بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فنحن في زمن كثر فيه المال، وتنوعت التجارات، وانتشرت المرابحات، وصار لها أقوى الدعايات.
ولهذا اجتذبت نفراً غير قليل من الناس؛ فصاروا يسألون عنها، ويتواصون بها؛ رغبة في المال، وحرصاً على تنميته، وخوفاً من معرة الفقر، ومذلة الحاجة.
ولا تثريب عليهم في ذلك؛ إذ لابد للناس من دنياهم، ولا مأثمة في صنيعهم إذا لم يكن من طريق محرم، ولا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل.
ولقد ذكر الله _ تعالى _ التجارة في معرض الحط من شأنها حيث شغلت عن طاعة في قوله _ تعالى _: [ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] الجمعة: 11
ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية، وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها _ ذكرها، ولم يهضم من حقها شيئاً، فقال _ تعالى _: [رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ]النور: 37.
فأثبت لهؤلاء الكُمَّل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية.
وكما أذن الإسلام في اكتساب الأموال، واستثمار أرباحها من وجوهها المعتدلة أذن في الاستمتاع بها، وترويح الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد.
وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا فلا يقصد منها ترغيب الإنسان؛ ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.(1/1)
وإنما يُقْصَدُ منها _ فيما يبدو _ حكم أخرى كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومَنْ قَصُرَتْ أيديهم عن تناولها؛ لئلا تضيق صدورُهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاعُ ما في طبيعتها من الشَّرَهِ، والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة.
فاستصغارُ متاع الدنيا، وتحقيرُ لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبِرُ بهممهم عن جعلها قبلةً يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا.
وقد بين لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذِّ الحياة، ولم يَصْحُ فؤاده عن اللهو بزخارفها ماتت عواطفه، ونسي، أو تناسى من أين تؤتى المكارم، والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.
وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة، والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده _ فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس، وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة؛ فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة. (1)
وبعد هذه الجولة العجلى في نظر الشارع إلى المال، وإباحته سائر المعاملات والمرابحات ما لم تكن مخالفة للشرع، وإذنه بالاستمتاع بالمال ما لم يشغل عن طاعة _ نصل إلى مربط الفرس، وبيت القصيد وهو التجارة الأخروية، والمعاملة مع الله _ عز وجل _.
فتلك هي التجارة الرابحة، والمعاملة المُنْجِحَة التي لا تخضع لحسابات البشر، ولا لمقاييسهم المادية.
وهي التي يجب أن تكون الأصل، لا أن تكون هي الفرع، ولا أن تكون الدنيا هي المُقَدَّمة.
__________
(1) انظر الحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين ص37_39.(1/2)
قال الله _ عز وجل _ في شأن قارون وما قال له قومه: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] القصص: 77.
أما إذا عكس الأمر _ كما هو الحال عند فئام من الناس _ فصارت الدنيا هي الأصل، والآخرة هي الفرع، أو لم تخطر لهم بالبال، ولم تكن في الحسبان _ فذلك هو الوبال، والخبال، والخسران المبين.
جاء في الحديث المرفوع عن أنس بن مالك ÷: =من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له+. (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ينبغي له أن يأخذ المال بسخاوة نفس؛ ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع، بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء+. (2)
وقال في موضع آخر: =فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده؛ فيكون هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً+. (3)
وقال أبو حازم سلمة بن دينار ×: =أوحى الله _ عز وجل _ إلى الدنيا: من خدمك فأتعبيه، ومن خدمني فاخدميه+. (4)
وجاء في بعض الآثار: =ابن آدم بِعْ نصيبك من الدنيا بالآخرة تربحهما جميعاً، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعاً+. (5)
__________
(1) رواه الترمذي (2465) وسكت عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6510).
(2) مجموع الفتاوى 10/663.
(3) العبودية ص102.
(4) الزهد الكبير للبيهقي ص12.
(5) الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم ص30.(1/3)
وقال بعض السلف: =أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج؛ فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مَرَّ على نصيبك من الدنيا، فانتظمه انتظاماً+. (1)
وبعد: فهذه توطئة ومدخل بين يدي شرح هذه الرسالة الصغيرة في حجمها الكبيرة في معناها، والتي رَقَمَتْها يراعةُ إمام فذ، وعالم جهبذ بأسلوب سهل ميسور، وفي قالب مرغِّب مُقرِّب.
أما المؤلف فهو العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي ×.
أما الرسالة فهي:
(الأسباب والأعمال التي يضاعف بها الثواب)
وهي جواب مسدد، لسؤال عظيم، يترتب عليه ثواب جزيل، كيف لا وهذه الرسالة تدور حول العمل الصالح ومضاعفته، والطرق الموصلة إلى ذلك؟
كيف لا، وهي تدل على خير عظيم بسبب عمل يسير، وتدفع إلى مزيد من البر والإحسان، وترفع الآخذ بها درجات؟
فهي _ بحق _ ميدان فسيح للمرابحة والتجارة التي لا تبور.
ثم إن كثيراً من تلك الأسباب التي سيرد ذكرها وشرحها لا تحتاج إلا إلى نية واحتساب؛ إذ العبد يؤديها أحياناً هكذا من تلقاء نفسه؛ فإذا استحضر النية، واستشعر الثواب، وحرص على إيقاع العمل على أحسن وجوهه _ تضاعف ثوابه، وعظم أجره.
ولقد ذكر المؤلف × لمضاعفة العمل أسباباً عديدة، وضوابطَ جامعةً يدخل تحتها أفراد كثيرة.
ولا ريب أن هذا باب من أبواب العلم لطيف شريف يفتح آفاقاً من الخير، وينهض بالعبد إلى أعلى مقامات العبادة والسعادة، ويرقى بالأمة إلى أقصى مراتب السيادة والمجادة، ويغلق أبواباً من الشر لا تحصى، ويدعو إلى تنزيل الأعمال منازلها، وأن يُجعل لكل مقام ما يليق به.
وكم حصل من الجهل أو التفريط بهذا الأصل _ وهو معرفة مراتب الأعمال، وأسباب مضاعفتها _ من ضياع للفرص، وحرمان الأمة من خير عظيم، وطاقات كثيرة.
وبالجملة فهذه الرسالة جمعت خيراً كثيراً، واحتوت على وصايا نافعة قد لا تظفر بها مجتمعة في غير هذا الموضع.
__________
(1) الزهد للإمام احمد ص228.(1/4)
ولعل السببَ في شرحها لَفْتُ الأنظار إليها، والرغبة في أن تأخذ حقها من الذيوع؛ لما لها من الأهمية التي مرَّ ذكر لشيء منها، وسيمر _ أيضاً _ شيء من ذلك.
وقبل الشروع في شرح تلك الرسالة يحسن الوقوف على شيء من سيرة كاتبها، وعلى شيء من المباحث التي تبين محتوياتها ومكنوناتها، وعلى الطريقة التي سيسير عليها الشرح.
وأخيراً أتوجه بالشكر لله _ عز وجل _ على توفيقه وإعانته، وأسأله الإخلاص والقبول.
ثم أشكر كل من أعان على إخراج هذا العمل أياً كان نوع الإعانة، وأسأل الله _ عز وجل _ أن يجزيه خير الجزاء، وأن يجعله ذخراً له يوم يلقاه، والله المستعان، وعليه التكلان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد بن إبراهيم الحمد
21/1/1426هـ
الزلفي 11932
ص ب: 460
www. Toislam. Net
المبحث الأول
أولاً: نسبه، ومولده، ونشأته: هو الشيخ العلامة الزاهد الورع الفقيه الأصولي المفسر عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله ابن ناصر بن حمد آل سعدي من نواصر بني تميم.
ولد في الثاني عشر من شهر الله المحرم سنة ألف وثلاثمائة وسبع للهجرة النبوية الشريفة.
توفيت أمه سنة 1310هـ، وتوفي والده سنة 1313هـ فعاش يتيم الأبوين.
كان والده من أهل العلم والصلاح، وكان إماماً في مسجد المسوكف في عنيزة.
ولما توفي والده عطفت عليه زوجة والده، وأحبته أكثر من حبها لأولادها، فصار عندها موضع العناية؛ فلما شبَّ عن الطوق صار في بيت أخيه الأكبر حمد؛ فنشأ نشأة صالحة كريمة.
وكان الشيخ عبدالرحمن معروفاً منذ نشأته بالصلاح، والمحافظة على الصلاة مع الجماعة، كما اشتهر بفطنته، وذكائه، ورغبته الشديدة في العلم.
ثانياً: وصفه الخَلْقي: كان ذا قامة متوسطة، شعره كثيف، ووجهه مستدير ممتلئ طلق، ولحيته كثيفة، ولونه أبيض مشرب بحمرة.(1/5)
وكان شعره في شبيبته في غاية السواد، وبعدما كَبِر قليلاً صارت لحيته في غاية البياض؛ حيث ابيضَّت لحيته وهو في الثامنة والعشرين من عمره تقريباً _ كما أفاد بذلك ابنه محمد _.
وكان على وجه حسن، ونور، وصفاوة.
ثالثاً: أخلاقه: كان ×آية باهرة في الأخلاق؛ فكان رحيماً بالناس، متودداً لهم، محباً لنفعهم، صبوراً عليهم.
وكان ذا دعابة ومرح، طلق ا لمحيا، لا يُعْرَفُ الغضب في وجهه، وكان ينزل الناس منازلهم، ويحرص على القرب منهم، وإجابة دعواتهم، وزيارة مرضاهم، وتشييع جنائزهم.
وكان على جانب كبير من عفة اليد، ونزاهة العرض، وعزة النفس، وكان محباً لإصلاح ذات البين؛ فما من مشكلة تعرض عليه إلا ويسعى في حلها برضا من جميع الأطراف؛ لما ألقى الله عليه من محبة الخلق له، وانقيادهم لمشورته.
رابعاً: أعماله: قام × بأعمال جليلة أعظمها دروسه العلمية، وخطبه المنبرية، وتأسيسه وتشجيعه لكثير من الأعمال والمشاريع الخيرية.
وكان مرجع بلدته عنيزة في جميع الأمور؛ فهو المدرس، والواعظ، وإمام الجامع، وخطيبه.
وهو المفتي، وكاتب الوثائق، ومحرر الوصايا، وعاقد الأنكحة، ومستشار الناس فيما ينوبهم، كل ذلك كان يؤديه حسبةً لله دون مقابل مادي.
عرض عليه القضاء عام 1360هـ فتأبى، وتكدر كثيراً حتى إنه كان يغمى عليه في بعض الأوقات، وكان لا يشتهي الطعام، حتى يسر الله له التخلص منه.
وكان يشرف على المعهد العلمي في عنيزة عندما أُسس عام 1373هـ فكان يشرف عليه دون مقابل.
خامساً: مرضه ووفاته: أصيب عام 1371هـ قبل وفاته بخمس سنين بمرض ضغط الدم، وتصلب الشرايين، فكان يعتريه مرة بعد أخرى إلى أن توفاه الله قبل طلوع فجر يوم الخميس 23 سنة 1376هـ عن تسع وستين سنة.
سادساً: علمه: حرص الشيخ × منذ نشأته على طلب العلم، وأمضى حياته في العلم حفظاً، ودراسة، وتحصيلاً، وتدريساً لا يصرفه عنه صارف.(1/6)
وكانت له اليد الطولى، والأثر العظيم في النهضة العلمية في بلده عنيزة خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة، ولا زالت آثاره تتجدد إلى يومنا هذا.
وقد تخرج عليه أعداد من الطلاب، وترك عدداً كبيراً من المؤلفات النافعة في التفسير، والحديث، والأصول، والعقيدة، والفقه، والآداب ونحو ذلك. (1)
ومن هذه المؤلفات: تفسيره المعروف بـ: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ومنها خلاصة التفسير، والقواعد الحسان، والفتاوى، وبهجة قلوب الأبرار، وغيرها.
ومن الطلاب الذين درسوا عليه: الشيخ عبدالله بن عقيل _ حفظه الله _ والشيخ عبدالعزيز السلمان، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبدالله البسام _ رحمهم الله _.
المبحث الثاني
أولاً: أهمية الرسالة:
لهذه الرسالة أهمية عظيمة، ولقد مر في المقدمة شيء من ذلك، ومما يبرز تلك الأهمية بإجمال ما يلي:
1_ مسيس الحاجة إليها؛ إذ نحن في زمن شاع فيها التكالب على الدنيا _كما مر_.
وهذه الرسالة تقود إلى الآخرة، وتطفئ من حِدَّة الشَّره، وترغِّب في الإقبال على العمل الصالح؛ فهي جديرة بالشرح والبسط.
2_ أنها تضمنت نفائس من العلم، ودلت على أبواب كثيرة من الخير على وجازتها _ كما سيأتي عند الحديث عما اشتملت عليه _.
__________
(1) انظر في ترجمة الشيخ عبدالرحمن السعدي إلى روضة الناظرين للشيخ حمد القاضي 1/219_227، وعلماء نجد خلال ستة قرون للشيخ عبدالله البسام 2/422، والشيخ عبدالرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة للشيخ د. عبدالرزاق بن عبدالمحسن العباد ص13_61.
ومواقف من حياة الشيخ الوالد ابن سعدي لابن الشيخ الأستاذ محمد بن عبدالرحمن السعدي، عناية الأستاذ مساعد السعدي، وهو مخطوط وفيه جملة من أخبار الشيخ ×.
ولعل الله _ بمنه وكرمه _ ييسر الفرصة للكتابة عن سيرة الشيخ × فلدي جملة صالحة من تلك السيرة الغراء؛ فلعلها تكتمل، وتنشر؛ وتستخلص منها الدروس والعبر.(1/7)
3_ أنها صدرت من عالم رباني له وزنه، ومكانته، وقبوله.
4_ أنها تُبِيْنُ عن علمٍ جم، ودقةٍ في الاستنباط، وحسن نظر في النصوص، ومراعاةٍ لمقاصد الشريعة.
5_ أنها صالحة للخاصة والعامة، ولذوي الغنى واليسار، وذوي الفقر والفاقة.
6_ أنها تحيي الأمل، وتفتح باب الرجاء لمن ظهر له من نفسه أن لا خير فيه، ولا نفع يرتجى من ورائه.
7_ أنها تعين على اختصار كثير من الجهود والأعمال.
ثانياً: تعريف بالرسالة:
هذه الرسالة جاءت في المجلد الذي يحمل مسمى (الفتاوى) وهو ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبدالرحمن السعدي والذي طبعه مركز صالح ابن صالح الثقافي.
وهذا المجلد يحتوي على فتاوى كثيرة تحت مسمى =الفتاوى السعدية+.
وهذه الرسالة تقع في أربع صفحات ونصف حيث جاءت في ص35_39 من الفتاوى.
وقد جاءت ضمن القسم الأول فيما يتعلق بأصول الدين والحديث، وقد عنون لها بـ:
المسألة التاسعة
في الأسباب والأعمال التي يتضاعف بها الثواب
وقد صُدِّرت بالسؤال التالي:
ما هي الأسباب التي يضاعف بها الثواب؟
وربما يكون هذا السؤال قد ورد على الشيخ × فأجاب عليه، وربما يكون مِنْ وَضْع الشيخ؛ حيث كان يأخذ بهذه الطريقة أحياناً؛ حيث يورد أسئلة يرى أن الحاجة تدعو إليها، ثم يجيب عن تلك الأسئلة.
ثالثاً: مجمل ما احتوت عليه تلك الرسالة:
احتوت هذه الرسالة على مباحث عظيمة، ومطالب عالية، ووصايا نافعة، ومسائل علمية دقيقة ربما لا تجتمع في غير هذا الموضع على قصره ووجازته.
وإليك فيما يلي إجمالاً لما اشتملت عليه:
1_ تقرير أن الأصل في الحسنة مضاعفتها إلى عشر.
2_ بيان أن المضاعفة قد تزيد على عشر إلى أضعاف كثيرة إذا حصل موجبها.
3_ ذكر الأسباب والأصول العامة للمضاعفة، وهي إما متعلقة بالعامل، أو بالعمل نفسه، أو بزمانه، أو بمكانه، أو بآثاره.
4_ الشروع بذكر الأسباب التي يضاعف بها الثواب مفصَّلةً وسيأتي ذكرها في المبحث الذي يلي هذا المبحث.(1/8)
5_ التنويه بشأن الإخلاص، وبيان أنه داخل في أكثر الأسباب التي يضاعف بها الثواب.
6_ بيان أن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما يقوم بالقلوب من حقائق الإيمان.
7_ تقرير القاعدة المشهورة التي مفادها: أن العمل المفضول قد يعرض له ما يصيِّره فاضلاً.
8_ بيان أفضلية أهل الإخلاص، والإحسان، والذكر.
رابعاً: الأسباب التي ذكرها المؤلف لمضاعفة الثواب:
ذكر المؤلف × أصولاً عامة للمضاعفة _ كما مر في الفقرة الماضية _.
ثم شرع بذكر أسباب المضاعفة على سبيل التفصيل، وهذه الأسباب _ أيضاً _ أشبه بالضوابط، والأصول، ويدخل تحتها أفراد كثيرة يصعب حصرها.
وبعض هذه الأسباب قريب من بعض، بل داخل في بعض، وقد تجتمع في شخص، أو زمان، أو مكان.
وقد أوصلها × إلى سبعة عشر سبباً، وإليكها على سبيل الإجمال:
1_ تحقيق الإخلاص والمتابعة.
2_ صحة العقيدة، وقوة الإيمانِ والإرادةِ والرغبةِ في ا لخير.
3_ عموم نفع العمل للإسلام، وعظم وقعه وأثره، ويدخل تحت ذلك أمور كثيرة: الجهاد البدني والمالي، والجهاد في تعلم العلم وتعليمه، والمشاريع الخيرية العامة.
4_ الشراكة في الخير المتعدي، والاجتماع على العمل.
5_ التسبب في الخير، ودلالة الناس عليه.
6_ كبر النفع للعمل، كالإنجاء من المهالك، وإزالة الأضرار، وكشف الكرب.
7_ حسن الإسلام، وحسن الطريقة، وترك الذنوب.
8_ رفعة العامل، ومقامه العالي في الإسلام.
9_ الصدقة من الكسب الطيب.
10_ شرف الزمان.
11_ شرف المكان.
12_ العبادة في الأوقات التي حث الشارع على قصدها.
13_ القيام بالأعمال الصالحة عند المعارضات: النفسية، والخارجية.
14_ الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان، والمراقبة، وحضور القلب في العمل.
15_ الآثار الحسنة للعمل الصالح في نفع العبد، وزيادة إيمانه، ورقة قلبه، وما جرى مجرى ذلك.
16_ إسرار العمل إذا اقتضاه المقام.
17_ إعلان العمل إذا كان هو الأنسب، كما إذا حصل بذلك التأسي.(1/9)
هذه هي الأسباب التي ذكرها على سبيل الإجمال، ويمكن أن تزيد لو حصل تشقيق لها، وتفريق لبعضها عن بعض.
خامساً: طريقة الشرح: الطريقة التي سيسير عليها شرح هذه الرسالة سيكون _بمشيئة الله_ على النحو التالي:
1_ يكتب من متن الرسالة سطر أو سطران، أو أكثر، أو أقل في أعلى الصفحة، ثم يشرع في ترقيم ما يراد شرحه في الهامش أسفل الصفحات.
2_ قد يُعمد إلى شرح الفقرة عموماً دون التعرض لتحليل الألفاظ وشرحها، خصوصاً إذا كانت الألفاظ واضحة.
3_ يتم تخريج الأحاديث الواردة في المتن.
4_ يُرجع في الشرح إلى التفاسير، وكتب شروح الحديث، والمعاجم وغيرها.
5_ يُرجع _ في الأغلب _ في الشرح إلى كتب الشيخ عبدالرحمن السعدي × إذ خير ما يُفَسِّر كلامَهُ كلامُهُ، خصوصاً وأن آثاره كثيرة، وغالباً ما يجمل الكلام في موضع، ويبسطه في موضع آخر.
6_ ربط بعض ما في المتن ببعض الأمور المستجدة في حياة الناس.
7_ الإكثار من الأمثلة والأفراد التي تندرج تحت الأصول والضوابط العامة؛ ليتبين المقصود بصورة أجلى وأوضح، ولتحصل الفائدة المرجوة لطبقات أكثر وأعم.
8_ قد يكون العزو إلى النقول مع الشرح، وقد يكون أسفل الصفحة، أي تحت الهامش الأول.
9_ قد يجمل الشرح في بعض المواضع، وقد يفصل في بعضها الآخر؛ حسب الحاجة والأهمية.
هذه _ في الجملة _ صورة مجملة تقريبية للطريقة التي سيسير عليها الشرح.
المسألة التاسعة: في الأسباب والأعمال التي يضاعف بها الثواب
ما هي الأسبابُ والأعمالُ التي يُضاعفُ ثوابُها؟
الجواب وبالله التوفيق: أما مضاعفةُ العملِ بالحسنةِ إلى عَشْرِ أمثالِها _ فهذا لا بدَّ منه في كلِّ عملٍ صالح، كما قال _ تعالى _: [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]الأنعام:159
وأما المضاعفةُ بزيادةٍ عن ذلك _ وهي مراد السائل _ فلها أسبابٌ: إما متعلقةٌ بالعاملِ، أو بالعمل نفسِه، أو بزمانه، أو بمكانه، وآثاره.(1/10)
فمن أهمِّ أسباب المضاعفةِ إذا حقَّق العبدُ في عَمَلِهِ الإخلاصَ للمعبودِ والمتابعةَ للرسول؛ فالعمل إذا كان من الأعمالِ المشروعةِ، وقَصَدَ العبدُ به رضى ربِّه وثوابَهُ، وحقق هذا القصدَ بأن يجعلَه هو الداعيَ له إلى العمل، وهو الغايةَ لعمله، بأن يكون عَمَلُه صادراً عن إيمان بالله ورسوله، وأن يكون الداعي له لأجل أمر الشارع، وأن يكون القصدُ منه وجهَ اللهِ ورضاه، كما ورد في عدة آياتٍ وأحاديثَ _ هذا المعنى، كقوله _ تعالى _: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] المائدة:27.
أي المتقين الله في عملهم بتحقيق الإخلاص والمتابعة.
وكما في قوله ": =من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه+.
وغيرها من النصوص.
والقليلُ من العمل مع الإخلاص الكامل يَرجَحُ بالكثير الذي لم يصل إلى مرتبته في قوة الإخلاص.
ولهذا كانت الأعمالُ الظاهرةُ تتفاضل عند الله بتفاضل ما يقوم بالقلوب من الإيمان والإخلاص.
ويدخل في الأعمالِ الصالحةِ التي تتفاضل بتفاضل الإخلاص _ تركُ ما تشتهيه النفوس من الشهوات المحرمة إذا تركها خالصاً من قلبه، ولم يكن لتركها من الدواعي غيرُ الإخلاصِ، وقصةُ أصحابِ الغارِ شاهدةٌ بذلك.
ومن أسباب المضاعفة _ وهو أصل وأساس لما تقدم _ صحةُ العقيدة، وقوةُ الإيمان بالله وصفاته، وقوةُ إرادة العبد، ورغبتُهُ في الخير؛ فإن أهلَ السنة والجماعة المحضة، وأهلَ العلم الكامل المفصَّل بأسماء الله وصفاته، وقوة لقاء الله _ تُضاعفُ أعمالُهم مضاعفةً كبيرةً لا يحصل مثلُها، ولا قريبٌ منها لمن لم يشاركوهم في هذا الإيمان والعقيدة.
ولهذا كان السلف يقولون: أهل السنة إن قَعَدتْ بهم أعمالُهم قامت بهم عقائدُهم، وأهلُ البدع إن كثرت أعمالُهم قَعَدتْ بهم عقائدهم.(1/11)
ووجه الاعتبار أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون، ومعلومٌ الفرقُ بين مَنْ يمشي على الصراط المستقيم، وبين من هو منحرف عنه إلى طرق الجحيم، وغايتُه أن يكون ضالاً متأولاً.
ومن أسباب مضاعفة العمل أن يكون من الأعمال التي نَفْعُها للإسلام والمسلمين له وقْعٌ وأثرٌ وغَنَاءٌ، ونفعٌ كبيرٌ، وذلك كالجهاد في سبيل الله: الجهاد البدنيِّ، والماليِّ، والقوليِّ، ومجادلةِ المنحرفين كما ذكر اللهُ نفقةَ المجاهدين ومضاعفتَها بسبعمائة ضعف.
ومن أعظم الجهاد سلوكُ طرقِ التعلم والتعليم؛ فإن الاشتغال بذلك لمن صحت نيتُه لا يوازنه عملٌ من الأعمال؛ لما فيه من إحياء العلم والدين، وإرشاد الجاهلين، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه؛ =فمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة+.
