يعبد فيها وكل صنم وإله عبد في الأرض فهو إحدى الدرجات وأسماها " وقال في تفسيره لسورة طه " (ص95 ) . فصوص الحكم :" ولذلك حرَّق موسى العجل حتى لا يحصر الإله في شيء واحد وقال له "وانظر إلى إلاهك " فسمَّاه إلاهاً بطريق التّنبيه للتَّعليم أنه بعض لمجالي الإلهية" انتهى كلامه . وهذا من أعظم الكفر الذي يناقض القران قال -سبحانه وتعالى- في سورة يس :(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ( (6) فنهى -سبحانه- عن عبادة الشيطان فدَّل هذا على أنه ليس هو الله وكذلك قال - تعالى - في سورة فصلت : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ( (37) فدَّل هذا على أن قول البرعي لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات هو من أبطل الباطل وأعظم الكفر .
ثالثاً : قول البرعي " لا وجود لغير الذات المُنزّه عن التّشبيهات " يستلزم القول بوحدة الأديان لأن جميع أهل الأديان إنما يعبدون موجودات كالأحجار أو الأشجار أو الدواب كالأبقار أو الشمس أو القمر ، وبما أن جميع هذه الموجودات هي ذات الله فيستلزم هذا أنهم جميعاً على الحق لأنهم ما عبدوا إلا الله . وهذا القول يقول به زنديق القوم الأكبر ابن عربي في كتابه ذخائر الأعلاق وشرح ترجمان الأشواق ( ص 39 ) .(1/86)
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني فمرعى لغزلان ودير لرهبان وألواح توراة ومصحف قران فالدين ديني وإيماني .
لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبي لقد صار قلبي قابلاً كل صورة وبيت لأوثان وكعبة طائف أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه .
وهذا القول من أعظم المحادّاة لله ولدينه ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى- أخبر أنه لا يرتضي من الأديان إلا الإسلام ، وأنه لا يقبل غيره،قال - تعالى- في سورة آل عمران : ( إنّ الدين عند الله الإسلام ( (19) .
وقال - تعالى - : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( (85) .
رابعاً : مما يدل على بطلان قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ما ألزم به الدكتور محمود عبد الرؤوف القاسم القائلين بهذا القول في ردِّه عليهم وبيانه لباطلهم " في كتابه حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ (ص 704-706) .
قال يقول -سبحانه وتعالى-: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ولقد علمت الجنّة إنهم لمحضرون ( طبعاً وحدة الوجود تجعل الجنّ جزءً من الله تعالى وليس بعد هذا النسب ما هو أقوى منه لأنه نسب بعض الذات إلى الذات لكن الآية الكريمة تستهجن هذه الفكرة نفياً لها ودحضاً وتُنزِّه الله -سبحانه وتعالى - عمّا يصفه هؤلاء الواصفون والعبارة " ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون" واضحة الدلالة على أن الجن لو كانوا يتّصلون بنسب إلى الله - سبحانه وتعالى - لما جعلهم من المحضرين وعدم وجود النسب بينه سبحانه وبين الجنة ينفي وحدة الوجود نفياً كاملاً .(1/87)
ويقول - سبحانه وتعالى - : ( وقد خلقتك من قبل ولم تَكُ شيئاً ( ويقول : ( أولا يذكر الإنسان أنَّا خلقناه من قبل ولم يَكُ شيئاً ( الآيتان واضحتان كل الوضوح أنّ الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان من لا شيء من العدم ولو كانت وحدة الوجود واقعة لكان الإنسان شيئاً قبل أن يوجد كما هو الآن شيء بعد وجوده فكون الإنسان خُلق من لا شيء من العدم ينفي وحدة الوجود جملة وتفصيلاً ؛ لأن الله تعالى ليس عدماً إنه الحي القيوم الخالق البارئ المُصَوِّر ثم قال : " ولو كان الخلق هو الحق " كما يفترون وكانت المخلوقات جُزءاً من الله -سبحانه وتعالى- تعيَّنت بهذه الأشكال المختلفة لما بقى أيُّ معنى للأسماء الحسنى: الخالق ، البارئ، الفاطر ، بديع السماوات والأرض ، التي تعني كلها الإيجاد من العدم ولو كانت وحدة الوجود صحيحة لكان الإنسان جزءاً من الله ولكانت الآية ( إن الإنسان لفي خُسر ( باطلة وكان الإنسان في ربح سواءً آمن أو لم يؤمن ، وعمل صالحاً أو لم يعمل ، وتواصى بالحق والصبر أم لم يتواصَّ، لأنه جزء من الله . وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تصبح شتماً لله لو صحَّت عقيدة الصوفية بوحدة الوجود مثل قوله - سبحانه وتعالى - : (وأُتْبِعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة ألا إنَّ عاداً كفروا ربَّهم ألا بُعداً لعادٍ قوم هود ( (60) ، لأنَّ عادًا حسب زعمهم وعقيدتهم الباطلة هم جزء من الله - سبحانه وتعالى - حيث يُصبح معنى الآية الكريمة : إن جزءاً من الله - تعالى عمّا يصفون - أُتبع في هذه الدنيا ويوم القيامة .
