شذا الريحان روائع رمضان
جمع وترتيب : جميلة المصريفي
الطبعة الأولى 1429هـ/ 2008م
حقوق الطبع محفوظة
دار البيان للنشر والتوزيع
84 ش محرم بك - محطة ترام بوالينو - الإسكندرية
ت/ 033929289 - 0102224336
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون).. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)..
أما بعد..
فإن الله تبارك وتعالى قد مَنَّ عليَّ بجمع مادة هذا الكتاب المبارك، وسميته "شذا الريحان في روائع رمضان".. اعتمدتُ فيه -بتوفيق من الله تعالى- الأحاديث الصحيحة، واستبعدتُ الأحاديث الضعيفة على كثرتها وشهرتها!
وتقسيم الكتاب مرجعه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ الرحمةِ، وغُلِّقَت أبوابُ جهنمَ، وسُلسِلَتِ الشياطينُ". [رواه مسلم](1/1)
وإذا كانت أبواب الرحمة قد فُتِّحت في شهر رمضان، فإنَّ لها أهلا يستحقونها، أخبرنا عنهم المولى تبارك وتعالى في القرآن الكريم، قال جل جلاله: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين) [الأعراف:56]، وقال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف:156]
فكان لا بد أن نعرف مدلول (الرحمة)، وما هي صفات أهل المرحمة؛ حتى نتأسى بهم، ونسير على نهجهم؛ عسى أن تصيبنا نفحات رحمة ربنا تبارك وتعالى، ونكون من
أهل المرحمة..
وصفات أهل المرحمة في القرآن الكريم كثيرة لو استقصينا آياته، ولكني اقتصرتُ على صفتين اثنتين؛ هما: الإحسان والتقوى.. ولعمري؛ لو حققناهما قولا وعملا لعدنا إلى سابق مجدنا وسالف عزنا، ولانتصر الإسلام بنا..
فاللهم يا عزيز يا حميد يا ذا العرش المجيد.. اجعل كل مَن طالع هذا الكتاب، وكل مَن سمع شرحه أهلا لنفحات رحماتك في هذا الشهر العظيم، واجعل شهر رمضان هذا العام بداية فتح وغوث مغيث للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها..
وقصدتُ بهذا الكتاب المبارك إخواني وأخواتي الدعاة، ليكون عونًا لهم في ليالي شهر رمضان في دروسهم ومواعظهم؛ وسيجدون فيه إن شاء الله مادة جاهزة؛ فلا يُضطرون إلى البحث الطويل، والتطواف من كتاب إلى كتاب؛ فيتسرب الوقت من بين أيديهم في تحضير الدرس.. وأردتُ بذلك أن أحفظ على إخواني وأخواتي في هذا الشهر العظيم الدقائق الثمينة التي ليس لها عوض، ولا لغيرها قيمة.. ففي مثل هذه الأيام المباركات يُرجَى الغفران، ويُتوقَّع الإحسان، ويُطلب من صاحب الأمر الأمان..
وأسأل الله البَّر الرحيم، أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأنْ يتقبله مني بقبول حسن، وأحتسب فيه أجري وذخري عند مالك الملك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم..
فيا عباد الله..
هذي الدقائقُ تَسْتَحِثُّ خُطَانَا لنسير في عَجَلٍ إلى أُخرانَا(1/2)
فاسموا بهِمَمِكم إلى المعالي، ونافسوا في كل نفيس غالي
} - { } - {
هذا زمان المصالحة وأوان التجارة الرابحة
شهر رمضان من أعظم مواسم الطاعة والغفران، وقد جعل الله فيه من أسباب الخير والسعادة وإحسان العبادة ما يجعل المؤمن ينتظر قدوم هذا الشهر العظيم لعله يخالف نفسه وهواه، ويتقرب فيه إلى مولاه..
والعبادات في الإسلام تكاليف ابتلاء، ومقياس يكشف عن مدى تمكن الإيمان وألَقه في نفس المسلم، وهي في الوقت ذاته وسائل لتمكين ذلك الإيمان، إنها له بمثابة الماء للشجر والنبات.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاكم رمضانُ شهرٌ مباركٌ فرضَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليكم صيامَه، تُفتَحُ فيه أبوابُ السماءِ، وتُغلَقُ فيه أبوابُ الجحيمِ، وتُغلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ". [رواه النسائي والبيهقي، وصححه الألباني]
وقد جعل الله عز وجل لبعض الشهور فضلاً على بعض، كما قال تعالى: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36] وقال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) [البقرة:197]، وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ) [البقرة/185]، كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وأقسم بالعشر وهي عشر ذي الحجة على الصحيح..(1/3)
وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يُتقرَّب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها مَن يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد مَن اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات؛ فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، وقد خرج ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "اطلبوا الخيرَ دهرَكم كلَّه، وتعرضوا لنفحاتِ ربِّكم فإنَّ للهِ نفحاتٍ من رحمتِه يُصيبُ بها مَن يشاءُ مِن عبادِه، وسلوا اللهَ أنْ يسترَ عوراتِكم ويُؤمِّنَ روعاتِكم". [ضعفه الألباني]
وفي الطبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعًا: "إن للهِ في أيامِ الدهرِ نفحاتٍ فتعرضوا لها، فلعلَّ أحدَكم أنْ تُصيبَه نفحةٌ فلا يَشقى بعدَها أبدًا".
وإنه لمن فضل الله ودلائل توفيقه أنْ يُلهَم المرء استغلال كل ساعة في هذه الأيام المباركات فيما يحبه الله ويرضاه.. ففي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من عملِ يومٍ إلا يُختمُ عليه". [صححه الألباني]
قال الحسن البصري: ما مِن يوم ينشق فجره إلا نادى منادٍ: يا ابن آدم! أنا خَلْقٌ جديد، وعلى عملك شديد، فتزوَّدْ مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة.
وكتب بعض السلف إلى أخ له: ياأخي! يُخيل لك أنك مقيم؛ بل أنت دائب السير، تُساق مع ذلك سوقًا حثيثًا.. الموت متوجه إليك، والدنيا تُطوَى مِن ورائك، ومامضى من عمرك فليس بعائد عليك إلى يوم التغابن.
فإنّ رأس مالنا الأوقات واللحظات، وكل نَفَس مِن أنفاس العمر جوهرة نفيسة نستطيع أنْ نشتري بها كنزًا لا يفنى أبد الآباد، وتضييعه وخسارته، أو اشتراء صاحبه به ما يجلب هلاكه لا يسمح به إلا أقل الناس عقلاً، وأكثرهم حمقًا.(1/4)
قال ابن عطاء الله السكندري: رُبَّ عُمر اتسعت آمادُه، وقلَّت أمدادُه. ورُبَّ عُمر قليلة آمادُه، كثيرة أمدادُه..
[أي: رُبَّ عمر لشخص اتسعت آماده؛ أي اتسع زمنه حتى طال، وقلت أمداده أي فوائده؛ بأن كان الشخص من الغافلين.
ورُبَّ عمر لشخص آخر قليلة آماده، كثيرة أمداده؛ بأن كان من الذاكرين. كما وضح ذلك بقوله: مَن بورك له في عمره؛ أدرك في يسير مِن الزمن مِن منن الله تعالى ما
لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة.
يعني أن مَن بورك له في عمره؛ بأنْ رُزِق مِن الفطنة واليقظة ما يحمله على اغتنام الأوقات، وانتهاز فرصة الإمكان؛ خشية الفوات؛ فبادر إلى الأعمال القلبية والبدنية، واستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية.. أدرك في يسير من الزمن مِن المنن الإلهية، والمعارف الربانية ما لا يدخل تحت دوائر العبارة؛ لقصورها عن الإحاطة به.. ولا تلحقه الإشارة إليه؛ لعلوه في مقامه ومنصبه.. فيرتفع له في كل ليلة من لياليه من الأعمال الصالحة ما لا يرتفع لغيره في ألف شهر؛ فتكون لياليه كلها بمنزلة ليلة القدر.
فالعبرة بالبركة بالعمر لا بطوله. وعلى هذا يحمل حديث: "لا يَزيدُ في العُمُرِ إلا البِرُّ"، فإن المراد البركة فيه؛ بحيث يفعل فيه من الخيرات ما لا يفعله غيره في الأزمنة الطويلة الخالية من البركات..] [شرح الحكم العطائية]
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقول: إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة.. فمَن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة.. ومَن زرع شرًّا فيوشك أن يحصد ندامة.. ولكل زارع ما زرع.
كان الحسن البصري يشيع جنازة، فأخذ بيد رفيقه قائلا: ماذا يفعل هذا الميت إذا عاد إلى الحياة؟! فقال: يكون أفضل مما كان قبل الموت. فقال الحسن: فإنْ لم يكن هو فكن أنتَ..
فيا عباد الله..(1/5)
هذه أوقات معظمة، وساعات مكرمة، فبيضوا بالتوبة الصحف المظلمة.. اجتهدوا في محو ذنوبكم، واستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم..
هذا زمان المصالحة، وأوان التجارة الرابحة؛ فبادروا في هذا الشهر من الخير كل ممكن، فمَن لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟!
} - { } - {
أريدوا الله بعملكم
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى. فمَن كانتْ هجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه؛ِ فهجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِهِ. ومَن كانتْ هجرتُهُ إلى دنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ يَنكحُها؛ فهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليهِ". [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي]
[قال الإمام أحمد: أحب لكل عمل مِن صلاة، أو صيام، أو صدقة، أو نوع من أنواع البر.. أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الأعمالُ بالنياتِ.."؛ فهذا يأتي على كل أمر من الأمور.
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) عن النية في العمل، قلتُ: كيف النية؟ قال: يعالج نفسه إذا أراد عملاً؛ لا يريد به الناس.
وقيل: تقدير الكلام: الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات؛ فيكون إخبارًا عن الأعمال الاختيارية أنها لاتقع إلا عن قصد من العامل؛ هو سبب عملها ووجودها. ويكون قوله بعد ذلك: "وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى.." إخبارًا عن حكم الشرع؛ وهو أنَّ حظ العامل مِن عمله نيته. فإنْ كانت صالحة؛ فعمله صالح؛ فله أجره. وإنْ كانت فاسدة؛ فعمله فاسد؛ فعليه وِزره.(1/6)
ويحتمل أن يكون التقدير في قوله: "الأعمال بالنيات.." صالحة، أو فاسدة، أو مقبولة، أو مردودة، أو مثاب عليها، أو غير مثاب عليها؛ بالنيات. فيكون خبرًا عن الحكم الشرعي؛ وهو أنّ صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمالُ بالخواتيمِ" أي: إنّ صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة.
وقوله بعد ذلك: "وإنما لكلِّ امرئٍ مانوى.." إخبار أنه لا يحصل له مِن عمله إلا ما نواه به. فإن نوى خيرًا حصل له خير. وإن نوى به شرًّا حصل له شر. وليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولي؛ فإن الجملة الأولى دلت على أنَّ صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده. والجملة الثانية دلت على أنَّ ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأنَّ عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة. وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحًا؛ فلا يحصل له ثواب ولا عقاب.
فالعمل في نفسه؛ صلاحه، وفساده، وإباحته بحسب النية الحاملة عليه، المقتضية لوجوده. وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحًا أو فاسدًا أو مباحًا.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعوذُ عائذٌ بالبيتِ، فيُبعَثُ إليهِ بعثٌ، فإذا كانوا ببيداءَ مِنَ الأرضِ خُسِفَ بِهِم". فقلتُ: يارسول الله.. فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: "يُخسَفُ بهِ معهم، ولكنه يُبعَثُ يومَ القيامةِ على نيتِهِ". وفي مسلم أيضًا عن عائشة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى هذا الحديث، وقال فيه: "يَهلِكونَ مَهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادرَ شتى، ويَبعثُهم اللهُ على نياتِهِم".] [جامع العلوم والحكم (ملخصًا)](1/7)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ أقوامًا خلفَنا بالمدينةِ، ما سلكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا؛ حَبسهُمُ العذرُ". [رواه البخاري، وأبو داود، ولفظه]: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد تركتُم بالمدينةِ أقوامًا ما سِرتُم مَسيرًا، ولا أنفقتُم مِن نفقةٍ، ولا قطعتُم مِن وادٍ إلا وهم معكم". قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: "حَبَسَهُمُ المرضُ". [صحيح الترغيب والترهيب]
وعن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثلاثٌ أُقسِمُ عليهِنَّ، وأُحدِّثُكُم حديثًا فاحفظوه". قال: "ما نقصَ مالُ عبدٍ مِن صدقةٍ، ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظلمةً صبرَ عليها إلا زادَهُ اللهُ عِزًّا، ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ اللهُ عليهِ بابَ فقرٍ (أو كلمة نحوها). وأُحدِّثُكُم حديثا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعةِ نفرٍ: عبدٍ رزقَه اللهُ مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيهِ رَبَّهُ، ويَصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ويعلمُ للهِ فيهِ حقًّا؛ فهذا بأفضلِ المنازلِ. وعبدٍ رزقَه اللهُ علمًا، ولم يرزقْهُ مالاً؛ فهوَ صادقُ النيةِ يقولُ: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ بعملِ فلانٍ؛ فهو بنيتِهِ؛ فأجرُهُما سواءٌ. وعبدٍ رزقَه اللهُ مالاً، ولم يرزقْهُ علمًا يَخبِطُ في مالِهِ بغيرِ علمٍ، ولا يتقي فيهِ رَبَّهُ، ولا يَصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ولا يعلمُ للهِ فيهِ حقًّا؛ فهذا بأخبثِ المنازلِ. وعبدٍ لم يرزقْهُ اللهُ مالاً، ولا علمًا؛ فهو يقولُ: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ؛ فهو بنيتِهِ؛ فوِزرُهُما سواءٌ". [رواه أحمد، والترمذي، واللفظ له. وقال الألباني: صحيح لغيره](1/8)
وعن أبي الدرداء يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أتى فِراشَهُ وهو ينوي أنْ يقومَ يُصلِّي مِنَ الليلِ، فغلبتْهُ عيناهُ حتى أصبحَ؛ كُتِبَ لهُ ما نَوَى، وكانَ نومُهُ صدقةً عليهِ مِن رَبِّهِ". [رواه النسائي وابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح]
[فإذن عماد الأعمال بالنيات، فالعمل مفتقر إلى النية ليصير بها خيرًا، والنية في نفسها خير وإن تعذر العمل بعائق.
قال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل. وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير.
وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: مَن يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى؛ فإني لا أحب أن يأتي عليّ ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله؟ فقيل له: قد وجدت حاجتك.. اعمل الخير ما استطعت، فإذا فترتَ أو تركتَه؛ فهِمّ بعمله؛ فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كعامله.
وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية، فمَن تمت نيته تم عون الله له، وإن نقصت نقص بقدره.] [الإحياء]
وقال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل.
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليّ مِن نيتي، لأنها تتقلب عليّ!
وقال داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به وإن لم تنصب.
وقال مُطَرِّف بن عبد الله: صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومَن صفا صُفِّي له، ومَن خلَّط خُلِّط عليه.
وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد. وقال: إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيله.(1/9)
وقال عبد الله بن المبارك: رُبَّ عمل صغير تعظمه النية، ورُبَّ عمل كبير تصغره النية.. [فالكيِّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة، وتجريد القصد وصحة النية، مع العمل القليل؛ أضعاف.. أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك، مع التعب الكثير والسفر الشاق.. فإن العزيمة والمحبة تُذهِب المشقة، وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه؛ صاحب العمل الكثير بمراحل.] [الفوائد لابن القيم]
وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: يا قوم! أريدوا الله بعملكم؛ فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح!
ذكر ابن أبي الدنيا عن معقل بن عبيد الله الجزري قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: مَن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومَن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه.
ومَن علم الله صدق باطنه أعانه على ظاهره، وبلغه المراد؛ فإنما يتعثر مَن لم يخلص. والصادق الموفق يزين سريرته للحق كما يزين علانيته للخلق.
فأساسُ أعمالِ الورى نِيَّاتُهم وعلى الأساسِ قواعدُ البُنيانِ
- - -
يا مالك الأملاك أنت المقصد:
[(1/10)
النية روح العمل، والعمل بغير نية صادقة رياء وتكلف، وهو سبب مقت لا سبب قرب. والنية ليست هي قول القائل بلسانه: نويت..! بل هو انبعاث القلب؛ يجري مجرى الفتوح من الله تعالى. وقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر في بعضها. فمَن كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات؛ فإنّ قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير؛ فينبعث إلى التفاصيل غالبًا. ومَن مال قلبه إلى الدنيا، وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك، بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد، وغايته أن يتذكر النار، ويُحذِّر نفسه عقابها، أو نعيم الجنة، ويُرغِّب نفسه فيها؛ فربما تنبعث له داعية ضعيفة؛ فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته.
وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا، وهذه أعز النيات وأعلاها، ويَعِز على بسيط الأرض مَن يفهمها؛ فضلا عمَن يتعاطاها.] [الإحياء]
يقول الإمام عبد الله بن أبي جمرة: وددت أنه كان مِن الفقهاء مَن ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم؛ فما أُتي كثير ممَن أُتي إلا مِن قِبَل تضييع ذلك.
[فإن مبنى بداية أي عمل على التجرد، فإذا حُرِم العبد من صفائه في البداية فإنَّ عمله يظل مهتزًّا مهما شمخ عاليًا.. و(مَن لم يصح في مبادئ إرادته؛ لا يسلم في منتهى عاقبته).. وصفاء الابتداء له معنيان يتتابعان في توالٍ؛ فيتلازمان: النية الصالحة، والهمة العالية، سمَّاهما "البحتري": نفْسٌ تضيءُ، وهمَّةٌ تتوقَّدُ
والنفس المضيئة كناية عن النفس التي احتوت نية صافية؛ فهي تنير بما يكون لها من هذا الصفاء.. وهي (النية الحرة) التي ذكرها "البحتري" فأحسن الوصف وأجاد.. فكأنها حرة مما يقيد غيرها من الأهواء والأطماع والمصالح، لم يستعبدها درهم ولا دينار، ولم تكن رقيقًا لمنصب أو شهوة.
فالمخلص لا يصدر قط عن شهوة، ولا طلب مصلحة، وإنما له في كل حركة وسكنة تطلعات إلى رضوان الله.(1/11)
وبهذا الوصف وصف هشام بن عبد الملك ابن عمه عمر بن عبد العزيز، فقال: "ما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية".. ولذلك استطاع عمر في أقل من سنتين تقويم اعوجاج جيلين!!
ويتعاظم الخير في عقود المؤمنين مع الله كلما زاد تجردهم حين العقد، ولذلك رأت الدنيا عظم الخير في ولاية عمر بن عبد العزيز لما تجرد سليمان بن عبد الملك محض التجرد حين عقد له واستخلفه، وقال: "لأعقدنَّ عقدًا لا يكون للشيطان فيه نصيب".. وأما المُخَلِّط في نيته فيُخَلَّط عليه في أموره وسيرته..] [الرقائق للراشد]
يا مالكَ الأملاكِ أنتَ المَقصدُ يا مَن له كلُّ البرايا تَصمُدُ
أبوابُ كلِّ مُملكٍ قد أُوصِدَتْ ورأيتُ بابَكَ واسعًا لا يُوصَدُ
} - { } - {
تعدد النيات يضاعف الحسنات
مرَّ بنا أن النية أبلغ من العمل، لأنه كلما زادت النوايا الحسنة تضاعفت الأجور، ولذلك يكون بعض العمال في مراتب عند الله أعلى من غيرهم؛ مع أن صورة العمل واحدة.. ورُبَّ عمل صغير تكبره النية، ورُبَّ عمل كبير تصغره النية..
ولنأخذ مثالاً بقراءة القرآن: كم من النيات يمكن أن نستحضر بقراءة القرآن؟
- ابتغاء الشفاعة؛ ليشفع لنا القرآن يوم الدين: عن عبد الله بن عمر ب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ الصيامُ: أي رَبِّ منعتُه الطعامَ والشهوةَ فشفِّعني فيه، ويقولُ القرآنُ: منعتُه النومَ بالليلِ فشفِّعني فيه. قال: فيُشفَّعان". [رواه والطبراني، وابن أبي الدنيا، وصححه الألباني]
- للاستظلال من حر شمس يوم الدين: عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقرءوا القرآنَ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابِه، اقرءوا الزهراوين: البقرةَ وسورةَ آلِ عمرانَ فإنهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنهما غَمامتانِ تُحاجَّانِ عن أصحابِهما". [رواه مسلم](1/12)
- لمُضاعفة الأجر بالتلاوة: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن قرأ حرفًا مِن كتابِ اللهِ فله بهِ حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقولُ: الم حرف ولكنْ ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
- للوقاية من النار: عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أنَّ القرآنَ جُعلَ في إهَابٍ ثم أُلقيَ في النارِ ما احترقَ". [رواه أحمد] (إهاب: هو الجلد، ويراد به جسد الحافظ)
- لارتفاع المنزلة في الجنة: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأْ وارقَ ورَتِّلْ كما كنتَ تُرتلُ في الدنيا؛ فإنَّ منزلَك عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُها". [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح]
- لشفاء القلب من الشبهات والشهوات: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين) [الإسراء:82]
- ليطمئن القلب بإذن الله: قال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب) [الرعد:28]
وبالجملة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكانت المباحات من صالح أعماله؛ لصلاح قلبه ونيته. [الاحتساب أيها الأحباب للمنجد (بتصرف)]
- - -
ومن النوايا المتعددة التي نحتسبها عند الله منذ الليلة الأولى
الفرح والرضا بفريضة الصوم:(1/13)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانت أولُ ليلةٍ من رمضانَ صُفِّدت الشياطينُ ومردةُ الجنِّ وغُلِّقت أبوابُ النارِ فلم يُفتَح منها بابٌ، وفُتِّحت أبوابُ الجنةِ فلم يُغلَق منها بابٌ، ونادى منادٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبِل، ويا باغيَ الشرِّ أقصِر، وللهِ عتقاءُ مِنَ النارِ وذلك في كلِ ليلةٍ". [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني]
فالمؤمن الموفَّق يفرح بنفحات ربه القدسية مع أول ليلة، ويستشرف لحظة البداية لربيع قلبه؛ فإن نفحات الخير المباركة تتنزل من السماء على القلوب الجرداء كالغيث المغيث؛ فتنبت الخير، وتشرق الأنوار، وتتبدل الأحوال لنذوق طعم الإيمان، وتصير القلوب مزهرة بعدما كانت جرداء قاحلة.
فإن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، والرضا بما فرضه الله من صيام الشهر، فترى المؤمنين متلهفين مشتاقين إلى رمضان؛ غير كارهين ولا مستثقلين، تحن قلوبهم إلى صوم نهاره، ومكابدة ليله بالقيام والتهجد بين يدي مولاهم.. ومَن رضي أمرًا سهل عليه ولذَّ له.
ففي هذه الأيام المباركات تصل البشارة للمذنبين التائبين بالعفو، وللمنقطعين بالوصل، وللمستوجبين النار بالعتق..
يا شهرُ كم لي فيكَ مِن إشراقةٍ ... تَطوي الظلامَ وتَنشُرُ الأعراسَا
أنبتَّ بالتقوى شِعَابَ قلوبِنا ... وسَقَيْتَ بالآيِ الكِرامِ غِراسَا
نَفحاتُكَ الغَنَّاءُ رِفْدُ سعادةٍ ... تَستنزِلُ الرحَمَاتِ والإيناسَا
و نسائمُ الأسحارِ تَذهبُ بالضَّنَى ... وتُهَدهِدُ الوِجدانَ مما قاسَى
و بكلِّ سانِحَةٍ مَآثِرُ سُنَّةٍ ... مِن نُورِ أحمدَ أشرقَت نِبْراسَا
من قصيدة "أشجان في وداع رمضان" للمبدع/ صالح بن علي العمري (بتصرف)
- - -
احتساب الأجر عند الله:(1/14)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذنبِه، ومَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنبِه". [متفق عليه]
(إيمانا): أي مؤمنا بالله ومصدقا بأنه تَقرُّب إليه. (واحتسابا): أي محتسبا بما فعله عند الله أجرا لم يقصد به غيره. أي طالبا للثواب منه تعالى، أو إخلاصا، أي: باعثه على الصوم ما ذُكر؛ لا الخوف من الناس، ولا الاستحياء منهم، ولا قصد السمعة والرياء.