ومن ذلك المشاريع الخيرية التي فيها إعانةٌ للمسلمين على أمور دينهم ودنياهم التي يستمر نفعُها، ويتسلسل إحسانُها، كما ورد في =الصحيح+: =إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعو له+.
ومن الأعمالِ المضاعفةِ العملُ الذي إذا قام به العبدُ شاركه به غيرُه؛ فهذا _أيضاً_ يضاعَفُ بحسب مَنْ شاركه، ومن كان هو سببَ قيامِ إخوانه المسلمين بذلك العمل؛ فهذا _ لا ريب _ يزيد أضعافاً مضاعفةً على عمل إذا عمله لم يشاركه فيه أحد، بل هو من الأعمال القاصرة على عاملها.
ولهذا فضَّل العلماء الأعمال المتعدية للغير على الأعمال القاصرة.(1/12)
ومن الأعمال المضاعفة إذا كان العمل له وقع عظيم، ونفع كبير، كما إذا كان في إنجاء من مهلكة، وإزالة ضرر المتضررين، وكشف الكرب عن المكروبين؛ فكم من عمل من هذا النوع يكون أكبر سبب لنجاة العبد من العقاب، وفوزه بجزيل الثواب، حتى البهائمُ إذا أُزيل ما يضرُّها كان الأجر عظيماً؛ وقصة المرأة البغيِّ التي سقت الكلبَ الذي كاد يموت من العطش؛ فَغُفِرَ لها بَغْيُها _ شاهدةٌ بذلك.
ومن أسباب المضاعفة أن يكون العبدُ حسنَ الإسلامِ، حسنَ الطريقة، تاركاً للذنوب، غير مُصِرٍّ على شيء منها؛ فإن أعمال هذا مضاعفةٌ كما ورد بذلك الحديث الصحيح: =إذا أحسن أحدُكم إسلامََه فكل حسنة يعملها تُكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف...+ الحديث.
ومن أسبابها رِفْعَةُ العاملِ عند الله، ومقامُهُ العالي في الإسلام؛ فإن الله _تعالى_ شكور حليم؛ لهذا كان نساء النبي _صلى الله عليه وسلم_ أجرهن مضاعفاً، قال _ تعالى _: [وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ] الأحزاب:31.
وكذلك العالِمُ الربانيُّ، وهو العالِم العامِلُ المعلِّم تكون مضاعفةُ أعمالِه بحسب مقامه عند الله كما أن أمثال هؤلاء إذا وقع منهم الذنب كان أعظمَ من غيرهم؛ لما يجب عليهم من زيادة التحرّز، ولما يجب عليهم من زيادة الشكر لله على ما خصهم به من النعم.
ومن الأسبابِ الصدقةُ من الكسب الطيب كما وردت بذلك النصوص.
ومنها شرفُ الزمان، كرمضانَ وعشرِ ذي الحجة ونحوِها، وشرفُ المكان كالعبادة في المساجد الثلاثة، والعبادةُ في الأوقات التي حثَّ الشارعُ على قصدها، كالصلاة في آخر الليل، وصيام الأيام الفاضلة ونحوها.
وهذا راجع إلى تحقيق المتابعةِ للرسول المُكَمِّلِ _ مع الإخلاص _ للأعمال المنمي لثوابها عند الله.(1/13)
ومن أسباب المضاعفةِ القيامُ بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية، والمعارضات الخارجية؛ فكلما كانت المعارضات أقوى والدواعي للترك أكثر كان العمل أكمل، وأكثر مضاعفةً، وأمثلة هذا كثيرة جداً، ولكن هذا ضابطُها.
ومن أهم ما يضاعف فيه العملُ: الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة، وحضور القلب في العمل؛ فكلما كانت هذه الأمور أقوى كان الثواب أكثر.
ولهذا ورد في الحديث: =ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها+.
فالصلاة، ونحوها وإن كانت تجزئُ إذا أتى بصورتها الظاهرةِ، وواجباتها الظاهرة والباطنة _ إلا أن كمالَ القبولِ، وكمالَ الثوابِ، وزيادةَ الحسناتِ، ورفعةَ الدرجاتِ، وتكفيرَ السيئاتِ، وزيادةَ نورِ الإيمان _ بحسب حضور القلب في العبادة.
ولهذا كان من أسباب مضاعفة العمل حصولُ أثره الحسن في نفع العبد، وزيادةِ إيمانه، ورقة قلبه، وطمأنينته، وحصول المعاني المحمودة للقلب من آثار العمل؛ فإن الأعمال كلما كملت كانت آثارُها في القلوب أحسنَ الآثارِ، وبالله التوفيق.
ومن لطائف المضاعفة أن إسرار العمل قد يكون سبباً لمضاعفة الثواب؛ فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: =رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه، ومنهم رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه+.
كما أن إعلانها قد يكون سبباً للمضاعفة كالأعمال التي تحصل فيها الأسوة والاقتداء، وهذا مما يدخل في القاعدة المشهورة: قد يَعْرِضُ للعمل المفضول من المصالح ما يصيِّره أفضل من غيره.
ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن الاتصاف في كل الأوقات بقوة الإخلاص لله، ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج بذكر الله لا يلحقها شيءٌ من الأعمال، وأهلها سابقون لكل فضيلة وأجر وثواب، وغيرُها من الأعمال تبعٌ لها؛ فأهل الإخلاص والإحسان والذكر هم السابقون السابقون المقربون في جنات النعيم.
نص السؤال:
ما هي الأسبابُ(1) والأعمالُ(2) التي يُضاعفُ(3) ثوابُها(4)؟(1/14)
فأجاب الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي _ رحمه الله _ قائلاً:
الجواب وبالله التوفيق: أما مضاعفةُ العملِ بالحسنةِ(5) إلى عَشْرِ أمثالِها _ فهذا لا بدَّ منه(6) في كلِّ عملٍ صالح(7)، كما قال _ تعالى _: [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] الأنعام: 159.
1_ قوله: =الأسباب+: الأسباب جمع سبب، والسبب في اللغة هو الحبل، وهو كل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها، وهو _ كذلك _ كل شيء يتوصل به إلى غيره(1).
وفي الشرع: عبارة عما يكون طريقاً إلى الحكم غير مؤثر فيه(2).
2_ قوله: =الأعمال+: جمع عمل، ويقصد بها القربات، والطاعات، والأعمال الصالحة.
3_ قوله: =يضاعف+: ضعف الشيء هو الذي يُثَنِّيه، ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد ومثله، والمضاعفة _ كما في الآية الآتية _ تقتضي أن تكون الحسنة عشر أمثالها.
4_ قوله: =ثوابها+: الثواب: هو الأجر، وهو ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله.
.................................................................
= والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير(3).
5_ قوله: =الحسنة+: هي الفعل المثاب عليه، وهي مقصود المؤلف ×.
وتطلق على ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر الله به أمر إيجاب، أو أمر استحباب، ويعبر بها عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه، وأحواله، والسيئة ضدها.
والحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة التي تدل على عدة معان تختلف باختلاف السياق، وقرائن الأحوال.
6_ قوله: =فهذا لا بد منه+: أي أن مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها أمر لازم لكل الحسنات، وهذا تفضل وتكرم من الله _ عز وجل _ وإلا فإن العدل يقضي بأن تكون الحسنة بمثلها، والسيئة كذلك.……………
__________
(1) انظر لسان العرب، لابن منظور 1/458.
(2) انظر الكليات للكفوي ص503.
(3) انظر المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني ص88.(1/15)
7_ قوله: =في كل عمل صالح+: العمل الصالح هو كل ما يتقرب به إلى الله _عز وجل_ ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا اجتمع فيه شرطان: الإخلاص لله _عز وجل_ والمتابعة للنبي ".
قال الله _ عز وجل _: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] الكهف: 110.
وأما المضاعفةُ بزيادةٍ عن ذلك، وهي مراد السائل(1)...
1_ قوله: =وأما المضاعفة بزيادة عن ذلك...+: يعني بزيادة المضاعفة على العشر، وهي التي أرادها السائل.
وهذه المضاعفة محض فضل الله، وهي زيادة في التكرم، وتكون لمن شاء الله له ذلك.
وقد دل على هذه المضاعفة نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، ومنها قوله _تعالى_: [مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] البقرة: 261.
وقوله _ تعالى _: [إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً] النساء: 40.
وفي صحيح مسلم (1892) عن أبي مسعود ÷ قال: =جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله! هذه في سبيل الله، فقال: =لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة+.
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ عن رسول الله " فيما يرويه عن ربه _تبارك وتعالى_ قال: =إن الله _ عز وجل _ كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة+.(1) …………………… =
.................................................................
__________
(1) البخاري (6491) ومسلم (131).(1/16)
= وفي الصحيحين عن أبي هريرة ÷ عن النبي " قال: =كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله _ عز وجل _: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته، وطعامه، وشرابه من أجلي+(1).
وفي رواية بعد قوله: =إلى سبعمائة ضعف+: =إلى ما يشاء الله+.
وعن أبي ذر ÷ عن النبي " قال: =من عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر+. (2)
وجاء في سنن أبي داود عن أوس بن أوس الثقفي سمعت رسول الله " يقول: =من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يَلْغ _ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها+(3).
فلها أسبابٌ(1): إما متعلقةٌ بالعاملِ(2)، أو بالعمل نفسِه(3)، أو بزمانه، أو بمكانه، وآثاره(4).
1_ قوله: =فلها أسباب+: أي كما أن هذه المضاعفة واقعة بمشيئة الله _ فلها أسباب توجبها، ثم شرع بذكرها مجملة.
2_ قوله: =إما متعلقة بالعامل+: أي بإخلاصه، وإحسانه، وإتقانه العملَ ونحو ذلك مما سيرد ذِكْرُ أمثلةٍ له.
3_ قوله: =أو بالعمل نفسه...+: أي ما هو متعلق بجنس العمل، كَتَعَدِّيْه، وعموم نفعه، وشدة الحاجة إليه، وما جرى مجرى ذلك مما سيأتي.
4_ قوله: =أو بزمانه، أو بمكانه، أو آثاره+: هذه أسباب المضاعفة على سبيل الإجمال، وسيرد ذكر أمثلة لها، ولا يمنع أن تجتمع هذه الأسباب في شخص، وذلك كأن يقوم بعمل مشروع بإخلاص، ويكون في زمان ومكان فاضلين، ويترتب على العمل آثار نافعة جليلة.
فمن أهمِّ أسباب المضاعفةِ(1) إذا حقَّق العبدُ في عَمَلِهِ الإخلاصَ للمعبودِ والمتابعةَ للرسول(2)؛
1_ هذا شروع بتفصيل أسباب المضاعفة، وذكر لأولها وهو: تحقيق الإخلاص والمتابعة.
__________
(1) البخاري (1904) ومسلم (1151).
(2) مسلم (2687).
(3) أبو داود (345)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (333): =صحيح+.(1/17)
2_ قوله: =إذا حقق العبد...+: هذان هما شرطا قبول العمل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، ولا نعبده بالبدع، كما قال _ تعالى _: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] الكهف: 110.
وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمداً هو رسوله المبلغ؛ فعلينا أن نصدق خبره، ونطيع أمره+.(1)
وقال ابن القيم ×: =لا يكون العبد متحققاً بـ: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] إلا بأصلين عظيمين: أحدهما متابعة الرسول ".
والثاني: الإخلاص للمعبود؛ فهذا تحقيق [إِيَّاكَ نَعْبُدُ]+.(2)
وتحقيق هذين الشرطين يكون بتمام الإخلاص، وإحسان العمل، وإتقانه.
وسيأتي _ أيضاً _ مزيد بيان لذلك في الفقرة التالية.
فالعمل إذا كان من الأعمالِ المشروعةِ، وقَصَدَ العبدُ به رضى ربِّه وثوابَهُ، وحقق هذا القصدَ بأن يجعلَه هو الداعيَ له إلى العمل، وهو الغايةَ لعمله، بأن يكون عَمَلُه صادراً عن إيمان بالله ورسوله، وأن يكون الداعي له لأجل أمر الشارع، وأن يكون القصدُ منه وجهَ اللهِ ورضاه... (1)
1_ قوله: =فالعمل+ إلى قوله: =ورضاه+: هذا تعليل لكون تحقيق الشرطين _الإخلاص والمتابعة_ سبباً للمضاعفة، وبيان لمعنى تحقيق هذين الشرطين.
ويلاحظ في كلامه × أنه لم يذكر جواب إذا في قوله: =فالعمل إذا كان...+ ولعل السياق يدل عليه، فيكون تقدير الكلام: فالعمل إذا كان من الأعمال المشروعة ... إلخ، كان ذلك من أسباب المضاعفة.
__________
(1) العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص170.
(2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم 1/104.(1/18)
وأصل الإخلاص في اللغة: مادة خَلُصَ، والخالص: هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه(1).
والإخلاص في الشرع: هو تصفيةُ العمل من كل شائبة تشوبه(2).
ومدار الإخلاص على أن يكون الباعث على العمل امتثالَ أمرِ الله، وإرادتَه
_عز وجل_ فلا يمازج العملَ شائبةٌ من شوائب إرادة النفس: إما طلبُ التزيُّن في قلوب الخلق، وإما طلبُ مدحِهم والهربُ من ذمهم،أو طلبُ تعظيمهم، أو طلبُ أموالهم أو خدمتِهم ومحبتِهم،وقضائهم حوائجَهُ، أو غيرُ ذلك من العلل، والشوائب التي يجمعها: إرادةُ ما سوى الله في العمل؛ فهذا هو مدار الإخلاص.=
.................................................................
= ولا حرج بعد هذا على من يطمح إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها.
بل لا يذهب بالإخلاص _ بعد ابتغاء وجه الله _ أن يخطر في بالِ العامل أن للعمل الصالح آثاراً طيبةً في هذه الحياة الدنيا كطمأنينة النفس،وأَمْنِها من المخاوف، وصيانتها عن مواقف الذل والهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة.
هذا هو مفهوم الإخلاص(3).
كما ورد في عدة آياتٍ وأحاديثَ _ هذا المعنى(1)، كقوله _ تعالى _: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] المائدة: 27.
أي المتقين الله في عملهم بتحقيق الإخلاص والمتابعة(2).
1_ قوله: =كما ورد هذا المعنى+: أي معنى تحقيق الإخلاص والمتابعة الذي تحصل به التقوى، وينال رضا الله، وتكون المضاعفة.
__________
(1) انظر معجم مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني ص155.
(2) انظر مدارج السالكين، لابن القيم 2/93.
(3) انظر رسائل الإصلاح، للشيخ محمد الخضر حسين 1/9.(1/19)
2_ قوله: =أي المتقين ...+: هذا تفسير منه للمتقين في هذا الموضع، وقد قال × في تفسيره لهذه الآية في كتابه تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص191: =وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا: أي المتقين لله في ذلك العمل بأن يكون عملهم خالصاً لوجه الله، متبعين فيه لسنة رسول الله "+ أ_هـ.
فهذا أحد إطلاقات التقوى في القرآن الكريم؛ ذلك أن التقوى تطلق في القرآن عدة إطلاقات تختلف باختلاف سياق الكلام.
ومن تلك الإطلاقات:
أ_ الخشية: قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ] أي: اخشوا.
ب_ العبادة: قال الله _ تعالى _: [وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] أي: اعبدون.
ج_ ترك العصيان، قال الله _ تعالى _: [وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ] أي: لا تعصوه.
د_ التوحيد: قال الله _ تعالى _: [أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] أي وحدوه.
هـ _ الإخلاص: قال الله _ تعالى _: [فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] أي: من إخلاصها لله.
.................................................................
= هذه هي إطلاقات التقوى، أما تعريفها فقد عرِّفت بتعريفات عديدة متقاربة هي من باب اختلاف التنوع، ومن باب تفسير الشيء بأحد أفراده.
والتعريف الشرعي قريب من التعريف اللغوي، وإليك بعض ما عرفت به التقوى.
أ_ قال طلق بن حبيب ×: =التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله+(1).
ب_ وعرَّفها الراغب الأصفهاني بقوله: =التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يُؤْثِم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات+(2).
__________
(1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب 1/400.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم ص568.(1/20)
ج_ وقال ابن الجوزي ×: =التقوى: اعتماد المتقي ما يحصل به الحيلولة بينه وبين ما يكرهه+(1).
د_ وقال ابن تيمية ×: =اسم تقوى الله يجمع فعل كل ما أمر الله به إيجاباً، واستحباباً، ونهى عنه تحريماً، وتنزيهاً، وهذا يجمع حقوق الله، وحقوق العباد+(2).…………………… =
.................................................................
= هـ _ وقال ابن رجب ×: =أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه؛ فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه، وسخطه، وعقابه وقايةً تَقِيْهِ من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معصيته+(3).
وكما في قوله _ صلى الله عليه وسلم _ (1): (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)(2).
وغيرها من النصوص(3).
1_ قوله: =وكما في قوله+: أي مما يتحقق به الإخلاص، والمتابعة.
2_ الحديث رواه البخاري (1901) ومسلم (759 و 760).
وهذا الحديث يتحقق فيه معنى الإخلاص، والمتابعة، قال ابن حجر × في شرح هذا الحديث: =المراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله _ تعالى _+. (4)
وقال: =قوله: =إيماناً+: أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، و=احتساباً+: أي طلباً للأجر، لا لقصد آخر من رياء ونحوه+. (5)
3_ أي النصوص الدالة على معنى الإخلاص، وهي كثيرة جداً وسيرد فيما سيأتي ذكر لشيء منها.
والقليلُ من العمل مع الإخلاص الكامل يَرجَحُ بالكثير الذي لم يصل إلى مرتبته في قوة الإخلاص(1).
__________
(1) نزهة الأعين النواظر، لابن الجوزي 1/120.
(2) مجموع الفتاوى 10/658_659.
(3) جامع العلوم والحكم 1/398.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 4/115.
(5) فتح الباري 4/251.(1/21)
1_ هذا شيء من فضائل الإخلاص الكثيرة، ودلائل أهميته، بل إن هذه الرسالة تدور _ في معظمها _ حول هذا المعنى العظيم؛ ولهذا إليك شيئاً من البسط في بيان فضله، وأهميته.
قال الله _ عز وجل _: [وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] البينة: 5.
وقال النبي ": =يقول الله _ تعالى _: =أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه+. (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه+. (2)
وقال × متحدثاً عن فضل العبادة والإخلاص: =فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذُّ، ولا أمتع، ولا أطيب+.………………… =
.................................................................
= إلى أن قال: =قال الله _ تعالى _ في حق يوسف: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] يوسف: 24.
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصورة المحرمة، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها؛ فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه _ انقهر بلا علاج+.(3)
وقال: =وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه، فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من ضد ذلك.
__________
(1) رواه مسلم (2985).
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10/49.
(3) العبودية ص99.(1/22)
بخلاف القلب الذي لم يخلص لله، فإن فيه طلباً، وإرادة، وحباً مطلقاً، فيهوى ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أيُّ نسيم مرَّ به عطفه وأماله+ ا_هـ .(1)
هذا وإن للإخلاص آثارَهُ العظيمةَ على الأفراد بخاصة، وعلى الأمة بعامة، فللإخلاص تأثير عظيم في تيسير الأمور، فمن تعكست عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصدُه _فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب.…… =
.................................................................
= والإخلاص هو الذي يجعل في عزم الرجل متانةً، ويربط على قلبه؛ فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية.
وكثيرٌ من العقبات التي تقوم دون بعض المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص.
ولولا الإخلاص الذي يضعه الله في نفوس زاكيات لَحُرِمَ الناسُ من خيراتٍ كثيرةٍ تقف دونها عقبات.
قد يُخِلُّ الرجلُ في بعض الأعمال، ويتغلب عليه الهوى في بعضها؛ فيأتي بالعمل صورةً خاليةً من الإخلاص.
والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل والمجد إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسانُ حليفَ سيرته؛ فلا يُقْدِم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى.
ولا تبالغُ إذا قلت: إن النفسَ التي تتحرر من رق الأهواء، ولا تسير إلا على وفْق ما يمليه عليها الإخلاص هي النفسُ المطمئنةُ بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين، ومواعظه الحسنة.
والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، فصغير الأعمال _بالإخلاص_ يكون كبيراً، وقليلها يكون كثيراً. …… =
.................................................................
__________
(1) العبودية ص140_141.(1/23)
= والإخلاص هو الذي يحمل الإنسانَ على مواصلة عمل الخير؛ فمن يصلي رياءاً، أو حياءاً من الناس لابد أن تمرَّ عليه أوقاتٌ لا ينهض فيها إلى الصلاة، ومن يحكم بالعدل؛ ابتغاءَ السمعةِ، أو خوفَ العزلِ من المنصب قد تَعْرِضُ له منفعةٌ يراها ألذَّ من السمعة، أو يصادفه أمنُ العزلِ _ فلا يبالي أن يدع العدل جانباً.
ومن يدعو إلى الإصلاح ابتغاء الجاه قد ينزل بين قوم لا يحظى بينهم إلا من ينحط في أهوائهم؛ فينقلب داعياً إلى الأهواء.
ومن يفعل المعروف لأجل أن تُردِّدَ ذِكْرَهُ الألسنةُ في المجالس أو الصحف قد يرى بعينه سبيلاً من سبل الخير في حاجة إلى مؤازرة؛ فيصرف عنه وجهه وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسدَّ حاجته.
والإخلاص الذي يقوم على الإيمان الصادق هو الذي يسمو سلطانه على كل سلطان،ويبلغ أن يكون مبدأً راسخاً تصدر عنه الأعمال الصالحة.
ولعلك لا تجد أحداً يتصدى لعمل إلا وهو يدَّعي الإخلاص فيما يعمل؛ ذلك أن الإخلاصَ موطِنُه القلبُ، والقلوبُ محجوبةٌ عن الأبصار.
وإذا وصفتَ أحداً بالإخلاص أو عدمه فإنما ترجع في وصفك إلى أمارات تبدو لك من أحواله الظاهرة.
ومن هذه الأحوال ما يدلك على سريرته دِلالةً قاطعةً، ومنها ما لا يتجاوز بك حدَّ الظن.…………………… =
.................................................................
= وهذا موضع التثبت والاحتراس؛ ففي وصف المخادعِ بالإخلاص ووصفِ المخلص بالمخادع ضررٌ اجتماعيٌّ كبير؛ فإن وثقت بمجردِ الظن لم تأمن أن تقضيَ على فاسد الضمير بالإخلاص؛ فيتخذه الناسُ موضعَ قدوةٍ؛ فيستدرجهم من فساد صغير، حتى إذا ألِفوه نقلهم إلى فساد كبير.
وربما قَضَيْتَ على طاهر القلب بعدم الإخلاص، فكنت كمن يسعى لإطفاء سراج، والناس في حاجة إلى سُرِجٍ تنير لهم السبيل.(1/24)
والإخلاص فضيلة في نفسه، ولا ينزل في نفس إلا حيث تنزل فضائلُ كثيرةٌ؛ فالإخلاص يَمُدُّ قلبَ صاحبه بقوة؛ فلا يتباطأُ أن ينهضَ للدفاع عن الحق، ولا يبالي في دفاعه إذا أصابه ما أصابه.
والإخلاصُ يشرحُ صدر صاحبه للإنفاق في بعض وجوه البر؛ فتراه يؤثرها بجانب من ماله وإن كان به خصاصة.
والإخلاص يعلم صاحبَه الزهد في عَرَضِ الدنيا؛ فلا يُخشى منه أن يناوئ الحقَّ، أو يُلْبِسَهُ بشيء من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضةً أو ذهباً.
والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا؛ فلا يفصل في قضية إلا بعد أن يتبين له الحق.
والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذلَ جُهْدَه في إيضاح المسائل، والرقي بأخلاق الطلبة، وأن لا يبخل عليهم بما تسَعُهُ أفهامُهم من المباحث المفيدة،وأن يسلكَ في التدريس الأساليبَ التي تجددُ نشاطَهم للتلقي عنه. …… =
.................................................................
= والإخلاص يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها، ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة.
والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب الحقائق، أو يكسوها لوناً غير لونها؛ إرضاءًا لشخص أو طائفة.
هذه بعض مآثر الإخلاص ؛ فحقيق علينا أن نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا على فضيلة الإخلاص،وأن نلقن ناشئتنا ماذا يناله المخلص من حمدٍ وكرامة وحسن عاقبة؛ لكي يَخْرُجَ لنا رجال مخلصون يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان(1).