تمّ بحمد الله
كتبه مقيده عفا الله عنه
أبو عبد الرحمن عمر بن التهامي بن عبد الرحمن
فهرس كتاب إيقاد المصابيح
مقدمة…2
الباب الأول :
اعتقاد البرعي أن الله سبحانه وتعالى يحل في الأولياء الصالحين ويتحد معهم وتمنيه الوصول لهذه المرتبة المزعومة وثناؤه على أهل الحلول والإتحاد أمثال الحلاج والبسطامي…9
الباب الثاني :(1/88)
إعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يشاركون الله في الحكم والأمر والتدبير…22
الباب الثالث :
بيان شرك البرعي وتفانيه في الدعوة إليه وحثه الناس للإشراك بالله عند الشدائد والكروب .…37
الباب الرابع :
إعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يرون النبي -(-جهرةً بعد موته ويجلسون معه ويحدثهم ويحدثونه…41
الباب الخامس :
بيان اعتقاد البرعي أن شيخه بعد موته يحضرعند قبض روح مريده ويلقنه الحجة ويكون كذلك حاضراً عندما يسأله الملكان ويلقنه كذلك الحجة ويؤانسه في قبره ويدخله الجنة .…49
الباب السادس :
بيان بطلان اعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يختم لمريديهم بحسن الخاتمة وأنهم يكونون آمنين يوم القيامة وأنهم يدخلون الجنة مباشرة بلا عذاب .…55
الباب السابع :
وهْم البرعي في أن الخبر إذا كان متواتراً كان حقاً في نفسه وسلوكه سبيل المشركين في الاحتجاج بالتواتر…64
الباب الثامن :
بيان إعتقاد البرعي أن ثواب المرة الواحدة من صلاة الفاتح يعدل ثواب قراءة القرآن ستة آلف مرة وأنَّ فضل المرة الواحدة من جوهرة الكمال يعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومدحه لأحمد التيجاني بقصيدة كاملة…66
الباب التاسع :
بيان إعتقاد البرعي أن الميت لا يعذب في القبر إذا كتب اسم عبد القادر الجيلاني على كفنه أو قال الدافن هذا قبر أحمد الطيب ..................................................72
الباب العاشر :
بيان اعتقاد البرعي أنَّ رِضَى الله لا ينال إلا عن طريق شيخ من شيوخ الطرق الصوفية . تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً وأنَّ من شروط ذكر الله مبايعة أحد شيوخ الطرق الصوفية…78
الباب الحادي عشر :(1/89)
- بيان إعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يسعهم الخروج عن شريعة النبي -(- ومخالفتها كما خرج الخضر عن شريعة موسى على حد زعمه وأنه لا ينبغي أن ينكر عليهم ولو أتوا بمنكر واضح يخالف شريعة الله ويجب على من رآهم على منكر ما أن يرضى بذلك ويتذكر قصة موسى والخضر حتى تكون عوناً له على عدم الإنكار.................................84
الباب الثاني عشر :
بيان اعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يُوحى إليهم ، وأن الله - سبحانه وتعالى - يكلمهم مباشرة ، وأنهم يسمعون منه ذلك الكلام…88
الباب الثالث عشر :
إيمان البرعي بعقيدة وحدة الوجود وادعاؤه أن كل حيٍّ في الوجود هو الله ، ليس هذا فحسب بل كل موجود هو الله ، وأن كل فعلٍ يقع في الوجود إنما هو فعل الله ، تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً ، وإلزامه اتباعه بذكر شيطانيٍّ محدث يتضمن وحدة الوجود .…59
??
??
??
??
1
13
10(1/90)