قال الخطابي: احتسابًا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه.
قال ابن الأثير: الاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر.
أي المبادرة إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، وباستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المشروع؛ طلبا للثواب ونجاة من العقاب.
(غفر له ما تقدم من ذنبه): قال النووي: إن المكفرات إن صادفت السيئات تمحوها إذا كانت صغائر، وتخففها إذا كانت كبائر، وإلا تكون موجبة لرفع الدرجات في الجنات.
فمَن صام الشهر مؤمنا بفرضيته، محتسبا لثوابه وأجره عند ربه، مجتهدا في تحري سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيه فهو من أهل المغفرة.
- - -
تعظيم الشهر لأنه من شعائر الله:
قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب) [الحج:32](1/15)
الشعائر: جمع شعيرة، وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها، فالإحرام شعيرة، والتكبير شعيرة، والطواف شعيرة، والسَّعْي شعيرة، ورمْي الجمار شعيرة.. وهذه أمور عظَّمها الله، وأمرنا بتعظيمها. والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، وهي ما يؤدَّى من العبادات على سبيل الاشتهار، كالأذان، والجماعة، والجمعة، وصلاة العيد، والأضحية. وقيل: ما جُعل علَمًا على طاعة الله تعالى.
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فِعْله، أو أدائه، أو عمله، عَظَّم الشعائر يعني: أدَّاها بحب وعشق وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل، وربما زاد على ما طُلِب منه.
ومثالنا في ذلك: خليل الله إبراهيم ؛، عندما أمره الله أنْ يرفع قواعد البيت؛
كان يكفيه أنْ يبني على قَدْر ما تطوله يده، وبذلك يكون قد أدى ما أُمِر به، لكنه عشق هذا التكليف وأحبه فاحتال للأمر ووضع حجرًا على حجر ليقف عليه، ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه.
فمحبة أمر الله مَرْقى من مراقي الإيمان، يجب أن نسمو إليه. هذه المحبة للتكاليف، وهذا العشق عبَّر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: "وجُعلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة"، لذلك نَعَى القرآن على أولئك الذين: (إِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً..) [النساء:142]
وفي عصور الإسلام الأولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلاة الجماعة حين يسمع النداء، وبآخرهم خروجا من المسجد بعد أداء الصلاة، هؤلاء قوم عظَّموا شعائر الله فلم يُقدِّموا عليها شيئا.
وكان لتميم الداري حُلة بألف درهم يلبسها في الليلة التي يُرجَى أنها ليلة القدر. وكان ثابت البُناني وحُمَيد يغتسلان ويتطيبان ويلبسان أحسن ثيابهما، ويطيبان مساجدهما في الليلة التي تُرجَى فيها ليلة القدر.(1/16)
وقد بلغ حُبُّ التكاليف وتعظيم شعائر الله بأحد العارفين إلى أنْ قال: لقد أصبحتُ أخشى ألا يثيبني الله على طاعته، فسألوه: ولماذا؟ قال: لأنني أصبحتُ أشتهيها.. يعني: أصبحتْ شهوة عنده، فكيف يُثاب على شهوة عنده؟!
لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن الله إذا ورد الأمر من الله وثبت أخذوه على الرَّحْب والسعة دون جدال ولا مناقشة، وكيف يناقشون أمر الله وهم يُعظِّمونه؟
ثم يقول سبحانه: (فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ): ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محلُّ نظر الله إليك، ومحلُّ قياس تعظيمك لشعائر الله.
والله تبارك وتعالى لا يريد أنْ يُخضِع قوالبنا، إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا، ولو أراد سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة، كما جاء في قوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ . إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء:3-4]
وأنت تستطيع أنْ تُرغِم مَن هو أضعف منك على أي شيء يكرهه، إنْ شئتَ سجد لك، لكن لا تملك أنْ تجعل في قلبه حبا أو احتراما لك، لماذا؟ لأنك تجبر القالب، أما القلب فلا سلطة لك عليه بحال. [تفسير الشعراوي - تيسير الكريم الرحمن - التبصرة]
- - -
الانقياد والتسليم لأمر الله:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال:24]
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.(1/17)
وقوله: (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) وصف ملازم لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام.
ثم حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك. [تيسير الكريم الرحمن ]
وقال تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه) [الزمر:54]
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) أي: توبوا إليه، (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي: استسلموا وانقادوا له، وذلك بعبادته وحده، وطاعته وحده، بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]
قال القاسمي: اعلم أن كل حديث صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بأن رواه جامعو الصحاح، أو صححه مَن يُرجَع إليه في التصحيح من أئمة الحديث، فهو مما تشمله هذه الآية، أعني قوله تعالى: (مما قَضَيتَ)؛ فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرًا وباطنًا، وأما إذا التمس مخارج لرده أو تأويله بخلاف ظاهره، لتمذهب تقلَّده وعصبية رُبِّيَ عليها، فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية، الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة.
((1/18)
ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما): أي لا يجدوا حرجا عندما يُذعنون لأي حكم تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في: افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن منهجه. إذن فلا بد أن نسلم تسليما في الاثنين: في الحكم التكليفي، وفي الحكم القضائي. [محاسن التأويل - تفسير الشعراوي]
- - -
الصبر لمضاعفة الأجر:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعَفُ له؛ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعِ مائةِ ضِعفٍ، قال الله سبحانه: إلا الصومَ فإنه لي وأنا أجزي به". [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع]، وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "قال اللهُ: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فإنهُ لي وأنا أجزِي به..".
فالأعمال الصالحة كلها تُضاعَف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يُضاعفه الله عز و جل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد؛ فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
[الزمر:10] ، ولهذا ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى شهر رمضان "شهر الصبر".
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.(1/19)
وتجتمع الثلاثة في الصوم؛ فإن فيه صبرًا على طاعة الله، وصبرًا عما حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرًا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن؛ وهذا الألم الناشىء من أعمال الطاعات يُثاب عليه صاحبه، كما قال الله تعالى في المجاهدين: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) [التوبة:120]
واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب، منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل، كالحرم؛ ولذلك تُضاعف الصلاة في مسجدي: مكة والمدينة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه من المساجدِ إلا المسجدَ الحرامَ".
ومنها: شرف الزمان كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عمرةٌ في رمضانَ تَعدِلُ حَجةً معي".
وذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة؛ فإن النفقة فيه مضاعفة، كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فلما كان الصيام في نفسه مضاعَفًا أجرُه بالنسبة إلى سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعَفًا على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على
عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بُني الإسلام عليها.(1/20)
وقد يُضاعف الثواب بأسباب أخر، منها: شرف العامل عند الله، وقُربه منه، وكثرة تقواه، كما يُضاعَف أجر هذه الأمة على أجور مَن قبلهم من الأمم، وأُعطوا كِفلين من الأجر.
- - -
ترك حظوظ النفس إيثارا لمرضاة الله:
قال ابن القيم: إن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده؛ فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده؛ فهو أمر لايطلع عليه بشر؛ وذلك حقيقة الصوم. [زاد المعاد]
فـ[الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جُبلت على الميل إليها لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام؛ فالإحرام إنما يُترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام، وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول، فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته، بل قد نُهي أن يصلي ونفسه تتوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه. وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله، فيجد الصائم فقد هذه الشهوات، وتتوق نفسه إليها خصوصًا في نهار الصيف لشدة حره وطوله.(1/21)
فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عز و جل في موضع لا يطلع عليه إلا الله؛ كان ذلك دليلا على صحة الإيمان. فإنَّ الصائم يعلم أن له ربًّا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه خوفًا من عقابه، ورغبة في ثوابه؛ فشكر الله تعالى له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، و لهذا قال بعد ذلك: "إنه إنما ترك شهوتَه وطعامَه وشرابَه مِن أجلي" [متفق عليه]. قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
ولما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قدَّم رضا مولاه على هواه فصارت لذته في ترك شهواته لله؛ لإيمانه باطلاع الله، وثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارًا لرضا ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب، ولهذا كثير من المؤمنين لو ضُرب على أن يُفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر؛ وهذا مِن علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه؛ فتصير لذته فيما يُرضي مولاه؛ وإنْ كان مخالفًا لهواه، ويكون ألمه فيما يكره مولاه، وإن كان موافقًا لهواه.
وإذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق: كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة؛ فإن هذا يَسخطه الله على كل حال وفي كل زمان ومكان.
فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل والضرب، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من علامات وجود حلاوة الإيمان "أنْ يَكْرَهَ أنْ يعودَ في الكفرِ بعدَ أنْ أنقذَهُ اللهُ مِنهُ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النارِ". [رواه مسلم](1/22)
سئل ذو النون المصري: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر.
وقال غيره: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك.
وكثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه، فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن جُهالهم مَن لا يفطر لعذر؛ ولو تضرر بالصوم؛ -مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته- جريا على العادة، وقد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الموبقات؛ فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان.
ومَن عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله، وربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكره الله منه، وينفر منه؛ وإن كان ملائمًا للنفوس، كما قيل:
عذابُه فيك عذبُ ... وبُعدُه فيكَ قُربُ
وأنت عندي كرُوحي ... بل أنتَ منها أحَبُّ
حسبي مِنَ الحُبِّ أني ... لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ
- - -
المنافسة في السبق إلى الله عز وجل:
عن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون.
قال تعالى: (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر:32]
(سابق بالخيرات): هو الذي يسارع فيها ويجتهد، فيسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه.
وقال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26]، أي: فليرغب الراغبون بالاستباق إلى طاعة الله تعالى.
قال ابن جرير: التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونَه، وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه، وكأن معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه وإليه، وليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم.(1/23)
وقال الرازي: إن مبالغته تعالى في الترغيب فيه تدل على علو شأنه.
(وَفِي ذَلِكَ) النعيم المقيم، الذي لا يعلم حسنه ومقداره إلا الله، (فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) أي: يتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بُذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال. [محاسن التأويل - تفسير السعدي]
قال وهيب بن الورد: إن استطعتَ أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
وقال بعض السلف: لو أن رجلا سمع برجل هو أطوع لله منه فمات ذلك الرجل غمًّا؛ ما كان ذلك بكثير!
قال اللبيدي: وجدتُ بعد موت أبي إسحاق الجبنياني رقعة تحت حصيره مكتوبة بخطه: " رجل وقف له هاتف، فقال له: أحسِن.. أحسِن عملك؛ فقد دنا أجَلُك".. قال لي ولده عبد الرحمن: إنه كان إذا قَصَّر في العمل أخرج الرقعة فنظر فيها، ورجع إلى جِدِّه.
وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلا، فيقف على القبور ويقول: يا أهل القبور! قد طُوِيَت الصحف، وقد رُفِعَت الأعمال.. ثم يبكي، ويَصُفُّ بين قدميه حتى يُصبح، فيرجع ويشهد صلاة الصبح.
سبق والله القوم بكثرة الصلاة والصوم.. يبادرون بالعمل الأجل.. ويجتهدون في سد الخلل.. ويعتذرون مِن ماضي الزلل..
فيا مَن يرجو مقام الصالحين وهو مع الغافلين قاعد، ويأمل منازل المقربين وهو عنهم متباعد.. زاحِم أهل العزم وبادِر.. الجد.. الجد؛ فبه تغنم.. البدار.. البدار قبل أنْ تندم.. هذا هو الدواء النافع..
شَمِّرْ عسى أنْ ينفعَ التشميرُ ... وانظُرْ بفكرِكَ ما إليهِ تصيرُ
طَوَّلْتَ آمالاً تَكَنَّفَها الهوى ... ونَسِيتَ أنَّ العُمرَ منكَ قصيرُ
لا يَشغَلَنَّكَ عاجِلٌ عن آجِلٍ ... أبدًا فمُلتَمِسُ الحقيرِ حقيرُ
} - { } - {
فُتِّحت أبواب الرحمة(1/24)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ الرحمةِ، وغُلِّقَت أبوابُ جهنمَ، وسُلسِلَتِ الشياطينُ". [رواه مسلم]
فإذا أردنا أن نصيب من رحمة الله تعالى في رمضان، ونتعرض لها؛ فلنعرف أولا مدلول الرحمة، ثم نتعرف على صفات عباد الله؛ أهل المرحمة، ونجتهد وسعنا لنتأسى بهم، ونصيب طرفًا من خِلالهم..
ربكم ذو رحمة واسعة:
قال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام: 54]
وقال تعالى: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام: 12] إن [العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه، وكتب على نفسه كتابًا أن رحمته تغلب غضبه، وأن العطاء أحب إليه من المنع، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم، ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم.] [تيسير الكريم الرحمن]
وقد تفضّل سبحانه بالرحمة، [فمنها رحمة كاملة؛ وهذه رحمته بعباده الصالحين، ومنها رحمة موقّتة؛ وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضالين.
ومعنى (كتب) أي: جعَل ذلك على نفسه لأنَّ أحدًا لا يُلزم نفسه بشيء إلا اختيارًا، وإلا فإنَّ غيره يُلزمه. والمقصود أنَّ ذلك لا يتخلَّف كالأمر الواجب المكتوب، فإنهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه.
و(الرحمة) هنا مصدر، أي: كتب على نفسه (أن يرحم)، وليس المراد الصفة، بمعنى: كتب على نفسه الاتّصاف بالرحمة، أي بكونه رحيمًا.] [التحرير والتنوير](1/25)
وجملة [(كتب على نفسه الرحمة) جملة مستقلة صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق، مسوقة لبيان أنه تعالى رءوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم التوبة.. وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل: 33].
ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل: هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لَمَّا خلقَ اللهُ الخَلقَ كتبَ في كتابِه، فهو عِندَهُ فَوقَ العرشِ: إنَّ رحمتي تَغْلِبُ غَضَبي". وفي رواية للبخاري: "إنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كتبَ ِعندَه فوقَ عرشِهِ: إنَّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي".
ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقًا بالخلق وأكثر وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
وفي شرح مسلم للإمام النووي: "قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة، فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تُسمَّى رضا ورحمة، وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تُسمَّى غضبًا، وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها (جميع المرادات)، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة؛ إذا كثرا منه" أ.هـ] [روح المعاني (بتصرف)](1/26)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسَبْيٍ فإذا امرأة مِن السَّبْي تبتغي إذا وَجدتْ صبيًّا في السَّبْي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتَرَوْنَ هذه المرأةَ طارحةً ولدَها في النارِ؟" قلنا: لا والله، وهي تَقدِرُ على أنْ لا تَطرحَه.. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لَلَّهُ أرحَمُ بعبادِه مِن هذه بولدِها". [متفق عليه]
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ للهِ مائةَ رحمةٍ قَسَمَ منها رحمةً بينَ جميعِ الخلائقِ، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها تَعطِفُ الوحشُ على أولادِها، وأخَّرَ تسعةً وتسعينَ رحمةً يَرحمُ بها عبادَه يومَ القيامةِ". [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني]
وقال تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 147]
[أي: فإن كذبك هؤلاء المشركون، فاستمر على دعوتهم، بالترغيب والترهيب، وأخبرهم بأن الله (ذو رحمةٍ واسعةٍ) أي: عامة شاملة لجميع المخلوقات كلها، فسارعوا إلى رحمته بأسبابها؛ التي رأسها وأُسُّها ومادتها، تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
(ولا يُرَدُّ بأسُهُ عنِ القومِ المجرمينَ) أي: الذين كثر إجرامهم وذنوبهم؛ فاحذروا الجرائم الموصلة لبأس الله؛ التي أعظمها ورأسها تكذيب محمد.] [تيسير الكريم الرحمن]
وقال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيم) [الحجر: 49-50]
[(نَبِّئْ عبادي) أي: أخبرهم خبرًا جازمًا مؤيَّدًا بالأدلة (أني أنا الغفورُ الرحيمُ) فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته، ومغفرته سَعَوا في الأسباب الموصلة لهم إلى رحمته وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها، لينالوا مغفرته.(1/27)
ومع هذا فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال، فنبئهم (وأنَّ عذابي هو العذابُ الأليمُ) أي: لا عذاب في الحقيقة إلا عذاب الله الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه؛ نعوذ به من عذابه، فإنهم إذا عرفوا أنه (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد) [الفجر: 25-26] حذروا وأبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب، فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها.
ويقدم الله نبأ الغفران والرحمة على نبأ العذاب؛ جريًا على الأصل الذي ارتضت مشيئته؛ فقد كتب على نفسه الرحمة. وإنما يذكر العذاب وحده أحيانًا أو يقدم في النص لحكمة خاصة في السياق تقتضي إفراده بالذكر أو تقديمه.
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فههنا وصفهم بكونهم عبادًا له، ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف الحكم بكونه غفورًا رحيمًا، فهذا يدل على أن كل مَن اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه سبحانه غفورًا رحيمًا، ومَن أنكر ذلك كان مستوجبًا للعقاب الأليم.(1/28)
وفي الآية لطائف؛ أحدها: أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: (عبادي)، وهذا تشريف عظيم. ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج لم يزد على قوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه) [الإسراء: 1]. وثانيها: أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة: أولها قوله: (أنى). وثانيها قوله: (أنا). وثالثها: إدخال حرف الألف واللام على قوله: (الغفور الرحيم)، ولما ذكر العذاب لم يقل: أني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: (وأنَّ عذابي هو العذابُ الأليمُ). وثالثها: أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. ورابعها: أنه لما قال: (نبئ عبادي) كان معناه: نبئ كل مَن كان معترفًا بعبوديتي. وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع، فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى.] [تيسير الكريم الرحمن - في ظلال القرآن - مفاتيح الغيب]
تعرفنا من خلال النصوص السابقة على مدلول الرحمة، ويزيد الأمر إيضاحًا قول الحق جل وعلا: (أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام:54].
فقد أنزل الحق منهجًا من السماء يضم نصوصا للتجريم، كنصوص عقاب الزاني أو اللص، وغير ذلك، ولا يمكن أن تأتي عقوبة إلا إذا جاءت بعد تجريم، مثال ذلك الرشوة والنميمة وكل مخالفة للمنهج، فلا عقاب إلا بجريمة، ولا جريمة إلا بنص. والحق الذي خلق الخلق يعلم أن بعضا من خلقه يكون من ضعاف النفوس، وقد تغلب إنسانا نفسُه فيرتكب ذنبا أو معصية، والمثال على ذلك قول الحق: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38]. هذا هو عقاب السارق والسارقة.(1/29)
وكذلك يقول الحق عن الزاني والزانية: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:2].
فما معنى إنزال مثل هذه النصوص؟ معنى إنزال هذه النصوص أن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن الإنسان قد يضعف في بعض مطلوبات الدين فيقع في معصية، ولا بد أن يوجد عقاب عليها. واحترم الحق بذلك تكوين الإنسان عندما منحه الاختيار، فوضع الثواب والعقاب. وكما وضع الحق النص على الجرائم وعقوبتها فهو سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة لخلقه، حتى لا يكون الذي عصى الله مرة واحدة فاقدًا للأمل، حتى لا يشقى المجتمع بهؤلاء العصاة. وشرع الحق التوبة للخلق ليرحمهم من شرور من ارتكبوا المعاصي، وليرحم أيضا أصحاب المعاصي ما داموا قد تابوا عنها. وقد يرحم الله بعض خلقه من المعاصي فيحفظهم منها.
وهو الحق القائل: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118] سبحانه -إذن- يهدي إلى التوبة ويعفو، وهو عظيم الرحمة بالعباد التوابين.
ومن ظواهر رحمة الله سبحانه: (أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام:54]
والسوء هو الأمر المنهي عنه من الله. هل هناك من يعمل السوء بجهالة؟ بعضنا يفهم الجهالة فهما سطحيا على أساس أنها "عدم العلم"؛ لا.. إنَّ الذي لا يعلم هو الأمي الخالي الذهن، والجهالة غير الجهل، فالجهل هو أن يعلم الإنسان حكما ضد الواقع، كأن يكون مؤمنا بعقيدة تخالف الواقع. ومعالجة الجهل تقتضي أن ننزع منه هذه العقيدة التي هي ضد الواقع ثم نقنعه بالعقيدة المطابقة للواقع.(1/30)
والذي يسبب المتاعب للناس هم الجهلة؛ لأن الجاهل يعتقد في قضية ويؤمن بها وهي تخالف الواقع. وعندما جاء العلماء عند هذا القول الحكيم: (مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ)، قالوا: إن الجهالة هي السفه والطيش، والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل. والسفه ألا يقدِّر الإنسان قيمة ما يفوته من ثواب وما يلحقه من عقاب. وقد يكون الإنسان مؤمنا، لكنه يرتكب السوء لأنه لم يستحضر الثواب والعقاب، ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة دون التمعن في نتائج ذلك مستقبلاً، ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء.
ويمكن أن نفهم أيضا الجهالة على أنها ارتكاب الأمر السيئ دون أن يُبَيِّت له الإنسان أو يخطط، وذلك كأن يخطط إنسان السفر إلى باريس لطلب العلم، وعندما وصل إلى
هناك جاءت له امرأة في غرفته في الفندق وهي في كامل فتنتها وزينتها، وألحت عليه لارتكاب الفحشاء، فلم يقدر على نفسه.
هذا فعل للسوء بجهالة؛ لأنه لم يخطط لذلك السوء، وهو يندم من بعد ذلك، ولا يحكي عن ذلك الفعل بفخر أبدا.
هناك فارق -إذن- بين هذا الإنسان وإنسان آخر بحث في عناوين بيوت اللذة في باريس قبل أن يسافر إليها، إنه بذلك يخطط لفعل المنكر وارتكاب الفحشاء. ويصر على السوء، ويتفاخر به ولا يندم على فعله؛ هذا الصنف من البشر لا يغفر له الله إن استمر على هذا الحال حتى شارف الموت أو أدركه الموت، ولذلك يقول الحق: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيما) [النساء:17].(1/31)
لأن الحق سبحانه إنما يقبل توبة من ارتكب الذنب في حالة الحماقة والطيش، ويقبلون على التوبة فورا، هؤلاء يقبل الحق توبتهم، أما الذين لا يندمون على فعل السوء فيقول الحق عنهم: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) [النساء:18].
إن الذين لا يُقبلون على التوبة من فور ارتكاب الذنب وينتظر الإنسان منهم مجيء الموت ليتوب قبله أي وهو في حالة الغرغرة -وهي تردد الروح في الحلق عند الموت- هؤلاء لا تقبل لهم توبة، وكذلك الذين يموتون على الكفر -والعياذ بالله- وقد أعد الله
لكليهما عذابا أليما.
والحق سبحانه قد وضح لنا قبل ذلك فقال: (أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام:54].
إذن فالتوبة يجب أن يتبعها إصلاح وصلاح؛ ذلك أن الحسنات يُذهبن السيئات، والحق سبحانه غفور لا يعاقب على ذنب تاب عنه العبد، ورحيم لأنه يثيب على الفعل الحسن، بل إنه يثيب الإنسان الذي يكرر ندمه على فعل سيء، ويكتب له عن ذلك حسنة، بل إنه بسعة رحمته يبدل سيئاته حسنات. [تفسير الشعراوي]
يا رحمة اللهِ حِلِّي في منازلِنا وجاورينا؛ فدتْكِ النفسُ من جارِ
- - -
من أسماء الله تعالى: الرحمن الرحيم:
قال العلامة السعدي /: [الرحمن الرحيم: اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل مخلوق، وكتب الرحمة الكاملة للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة المتصلة بالسعادة الأبدية، ومن عداهم محروم من هذه الرحمة الكاملة، لأنه الذي دفع هذه الرحمة وأباها بتكذيبه للخبر وتوليه عن الأمر فلا يلومن إلا نفسه.(1/32)
ومن تدبر اسمه "الرحمن"، وأنه تعالى واسع الرحمة، له كمال الرحمة، ورحمته قد ملأت العالم العلوي والسفلي وجميع المخلوقات، وشملت الدنيا والآخرة.. ويتدبر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف:156]، (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [البقرة:143]، (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى) [الروم:50].