ولهذا كانت الأعمالُ الظاهرةُ تتفاضل عند الله بتفاضل ما يقوم بالقلوب من الإيمان والإخلاص(1).
1_ قوله: =ولهذا+ إلى قوله: =الإخلاص+: هذه إشارة إلى قاعدة جليلة القدر، عظيمة النفع لمن تدبرها، وأعطاها حقها؛ فقد تكون صورة العمل واحدة بين شخص وآخر وبينهما من الأجر ما بين السماء والأرض.
__________
(1) انظر أدب الطلب، للشوكاني ص133، ورسائل الإصلاح للشيخ محمد الخضر حسين 1/9_12.(1/25)
قال ابن القيم × مقرراً هذا المعنى: =فتفاضل الأعمال عند الله ـ تعالى ـ بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة، وتوابعها.
وهذا العمل الكامل هو الذي يكفِّر السيئات تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما:
تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نَقَصَ حظُّه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: =أن صوم يوم عرفة يُكفِّر سنتين، ويوم عاشوراء يكفِّر سنة +.
قالوا: فإذا كان دأبه دائماً أنه يصوم يوم عرفة، فصامه، وصام يوم عاشوراء؛ فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟
وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فَضُل عن التكفير ينال به الدرجات.
ويا لله العجب؛ فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفِّر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، موقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه؛ فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها _ فحينئذ يقع التكفير.…………… =
.................................................................
= وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوفّ حقه، ولم يقدرْه حق قدره ـ فأي شيء يكفر هذا؟ فإذا وثق العبد من عمله بأنه وفَّاه حقَّه الذي ينبغي له ظاهراً وباطناً، ولم يَعْرِضْ له مانعٌ يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه _ من عُجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يَمُنُّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه، أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقَّه، وأنه قد استهان بحرمته ـ فهذا أي شيء يكفِّر ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر؟(1/26)
وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه؛ فالرياء _وإن دقَّ_ محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكونُ العملِ غيرَ مقيدٍ باتباع السنة ـ أيضاً ـ موجبٌ لكونه باطلاً، والمنُّ به على الله ـ تعالى ـ بقلبه مفسدٌ له، وكذلك المن بالصدقة، والمعروف، والبر، والإحسان، والصلة مفسدٌ لها +.
إلى أن قال ×: =فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله، ويحذره+ ا _ هـ . (1)
ويدخل في الأعمالِ الصالحةِ التي تتفاضل بتفاضل الإخلاص _ تركُ ما تشتهيه النفوس من الشهوات المحرمة إذا تركها خالصاً من قلبه، ولم يكن لتركها من الدواعي غيرُ الإخلاصِ(1)
1_ هذا مثال من أمثلة كثيرة يتضح فيها تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من الإخلاص؛ فكلما عظمت الرغبة في الشهوة المحرمة، وتاقت النفس إليها، وكثرت الدواعي إلى الوقوع فيها، وتَرَكَها الإنسانُ لله _ عز وجل _ عظم أجره، وتضاعفت مثوبته.
وربما تركها عجزاً، أو خوفاً من الناس، أو ما جرى مجرى ذلك من الأمور التي تركها لأجلها دون أن يكون باعثه في الترك الإخلاصَ لله؛ فهذا ترك الشهوة المحرمة، ولكن ليس له أجرٌ في تركه.
والفرق بين سبب الترك عند الأول والثاني هو الإخلاص؛ فانظر كيف تضاعف أجر الأول، وكان قصارى أمر الثاني السلامة من الإثم مع أن صورة العمل الظاهرة واحدة.
والشواهد والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جداً، وسيورد المؤلف شاهداً على ذلك ألا وهو قصة أصحاب الغار.
ولأجل ذلك كان للتائب إذا حسنت توبته نصيبٌ غير منقوص من هذا المعنى العظيم ألا وهو مضاعفة الثواب؛ لأنه ترك ما تميل إليه نفسه من الشهوات المحرمة. …………………… =
.................................................................
__________
(1) الوابل الصيب لابن القيم 19_21.(1/27)
= قال الله _ عز وجل _:[ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً].
ولقد تكلم العلماء عن صفة تبديل الحسنات سيئات، قال ابن القيم ×: =واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة+.
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: =هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة+(1).
ثم قال ابن القيم × بعد أن تكلم على القولين السابقين: =إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثر =
.................................................................
= الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة؛ لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار، وأحب إلى الله.
وإزالة النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول+.
__________
(1) مدارج السالكين 1/310.(1/28)
وقال: =التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة؛ فصار كل ذنب عمله زائلاً بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة؛ فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وبناءاً على هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها+(1).
وعلى هذا فإنه قد يُثار تساؤل عن سبب تبديل سيئاته حسنات، وقد يُقال: هل يكون من كثرت سيئاته وعظمت أفضل ممن قلَّت سيئاته وخفَّت إذا هما تابا؟ وكيف يكون ذلك؟
ولعل الجواب ما تضمنه كلام المؤلف × من أن الأعمال تتضاعف إذا ترك الإنسان ما تشتهيه نفسه من الشهوات المحرمة إذا تركها خالصاً من قلبه. =
.................................................................
= ولا ريب أن كثرة المعاصي تضعف القلب، وتحول دون التوبة الصالحة الخالصة النصوح؛ لأن الذي يقع في الذنوب الكثيرة الكبيرة _ يقوى تعلُّقه بها، ويصعب خلاصه منها؛ فإذا أراد التوبة منها، والإقلاع عنها _ كان محتاجاً إلى قوة إخلاص وإرادة، وقوة قهر للنفس ومنازعة لها.
فإذا اقتحم تلك العقبة، فقدع نفسه، وقهرها، وتجرَّع مرارة الصبر، وغُصَصَ الحرمان _ كان جديراً بتلك الكرامة، ألا وهي تبديل السيئات حسناتٍ.
قال ابن القيم ×: =وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله _ عز وجل _ من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
__________
(1) مدارج السالكين 1/311.(1/29)
وهكذا من عَرَف البدع والشرك والباطل وطرقه، فأبغضها لله، وحذرها، وحذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه، ولا تورثه شبهة، ولا شكاً، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها، ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله، ولا تمرُّ بقلبه؛ فإنه كلما مرَّت بقلبه، وتصوَّرت له ازداد محبة للحق، ومعرفة بقدره وسروراً به؛ فيقوى إيمانه به.
كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلَّما مرَّت به، فرغب عنها إلى ضدِّها ازداد محبةً لضدِّها ورغبة فيه وطلباً له وحرصاً عليه؛ فما ابتلى الله _سبحانه_ عبدَه=
.................................................................
=المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي، وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها، وخير له، وأنفع، وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له _ سبحانه _ فتورثه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى.
فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات، واشتدَّت إرادته لها وشوقه إليها _ صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم؛ فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك؛ فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم.
ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكباً على النجائب! فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره؛ فهو _ سبحانه _ يبتلي عبدَه بالشهوات، إما حجاباً له عنه، أو حجاباً له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته+(1).
وقصةُ أصحاب الغارِ شاهدةٌ بذلك(1).
__________
(1) الفوائد، لابن القيم ص163.(1/30)
1_ يشير بذلك إلى قصة الثلاثة الذين آواهم الغار؛ ففي الصحيحين عن عبدالله ابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن رسول الله "قال: =بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه _ والله يا هؤلاء _ لا ينجيكم إلا الصدق؛ فليَدْعُ كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه.
فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عَمِلَ لي على فَرَقٍ(1) من أرزٍّ، فذهب وتركه، وأني عَمَدْتُ إلى ذلك الفَرَق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت بقرًا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعْمَدْ إلى تلك البقر فَسُقْها، فقال لي: إنَّما لي عندك فرق من أرز.
فقلت له:اعمد إلى تلك البقر؛ فإنها من ذلك الفرق، فساقها؛ فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرِّج عنا؛ فانساخت(2) عنهم الصخرة.
فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلةً، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون(3) من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فَيَسْتَكِنَّا(4)؛ لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلوع الفجر؛ فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا؛ فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.……………… =
.................................................................
__________
(1) فرق: بفتح الفاء والراء بعدها قاف، وقد تسكن الراء، وهو مكيال يسع ثلاثة آصع.
(2) انساخت: انشقت.
(3) يتضاغون: الضغاء بالمد الصياح ببكاء.
(4) فيستكنا لشربتهما: أي يضعفا؛ لأنه عشاؤهما، ويستكنا من الاستكانة، وقوله لشربتهما: أي لعدم شربتهما، فيصيران ضعيفين مسكينين.(1/31)
= فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عمٍّ من أحب الناس إليَّ، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق الله، ولا تفض(1) الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا؛ ففرج الله عنهم، فخرجوا+.(2)
والشاهد من هذا الحديث واضح جلي؛ فالأول ترك المال الكثير _ مع ما جبلت عليه النفوس من حب المال، ومع استطاعته ألا يتركه لصاحبه _ إخلاصاً لله.
والثاني ترك سقي أولاده مع حاجتهم، وشدة عطشهم؛ براً بوالديه، وإخلاصاً لربه.
والثالث ترك مواقعة ابنة عمه _ مع تمكنه من الفعل، ومع شدة تعلقه بها، وحبه لها _ إخلاصاً لله _ عز وجل _.
فهؤلاء الثلاثة تركوا أشياء يحبونها لله، فقبل الله منهم ذلك، وكان من صالح العمل الذي يدعى به، ويكون سبباً لإجابة من دعا به.
وهذا يدل على أن التروك داخلةٌ في الإخلاص، وأنها تُسمى أفعالاً على=
.................................................................
=الصحيح كما في قوله _ تعالى _: [لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] المائدة:63.……
ثم إن في التروك للمحرمات مراغمةً للشيطان، وتحلياً بالصبر، ومنازعة للنفس الأمارة بالسوء.
ولا يخفى ما في ذلك من مضاعفة الثواب.
__________
(1) لا تفض الخاتم: لا تفض: لا تكسر، والخاتم: كناية عن عذريتها، وكأنها كانت بكرًا وكنَّت عن الإفضاء بالكسر، وعن الفرج بالخاتم.
(2) البخاري (3465)، ومسلم(2743).(1/32)
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في =الفتاوى السعدية+ في إشكال وجوابه في قصة أصحاب الغار: =وقع إشكال في قصة أحد الثلاثة أصحاب الغار: لما عفَّ عن بنت عمه لله _ تعالى _ في تلك الحالة التي منعه خوف الله _ تعالى _ من وقوع المحظور كيف لم يتزوجها مع أن الظاهر أنها ليست بذات زوج؟
وأشكل منه في الآخر الذي لما وجد والديه نائمين وقد حلب لهما غَبوقَهما كره أن يوقظهما، وكره أن يعطي أحداً من أهله، وأولاده، والصبيةُ يتضاغون من الجوع.
كيف لم يدفع حاجة هؤلاء المضطرين مع وجوب ذلك، وأنه لا ينافي البر للوالدين؟
فجاء الجواب لذلك بأن النبي " إنما ذكر في قصة كل واحد من الثلاثة أعلى حالة في نيل ذلك الخلق الفاضل، فذكر أعظم عِفَّةٍ تُقَدَّر، وأعظم بر، وأعظم وفاء، بقطع النظر عما يقترن بتلك القضايا من الأمور الأخر؛ إذ ليست مقصودة، ولا مرادة. …………………… =
.................................................................
= وقد يكون ثمَّ موانع، وأعذار تعلم، أو لا تعلم، والله أعلم+. (1)
وهناك شواهد أخرى على هذا المعنى العظيم الذي تتضاعف لأجله الأعمال.
ومن أعظم تلك الشواهد ما جاء في قصة يوسف _ عليه السلام _ مع امرأة العزيز؛ فلقد أخبرنا الله _ عز وجل _ عن عشق امرأة العزيز ليوسف _عليه السلام_ وما راودته، وكادته به.
وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، بصبره وعفته، وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله؛ فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ههنا في غاية القوة، وذلك من وجوه: (2)
أحدها: ما ركبه الله _ سبحانه _ في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس قد يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء.
__________
(1) الفتاوى السعدية ص 55_56.
(2) انظر الجواب الكافي 487_490، ومدارج السالكين 2/ 156، وطريق الهجرتين ص 380.(1/33)
وهذا لا يذم إذا صادف حِلاًّ، بل يحمد.
الثاني: أن يوسف _ عليه السلام _ كان شاباً، وشهوة الشاب، وحدَّته أقوى.
الثالث: أنه كان عزباً، ليس له زوجة ولا سُرِّية تعوضه، وتكسر ثورة الشهوة.
.................................................................
= الرابع: أنه كان في الظاهر مملوكاً لها في الدار؛ فقد اشتري بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوك لا يتصرف في أمر نفسه، وليس وازعه كوازع الحر، والمملوك كذلك يدخل، ويخرج، ويحضر معها، ولا يُنكر عليه؛ فكان الأنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي.
الخامس: أنه كان غريباً، وفي بلاد غربة، والغريب يتأتَّى له في بلد غربته من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه، وبين أهله ومعارفه.
السادس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال؛ بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
السابع: أنها غير ممتنعة ولا أبيَّة؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها.
الثامن: أنها طلبت، وأرادت، وراودت، وبذلت الجهد؛ فكَفَتْه مؤنةَ الطلب، وذُلَّ الرغبةِ إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
وكثير من الناس يداخله الزهو إذا أشارت إليه المرأة باليد أو بطرف العين.
التاسع: أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى _إن لم يطاوعْها_ أن تؤذيه؛ فاجتمع له داعي الرغبة والرهبة.
العاشر: أنه في مأمن من الفضيحة؛ فلا يخشى أن تنم عليه هي ولا أحد من=
.................................................................
= جهتها؛ فإنها هي الطالبة الراغبة، وقد غلّقت الأبواب، وغيَّبت الرقباء.
الحادي عشر: أنها قد أخذت كامل زينتها، وتهيأت غاية ما يمكن، وقالت: (هيت لك) وفي قراءة =هئت لك+.(1/34)
الثاني عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، وهن النسوة التي أرته إياهن؛ حيث شكت حالها إليهن، لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن فقال: [وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ] يوسف:33.
الثالث عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه؛ إذ هو تهديدُ مَنْ يغلب على الظن وقوع ما هدد به؛ فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
الرابع عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاًّ منهما عن صاحبه.
بل غاية ما قابلها به أن قال ليوسف: [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا] يوسف: 29، وللمرأة: [وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ] يوسف: 29.
وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهذا لم يظهر منه غيرةٌ.
ومع هذه الدواعي كلها صبر يوسف اختياراً وإيثاراً لما عند الله، فآثر مرضاة الله، وخوفه، وحمله حبُّه لله أن اختار السجن على الزنا [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ] يوسف: 33. ………… =
.................................................................
= وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربَّه _ تعالى _ إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن _ صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين.
وهذا من كمال معرفته بربه، وبنفسه.
فماذا كانت العاقبة؟
لقد نال العز والسلطان، ونال الذكر الحسن، والثناء الجميل.
هذا في الدنيا، وإن له في الآخرة للجنة.
ومن أسباب المضاعفة(1) _ وهو أصل وأساس لما تقدم _ صحةُ العقيدة(2)، وقوةُ الإيمان بالله وصفاته(3)، وقوةُ إرادة العبد، ورغبتهُ في الخير(4).
1_ قوله: =ومن أسباب المضاعفة+: هذا شروع في بيان السبب الثاني من أسباب المضاعفة وهو صحة العقيدة، وقوة الإيمان بالله، وقوة إرادة العبد، ورغبته في الخير.(1/35)
2_ قوله: =العقيدة+: العقيدة في الاصطلاح العام: هي الإيمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق إليه شك.
وهي ما يؤمن به الإنسان، ويعقد عليه ضميره، ويتخذه مذهباً وديناً، بغض النظر عن صحته من عدمها.
ومقصود المؤلف بالعقيدةِ: العقيدةُ الإسلامية، وهي: الإيمان الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاء في القرآن الكريم، والسنة الصحيحة من أصول الدين، وأموره، وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم لله _ تعالى _ في الحكم، والأمر، والقدر، والشرع، ولرسوله " بالطاعة، والتحكيم، والانقياد، والاتباع.
وكون العقيدة سبباً لمضاعفة الأعمال واضح؛ لأن قبول الأعمال _ في الأصل _ متوقف على صحة العقيدة.
3_ قوله: =وقوة الإيمان بالله وصفاته+: لأن ذلك يقود إلى إحسان العمل، وتمام المراقبة، وكمال التعبد لله بمقتضى أسمائه وصفاته. …… =
.................................................................
= 4_ قوله: =وقوة إرادة العبد، ورغبته في الخير+: لأن الإنسان كلما قويت إرادته، ورغبته في الخير _ اشتد شوقه إلى العمل، وعلت همته في إيقاعه على أحسن الوجوه، وقوي رجاؤه، وحسن ظنه بالله _ تعالى _ فلذا كان ذلك سبباً في المضاعفة.
فإن(1) أهلَ السنة والجماعة المحضة(2)، وأهلَ العلم الكامل المفصَّل بأسماء الله وصفاته(3)، وقوة لقاء الله(4) _ تُضاعفُ أعمالُهم مضاعفةً كبيرةً لا يحصل مثلُها، ولا قريبٌ منها لمن لم يشاركوهم في هذا الإيمان والعقيدة(5).
1_ قوله: =فإن+: هذا تعليل لسبب المضاعفة.
2_ قوله: =أهل السنة والجماعة المحضة+: أي الخالصة من كل ما يشوبها من بدع.
وأهل السنة والجماعة: هم من كان على مثل ما كان عليه النبي " وأصحابه.
وهم المتمسكون بسنة النبي " وهم الصحابة، والتابعون، وأئمة الهدى المتبعون لهم، وهم الذين استقاموا على الاتباع، وتركوا الابتداع في أي زمان ومكان.(1/36)
وسموا بذلك؛ لانتسابهم لسنة النبي " واجتماعهم على الأخذ بها ظاهراً، وباطناً في القول، والعمل، والاعتقاد.
3_ قوله: =وأهل العلم الكامل المفصل بأسماء الله وصفاته+: هؤلاء هم العلماء الربانيون: العلماء بالله: أي بعظمة الله، ووقاره، وما له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وما يستحقه من العبادة دون من سواه.
العلماء بأمره: أي بما أمر به، وما نهى عنه في كتابه، أو على لسان رسوله " فمن كان كذلك فهو العالم بالله وأمره. …………… =
.................................................................
= وهؤلاء لهم مزيد خاصية، وعظيم قدر، وكثرة مضاعفة _ كما سيأتي _.
4_ قوله: =وقوة لقاء الله+: أي الذين يوقنون إيقاناً جازماً أنهم ملاقوا ربهم؛ فيستحضرون هذا المعنى غاية الاستحضار، ويعملون بمقتضى ذلك اليقين.
5_ قوله: =تضاعف ...+ إلى قوله: =العقيدة+: يشير إلى أن هذه الخصوصية لأهل السنة والجماعة دون غيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى، مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة والمكاشفة والمخاطبة والوَجْد، والذوق، ونحو ذلك.
وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتُها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأياً، وأسدّهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاماً، وأحدهم بصراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً، وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل(1).…………………… =
.................................................................
__________
(1) يريد الفرق والطوائف الإسلامية(1/37)
= فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدّ وأسدّ عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك ممتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه، قال _ تعالى _: [وَالَّذِيْنَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى]، وقال: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً].
ولهذا(1) كان السلف يقولون: أهل السنة إن قَعَدتْ بهم أعمالُهم قامت بهم عقائدُهم، وأهلُ البدع إن كثرت أعمالُهم قَعَدتْ بهم عقائدهم(2).
ووجه الاعتبار(3) أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون، ومعلومٌ الفرقُ بين مَنْ يمشي على الصراط المستقيم، وبين من هو منحرف عنه إلى طرق الجحيم، وغايتُه أن يكون ضالاً متأولاً(4).
1_ قوله: =ولهذا+: أي لأجل ما مضى تقريره من سبب مضاعفة الأعمال لأهل السنة والجماعة.
2_ قوله: =كان السلف ...+ إلى قوله: =قعدت بهم عقائدهم+: يشير بذلك إلى أن سلامة العقيدة يتوقف عليها قبول العمل ومضاعفته؛ فأهل السنة إن قصَّروا في العمل نهضت به عقائدهم السليمة التي بسببها يقبل العمل، ويضاعف.
وأهل البدع إن كثرت أعمالهم قعدت بهم عقائدهم المشوبة بالضلال المبنية على غير أساس؛ فالعبرة بصحة العمل، وحسنه لا بكثرته.
قال الله _ عز وجل _: [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] هود: 7، ولم يقل: =أكثر عملاً+.
فكيف إذا كان العمل كثيراً حسناً؟
قال الفضيل بن عياض × في قوله: [أَحْسَنُ عَمَلاً] قال: =أخلصه، وأصوبه.
قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه؟………… =
.................................................................(1/38)
= قال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة+. (1)
3_ قوله: =ووجه الاعتبار+: أي لما مضى من التقرير في سبب مضاعفة أعمال أهل السنة.
4_ قوله: =وغايته أن يكون ضالاً متأولاً+: أي غاية هذا المبتدع أن يكون ضالاً معذوراً بتأويله؛ إذ قد لا يكون معذوراً بتأويله.
ومن أسباب مضاعفة العمل(1) أن يكون من الأعمال التي نَفْعُها للإسلام والمسلمين له وقْعٌ وأثرٌ وغَنَاءٌ، ونفعٌ كبيرٌ، وذلك كالجهاد في سبيل الله(2): الجهاد البدنيِّ، والماليِّ(3)، والقوليِّ(4)، ومجادلةِ المنحرفين(5) كما ذكر اللهُ نفقةَ المجاهدين ومضاعفتَها بسبعمائة ضعف(6).
1_ قوله: =ومن أسباب مضاعفة العمل+: هذا شروع في السبب الثالث من أسباب المضاعفة، وهو عُمُومُ نفعِ العمل، وعِظَمُ وَقْعِهِ وأَثَرِه.
2_ قوله: =كالجهاد في سبيل الله+: هذا مثال من الأمثلة على عموم النفع وهو الجهاد في سبيل الله، وهو أنواع؛ ولهذا ذكر أمثلة من أنواعه.
قال المؤلف الشيخ عبدالرحمن السعدي × في كتابه (وجوب التعاون بين المسلمين ص7_8): =الجهاد نوعان: جهاد يقصد به صلاح المسلمين وإصلاحهم في عقائدهم، وأخلاقهم، وآدابهم، وجميع شؤونهم الدينية والدنيوية، وفي تربيتهم العلمية والعملية.
وهذا النوع هو أصل الجهاد وقوامه، وعليه يتأسس النوع الثاني، وهو جهاد يقصد به دفع المعتدين على الإسلام أو المسلمين من الكفار والمنافقين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم، وهذا نوعان: جهاد بالحجة والبرهان واللسان، وجهاد بالسلاح المناسب في كل وقت وزمان، وهذا مجمل أنواعه على وجه التأصيل+.………………… =
.................................................................
__________
(1) العبودية لابن تيمية ص76.(1/39)
= 3_ قوله: =الجهاد البدني و المالي+: فهو من أعظم أسباب المضاعفة؛ ولهذا سماه الله _ عز وجل _ تجارة، قال _ تبارك وتعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ] الصف.
ووجه المضاعفة في الجهاد تأتي من أبواب عديدة؛ ففي الجهاد يكون الدين كله لله، وبه يُدْفع الظلم، ويُحَقُّ الحق، ويُحال دون الفساد.
وفيه التمكينُ في الأرض، والحفاظُ على عز المسلمين، ونصرة المستضعفين إلى غير ذلك من الثمرات التي يترتب عليها الأجور العظيمة التي هي سبب المضاعفة.
4_ قوله: =والقولي+: ويعني به الجهاد باللسان، ويكون بتعليم العلم النافع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
ويكون ببذل النصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وبالإصلاح بين الناس، والحرص على جمع القلوب إلى غير ذلك من أنواع الجهاد القولي. … =
.................................................................
= 5_ قوله: =ومجادلة المنحرفين+: أي الرد على الزائغين عن الهدى، وكشف شبههم، وبيان خطرهم؛ فهذا من أعظم أنواع الجهاد؛ إذ به يجدد الدين، ويرد على الضالين، وينقذ ضحايا الجهل والتقليد، والتبعية العمياء.