ويتلو سورة النحل الدالة على أصول النعم وفروعها التي هى نفحة وأثر من آثار رحمة الله، ولهذا قال في آخرها: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل:81]
ثم تدبر سورة الرحمن من أولها إلى آخرها؛ فإنها عبارة عن شرح وتفصيل لرحمة الله تعالى، فكل ما فيها من ضروب المعاني وتصاريف الألوان من رحمة الرحمن؛ ولهذا اختتمها في ذكر ما أعد الله للطائعين في الجنة من النعيم المقيم الكامل الذي هو أثر من رحمته تعالى؛ ولهذا يسمي الله الجنة الرحمة كقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران:107]. وفي الحديث أن الله قال للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" [متفق عليه]
وبالجملة فالله خلق الخلق برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشرع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة برحمته، ودبرهم أنواع التدبير وصرفهم بأنواع التصريف برحمته، وملأ الدنيا والآخرة من رحمته فلا طابت الأمور، ولا تيسرت الأشياء، ولا حصلت المقاصد، وأنواع المطالب إلا برحمته، ورحمته فوق ذلك، وأجل وأعلى. وللمحسنين المتقين من رحمته النصيب الوافر والخير المتكاثر: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]] [تفسير أسماء الله الحسنى]
[(1/33)
والرحمة تامة وعامة؛ أما الرحمة التامة فهي إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم، والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق، ورحمة الله عز وجل تامة وعامة. أما تمامها فمن حيث أنه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها، وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، وعم الدنيا والآخرة، وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجة عنهما فهو الرحيم المطلق حقا.
والرحمن أخص من الرحيم ولذلك لا يسمى به غير الله عز وجل. والرحيم قد يطلق على غيره فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله تعالى الجاري مجرى العلم، وإن كان هذا مشتقا من الرحمة قطعا؛ ولذلك جمع الله عز وجل بينهما فقال: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء:110] فيلزم من هذا الوجه أن يكون المفهوم من الرحمن نوعا من الرحمة هي أبعد من مقدروات العباد؛ وهي ما يتعلق بالسعادة الأخروية. فالرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولا، وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا، وبالإسعاد في الآخرة ثالثا، والإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا.
واعلم أن حظ العبد من اسم (الرحمن) أن يرحم عباد الله الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله عز وجل بالوعظ والنصح؛ بطريق اللطف دون العنف، وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإزراء، وأن تكون كل معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه؛ فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه؛ رحمة لذلك العاصي أن يتعرض لسخط الله ويستحق البعد من جواره. وحظه من اسم (الرحيم) أن لا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته، ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره؛ إما بماله أو جاهه، أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره.. فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن بسبب حاجته رقة عليه وعطفا.(1/34)
ولعل سائلا يسأل: ما معنى كونه تعالى رحيما، وكونه أرحم الراحمين، والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا ومعذَّبا ومريضا وهو يقدر على إماطة ما بهم؛ إلا ويبادر إلى إماطته؟ والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية كل بلية، ودفع كل فقر وغُمة، وإماطة كل مرض، وإزالة كل ضرر؛ والدنيا طافحة بالأمراض والمحن والبلايا، وهو قادر على إزالتها جميعا؛ وتارك عباده ممتحنين بالرزايا والمحن؟!
والجواب: إن الطفل الصغير قد ترق له أمه فتمنعه عن الحجامة، والأب العاقل يحمله عليها قهرا، والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب، والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته، وأن الأم له عدو في صورة صديق؛ فإن الألم القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا، بل كان خيرا.
والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة، وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير؛ لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه، وحصل ببطلانه شر أعظم من الشر الذي يتضمنه.. فاليد المتآكلة قطعها شر في الظاهر، وفي ضمنه الخير الجزيل؛ وهو سلامة البدن. ولو ترك قطع اليد لحصل هلاك البدن، ولكان الشر أعظم، وقطع اليد لأجل سلامة البدن
شر في ضمنه خير. وقد قال الله عز وجل: "سبقت رحمتي غضبي" [متفق عليه]، فغضبه إرادته للشر، والشر بإرادته ورحمته إرادته للخير، والخير بإرادته ولكن إذا أراد الخير للخير نفسه، وأراد الشر لا لذاته ولكن لما في ضمنه من الخير، وكلٌّ بقدر، وليس في ذلك ما ينافي الرحمة أصلا] [المقصد الأسنى]
فيا عباد الله . .
قال تعالى: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر:53-54]
((1/35)
لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار.
(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي: وصفه المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى الله تعالى بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد، فهلم إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم. [تيسير الكريم الرحمن]
اللهُ.. اللهُ.. حينَ القلبُ مُنقبضٌ ... وحينَ تنبسطُ الأحشاءُ.. اللهُ
اللهُ.. اللهُ.. حينَ السِّرُّ مُستَتِرٌ ... وحينَ تنكشِفُ الأسرارُ.. اللهُ
وحينما القلبُ مَأوى كلِّ مُوبِقَةٍ ... واللهُ يغفرُ بالرُّحمَى خطاياهُ
وحينَ أغرقُ في العصيانِ واخجلي ... وتحتويني مِنَ المَولى عطاياهُ
وحينَ تَقنَطُ رُوحي مِن عنايتِهِ ... فتصرخُ الرُّوحُ في الظلماءِ: ربَّاهُ
وحينَ أطرقُ بابَ اللهِ في خجلٍ ... والبُعدُ أثَّرَ في قلبي وأضناهُ
وحينَ يفتحُ ربي بابَ رحمتِهِ ... فتصرخُ الروحُ جَزلَى: إنّكَ اللهُ
يا أيها الناسُ أوصيكم بهِ أبدًا ... كذا ونفسي، وأوصيكم بتقواهُ
فما أُحيلاهُ ذكرًا في ضمائرنا ... وما أُحيلاهُ مِن وِرْدٍ وأغلاهُ(1/36)
من قصيدة "الله" للشاعر السوري/ أنس إبراهيم الدغيم - موقع رابطة أدباء الشام
} - { } - {
أهل المرحمة
(1) المحسنون
إن رحمة الله قريب من المحسنين:
قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]
إن رحمته عز وجل مرصدة للمحسنين الذي يتبعون أوامره، ويتركون زواجره. و(رحمة الله): إحسانه وإيتاؤه الخير. والقُرب حقيقته دُنُو المكان وتجاوره، ويطلق على الرجاء مجازا يقال: هذا قريب، أي ممكن مرجو، ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا. وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج:6-7]، فإنهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان.
وتفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قربا من الآخرة، وبعدا من الدنيا، فإن الدنيا كالماضي، والآخرة كالمستقبل، والإنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعدا عن الماضي، وقربا من المستقبل. ولذلك قال الشاعر:
فلا زالَ ما تهواهُ أقربَ مِن غدٍ ولا زالَ ما تخشاهُ أبعدَ مِن أمسِ
ودلَّ قوله: (قريب من المحسنين) على مقدَّر في الكلام، أي: وأحسنوا، لأنّهم إذا دعوا خوفا وطعما فقد تهيَّأوا لنبذ ما يوجب الخوف، واكتساب ما يوجب الطمع، لئلا يكون الخوف والطمع كاذبين، لأن مَن خاف لا يُقدم على المخوف، ومَن طمع لا يَترك طلب المطموع، ويتحقق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السَيِّئات، فلا جرم تكون رحمة الله قريبا منهم، وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمؤمنين وتعريضا بأنّهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرحمة عنهم.(1/37)
والإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولهذا قال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله، فكلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى.
وفي قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ)، ترجيح للطمع على الخوف، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف، ولكنه إذا رأى سعة رحمته وسبقها، غلب الرجاء عليه. وفيه أيضا تنبيه على ما يتوسل به إلى إجابة الدعاء، وهو الإحسان في القول والعمل.
قال مطر الوراق: استنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين.
إذن مَن الذي يحدد قرب الرحمة منه؟ إنه الإنسان.. فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام في يد الإِنسان؛ لأن الله لا يستبد بأحد. فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة الله فعليك بالإِحسان: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)
وأنت تدخل بيوت الله تصلى في أي وقت، وتقف في أي مكان لتؤدي الصلاة، إذن فاستحضارك أمام ربك في يدك أنت، وسبحانه حدد لك خمسة أوقات، ولكن بقية الأوقات كلها في يدك، وتستطيع أن تقف بين يدي الله في أي لحظة. وسبحانه يقول: "وإنْ أتاني يمشي أتيتُه هرولة" [متفق عليه]. فهو جل وعلا يوضح لك: استرح أنت وسآتي لك أنا؛ لأن الجري قد يتعبك لكني لا يعتريني تعب ولا عَيٌّ ولا عجز. وكأن الحق لا يطلب من العبد إلا أن يملك شعورا بأنه يريد لقاء ربه. إذن فالمسألة كلها في يدك، ويقول سبحانه: "إنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منه" [متفق عليه]
وهكذا يؤكد لك سبحانه أن رحمته في يدك أنت وقد أعطاها لك، تفضلاً منه جل وعلا. [تيسير الكريم الرحمن-مفاتيح الغيب-التحرير والتنوير-محاسن التأويل-تفسير الشعراوي]
- - -
الإحسان لب الإيمان وروحه وكماله(1/38)
والإحسان لب الإيمان وروحه وكماله، ومعناه مراقبة الله تعالى في السر والعلن مراقبة مَن يحبه ويخشاه ويرجو ثوابه ويخاف عقابه؛ بالمحافظة على الفرائض والنوافل، واجتناب المحرمات والمكروهات. والمحسنون هم السابقون بالخيرات المتنافسون في فضائل الأعمال.
وهو أن تعبد الله كأنك تراه، ولا مشهد للعبد في الدنيا أعلى من هذا. ولو كان فوق مقام الإحسان مقام آخر لذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل ؛، ولسأله جبريل عنه؛ فإنه جمع مقامات الدين كلها في الإسلام والإيمان والإحسان في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب؛ قال - رضي الله عنه - : بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد؛ أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ اللهِ، وتقيمَ الصلاةَ، وتؤتيَ الزكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتحجَّ البيتَ إنِ استطعتَ إليهِ سبيلاً". قال: صدقت! قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمنَ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخرِ، وتؤمنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ". قال: صدقت.. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنكَ تَرَاهُ، فإنْ لم تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ.." [متفق عليه]
والحديث إشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل، ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته، والإنابة إليه، والإخلاص له.
- - -
المراقبة من الإحسان
المراقبة تسد مداخل الشيطان إلى النفس:(1/39)
المراقبة من الإحسان، وهي [دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي "المراقبة"، وهي ثمرة علمه بأنَّ الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله.. وهو مطلع على عمله كل وقت، وكل لحظة، وكل نَفَس، وكل طرفة عين.. والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات، فكيف بحال المريدين؟ فكيف بحال العارفين؟
قال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظَّم الله، وتصغير ما صغَّر الله.
وقيل: الرجاء يحرك إلى الطاعة، والخوف يبعد عن المعاصي، والمراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق.
وقال إبراهيم الخواص: المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل.
والمراقبة هي التعبد باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير.. فمَن عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة. والله أعلم.] [مدارج السالكين]
والرقيب هو المراقِب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك. ومَن هذا صفته فإنه يجب أن يُخاف ويُرجى، فبيَّن تعالى أنه يعلم السر وأخفى، وأنه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرًا خائفًا فيما يأتي ويترك.
ووصف المراقبة للعبد إنما يُحمد إذا كانت مراقبته لربه وقلبه؛ وذلك بأن يعلم أن الله تعالى رقيبه وشاهده في كل حال، ويعلم أن نفسه عدو له، وأن الشيطان عدو له، وأنهما ينتهزان منه الفرص حتى يحملانه على الغفلة والمخالفة؛ فيأخذ منهما حذره بأن يلاحظ مكانهما وتلبيسهما ومواضع انبعاثهما حتى يسد عليهما المنافذ والمجاري؛ فهذه مراقبته.
[قال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى. فسأله عن تفسيره، فقال: كن أبدا كأنك
ترى الله عز وجل.
وقال عبد الواحد بن زيد: إذا كان سيدي رقيبًا عليّ فلا أبالي بغيره.
وقال أبو عثمان المغربي: أفضل ما يلزم الإنسان نفسه المحاسبة والمراقبة، وسياسة عمله بالعلم.
وقال ابن عطاء: أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات.(1/40)
وقال الجريري: أمرنا هذا مبني على أصلين: أن تلزم نفسك المراقبة لله عز وجل، ويكون العلم على ظاهرك قائمًا.
وقال أبو عثمان: قال لي أبو حفص: إذا جلست للناس، فكن واعظًا لنفسك وقلبك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك؛ فإنهم يراقبون ظاهرك، والله رقيب على باطنك.
وحكي أنه كان لبعض المشايخ تلميذ شاب، وكان يكرمه ويقدمه، فقال له بعض أصحابه: كيف تكرم هذا وهو شاب، ونحن شيوخ؟! فدعا بعدة طيور، وناول كل واحد منهم طائرًا وسكينًا، وقال: ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد. ودفع إلى الشاب مثل ذلك، وقال له كما قال لهم.. فرجع كل واحد بطائره مذبوحًا، ورجع الشاب والطائر حي في يده! فقال: ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك؟ فقال: لم أجد موضعًا لا يراني فيه أحد؛ إذ الله مطلع عليّ في كل مكان.. فاستحسنوا منه هذه المراقبة، وقالوا: حق لك أنْ تُكرم.
وحكي عن بعض الأحداث أنه راود جارية عن نفسها، فقالت له: ألا تستحيي؟ فقال: ممن أستحيي، وما يرانا إلا الكواكب؟! قالت: فأين مكوكبها؟
وقال رجل للجنيد: بم أستعين على غض البصر؟ فقال: بعلمك أنَّ نظر الناظر إليك أسبق مِن نظرك إلى المنظور إليه.
وقال الجنيد: إنما يتحقق بالمراقبة مَن يخاف على فوت حظه مِن ربه عز وجل.
وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال: أولها علم القلب بقرب الله تعالى.
وقال سهل: لم يتزين القلب بشيء أفضل ولا أشرف مِن علم العبد بأن الله شاهده
حيث كان.
وسئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب.
وقال حميد الطويل لسليمان بن علي: عظني.. فقال: لئن كنت إذا عصيت الله خاليًا ظننت أنه يراك؛ لقد اجترأت على أمر عظيم.. ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت.(1/41)
وقال فرقد السبخي: إن المنافق ينظر فإذا لم يَرَ أحدًا دخل مدخل السوء، وإنما يراقب الناس، ولا يراقب الله تعالى.] [إحياء علوم الدين (ملخصًا)]
و[المراقبة، علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه، فاستدامته لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا أصل كل خير له. ولا يكاد يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة، فإذا حاسب نفسه على ما سلف له، وأصلح حاله في الوقت، ولازم طريق الحق، وأحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة القلب، وحفظ مع الله تعالى الأنفاس، وراقب الله تعالى في عموم أحواله، فيعلم أنه سبحانه؛ عليه رقيب، ومِن قلبه قريب، يعلم أحواله، ويرى أفعاله، ويسمع أقواله، ومن غفل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة، فكيف عن حقائق القربة.
قال أبو علي الدقاق: كان لبعض الأمراء وزير، وكان بين يديه يومًا، فالتفت إلى بعض الغلمان الذين كانوا وقوفًا، لا لريبة، ولكن لحركة أو صوت أحس به منهم، فاتفق أن ذلك الأمير نظر إلى هذا الوزير في تلك الحالة فخاف الوزير أن يتوهم الأمير أنه نظر إليهم، فجعل ينظر إليه كذلك، فبعد ذلك اليوم كان هذا الوزير يدخل على هذا الأمير، وهو أبدًا ينظر إلى جانب، حتى توهم الأمير أن ذلك خَلْقُه؛ وحَوَلٌ فيه. فهذه مراقبة مخلوق لمخلوق، فكيف مراقبة العبد لسيده؟(1/42)
وكان أمير له غلام يُقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من غلمانه؛ ولم يكن أكثرهم قيمة، ولا أحسنهم صورة، فقالوا له في ذلك، فأراد الأمير أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره. ففي يوم من الأيام كان راكبًا، ومعه الحشم، وبالبعد منهم جبل عليه ثلج، فنظر الأمير إلى ذلك الثلج وأطرق رأسه، فركض الغلام فرسه، ولم يعلم القوم لماذا ركض! فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء ومعه شيء من الثلج. فقال له الأمير: ما أدراك أني أردت الثلج؟ فقال الغلام: لأنك نظرت إليه، ونظر السلطان إلى شيء لا يكون عن غير قصد صحيح. فقال الأمير: إنما أخصه بإكرامي وإقبالي، لأن لكل أحد شغلاً، وشغله مراعاة لحظاتي، ومراقبة أحوالي!] [الرسالة القشيرية]
ومراقبة الله تعالى تحفظ العبد من الزلل، وتقيه العثرات والانحرافات، وتجعله حاضر القلب يستهدي بالله لا بهواه.. وعلى كل مؤمن يراقب الله تعالى أن يعلم أن الأمور ثلاثة: أمر استبان رشده فليتبعه.. وأمر استبان غيه فليجتنبه.. وأمر أشكل عليه فليسأل عنه..
ومراقبة الله تعالى قارب النجاة من الغرق في بحر الشبهات والانحرافات والشهوات.. فالذي يراقب الله تعالى يسد على الشيطان مداخله إلى نفسه، والغافل عن المراقبة واقع في خياطيم الشياطين.. جبهات نفسه ضعيفة، مقاومته كليلة، مناعته معدومة: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف: 36-38]
و[الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه. فأمر بقصد نيته ورفع اليدين إليه والسؤال له.(1/43)
فقلوب الجهال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الأكف عن الخطايا. والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة وكفتهم عن الانبساط.
ولولا نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية لما انبسطت كف بأكل ولا قدرت عين على نظر.
ومتى تحققت المراقبة حصل الأنس، وإنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة، لأن المخالفة توجب
الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين. فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين.
وليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها في مجرد الصلاة والصيام. إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر واجتناب النهي.
هذا هو الأصل والقاعدة الكلية، فكم من متعبد بعيد، لأنه مضيع الأصل وهادم للقواعد بمخالفة الأمر وارتكاب النهي. وإنما المحقق مَن أمسك ذؤابة ميزان المحاسبة للنفس فأدى ما عليه واجتنب ما نُهي عنه. فإن رُزِق زيادة تنفل وإلا لم يضره.] [صيد الخاطر]
قال أحمد الرفاعي: من الخشية تكون المحاسبة، ومن المحاسبة تكون المراقبة، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى.(1/44)
و[المراقبة حالة للقلب يثمرها نوع مِن المعرفة، وتثمر تلك الحالة أعمالا في الجوارح وفي القلب.. أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب، واشتغاله به، والتفاته إليه، وملاحظته إياه، وانصرافه إليه.. وأما المعرفة التي تثمر هذه الحالة فهو العلم بأن الله مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أشد مِن ذلك.. فهذه المعرفة إذا صارت يقينًا -أعنى أنها خلت عن الشك- ثم استولت بعد ذلك على القلب قهرته؛ فَرُبَّ علم لا شك فيه لا يغلب على القلب، كالعلم بالموت! فإذا استولت على القلب استجرت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب، وصرفت همه إليه.. والمراقبة على درجتين: مراقبة التعظيم والإجلال، ومراقبة الحياء من الله، وأصحاب هذا المقام يمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة؛ فإنهم يرون الله في الدنيا مطلعًا عليهم، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة..
وتعرف اختلاف الدرجتين بالمشاهدات، فإنك في خلوتك قد تتعاطى أعمالا، فيحضرك صبي أو امرأة، فتعلم أنه مطلع عليك، فتستحيي منه؛ فتحسن جلوسك، وتراعى أحوالك.. لا عن إجلال وتعظيم بل عن حياء.. وقد يدخل عليك كبير من الأكابر، فيستغرقك التعظيم.. حتى تترك كل ما أنت فيه شغلا به لا حياءً منه.. فهكذا تختلف
مراتب العباد في مراقبة الله تعالى.] [إحياء علوم الدين (ملخصًا)]
سئل أبو الحسين بن هند: متى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية عن مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم أن عليه رقيبًا.
وقال أبو العباس البغدادي: سألت جعفر بن نصير عن المراقبة، فقال: مراعاة السر لملاحظة نظر الحق سبحانه مع كل خطرة. وقال إبراهيم الخواص: المراعاة تورث المراقبة، والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى.(1/45)
فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله، وسمعه لكل ما ينطق به، وعلمه بما ينطوي عليه قلبه؛ من الهم والعزم والنيات؛ مما يعينه على منزلة الإحسان.
- - -
إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها:
في الصحيح من حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بِيضًا، يجعلُها اللهُ هباءً منثورا". قال ثوبان: صفهم لنا أنْ لا نكون منهم يا رسول الله! قال: "أما إنهم إخوانُكم، ومن جِلدَتِكم، ويأخذون مِن الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خَلَوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها".
وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين؛ أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم. وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم.
[قيل لبعض الحكماء: ما سبب الذنب؟ قال: الخطرة. فإنْ تداركتَ الخطرة بالرجوع إلى الله ذَهَبَتْ، وإنْ لم تفعل تولدتْ عنها الفكرة، فإنْ تداركتَها بالرجوع إلى الله بطلتْ، وإلا فعند ذلك تخالط الوسوسة الفكرة؛ فتتولد عنها الشهوة.. وكل ذلك باطن في القلب لم يظهر على الجوارح، فإنْ استدركتَ الشهوة وإلا تولد منها الطلب، فإنْ تداركتَ الطلب، وإلا تولد منه الفعل.
فإنْ قال قائل: كيف أقدر على دفع خطرات تخطر لا أملكها؟ فالجواب أنها ما لم تكن عزمًا لا تضر، غير أنه ينبغي أن تزجر بالخوف ممن يعلم ما تخفي الصدور لتشاغل القلب بوظائف بعيدة تلهيه عن الأمر الذي خُلق له.. ومتى كففتَ جوارحك ولم تعزم على الخطايا بقلبك؛ فقد عُفي لك عن الوسواس والخواطر، فإذا زجرتها بالخوف فقد بالغت في النظافة.
قال أبو العباس بن مسروق: مَن راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه.] [ذم الهوى](1/46)
وقد [حَكَم الله تعالى على كل عبد أنْ يراقب نفسه عند هَمِّه بالفعل، وسعيه بالجارحة.. فيتوقف عن الهم وعن السعي، حتى ينكشف له بنور العلم أنه لله تعالى فيمضيه، أو هو لهوى النفس فيتقيه، ويزجر القلب عن الفكر فيه، وعن الهم به.. فإنَّ الخطوة الأولى في الباطل إذا لم تُدفَع أورثت الرغبة، والرغبة تورث الهم، والهم يورث جزم القصد، والقصد يورث الفعل، والفعل يورث البوار والمقت.. فينبغي أنْ تُحسَم مادة الشر من منبعه الأول، وهو الخاطر؛ فإنَّ جميع ما وراءه يتبعه، ومهما أشكل على العبد ذلك، وأظلمت الواقعة، فلم ينكشف له؛ فيتفكر في ذلك بنور العلم، ويستعيذ بالله من مكر الشيطان بواسطة الهوى.. فإنْ عجز عن الاجتهاد والفكر بنفسه، فيستضئ بنور علماء الدين.. ولصعوبة هذا الأمر وعظمته كان دعاء الصِّدِّيق: اللهم أرني الحق حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلا وارزقني اجتنابه، ولا تجعله متشابهًا عليّ فأتبع الهوى.
ولا يخلو العبد أن يكون في طاعة، أو في معصية، أو في مباح.. فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال، ومراعاة الأدب، وحراستها عن الآفات.. وإن كان في معصية؛ فمراقبته بالتوبة والندم، والإقلاع والحياء، والاشتغال بالتفكر.. وإن كان في مباح؛ فمراقبته بمراعاة الأدب، ثم بشهود المنعم في النعمة، وبالشكر عليها.
ولا يخلو العبد في جملة أحواله عن بَلِيَّة لا بد له من الصبر عليها، ونعمة لا بد له من الشكر عليها.. وكل ذلك من المراقبة..
فينبغي أن يتفقد العبد نفسه في جميع أوقاته، فإذا كان فارغا من الفرائض، وقدر على الفضائل؛ فينبغي أن يلتمس أفضل الأعمال ليشتغل بها؛ فإنَّ مَن فاته مزيد ربح وهو قادر على دركه فهو مغبون..! والأرباح تنال بمزايا الفضائل فبذلك يأخذ العبد من دنياه لآخرته، كما قال تعالى: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77](1/47)
وكل ذلك إنما يمكن بصبر ساعة واحدة؛ فإن الساعات ثلاث: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية.. وساعة مستقبلة لم تأتِ بعد، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا..؟ ولا يدرى ما يقضى الله فيها..؟ وساعة راهنة ينبغي أنْ يجاهد فيها نفسه، ويراقب فيها ربه.. فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة، وإنْ أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى مِن الأولى..
ولا يطول أمله خمسين سنة؛ فيطول عليه العزم على المراقبة فيها.. بل يكون ابن وقته، كأنه في آخر أنفاسه.. فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري.. وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة.] [الإحياء (ملخصًا)]
قال ابن الجوزى: الحذر.. الحذر من المعاصي؛ فإنها سيئة العواقب، والحذر من الذنوب خصوصا ذنوب الخلوات؛ فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه.
قال قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل: لا يَقْدِر رَجلٌ على حرام ثم يَدَعه ليس به إلا مخافة الله عز وجل إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك.
وعن أُبَيّ بن كعب قال: ما من عبد ترك شيئًا لله إلا أبدله الله به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به عبد فأخذ من حيث لا يصلح إلا أتاه الله بما هو أشد عليه. [رواه وكيع في الزهد، وهناد، وأبو نعيم في الحلية، وإسناده لا بأس به]، ويشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فإن مَن ترك شيئًا للهِ عوَّضَه اللهُ خيرًا منه" [قال الألباني: هذا من حديث رواه أحمد بسند صحيح]
قال يحيى بن معاذ: مَن ستر عن الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو مِن علامات النفاق!
وقال حاتم الأصم: تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملتَ فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمتَ فاذكر سمع الله لك، وإذا سكتَّ فاذكر علم الله فيك.(1/48)
وإذا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ ... والنَّفْسُ داعِيَةٌ إلى الطغيانِ
فاستحِي مِن نَظَرِ الإلهِ وقُلْ لها: ... إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يراني
- - -
أقباس نورانية من سيرة السلف:
قال عبد الله بن دينار: خرجتُ مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى مكة، فعَرَّسنا(1)في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعِ! بعني شاة من هذه الغنم.. فقال: إني مملوك.. فقال: قل لسيدك أكلها الذئب! قال: فأين الله؟! قال: فبكى عمر، ثم غَدَا إلى المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أنْ تعتقك في الآخرة.
عن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم، قال: بينا أنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يعس(2) بالمدينة؛ إذ أعياه فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه! قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أماه! أوَ علمتِ بما كان مِن عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ فقالت: وما كان مِن عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أنْ لا يُشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنتاه! قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر! فقالت الصبية لأمها: يا أماه! والله ما كنتُ لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا.. وعمر يسمع كل ذلك! فقال: يا أسلم! عَلِّم الباب، واعرف الموضع..
فلما أصبح الصبح قال: يا أسلم! امضِ إلى ذلك الموضع فانظر مَن القائلة، ومَن المقول لها؟ وهل لهم مِن زوج؟
__________
(1) التَّعْريسُ: نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة. (2) يعس: يطوف بالليل يحرس الناسَ ويكشف أَهل الرِّيبَة.(1/49)
قال أسلم: فأتيتُ الموضع فنظرتُ؛ فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس لها رجل.. فأتيتُ عمر بن الخطاب فأخبرتُه.. فدعا عمر ولده فجمعهم، فقال: هل فيكم مَن يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه أحد منكم إلى هذه الجارية!
فقال عبد الله: لي زوجة. وقال عبد الرحمن: لي زوجة. وقال عاصم: يا أبتاه! لا زوجة لي فزوجني. فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتًا، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز.
ذكر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعث إليه أميره في الشام زيتًا في قِرَب ليبيعه، ويجعل المال في بيت مال المسلمين، فجعل عمر يُفرغه للناس في آنيتهم، وكان كلما فرغت قِربة من قِرَب الزيت قلبها، ثم عصرها وألقاها بجانبه، وكان بجواره ابن صغير له، فكان الصغير كلما ألقى أبوه قِربَة من القِرَب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان.. فعل ذلك بأربع قِرَب أو خمس، فالتفت إليه عمر فجأة، فإذا شعر الصغير حسنٌ، ووجهه حسن.. فقال: ادهنت؟ قال: نعم.. قال: مِن أين؟ قال: مما يبقى في هذه القِرَب.. فقال عمر: إني أرى رأسك قد شبع مِن زيت المسلمين مِن غير عِوَض.. لا والله؛ لا يحاسبني الله على ذلك.. ثم جره بيده إلى الحلاق، وحلق رأسه خوفًا مِن قطرة وقطرتين..
كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحًا أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت مَن اشترى له تفاحًا، وعاد إلى البيت وما عاد معه بتفاحة واحدة، فقال لفاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع، وقال: والله لقد انتزعتها من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة مِن فَيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ.(1/50)
كان بمدينة "مرو" رجل اسمه "نوح بن مريم"، وكان رئيس "مرو" وقاضيها، وكان له نعمة كبيرة وحال موفورة، وكانت له ابنة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال؛ قد خطبها جماعة من الأكابر والرؤساء وذوي النعمة والثروة؛ فلم يُنعِم بها لأحد منهم، وتحير في أمرها، ولم يدرِ لأيهم يزوجها؟! وقال: إن زوجتُها لفلان أسخطتُ فلانًا! وكان له غلام هندي تقي اسمه "مبارك"، وكان له بستان عامر الأشجار والفاكهة والثمار.. فقال للغلام: أريد أن تمضي وتحفظ البستان..
ثم أراد أن يختبره! فقال له: يا مبارك! ناولني عنقود عنب.. فناوله عنقودًا من العنب؛ فوجده حامضًا، فقال له سيده: أعطني غير هذا؛ فناوله عنقودًا حامضًا! فقال له سيده: ما السبب في أنك لا تناولني من هذا الكثير غير الحامض؟! فقال: لأني لا أعلم أحامض هو أم حلو! فقال له سيده: سبحان الله! لك في هذا البستان شهر كامل؛ ما تعرف الحامض من الحلو؟! فقال: وحقك أيها السيد؛ إنني ما ذقته، ولم أعلم أحامض أم حلو! فقال له: لم لا تأكل منه؟ فقال: لأنك أمرتني بحفظه، ولم تأمرني بأكله؛ فماكنت أخونك..! فعجب القاضي منه، وقال له: حفظ الله عليك أمانتك..
وعلم القاضي أن الغلام غزير العقل، فقال له: أيها الغلام! قد وقع لي رغبة فيك، وينبغي أن تفعل ما آمرك به.. فقال الغلام: أنا مطيع لله ولك. فقال القاضي : اعلم أن لي بنتًا جميلة، وقد خطبها كثير من الرؤساء والمتقدمين؛ ولا أعلم لمن أزوجها؛ فأشر عليّ بما ترى..! فقال الغلام : إن الكفار في زمن الجاهلية كانوا يريدون الأصل والنسب والبيت والحسب، واليهود والنصارى يطلبون الحسن والجمال، وفي عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان الناس يطلبون الدين والتُّقَى . أما في زماننا هذا فالناس يطلبون المال؛ فاختر من هذه الأربعة ما تريد.. فقال القاضي: قد اخترتُ الدين والأمانة، وجربتُ منك العفة والصيانة .(1/51)
فقال الغلام: أيها السيد! أنا عبد رقيق، هندي أسود، ابتعتَني بمالك؛ كيف تزوجني
بابنتك، وترضاني؟! فقال له القاضي: قم بنا إلى البيت لندبر هذا الأمر.. فلما صارا إلى المنزل، قال القاضي لزوجته: اعلمي أن هذا الغلام الهندي دَيِّن تَقي وقد رغبت في صلاحه، وأريد أن أزوجه ابنتي؛ فما تقولين؟ فقالت: الأمر إليك، ولكن أمضي إلى الصبية وأُخبرها، وأُعيد عليك جوابها.. فجاءت المرأة إلى الصبية وأدت إليها رسالة أبيها؛ فقالت: مهما أمرتماني به فعلتُه، ولا أخرج من تحت حكمكما، ولا أعاندكما بالمخالفة، بل أبركما.. فزوج القاضي ابنته بالمبارك، وأعطاهما مالاً عظيمًا؛ فأولدها المبارك ولدًا، وسماه "عبد الله"، وهو معروف في جميع العالم؛ فهو "عبد الله بن المبارك" صاحب العلم والزهد ورواية الأحاديث؛ فما دامت الدنيا يُحدَّث عنه يروي .] [التبر المسبوك]
كان في العراق شاب جميل غني، اسمه "ثابت بن النعمان"، فارسي الأصل، تقي ورع، كان يتوضأ يومًا من النهر؛ فرأى تفاحة فأكلها! ثم خاف أنْ يكون أكلها حرامًا؛ فبحث عن شجرتها حتى وصل إلى صاحبها، فأخبره الخبر، وقال له: سامحني! قال الرجل: لا أسامحكَ إلا بشرط أنْ تتزوج ابنتي؛ وهي عمياء.. صماء.. خرساء!! ففكّر ورأى أنَّ الدنيا موقوتة، وأنَّ عذابها بهذا الزواج أيسر من عذاب الآخرة؛ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. قد قبلتُ!
فزوجه بها.. ولما دخل عليها؛ وجد فتاة كأنها القمر، ذات فهم ودين..!! فقال لأبيها: لم قلتَ: إنها عمياء صماء خرساء؟ قال: لأنها لم تَرَ الرجال، ولم تسمعهم، ولم تكلمهم!(1/52)
ومن هذين الزوجين الصالحين الجميلين الغنيين وُلِد صبي قُدِّر له أنْ يكون له جمالهما وتُقاهما، وأنْ يكون آية الآيات، وأعجوبة الدنيا في الذكاء والعلم، وهو النعمان بن ثابت.. هذا اسمه، أما "أبو حنيفة" فكنيته.. ولم يكن له بنت اسمها "حنيفة"، ولكن الحنيفة: الدواة بلغة العراق العامية.. كنَّوه بذلك لحمله "الدواة" مِن صغره، ودورانه على العلماء.
عن علي بن حفص البزاز قال: كان حفص بن عبد الرحمن شريكًا لأبي حنيفة وكان أبو حنيفة يجهز عليه، فبعث إليه في رفقة بمتاع، وأعلمه أنَّ في ثوب كذا وكذا عيبًا، فإذا بِعْتَه فبَيِّن. فباع حفص المتاع، ونسي أنْ يبين، ولم يعلم ممن باعه. فلما علم أبوحنيفة تصدق بثمن المتاع كله.
وجاءته امرأة عجوز تطلب ثوب خَزّ.. فأخرج لها الثوب المطلوب، فقالت له: إني امرأة عجوز، ولا علم لي بالأثمان، وإنها الأمانة.. فبعني الثوب بما قام عليك(1)، وأضفْ إليه قليلا من الربح؛ فإني ضعيفة.
فقال لها: إني اشتريتُ ثوبين اثنين في صفقة واحدة، ثم إني بعتُ أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم؛ فخذيه بها، ولا أريد منك ربحًا!
__________
(1) بما قام عليك: بالثمن الذي اشتريتَه به.(1/53)
قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لي يومًا: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إليَّ، الله شاهدي. فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمتُه، فقال: قل في كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة. فقلته؛ فوقع في قلبي حلاوته. فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتُك، ودُم عليه إلى أن تدخل القبر؛ فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين؛ فوجدت لذلك حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يومًا: يا سهل! مَن كان الله معه، وناظرًا إليه، وشاهده؛ أيعصيه؟ إياك والمعصية. [الإحياء]
نسيمَ الصَّبا إنْ زُرتَ أرضَ أحبتي ... فخُصَّهُم عني بكلِّ سلامِ
وبَلِّغهُم أني رهينُ صَبابَةٍ ... وأنَّ غرامي فوقَ كلِّ غرامِ
وإني ليكفيني طُروقُ خيالِهم ... لو أن جُفوني مُتِّعَت بمَنامِ
موضوع "المراقبة" منقول من كتاب "بشريات السلامة من أهوال القيامة":4
الإخلاص من الإحسان
شهر رمضان ساحة تدريب على الإخلاص؛ ذلك السر الذي به قوام الأعمال كلها على مدار حياة الإنسان
فاعبد الله مخلصا له الدين:
قال تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّين . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر: 2-3]
أي [أخلِص لله تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد الله وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد.
((1/54)
ألا للهِ الدينُ الخالصُ) هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أن له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله لله في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده. وذلك الذي يُصلح القلوب ويُزكيها ويُطهرها.] [تيسير الكريم الرحمن]
وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163]
[قل: إن صلاتي، ونسكي أي عبادتي. (والنسك: العبادة، أو الذبح، أو الحج). ومحياي ومماتي، وما أتيته فى حياتي، وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصة لوجهه؛ لا شريك له فى شيء من ذلك. وبذلك الإخلاص أمرتُ، وأنا أول المسلمين؛ لأن إسلام كل نبى متقدم على إسلام أمته.] [النسفي]
[(قل إن صلاتي ونسكي) أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان، والجوارح، وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها؛ وهو الله تعالى. ومَن أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله وأقواله.
(ومحياي ومماتي) أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليّ، وما يُقدَّر عليّ في مماتي.. الجميع (لله رب العالمين). (لا شريك له) في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير. ليس هذا الإخلاص لله ابتداعًا مِني، وبدعًا أتيته من تلقاء نفسي. بل (وبذلك أمرت) أمرًا حتمًا؛ لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله (وأنا أول المسلمين) من هذه الأمة][تيسير الكريم الرحمن](1/55)
فـ[الإخلاص هو "إكسير" الأعمال، الذي إذا وضع على أي عمل ولو كان من المباحات والعادات حوله إلى عبادة وقُربة لله تعالى، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّكَ لن تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرْتَ عليها حتى ما تَجعلُ في فَمِ امرأتِكَ". [رواه البخاري]
وقال تعالى في شأن الذين يجاهدون في سبيله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [التوبة: 120-121]
فجعل جوعهم وعطشهم ومشيهم ونفقتهم مما يُسجَّل لهم في رصيد حسناتهم عند الله عز وجل، مادام ذلك في سبيل الله، ولن تكون هذه الأشياء في سبيل الله إلا إذا أداها المسلم لتكون كلمة الله هي العليا.
وأكثر من ذلك ما جاء في مثوبة مَن ارتبط فرسًا ليجاهد عليها في سبيل الله. ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ احتبسَ فرسًا في سبيلِ اللهِ إيمانًا باللهِ، وتصديقًا بوعدِهِ، فإنَّ شَبعَهُ وريَّهُ، ورَوْثَهُ وبولَهُ في ميزانِهِ يومَ القيامةِ" يعني: حسنات!
وذلك أن الوسائل والآلات بحسب المقاصد والغايات، فكل ما يُعين على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونصرة دعوته، مِن عدة وآلة وتدريب وكسب خبرة ومهارة، فهو قُربة إلى الله، فبها الأجر والثواب.] [النية والإخلاص للقرضاوي]
فـ[البواعث التي تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إجادته، وتغريه بتحمل التعب فيه أو بذل الكثير من أجله، كثيرة متباينة.(1/56)
منها القريب الذي يكاد يُرَى مع العمل، ومنها الغامض الذي يختفي في أعماق النفس، وربما لا يدركه العامل المتأثر به؛ مع أنه سر اندفاعه في الحقيقة إلى فِعْل ما فَعَل، أو تَرْك ما تَرَك!
والغرائز البشرية المعروفة هي قواعد السلوك العام، ومن اليسير أن ترى في حركات رجل أمامك حبه لنفسه، أو طلبه للسلامة، أو حرصه على المال، أو ميله للفجور، أو تطلعه للظهور..
والإسلام يرقب بعناية فائقة ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات. وقيمة العمل عنده ترجع -قبل كل شيء- إلى طبيعة البواعث التي تمخضت عنه.
فقد يعطي الإنسان هبة جزيلة لأنه يريد بصنائع المعروف أنْ يستميل إليه القلوب، وقد يعطيها لأنه يريد أنْ يَجزي خيرًا مَن سبق فأسدى إليه خيرًا.. وكلا المسلكين كرم دفع إليه شعور المرء بنفسه سلبًا أو إيجابًا -كما يُعبِّر علماء النفس- ولكن الإسلام لا يعتد بالصدقة إلا إذا خلصت من شوائب النفس، وتمخضت لله وحده على ما وصف القرآن الكريم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 9]] [خلق المسلم]
[(ويطعمون الطعام على حبه) أي حب الطعام؛ مع الاشتهاء والحاجة إليه. أو على حب الله؛ مسكينًا فقيرًا عاجزًا عن الاكتساب، ويتيمًا صغيرًا لا أب له، وأسيرًا مأسورًا مملوكًا أو غيره. ثم عللوا إطعامهم فقالوا: إنما نطعمكم لوجه الله؛ أي لطلب ثوابه. أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم؛ لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئًا.
(لا نريد منكم جزاء..) هدية على ذلك، (ولا شكورًا..) ثناء.. (إنا نخاف من ربنا..) إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة. أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف يومًا عبوسًا فمطريرًا.] [تفسير النسفي]
[((1/57)
إنما نطعمكم لوجه الله) على إرادة القول بلسان الحال أو المقال؛ إزاحة لتوهم المن، وتوقع المكافأة الْمُنقِصة للأجر. وعن عائشة ل: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل المبعوث: ما قالوا؟ فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله؛ ليبقى ثواب الصدقة لها خالصًا عند الله.
(لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) أي شكرًا . (إنا نخاف من ربنا) فلذلك نحسن إليكم. أو لا نطلب المكافأة منكم. (يومًا) عذاب يوم. (عبوسًا) تعبس فيه الوجوه. أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته. (قمطريرا) شديد العبوس، كالذي يجمع ما بين عينيه.][تفسير البيضاوي]
فالعمل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى.
قال الفضيل في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه. وقال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يُقبَل؛ حتى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السُّنَّة.
يا ربِّ أنت العليمُ بظاهري وبباطني ... بالسِّرِّ.. بل أخفى وبالإعلانِ
أنتَ السميعُ لمَنطقي وحروفِهِ ... أنتَ الخبيرُ بموقفي ومكاني
إنْ لم أكنْ أهلاً لتوفيقٍ، فمُنّْ ... فلأنتَ أهلُ المَنِّ والإحسانِ
يا ربِّ أنتَ المُرتَجَى والمُبتَغَى ... وأنا الفقيرُ بِذِلَّتي وهَواني
- - -
يا نفسُ.. أخلِصي تتخلصي:
قال تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ . قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ . إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر: 39-42]
[(1/58)
يقول تعالى ذِكره: قال إبليس: ربِّ بما أغويتَني بإغوائك لأُزَينَنَّ لهم في الأرض. وكأن قوله: (بما أغويتَني) خرج مخرج القسم، كما يقال: بالله، أو: بعزَّة الله لأغوينهم! وعنى بقوله: (لأُزينَنَّ لهمْ في الأرض): لأحسننَّ لهم معاصيك، ولأحببنَّها إليهم في الأرض! (ولأُغْويَنَّهم أجمعين) يقول: ولأضلنَّهم عن سبيل الرشاد؛ (إلا عبادك منهم المخلَصِين) يقول: إلا مَن أخلصتَه بتوفيقك فهديته؛ فإنَّ ذلك ممن لا سلطان لي عليه، ولا طاقة لي به.] [تفسير الطبري]
فالله تعالى [يستخلص لنفسه مِن عباده مَن يُخلص نفسه لله، ويجردها له وحده، ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان.
هذا الشرط الذي قرره إبليس اللعين؛ قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه، لأنه سُنة الله.. أن يستخلص لنفسه مَن يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه. ومن ثَمَّ كان الجواب: ( هذا صراط علي مستقيم . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان. إلا من اتبعك من الغاوين)..
هذا صراط.. هذا ناموس.. هذه سُنَّة.. وهي السُّنة التي ارتضتها الإرادة قانونًا وحُكمًا في الهدى والضلال: إن عبادي المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان، ولا لك فيهم تأثير، ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة، وهم يعلقون أبصارهم بالله، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله. إنما سلطانك على مَن اتبعك مِن الغاوين الضالين. فالشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع. فأما مَن يخلصون أنفسهم لله، فالله لا
يتركهم للضياع. ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب! ] [الظلال]
وتتجلى هذه الحقيقة في كثير من القصص القرآني، والسيرة النبوية، وأخبار السلف..(1/59)
ولنتدبر قوله تعالى عن يوسف الصدِّيق ؛: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24]
فقد [صرف الله عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده المخلَصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم المكاره، ما كانوا به من خيار خلقه.] [تيسير الكريم الرحمن]
وذكر الألوسي في "روح المعاني": [إنه من عبادنا المخلَصين: تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق. والمخلَصون هم الذين أخلصهم الله تعالى، واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها. والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه. ويحتمل على ما قيل: أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم ؛ الذين قال فيهم جل وعلا: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ) [ص: 46]]
و[قوله: (المخلَصين) "فيه قراءتان: قراءة باسم الفاعل. وأخرى باسم المفعول. فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيًا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته. وعلى كلا الوجهين: فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهًا عما أضافوه إليه." [تفسير الرازي]
ويؤيد ذلك قوله تعالى: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23]
وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله تعالى: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين) [ص: 82-83] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلَصين، ولا شك أن يوسف من المخلَصين، كما صرح تعالى به في قوله: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.] [أضواء البيان](1/60)
فلا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص، ولذلك كان معروف الكرخي يضرب نفسه، ويقول: يا نفسُ! أخلصي؛ تتخلصي..
ومن هنا نفهم ما [جاء عن عمر - رضي الله عنه - في رسالته الشهيرة في القضاء: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن تزين بما ليس فيه شانه الله".
قال ابن القيم في شرح هذه الكلمات في "الإعلام": "هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأنْ يخرج مِن مشكاة الْمُحَدَّث الْمُلْهَم، وهاتان الكلمتان مِن كنوز العلم، ومَن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع.. فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله، فإنَّ العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه كان الله معه، فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمَن كان معه فمَن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمَن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمَن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومَن ينصره مِن بعده؟
فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً، وكان قيامه بالله ولله؛ لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجًا ومخرجًا، وإنما يؤتى العبد مِن تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد..
فمَن كان قيامه في باطل لم يُنصَر، وإنْ نُصِر نصرًا عارضًا فلا عاقبة له، وهو مذموم مخذول.(1/61)
وإنْ قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء مِن الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي، كان هو المقصود أولاً، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس مِن المتقين ولا من المحسنين، وإنْ نُصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق. وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدًا، فإنْ كان صاحبه محقًّا كان منصورًا له العاقبة، وإنْ كان مبطلاً لم يكن له عاقبة.
وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته، ولم يقم بالله مستعينًا به متوكلاً عليه، مفوضًا إليه، بريئًا من الحول والقوة إلا به، فله مِن الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به مِن ذلك.
ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مُؤيَّد منصور، ولو توالت عليه زمر الأعداء.] [النية والإخلاص للقرضاوي]
- - -
إليه وإلا لا تُشَد الركائب :
قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]
[(1/62)
يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال، وإقامة دينه فقال: (فأقم وجهك..) أي: انصبه ووَجِّهه للدين؛ الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تتوجه بقلبك، وقصدك، وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج ونحوها. وشرائعه الباطنة، كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة. والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وخص الله إقامة الوجه؛ لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب، ويترتب على الأمرين سعي البدن، ولهذا قال: (حنيفًا..) أي: مقبلا على الله في ذلك، معرضًا عما سواه. وهذا الأمر الذي أمرناك به هو (فطرة الله التي فطر الناس عليها..) ووضع في عقولهم حُسنها، واستقباح غيرها.
إن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميل إليها. فوضع في قلوبهم محبة الحق، وإيثار الحق، وهذا حقيقة الفطرة. ومَن خرج عن هذا الأصل، فلِعارِض عرض لفطرته أفسدها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كلُّ مولودٍ يولَدُ على
الفطرةِ، فأبواهُ يُهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسانِهِ".