لكن لا بد أن يكون ذلك بعلم، وعدل، ورحمة.(1/40)
6_ قوله: =كما ذكر الله نفقة...+: لعله يشير بذلك إلى قوله _ عز وجل _: [مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ] البقرة: 261.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =هذا حث عظيم من الله لعباده على إنفاق أموالهم في سبيله، وهو طريقة للوصول إليه، فيدخل في هذا الإنفاق في ترقية العلوم النافعة، وفي الاستعداد للجهاد في سبيله، وفي تجهز المجاهدين وتجهيزهم، وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين.
ويلي ذلك الإنفاق على المحتاجين، والفقراء والمساكين.
وقد يجتمع الأمران، فيكون في النفقة دفع الحاجات، والإعانة على الخير والطاعات؛ فهذه النفقات مضاعفة، هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك؛ ولهذا قال [وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ].
وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان، والإخلاص التام+.(1)
ومن أعظم الجهاد(1): سلوكُ طرقِ التعلم والتعليم(2)؛ فإن الاشتغال(3) بذلك لمن صحت(4) نيتُه لا يوازنه عملٌ من الأعمال(5)؛ لما فيه(6) من إحياء العلم والدين، وإرشاد الجاهلين، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه؛
1_ قوله: =ومن أعظم الجهاد+: يشير بذلك إلى أن الجهاد ليس مقصوراً على ميادين الوغى، بل هناك أنواع عظيمة من الجهاد.
2_ قوله: =سلوك طريق التعلم والتعليم+: من قِبل الطالب المتعلم، ومن قبل العالِم المعلم.
3_ قوله: =فإن الاشتغال بذلك...+: هذا تعليل لكون التعلم والتعليم من أعظم أبواب الجهاد.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص94.(1/41)
4_ قوله: =لمن صحت نيته+: فيه إشارة إلى شأن النية، ومزية الإخلاص، وأنه يترتب عليه ما يترتب من الأجر العظيم المضاعف(1).
5_ قوله: =لا يوازنه عمل من الأعمال+: أي لا يضاهيه، ولا يعادله، ولا يقوم مقامه.
6_ قوله: =لما فيه من إحياء العلم+ إلى قوله: =العباد عنه+: فيه تعليلٌ لعظيم شأن العلم، وذكرٌ لبعض فضائله على وجه الإجمال، وإلا فإن فضائله، وأجوره لا تحصى. ………………… =
.................................................................
= قال الله _ تعالى _: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] المجادلة: 10. ………………
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =العلماء فوق المؤمنين مائة درجة، ما بين الدرجتين مائة عام+.(2)
قال وهب ابن منبه ×: =يتشعب من العلم الشرفُ وإن كان صاحبه دَنِيَّاً، والعزُّ وإن كان صاحبه مهيناً، والقرب وإن كان قصيَّاً، والغنى وإن كان فقيراً، والمهابة وإن كان وضيعاً+.(3)
وقال أبو الوليد الباجي ×في وصيته لولديه: =والعلم لا يفضي بصاحبه إلا إلى السعادة، ولا يَقْصُر عن درجة الرفعة والكرامة، قليله ينفع، وكثيره يعلي ويرفع، كنز يزكو على كل حال، ويكثر مع الإنفاق، ولا يغصبه غاصب، ولا يُخاف عليه سارق ولا محارب؛ فاجتهدا في تحصيله، واستعذبا التعب في حفظه والسهر في درسه، والنصب الطويل في جمعه، وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته+.(4)……………… =
.................................................................
__________
(1) انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي 1/81_91 حيث أورد سبعة وثلاثين أثراً في ذلك المعنى تحت باب =النية في طلب الحديث+.
(2) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص27.
(3) تذكرة السامع والمتكلم ص34.
(4) النصيحة الولدية، نصيحة أبي الوليد الباجي لولديه تحقيق إبراهيم باجس ص16.(1/42)
= وقال ابن حزم ×: =لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك، وأن العلماء يجلونك _ لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضله في الدنيا والآخرة؟.…………………
ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء، ويغبط نظراءه من الجهال _ لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار عنه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة؟+.(1)
وعن سفيان الثوري والشافعي _ رضي الله عنهما _: =ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم+.(2)
قال ابن جماعة × بعد أن ساق جملة من الآثار عن السلف في فضل العلم: =وقد ظهر بما ذكرنا أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة، وصيام، وتسبيح، ودعاء، ونحو ذلك؛ لأن نفعَ العلم يعم صاحبَهُ والناسَ، والنوافلُ البدنيةُ مقصورةٌ على صاحبها، ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات؛ فهي تفتقر إليه، وتتوقف عليه لا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء _ عليهم الصلاة والتسليم _ وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثرُه بعد موت صاحبه، وغيرُهُ من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياءَ الشريعة، وحفظ معالم الملة+.(3)…………………… =
.................................................................
= هذا شيء من فضل العلم، أما فضل نشر العلم وبثه بين الناس فيكفي في ذلك قول المصطفى ": =إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له+.(4)
قال ابن جماعة × في هذا الحديث: =وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في مُعَلِّم العلم؛ أما الصدقة فإقراؤه إياه العلم وإفادته إياه؛ ألا ترى إلى قوله " في المصلي وحده: =من يتصدق على هذا+.
__________
(1) الأخلاق والسير في مداواة النفوس لابن حزم ص21.
(2) تذكرة السامع والمتكلم ص36.
(3) تذكرة السامع والمتكلم ص37.
(4) رواه مسلم (1631)، والترمذي (1376).(1/43)
أي بالصلاة معه؛ لتحصل فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب المنتفع به فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة، وينال بها شرف الدنيا والآخرة.
وأما العلم المُنْتَفع به فظاهر؛ لأنه كان سبباً لإيصاله ذلك العلم إلى كل من انتفع به.
وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقر على ألسنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم.
وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم، وربما قرأ بعضهم الحديث بسنده، فيدعو لجميع رجال السند؛ فسبحان من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل عطائه+.(1)……………… =
.................................................................
= قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ×: =فالمعلم مأجور على نفس تعليمه، سواء أَفَهِمَ المتعلم أو لم يفهم؛ فإذا فهم ما علمه، وانتفع به بنفسه أو نفع به غيره _ كان الأجر جارياً للمعلم ما دام النفع متسلسلاً متصلاً.
وهذه تجارة بمثلها يتنافس المتنافسون؛ فعلى المعلم أن يسعى سعياً شديداً في إيجاد هذه التجارة؛ فهي من عمله وآثار عمله.
قال _ تعالى _: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] يس:12.
فـ[مَا قَدَّمُوا] ما باشروا عمله، و [آثَارَهُمْ]: ما ترتب على أعمالهم من المصالح والمنافع أو ضدها في حياتهم وبعد مماتهم+.(2)
قال ابن جماعة ×: =واعلم أن الطالب الصالح أعودُ على العالِم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله إليه.
ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يُلْقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومِنْ بعدهم.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص104_105.
(2) الفتاوى السعدية ص450_451.(1/44)
ولو لم يكن للعالِم إلا طالب واحد ينفع الله بعلمه وهديه لكفاه ذلك الطالب عند الله _ تعالى _ فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر+.(1)…………………… =
.................................................................
= وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي ×: =فالعلم عبادة تجمع عدة قربات: التقرب إلى الله بالاشتغال به؛ فإن أكثر الأئمة نصوا على تفضيله على أمهات العبادات _ وذلك في أوقاته الزاهرة بالعلم، فكيف بهذه الأوقات التي تلاشى بها وكاد أن يضمحل، والاستكثارُ من ميراث النبي " وأن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ونفعه واصل لصاحبه، ومتعدٍّ إلى غيره، ونافع لصاحبه حياً وميتاً، وإذا انقطعت الأعمال بالموت، وطويت صحيفة العبد _ فأهل العلم حسناتهم تتزايد كلما انْتُفِع بإرشادهم، واهْتُدِي بأقوالهم وأفعالهم؛ فحقيق بالعاقل الموفق أن ينفق فيه نفائس أوقاته، وجواهر عمره، وأن يعده ليوم فقره، وفاقته+. (2)
ويقول × في كتابه (وجوب التعاون بين المسلمين ص25_26) في فقرة عنوانها (الاعتناء بالتربية والتعليم من أصول الجهاد): =قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً] التحريم: 6، وذلك بالتعليم، والتأديب، والتربية. …………………… =
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص104، وانظر في فضل العلم إلى تذكرة السامع والمتكلم ص27_39، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1/48_157، والعلم وأخلاق أهله لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ص3_16، وتأمل قول الشيخ عبدالرحمن السعدي ×: =ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ... لكفاه...+، فإنه لو لم يكن له من الطلاب إلا فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين لكفاه؛ فكيف وله كثير من الطلبة الذين أصبحوا غرة في جبين الزمان _ رحمهم الله الأموات، وبارك في الأحياء _.
(2) الفتاوى السعدية ص73.(1/45)
.................................................................
= وقال _ تعالى _: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] الزمر:9.
وذلك أن من أعظم أنواعِ الإصلاح، والجهادِ _ التربيةَ الدينيةَ، والاهتمامَ التام، والاعتناء الكامل بشباب الأمة؛ فإنهم محلُّ رجائها، وموضعُ أملِها، ومادةُ قوتها، وعزها.
وبإصلاح تربيتهم تصلح الأحوال؛ فيكون المستقبل خيراً مما قبله.
فعليهم أن يربوهم تربية عالية، ويبثوا فيهم روح الدين، وأخلاقه الجملية، والحزم، والعزم، وجميع مبادئ الرجولة والفتوة والمروة، وأن يدربوهم على الصبر، وتحمل المشاق الذي يفضي إلى النجاح، والمثابرة في كل عمل نافع، ويحذروهم من الجبن، والكسل، والسير وراء الطمع، والمادة، والانطلاق في المجون، والهزل، والدعة؛ فإن ذلك مدعاة للتأخر الخطير.
وشبابُ الحاضر هم رجالُ المستقبل، وبهم تعقد الآمال، وتدرك الأمور المهمة؛ فعليهم أن يجتهدوا ليكونوا في خصال الخير والفضائل المثل الأعلى، وبأوصاف الحزم والمروة والكمال القدوة المثلى.
ومن أعظم أركان التربية العامة النافعة _ إصلاح التعليم، والاعتناء بالمدارس العلمية، وأن يختار لها الأكفاء من المعلمين، والأساتذة الصالحين الذين يتعلم التلاميذ من أخلاقهم الفاضلة قبل ما يتلقون من معلوماتهم العالية. … =
.................................................................
= ويختار لهم من فنون العلم الأهم فالأهم من العلوم النافعة الدينية والدنيوية المؤيدة للدين.
وأن تكون العلوم الدينية هي الأصل، والأساس الأقوم، ويكون غيرها تبعاً لها، ووسيلة إليها.…………………
وأن يكون الغرض الوحيد من المتخرجين في المدارس، الناجحين في علومها _ أن يكونوا صالحين في أنفسهم، وأخلاقهم، وآدابهم، وان يكونوا مصلحين لغيرهم، راشدين مرشدين، مهتمين بتربية الأمة+.(1/46)
وقال في موضع آخر ص8_9 تحت فقرة عنوانها (الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتحاد الكلمة): =فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم، ومصالحهم الدينية والدنيوية في جميع أفرادهم وشعوبهم، وفي ربط الصداقة والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة.
ومن أنفع الأمور أن يتصدى لهذا الأمر جميع طبقات المسلمين من العلماء والأمراء والكبراء وسائر الأفراد منهم كل بحسب إمكانه+.
وذكر × في كتابه (وجوب التعاون بين المسلمين) أنواعاً كثيرة من الجهاد، ومن تلك العنوانات التي ذكرها:
_ معرفة أحوال الأمم، ودَرْسُها ومعرفة سياستها _ داخل في الجهاد.
_ من الجهاد القيام بالقسط والوفاء بالعهود. ………… =
.................................................................
= _ من الجهاد ورعاية الأمانة تخير الأكفاء من الرجال في الولايات والأعمال.
_ شرح محاسن الدين الإسلامي، وبيان عقائده، وأخلاقه، وأحكامه، وإصلاحه من أعظم الجهاد.
فمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة(1).
1_ هذا إشارة إلى الحديث الذي رواه مسلم (2699) عن أبي هريرة ÷.
تنبيه:
ومما ينبغي أن يعلم أن الأجر والمضاعفة الحاصلة بالتعلم والتعليم لا تقتصر على المعلم والمتعلم فحسب، بل تشمل كل من أعان على ذلك.
وفي عصرنا الحاضر تعددت الوسائل والسبل؛ فيدخل في ذلك: من قام بفتح المدارس، ومن أعان على إلقاء الدروس في المساجد، ونحوها، ومن تكفل بنفقات ذلك، ومن قام بالإعلان عنها ونقلها، وبثها عبر وسائل الإعلام المختلفة كالإنترنت، والإذاعة، وغيرها من وسائل الإعلام.
ويدخل في ذلك من دعا إلى حضورها، ومن يسر مهمة المعلمين والمتعلمين فيها.
وإذا كان نشر العلم من أعظم القربات، وأجل أبواب الجهاد، وأكثرها سبباً في مضاعفة العمل _ فإن ذلك يزداد كلما عظم نشر العلم، واشتدت الحاجة إليه، وتعددت الوسائل الدالة عليه.(1/47)
وفي هذا العصر تيسرت سبل كثيرة مرَّ شيء منها؛ فعلى من فُتِح له شيء من ذلك ألا يتوانى، وألا يضيع على نفسه هذه الفرص العظيمة؛ لأنها تتسبب في عموم النفع، وتمكِّن من مخاطبة مختلف الطبقات، وتختصر كثيراً من الجهد؛ فيفيد منها العالم والعامي، والكبير والصغير، والرجال والنساء، والموافق والمخالف؛ فشتان ما بين درس أو محاضرة، أو كلمة يستمع لها، ويفيد منها عشرة، أو عشرون أو ألف أو أقل أو أكثر قليلاً _ وفي كل خير _ وبين ما يفيد منها الآلاف المؤلفة، بل الملايين من الناس؛ فلا ريب أن ذلك من أعظم ما يعم نفعه، ويعظم أثره.
ومن ذلك(1): المشاريع الخيرية التي فيها إعانةٌ للمسلمين على أمور دينهم ودنياهم التي يستمر نفعُها، ويتسلسل إحسانُها(2)،
1_ قوله: =ومن ذلك+: أي من أعظم الجهاد الذي يتضاعف به الثواب.
2_ قوله: =المشاريع+ إلى قوله: =ويتسلسل إحسانها+: هذا إشارة إلى كل عمل من أعمال الخير التي يتعدى نفعها، ويتسلسل إحسانها.
والمشاريع: جمع مشروع، ويُطلق على الأمر الذي يهيأ؛ ليدرس ويقرر(1).
ولعل كلمة المشاريع بهذا المعنى الذي أورده المؤلف عصرية، تطلق على الأعمال الخيرية والمؤسسية وما جرى مجراها من الأعمال التي يشترك فيها جمع من الناس.
وإليك فيما يلي أمثلةً لبعض المشاريع التي استجدت في عصرنا هذا، والتي يتضح بها المقصود، ويُسْتَحْضَرُ كثير من الأعمال التي يضاعف بسببها الثواب:
أ_ جمعيات تحفيظ القرآن: فهي من أعظم المشاريع، ويحصل بسببها أجور عظيمة تشمل المعلم والمتعلم، والمنفق في سبيلها، وجميع القائمين عليها؛ فبسببها تحفظ أوقات أولاد المسلمين من الضياع، وتغتنم في خير ما يغتنم به الوقت ألا وهو تعلم القرآن وتعليمه، قال النبي ": =خيركم من تعلم القرآن وعلمه+(2).…………………… =
__________
(1) انظر المعجم الوسيط د. إبراهيم أنيس وزملاؤه 1/479.
(2) البخاري (4739).(1/48)
.................................................................
= وبسببها يحصل الثواب من جراء كثرة قراءة القرآن، وبسببها تسد حاجة المسلمين من الأئمة الحافظين المتقنين، وبسببها يستمر الأجر، ويتسلسل مدى الأزمان، ولك أن تتصور كم ختمة ختمها رجل يبلغ التسعين أو يزيد عليها، وربما يكون تعلم القرآن وهو في العاشرة من عمره؟………
وكم سيتخرج في هذه الحلقات من قارئ وحافظ؟ وكم سيعلمون من الناس، وكم سيعلم من يعلمونه وهكذا...
بل تأمل من يعلِّم الصبيان سورة الفاتحة _ على سبيل المثال _ فكم سيقرؤها من حفظها من مرة، وكم سيجري من الأجور لمن أعان على حفظها؟
أجور مضاعفة لا يحصيها إلا علام الغيوب؛ فهذه نبذة يسيرة جداً عن هذا العمل العظيم، تَبْعَثُ الهمم، وتَسْتَجْلِب الصبر والمصابرة.
ب_ جمعيات البر الخيرية: فهي تسد الحاجات، وتحفظ الكرامة، وتستر العورات، وتحمي من الذلة التي قد تقود إلى ضيعة الآداب والأعراض.
ج_ جمعيات الراغبين في الزواج: فهي تعين على قيام أسر مسلمة، وتعين على العفاف، وحفظ الأعراض، ويكثر بسببها نسل المسلمين، ويتسلسل الثواب.
د_ مكاتب توعية الجاليات: فبسببها يدخل خلق كثير في دين الإسلام، وهؤلاء الداخلون يَدْعُون أهليهم، وغيرَ أهليهم، وهكذا يتسلسل النفع ويزداد=
.................................................................
= ويتكاثر، ويحصل بسبب ذلك: العلمُ النافع، وتُؤلف الكتب، وتُترجم إلى لغات عديدة، فيعم النفع، ويتضاعف الثواب.
هـ _ عمارة المساجد: قال ": =من بنى لله مسجداً ولو كَمَفْحَصِ قطاةٍ لبيضها بنى الله له بيتاً في الجنة+. (1)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2157) من حديث ابن عباس، وقال الألباني في صحيح الجامع (6129): =صحيح+.(1/49)
فالمساجد يتضاعف أجر صاحبها ويتسلسل، وذلك بسبب ما يُقام فيها من صلوات، وبسبب ما يقرأ فيها من قرآن، وبسبب ما يذكر فيها اسم الله _ عز وجل _ وبسبب ما يُعَلَّم ويُتَعلم فيها من العلم، وبسبب ما يكون فيها من اعتكاف، وما يتضمنه من ذكرٍ وقراءة، وإخبات، وانكسارٍ لله، وجمعية للقلب عليه _عز وجل_ إلى غير ذلك مما يصعب حصره.
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذه الفقرة في فقرات آتية.
كما ورد في "الصحيح": (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعو له)(1).
1_ هذا الحديث مرَّ ذكره وتخريجه قبل قليل، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في بهجة قلوب الأبرار في شرح هذا الحديث: =دار الدنيا دار عمل، يتزود منها العباد من الخير، أو الشر للدار الأخرى، وهي دار الجزاء.
وسيندم المفرطون إذا انتقلوا من هذه الدار ولم يتزودوا لآخرتهم ما يسعدهم، وحينئذ لا يمكن الاستدراك، ولا يتمكن العبد أن يزيد حسناته مثقال ذرة، ولا يمحو من حسناته كذلك.
وانقطع عمل العبد إلا هذه الأعمال الثلاثة التي هي من آثار عمله.
الأول: الصدقة الجارية: أي المستمر نفعها، وذلك كالوقف للعقارات التي ينتفع بمغلَّها، أو الأواني التي ينتفع باستعمالها، أو الحيوانات التي ينتفع بركوبها ومنافعها، أو الكتب والمصاحف التي ينتفع باستعمالها والانتفاع بها، أو المساجد والمدارس والبيوت وغيرها التي ينتفع بها.
فكلها أجرُها جارٍ على العبد ما دام يُنْتفع بشيء منها.
وهذا من أعظم فضائل الوقف، وخصوصاً الأوقاف التي فيها الإعانة على الأمور الدينية، كالعلم، والجهاد، والتفرغ للعبادة، ونحو ذلك.
ولهذا اشترط العلماء في الوقف أن يكون مصرفه على وجهة برٍّ وقربة. =
.................................................................(1/50)
= الثاني: العلم الذي ينتفع به من بعده: كالعلم الذي علَّمه الطلبة المستعدين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس، والكتب التي صنفها في أصناف العلوم النافعة.
وهكذا كل ما تسلسل الانتفاع بتعليمه مباشرة، أو كتابة؛ فإن أجره جارٍ عليه.
فكم من علماء هداة ماتوا من مئات من السنين كتبهم مستعملة، وتلاميذهم قد تسلسل خيرهم، وذلك فضل الله.
الثالث: الولد الصالح: ولدُ صلبٍ، أو ولدُ ابنٍ أو بنتٍ ذكرٌ أو أنثى ينتفع والدُه بصلاحه، ودعائه.
فهو في كل وقت يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، ورفع الدرجات وحصول المثوبات.
وهذه المذكورة في هذا الحديث هي مضمون قوله _ تعالى _: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ] يس: 12.
فـ: [مَا قَدَّمُوا] هو ما باشروه من الأعمال الحسنة، أو السيئة.
و[آثَارَهُمْ] ما ترتب على أعمالهم مما عمله غيرهم، أو انتفع به غيرهم.
وجميع ما يصل إلى العبد من آثار عمله ثلاثة:
الأول: أمور عمل بها الغير بسببه، وبدعايته، وبتوجيهه.…… =
.................................................................
= الثاني: أمور انتفع بها الغير أيَّ نفع كان على حسب ذلك النفع باقتدائه به في الخير.
الثالث: أمور عملها الغير وأهداها إليه، أو صدقة تصدق بها عنه، أو دعا له، سواء أكان من أولاده الحسيين أو من أولاده الروحيين الذين تخرجوا بتعليمه، وهدايته وإرشاده، أو من أقاربه وأصحابه المحبين، أو من عموم المسلمين بحسب مقاماته في الدين، وبحسب ما أوصل إلى العباد من الخير، أو تسبب به، وبحسب ما جعل الله له في قلوب العباد من الود الذي لا بد أن تترتب عليه آثاره الكثيرة التي منها: دعاؤهم، واستغفارهم له.
وكلها تدخل في هذا الحديث الشريف.
وقد يجتمع للعبد في شيء واحد عدة منافع، كالولد الصالح العالم الذي سعى أبوه في تعليمه، وكالكتب التي يقفها، أو يهبها لمن ينتفع بها.(1/51)
ويستدل بهذا الحديث على الترغيب في التزوج الذي من ثمراته حصول الأولاد الصالحين، وغيرها من المصالح، كصلاح الزوجة، وتعليمها ما تنتفع به، وتنفع غيرها، والله أعلم+. (1)
ومن الأعمالِ المضاعفةِ(1): العملُ الذي إذا قام به العبدُ شاركه به غيرُه(2)؛ فهذا _ أيضاً _ يضاعَفُ بحسب مَنْ شاركه(3)،
1_ قوله: =ومن الأعمال المضاعفة...+: هذا شروع في بيان السبب الرابع لمضاعفة ثواب الأعمال وهو الشركة والاجتماع على العمل سواء كان دينياً أو دنيوياً.
2_ قوله: =العمل الذي إذا قام به العبد شاركه فيه غيرُه+: يشير إلى الشركة، وما فيها من الخير، والنفع، ومضاعفة الأجر خصوصاً إذا قامت على الصدق، والإخلاص، والأمانة.
فعن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =يقول الله _ تعالى _: =أنا ثالث الشريكين ما لم يخُنْ أحدهما صاحبه؛ فإن خان أحدُهما صاحبَه خرجت من بينهما+. (2)
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في شرح الحديث: =يدل هذا الحديث بعمومه على جواز أنواع الشركات كلها: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة، وغيرها من أنواع الشركات التي يتفق عليها المتشاركان.
ومن منع شيئاً منها فعليه الدليل الدال على المنع، وإلا فالأصل الجواز؛ لهذا الحديث، وشموله، ولأن الأصل الجواز في كل المعاملات. …… =
.................................................................
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار ص94_96.
(2) رواه أبو داود (3383)، والدار قطني 3/35، والحاكم 2/52، وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (1254): =رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم، وأعلَّه ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان والد أبي حيان، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وذكر أنه روى عنه _ أيضاً _ الحارث ابن يزيد لكن أعله الدارقطني بالإرسال؛ فلم يذكر أبا هريرة، وقال: إنه الصواب+.(1/52)
= ويدل الحديث على فضل الشركات وبركتها، إذا بنيت على الصدق، والأمانة؛ فإن من كان الله معه بارك له في رزقه، ويسر له الأسباب التي ينال بها الرزق، ورزقه من حيث لا يحتسب، وأعانه وسدده.