(لا تبديل لخلق الله..) أي: لا أحد يبدل خلق الله، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه الله.
(ذلك) الذي أمرناك به (الدين القيم) أي: الطريق المستقيم الموصِّل إلى الله، وإلى دار كرامته؛ فإنّ مَن أقام وجهه للدين حنيفًا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطُرُقه.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فلا يتعرفون الدين القيم، وإن عرفوه لم يسلكوه] [تيسير الكريم الرحمن]
[(1/63)
والخطاب بـ(أقم وجهك) للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم، كما قال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّم) [الروم: 43] وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد، والقوة على الجد في أعمال الدين. وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. و(حنيفًا..) معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
وقوله: (فأقم وجهك للدين القيم) قال الزجاج: أي أقم قصدك، واجعل جهتك اتباع الدين القيم، يعني الإسلام.] [الجامع لأحكام القرآن]
وفي حديث جبريل - عليه السلام - لما جاء يعلِّم الصحابة؛ سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، والإيمان، والإحسان؛ قال: "فأخبِرْني عن الإحسان.." قال: "أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراكَ.." [متفق عليه]
وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - (الإسلام) بالأقوال والأعمال الظاهرة، وفسر (الإيمان) بالأقوال والأعمال الباطنة، والإحسان هو تحسين الظاهر والباطن، ومجموع ذلك هو الدين.
والإحسان لغة: إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه. وفي الشريعة هو ما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراكَ.."، [وهو أنْ يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته. وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم. ويوجب أيضًا النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
خطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف؛ فلم يجبه. ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه، وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا. [أخرجه أبو نعيم وغيره](1/64)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فإن لم تكن تراه فإنه يراك.." قيل: إنه تعليل للأول؛ فإنَّ العبد إذا أُمر بمراقبة الله تعالى في العبادة، واستحضار قربه من عبده حتى كأن العبد يراه؛ فإنه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره.. فإذا تحقق هذا المقام سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني؛ وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده، ومعيته حتى كأنه يراه.
وقيل: بل هو إشارة إلى أنَّ مَن شق عليه أنْ يعبد الله تعالى كأنه يراه؛ فليعبد الله على أنَّ الله يراه، ويطلِّع عليه؛ فليستحي مِن نظره إليه، كما قال بعض العارفين: اتقِ الله أن يكون أهون الناظرين إليك. وقال بعضهم: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي مِن الله على قدر قربه منك. وقال بعض العارفين من السلف: مَن عمل لله على المشاهدة؛ فهو عارف.. ومَن عمل على مشاهدة الله إياه؛ فهو مخلص..
وفيه إشارة إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما؛ أحدهما: مقام الإخلاص؛ وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه وقربه منه. فإذا استحضر العبد هذا في عمله، وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله، وإرادته بالعمل.
والثاني: مقام المشاهدة؛ وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان؛ حتى يصبر الغيب كالعيان. وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل ؛] [جامع العلوم والحكم (بتصرف)]
[(1/65)
وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها، ويظن أنها خالصة لوجه الله، ويكون فيها مغرورًا؛ لأنه لا يرى وجه الآفة فيها! كما حُكي عن بعضهم أنه قال: قضيتُ صلاة ثلاثين سنة كنت صليتُها في المسجد في الصف الأول؛ لأنى تأخرتُ يومًا لعذر فصليت في الصف الثانى؛ فاعترتني خجلة من الناس حيث رأونى في الصف الثانى! فعرفتُ أنَّ نظر الناس إليَّ في الصف الأول كان مَسرتي، وسبب استراحة قلبي مِن حيث لا أشعر.
وهذا دقيق غامض قلما تسلم الأعمال مِن أمثاله، وقَلَّ مَن يتنبه له إلا مَن وفقه الله تعالى.] [الإحياء]
قال ابن عطاء الله السكندري: لولا جميل ستره لم يكن عمل أهلاً للقبول.
أي: لولا ستره تعالى الجميل لم يكن عمل مِن الأعمال أهلاً للقبول؛ لفقد شرطه مِن الإخلاص. فإنّ العبد مُبتلى بنظره إلى نفسه، وفرحه بعمله مِن حيث نسبته إليه، وشهوده حوله وقوته عليه! وهذا مِن الشرك الخفي القادح في الإخلاص. فينبغي للعبد أنْ يعتمد على فضل الله وكرمه؛ لا على اجتهاده وعمله.
قال ابن القيم: [فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل، فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة، والمقبول من العمل قسمان: أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات؛ وقلبه متعلق بالله عز وجل، ذاكر لله عز وجل على الدوام.. فأعمال هذا العبد تُعرَض على الله عز وجل حتى تقف قبالته؛ فينظر الله عز وجل إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية، قد صدرت عن قلب سليم مخلص، محب لله عز جل، ومتقرب إليه أحبها ورضيها وقبلها..(1/66)
والقسم الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة، وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة، وقلبه لاهٍ عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رُفعت أعمال هذا إلى الله عز وجل لم تقف تجاهه، ولا يقع نظره عليها، ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال حتى تُعرَض عليه يوم القيامة فتُميَّز، فيثيبه على ما كان له منها، ويرد عليه ما لم يُرِد وجهه به منها، فهذا قبوله لهذا العمل: إثابته عليه بمخلوق من مخلوقاته مِن القصور، والأكل والشرب، والحور العين.. وإثابة الأول رضا العمل لنفسه، ورضاه عن معاملة عامله، وتقريبه منه، وإعلاء درجته ومنزلته؛ فهذا يعطيه بغير حساب.. فهذا لون، والأول لون.] [الوابل الصيب]
إليهِ؛ وإلاَّ.. لا تُشَدُّ الركائبُ ... ومنهُ؛ وإلا.. فالمُؤمِّلُ خائبُ
وفيهِ؛ وإلا.. فالرجاءُ مُضَيَّعٌ ... وعنهُ؛ وإلا.. فالمُحَدِّثُ كاذبُ
- - -
من بديع أقوالهم في الإخلاص:
قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإنّ مَن شاهد في إخلاصه
الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص.
قال سهل: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة.
قال إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى.
قال يعقوب المكفوف: المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.
قال سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.
كتب بعض الأولياء إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.
قال أيوب السختياني: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال.
قال مطرف: مَن صفا صُفي له، ومَن خلَّط خُلِّط عليه.
قيل لسهل: أي شىء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب!
قال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضًا.
قال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
قيل: الإخلاص ما استتر عن الخلق، وصفا عن العلائق.(1/67)
قال المحاسبي: الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب.
قال الجنيد: الإخلاص تصفية العمل من الكدورات.
قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك،
والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
قيل: الإخلاص دوام المراقبة، ونسيان الحظوظ كلها.
قال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني استغفرك مما زعمت
أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت.
قال سري السقطي: مَن تزين للناس بما ليس فيه سقط مِن عين الله تعالى.
قال علي بن بكار: لأنْ ألقى الشيطان أحب إليَّ مِن أنْ ألقى فلانًا؛ أخاف أنْ
أتصنع له فأسقط مِن عين الله.
- - -
علامات الإخلاص
استواء المدح والذم: فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همًّا واحدًا، وهو إرضاء الله رب العالمين وكفى، ولذا يُمدح أحد الأئمة في وجهه، فيغضب، ويقول: أُشهد الله أني أمقت ما تقول، والذي لا إله إلاَّ هو لو علمتَ من نفسي ما أعلم لحثَوْتَ على رأسي التراب.
قال ابن القيم: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص؛ فأقبِل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبِل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الآخرة للدنيا. فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء سَهُل عليك الإخلاص. فإنْ قلت: وما الذي يُسَهِّل علىّ ذبح الطمع والزهد في الثناء؟
وسُئل بعض السلف: ما غاية الإخلاص؟ قال: أنْ لا تُحبَّ مَحْمَدَةَ الناس.
وقال بعض الحكماء: ينبغي للعامل أنْ يأخذ الأدب في عمله من راعي الغنم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الراعي إذا صلى عند غنمه فإنه لا يطلب بصلاته محمدة الغنم.. كذلك العامل ينبغي أنْ لا يبالي مِن نظر الناس إليه؛ فيعمل لله تعالى عند الناس وعند الخلاء بمنزلة واحدة، ولا يطلب محمدة الناس.(1/68)
قال ابن القيم في "الفوائد: بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تُقطَع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق.. فيُسقِط نفسه ويُلغيها فيما بينه وبين الناس.. ويُسقط الناس، ويُلغيهم فيما بينه وبين الله.. فلا يلتفت إلا إلى مَن دَلَّه على الله وعلى الطريق الموصِّلة إليه.
يذكر إحسان العتيبي أنه [في لقاءات الشيخ ابن عثيمين / في بيته كل خميس قبل الظهر، كان الشيخ / يبدأ اللقاء بتفسير آيات من القرآن الكريم، وقد رأى أن يبدأ من الأجزاء الأخيرة لكثرة قراءتها واستماعها من الناس، ثم يفسح المجال لكل زائر بسؤال واحد.
وفي بعض تلك اللقاءات -والتي جُمعت مادتها بما عرف بـ"الباب المفتوح"- استأذن بعض الشباب بقراءة أبيات من الشِّعر نظمها في مدح الشيخ /، وقد قاطعه الشيخ مرارًا معترضًا على مدحه، وطلب تغيير تلك الكلمات التي يُمدح فيها الشيخ، وكلما سمع مدحًا اعترض وقاطع وأوقف الطالب، حتى قال الطالب: لا يصلح هذا يا شيخ! إما أن أقرأ ما كتبتُ أو أتوقف! قال الشيخ: توقف أحب إليَّ!! ولم يرض / بهذا المديح.
والقصة حين تسمعها مباشرة في الشريط تتأثر من خُلُق الشيخ وعظيم دينه، وقد كتبت الحادثة فيما جُمع من تلك اللقاءات، فكانت تفاصيلها على هذا النحو: الطالب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد يا فضيلة الشيخ أستاذنكم في قصيدة أتلوها:
يا أمتي إنَّ هذا الليلَ يَعقُبُهُ ... فجرٌ وأنوارُهُ في الأرضِ تنتشرُ
والخيرُ مُرتَقَبٌ والفتحُ منتَظَرُ ... والحق ُّرغمَ جهودِ الشرِ منتشرُ
بصحوةٍ بارَكَ الباري مسيرتَها ... نَقِيةٍ ما بها شَوْبٌ ولا كَدَرُ
ما دامَ فينا ابنُ صالحٍ شيخُ صحوتِنا ... بمِثلِهِ يُرتَجَى التأييدُ والظفرُ
فقال الشيخ: أنا لا أوافق على هذا المدح؛ لأني لا أحب أن يربط الحق بالأشخاص. كل شخص يأتي ويذهب، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص، معناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من بعده.(1/69)
فأقول: إذا كان بإمكانك أن تغير البيت الأخير بقولك:
ما دام منهاجُنا نهجُ الأُلى سلفوا ... بمثلِها يُرتَجَى التأييدُ والظفرُ
فهذا طيب. أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألا تجعلوا الحق مربوطًا بالرجال: أولا: لأنهم قد يضلون، فهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: مَن كان مُستنًّا فليستن بمَن مات؛ فإنَّ الحي لا تؤمَن عليه الفتنة.
ثانيا: أنه سيموت، ليس فينا أحدٌ يبقى أبدًا! (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون) [الأنبياء: 34]
وثالثا: أنه ربما يغتر إذا رأى الناس يبجِّلونه ويكرمونه ويلتفون حوله، ربما ظن أنه معصوم، ويدَّعي لنفسه العصمة، وأن كل شيء يفعله فهو حق، وكل طريق يسلكه فهو مشروع، ولا شك أنه يحصل بذلك هلاكه، ولهذا امتدح رجلٌ رجلاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ويحَكَ، قطعتَ عُنُقَ صاحبِكَ".
وأنا أشكر الأخ على ما يبديه من الشعور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر، ولكن لا أحب المديح. [وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين]
وروى الذهبي في سِيَره عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله(1): ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا؛ بأي شئ هذا؟! وقلت له: قدم رجل من "طرسوس" فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل، رفعوا أصواتهم بالدعاء: ادعوا لأبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق، ونرمي عن أبي عبد الله. ولقد رمي عنه بحجر، والعلج على الحصن متترس بدَرَقة فذهب برأسه وبالدرقة.
قال: فتغير وجه أبي عبد الله، وقال: ليته لا يكون استدراجًا. قلت: كلا.
نسيان العمل بعد عمله: ويبقى الهم همًا واحدًا؛ هل تُقُبل هذا العمل أم لم يتقبل؟
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : كونوا لقبول العمل أشد هَمًّا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين) [المائدة: 27]
__________
(1) الإمام أحمد بن حنبل(1/70)
و[من أراد أن يجد ثواب عمله في الآخرة، ينبغي له أن يكون عمله خالصًا لله تعالى بغير رياء، ثم ينسى ذلك العمل لكيلا يبطله العُجب؛ لأنه يقال: حفظ الطاعة أشد من فعلها.
قال أبو الواسطي: حفظ الطاعة أشد من فعلها؛ لأن مثلها كمثل الزجاج؛ سريع الكسر، ولا يقبل الجبر. كذلك العمل إن مسه الرياء كسره.. إذا مسه العُجب كسره.. ] [تنبيه الغافلين]
وقال ابن عطاء الله السكندري: لا عمل أرجى للقبول مِن عمل يَغيب عنك شهودُه، ويُحتقَر عندك وجودُه.
أي لا عمل من أعمال البر أكثر رجاءً لقبول الله له مِن عمل يغيب عنك شهوده؛ لأنك إنْ غبت عن شهود عملك فقد بقيتَ حينئذ بربك، وصار وجود العمل محتقَرًا عندك لاتهامك لنفسك في القيام بحقه. ولذا قال بعض العارفين: كل شيء من أفعالك إذا اتصلت به رؤيتُك؛ فذلك دليل على أنه لا يُقبَل منك؛ لأن المقبول مرفوع مُغَيَّب عنك، وما انقطعتْ عنه رؤيتُك فذلك دليل على القبول. يشير إلى قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]
إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات: خوفًا من دواعي السُّمْعَة والرياء؛ فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل.
قال الفضيل بن عياض: خير العمل أخفاه؛ أمنعه من الشيطان، وأبعده من الرياء.
وسُئل بعض السلف: مَن المخلِص؟ فقال: المخلِص الذي يَكتم حسناته كما يَكتم سيئاته.
فالمخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.
وصلاحُ الأَجْسادِ سهلٌ ولكنْ في صَلاحِ القلوبِ يَعيا الطبيبُ(1/71)
قال الحسن: إنْ كان الرجل ليجمع القرآن ولم يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولم يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر به الناس، ولقد أدركت أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا.
وعنه أيضًا قال: إنْ كان الرجل لتكون له الساعة يخلو فيها؛ فيصلي، ويوصي أهله فيقول: إنْ جاء أحد يطلبني فقولوا: هو في حاجة له!
قال محمد بن واسع: لقد أدركتُ رِجالاً؛ كان الرجل يكون رأسه ورأس امرأته على وِساد واحد؛ قد بَلَّ ما تحت خده مِن دموعه؛ لا تشعر به امرأته.. واللهِ.. لقد أدركتُ رِجالاً؛ كان أحدهم يقوم في الصف، فتسيل دموعه على خده؛ لا يشعر الذي إلى جنبه.
وذكر ابن أبي الدنيا أنهم كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يظهر الرجل أحسن ما عنده.
وقال بشر بن الحارث: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يُحب أن يَعرفه الناس.
قال سفيان الثوري: وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء، عليهم أكسية غليظة، لا يعرفونني فأعيش في وسطهم لا أُعرف، كأنني رجل من فقراء المسلمين وعامتهم.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي بُرْدَة عن أبي موسى قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزَاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نَعتَقِبُه، قال: فَنَقِبَتْ أقدامنا(1)، فنَقِبَتْ قدمايَ، وسقطت أظفاري، فكنا نَلُفُّ على أرجلنا الْخِرَقَ؛ فسميت غزوة "ذات الرِّقاع" لِمَا كنا نُعَصِّبُ على أرجلنا من الْخِرَقِ.
قال أبو بُرْدَة: فحدَّث أبو موسى بهذا الحديث، ثُم كره ذلك، قال: كأنه كره أنْ يكون شيئًا من عمله أفشاه.
__________
(1) نَقِبَتْ أقدامُنا أَي: رَقَّتْ جُلودُها من المَشْي. ونَقِبَ الخُفُّ الملبوسُ نَقَبًا أي: تَخَرَّقَ.(1/72)
قال محمد بن أعين -وكان صاحب ابن المبارك في أسفاره-: كنا ذات ليلة ونحن في غزو الروم، فذهب عبد الله بن المبارك ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فوضعت رأسي على الرمح لأريه أني أنام كذلك.. فظن أني قد نمت؛ فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمُقُه.. فلما طلع الفجر أيقظني، وظن أني نائم، وقال: يا محمد! فقلتُ: إني لم أنم.. فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يُكلمني، ولا ينبسط إليَّ في شيء من غزاته كلها؛ كأنه لم يعجبه ذلك مني لما فطنتُ له من العمل! فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلاً أسرَّ بالخير منه.
وقال ابن عيينة: كان المطرِّف بن عبد الله إذا حدَّث بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يشتدُّ عليه البكاء وهو في حلقته، فكان يشدُّ العمامة على عينه ويقول: ما أشدَّ الزكام.. ما أشدَّ الزكام..!
قال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل؛ فغطّى المصحف، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة.
اتهام النفس: قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإنّ مَن شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص.
[ذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة فأُتي في منامه فقيل له: إنّ فلانًا الإسكافي خير منك! ليلة بَعد ليلة..! فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله، فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننتُ أنه في الجنة وأنا في النار! ففُضِّل على الراهب بإزرائه على نفسه.
وذُكر داود الطائي عند بعض الأمراء، فأثنوا عليه، فقال: لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذكرنا لسان بخير أبدًا.
وقال أبو حفص: مَن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يَجُرَّها إلى مكروهها في سائر أوقاته؛ كان مغرورًا.. ومَن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها.(1/73)
فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء.. فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة؛ فالنعمة التي لا خطر لها الخروج منها، والتخلص من رِقِّها؛ فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى. وأعرف الناس بها أشدهم إزراءً عليها، ومقتًا لها.
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود عن الصلت بن دينار، حدثنا عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألتُ عائشة ل عن قول الله عز وجل: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) [فاطر: 32]، فقالت: يا بُنَيّ! هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمَن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، شهد له رسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمَن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم.. فجعلت نفسها معنا!
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل.
ذكر الإمام أحمد عن وهب أنَّ رجلاً سائحًا عبَدَ اللهَ عز وجل سبعين سنة، ثم خرج يومًا فقلَّل عمله، وشكا إلى الله تعالى منه، واعترف بذنبه.. فأتاه آتٍ مِن الله فقال: إنَّ مجلسك هذا أحب إليَّ مِن عملك فيما مضى مِن عمرك.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أنَّ رجلاً مِن بني إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة؛ فلم يظفر بها! فقال في نفسه: والله.. لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك. فأُتِي في منامه فقيل له: أرأيتَ ازدراءك نفسك تلك الساعة؛ فإنه خير مِن عبادتك تلك السنين.][إغاثة اللهفان]
وقال ابن الجوزي في "صيد الخاطر": [إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيرًا من ذلك الشخص المؤمن وإن قل علمه. فإن الخيرية بالمعاني لا بصور العلم والعباد.(1/74)
ومَن تلمح خصال نفسه وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو من حال غيره على شك. فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أحوال الآخرة، والمؤمن الحق لا يزال يحتقر نفسه.
وقد قيل لعمر بن عبد العزيز: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إليَّ من أن أرى نفسي أهلا لذلك.] أ.هـ
و[كل طاعة رضيتَها فهي عليك، وكل معصية عيرتَ بها أخاك فهي إليك..! فرضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم علمه بما يستحقه الرب جل جلاله، ويليق أن يعامَل به. وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يُعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة مِن الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها..
قال بعض العارفين: متى رضيتَ نفسك وعملك لله؛ فاعلم أنه غير راضٍ به، ومَن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عُرضَة لكل آفة ونقص؛ كيف يرضى لله نفسه وعمله؟!
ولله دَرُّ الشيخ أبي مدين حيث يقول: مَن تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء، وأحواله بعين الدعوى، وأقواله بعين الافتراء. وكلما عظم المطلوب في قلبك صغرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله، وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله وعرفت النفس؛ تبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للمَلِك الحق؛ ولو جئت بعمل الثقلين خشيتَ عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضا بكرمه وجوده وتفضله.] [مدارج السالكين](1/75)
عن سليمان بن يسار قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس في زمان الرمادة، فقال: أيها الناس! اتقوا الله في أنفسكم وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتُلِيتُ بكم وابتُلِيتُم بي؛ فما أدري ألِسخطةٍ عليَّ دونكم أو عليكم دوني؟! أو قد عمتني وعمتكم؟! فهلموا فلنَدْعُ الله يُصلح قلوبنا، وأنْ يرحمنا، وأنْ يرفع عنا الْمَحْلَ(1).. قال: فرُئي عمر يومئذ رافعًا يديه يدعو الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس مَليًّا، ثم نزل. [الطبقات الكبرى]
قام عمر بن عبد العزيز وخطب الناس فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم إني لأقول هذا وما أعلم أحد عنده من الذنوب أكثر مما عندي. ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها.
وروي أن أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - أمَّ قومًا مرة، فلما انصرف قال: ما زال الشيطان بي آنفًا حتى أريتُ أنَّ لي فضلاً عن غيري؛ لا أؤم أبدًا.
وهذا بكر بن عبد الله يقول: إن رأيتُ مَن هو أكبر مني سنًّا قلتُ: سبقني بالإيمان والعمل الصالح؛ فهو خير مني.. وإنْ رأيتُ مَن هو أصغر مني فأقول: سبقتُه إلى الذنوب والمعاصي؛ فهو خير مني.. وإنْ أكرمني إخوتي قلتُ: تفضلوا عليّ؛ فجزاهم ربي خيرًا.. وإنْ أهانني إخوتي قلتُ: ذاك لذنب أصبتُه، وعهد بيني وبين الله ضيعتُه..
ورُوي أن ابن سلام حمل حزمة من حطب، فقيل له: يا أبا يوسف! قد كان في بنيك وغلمانك ما يكفونك هذا! فقال: أردتُ أنْ أُجرِّب نفسي؛ هل تنكره؟!
قال ابن القيم [ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء.
__________
(1) المَحْل: الشدّة، والجوع الشديد وإن لم يكن جَدْب. والمَحْل نقيض الخِصْب، جمعه: مُحول وأَمْحال. والمَحْل: الجدب، وهو انقطاع المطر ويُبْسُ الأَرض من الكَلإ. [لسان العرب](1/76)
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: "والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمتُ بعد إسلامًا جيدًا"!! وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقيرُ إلى رَبَّ البرياتِ ... أنا المسكينُ في مجموعِ حالاتي
أنا الظلومُ لنفسي وهي ظالمتي ... والخيرُ إنْ يأتِنا مِن عِندِهِ ياتي
لا أستطيعُ لنفسي جَلب مَنفَعَةٍ ... ولا عنِ النفسِ لي دَفْعُ المَضَرَّاتِ
والفقرُ لي وَصْفُ ذاتٍ لازِمٌ أبدًا ... كما الغِنَى أبدًا وَصْفٌ له ذاتي
وهذهِ الحالُ حالُ الخلقِ أجمعِهِم ... وكلُّهُم عِندَهُ عبدٌ لهُ آتي ](1)
قال عبد العزيز بن أبي رواد: جاورتُ هذا البيت ستين سنة، وحججتُ ستين حجة.. فما دخلتُ في شىء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبتُ نفسي؛ فوجدتُ نصيب الشيطان أوفى مِن نصيب الله؛ ليتَه لا ليّ، ولا عليّ!! وقال الغزالي في "الإحياء": إذن علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس، وقطع الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة بحيث يغلب ذلك على القلب؛ فإذا ذاك يتيسر الإخلاص.
فيا عباد الله..
المخلصون قوم فرغ الله قلوبهم، وجعل رحيق محبته مشروبهم، وأطال على باب خدمته وقوفهم، وجعل رضاه وقربه مطلوبهم، وغضبه وبعده مخوفهم.. فهم من خشيته مشفقون، ومن هيبته مطرقون.. إن تواضعوا فلرفعته، وإن تذللوا فلعزته، وإن خضعوا فلعظمته.. إلى الله افتقارهم، وبالله افتخارهم، وإلى الله استنادهم.. هو كنزهم وعزهم، وفخرهم وذخرهم، ومعبودهم ومقصودهم..
ومَن كان بهذه الرتبة؛ فمتى تواضع لغير الله أخل بمركز الأدب، واستبدل الخزف بالذهب.. فيا من تعملون لغير وجه الله يا ضيعة أعمالكم، ويا من تقفون بغير باب الله يا طول هوانكم، ويا من تؤملون في غير فضل الله يا خيبة آمالكم..
الأسباب كلها منقطعة إلا أسبابه، والأبواب كلها مغلقة إلا أبوابه.. فسلام الله ورحمته وبركاته على هِمَم لا يُرضيها إلا قرب الله ومرضاته..
- - -
__________
(1) مدارج السالكين(1/77)
أقباس نورانية من أخبار المخلصين:
عن ابن عمر ب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "انطلق ثلاثةُ نفرٍ ممن كان قبلَكم، حتى آواهمُ المبيتُ إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرتْ صخرةٌ مِنَ الجبلِ، فسَدَّتْ عليهِمُ الغارَ، فقالوا: إنه لا يُنجِيكمْ مِن هذهِ الصخرةِ إلا أنْ تدعوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم. قال رجلٌ منهم: اللهمَّ كان لي أبوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أغبُقُ قبلَهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلبُ الشجرِ يومًا، فلم أُرِحْ عليهِما حتى ناما، فحلبتُ لهما غَبوقَهما، فوجدتُهما نائمَينِ، فكرهتُ أن أوقظَهما وأنْ أغبُقَ قبلَهما أهلاً أو مالاً، فلبِثتُ والقَدَحُ على يدي أنتظرُ استيقاظَهما حتى برقَ الفجرُ، والصِّبيَةُ يَتضاغَونَ عندَ قدميَّ، فاستيقظا فشربا غَبوقَهما.. اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ، ففَرِّجْ عنا ما نحن فيه مِن هذهِ الصخرةِ؛ فانفرجتْ شيئًا لا يستطيعون الخروجَ.. وقال الآخرُ: اللهمَّ كانت لي ابنةُ عمٍّ كانت أحبَّ الناسِ إليَّ، -وفي رواية: "كنتُ أحبُّها كأشدِّ ما يحبُّ الرجالُ النساءَ- فأردتُها على نفسِها، فامتنعتْ مني، حتى ألمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السنينَ، فجاءتني، فأعطيتُها عشرينَ ومائةَ دينارٍ، على أنْ تُخَلِّيَ بيني وبين نفسِها؛ ففعلتْ، حتى إذا قدرتُ عليها، -وفي رواية: "فلما قعدتُ بينَ رِجلَيْها- قالتْ: اتقِ اللهَ ولا تَفُضَّ الخاتمَ إلا بحقِّهِ، فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ الناسِ إليَّ، وتركتُ الذهبَ الذي أعطيتُها.. اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك، فافرُجْ عنَّا ما نحنُ فيهِ؛ فانفرجتِ الصخرةُ، غيرَ أنهم لا يستطيعونَ الخروجَ منها.. وقالَ الثالثُ: اللهمَّ استأجرتُ أجراءَ وأعطيتُهم أجرَهم غيرَ رجلٍ واحدٍ تركَ الذي له وذهبَ، فثمَّرتُ أجرَهُ حتى كثرتْ منهُ الأموالُ، فجاءني بعدَ حِينٍ فقال: يا عبدَ اللهِ.. أدِّ إليَّ أجري.(1/78)
فقلتُ: كلُّ ما تَرى مِن أجرِكَ؛ مِنَ الإبلِ والبقرِ والغنمِ والرقيقِ.. فقالَ: يا عبدَ اللهِ.. لا تستهزئْ بي! فقلتُ: لا أستهزئُ بكَ. فأخذَهُ كلَّهُ فاستاقَهُ، فلم يترُكْ منهُ شيئًا.. اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ فافرُجْ عنَّا ما نحنُ فيهِ؛ فانفرجتِ الصخرةُ؛ فخرجوا يمشون". [متفق عليه]
وهذا عبد الله بن الأرقم أسلم عام الفتح، وكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر وعمر ب وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر خمسين وسقًا، واستعمله عمر على بيت المال، وعثمان بعده، ثم إنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه.
ولما استكتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن إليه، ووثق به؛ فكان إذا كتب له إلى بعض الملوك يأمره أن يختمه ولا يقرأه لأمانته عنده.
روى مالك قال: بلغني أن عثمان أجاز عبد الله بن الأرقم -وهو على بيت المال- بثلاثين ألفًا؛ فأبى أن يقبلها! وروى عمر بن دينار أن عثمان أعطاه ثلاثمائة ألف درهم؛ فأبى أن يقبلها، وقال: عملتُ لله، وإنما أجري على الله.
وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: ما رأيت أخشى لله تعالى من عبد الله بن الأرقم. [أُسد الغابة]
قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : والذي لا إله إلا هو.. ما اطلعنا على أحد من أهل "القادسية" أنه يريد الدنيا مع الآخرة.
قال الذهبي: يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: أُصِبتُ ببصري، وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة! قال الذهبي: صدق والله؛ فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالبًا يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
قال هشام الدستوائي: والله.. ما أستطيع أنْ أقول إني ذهبتُ يومًا قط أطلب الحديث؛ أريد به وجه الله عز وجل.
قال حماد بن زيد: كان أيوب ربما حدَّث في الحديث؛ فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و يتمخط، ويقول: ما أشد الزكام!! فيُظهِر الزكام لإخفاء البكاء.(1/79)
قال الحسن البصري: إنْ كان الرجل ليجلس المجلس، فتجيئه عَبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه؛ قام وذهب، وبكى في الخارج.
عن عبدة بن سليمان قال: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز.. فخرج إليه رجل فطارده ساعة؛ فطعنه؛ فقتله. ثم آخر فقتله.. ثم دعا إلى البِراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة؛ فطعنه؛ فقتله.. فازدحم عليه الناس، وكنت فيمن ازدحم عليه؛ فإذا هو ملثم وجهه بكُمِّه! فأخذتُ بطرف كُمِّه فمددتُه؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك. فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشَنِّع علينا؟! [صفة الصفوة]
التقى سفيان والفضيل، فتذاكرا، فبكيا، فقال سفيان: إني لارجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلس جلسناه بركة. فقال له فضيل: لكني أخاف أن يكون أعظم مجلس جلسناه شؤمًا؛ أليس نظرتُ إلى أحسن ما عندك، فتزينتَ به لي، وتزينتُ لك؟! فبكى سفيان حتى علا نحيبه، ثم قال: أحييتني؛ أحياك الله. [سير أعلام النبلاء]
وهذا خالد بن معدان الحِمصي، عالم أهل بلده في زمانه. قال صفوان بن عمرو: سمعتُه يقول: لقيتُ سبعين صحابيًا. وقال بحير: ما رأيتُ أحدًا ألزم للعلم منه، وكان علمه في مصحف له أزرار وعُرى. وقال صفوان: كان إذا عظمت حلقته قام خوف الشهرة. وقال سفيان الثوري: ما أُقدِّم على خالد بن معدان أحدًا. ويُروى أنه كان يُسَبِّح في اليوم سبعين ألف مرة. وعنه قال: لو كان للموت غاية تُعرف ما سبقني أحد إليه إلا بفضل قوة. [تذكرة الحفاظ]
دخل عبد الله بن محيريز دكانًا يريد أن يشتري ثوبًا، فقال رجل قد عرفه لصاحب الدكان: هذا ابن محيريز؛ فأحسِن بيعه! فغضب ابن محيريز، وطرح الثوب وقال: إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا.(1/80)
أخرج ابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" عن ابن المبارك، قال: عمل أبو الربيع مِقْنَعَة(1)؛ مكث فيها أيامًا يُحكِم صنعتها، حتى فرغ منها، فجاء بها إلى البزاز(2)، فألقاها إليه يبيعها، فأخرج فيها عيبًا وردها عليه؛ فقعد ناحية يبكي بكاء حارًّا..! فمر به أخوان له فقالوا: يا أبا الربيع! ما يبكيك؟ قال: لا تسألوني.. قالوا: وكيف لا نسألك وقد سمعنا بكاؤك؟! قال: إن هذه بيدي منذ كذا وكذا، لم آلُ أنْ أُحكِم صنعتها، فجئتُ بها إلى هذا البزاز؛ فأخرج عليّ فيها عيبًا، وضرب بها وجهي؛ فكم من عمل لي أرى أنه قد صح لي عند ربي عز وجل؛ غدًا يُخرِج عليّ عيوبه؛ يضرب به وجهي! قال: فقعدوا معه وجعلوا مأتما يبكون معه.
كان رجل يخرج في زي النساء، ويحضر كل موضع يجتمع فيه النساء من عرس أو مأتم.. فاتفق أنْ حضر يومًا موضعًا فيه مجمع للنساء، فسُرقَت دُرَّة فصاحوا أنْ: أغلقوا الباب حتى نفتش! فكانوا يفتشون واحدة.. واحدة.. حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه.. فدعا الله تعالى بالإخلاص، وقال: إن نجوتُ مِن هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا! فوُجِدَت الدُّرة مع تلك المرأة؛ فصاحوا أنْ: أطلقوا الحرة فقد وجدنا الدُّرة!
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت "فضيلاً" ليلة وهو يقرأ سورة "محمد" ويبكي، ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31] وجعل يقول: (ونبلو أخباركم)، ويرددها، ويقول: وتبلو أخبارنا..؟! إن بلوتَ أخبارنا فضحتَنا، وهتكتَ أستارنا.. إن بلوتَ أخبارنا أهلكتَنا وعذبتَنا..
__________
(1) القِناع والمِقْنَعة ما تتَقَنَّعُ به المرأَة من ثوب تُغَطِّي رأْسَها ومحاسِنَها. (2) البزاز: بائع البَز أي الثياب.(1/81)
وسمعته يقول: تزينتَ للناس، وتصنعتَ لهم، وتهيأتَ لهم، ولم تزل ترائي حتى عرفوك؛ فقالوا: رجل صالح.. فقضوا لك الحوائج، ووسعوا لك في المجلس، وعظَّموك..! خيبة لك..! ما أسوأ حالك؛ إن كان هذا شأنك!
وسمعته يقول: إنْ قدرتَ أنْ لا تُعرَف فافعل. وما عليك أن لا تُعرَف؟! وما عليك إنْ لم يُثنَ عليك؟! وما عليك أنْ تكون مذمومًا عند الناس إذا كنتَ عند الله محمودًا؟! [التوابين]
قال الحفاظ: رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد، فاشترى حزمة من الحطب، وجعلها على كتفه، فلما عرفه الناس، ترك أهل المتاجر متاجرهم، وتوقف المارة في طرقهم يسلمون عليه، ويقولون: نحمل عنك الحطب.. فهز يده، واحمر وجهه، ودمعت عيناه وقال: نحن قوم مساكين؛ لولا ستر الله لافتضحنا..!
ذكر ابن الجوزي في "صيد الخاطر" أن أبا عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يومًا على المنبر: عليّ ألف دينار، وقد ضاق صدري. فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار، وقال: اقضِ دَيْنَك.
فلما عاد وصعد المنبر، قال: نشكر الله لأبي عمرو؛ فإنه أراح قلبي، وقضى ديني.. فقام أبو عمرو وقال: أيها الشيخ! ذلك المال كان لوالدتي، وقد شق عليها ما فعلتُ! فإن رأيتَ أن تتقدم برده فافعل!
فلما كان في الليل عاد إليه، وقال له: لماذا شهرتني بين الناس؟ أنا ما فعلت ذلك لأجل الخلق؛ فخذه ولا تذكرني!
ماتوا وغُيِّبَ في الترابِ شخوصُهم فالنشرُ مسكٌ والعظامُ رميمُ
بعد أن انتهت محنة العز بن عبد السلام مع الملك الأشرف، أراد الملك أنْ يسترضيه، فقال: "والله لأجعلنه أغنى العلماء"! ولكن العز لم يأبه لذلك، ولم ينتهز هذه الفرصة لمصالحه الشخصية، ولم يقبل درهمًا من الملك، بل رفض الاجتماع به لأمور شخصية.(1/82)
ولما مرض الملك الأشرف مرض الموت وطلب الاجتماع به ليدعو له، ويقدم له النصيحة اعتبر العز ذلك قربة لله تعالى، وقال: نعم، إن هذه العبادة لمن أفضل العبادات، لما فيها من النفع المتعدي إن شاء الله تعالى. وذهب ودعا للسلطان لما في صلاحه مِن صلاح المسلمين والإسلام، وأمره بإزالة المنكرات، وطلب منه الملك العفو والصفح عما جرى في المحنة، قائلاً: يا عز الدين! اجعلني في حِلٍّ..! فقال الشيخ: أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق، وأبيتُ وليس لي عند أحد مظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله.. وفي نهاية الجلسة أطلق له السلطان ألف دينار مصرية؛ فردها عليه، وقال: هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا.
كان أحمد بن محمد الخراساني النوري صاحب الجنيد إذا رأى منكرًا غَيَّره؛ ولو كان فيه تلفه.. نزل يومًا فرأى زورقًا فيه ثلاثون دَنًّا، فقال للملاح: ما هذا؟ قال: ما يلزمك؟! فألح عليه، فقال: أنت والله كثير الفضول؛ هذا خمر للمعتضد -الخليفة العباسي-قال: أعطني ذلك الْمِدْرَى(1)،
__________
(1) قال ابن الأََثير: المِدْرَى والمِدْرَاةُ شيء يُعْمَل من حديد أَو خشب، على شكل سنّ مِن أَسْنان المُشْطِ، وأَطْولُ منه يُسَرَّحُ به الشَّعر المُتَلَبِّد، ويَستَعمله مَن لم يكن له مُشْط. وقال الليث: المِدْراةُ حديدة يُحَكُّ بها الرأْس، ويُقال: مِدْرىً بغير هاء، ويُشَبَّه قَرْنُ الثَّوْرِ به. [لسان العرب]
والدَّنّ كهيئة الحُبّ، والجمع الدِّنان وهي الحِباب، وقيل الدَّنُّ أَصغر من الحُبّ. والحُبُّ الجَرَّةُ الضَّخْمةُ. وقال ابن دريد: هو الذي يُجْعَلُ فيه الماءُ، وهو فارِسيّ مُعَرّب. [لسان العرب](1/83)
فاغتاظ وقال لأجيره: ناوله حتى أبصر ما يصنع! فأخذه، ونزل فكسرها كلها غير دَنّ! فأُخِذ فأُدخل إلى المعتضد، فقال: مَن أنت.. ويلك؟! قال: محتسب..! قال: ومَن ولاك الحسبة؟ قال: الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين! فأطرق، وقال: ما حملك على فعلك؟ قال: شفقة مني عليك! قال: وكيف سلم هذا الدن؟ فذكر أنه كان يكسر الدنان ونفسه مخلصة خاشعة، فلما وصل إلى هذا الدن أعجبته نفسه؛ فارتاب فيها؛ فتركه. [نزهة الفضلاء / نقلاً عن موقع "التاريخ"]
عن علقمة بن مرثد قال: لما وُلِّي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يُنفِذ كتبًا أعرف أنَّ في إنفاذها الهلكة؛ فإنْ أطعتُهُ عصيتُ الله، وإنْ عصيتُه أطعتُ الله عز وجل.. فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجًا؟ قال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير.. فتكلم الشعبي، فانحط في حبل ابن هبيرة!! فقال: ما تقول أنتَ يا أبا سعيد؟ فقال: يا عمر بن هبيرة..! يوشك أنْ ينزل بك مَلَك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره، فيُخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك.. يا عمر بن هبيرة..! إنْ تتقِ الله يعصمْك مِن يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد عبد الملك من الله عز وجل.. يا عمر بن هبيرة..! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت؛ فيغلق بها باب المغفرة دونك.. يا عمر بن هبيرة..! لقد أدركتُ ناسًا من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدبارًا من إقبالكم عليها وهي مدبرة.. يا عمر بن هبيرة..! إني أخوفك مقامًا خوفكه الله تعالى، فقال: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم: 14] يا عمر بن هبيرة..! إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه..(1/84)
قال: فبكى عمر، وقام بعَبرته! فلما كان من الغد أرسل إليهما بجوائزهما، وكثر منه ما للحسن، وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار! فخرج الشعبي إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس! مَن استطاع منكم أنْ يؤثر الله تعالى على خلقه؛ فليفعل.. فوالذي نفسي بيده، ما علم الحسن منه شيئًا فجهلتُه، ولكن أردتُ وجه ابن هبيرة؛ فأقصاني الله منه!! [حلية الأولياء]
فاجعلْ رِضَا اللهِ كلَّ القَصدِ تنْجُو؛ فَمَا ... يُغني رِضَا الخَلْقِ والخَلاقُ قد سخطا
هلْ يَبسطونَ لِمَا القهارُ قابِضُهُ ... أوْ يَقْبِضونَ إذا الرحمنُ قد بَسَطَا
قال الحافظ الذهبي عند ترجمة الإمام الماوردي: قال عنه القاضي شمس الدين في "وفيات الأعيان": مَن طالع كتاب "الحاوي" له؛ يشهد له بالتبحر، وقد وُلي قضاء بلاد كثيرة، وله تفسير القرآن سماه "النكت"، و"أدب الدنيا والدين"، و"الأحكام السلطانية"، وغيرها.. وقيل: إنه لم يُظهر شيئًا من تصانيفه في حياته، وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته قال لمن يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أُظهرها؛ لأني لم أجد نية خالصة! فإذا عاينتُ الموت، ووقعتُ في النزع؛ فاجعل يدك في يدي.. فإنْ قبضتُ عليها وعصرتُها؛ فاعلم أنه لم يُقبَل مني شيء منها! فاعمد إلى الكتب، وألقها في دجلة! وإنْ بسطتُ يدي؛ فاعلم أنها قُبِلَت.. قال الرجل: فلما احتُضر وضعتُ يدي في يده؛ فبسطها؛ فأظهرتُ كتبه. [سير أعلام النبلاء]
وهذا سعد الرشود أحد المجاهدين العرب في أفغانستان، يقول عنه د. عبد الله عزام: [قلت له: يا سعد! ألا نأتيك بأهلك هنا؟ قال: دعهم يشاركوننا الجهاد في الصبر على فراقنا. قلت: ألا ترسل لهم بعض ما يقتاتون منه؟ قال: عندهم ما يكفيهم، ونحن لانريد أن يتوسعوا. ثم استدرك وقال: يا شيخ عبد الله.. والله لي ثلاث بنات قد نسيت صورهن!(1/85)
رأيت ذات ليلة ابنتي في المنام تداعبني وتدغدغني بلثغتها الحنون، مال إليها قلبي، فانتفضت من نومي مذعورًا، وتفلت على شمالي ثلاث مرات، ثم قلت: هذه البنت تريد أن ترجعني إلي حياة اللهو مرة أخري!!
وبعد فترة استشهد سعد الرشود، وفتحنا وصيته، وإذا بها ورقة صغيرة: أستحلفكم بالله لا أسمح أنْ تكتبوا عني حرفًا واحدًا لا في مجلة "الجهاد"، ولا في "البنيان المرصوص"، ولا في أي مكان.] [قصص وأحداث: د. عبد الله عزام (بتصرف يسير)]
وُلِد حامد آقصر أيلي في مدينة "قيصري"، وسافر في طلب العلم إلى بلاد "الشام" و"تبريز"، ووصل إلى "أدربيل" وهي مدينة في شمالي غرب "إيران" اشتهرت بمكتبتها الكبيرة، وعاشت فترة من الازدهار الثقافي. وهناك التقى العالم الكبير "علاء الدين الأردبيلي" ولازمه، وبقي في خدمته سنوات عديدة؛ فنهل من علمه ودرج مثله في مدارج التصوف والزهد.. ثم رجع وسكن في مدينة "بورصة"، وكانت آنذاك عاصمة الدولة العثمانية، وكان ذلك في عهد السلطان بايزيد الأول.
قضى حامد سنوات عديدة من عمره في مدينة "بورصة" يخبز الخبز (الصمون) في فرنه المتواضع في البيت، ثم يضعه في سلة كبيرة يحملها على ظهره، ويمشي في الأسواق وفي الأزقة، وما إن يراه الصبيان حتى يهتفوا: جاء "صمونجي بابا".. جاء "صمونجي بابا".. وسرعان ما يجتمعون حوله، ويبتاعون منه الخبز.. كان جميع أطفال وصبيان وأهالي "بورصة" يحبونه؛ فوجهه نوراني، وهو بشوش يحب الأطفال ويلاطفهم، وخبزه حار ولذيذ ونظيف.
وعندما بدأ السلطان بايزيد ببناء الجامع الكبير اعتاد عمال البناء شراء الخبز من "صمونجي بابا".. وبعدما اكتمل بناء هذا الجامع الذي يُعد آية من آيات العمارة الإسلامية، وتُعد الآيات الكريمة التي تزينه آية في فن الخط، تقرر افتتاحه بصلاة الجمعة.(1/86)
وفي يوم الجمعة حضر السلطان بايزيد الأول إلى الجامع مع الوزراء والعلماء، وجمع وفير من أهالي "بورصة" حتى امتلأ هذا الجامع الكبير على سعته، وعندما حان وقت الخطبة، التفت السلطان إلى العالم الكبير أمير سلطان وكلفه بإلقاء الخطبة.
وقف أمير سلطان قرب المنبر، وبدأ يجول ببصره في الحضور، وكأنه يفتش عن أحدهم..! أجل.. كان يفتش عن "صمونجي بابا"؛ فهو يعرف قدره وعلمه، وإنْ جهله الناس الذين اعتقدوا أنه ليس إلا رجلاً طيبًا يبيع الخبز..! وأخيرًا وقع بصره عليه، ثم قال بصوت سمعه كل الحضور؛ وهو يشير بيده إليه: ليس في هذا الجامع مَن هو أحق مِن هذا الرجل من إلقاء هذه الخطبة!
دهش الحاضرون من هذا الكلام، وبدأوا يتطلعون إلى الجهة التي أشار إليها العالم أمير سلطان، وأحس "صمونجي بابا" بحرج شديد؛ فقد كان يكتم أمره عن الناس طوال هذه السنوات، فلا يعرفون عنه إلا أنه بائع خبز..! وها هو أمير سلطان يفاجئه فيكشف أمره للناس..!
قام من مكانه مضطرًّا واتجه إلى المنبر؛ والأنظار مصوبة إليه.. وقبل أن يصعد إلى المنبر مال على أذن أمير سلطان، وهمس له معاتبًا: ماذا فعلت يا أخي؟! لقد كشفتني أمام الناس جميعًا..! فأجابه أمير سلطان بالهمس نفسه: أنت الأجدر بإلقاء هذه الخطبة يا أخي.
صعد العالِم المتخفي على المنبر، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قرأ سورة "الفاتحة"، وبدأ بتفسير معانيها الكبيرة من سبعة أوجه، وكانت خطبة وتفسيرًا رائعًا أخذ بمجامع قلوب الحاضرين.
ولم يُخْفِ العالم الكبير المعروف مُلا فناري إعجابه، فقال فيما بعد لأصدقائه: لقد شاهدنا عظمة هذا الرجل، وتبحره في العلم وفي التفسير، فالتفسير الأول للفاتحة فهمه الجميع، والتفسير الثاني فهمه البعض، والتفسير الثالث فهمه القلة والخواص فقط، أما التفسير الرابع والخامس والسادس والسابع فقد كان فوق طاقة إدراكنا..!(1/87)
وانتشر الخبر في أرجاء العاصمة "بورصة" بسرعة، وعرف الجميع حقيقة هذا الرجل المتواضع الفقير، الذي يحمل سلة الخبز على ظهره، ويتجول في الأسواق والأزقة، ويتلاطف مع الأطفال والصبيان.. عرفوا أنه عالم كبير، وولي من أولياء الله، وانتظروا رؤيته؛ لكي يقبلوا يديه ويسألوه الدعاء.. ولكنهم لم يروه! أجل.. لم يروه بعد تلك الخطبة؛ لقد رحل هذا الولي عن "بورصة" بعد أن تكشف أمره، ورحل إلى مدينة أخرى لا يعرفه الناس فيها.. مات -رحمه الله- في مدينة "آق صراي"، ودُفن فيها. [روائع من التاريخ العثماني لأورخان محمد علي / نقلاً عن موقع "التاريخ" (بتصرف)]
فيا عباد الله..