وذلك لأن الشركات يحصل فيها التعاون بين الشركاء في رأيهم، وفي أعمالهم، وقد تكون أعمالاً لا يقدر عليها كل واحد بمفرده، وباجتماع الأعمال والأموال يمكن إدراكها.
والشركات _ أيضاً _ يمكن تفريعها، وتوسيعها في المكان، والأعمال، وغيرها.
وأيضاً فإن الغالب أنها يحصل بها من الراحة ما لا يحصل بتفرد الإنسان بعلمه(1).
وقد يجري ويدبر أحدهما العمل مع راحة الآخر، أو ذهابه لبعض مهماته، أو وقت مرضه.
وهذا كله مع الصدق، والأمانة؛ فإذا دخلتها الخيانة، ونوى أحدهما أو كلاهما خيانة الآخر، وإخفاء ما يتمكن منه خرج الله من بينهما، وذهبت البركة، ولم تتيسر الأسباب.
والتجربة، والمشاهدة تشهد لهذا الحديث، والله أعلم.(2) …… =
.................................................................
= 3_ قوله: =فهذا أيضاً بحسب من شاركه+: أي أن البركة والمضاعفة تكون بحسب من شاركه سواء في العدد، أو في عظم العمل، أو في عموم نفعه.
فقد تكون المشاركة في مال، وقد تكون الغاية فيها نفع المسلمين، وقد يكون العمل في مشروع علمي، أو دعوي، أو إصلاحي؛ فكلما عظم نفعه، وزاد عدد المشاركين فيه _ عظمت بركته، وتضاعفت مثوبته.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، وقد مضى ذكر لأمثلة منها.
ومن ذلك _ أيضاً _ الاشتراك في إنشاء مكتبة علمية، أو مجلة إسلامية، أو موقع على الشبكة العالمية يفيد منه الناس، ويعرفون دين الله _ عز وجل _ ويُجاب فيه عن أسئلتهم وإشكالاتهم.
ومن ذلك الاشتراك والتعاون على إزالة المنكرات بالحكمة، والروية، والمعالجة الناجعة، وهكذا ...
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها: بعمله.
(2) بهجة قلوب الأبرار ص 93_94.(1/53)
ولعل مما يشير إلى هذا المعنى قوله _ تعالى _ عن موسى _ عليه السلام _: [وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)].
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير هذه الآيات: =علم موسى _عليه الصلاة والسلام_ أن مدار العبادات كلها والدين على ذكر الله؛ فسأل الله أن يجعل أخاه معه يتساعدان ويتعاونان على االبر والتقوى؛ فيكثر منهما ذكر الله من التسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع العبادات+(1).
ومن كان هو سببَ قيامِ إخوانه المسلمين بذلك العمل؛ فهذا _ لا ريب _ يزيد أضعافاً مضاعفةً على عمل إذا عمله لم يشاركه فيه أحد(1)، بل هو من الأعمال القاصرة على عاملها(2).
1_ قوله: =ومن كان هو سبب...+ إلى قوله: =أحد+: فيه بيان السبب الخامس من أسباب مضاعفة ثواب العمل، وهو التسبب في الخير، ودلالة الناس عليه، أو فتح باب إليه وهكذا.
ويأتي سبب المضاعفة لكونه دل على هدى، وعلى جلب الخير لإخوانه المسلمين، فعن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً+.(2)
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في شرح هذا الحديث: =هذا الحديث _وما أشبهه من الأحاديث_ في: الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي، وعظم جرم الداعي، وعقوبته.
والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح.
فكل من علم علماً، أو وجه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم_ فهو داعٍ إلى هدى.………………… =
.................................................................
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن ص454.
(2) رواه مسلم (2674).(1/54)
= وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحقوق الخلق العامة والخاصة _ فهو داع إلى الهدى.
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين _ فهو داع إلى الهدى.
وكل من اهتدى في علمه أو عمله؛ فاقتدى به غيره _ فهو داع إلى الهدى.
وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع _ فهو داخل في هذا النص.
وعكس ذلك كله الداعي إلى الضلالة.
فالداعون إلى الهدى: هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين.
والداعون إلى الضلالة: هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
وكل من عاون غيره على البر والتقوى فهو من الداعين إلى الهدى.
وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الداعين إلى الضلالة+.(1)
ويدخل في التسبب في ذلك تعيين الكفؤ، وإبداء المشورة الطيبة، والاقتراح المفيد؛ فربما فتح أبواباً عظيمة من الخير، وربما ترتب على ذلك فتح لا يخطر بالبال.
ولهذا عد من مناقب سليمان بن عبدالملك × أنه عهد بالخلافة من بعده إلى عمر ابن عبدالعزيز ×.………………… =
.................................................................
= بل إن عظم كتاب بعد كتاب الله _ عز وجل _ وهو صحيح الإمام البخاري × إنما كان سبب تأليفه مشورة من إسحاق بن راهوية ×؛ حيث أبدى كلمة يسيرة صادقة ألقاها إلى الإمام البخاري× فوقعت في قلبه؛ فكانت سبباً لذلك الخير العظيم الذي لا زالت الأمة تنهل منه إلى يومنا الحاضر.
قال ابن حجر × في هدي الساري مقدمة فتح الباري ص8 مبيناً سبب تأليف كتاب الجامع الصحيح للبخاري: =فحرك همته _ أي همَّة البخاري _ لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين، وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه+.
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار ص22_23.(1/55)
ثم ساق ابن حجر ص9 بسنده إلى إبراهيم بن معقل النسفي قوله: =قال أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري: كنا عند إسحاق بن راهوية، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله ".
قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح+.
فانظر إلى بركة هذه المشورة العظيمة.
2_ قوله: =بل هو من الأعمال القاصرة على عاملها+: العمل القاصر هو الذي لا يتعدى نَفْعُه صاحبَهُ.
ولهذا فضَّل العلماء الأعمال المتعدية للغير على الأعمال القاصرة(1).
1_ قوله: =ولهذا...+: أي لأجل ما مضى من بيان بركة العمل المتعدي وعموم نفعه _ فضَّله العلماء على العمل القاصر الذي لا يتعدى نفعه إلى غير صاحبه.
ومن الأعمال المضاعفة(1): إذا كان العمل له وقع عظيم، ونفع كبير، كما إذا كان فيه إنجاء من مهلكة(2)، وإزالة ضرر المتضررين(3)، وكشف الكرب عن المكروبين(4)؛
1_ قوله: =ومن الأعمال المضاعفة+: هذا شروع في بيان السبب السادس لمضاعفة ثواب الأعمال، وهو عظم وَقْعِ العمل، وكِبَر نفعه، مع ذكر أمثلة لذلك قريب بعضها من بعض.
2_ قوله: =كما إذا كان فيه إنجاء من مهلكة+: وذلك كحال من ينقذ غريقاً، أو يسعف مصاباً، أو يباشره بطعام أو شراب وهو في مفازة قد انقطعت به السبل، وأشرف على الهلاك، أو من يقوم بإعتاق رقبة قد وجب عليها الحد، أو يتسبب في ذلك؛ فمثل هذه الأعمال تضاعف؛ لأن فيها إحياءاً للأنفس والله _ عز وجل _ يقول: [وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] المائدة: 32.
ويقول _ عز وجل _: [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ] الشورى: 40.
إلى غير ذلك مما ورد في هذا السياق.
ولعل من أسباب المضاعفة أن في ذلك العمل عدةَ أجورٍ، منها أجر الرحمة، وأجر إدخال السرور، وأجر الشفاعة، وأجر إحياء النفس إذا كان يترتب على ذلك العمل إحياؤها. …………………(1/56)
وإذا نجا المؤمن من الموت كُتِبَ لمن تسبب له في ذلك أجر ما يعمله من صلاة، وصدقة، وصيام، وحج وغير ذلك.
وإذا كان هذا في نجاة البدن، وإزالة الكرب _ فكيف إذا كان ذلك في نجاة المكروب من شقاوة الدنيا والآخرة، والأخذ بيده إلى سبل السعادة في العاجلة والآجلة؟…………………… =
.................................................................
= وذلك بهدايته، ودلالته إلى طريق الهدى والصلاح.
3_ قوله: =أو إزالة ضرر المتضررين+: هذا قريب مما مضى.
ومعنى =إزالة...+: أي كشف الضرر، ورفعه عمن أصيب به.
ويدخل في ذلك جملة كثيرة من الأعمال؛ فيدخل فيها إماطة الأذى عن الطريق، ويدخل فيها الإماطة المعنوية، ولهذا أمثلة كثيرة، منها إصلاح مجاري السيول التي يفيد منها أصحاب الأملاك؛ فإذا حصل فيها إفساد ثم أزيل كتب الأجر لمن أصلحه، واستمر كلما أفادوا من السيول.
ومنها فتح المستشفيات التي يزول بسببها كثير من الأمراض والأضرار.
ومنها ما يقوم به الأطباء من علاج للمرضى؛ فما ظنك بمن فقد بصره أو أشرف على فقدانه، فيعالجه طبيب، فيزيل ما به من ضرر، ويَرْجِعُ إليه بصره، ويتمكن بعد ذلك من السير بدون أحد، ويستطيع قراءة القرآن، والذهاب إلى المسجد وما إلى ذلك من الأعمال؛ فما ظنك بالأجر المترتب على ذلك إذا كان الطبيب مسلماً محتسباً للأجر.
وقل مثل ذلك في طبيب العظام، أو الأمراض الباطنة، أو طبيب الأذن، أو غيرهم؛ فكم لهؤلاء من الأجور إذا عالجوا المرضى، وأسعدوهم، وتسببوا لهم في كثير من المصالح.
ويدخل في ذلك إذا دلَّ الطبيب على وصفة معيَّنة، أو حذَّر من مرض، أو دلَّ على سبيل وقاية ونحو ذلك. ……………… =
.................................................................
= وتزيد المضاعفة إذا كان ذلك عبر وسيلة أعلامية يفيد منها عموم الناس.
ويدخل في ذلك تحذير الأمة من خطر داهم، أو مكيدةٍ ينصبها لها أعداؤها.(1/57)
ومما يدخل في هذا القبيل إزالة الأضرار المتعلقة بأديان المسلمين وعقائدهم وأخلاقهم؛ فذلك مما يتضاعف فيه الأجر، كحال من يسعى لإزالة منكر من المنكرات وخصوصاً العامة منها، وأمثلة ذلك كثيرة، منها السعي في منع بيع الدخان، والخمور، ومنع بيع المجلات المفسدة للعقائد والأخلاق.
ومنها السعي في حجب المواقع المنحطة التي تبث الرذيلة، والخنا والزور.
ويدخل في ذلك إزالة من لا يقوم بأداء الأمانة من موظف أو مسؤول أو غيرهما.
إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره؛ فمثل هذه الأعمال يتضاعف فيها الثواب، ويتسلسل الأجر، ولا ندري ما عظم الفساد الذي سيحدث لو لم تُزَلْ هذه الأضرار.
ويدخل في إزالة الضرر إزالةُ الشحناء، وإصلاح ذات البين؛ فبها تهدأ النفوس، ويتمكن المتخاصمون من الفراغ لأمور دينهم، ودنياهم، ويحصل بذلك جمع الكلمة، وقوة الأمة، ومراغمة الشيطان، والسلامة من توارث العداوات؛ فهذا عمل عظيم متعدٍّ؛ فإذا اجتمع ذلك مع الإخلاص، وابتغاء مرضاة الله _ كان سبباً لمضاعفة الثواب.
قال الله _ عز وجل _: [لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] النساء: 114. ……………… =
.................................................................
= 4_ قوله: =وكشف الكرب عن المكروبين+: فهذا داخل فيما مضى، وموجب لمضاعفة الثواب؛ ذلك أن المكروب مؤرَّق الجفن، ضائق الصدر، مشتغل عن عبادته، ومصالحه بما نزل به من كربة _ وهي الشدة العظيمة _ فإذا كشف كُرْبه انشرح صدره، وأقبل على مصالح دينه ودنياه؛ فكان ذلك سبباً للمضاعفة.(1/58)
ويدخل تحت ذلك أفراد كثيرة منها ما سبق، ومنها الشفاعة الحسنة؛ فعن أبي موسى الأشعري ÷ أن النبي " كان إذا آتاه سائل أو طالب حاجة، قال: =اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء+.(1)
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في شرح الحديث: =وهذا الحديث متضمن لأصل كبير، وفائدة عظيمة، وهو أنه ينبغي للعبد أن يسعى في أمور الخير سواء أثمرت مقاصدها ونتائجها، أو حصل بعضها، أو لم يتم منها شيء.
وذلك كالشفاعة لأصحاب الحاجات عند الملوك والكبراء، ومن تعلقت حاجاتهم بهم؛ فإن كثيراً من الناس يمتنع من السعي فيها إذا لم يعلم قبول شفاعته، فيفوِّت على نفسه خيراً كثيراً من الله، ومعروفاً عند أخيه المسلم.
فلهذا أمر النبي " أصحابه أن يساعدوا أصحاب الحاجة بالشفاعة لهم عنده؛ يتعجلوا الأجر عند الله؛ لقوله: =اشفعوا تؤجروا+ فإن الشفاعة الحسنة محبوبة لله، ومرضية له، قال _ تعالى _: [مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا] النساء: 58+.(2)
فكم من عمل من هذا النوع يكون أكبر سبب لنجاة العبد من العقاب، وفوزه بجزيل الثواب(1)، حتى البهائمُ إذا أُزيل ما يضرُّها كان الأجر عظيماً(2)؛ وقصة المرأة البغيِّ(3) التي سقت الكلبَ الذي كاد يموت من العطش؛ فَغُفِرَ لها بَغْيُها _ شاهدةٌ بذلك(4).
1_ قوله: =فكم من عمل+ إلى قوله: =وفوزه بجزيل الثواب+: هذا بيان لما يترتب على تلك الأعمال التي لها وقعٌ عظيمٌ، ونفعٌ كبيرٌ، وقد مرَّ شيء من ذلك، ومنه _ أيضاً _ ما رواه مسلم عن أبي هريرة ÷ عن رسول الله " قال: =من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه+.(3)
__________
(1) رواه البخاري (1432)، ومسلم (2627).
(2) بهجة قلوب الأبرار ص33.
(3) مسلم (2699).(1/59)
قال ابن رجب × في شرح الحديث: =وقوله: =كربة من كرب يوم القيامة+ ولم يقل: =من كرب الدنيا والآخرة+ كما قال في التيسير والستر.
وقد قيل في مناسبة ذلك: إن الكرب هي الشدائد العظيمة، وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر؛ فإن أحداً لا يكاد يخلو في الدنيا من ذلك، ولو بتعسر بعض الحاجات المهمة.
وقيل: لأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء؛ فادخر الله جزاء تنفيس الكرب عنده؛ لينفس به كرب الآخرة+.(1)……… =
.................................................................
= 2_ قوله: =حتى البهائم...+ إلى قوله: =عظيماً+: يدل على هذا المعنى نصوص كثيرة، منها قول النبي ": =في كل كبد رطبة أجر+.(2)
3_ قوله: =البغي+: الفاجرة.
4_ قوله: =شاهدة بذلك+: أي دالة على معنى ما ذكر، ويشير بهذا إلى حديث البغي الذي جاء في الصحيحين قال النبي ": =بينما كلبٌ يُطيف بركيّة _بئر_ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل؛ فنزعت موقها _خفها_ واستقت له به، فسقته إياه؛ فغُفِر لها به+.(3)
فإذا كان هذا الفضل في شأن سقيا الحيوان البهيم _ فما الظن بالإنسان الذي أكرمه الله، وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلاً؛ إن إطعامه، وإكرامه، ورحمته، وإنقاذه، وإزالة الضرر عنه، وكشف الكرب التي تصيبه _ أجدر بالمجازاة، وأحرى بالمضاعفة.
ومن أسباب المضاعفة(1): أن يكون العبدُ حسنَ الإسلامِ(2)، حسنَ الطريقة(3)، تاركاً للذنوب، غير مُصِرٍّ على شيء منها(4)؛ فإن أعمال هذا(5) مضاعفةٌ(6) كما ورد بذلك الحديث الصحيح(7): (إذا أحسن أحدُكم إسلامََه فكل حسنة يعملها تُكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف...) الحديث.
__________
(1) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم لابن رجب × 2/287.
(2) رواه البخاري (2363)، ومسلم (2244).
(3) البخاري (3467) ومسلم (2345).(1/60)
1_ قوله: =ومن أسباب المضاعفة+: هذا شروع في بيان السبب السابع لمضاعفة الأعمال، وهو حسن الإسلام.
2_ قوله: =أن يكون العبد حسن الإسلام+: حُسْنُ الإسلامِ: أن يترك المرء ما لا يعنيه من قولٍ أوفعل، ويقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال.
قال ابن رجب ×: =وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات، والمشتبهات، والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإن هذا كله لا يعني المسلمَ إذا كَمُل إسلامُه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله _ تعالى _ كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.
فمن عبد الله على استحضار قربه، ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله، واطلاعه عليه _ فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه؛ فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياءُ من الله، وتركُ كلِّ ما يُستحى منه+.(1)
3_ قوله: =حسن الطريقة...+: أي أن يكون على السنة، مجانباً للبدعة. =
.................................................................
= 4_ قوله: =تاركاً للذنوب+: الذنوب: جمع ذنب، والذنب في الأصل الأخذ بذَنب الشيء، يقال: ذَنبتُه أصبت ذَنَبَه، ويستعمل في كل فعلٍ يُسْتَوخم عقباه؛ ولهذا يسمى الذَّنبُ تبعةً؛ اعتباراً لما يحصل من عاقبته، وجَمْعُ الذنبِ ذنوب، قال الله _ تعالى _: [فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ] آل عمران: 11.
وقال: [فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ] العنكبوت: 40.
وقال: [وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ] آل عمران: 135 إلى غير ذلك من الآيات.(2)
والذنب: الإثم، والجرم، والمعصية، والجمع ذنوب، وذنوبات جمع الجمع.(3)
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/289.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص184.
(3) لسان العرب لابن منظور 1/389.(1/61)
وليس معنى قوله: =تاركاً للذنوب+ أن يكون العبد معصوماً، وإنما المقصود أن يكون _ كما قال × _: =غير مصرٍّ على شيء منها+.
والذنب _ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×_ كأنه أمر حتم.(1)
أي أن الذنوب مقدرة عليه، لازمة له، مدركها لا محالة؛ وذلك بمقتضى طبيعة البشرية، وبمقتضى قدر الله الكوني، وحكمته البالغة في تقدير الأشياء؛ فإن لخلق الذنوب حكماً عظيمة ليس هذا مجال بسطها(2). ……… … =
.................................................................
= فالعبد _ إذاً _ لا بد أن يفعل ما قدر له من الذنوب كما قال النبي ": =كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة+ الحديث.(3)
وقوله ": =كل بني آدم خطاء+.(4)
وقوله في الحديث القدسي: =يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار+ الحديث.(5)
لكن الله _ عز وجل _ جعل للعبد مخرجاً مما وقع فيه من الذنوب، ومحاه بالتوبة، والاستغفار، والعمل الصالح، ونحو ذلك؛ فإن فعل فقد تخلص من شر الذنب، وإن أصر على الذنب هلك.
قال عمر بن عبدالعزيز × في خطبة: =من أحسن منكم فليحمد الله، ومن أساء فليستغفر الله؛ فإنه لا بد لأقوام من أن يعملوا أعمالاً وظَّفها الله في رقابهم، وكتبها عليهم+.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 10/655.
(2) انظر تفاصيل تلك الحكم في مفتاح دار السعادة، لابن القيم 1/286_299؛ فهو × أبرز من تكلم في هذا الموضوع الدقيق، بل لا تكاد تجد كلاماً جامعاً لغيره في هذا الباب، وانظر _ كذلك _ مدارج السالكين 1/223 و 224، و232_235 و 288_293.
(3) رواه البخاري (6243) ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة.
(4) رواه أحمد 3/198، والترمذي (2299)، وابن ماجه (4251)، والحاكم 4/244.
(5) رواه مسلم (2577).(1/62)
وفي راوية عنه أنه قال: =يا أيها الناس من ألمَّ بذنب فليستغفر الله، وليتب؛ فإن عاد فليستغفر الله، وليتب؛ فإن عاد فليستغفر الله، وليتب؛ فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار عليها+.(1) =
.................................................................
= والإيمان بأن الله _ عز وجل _ قد قدّر الذنوب والمعاصي على بني آدم ليس حجة لأحد في ترك الواجبات، أو فعل المحرمات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر.
ونفس المُحتجِّ بالقدر إذا اعتُدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقضُ القول يدل على فساده؛ فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول+.(2)
5_ قوله: =فإن أعمال هذا+: يشير بقوله =هذا+ إلى الذي توافر فيه حسنُ الإسلام، وحسن الطريقة، وترك الذنوب.
6_ قوله: =مضاعفة+: بسبب حسن إسلامه، وسلامة عقيدته، وتركه للذنوب، وبعده عن الإصرار عليها إذا بلي بها؛ فمن كانت هذه حاله فقد كمل حسنُ إسلامه، وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامُه، وأنه تضاعف حسناته، وتكفر سيئاته. ……………… =
.................................................................
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/415
(2) مجموع الفتاوى 8/179، وانظر 8/262_268، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/858/859، ومنهاج السنة لابن تيمية 3/56_78، والإيمان بالقضاء والقدر للكاتب ص81_87.(1/63)
= 7_ قوله: =كما ورد بذلك الحديث الصحيح...+: يشير بذلك إلى ما رواه الإمام مسلم × في صحيحه عن أبي هريرة ÷: =إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكلُّ سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله _ عز وجل _+.(1)
قال ابن رجب ×: =فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لا بد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاص النية، والحاجة إلى ذلك العمل، وفضله، كالنفقة في الجهاد، وفي الحج، وفي الأقارب، وفي اليتامى والمساكين، وأوقات الحاجة إلى النفقة، ويشهد لذلك ما رُوي عن عطية، عن ابن عمر قال: =نزلت [مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] الأنعام: 160 في الأعراب، قيل له: فما للمهاجرين؟
قال: ما هو أكثر، ثم تلا قوله _ تعالى _: [وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً] النساء: 40+.(2)
ولعل من أسرارِ وأسباب مضاعفةِ ثواب الأعمال لمَنْ حَسُنَ إسلامُه _ والله أعلم _ كثرةَ أعماله الصالحة، وقلةَ ذنوبه وخطاياه؛ فإذا عمل أعمالاً صالحة لم تجد ما يكدرها، ويقلل ثوابها من الذنوب والخطايا. ……… =
.................................................................
= بخلاف من لم يحسن إسلامه؛ فإن أعماله الصالحة قد لا تكافئ تكفير أعماله السيئة، وربما كَفَّرتها؛ فنقصت، ولم تصل إلى درجة العمل الذي يستحق أن يضاعف.
وذلك كحال من يكسب المال الكثير، ويتاجر في أنواع التجارات، وليس عليه دَيْنٌ البتة؛ فهذا يزيد ماله ويتضاعف.
بخلاف من كان ذا مال قليل، وعليه ديون كثيرة؛ فإنه كلما حصل على ربحٍ صرفه في سداد ديونه، وهكذا لا يستطيع أن يصل إلى درجة ذي المال الكثير، والتجارات المتنوعة، السالم من الدَّين _ والله أعلم _.
__________
(1) مسلم (129).
(2) جامع العلوم والحكم 2/295.(1/64)
ومن أسبابها(1): رِفْعَةُ العاملِ عند الله، ومقامُهُ العالي في الإسلام(2)؛ فإن الله _ تعالى _ شكور حليم(3)؛
1_ قوله: =ومن أسبابها+: أي من أسباب مضاعفة ثواب الأعمال، وهذا هو السبب الثامن: وهو رفعة العامل عند الله، ومقامه العالي في الإسلام.
2_ قوله: =رفعة العامل عند الله ومقامه العالي في الإسلام+: يعني منزلة العامل، وشرفه عند الله، وقدره، وقربه من الله _ عز وجل _ وكثرة تقواه، وما يقدمه من أيادٍ بيضاء في سبيل خدمة الإسلام والمسلمين سواء كان صاحبُ ذلك المقام من أهل العبادة، أو من أهل العلم، أو أهل الإحسان، أو من ذوي الجاه، أو من غيرهم؛ فإن لهؤلاء مكانة ليس لغيرهم؛ لكثرة أعمالهم، ولأنهم قدوة؛ فالناس يسألون عن أخبارهم، ويتقلدون آراءهم، ويفيدون من آثارهم وأياديهم، ويتروون أحوالهم وسيرهم؛ فلهذا كانت أجورهم تتضاعف _ كما سيأتي _.
3_ قوله: =فإن الله _ تعالى _ شكور حليم+: لعله يشير بقوله =شكور+ إلى أن الله _ عز وجل _ يشكر لهؤلاء صنيعهم، ويجازيهم من جنس أعمالهم؛ فلما كانت أعمالهم متعدية النفع، كثيرة الآثار _ جازاهم بمضاعفة أجورهم.
ولعله يشير بقوله: =حليم+: إلى أن الله _ عز وجل_ يحلم ويتجاوز عن هؤلاء أكثر مما يتجاوز عن غيرهم.
قال ابن القيم ×: =فإنه يعفى للمحب، ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره. ………… =
.................................................................
= وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية _ قدس الله روحه _ يقول: انظر إلى موسى _ صلوات الله وسلامه عليه _ رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بِلِحْيَةِ نَبِيٍّ مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد " ورَفْعِه عليه.(1/65)
ورَبُّه _ تعالى _ يحتمل له ذلك كلَّه، ويحبُّه ويكرمه ويُدلِّلُه؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدوٍّ له، وصدع بأمره، وعالج أمَّتَي القبط، وبني إسرائيل أشد المعالجة؛ فكانت هذه الأمور كالشعر في البحر.
وانظر إلى يونس بن مَتَّى؛ حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضَبَ ربَّه مرة؛ فأخذه، وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى.
وفرق بين مَنْ إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين مَنْ إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ جاءت محاسِنُهُ بألفِ شفيع
فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكِّر به إذا وقع في الشدائد، قال _تعالى_ عن ذي النون: [فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] الصافات.
وفرعون لم تكن له سابقة خير تشفع له، وقال: [آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ] يونس: 90. …………… =
.................................................................
= قال له جبريل: [آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ] يونس: 91+.(1)
وقال ابن كثير × في أول تفسيره لسورة طه: =وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا العلاء بن سالم، حدثنا إبراهيم الطالقاني، حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم، قال: قال رسول الله ": =يقول الله _ تعالى _ للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي، وحكمتي فيكم إلا وأن أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي+ إسناده جيد.
__________
(1) مدارج السالكين 1/337_338.(1/66)
وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي ذكره أبو عمرو في استيعابه، وقال: نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة، ورى عنه سماك بن حرب+.(1)
فيا له من فضل، ويا لها من بشارة لأهلها، ويا لها من منقبة يشمِّر لها المشمرون، ويسعى إليها المجدُّون.
لهذا(1) كان نساء النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أجرهن مضاعفاً(2)، قال _ تعالى _: [وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ] سورة الأحزاب:31
وكذلك العالِمُ الربانيُّ(3)، وهو العالِم العامِلُ المعلِّم تكون مضاعفةُ أعمالِه بحسب مقامه عند الله.
كما أن أمثال هؤلاء(4) إذا وقع منهم الذنب كان أعظمَ من غيرهم؛ لما يجب عليهم من زيادة التحرّز، ولما يجب عليهم من زيادة الشكر لله على ما خصهم به من النعم(5).
1_ قوله: =لهذا+: أي لهذا السبب، وهو رفعة العامل عند الله، ومقامه العالي في الإسلام.
2_ قوله: =كان نساء... مضاعفاً+: أي لعظم مكانتهن؛ فهن أزواج رسول الله" وأمهات المؤمنين، ومحط الأنظار، ومحل القدوة؛ فلهذا المقام كان لهن هذا الفضل العظيم، وهو إيتاؤهن أجرَهُنَّ مرتين.
3_ قوله: =وكذلك العالم الرباني+ إلى قوله: =عند الله+: أي يشمله ما يشمل غيره ممن لهم رفعة ومقام؛ من جهة مضاعفة الأجر _ كما مر _.
والعالم الرباني: هو العالم المعلم _ كما عرفه الشيخ × _.
ويقال: إنه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره(2).
وقد مضى الحديث عن العالم بالله، وبأمره. ……… =
.................................................................
= ومضاعفة أعماله بحسب مقامه، ومقدار نفعه، ومنزلته عند الله _عز وجل_.
4_ قوله: =كما أن أمثال هؤلاء...+: ممن لهم رفعة ومقام.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/228.
(2) ذكره البخاري في صحيحه في باب العلم قبل القول والعمل ص38.(1/67)
5_ قوله: =إذا وقع منهم الذنب كان أعظم من غيرهم+ إلى قوله: =النعم+: فيه بيان وتحذير، وتذكير لهم بمزيد من التحفظ؛ فالذنب يعظم إذا وقع ممن يقتدى به؛ فإذا عُلِمَ منه الذنب عظم عند الله؛ لأنه متَّبع؛ فيموت، ويبقى شره مستطيراً؛ فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه؛ فعلى من يقتدى به وظيفتان: إحداهما: ترك الذنب، والثانية: إخفاؤه إياه إذا بُلي به.
وكما تتضاعف أجور هؤلاء إذا اتبعوا على الخير فكذلك تتضاعف أوزارهم إذا اتبعوا على الذنوب(1).
قال الله _ تعالى _: [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً] الأحزاب.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن لو جرى منهن؛ ليزداد حذرهن، وشكرهن الله _ تعالى _ فجعل لمن أتى منهن بفاحشة ظاهرةٍ العذابَ ضعفين. ……………… =
.................................................................
= =ومن يقنت منكن+ أي تطيع =الله ورسوله وتعمل صالحاً+ قليلاً أو كثيراً =نؤتها أجرها مرتين+ أي مثل ما نعطي غيرها مرتين =وأعتدنا لها رزقاً كريماً+ وهي الجنة؛ فقنتن لله ورسوله، وعملن صالحاً، فعُلِم بذلك أجرهن+(2).
ومن الأسبابِ(1): الصدقةُ من الكسب الطيب(2)، كما وردت بذلك النصوص(3).
1_ قوله: =من الأسباب+: أي من الأسباب التي يضاعف بها ثواب العمل، وهو شروع في السبب التاسع، وهو الصدقة من الكسب الطيب.
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين للغزالي 4/32_33، ومنهاج القاصدين لابن قدامة ص282_284، ومدارج السالكين 1/337_343.
(2) تفسير السعدي ص611.(1/68)
2_ قوله: =الصدقة من الكسب الطيب+: وهو الحلال، المباح، السالم من الغش، والربا، وسائر المكاسب الخبيثة.
ووجه كونه سبباً للمضاعفة أن المال تحبه النفوس، وتبخل به؛ فإذا سمحت بإخراجه لله _ عز وجل _ كان ذلك برهان إيمانها بالله، وقوة يقينها بوعده ووعيده. (1)
ثم إن الصدقة إحسان إلى الآخرين، وإنفاق في وجوه الخير المتعددة؛ فهي داخلة في النفع المتعدي؛ فلذا كانت من أسباب مضاعفة العمل، وتكثير الأجر، أضف إلى ذلك أن الله _ عز وجل _ ينزل البركة في المال الحلال؛ فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، وامتثال أمره.
3_ قوله: =كما وردت بذلك النصوص+: أي كما ورد في بيان فضل الصدقة وكونها سبباً للمضاعفة.
=
.................................................................
= ومن أجلى تلك النصوص القرآنية في ذلك قوله _ تعالى _: [مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] البقرة: 245.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =وتأمل هذا الحث اللطيف على النفقة، وأن المنفق قد أقرض الله المليء الكريم، ووعده بالمضاعفة الكثيرة+.(2)
ومن ذلك قوله _ عز وجل _:[يَمْحَقُ الله الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَات].
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير الآية: =أخبر الله _ تعالى _ أنه يمحق مكاسب المرابين، ويُربي صدقات المنفقين، عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق أن الإنفاق ينقص المال، وأنَّ الربا يزيده+(3).
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم 2/22.
(2) تيسير الكريم الرحمن ص89.
(3) تيسير الكريم الرحمن ص97.(1/69)
وأصرح ما جاء في السنة في هذا المعنى ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =من تصدَّق بِعَدْل تمرة من كسب طيب _ ولا يقبل الله إلا الطيب _ فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلَوَّه، حتى تكون مثل الجبل+(1).
ومنها(1): شرفُ الزمان(2)، كرمضانَ(3)، وعشرِ ذي الحجة(4)، ونحوِها(5)،
1_ قوله: =ومنها+: أي من الأسباب التي تضاعف بها الأعمال، وهذا هو السبب العاشر، وهو شرف الزمان.
2_ قوله: =شرف الزمان+: أي فضله، ومَزِيَّته على غيره؛ فالله _ عز وجل _ فاضل بين الأزمنة، وجعل العمل في بعضها مضاعفاً.
قال ابن القيم × متحدثاً عن حكمة الله فيما يختاره _ عز وجل _: =وإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيتَ هذا الاختيار، والتخصيص فيه دالاً على ربوبيته _ تعالى _ ووحدانيته، وكمال حكمته، وعلمه، وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو؛ فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره.
فهذا الاختيارُ، والتدبيرُ، والتخصيصُ المشهودُ أَثرُهُ في هذا العالم مِنْ أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته،و صفات كماله، وصدق رسله، فنشير إلى يسير يكون منبهاً على ما وراءه، دالاً على ما سواه+.(2)
إلى أن قال ×: =ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض+.(3)
3_ قوله: =كرمضان+: فشهر رمضان أفضل الشهور، وعشره الأخير أفضل الليالي، وليلة القدر فيه خير من ألف شهر.
وهو زمان فاضل يضاعف فيه الأجر. ………… =
.................................................................
= جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ÷ عن النبي " قال: =من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه+.(4)
__________
(1) البخاري (1410)، ومسلم (1014).
(2) زاد المعاد في هدي خير المعاد 1/42.
(3) زاد المعاد 1/54.
(4) البخاري (1901) ومسلم (759 و 760).(1/70)
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة ÷ أن رسول الله " قال: =كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنةُ عشرُ أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله _ عز وجل _: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به+.(1)
قال ابن رجب ×: =فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجرُه بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام؛ لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بُني الإسلام عليها+(2).
4_ قوله: =وعشر ذي الحجة+: فهي أشرف الأيام، وفيها يضاعف العمل.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: قال رسول الله ": =ما العمل في أيام أفضل منها في هذه+.
قالوا: ولا الجهاد؟
قال: =ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله؛ فلم يرجع بشيء+.(3) =
.................................................................
= قال ابن القيم ×: =وكذلك تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام؛ فإن أيامه أفضل الأيام عند الله+.(4)
وقال: =ونسبتها إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع+.(5)
وقال مبيناً المفاضلة بين العشر الأخير من رمضان وعشر ذي الحجة: =فالصواب فيه أن يقال: ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان.
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر، وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فَضُل باعتبار أيامه؛ إذ فيه يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم التروية+.(6)
5_ قوله: =ونحوها+: أي من الأزمنة الفاضلة التي يضاعف فيها الثواب كيوم عرفة، وليلة القدر، ويوم عاشوراء، ويوم الجمعة، وغيرها.
__________
(1) البخاري (1894 و 1904) ومسلم (1151).
(2) لطائف المعارف ص159.
(3) البخاري (969).
(4) زاد المعاد 1/56.
(5) زاد المعاد 1/56.
(6) زاد المعاد 1/57.(1/71)
وشرفُ المكان(1) كالعبادة في المساجد الثلاثة(2)،
1_ قوله: =وشرف المكان+: هو فضله، ومَزيَّته على غيره، وهذا هو السبب الحادي عشر لمضاعفة الثواب.
قال ابن رجب ×: =واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان+(1).
وأشرف الأماكن على الإطلاق مكة المكرمة، والمسجد الحرام على وجه الخصوص.
قال ابن القيم ×: =ومن هذا اختياره _ سبحانه وتعالى _ من الأماكن والبلاد خيرها أشرفها، و هي البلد الحرام؛ فإنه _ سبحانه وتعالى _ اختاره لنبيه " وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القُرْبِ، والبعد من كلِّ فجٍ عميق؛ فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشِّعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا.
وجعله حرماً آمناً، لا يسفك فيه دم، ولا تُعْضَدُ به شجرة، ولا يُنَفَّر له صيدٌ، ولا يُختلى خَلاه، ولا تُلتقط لقطته للتمليك، بل للتعريف ليس إلا.
وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، ماحياً للأوزار، حاطاً للخطايا+.
إلى أن قال ×: =فلو لم يكن البلد الأمين خيرَ بلاده، وأحبها إليه، ومختاره من البلاد _ لما جعل عرصاتها مناسك لعباده، فرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال _تعالى_: [وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ] التين: 3.
وقال _ تعالى _: [لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ] البلد: 1. ……… =
.................................................................
= وليس على وجه الأرض بقعةٌ يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها. ………………
وليس على وجه الأرض موضعٌ يشرع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود، والركن اليماني+.(2)
__________
(1) لطائف المعارف، لابن رجب ص158_159.
(2) زاد المعاد 1/46_48، وانظر كلاماً طويلاً في بيان فضل البلد الأمين في زاد المعاد 1/47_53.(1/72)
2_ قوله: =كالعبادة في المساجد الثلاثة+: هذا مثال لشرف المكان وأثره في مضاعفة الثواب.
ويعني بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي.
والأحاديث الواردة في فضل الصلاة في هذه المساجد كثيرة جداً، منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام+(1).
وعن أبي الدرداء ÷ قال: قال رسول الله ": =فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة+. (2)
والعبادةُ في الأوقات التي حثَّ الشارعُ على قصدها(1)، كالصلاة في آخر الليل(2)، وصيام الأيام الفاضلة(3) ونحوها(4).
1_ قوله: =والعبادة في الأوقات...+: هذا هو السبب الثاني عشر من الأعمال التي يضاعف لأجلها الثواب.
ويعني بقوله: =التي حث الشارع على قصدها+: ما ندب إليه الشارع، ورغب فيه، وبين عظم ذلك الوقتِ، وشَرَفَه.
2_ قوله: =الصلاة في آخر الليل+: لما فيه من الأجر العظيم، والثواب الجزيل؛ فذلك وقت النزول الإلهي، وهو الوقت الذي أثنى الله _ عز وجل _ على المستغفرين فيه.
قال الله _ عز وجل _ في وصف عباده المؤمنين: [كانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)] الذاريات.
__________
(1) البخاري (1190) ومسلم (1394).
(2) رواه البزار، كشف الأستار للهيثمي (422) والطحاوي في مشكل الآثار 1/248، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/7: +رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام، وهو حديث حسن+.
وإذا أردت مزيد بيان، وتفصيل لتلك الأحاديث فارجع إلى كتاب (الأحاديث الواردة في فضائل المدينة جمعاً ودراسة) د. صالح الرفاعي ص367_438.(1/73)
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة ÷ أن رسول الله " قال: =ينزل ربنا _تبارك وتعالى_ إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: =من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له+.(1)
3_ قوله: =وصيام الأيام الفاضلة+: يعني بذلك صيامَ النفل، وهي الأيام التي ندب الشارع إلى صيامها، وهي كثيرةٌ منها صوم شهر الله المحرم؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل+(2). =
.................................................................
= ومنها صيام شعبان؛ فقد جاء في الصحيحين عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: =كان رسول الله " يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم؛ فما رأيت رسول الله " استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان+.(3)
وفي رواية: =لم يكن النبي " يصوم شهراً أكثر من شعبان؛ فإن كان يصوم شعبان كله+(4).
ومنها صوم يوم عرفة؛ فعن أبي قتادة ÷ قال: سئل رسول الله " عن صوم يوم عرفة؟
قال: =يكفر السنة الماضية والباقية+. (5)
ومنها صوم يوم عاشوراء؛ فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن رسول الله " صام يوم عاشوراء، وأمر بصيامه. (6)
وعن أبي قتادة ÷ أن رسول الله " سئل عن صيام عاشوراء؟
فقال: =يكفر السنة الماضية+.(7)…………… =
.................................................................
= ومنها استحباب صوم ستة أيام من شوال؛ فعن أبي أيوب ÷ أن رسول الله " قال: =من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر+.(8)
__________
(1) البخاري (1145) ومسلم (758).
(2) مسلم (1163).
(3) البخاري (1969) ومسلم (1156).
(4) البخاري (1970) ومسلم (782).
(5) رواه مسلم (1162).
(6) رواه البخاري (2004) ومسلم (1130).
(7) رواه مسلم 1134).
(8) رواه مسلم (1164).(1/74)
ومنها استحباب صوم الاثنين والخميس؛ فعن أبي قتادة ÷ أن رسول الله " سئل عن صوم يوم الاثنين؟
فقال: =ذلك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل عليَّ فيه+.(1)
وعن أبي هريرة ÷ عن رسول الله " قال: =تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم+.(2)
4_ قوله: =ونحوها+: أي من الأوقات الفاضلة التي حث الشارع على قصدها، والتي هي سبب لمضاعفة العمل.
وهذا(1) راجع إلى تحقيق المتابعةِ للرسول المُكَمِّلِ _ مع الإخلاص _ للأعمال المنمي لثوابها عند الله(2).
1_ قوله: =وهذا+: يشير إلى ذلك الفضل، وتلك الأسباب الجالبة للمضاعفة.
2_ قوله: =راجع إلى تحقيق...+ إلى قوله: =لثوابها عند الله+: معنى كلامه أن ذلك الخير والمضاعفة إنما مرجعه إلى تحقيق شرطي العبادة، وذلك بحسن الاقتداء والتأسي بالرسول " وبتحقيق الإخلاص الذي هو أعظم الأسباب لنماء العمل، ومضاعفته؛ فكل ما مضى ذكره من الأعمال إنما هو جارٍ على مقتضى الشرع، متحقق فيه الإخلاص لله _ عز وجل _ فلا غرو أن تحصل المضاعفة.
ومن أسباب المضاعفةِ(1): القيامُ بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية(2)، والمعارضات الخارجية(3)؛ فكلما كانت المعارضات أقوى(4) والدواعي للترك أكثر(5) كان العمل أكمل(6)، وأكثر مضاعفةً(7).
وأمثلة هذا كثيرة جداً(8)، ولكن هذا ضابطُها(9).
1_ قوله: =ومن أسباب المضاعفة...+: هذا شروع في بيان السبب الثالث عشر لمضاعفة الأعمال، ألا وهو القيام بالأعمال الصالحات عند المعارضات، و هي المعوقات، والمثبطات عن العمل سواء كان قاصراً، أو متعدياً.
وهذا السبب من ألطف الأسباب، وقلَّ من يتفطَّن له.
ولقد أحسن المؤلف في إيراده المعارضات وتقسيمها إلى نفسية وخارجية _ كما سيأتي _.
__________
(1) رواه مسلم (1162).
(2) رواه الترمذي (754)، وقال: =حديث حسن+.(1/75)
2_ قوله: =عند المعارضات النفسية+: يشير بذلك إلى ما يجده الإنسان من المعارضات من داخل نفسه، كالوسواس، والكسل، وإيثار الراحة والدعة، والخوف بأنواعه المتعددة كالخوف من زوال الجاه، أو الخوف من التعرض للمشاق، أو الخوف من الناس ونقدهم وسخريتهم، ولمزهم، وحسدهم، أوالخوف من الفقر إلى غير ذلك من أنواع الخوف التي تمنع من العمل الصالح.
ومن المعارضات التي تعتري النفوس فتقعدها عن الأعمال قلة اليقين، واستطالة الطريق، والملل من مداراة الناس، وقلة المعين على الخير، وإلف العادة إلى غير ذلك من الأمور التي تقف حجر عثرة في طريق الإنسان. … =
.................................................................
= ولكن هذه الأمور من داخل نفسه لا بتأثير أحد.
3_ قوله: =والمعارضات الخارجية+: يقصد بذلك المعوقات التي تصد الإنسان عن الخير من خارج نفسه، فتقطعه، وتعوق سيره. ………
ومن ذلك التخذيل، والسخرية، والحسد، والتسلط، وإلصاق التهم، والرمي بالعظائم، والدخول في النيات، واشتداد الغربة، وكثرة الفتن، وشيوع الملهيات والمغريات، وغير ذلك من المعوقات والمثبطات التي يبتلى بها العبد؛ فتجد أنه بسبب هذه المعارضات النفسية والخارجية يترك كثيراً من الأعمال الصالحة سواء كانت قاصرة عليه، أو متعدياً نفعها إلى غيره، فتراه يقعد عن حفظ القرآن، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتراه متردداً لا يكاد يقبل على عمل إلا تَهَيَّبَه، ورجع دونه.
4_ قوله: =فكلما كانت المعارضات أقوى+: أي كلما كانت أشد من الدوافع التي تدعو إلى الفعل.
5_ قوله: =والدواعي للترك أكثر+: أي أكثر من الدواعي التي تدفع إلى الفعل.
6_ قوله: =كان العمل أكمل+: أي أحسن، وأتم، وذلك إذا قام به صاحبه، ولم يستسلم لهذه المعارضات. ……………… =
.................................................................(1/76)
= 7_ قوله: =وأكثر مضاعفة+: أي أعظم ثواباً، وجزاءاً؛ فبحسب قوة المعارض للفعل، وكثرة الدواعي للترك يكون العمل أتم، وأكثر تضعيفاً، بل تصبح تلك المعارضات أعواناً.
قال ابن القيم ×: =القواطع محنٌ يتبين بها الصادق من الكاذب؛ فإذا خضتها انقلبت أعواناً لك توصلك إلى المقصود+.(1)
8_ قوله: =وأمثلة هذا كثيرة جداً+: يريد بذلك أن أمثلة المعارضات النفسية والخارجية كثيرة _ كما مر ذكر لشيء منها _.
9_ قوله: =ولكن هذا ضابطها+: أي حدَّها الذي يجمعها، ويدخل تحته أفراد كثيرة.
والأدلة على أن القيام بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية والخارجية من أسباب مضاعفة العمل _ كثيرة.
منها قوله _ تعالى _: [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ] الشورى: 40.
فالعفو عن المسيء في نحو المال، أو العرض، أو الجراحات، أو القصاص _ ثقيل على النفس؛ لما فيها من حب للانتقام، والتشفي.
وربما زاد ذلك معارض خارجي، كحال من يَصِمُ العافي بالعجز، والخور، والذلة، والمهانة؛ فإذا قاوم هذه المعارضات من نفسه، ومن خارج نفسه كان حرياً بمضاعفة الثواب. ………………… =
.................................................................
= ويأتي ذلك من أبواب كثيرة متعددة منها ما ذكر من مغالبة المعارضات، ومنها أن العفو استجابة لأمر الله، وقد يكون فيه إحياء نفس، أو إبقاء عضو، أو مال.
كما أن فيه إدخالاً للسرور على المعفو عنه، وعلى أهله، كما أن فيه اقتداءاً بالعافي؛ فلذلك وغيره تضاعف الثواب، وترتب الأجر الجزيل لمن عفا، كما في الآية السابقة.
ومن الأدلة على مضاعفة الثواب عند وجود المعارضات ما جاء في حديثِ أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟+
قالوا: بلى يا رسول الله.
__________
(1) الفوائد ص71.(1/77)
قال: =إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط+(1).
فالوضوء فضله عظيم، والآثار في ذلك كثيرة، ولكنَّ فَضْلَه يعظم، وأَجْرَهُ يتضاعف إذا كان إسباغه على المكاره؛ فهنا قيام بالعمل مع المعارض النفسي، وهو المكاره كالبرد وغيره.
والخطا إلى المساجد لها فضلها؛ فخطوة ترفع درجة، وأخرى تحط خطيئة، ولكن الأجر يتضاعف بكثرة الخطا؛ فذلك دليل احتسابٍ، ومحافظةٍ على الصلاة في المسجد مع الجماعة، [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] البقرة: 45. =
.................................................................
= وانتظار الصلاة إلى الصلاة ثقيل على النفس؛ فإذا غالب نفسه، ودافع ذلك المعارِضَ كان ذلك سبباً في رفعة درجاتِه، وهكذا... ………
ومن الأدلة على القاعدة السابقة ما جاء عن أنس بن مالك ÷ قال: قال رسول الله ": =يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر+.(2)
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في شرح هذا الحديث: =وهذا الحديث يقتضي خبراً، وإرشاداً.
أما الخبر فإنه " أخبر أنه في آخر الزمان يقلُّ الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل، وهذا القليل في حالة شدة، ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر؛ من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلة: فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات، وانصراف الخلق إلى الدنيا، وانهماكهم فيها ظاهراً وباطناً، وضعف الإيمان، وشدة التفرد؛ لقلة المعين، والمساعد.
ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات، والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين _ من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدراً+.(3)………… =
__________
(1) رواه مسلم (251).
(2) أخرجه الترمذي (2260)، وقال: =هذا حديث غريب من هذا الوجه+.
(3) بهجة قلوب الأبرار ص186.(1/78)
.................................................................
= وإذا كانت مغالبة الإنسان المعارضاتِ سبباً في مضاعفة أجره _ فكيف إذا أعان غيره على ذلك، أو تسبب فيه؟……………
لا شك أن أجره سيتضاعف أكثر وأكثر.
ولعل هذا السبب الجالب للمضاعفة _ أعني القيام بالأعمال الصالحة عند المعارضات _ يصلح أن يدخل ضمن القاعدة التي تقول: =الأجر على قدر المشقة+.
قال الله _ تعالى _: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ] الزمر: 10.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي _ ضمن حديث له عن هذه القاعدة _: =فكلما عظمت مشقة الصبر في فعل الطاعات، وفي ترك المحرمات؛ لقوة الداعي إليها، وفي الصبر على المصيبات كان الأجر أعظم، والثواب أكثر+.(1)
ومِنْ أعظمِ من يدخل في مغالبة المعارضات التائب توبةً نصوحاً؛ إذ هو يلاقي معارضات من داخل نفسه بما توسوس له، وتدعوه إلى ما أَلِفَه من المعاصي، وبما تقعده وتثبطه عن فعل الطاعات التي اعتاد تركها، ولم يعتد فعلها.
وربما لاقى _ مع ذلك _ معارضات خارجية من تخذيل الأهل، أو أصدقاء السوء أو غيرهم؛ فإذا غالب تلك المعارضات كان جديراً بمضاعفة ثوابه، وتبديل سيئاته حسنات. ………………… =
.................................................................
= هذا وقد مرَّ شيء من ذلك عند الحديث عن ترك الشهوات المحرمة إذا تركها لله.
ومما يدخل في قبيل المعارضات ارتكاب الذنوب؛ فكثير من الناس إذا قصَّر في طاعة، أو وقع في معصية _ ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وإصلاح ذات البين ونحوها من الأعمال الصالحة؛ بحجة أنه مقصِّر، وأنه يفعل خلاف ما يأمر، وأنه يخشى أن يدخل في الوعيد لمن دعا وترك ما يدعو إليه.
__________
(1) انظر القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن للشيخ عبدالرحمن السعدي ص112.(1/79)
فإذا جاهد نفسه على ترك الذنوب وعلى التوبة والاستغفار منها، واستحضر أن فعل الذنوب لا يسوغ ترك الأعمال الصالحةِ قاصرةً كانت أو متعدية _ كان جديراً بمضاعفة الثواب؛ إذ لو استرسل كل مذنب مع ما يلقيه الشيطان في روعه من التخذيل _ لما قام أحدٌ بأمر الله _ عز وجل _.
قال _ تعالى _: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] المائدة: 77_78.
فانظر كيف نعى الله عليهم ترك التناهي مع أنهم مشتركون في المنكر؛ فلا يجوز للمسلم أن يجمع بين إساءتين، وإلا لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال ابن حزم ×: =ولو لم يَنْهَ عن الشر إلا من ليس فيه شيء منه، ولا أمر بالمعروف إلا من استوعبه _ لما نهى أحد عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي "+(1).=
.................................................................
= وقال النووي ×: =قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مُخِلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها، ويأمر غيره، وينهاه؛ فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟ +(2).
قال سعيد بن جبير ×: =لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر+(3).
قال الإمام مالك × معلقاً على قول سعيد بن جبير: =وصدق سعيد؛ ومن ذا الذي ليس فيه شيء+(4).
وقال الحسن لمُطَرّف بن عبدالله: =عظْ أصحابك.
__________
(1) الأخلاق والسيرص92.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 2/23.
(3) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن1/367.
(4) المرجع السابق.(1/80)
فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل!
قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر منا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر+(1).……… =
.................................................................
= وقال الطبري ×: =وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأوْلى فجيِّد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره+(2).
ومن أهم ما يضاعف فيه العملُ(1): الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة(2)، وحضور القلب في العمل(3)؛ فكلما كانت هذه الأمور أقوى كان الثواب أكثر(4).
1_ قوله: =ومن أهم ما يضاعف فيه العمل+: هذا شروع في بيان السبب الرابع عشر، وهو الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة وحضور القلب في العمل.
2_ قوله: =الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان والمراقبة+: أي بذل الوسع والطاقة في إيقاع العمل على أتم وجوهه، وأكمل صوره.
وذلك باستحضار اطلاع الله _ عز وجل _ وشهوده، وأن يعبده كأنه يراه، فإن لم يكن يرى الله _ عز وجل _ فإن الله يراه.
وهذا مقام عظيم يضاعف لأجله العمل أضعافاً مضاعفة، وقد مر شيء من ذلك فيما مضى، وسيأتي مزيد بيان لذلك.
3_ قوله: =وحضور القلب+: أي تَفَهُّمُه وعَقْلُه، وبعده عن الغفلة، واستشعاره عظمةَ مولاه.
ويكون _ كذلك _ باستجماع الخواطر، واحتساب الأجر، واستحضار العلاقة بالمعبود.
وحضور القلب يكون في شتى القرب، فيكون في الصلاة _ كما سيأتي _.
ويكون حال قراءة القرآن الكريم، كما قال _ تعالى _: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] ق: 37. … =
.................................................................
__________
(1) المرجع السابق.
(2) فتح الباري 13/53.(1/81)
= ويكون حال الذكر؛ فالذكر باللسان مع تواطؤ القلب أكمل حالات الذكر، ويليه الذكر بالقلب؛ فإن كان مع عجز اللسان فحسن، وإن كان مع قدرته فترك للأفضل، ويليه الذكر باللسان فقط.(1)
ويكون حضور القلب حال الدعاء؛ فينبغي للداعي أن يكون حاضر القلب مستشعراً عظمة من يدعوه؛ فلا يليق به أن يخاطب ربه ومولاه بكلام لا يعيه هذا الداعي، وبِجُمَلٍ قد اعتاد تكرارها دون فهم لفحواها، أو أن تجري على لسانه هكذا على سبيل العادة.
قال النبي ": =واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءاً من قلبٍ لاهٍ+.(2)
قال النووي ÷: =واعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، والعلم به أوضح من أن يذكر+.(3)
وقل مثل ذلك في شأن الصدقة، والصوم، والحج وغيرها.
4_ قوله: =فكلما كانت هذه الأمور أقوى كان الثواب أكثر+: أي كلما قوي استحضار هذه الأحوال، والأخذ بتلك المقامات العالية _ كان الثواب أكثر مضاعفة.
ولهذا ورد في الحديث: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)(1).
فالصلاة، ونحوها(2) وإن كانت تجزئُ(3) إذا أُتيَ بصورتها الظاهرةِ، وواجباتها الظاهرة والباطنة _ إلا أن كمالَ القبولِ، وكمالَ الثوابِ، وزيادةَ الحسناتِ، ورفعةَ الدرجاتِ، وتكفيرَ السيئاتِ، وزيادةَ نورِ الإيمان(4) _ بحسب حضور القلب(5) في العبادة.
1_ يُروى بلفظ =ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عقل منها+.
قال الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار 1/116: =لم أجده مرفوعاً+.
وقد نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 22/612 إلى ابن عباس _ رضي الله عنهما _.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/566.
(2) أخرجه الترمذي (3479) والحاكم 1/494، والطبراني في الدعاء (62) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (245).
(3) الأذكار للنووي ص356.(1/82)
2_ قوله: =ونحوها+: أي من الأعمال الصالحة من قراءة قرآن، وذكر، ودعاء، وصدقة، وصوم، وحج وغيرها.
وقد خص الصلاة لما لها من مزية، ولكونها تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة من غير النوافل، ولكونها تجمع عبادات شتى كالذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والخشوع، وغير ذلك.
3_ قوله: =وإن كانت تجزئ+: أي يؤدى بها الفرض، وتزول التبعة.
4_ قوله: =إلا أن كمال القبول+ إلى قوله: =وزيادة نور الإيمان+: هذا قدر زائد على مجرد القبول الذي يحصل به الأجر، وترفع التبعة.
5_ قوله: =بحسب حضور القلب+: أي أن ذلك يتفاوت، ويعظم بحسب ما يقوم بالقلب من عَقْلٍ لما يقوم به، ومن جمعيته على الله _ عز وجل _. =
.................................................................
= ونحو ذلك مما مر قريباً؛ فلذلك أثره البالغ في مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات، وحط السيئات، وزيادة الإيمان، وزيادة المحبة لله _ عز وجل _.
قال ابن القيم × في معرض حديث له عن الصلاة، وأحوال الناس فيها: =فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا؛ لما فيها مِنْ مناجاة مَنْ لا تَقَرُّ العيونُ، ولا تطمئن القلوب، ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره، والتذلل والخضوع له، والقرب منه، ولا سيما في حال السجود، وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها، ومن هذا قول النبي ": =يا بلال، أرحنا بالصلاة+.(1)
فأعلم بذلك أن راحته " في الصلاة كما أخبر أن قرة عينه فيها.
فأين هذا من قول القائل: نصلي ونستريح من الصلاة؟+.
إلى أن قال: =فالمحب راحته، وقرة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقة عليه إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها وأسرعها؛ فإنه ليس له قرة عين فيها، ولا لقلبه راحة بها.
__________
(1) رواه الإمام أحمد (22578).(1/83)
والعبد إذا قرت عينه بشيء، واستراح قلبه به فَأَشَقُّ ما عليه مفارقته، والمتكلف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة، المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طولها مع تفرغه، وصحته، وعدم انشغاله+.(1) =
.................................................................
= وقال × في معرض حديث له عن الصلاة التي تقر بها العيون، ويستريح بها القلب: =ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العيون، ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد+.
ثم شرع × في تعداد تلك المشاهد؛ حيث ذكر مشهد الإخلاص، ومشهد الصدق والنصح، وقال فيه: =والصلاة التي كمل ظاهرها وباطنها تصعد ولها نور وبرهان كنور الشمس حتى تُعْرَضَ على الله فيرضاها، ويقبلها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني+.
ثم انتقل × إلى المشهد الثالث وهو مشهد المتابعة والاقتداء، ثم إلى المشهد الرابع وهو مشهد الإحسان، وقال فيه: =المشهد الرابع: مشهد الإحسان: وهو مشهد المراقبة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه.
وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله، وأسمائه وصفاته، حتى كأنه يرى الله _ سبحانه _ فوق سمواته مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه، ويدبر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده، ويصعد إليه، وتعرض أعمال العباد، وأرواحهم عند الموافاة عليه.
فيشهد ذلك كله بقلبه، ويشهد أسماءه وصفاته، ويشهد قيوماً، حياً، سميعاً، بصيراً، عزيزاً، حكيماً، آمراً، ناهياً، يحب، ويبغض، ويرضى، ويغضب، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو فوق عرشه، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ولا أقوالهم، ولا بواطنهم، بل يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. =
.................................................................
__________
(1) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، تحقيق الشيخ عبدالله بن محمد المديفر ص33_34.(1/84)
= ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها؛ فإنه يوجب الحياء، والإجلال، والتعظيم، والخشية، والمحبة، والإنابة، والتوكل، والخضوع لله _سبحانه_ والذل له، ويقطع الوساوس، وحديث النفس، ويجمع القلب والهمَّ على الله.
فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة، حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما، وركوعهما، وسجودهما واحد+.(1)
ثم شرع بالكلام على المشهد الخامس، وهو مشهد المنة لله، ثم على السادس، وهو مشهد التقصير، وأتى بكلام جليل القدر في هذا الباب على اختصاره.(2)
ولهذا(1) كان من أسباب مضاعفة العمل حصولُ أثره الحسن(2) في نفع العبد(3)، وزيادةِ إيمانه(4)، ورقة قلبه(5)، وطمأنينته(6)
1_ قوله: =ولهذا+: أي لأجل ما مضى ذكره من الحديث عن الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان، والمراقبة، وحضور القلب، وما يستتبع ذلك من ثمرات جليلة.
2_ قوله: =كان من أسباب...+ إلى قوله: =الحسن+: هذا شروع في بيان السبب الخامس عشر من أسباب مضاعفة العمل، وهو الآثارُ الحسنة للعمل الصالح _ كما سيذكر أمثلة لذلك _.
3_ قوله: =في نفع العبد+: في دينه ودنياه، وما يترتب على ذلك، وما ينشئ عنه من الآثار القاصرة والمتعدية.
4_ قوله: =وزيادة إيمانه+: فالإيمان _ كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة _ يزيد بالطاعة؛ فإذا زاد الإيمان كان ذلك سبباً في مضاعفة العمل _ كما مر ذلك في أكثر من موضع _.
5_ قوله: =ورقة قلبه+: ضد قسوته، ورقة القلب: لينه، وانقياده، وخشوعه، وتأثره بالقرآن، وبالمواعظ وما إلى ذلك.
__________
(1) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص34_39.
(2) انظر رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص39_46، وله _ أيضاً _ كلام عظيم في هذا المعنى في كتابه الوابل الصيب ص34_42.(1/85)
ولقد أثنى الله _ عز وجل _ على الذين تلين قلوبهم لذكره _ عز وجل _ وذم القاسية قلوبهم؛ فقال _ عز وجل _: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً متَشَابِهاً مثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]الزمر: 23، وقال:[فوَيْلٌ للقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] الزمر:22. =
.................................................................
= فَرِقَّةُ القلبِ ولينُه من آثار العمل الصالح، وهي سبب لمضاعفة الثواب من جهة أنها من أعظم الأسباب لحضور القلب، وإلقاء السمع، واستحضار الأمر، وانبعاث الجوارح للعمل الصالح.
6_ قوله: =وطمأنينته+: أي طمأنينة القلب بذكر الله، وسكونه إليه _ عز وجل _.
وذلك من آثار العمل الصالح؛ فإذا اطمأن القلب بذكر الله قرب من كل خير، وبعد عن كل شر.
قال ابن القيم ×: =فالنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، أنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه _ فهي مطمئنة، وهي التي يقال لها عند الوفاة: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً] الفجر+.(1)
وحصول المعاني المحمودة للقلب(1) من آثار العمل(2)؛ فإن الأعمال كلما كملت(3) كانت آثارُها في القلوب أحسنَ الآثارِ(4)، وبالله التوفيق.
1_ قوله: =وحصول المعاني المحمودة في القلب+: يعني بذلك ما مر ذكره من الأمور التي تنفع العبد، وتحيي القلب كزيادة الإيمان، ورقة القلب، وطمأنينته بذكر الله ونحو ذلك مما فيه صلاح القلوب وحياتها.
2_ قوله: =من آثار العمل+: يعني من نتائج العمل الصالح، ومما يترتب عليه.
__________
(1) إغاثة اللهفان ص84.(1/86)
قال الله _ تعالى _: [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]محمد:17.
3_ قوله: =فإن الأعمال كلما كملت+: أي تمت، وأُخْلِصَ فيها، وعم نفعها؛ فذلك من كمالها.
4_ قوله: =كانت آثارها في القلوب أحسن الآثار+: أي أنها تثمر ثمارها اليانعة، ويكون لها آثارها الطيبة في القلوب _ كما مر ذكره _.
بل إن لها أعظم الآثار في مضاعفة الأجر، وتولد الطاعة، وتسلسل الثواب؛ فبركة العمل الصالح لا تقف عند حد، ولا يحصيها إلا الله _ عز وجل _.
قال ابن القيم ×: = مثال تولُّد الطاعة، ونموِّها، وتزايدها _ كمثل نواة غرستها، فصارت شجرة، ثم أثمرتْ، فأكلتَ ثمرها، وغرستَ نواها؛ فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره، وغرست نواه.
وكذلك تداعي المعاصي؛ فليتدبر اللبيب هذا المثال؛ فمن ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها+.(1)………… =
.................................................................
= وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في القواعد الحسان: =القاعدة الخامسة والخمسون: يكتب للعبد عمله الذي باشره، ويكمل له ما شرع فيه وعجز عن تكميله، ويكتب له ما نشأ عن عمله.
فهذه الأمور الثلاثة وردت في القرآن:
أما الأعمال التي باشرها العبد فأكثر من أن تحصى النصوص الدالة عليها، كقوله: [بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] المائدة: 105 [لَهَا مَا كَسَبَتْ] البقرة: 286 [لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ] يونس: 41، ونحو ذلك.
وأما الأعمال التي شرع العبد فيها ولما يكملها فقد دل عليها قوله _ تعالى _: [مَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً] النساء: 100.
__________
(1) الفوائد ص61.(1/87)
فهذا خرج للهجرة وأدركه الأجل قبل تكميل عمله؛ فأخبر _ تعالى _ أنه وقع أجره على الله؛ فكل من شرع في عمل من أعمال الخير، ثم عجز عن إتمامه بموت، أو عجز بدني، أو عجز مالي، أو مانع داخلي، أو خارجي، وكان من نيته لولا المانع لأتمه _ فقد وقع أجره على الله؛ فإنما الأعمال بالنيات.
وقال _ تعالى _: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] العنكبوت: 69.
فكل من اجتهد في الخير هداه الله الطريق الموصلة إليه سواء أكمل ذلك العمل، أو حصل له عائق عنه.……………… =
.................................................................
= وأما آثار أعمال العبد فقد قال _ تعالى _: [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا] أي: باشروا عمله [وَآثَارَهُمْ] يس: 12، التي ترتبت على أعمالهم من خير وشر.
وقال في المجاهدين: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] التوبة: 120.
فكل هذه الأمور من آثار عملهم، ثم ذكر أعمالهم التي باشروها بقوله: [وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً] إلى آخر الآية، التوبة: 121.
والأعمال التي هي من آثار عمله نوعان:
أحدهما: أن تقع بغير قصد من الإنسان، كأن يعمل أعمالاً صالحة خيرية فيقتدي به غيره في هذا الخير؛ فإن ذلك من آثار عمله، وكمن يتزوج بغير نية حصول الأولاد الصالحين، فيعطيه الله أولاداً صالحين؛ فإنه ينتفع بهم، وبدعائهم.(1/88)
والثاني _ وهو أشرف النوعين _: أن يقع ذلك بقصده، كمن علَّم علماً نافعاً؛ فنفس تعليمه، ومباشرته له من أجلِّ الأعمال، ثم ما حصل من العلم، والخير المترتب على ذلك؛ فإنه من آثار عمله، وكمن يفعل الخير ليقتدي به الناس، أو يتزوج لأجل حصول الذرية الصالحين فيحصل مراده؛ فإن هذا من آثار عمله. …………………… =
.................................................................
= وكذلك من يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً، أو يباشر صناعة مما ينتفع بها الناس في أمور دينهم ودنياهم، وقد قصد بذلك حصول النفع؛ فما ترتب من نفع ديني، أو دنيوي على هذا العمل فإنه من آثار عمله، وإن كان يأخذ على عمله الأخير أجراً وعوضاً؛ فإن الله يدخل بالسهم الواحدِ الجنةَ ثلاثةً: صانعَهُ، وراميه، والمُمِد له+.(1)
ومن لطائف المضاعفة(1) أن إسرار العمل قد يكون سبباً لمضاعفة الثواب(2)؛ فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله(3): (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه، ومنهم رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)(4).
1_ قوله: =ومن لطائف المضاعفة+: أي ومن دقائقها وأسرارها، وهذا شروع في ذكر السبب السادس عشر من الأسباب التي يضاعف بها الثواب، ألا وهو إسرار العمل الصالح إذا كانت المصلحة في ذلك.
2_ قوله: =أن إسرار...+ إلى قوله: =الثواب+: فهذا يدل على صدق صاحبه، وإخلاصه، وبعده عن الرياء؛ فكان ذلك سبباً لمضاعفة ثوابه.
3_ قوله: =فإن من السبعة...+: هذا تعليل لما مضى، واستدلال على أن إخفاء الصدقة يترتب عليه الثواب الجزيل من الله _ عز وجل _.
__________
(1) القواعد الحسان ص115_117.(1/89)
ويشير بذلك إلى حديث أبي هريرة ÷ عن النبي " قال: =سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله _ عز وجل _ ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه+.(1)…………………… =
.................................................................
= 4_ قوله: =رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه+: هذا استدلال آخر من حديث السبعة على أن إخفاء العمل من أسباب المضاعفة؛ فالذي حمل هذا الرجل على البكاء حبه لله، وشوقه إليه؛ فلما أخفى عمله دل ذلك على كمال إخلاصه؛ فاستحق بذلك الثواب الجزيل من الله _ عز وجل _.
كما أن إعلانها(1) قد يكون سبباً للمضاعفة كالأعمال التي تحصل فيها الأسوة والاقتداء(2)،
1_ قوله: =كما أن إعلانها+: الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة،و هذا هو السبب السابع عشر من أسباب المضاعفة، ألا وهو إعلان الأعمال الصالحة إذا كان ذلك هو الأنسب، والأصلح.
2_ قوله: =كالأعمال التي تحصل فيها الأسوة والاقتداء+: يشير بذلك إلى أن إظهار الأعمال وإعلانها قد يكون سبباً للمضاعفة، وقد يكون خيراً من الإخفاء؛ وذلك إذا ترتب عليه مصالح، كحصول الاقتداء، ومسارعة الناس إلى التأسي بذلك الذي قام بالعمل الصالح صدقةً كانت أو غيرها.
ويشهد لذلك نصوص كثيرة من أوضحها قوله _ تعالى _: [إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] البقرة: 271.
__________
(1) رواه البخاري (660) ومسلم (1031).(1/90)
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =أخبر أن الصدقة إن أبداها المتصدق فهي خير، وإن أخفاها وسلمها للفقير كان أفضل؛ لأن الإخفاء على الفقير إحسان آخر، وأيضاً فإنه يدل على قوة الإخلاص+.
إلى أن قال ×: =وفي قوله: [وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ]: فائدة لطيفة، وهو أن إخفاءها خير من إظهارها إذا أعطيت الفقير.
فأما إذا صرفت في مشروع خير لم يكن في الآية ما يدل على فضيلة إخفائها، بل هنا قواعد الشرع تدل على مراعاة المصلحة؛ فربما كان الإظهار خيراً بحصول الأسوة والاقتداء، وتنشيط النفوس على أعمال الخير+.(1)……… =
.................................................................
= وجاء في صحيح مسلم عن جرير بن عبدالله قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله " عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة؛ فحث الناس على الصدقة، فأبطؤوا عنه، حتى رئي ذلك من وجهه.
قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بِصُرَّة من وَرِقٍ، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه؛ فقال رسول الله ": =من سنَّ في الإسلام سنة حسنة، فَعُمِل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها من بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء+(2).
وهكذا يتبين أن الإعلان والإسرار في الصدقة والعمل الصالح عموماً راجع للمصلحة.
قال ابن حجر × في معرض حديثه عن إعلان الصدقة وإسرارها: =قال الزين بن المنيِّر: لو قيل إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيداً؛ فإذا كان الإمام _ مثلاً _ جائراً، ومالُ مَنْ وجبت عليه الزكاة مخفياً _ فالإسرار أولى.
وإن كان المتطوع ممن يُقتدى به، ويتَّبع، وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق، وسَلِم قصده _ فالإظهار أولى والله أعلم+(3).
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن ص86.
(2) مسلم (1017).
(3) فتح الباري 3/340.(1/91)
وهذا(1) مما يَدْخُلُ في القاعدة المشهورة: قد يَعْرِضُ للعمل المفضول من المصالح ما يصيِّره أفضل من غيره(2).
1_ قوله: =وهذا+: أي هذا التنوع والتفصيل، وكون الإخفاء خيراً من الإعلان، أو العكس.
2_ قوله: =مما يدخل...+ إلى قوله: =أفضل من غيره+: يشير بذلك إلى القاعدة التي يتطرق لها العلماء، ويبينون من خلالها أن العمل تكون له فضيلة في نفسه، وتكون له فضيلة عارضة، ويبينون أن أفضل الأعمال يتنوع بحسب أجناس العبادة، وباختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والأشخاص.
قال ابن القيم × في فصل نفيس عقده في كتابه: (الوابل الصيب) حول هذا المعنى: =الفصل الثالث: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء.
هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعيِّنُه؛ فلا يجوز أن يُعْدَلَ عنه إلى الفاضل.
وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود؛ فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهيٌّ عنها تحريم أو كراهة.
وكذلك التسميع، والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك =رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارحمني+ بين السجدتين أفضل من القراءة. ……………… =
.................................................................
= وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة _ ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد _ أفضل من الاشتغال بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله _تعالى_ على خلقه، لكن لكل مقام مقال متى فات مقاله فيه، وعُدِل عنه إلى غيره اختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وهكذا الأذكارُ المقيدةُ بمحالَّ مخصوصة أفضلُ من القراءة المطلقة، والقراءةُ المطلقةُ أفضلُ من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر، والدعاء أنفع له من قراءة القرآن.(1/92)
مثاله: أن يتفكر في ذنوبه؛ فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن؛ فَيَعْدِلَ إلى الأذكار والدعوات التي تُحَصِّنه وتحفظه.
وكذلك _ أيضاً _ قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها، أو ذكرٌ لم يحضر قلبه فيه، وإذا أقبل على سؤالها، والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله _ تعالى _ وأحدث له تضرعاً، وخشوعاً، وابتهالاً؛ فهذا يكون اشتغاله بالدعاء _ والحالة هذه أنفع _ وإن كان كلٌّ من القراءة والذكر أفضلَ وأعظمَ أجراً.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فِقْهِ نَفْسٍ، وفرقانٍ بين فضيلة الشيء في نفسه، وبين فضيلته العارضة؛ فيعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، ويوضع كل شيء موضعه؛ فللْعين موضع، وللرِّجْل موضع، وللماء موضع، وللَّحم موضع. …… =
.................................................................
= وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله _ تعالى _ الموفق+.
إلى أن قال ×: =وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله تعالى _ يوماً: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد: التسبيح أو الاستغفار؟
فقال: إذا كان الثوب نقيَّاً فالبخور، وماء الورد أنفع، وإن كان دَنِساً فالصابون والماء الحارُّ أنفع له.
فقال لي _ رحمه الله تعالى _: فكيف والثياب لا تزال دَنِسة؟
ومن هذا الباب أن سورة [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] تعدل ثلث القرآن.
ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق، والخلع، والعُدَد، ونحوها.
بل هذه الآيات في وقتها عند الحاجة أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.(1/93)
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه _ كانت أفضل من كلٍّ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كلَّه مع عبودية سائر الأعضاء؛ فهذا أصل نافع جداً يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال، وتنزيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها؛ فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها، فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته؛ فتفوته مصلحته بالكلية؛ لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً، وأعظم أجراً. ……………………… =
.................................................................
= وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال، وتفاوتها، ومقاصدها، وفقهٍ في إعطاء كل عمل منها حقَّه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه، وأفضل؛ لإمكان تداركه، والعود إليه.
وهذا المفضول لا يمكن تداركه؛ فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لرد السلام، وتشميت العاطس _ وإن كان القرآن أفضل _ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول، والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحةُ ردِّ السلام، وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت، والله ـ تعالى ـ الموفق+ ا _ هـ .(1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية × مقرراً هذا المعنى: =وقد تقدم أن الأفضل يتنوع تارةً بحسب أجناس العبادات، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
وتارة يختلف باختلاف الأوقات؛ كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.
وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر؛ كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف. ……… =
__________
(1) الوابل الصيب ص 122_124.(1/94)
.................................................................
= وتارة باختلاف الأمكنة كما أن المشروع بعرفة، والمزدلفة، وعند الجمار، وعند الصفا والمروة ـ هو الذكر، والدعاء دون الصلاة ونحوها.
والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة؛ فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج.
والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيِّمة؛ فإنها مأمورة بطاعة أبويها.
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه؛ فما يَقْدِر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنسُ المعجوز عنه أفضل.
وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتَّبعون أهواءهم؛ فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه ـ يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك.
والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهدياً لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له؛ فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية _كالصلاة والصيام_ أفضل له. ……………… =
.................................................................
= والأفضل مطلقاً ما كان أشبه بحال النبي " باطناً وظاهراً؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ".
والله _ سبحانه وتعالى _ أعلم+.(1)
__________
(1) مجموع الفتاوى 10/427_429، وانظر كلاماً عظيماً حول هذه المعاني في مجموع الفتاوى، لابن تيمية 11/400، و14/434، و20/51، و22/308 و348، و3/58_60، و24/237.(1/95)
ولما تكلم الإمام ابن القيم × في كتابه (مدارج السالكين) على أفضل العبادة، وأنفعها أتى بكلام عظيم نفيس قل أن تجده عند غيره؛ حيث بين فيه أن أفضل العبادة هو العمل على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت.
قال ×: =ثم أهل مقام إياك نعبد لهم في أفضل العبادة وأنفعها، وأحقها بالإيثار التخصيص أربع طرق؛ فهم في ذلك أربعة أصناف+.
ثم شرع في ذكر تلك الأصناف فقال: =الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات، وأفضلها أشقها على النفوس، وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد+.
ثم شرع في بسط حججهم، ثم انتقل إلى الصنف الثاني فقال: =الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطِّراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها+. =
.................................................................
= ثم شرع في شرح قولهم، ثم انتقل إلى الصنف الثالث فقال: =الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات ما كان فيه نفع متعدٍّ؛ فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس، وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال، والجاه، والنفع، فتصدوا له، وعملوا عليه+.
ثم شرع في شرح رأي أولئك، وانتقل بعد ذلك إلى الصنف الرابع، وبسط القول فيه أكثر مما قبله، وكأنه × قد ارتضى ذلك الرأي، فإليك كلامه في ذلك الصنف بتمامه، يقول × في المدارج: =الصنف الرابع قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضي ذلك الوقت، ووظيفته؛ فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل، وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حال الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف ـ مثلاً ـ القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.(1/96)
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه، والاشتغال به. …………………… =
.................................................................
= والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد، والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بَعُد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخَلْوَتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعيةُ(1) القلب والهمةِ على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله _ تعالى _ يخاطبك به؛ فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع، والدعاء، والذكر دون الصوم المُضعفِ عن ذلك. ……………
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد؛ فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه، والخلوة، والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلمَ، وإقرائهم القرآنَ عند كثير من العلماء. … =
.................................................................
= والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم، أو موته: عيادته، وحضور جنازته، وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجَمْعِيَّتِكَ.
__________
(1) قول ابن القيم ×: =جمعية القلب+ معناها اجتماع القلب على الله _ عز وجل _ وبعدُه عن الغفلةِ والتشتتِ، واستحضارُه ما يُتقرب به من ذكر، أو دعاء، أو قراءة قرآن، أو نحو ذلك.(1/97)
والأفضل في وقت نزول النوازل، وأذاة الناس لك: أداءُ واجبِ الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس؛ ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم، ولا يؤذونه.
والأفضل خُلْطَتُهم في الخير؛ فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر؛ فهو أفضل من خلطتهم فيه.
فإن عَلِم أنه إذا خالطهم أزاله أو قَلَّله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت، ووظيفته، ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبُّد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد؛ فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص، وترك عبادته؛ فهو يعبد الله على وجه واحد.
وصاحبُ التعبد المطلق ليس له غرض في تعبُّدٍ بعينه يُؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله _ تعالى _ أين كانت. …………
فمدارُ تعبُّدِه عليها؛ فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلةٌ عَمِلَ على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلةٌ أخرى؛ فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره؛ فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته=
.................................................................(1/98)
= معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجَمْعِيَّة(1) وعكوف القلب على الله رأيته معهم؛ فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيِّده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها، وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه؛ فهذا هو المتحقق بـ:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] حقاً، القائم بهما صدقاً، مَلْبَسُه ما تهيأ، ومأكلُه ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان، ووجده خالياً، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حُرٌّ مجرد، دائرٌ مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كلُّ محقٍّ، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلُّها منفعة حتى شوكُها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله؛ فهو لله، وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم،=
.................................................................
=وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فواهاً له! ما أغْرَبَه بين الناس! وما أشدَّ وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان+ ا _ هـ.(2)
__________
(1) هذه الكلمة تكررت كثيراً، وقد مرَّ معناها، ويريد ابن القيم × بهذه الكلمة: أهل التفرغ للذكر، والانقطاع للعبادة، الذين يجمعون همهم وهممهم على إحسان العمل، وتعقُّل القلب.
(2) مدارج السالكين 1/106.(1/99)
ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين(1) أن الاتصاف في كل الأوقات(2) بقوة الإخلاص لله(3)، ومحبة الخير للمسلمين(4) مع اللهج بذكر الله(5) لا يلحقها شيءٌ(6) من الأعمال، وأهلها سابقون لكل فضيلة وأجر وثواب، وغيرُها من الأعمال تبعٌ لها(7)؛ فأهل الإخلاص والإحسان والذكر هم السابقون السابقون المقربون في جنات النعيم(8).
1_ قوله: =ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين+: يعني في أفضل الأعمال، وأعظمها، وأزكاها، وأكثرها ثواباً وتضعيفاً.
2_ قوله: =الاتصاف في كل الأوقات...+: أي الامتثال والقيام بالأعمال التي سيذكرها، والتي مرت الإشارة إلى شيء منها.
3_ قوله: =بقوة الإخلاص+: مر الحديث عن الإخلاص، وفضله، وعظيم أثره؛ فهو أصل الأعمال، وعليه مدارها.
4_ قوله: =ومحبة الخير للمسلمين+: ويكون ذلك بمحبة نفعهم، وإيصال الخير إليهم، والنصح لخاصتهم، وعامتهم؛ فبهذا تتحقق أخوةُ الإسلام، وتنال به الدرجات العلى، قال النبي ": =لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه+.(1)
وعن أبي موسى الأشعري ÷ قال: قال رسول الله ": =إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه+.(2)……… =
.................................................................
= قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في شرح هذا الحديث: =هذا حديث عظيم فيه الخبر من النبي " عن المؤمنين أنهم على هذا الوصف، ويتضمن الحث منه على مراعاة هذا الأصل، وأن يكونوا إخواناً متراحمين، متحابين، متعاطفين، يحب كل منهم للآخر ما يحب لنفسه، ويسعى في ذلك.
__________
(1) رواه البخاري (13)، ومسلم (45).
(2) رواه البخاري (481 و 2446 و 6026)، ومسلم (2585).(1/100)
وأن عليهم مراعاة المصالح الكلية الجامعة لمصالحهم كلهم، وأن يكونوا على هذا الوصف؛ فإن البنيان المجموع من أساسات وحيطان محيطة كلية، وحيطان تحيط بالمنازل المختصة، وما تتضمنه من سقوف، وأبواب، ومصالح، ومنافع، كل نوع من ذلك لا يقوم بمفرده حتى ينضم بعضها إلى بعض.
كذلك المسلمون يجب أن يكونوا كذلك، فيراعوا قيام دينهم وشرائعه، وما يقوِّم ذلك ويقويه، ويزيل موانعه، وعوارضه+.(1)
قال الفضيل بن عياض ×: =لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام، ولا صلاة.
وإنما أدرك بسخاء الأنفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة+.(2)
5_ قوله: =مع اللهج بذكر الله+: أي مع الإكثار من ذكر الله بالقلب واللسان تسبيحاً، وتحميداً، وتهليلاً، وتكبيراً، وما جرى مجرى ذلك من الأذكار العظيمة؛ فهي من أعظم أسباب مضاعفة الأعمال _ كما سيأتي _.……… =
.................................................................
= فهذا هو الذكر بمفهومه الخاص، وهناك الذكر بمفهومه العام، وهو كل قربة يُتقرب بها إلى الله _ عز وجل _ من نصح للمسلمين، ودعوة إلى الله، وتعلم للعلم، وتعليم له، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر إلى غير ذلك من الأعمال الداخلة في الذكر بمفهومه العام.
6_ قوله: =وأهلها سابقون...+: أي أن القائمين بهذه الأعمال الجليلة هم أهل أعلى المراتب، وهم السابقون المقربون، المسارعون إلى الخيرات.
7_ قوله: =وغيرها من الأعمال تبع لها+: أي أن هذه الأعمال هي الأصول التي يضاعف لأجلها الثواب، وغيرها من الأعمال الصالحة تبع لها داخل في مفهومها، مترتب عليها.
8_ قوله: =فأهل الإخلاص والإحسان والذكر...+ إلى قوله: =في جنات النعيم+: هذا بيان لأنهم أعلى الناس رتبة، وأرفعهم درجة،و أقربهم إلى الله زلفى.
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار ص31.
(2) مواعظ الإمام الفضيل بن عياض للشيخ صالح الشامي ص78_79.(1/101)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × مقرراً لكثير مما مضى في المقطع الأخير في معرض جواب له عن سؤال أبي القاسم المغربي المعروف بـ: (الوصية الصغرى) والتي تضمنت جواباً عن أفضل الأعمال بعد الفرائض.
قال ×: =وتفصيل أصول التقوى، وفروعها لا يحتمله هذا الموضع؛ فإنها الدين كله، لكن ينبوع الخير، وأصله: إخلاص العبد لربه عبادة، واستعانة كما في قوله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] الفاتحة: 5. ……… =
.................................................................
= وفي قوله: [فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ] هود: 123، وفي قوله: [عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] هود: 88، وفي قوله: [فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ] العنكبوت: 17؛ بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعاً لهم، أو عملاً لأجلهم، ويجعل همته ربه _ تعالى _ وذلك بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة، وحاجة، ومخافة وغير ذلك، والعمل له بكل محبوب.
ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك+.
إلى أن قال ×: = وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض فإنه يختلف باختلاف الناس، وما يناسب أوقاتهم؛ فلا يمكن فيه جوابٌ جامعٌ مفصَّل لكل أحد.
لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة.
وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم: =سبق المفرِّدون+.
قالوا: يا رسول الله! ومن المفرِّدون؟
قال: =الذاكرون الله كثيراً والذاكرات+.(1)………… =
.................................................................
__________
(1) رواه مسلم (2676) عن أبي هريرة ÷ أن رسول الله " مرَّ على جبل يقال له: جُمْدان، فقال: =سيروا هذا جمدان قد سبق...+ الحديث.(1/102)
= وفيما رواه أبو داود عن أبي الدرداء ÷عن النبي "أنه قال: =ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة والورِق، ومن أن تلقوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم+.
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: =ذكر الله+.(1)
والدلائل القرآنية، والإيمانية بصراً، وخبراً، ونظراً على ذلك كثيرة.
وأقلُّ ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير، وإمام المتقين " كالأذكار المؤقتة في أول النهار، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات.
والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل، والشرب، واللباس، والجماع، ودخول المنزل، والمسجد، والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد إلى غير ذلك.
وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة.
ثم ملازمة الذكر مطلقاً، وأفضله: =لا إله إلا الله+. ……… =
.................................................................
= وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: =سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله+ أفضل منه.
ثم يُعلَم أن كلَّ ما تكلم به اللسان، وتصوَّره القلب مما يقرِّب إلى الله من تعلُّم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر _ فهو من ذكر الله.
ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقَّه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهاً _ فهذا أيضاً من ذكر الله.
وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف+. (2)
وبهذا ينتهي شرح هذه الرسالة الجليلة القدر، العظيمة النفع؛ فغفر الله لمؤلفها، ونفع بها شارحها، وقارئها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) لم أجده عند أبي داود، والحديث رواه أحمد 5/195 و 6/447، والترمذي (3377) وابن ماجه (3790) وصححه الحاكم 1/496، ووافقه الذهبي.
(2) مجموع الفتاوى 10/659_661.(1/103)
ــ المقدمة ... 3
ــ المبحث الأول: نبذة يسيرة عن الشيخ عبد الرحمن السعدي: ... 10
أولاً: نسبه,ومولده, ونشأته ... 10
ثانياً: وصفه الخلقي ... 10
ثالثاً: أخلاقه ... 11
رابعاً: أعماله ... 11
خامساً: مرضه ووفاته ... 12
سادساً: علمه ... 12
ــ المبحث الثاني: دراسة مجملة للرسالة: ... 14
أولاً: أهمية الرسالة ... 14
ثانياً: تعريف بالرسالة ... 14
ثالثاً: مجمل ما احتوت عليه الرسالة ... 15
رابعاً: الأسباب التي ذكرها المؤلف لمضاعفة الثواب ... 16
خامساً: طريقة الشرح ... 18
ــ نص الرسالة ... 20
ــ شرح الرسالة ... 26
_ تعريف الأسباب, والأعمال, والمضاعفة, والثواب ... 27
_ معنى الحسنة, وتقرير أن الحسنة بعشر أمثالها, وتعريف العمل الصالح ... 28
_ شرح قوله: =وأما المضاعفة بزيادة عن ذلك...+ ... 29
أسباب مضاعفة العمل بإجمال ... 31
الشروع بتفصيل أسباب المضاعفة: ... 32
السبب الأول: تحقيق الإخلاص والمتابعة ... 32
تعريف الإخلاص ... 33
حديث عن التقوى ... 35
فضائل الإخلاص, ودلائل أهميتة ... 39
تفاضل الأعمال بتفاضل ما يقوم بالقلوب من الإيمان والإخلاص مع كلام جميل لابن القيم في تقرير هذا المعنى ... 45
_ شرح قول المؤلف: =ويدخل في الأعمال الصالحة التي تتفاضل بتفاضل الإخلاص ترك ما تشتهيه النفوس من الشهوات المحرمة إذا تركها خالصاً من قلبه...+ ... 47
كلام حول صفة تبديل الحسنات سيئات ... 48
هل يكون من كثرت سيئاته وعظمت أفضل ممن قلت سيئاته وخفَّت إذا هما تابا؟ وكيف يكون ذلك؟ ... 49
كلام جميل لابن القيم حول هذا المعنى ... 50
_ شرح قول المؤلف: =وقصة أصحاب الغار شاهدة بذلك+ ... 52
شواهد أخرى على هذا المعنى العظيم الذي تتضاعف لأجله الأعمال ... 55
قصة يوسف _ عليه السلام _ مع امرأة العزيز ... 55
الشروع في بيان السبب الثاني من أسباب المضاعفة وهو: صحة العقيدة, وقوة الإيمان بالله, وقوة إرادة العبد, ورغبته في الخير ... 59(1/104)
_ شرح قوله: =فإن أهل السنة والجماعة...+ ... 61
كلمة جميلة لابن تيمية في فضل أهل السنة والحديث ... 62
_ شرح قول المؤلف: =ولهذا كان السلف يقولون: أهل السنة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم وأهل البدع إن كثرت أعمالهم قعدت بهم عقائدهم+ ... 64
الشروع في بيان السبب الثالث من أسباب المضاعفة وهو عموم نفع العمل, وعظم وقعه وأثره ... 66
أمثلة لهذا السبب: الجهاد في سبيل الله البدني والقولي... ... 66
_ شرح قوله: =ومن أعظم الجهاد سلوك طرق التعلم والتعليم...+ ... 69
كلمات رائعة في العلم لابن عباس, ووهب بن منبه, وأبي الوليد الباجي, وابن حزم, وسفيان الثوري, والشافعي, وابن جماعة, والسعدي ... 70
_ شرح قوله: =فمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة+ ... 78
_ شرح قوله: =ومن المشاريع الخيرية...+ ... 79
أمثلة لبعض المشاريع الخيرية ... 79
_ شرح قوله: =كما ورد في الصحيح: =إذا مات العبد انقطع عمله...+...+ ... 82
الشروع في بيان السبب الرابع لمضاعفة ثواب الأعمال وهو: الشركة، والاجتماع على العمل سواء كان دينيناً أو دنيوياً ... 85
الشروع في بيان السبب الخامس من أسباب مضاعفة ثواب العمل, وهو: التسبب في الخير, ودلالة الناس عليه, أو فتح باب إليه ... 88
_ شرح قوله: =ولهذا فضل العلماء الأعمال المتعدية للغير على الأعمال القاصرة+ ... 91
الشروع في بيان السبب السادس لمفاضلة ثواب الأعمال, وهو: عظم وقع العمل, وكبر نفعه, مع ذكر أمثلة لذلك ... 92
_ شرح قوله: =كما إذا كان فيه إنجاء من مهلكة+ ... 92
_ شرح قوله: =أو إزالة ضرر المتضررين+ ... 93
_ شرح قوله: =وكشف كرب المكروبين+ ... 95
_ شرح قوله: =فكم من عمل من هذا النوع يكون سبباً لنجاة العبد من العقاب, وفوزه بجزيل الثواب...+ ... 96
الشروع في بيان السبب السابع لمضاعفة ثواب الأعمال: وهو حسن الإسلام ... 98(1/105)
_ معنى قوله: =أن يكون العبد حَسَن الإسلام, حسن الطريقة, تاركاً للذنوب غير مصر على شيء منها...+ ... 98
تعليل لكون حسن الإسلام سبباً لمضاعفة ثواب الأعمال ... 102
السبب الثامن من أسباب مضاعفة الثواب وهو: رفعة العامل, ومقامه العالي في الإسلام ... 104
كلمات في هذا المعنى لابن القيم وابن كثير ... 104
_ شرح قوله: =ولهذا كان نساء النبي" أجرهن مضاعفاً...+ ... 107
_ شرح قوله: =وكذلك العامل الرباني...+ ... 107
_ شرح قوله: =كما أن أمثال هؤلاء إذا وقع منهم الذنب كان أعظم من غيرهم...+ ... 108
السبب التاسع من أسباب مضاعفة الثواب وهو: الصدقة من الكسب الطيب ... 110
السبب العاشر من أسباب مضاعفة الثواب وهو: شرف الزمان ... 112
كلمة لابن القيم في حكمة ما يختاره الله _ عزوجل _ ... 112
كلمة لابن رجب في مضاعفة أجر الصيام في رمضان ... 113
كلمة لابن القيم في تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام ... 114
السبب الحادي عشر لمضاعفة الثواب وهو: شرف المكان ... 115
كلمات لابن رجب وابن القيم في هذا المعنى ... 115
السبب الثاني عشر من الأعمال التي يضاعف لأجلها الثواب وهو: العبادة في الأوقات التي حث الشارع على قصدها ... 117
_ شرح قوله: =كالصلاة في آخر الليل, وصيام الأيام الفاضلة ونحوها+ ... 117
_ شرح قوله: =وهذا راجع إلى تحقيق المتابعة للرسول...+ ... 120
السبب الثالث عشر لمضاعفة الثواب وهو: القيام بالأعمال عند المعارضات النفسية, والخارجية ... 121
شرح هذا السبب وذكر أمثلة عليه ... 121
_ شرح قوله: =فكلما كانت المعارضات أقوى, والدواعي لترك العمل أكثر كان العمل أكمل وأكثر مضاعفة...+ ... 122
أمثلة وأدلة على ذلك, وكلمات للشيخ السعدي, وابن حزم, والنووي, وسعيد بن جبير, ومالك, والحسن, والطبري ... 123
السبب الرابع عشر لمضاعفة الثواب هو: الاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان, والمراقبة, وحضور القلب في العمل ... 130(1/106)
شرح هذا السبب ... 130
_ شرح قوله: =ولهذا ورد في الحديث =ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها+ فالصلاة ونحوها...+ ... 132
كلمة لابن القيم عن الصلاة, وأحوال الناس فيها ... 133
كلمة لابن القيم عن الصلاة التي تقر بها العيون, ويستريح بها القلب ... 134
السبب الخامس عشر لمضاعفة الثواب هو: الآثار الحسنة للعمل الصالح ... 136
شرح هذا السبب ... 136
_ شرح قوله: =وحصول المعاني المحمودة للقلب من آثار العمل الصالح...+ ... 138
كلمة لابن القيم في مثال تولد الطاعة والمعصية ... 138
كلمة للسعدي في بيان ما يكتب للعبد من العمل الذي باشره, ويُكَمَّل له ما شرع فيه وعجز عن تكميله، ويكتب له ما نشأ عن عمله ... 139
السبب السادس عشر لمضاعفة الثواب وهو: إسرار العمل الصالح إذا كانت المصلحة في ذلك ... 142
شرح هذا السبب ... 142
السبب السابع عشر لمضاعفة الثواب وهو: إعلان الأعمال الصالحة إذا كان ذلك هو الأنسب والأصلح ... 144
_ شرح قوله: =وهذا مما يدخل في القاعدة المشهورة: قد يعرض للعمل المفضول من المصالح ما يصيِّره فاضلاً+ ... 146
كلام نفيس لابن القيم حول هذه القاعدة ... 146
كلام جميل لابن تيمية حول هذا المعنى ... 149
كلام جميل لابن القيم حول تقرير أن أفضل العبادة هو العمل على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ... 151
_ شرح قول المؤلف: =ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن الاتصاف في كل الأوقات بقوة الإخلاص لله, ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج بذكر الله لا يلحقها شيء من الأعمال...+ ... 157
كلام لابن تيمية حول الذكر ... 159
ــ المحتويات ... 163(1/107)