هؤلاء هم المخلصون؛ الذين إذا رءوا ذُكر الله.. وإذا تكلموا كان كلامهم لعز الإسلام، ونجاة النفوس وصلاحها؛ لا لعز النفوس وطلب الدنيا وقبول الخلق.. وكانوا لعملهم مُتَّهِمين، ولسبيل أسلافهم مُتَّبِعين، وبكتاب الله وسنة نبيهم متمسكين.. الخشوع لباسهم، والورع زينتهم، والخشية حليتهم.. كلامهم الذكر، وصمتهم الفكر.. نصيحتهم للناس مبذولة، وشرورهم عنهم مخزونة، وعيوب الناس عندهم مدفونة.. وَرَّثوا جلّاسهم الزهد في الدنيا لإعراضهم وإدبارهم عنها.. ورَغَّبوهم في الآخرة لإقبالهم وحرصهم عليها..
- - -
عاجل بشرى المسلم:
يقول فضيلة الشيخ/ محمد حسان: إذا عمل العبد عملاً يُبتغَى به وجهُ الله، وتضرع إلى الله أنْ يرزقه فيه الإخلاص، ثم أثنى الناس عليه خيرًا، وجعل الله له الثناء الحسن على ألسنة الصادقين مِن عباده، وجعل الله له المكانة الطيبة فى قلوب المخلصين مِن عباده وأوليائه؛ فليستبشر خيرًا..
ففي صحيح مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يارسول الله! أرأيتَ الرجل يعمل العمل مِن الخير ويحمده الناس؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : "تلك عاجلُ بشرى المسلمِ".(1/88)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - [أخبر في هذا الحديث أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة من البشرى؛ فإن الله وعد أولياءه -وهم المؤمنون المتقون- بالبشرى في هذه الحياة وفي الآخرة.
و"البشارة" الخبر أو الأمر السار الذي يَعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول.
أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث، يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على يدي الملائكة، كما تكاثرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وهي معروفة.
وأما البشارة في الدنيا التي يجعلها الله للمؤمنين؛ نموذجًا وتعجيلاً لفضله، وتعرفًا لهم بذلك، وتنشيطًا لهم على الأعمال.. فأعمُّها توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة". فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظًا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره، فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين. وإذا ابتدأ عبده بالإحسان أتمه.
فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني، فيُسَر المؤمن بذلك أكمل سرور: سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير، وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعله. وسرور ثانٍ بطمعه الشديد في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله.
ومن ذلك ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: إذا عمل العبد عملا من أعمال الخير -وخصوصًا الآثار الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع-، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له.. كان هذا من البشرى أن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيرًا وبركة.(1/89)
ومن البشرى في الحياة الدنيا، محبة المؤمنين للعبد لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96]، أي محبة منه لهم، وتحبيبًا لهم في قلوب العباد. ومن ذلك الثناء الحسن، فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له. والمؤمنون شهداء الله في أرضه.
ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له، فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
ومن البشرى أن يُقَدِّر الله على العبد تقديرًا يحبه أو يكرهه. ويجعل ذلك التقدير وسيلة إلى إصلاح دينه، وسلامته من الشر.
وأنواع ألطاف الباري سبحانه لا تُعَد ولا تُحصى، ولا تخطر بالبال، ولا تدور في الخيال. والله أعلم.] [بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار]
قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور.
يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول.
وروى البزار في صحيح الجامع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن عبدٍ إلا وله صِيتٌ في السماءِ، فإنْ كان صِيتُهُ في السماءِ حسنًا وُضعَ في الأرضِ، وإنْ كان صِيتُهُ في السماءِ سيئًا وُضعَ في الأرضِ". [صححه الألباني]
وفي الصحيحين عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ، فقال: إني أحبُّ فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي فى السماء فيقول: إن اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبوه، فيحبُّه أهلُ السماءِ. ثم يُوضَعُ له القبولُ في الأرضِ. وإذا أبغضَ عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إني أبغضُ فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضُهُ جبريلُ، ثم ينادي أهلَ السماءِ: إنَّ اللهَ يُبغضُ فلانًا فأبغضوه. ثم تُوضَعُ لهُ البغضاءُ في الأرضِ".(1/90)
قال ابن القيم: وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل، وسنته التي لا تتحول؛ أن يُلبس المخلِص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه؛ ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه.. ويُلبس المرائي ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغض، وما هو اللائق به..
ربَّاهُ هأنذا خلصتُ مِنَ الهوى ... واستقبلَ القلبُ الخَلِيُّ هواكا
وتركتُ أُنسي بالحياةِ ولهوِها ... ولَقِيتُ كُلَّ الأُنسِ في نَجواكا
ونَسِيتُ حُبي واعتزلتُ أحبتي ... ونَسِيتُ نفسي خوفَ أنْ أنساكا
ذُقتُ الهوى مُرًّا ولم أذُقِ الهوى ... ياربِّ حُلوًا قبلَ أنْ أهواكا
أنا كنتُ ياربي أسيرَ غِشاوَةٍ ... رانَتْ على قلبي فَضَلَّ سَنَاكا
واليومَ ياربي مَسَحْتَ غِشاوتي ... وبدأتُ بالقلبِ البصيرِ أراكا
موضوع "الإخلاص" منقول باختصار من كتاب "بشريات السلامة من أهوال القيامة":5
} - { } - {
ورحمتي وسعت كل شيء
قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:156]
هذه الآية تدل على أن الرحمة لا تُنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات.
هذا التعبير يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه، والذي لا يدرك البشر مداه.. فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله!
((1/91)
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) المعاصي، صغارها وكبارها. (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) الواجبة مستحقيها، (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) ومن تمام الإيمان بآيات الله معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
فرحمته تبارك وتعالى وسعت كل شيء؛ وهي تنال مَن يستحقها عنده؛ وبذلك تجري مشيئته، ولا تجري مشيئته سبحانه بالعذاب أو بالرحمة جزافا أو مصادفة. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. [تيسير الكريم الرحمن - في ظلال القرآن - محاسن التأويل]
- - -
أهل المرحمة
(2) المتقون
قال الحافظ ابن رجب: أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه. فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه؛ من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.
وقال ابن القيم: [وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا، أمرا ونهيا، فيفعل ما أمر الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي وخوفا من وعيده، كما قال طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى. قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله؛ ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله؛ تخاف عقاب الله.(1/92)
وهذا من أحسن ما قيل فى حد التقوى، فإنَّ كل عمل لا بد له مِن مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعة وقُربة حتى يكون مصدره عن الإيمان؛ فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لابد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته؛ وهو الاحتساب.
ولهذا كثيرا ما يقرن بين هذين الأصلين فى مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا.." [رواه البخاري]، و"مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا.." [رواه البخاري ومسلم]، ونظائره.
فقوله: (على نور من الله) إشارة إلى الأصل الأول، وهو مصدر العمل والسبب الباعث عليه. وقوله: (ترجو ثواب الله) إشارة إلى الأصل الثاني، وهو الاحتساب، وهو الغاية التى لأجلها توقع العمل ويقصد به.] [الرسالة التبوكية]
وقال الإمام أحمد: التقوى هى ترك ما تهوى لما تخشى.
وقيل: التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وقيل: التقوى هي أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.
و(التقوى) إحدى القاعدتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما حياة الجماعة المسلمة ومنهجها. واللتين لا بد منهما لكي تستطيع أن تضطلع الأمة بالأمانة الضخمة التي ناطها الله بها، وأخرجها للوجود من أجلها.. هاتان القاعدتان المتلازمتان هما: الإيمان والأخوة..
الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة. والأخوة في الله، تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وفي التاريخ الإنساني: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر.
هما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم. فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه.(1/93)
ركيزة الإيمان والتقوى أولا.. التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل.. التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله.[الظلال]
- - -
اتقوا الله ما استطعتم:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران:102]
أي: حق تقواه، وذلك بدوام خشيته ظاهرا وباطنا والعمل بموجبها. وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية: هو أن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
قال القاسمي: كل ما روي مما تشمله الآية بعمومها، فلا تنافي.
(اتقوا الله) - كما يحق له أن يُتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها. وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق، وجدَّت له أشواق. وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى. وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام!
وهذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة.(1/94)
وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا، يجمعها فعل ما أمر الله به وترك كل ما نهى الله عنه. [محاسن التأويل - في ظلال القرآن - تيسير الكريم الرحمن]
فالتقوى الحقيقية هي أن يجتهد العبد في ترك الذنوب كلها صغارها وكبارها، ويجتهد في الطاعات كلها الواجبات والنوافل ما استطاع، لعل كثرة النوافل تعوض ما قد يعرض
من تقصير، واجتناب الصغائر يجعل بين العبد وبين الكبائر جُنة حصينة.
فمثل هذا يستحق اسم المتقي، واجتهاده فى الطاعات كلها من الواجبات والنوافل وترك المعاصى ما استطاع من كبائر وصغائر، وترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس هو التقوى التى دارت عليها أقوال السلف.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : تمام التقوى أن يتقى الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرامًا، يكون حجابًا بينه وبين الحرام؛ فإن الله قد بين للعباد الذى يصيرهم إليه فقال: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]، فلا تحقرن شيئًا من الخير أن تفعله، ولا شيئًا من الشر
أن تتقيه.
وقال موسى بن أعين: المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا فى الحرام فسماهم الله متقين. وقال ميمون بن مهران: المتقى أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه .
وقال الحسن البصري: لا زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.
فالمتقون لا يرتكبون المحرمات ويستبيحونها ويبررون لها بالمبررات، ويطلبون الفتاوى التي تؤيد ارتكابهم لها، ويبحثون عنها بحثًا، فإن لم يجدوها برروا ذلك بأن الله غفور رحيم، ونسوا أنه كذلك شديد العقاب.(1/95)
روى الترمذي بسند حسن عن عطية السعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتقين حتى يدعَ ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأسٌ". لا يبلغ أن يكون من المتقين حتى يترك الأشياء التي لا بأس فيها ولا حرج عليها خوفًا مما به البأس، يترك الشبهات، ويترك ما قد يتسبب له في ارتكاب محرم، أو تستشرف نفسه بعده لارتكاب منهي، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بَيِّنٌ وبينهما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعلمُهُنَّ كثيرٌ مِنَ الناسِ، فمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ استبرأَ لدينِه وعِرضِه ومَن وقعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحرامِ.." [متفق عليه]
(إن الحلال بين): أي واضح لا يخفى حِله. (وإن الحرام بين) : أي لا يَخفى حُرمته، وفيه تقسيم للأحكام إلى ثلاثة أشياء وهو تقسيم صحيح، لأن الشيء إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما؛ فالأول الحلال البين، والثاني الحرام البين، والثالث المشتبه لخفائه فلا يُدرى أحلال هو أم حرام، وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لأنه إنْ كان في نفس الأمر حرامًا فقد برئ من التبعة، وإنْ كان حلالا فقد استحق الأجر على الترك لهذا القصد، لأن الأصل مختلف فيه حظرا وإباحة.
((1/96)
وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس): قال الخطابي: أي أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض، وليس أنها في ذوات أنفسها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة، فإن الله سبحانه لم يترك شيئًا يجب له فيه حكم إلا وقد جعل فيه له بيانا ونصب عليه دليلا، ولكن البيان ضربان: بيان جلي يعرفه عامة الناس، وخفي لا يعرفه إلا الخاص من العلماء. قال: والدليل على صحة ما قلنا قوله عليه السلام: "لا يعلمها كثير"، وقد علم ببيان فحواه أن بعض الناس يعرفونها وإن كانوا قليل العدد. وإذا صار معلوما عند بعضهم فليس بمشبه في نفسه.
(فمن اتقى الشبهات): أي اجتنب عن الأمور المشتبهة قبل ظهور حكم الشرع فيها (استبرأ لدينه وعِرضه): يعني بالغ في براءة دينه من أن يختل بالمحارم، وعِرضه من أن يُتهم بترك الورع. والسين فيه للمبالغة، كما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف) [النساء:6] (استعفَّ) أبلغ من (عفَّ)، كأنه طالب زيادة العفة.
(ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام، وإن لم يتعمده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير.
والثاني: أنه يعتاد التساهل، ويتمرن عليه، ويجسر على شبهة ثم شبهة أغلظ منها، ثم أخرى أغلظ، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدا، وهذا نحو قول السلف: المعاصي بريد الكفر، أي تسوق إليه. عافانا الله تعالى من الشر. [عون المعبود - شرح النووي على صحيح مسلم]
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، فعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد تمرةً في الطريق، فقال: "لولا أني أخافُ أنْ تكونَ مِن الصدقةِ لأكلتُها". [متفق عليه]
- - -
اتقِ الله حيثما كنت:(1/97)
عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل ب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأتبِعْ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ". [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني]
قال الحافظ ابن رجب: [مَن علم أنَّ الله يراه حيث كان، وأنه مطلع على باطنه وظاهره، وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته؛ أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]
كان بعض السلف يقول لأصحابه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد مَن قدر عليه في الخلوة، فعلم أن الله يراه؛ فتركه مِن خشيته.
وقال الشافعي: أعز الأشياء ثلاثة: الجود مِن قِلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند مَن يُرجَى أو يُخشَى.
وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له: أما بعد.. أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك.. فاجعل الله مِن بالك على كل حال؛ في ليلك ونهارك.. وخَف الله بقدر قربه منك، وقدرته عليك.. واعلم أنك بعينه، لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من مُلكه إلى مُلك غيره.. فليعظم منه حذرك، وليكثر منه وَجَلك.. والسلام.
قال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خَلْقي، وتظهرونها لي..! إنْ كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإنْ كنتم ترون أني أراكم فَلِمَ تجعلونني أهون الناظرين إليكم..؟
وقال بعضهم: ابن آدم! إنْ كنتَ حيث ركبتَ المعصية لم تَصْفُ لك مِن عينٍ ناظرة إليك، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيته، ولم تستحي منه حياءك مِن بعض خلقه.. ما أنت إلا أحد رجلين: إنْ كنتَ ظننتَ أنه لا يراك؛ فقد كفرت.. وإنْ كنتَ علمتَ أنه يراك، فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه؛ فقد اجترأت.(1/98)
دخل بعضهم غَيْضَة ذات شجر، فقال: لو خلوتُ ههنا بمعصية مَن كان يراني..؟ فسمع هاتفًا بصوت ملأ الغيضة: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير!
ورأى محمد بن المنكدر رجلا واقفًا مع امرأة يكلمها، فقال: إنّ الله يراكما، سترنا الله وإياكما.
وكان ابن السماك ينشد:
يا مُدمِن الذنبِ أمَا تستحيي، واللهُ في الخلوةِ ثانيكا
غرَّكَ مِن ربِّكَ إمهالُهُ وسَتْرُهُ طُولَ مَساوِيكا
ومَن صار له هذا المقام حالا دائمًا أو غالبًا، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.
وفي الجملة فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان، وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين، وفي الحديث: "ما أسَرَّ عَبدٌ سريرةً إلا ألبسه الله رداءها علانية.. إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر". [رُوي هذا مرفوعًا، ورُوي عن ابن مسعود من قوله. وضعفه الألباني]
وقال أبو الدرداء: ليتقِ أحدكم أنْ تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر؛ يخلو بمعاصي الله؛ فيلقى الله له البغض في قلوب المؤمنين.
وقال سليمان التيمي: إنّ الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته.
وقال غيره: إنَّ العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله، ثم يجيء إلى إخوانه؛ فيرون أثر ذلك عليه..!
وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق المجازي بذرات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة، ولا يضيع عنده عمل عامل، ولا ينفع مِن قدرته حجاب ولا استتار.. فالسعيد مَن أصلح ما بينه وبين الله، فإنّ مَن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومَن التمس محامد الناس بسخط الله؛ عاد حامده مِن الناس ذامًّا له..!
قال أبو سليمان: إنَّ الخاسر مَن أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح مَن هو أقرب إليه مِن حبل الوريد.(1/99)
ومِن أعجب ما رُوي في هذا ما قاله أبو جعفر السائح: كان حبيب أبو محمد تاجرا يتعامل بالربا، فمَرَّ ذات يوم بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكل الربا! فنكس رأسه، وقال: يا ربِّ! أفشيت سري إلى الصبيان.. فرجع، فجمع ماله كله، وقال: يا ربِّ! إني أسير، وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال، فأعتقني..! فلما أصبح؛ تصدق بالمال كله، وأخذ في العبادة، ثم مَرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا.. فقد جاء حبيب العابد..! فبكى، وقال: يا ربِّ! أنت تذم مرة، وتحمد مرة، وكله من عندك.] [جامع العلوم والحكم (بتصرف يسير)]
- - -
ولباس التقوى ذلك خير:
قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِك) [الأعراف:26]
(أنزلنا) أي: شرعنا لكم في التنزيل. واللباس قد يُطلق على ما يُواري السوأة وهو اللباس الداخلي. والرياش قد يُطلق على ما يستر الجسم كله ويُتجمل به، وهو ظاهر الثياب. كما قد يُطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال.
لقد امتن الله على عباده بما يسر لهم من اللباس الضروري، واللباس الذي المقصود منه الجمال، وهكذا سائر الأشياء، كالطعام والشراب والمراكب، والمناكح ونحوها، قد يسر الله للعباد ضروريها، ومكمل ذلك، وبين لهم أن هذا ليس مقصودا بالذات، وإنما أنزله الله ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته، ولهذا قال: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) من اللباس الحسي، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد، ولا يبلى ولا يبيد، وهو جمال القلب والروح. وأما اللباس الظاهري، فغايته أن يستر العورة الظاهرة، في وقت من الأوقات، أو يكون جمالا للإنسان، وليس وراء ذلك منه نفع.(1/100)
فلما بيَّن تعالى ساتر الظاهر وزينته، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) أي: خشية الله، أو الإيمان، أو السمت الحسن، والكل متقارب.
وأيضًا، فبتقدير عدم هذا اللباس، تنكشف عورته الظاهرة، التي لا يضره كشفها، مع الضرورة، وأما بتقدير عدم لباس التقوى، فإنها تنكشف عورته الباطنة، وينال الخزي والفضيحة.
قال المهايمي: لأن الظاهر محل نظر الخلق، والباطن محل نظر الحق، والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة. وقال القاشاني: لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع، لأنه أصل الدين وأساسه، كالحمية في العلاج.
قال الزمخشري: وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات، وخصف الأوراق عليها، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة
من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة، وبين التقوى.. كلاهما لباس. هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه. وهما متلازمان. فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه. ومَن لا يستحيي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري.. العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة!
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي -كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم لتدمير إنسانيتهم، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون- إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق.
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل.(1/101)
فإذا كان اللباس المادي فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، فإن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة. أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب؛ إنّه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس- لباس التقوى- خير من اللباس المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة؛ فالإنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. [تيسير الكريم الرحمن - محاسن التأويل - الظلال - تفسير الشعراوي]
- - -
التقوى من مفاتيح الرزق:
قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]
فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
فكل مَن اتقى الله تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة. ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة، وكما أن مَن اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا، فمَن لم يتق الله، وقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها.
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي: يسوق الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به. [التحرير والتنوير - تيسير الكريم الرحمن](1/102)
وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق وعموم الرخاء.. جاء في موضع: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة:65-66] وجاء في موضع: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:3]
وهذه القاعدة التي يقررها القرآن في مواضع متفرقة، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة؛ كما أنّ الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون.
قال أبو سعيد الخدري: ومَن يبرأ مِن حوله وقوته بالرجوع إلى الله؛ يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم، وقال أبو ذر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم"، وتلا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) فما زال يكررها ويعيدها.
وقال ابن عباس ب: مخرجًا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة.
قال الزجاج: إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله؛ فتح الله عليه إنْ كان ذا ضِيقة، ورزقه مِن حيث لا يحتسب. [الجامع لأحكام القرآن - الظلال]
وقد قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت، فقال: أنزلوها بالتقوى؛ في إشارة منه لقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96](1/103)
والله جل وعلا يضمن للخليقة جمعاء رزقها فضلا منه لا وجوبا عليه، ووعدا منه حقا، فهو لم يخلق الخلق ليضيعهم: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود:6]
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن رُوحَ القُدُسِ نَفثَ في رُوعِي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ رزقَها، ألا فاتقوا اللهَ وأجمِلوا في الطلبِ، ولا يحملنكم استبطاءُ الرزقِ أنْ تطلبوه بمعاصي اللهِ؛ فإنه لا يُدرَكُ ما عندَ اللهِ إلا بطاعتِهِ". [أخرجه الحاكم وابن حبان، وحسنه الألباني]
فإن العبد إذا أيقن أن الرزق بيد الله، وأنه آتيه لا محالة تفرغ لأداء المهمة التي خلقه الله من أجلها؛ وهي العبادة بمفهومها الشامل. وحينئذ يمكنه أن يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم؛ فلا يخشى فصلا من عمل، أو طردا من وظيفة، أو حرمانا من تجارة؛ فرزقه عند الله لا محالة.
وهو عندما يبذل سببا للحصول على الرزق؛ يبذله وهو عزيز النفس رافع الرأس، فليس لأحد منة عليه، بل المنة والفضل لله جميعا.
والله جل وعلا عندما قسم الأرزاق جعل بينها تفاوتا: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء:30]
ولو أعطى الله الخلق فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير) [الشورى:27](1/104)
إنه سبحانه وتعالى يرزق عباده بالقدر الذي فيه صلاحهم، فيُغني من لا يُصلحه إلا الغنى، ويَقْدِر على مَن لا يُصلحه إلا الفقر؛ بحكمته وعدله جل وعلا: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الشورى:12]
والرزق مكتوب للعبد وهو في بطن أمه: "إنَّ أحدَكم يُجمعُ خلقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مُضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليهِ مَلَكًا، ويُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه ورزقَه وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثمُ يُنفخُ فيه الروحُ". [رواه البخاري ومسلم]
فوالله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمعت الدنيا كلها، بقضِّها وقضيضها، وجيوشها ودولها، وعسكرها وملوكها وأرادوا أن يمنعوا رزقا قدره الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن يسقوك شربة ماء، لم يكتبْها الله لك، فإنك ستموت قبل هذه الشربة.
ومن أسباب الرزق: الاستغفار والتوبة: نعم.. التوبة والاستغفار، قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارا) [نوح:10-12]، قال القرطبي: "هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار"، وقال ابن كثير: "أي إذا تبتم واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم".
جاء رجل إلى الحسن فشكا إليه الجَدْب، فقال: استغفر الله، وجاء آخر فشكا الفقر،(1/105)
فقال له: استغفر الله، وجاء آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال: استغفر الله، فقال أصحاب الحسن: سألوك مسائل شتى وأجبتهم بجواب واحد وهو الاستغفار؟ فقال رحمه الله: ما قلت من عندي شيئا، إن الله يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً).
وقال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود: 3]
[هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله مَن فعل ذلك متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى؛ لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه.
والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى: الموت.] [أضواء البيان]
[وقد ابتلينا في العصر الحديث بالغفلة والشك، وذهبنا نظن أنَّ هذا الكلام ومثله إنما أريد به مجرد الترغيب والترهيب، لا أنه حقيقة واقعة، وقانون صادق.. ابتلينا بهذا فخسرنا كل شيء.. وقد كان سلفنا الصالح يفطنون إليها، ويوقنون بخيرها، ويستفتحون أبواب
السماء بسرها؛ فيسعفهم الله بما يريدون..(1/106)
رُوِي أنّ السماء أمسكت، والأرض أجدبت على عهد عمر بن الخطاب؛ فخرج مع الناس ليستسقي لهم، فاستغفر عمر ربه هنيهة، ثم عاد بالناس! فقالوا له: ما نراك استسقيت لنا؟! قال: لقد طلبت لكم الغيث بمجاديح(1)السماء التي يُستنزَل بها المطر][تذكرة الدعاة]
__________
(1) أَراد عمر - رضي الله عنه - إبطال الأنْواء والتكذيب بها؛ فجعل الاستغفار هو الذي يُستَسقَى به لا المجاديح والأَنواء التي كانوا يستسقون بها. والمَجاديحُ واحدها مِجْدَحٌ وهو نجم من النجوم كانت العرب تزعم أَنه مُمْطَر به. [لسان العرب](1/107)
ذكر ابن قُدامة في كتاب "التوابين" أنه: لحق بني إسرائيل قحطٌ على عهد موسى ؛، فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله! ادْعُ لنا ربك أنْ يسقينا الغيث. فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون. فقال موسى ؛: إلهي! اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضَّع، والبهائم الرُّتَّع، والمشايخ الرُّكَّع.. فما زادت السماء إلا تقشعًا، والشمس إلا حرارة.. فقال موسى: إلهي! إن كان قد خَلَق جاهي عندك؛ فبجاه النبي الأمي محمد الذي تبعثه في آخر الزمان.. فأوحى الله إليه: ما خَلَقَ جاهك عندي؛ وإنك عندي وجيه، ولكن فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي؛ فنادِ في الناس حتى يخرج مِن بين أظهركم؛ فبه منعتُكم..! فقال موسى: إلهي! وسيدي! أنا عبد ضعيف، وصوتي ضعيف؛ فأين يبلغ؛ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه: منك النداء، ومني البلاغ.. فقام مناديًا وقال: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة! اخرج مِن بين أظهرنا؛ فبك مُنعنا المطر..! فقام العبد العاصي، فنظر ذات اليمين وذات الشمال، فلم يَرَ أحدًا خرج؛ فعلم أنه المطلوب.. فقال في نفسه: إنْ أنا خرجتُ مِن بين هذا الخلق افتضحتُ على رءوس بني إسرائيل.. وإنْ قعدتُ معهم مُنعوا لأجلي! فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على فعاله، وقال: إلهي! وسيدي! عصيتُك أربعين سنة وأمهلتَني، وقد أتيتُك طائعًا؛ فاقبلني.. فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القِرَب.. فقال موسى: إلهي! وسيدي! بماذا سقيتَنا، وما خرج مِن بين أظهرنا أحد؟! فقال: يا موسى! سقيتُكم بالذي به مَنعتُكم! فقال موسى: إلهي! أرني هذا العبد الطائع. فقال: يا موسى! إني لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني؟!(1/108)
ومن أسباب الرزق ومفاتحه، التوكل على الله، الأحد الفرد الصمد، وفي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو أنكم كنتم تَوَكَّلون على اللهِ حقَّ توكلِه لرُزِقتُكم كما يُرزَقُ الطيرُ، تَغدو خِماصًا وتَروحُ بِطانًا". [رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني]
وقال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرا) [الطلاق:3].
والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6]، مع الأخذ بالأسباب. فإن التوكل عليه سبحانه مفتاح لكل خير.
مما يُستجلب به الرزق، صلة الرحم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن أحبَّ أنْ يُبسطَ له في رزقِه، ويُنْسَأَ له في أثرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه" [رواه البخاري].
وروى الطبراني من حديث أبي بكرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أعجلَ الطاعةِ ثواباً لَصِلَةُ الرحمِ، حتى إنَّ أهلَ البيتِ ليكونوا فَجَرةً، فتنمو أموالُهم، ويكثرُ عددُهم، إذا تواصلوا".
ومن أسباب الرزق الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]. وروى مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم أنفِقْ أُنفِقْ عليك". الله أكبر! ما أعظمه من ضمان بالرزق؛ أنفقْ أُنفقُ عليك.
من أسباب الرزق الإحسان إلى الضعفاء والفقراء، وبذل العون لهم، فهذا سبب في زيادة الرزق وهو أحد مفاتيحه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم". [رواه البخاري](1/109)
فمن رغب في رزق الله له، فلا ينسَ الضعفاء والمساكين، فإنما بهم يُرزق، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ابغوني في ضعفائكم فإنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم" [رواه النسائي وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني]. ابغوني: تقربوا إليَّ بالتقرب إليهم وتفقد حالهم، وحفظ حقوقهم، والإحسان إليهم قولا وفعلا واستنصارا.
يا فاطرَ الخَلْقِ البديعِ وكافلاً ... رزقَ الجميعِ سحابُ جُودِكَ هاطِلُ
يا مُسبِغَ البِرِّ الجزيلِ ومُسبِلَ الـ ... سترِ الجميلِ عميمُ طَوْلِكَ طائلُ
يا عالِمَ السِّرِّ الخفيِّ ومُنجِزَ الـ ... وعدِ الوفيِّ قضاءُ حُكمِكَ عادلُ
عظُمَتْ صفاتُكَ يا عظيمُ فَجَلَّ أنْ ... يُحصي الثناءَ عليكَ فيها قائلُ
ربٌّ يُرَبِّي العالمينَ بِبِرِّهِ ... ونَوالُهُ أبدًا إليهِم واصلُ
- - -
احفظ الله يحفظك:
[عن أبي العباس عبد الله بن عباس ب قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال لي: "يا غلام ُإني أعلمُكَ كلماتٍ.. احفظِ اللهَ يحفظْكَ، احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَكَ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللهُ لكَ، وإنْ اجتمعوا على أنْ يَضُروكَ بشيءٍ لم يَضُروكَ إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللهُ عليكَ، رُفِعَتْ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ". [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح](1/110)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "احفظ الله.." يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه.. فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه وقال عز وجل: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق:32-33] وفُسر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
ومما يجب حفظه: حفظ الرأس والبطن، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - المرفوع: "الاستحياءُ من اللهِ حقَّ الحياءِ أنْ تحفظَ الرأسَ وما وعى، وتحفظَ البطنَ وما حَوَى". [خرجه الإمام أحمد والترمذي] وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله، قال الله عز وجل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة:235] وقد جمع الله ذلك كله في قوله: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36] ويتضمن أيضا حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب.(1/111)
ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل: اللسان والفرج، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حَفِظَ ما بين لِحْيَيْهِ وما بينَ رِجليهِ دخلَ الجنةَ". [خرجه الحاكم]، وأَمَرَ اللهُ عز وجل بحفظ الفرج، ومدح الحافظين لها فقال: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:35] وقال أبو إدريس الخولاني: أول ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض حفظ فرجه، وقال: لا تضعه إلا في حلال.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "يحفظك.." يعني أنّ مَن حفظ حدود الله، وراعى حقوقه حفظه الله؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة:40]، وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم) [محمد:7](1/112)
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله.. قال الله عز وجل: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11] قال ابن عباس ب: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه. وقال عليّ - رضي الله عنه - : إنَّ مع كل رجل مَلَكين يحفظانه مما لم يُقدر، فإذا جاء القَدَر خَلَّيَا بينه وبينه، وإنَّ الأجل جُنَّة حصينة. وقال مجاهد: ما مِن عبد إلا وله مَلَك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما مِن شيء يأتيه إلا قال له: وراءك.. إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه. وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر بقال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم إني أسألُكَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهم إني أسألُكَ العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأهلي ومالي، اللهم استُرْ عوراتي، وآمِنْ رَوْعاتي، واحفظني مِن بينِ يديَّ ومِن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومِن فوقي، وأعوذُ بعظمتِكَ أنْ أُغتال مِن تحتي".
ومَن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.. وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو مُمَتَّع بقوته وعقله، فوثب يومًا وثبة شديدة؛ فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر؛ فحفظها الله علينا في الكبر.. وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخًا يسأل الناس، فقال: إن هذا ضَيَّع الله في صغره؛ فضيعه الله في كبره.(1/113)
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته، كما قيل في قوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82] أنهما حُفظا بصلاح أبيهما. قال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدنَّ في صلاتي من أجلك رجاء أنُ أُحفَظ فيك، ثم تلا هذه الآية: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)، وقال عمر بن عبد العزيز: ما مِن مؤمن يموت إلا حفظه الله في عَقِبه وعَقِب عَقِبه. وقال ابن المنكدر: إنَّ الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله؛ فما يزالون في حفظ من الله وستر.. ومتى كان العبد مشتغلا بطاعة الله فإنَّ الله يحفظه في تلك الحال.
وفي مسند الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت امرأةٌ في بيتٍ، فخرجتْ في سَرِيَّةٍ من المسلمين، وتركتْ ثنتي عشرةَ عَنْزَةً وصِيصِيَّتَها كانت تنسج بها. قال: ففقدتْ عنزةً لها وصِيصِيَّتَها، فقالت: يا ربِّ! إنك قد ضمنتَ لمن خرجَ في سبيلِكَ أنْ تحفظَ عليهِ، وإني قد فقدتُ عنزًا مِن غنمي وصِيصِيَّتي، وإني أنشدكَ عنزةً لي وصيصيتي.. قال: وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ شدةَ مناشدتِها ربَّها تبارك وتعالى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فأصبحتْ عنزُها ومثلُها"(1)[رواه أحمد، وصححه الألباني]
فمَن حفظ الله حفظه الله من كل أذى، قال بعض السلف: مَن اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومَن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله غنى عنه..
ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى كما جرى لـ"سفينة" مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كُسِر به المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد؛ فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق..! فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه، ثم رجع عنه..! ورُؤي إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان، وعنده حَيَّة في فمها طاقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ..!
__________
(1) وصيصيتُها هي الصنارة التي يُغزَل بها ويُنسج.(1/114)
وعكس هذا أنَّ مَن ضيع الله ضيعه الله؛ فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خُلُق خادمي ودابتي.
النوع الثاني من الحفظ وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته مِن الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته؛ فيتوفاه على الإيمان.. قال بعض السلف: إذا حضر الرجل الموت يُقال للمَلَك: شُم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن.. قال: شُم قلبه، قال: أجد في قلبه الصيام.. قال: شُم قدميه، قال: أجد في قدميه القيام.. قال: حفظ نفسه؛ فحفظه الله.
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمره أن يقول عند منامه: "إنْ قبضتَ نفسي فارحمها، وإنْ أرسلتها فاحفظها بما تحفظُ بهِ عبادَكَ الصالحين". وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو: "اللهم احفظني بالإسلامِ قائمًا، واحفظني بالإسلامِ قاعدًا، واحفظني بالإسلامِ راقدًا، ولا تُشمِتْ بي عدوًا حاسدًا". [رواه الحاكم في المستدرك، وحسنه الألباني]، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُوَدِّع مَن أراد سفرا، فيقول: "أستودِعُ اللهَ دينَكَ وأمانتَكَ وخواتيمَ عملِكَ". وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ اللهَ إذا استُودِعَ شيئًا حفظَهُ". [رواه أحمد، والنسائي، والطبراني، وصححه الألباني](1/115)
وفي الجملة فإنَّ الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحول بينه وبين ما يُفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها، وقد يكون كارهًا له، كما قال في حق يوسف ؛: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24] قال ابن عباس في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال:24] قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار. وقال الحسن وقد ذكر أهل المعاصي: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم. وقال ابن مسعود: إنَّ العبد ليهم بالأمر مِن التجارة والإمارة حتى ييسَّر له، فينظر الله إليه، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه؛ فإنه إنْ يسرتُهُ له أدخلتُه النار.. فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير بقوله: حسدني فلان، ودهاني فلان.. وما هو إلا فضل الله عز جل!
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "احفظ الله تجده تجاهك.."، وفي رواية: "..أمامك.." معناه أنَّ مَن حفظ حدود الله، وراعى حقوقه؛ وجد الله معه في كل أحواله حيث توجَّه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويُسدده: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128] قال قتادة: مَن يتقِ الله يكن معه، ومَن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل. وكتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد؛ فإنْ كان الله معك فمَن تخاف؟ وإنْ كان عليك فمَن ترجو؟
وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:46] وقول موسى ؛: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62] وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وهما في الغار: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما.."، (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40](1/116)
فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة، بخلاف المعية المذكورة في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة:7]؛ فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم، فهي مقتضية لتخويف العباد منه.
والمعية الأولي تقتضي حفظه وحياطته ونصره.. فمَن حفظ الله، وراعى حقوقه وجده أمامه ونجاه على كل حال؛ فاستأنس به، واستغنى عن خلقه، كما قيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك؟ فقال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس مَن ذكرني. وقيل لآخر: أما معك مؤنس؟ قال: بلى.. قيل: أين هو؟ قال: أمامي ومعي وخلفي وعن يميني وعن شمالي وفوقي.] [جامع العلوم والحكم (بتصرف)]
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قالت الملائكةُ: ربِّ! ذاك عبدُك يريدُ أن يعملَ سيئةً وهو أبصرُ به فقال: ارقبوه، فإنْ عملَها فاكتبوها له بمثلِها، وإنْ تركها فاكتبوها له حسنةً، إنما تركها من جرايَ". [رواه مسلم]
(من جرايَ): إنما تركها لله.. إنما تركها تعظيما لله.. إنما تركها خوفا من الله.. إنما تركها اجتنابا لعذابه وسخطه وناره يوم الدين.. (تركها من جرايَ)، وما أكثر عرض السيئات اليوم علينا صباح مساء.. فمَن ترك شيئا من هذه السيئات لله فإنه يؤجر على ذلك، قال العلماء: يؤجر على ترك السيئات إذا كان قادرا عليها وتركها لله.
- - -
لعلكم تتقون
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183](1/117)
للصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الردية المانعة لها من صحتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى في تتمة الآية: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الصومُ جُنَّةٌ". وأمر مَن اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة. وكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أكمل الهدي، وأعظم تحصيلاً للمقصود، وأسهله على النفوس.
ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة؛ لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنُقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة. فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صام تسعة رمضانات.
وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه، والمواظبة عليه، رجاء لرضاه تعالى؛ فإن الصوم يكسر الشهوة، فيقمع الهوى، فيردع عن مواقعة السوء.
ولعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات؛ فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق، والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء؛ فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح، كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف. ولعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين؛ لأن الصوم شعارهم، والله أعلم. [محاسن التأويل - مفاتيح الغيب](1/118)
فـ[غاية الصيام تقوى الله عز وجل. تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. تقوى صادقة دقيقة يترك فيها الصائم ما يهوى حذرًا مما يخشى. ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى شيء عجيب.
صام القلب واتقى إذا جرد العبودية لله وحده، خضع لجلاله، وسعى لقربه، وأنس بمناجاته. خلص من الشرك، وسلم من البدع، وتطهر من المعاصي. قلب تقي يرى الهوى والشهوة، والظن والبغي، والعداوة والبغضاء، والغل والحسد والجدل والِمراَء أمراضًا قلبية فتاكة تقتل الأفراد وتهلك الأمم. القلب التقي يرفضها ويأباها ويتقيها، وصيامه ينفيها ويجفوها.
قلب صائم متدين لله بالطاعة، مستسلم له بالخضوع والاستجابة، منقاد لتنفيذ الشرع في الأمر والنهي. عبودية لله خالصة لا يصرفه عنها شهوة ولا شبهة، ولا يشوش عليه فيها أمان ولا طمع، قلب قوي تقي، لله صلاته وصيامه ونسكه ومحياه ومماته.
وإذا صلح القلب صلحت الجوارح، فقامت بحق الطاعة وكفت عن الآثام. فالبطن محفوظ وما حوى، ترك الطعام والشراب والشهوة من أجل الله، تُقًى عالٍ يقي النفس جماح غرائزها، وإرادة مستعلية مستحكمة تأخذ أمر ربها بقوة، وتزدجر عن النواهي باستسلام.] [من خطبة لفضيلة الشيخ/ صالح بن حميد]
قال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله، فمَن رُزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير.(1/119)
ويتحقق قوله تبارك وتعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إذا تقرب العباد إليه سبحانه [بترك ما حرم الله في كل حال؛ من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بهِ فليسَ للهِ حاجةً في أنْ يَدَعَ طعامَه وشرابَه". [رواه البخاري]، وفي حديث آخر: "ليس الصيامُ مِنَ الطعامِ
والشرابِ إنما الصيامُ من اللغوِ والرَّفَث". [رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه الألباني]
قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكن في السمعِ منى تصاونٌ ... وفى بصري غضٌّ وفي مَنطقي صمتُ
فحظي إذًا من صوميَ الجوعُ والظما ... وإنْ قلتُ إني صمتُ يومي فما صمت ُ
وقال النبي: "رُبَّ صائمٍ حظُّه مِن صيامِه الجوعُ والعطشُ، ورُبَّ قائمٍ حظُّه مِن قيامِه السهرُ". [رواه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة، وقال الألباني: حسن صحيح]
وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات؛ فمَن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة مَن يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل؛ وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور؛ بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يَبطل بارتكاب ما نُهي عنه فيه لخصوصه؛ دون ارتكاب ما نُهي عنه لغير معنى يختص به. هذا هو قول جمهور العلماء.(1/120)
ولهذا المعنى -والله أعلم- ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل؛ فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارة إلى أن مَن امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل؛ فإنه محرم بكل حال، لا يباح في وقت من الأوقات. [لطائف المعارف (ملخصًا)]
- - -
حفظ الجوارح من تمام التقوى
القلب ملك الأعضاء
قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36]
الفؤاد هو القلب، وهو لهذه الأعضاء كالملِك المتصرف في الجنود؛ فكلها تحت مشيئته وقهره؛ تكتسب منه الزيغ والاستقامة، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغَةً إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّهُ، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كلُّهُ؛ ألا وهي القلبُ". [متفق عليه]
يقول د. خالد الجبير: [وكما أن القلب لأعضاء الجسم هو الملك المتصرف فيها؛ إذا صلح معنويًا صلحت باقي أعضاء الجسم وجوارحه، كذلك إذا مرض القلب عضويًا، وأصيب بأحد الأمراض التي تؤثر على وظيفته؛ فإن باقي أعضاء الجسم الأخرى تتأثر، فالرئة تمتلئ بالماء وتتأثر وظيفتها، ويتضخم الكبد وتتأثر وظيفته، وكذلك الكلى قد تتوقف، وتقل الهمة، وتزيد الغمة، وتتورم الأطراف، وينتفخ البطن، ويجهد المخ.. إذًا هو تأثير القلب؛ الذي هو فعلاً ملك الأعضاء، والمسيطر على صحتها؛ إذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت.] [من محاضرة أمراض القلوب]
ومن هنا كان الحرص على سلامة القلب؛ فإنه دليل النجاة (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم) [الشعراء: 88-89](1/121)
قال الفخر الرازي: [في هذا الاستثناء وجوه: أحدها: أنه إذا قيل لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: مالُهُ وبنوه سلامة قلبه؛ تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك، فكذا في هذه الآية. وثانيها: أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل (المال والبنين) في معنى (الغنى)؛ كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى مَن أتى الله بقلب سليم؛ لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. وثالثها: أن نجعل (مَن) مفعولاً لـ(ينفع)، أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله؛ حيث أنفقه في طاعة الله تعالى، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين، ويجوز على هذا (إلا مَن أتى الله بقلب سليم) مِن فتنة المال والبنين.
أما (السليم) فالمراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة؛ وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال، ومرضه عبارة عن زوال أحد تلك الأمور؛ فكذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل، ومرضه عبارة عن زوال أحدهما.. فقوله: (إلا مَن أتى الله بقلب سليم) أنْ يكون خاليًا عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها. فإن قيل: فظاهر هذه الآية يقتضي أن مَن سلم قلبه كان ناجيًا، وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد.. جوابه: أن القلب مؤثر، واللسان والجوارح تبع؛ فلو كان القلب سليمًا لكانا سليمين لا محالة، وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب.] [مفاتيح الغيب]
[والقلب السليم هو الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، وهو ضد المريض والسقيم والعليل. وقد اختلفت العبارات في معنى القلب السليم. والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم مِن كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومِن كل شبهة تعارض خبره؛ فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/122)
فالقلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة، وتوكلاً وإنابة، وإخباتًا وخشية ورجاءً.. وخلص عمله لله؛ فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله.. ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل مَن عدا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فيعقد قلبه معه عقدًا محكمًا على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب؛ وهي العقائد، وأقوال اللسان؛ وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب؛ وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح.. فيكون الحاكم عليه في ذلك كله؛ هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال بعض السلف: ما مِن فعلة وإنْ صغرت، إلا يُنشر لها ديوانان: لِمَ..؟ وكيف..؟
أي: لِمَ فعلتَ؟ وكيف فعلتَ؟ فالأول: سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس، أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل، أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه..؟ ومحل هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك؟؟ والثاني: سؤال عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك التعبد؛ أي: هل كان ذلك العمل مما شرعتُه لك على لسان رسولي، أم كان عملاً لم أشرعه، ولم أرضه؟؟
فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة؛ فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما.. وطريق التخلص من السؤال الأول بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع.. فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضُمنت له النجاة والسعادة.] [إغاثة اللهفان (بتصرف يسير)](1/123)
فـ[القلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات يستخدمها القلب، ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، والصانع للآلة.. فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقًا بغير الله، وهو المطالَب، وهو المخاطَب، وهو المعاتَب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله؛ فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه، وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره.. وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه؛ إذ كل إناء ينضح بما فيه.. وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه.. ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل؛ إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم؛ فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين أصبعين مع أصابع الرحمن، وأنه كيف يهوي مرة إلى أسفل السافلين، وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين..] [الإحياء](1/124)
يقول د. خالد الجبير: [اعلموا أنَّ الطاعات لازمة لحياة قلب العبد لزوم الطعام والشراب لحياة الجسد، والمعاصي بمثابة السموم التي تُفسد القلب كما تفسد الأطعمة المسمومة الجسد، وقد تُميته. وكما يأخذ العبد الأسباب لحياة جسده من المداومة على تناول الأغذية النافعة في أوقات متقاربة، وإذا تبين له أنه تناول طعامًا مسمومًا عن طريق الخطأ أسرع بتخليص نفسه منه؛ فحياة قلب العبد أولى بالاهتمام من جسده، وهذا لايعني أن نترك الجسد يمرض ولا نبحث عن علاجه. ولكن كما أننا نهتم بعلاج الجسد، يجب أن نهتم بعلاج القلب على قدم المساواة مع الجسد؛ لأن العبد إن مات وجسده مريض وهو صابر محتسب؛ فإن مصيره إلى ماذا؟ مصيره بأمر الله ورحمته إلى الجنة.. أما إن مات وقلبه مريض ولم يعالجه، ومات قلبه قبل أن يموت جسده؛ فإن مصيره إلى النار إنْ مات على ذلك..
إنني أتعجب لكثيرٍ من الناس عندما يصابون بمرض بسيط في الجسد كوخزات بسيطة في القفص الصدري، أو ألم بسيط في القلب؛ فإنه يقلق، ويبحث بأسرع وقت عن أمهر الأطباء.. ولكن إذا مرض القلب في معصية؛ كم منا يبادر إلى علاج قلبه بالتوبة والندم؟!
إخواني! إذا كانت حياة الجسد تؤهل لمعيشة غير منغصة بالمرض في الدنيا؛ فإن حياة القلب تؤهل لحياة طيبة في الدنيا، وسعادة غير محدودة في الآخرة..
قال عبدالله بن المبارك:
رأيتُ الذنوبَ تُميتُ القلوبَ وقد يُورِثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتَركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفسِكَ عِصيانُها] أ.هـ (بتصرف بسيط)
حفظ العين
[(1/125)
جعل الله سبحانه العين مرآة القلب، فإذا غَضَّ العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.. ويتبين الأمر بضرب مثل مطابق للحال، وهو أنك إذا ركبتَ فرسًا جديدًا فمالت بك إلى درب ضيق لا يُنفِذ، ولا يمكنها تستدير فيه للخروج، فإذا هَمَّتْ بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فَصِحْ بها، ورُدَّها إلى وراء عاجلاً قبل أنْ يتمكن دخولها؛ فإنْ رددتَها إلى ورائها سَهُل الأمر، وإنْ توانيتَ حتى وَلَجَتْ، وسُقْتَها داخلاً، ثم قمتَ تجذبها بِذَنَبِها عَسُرَ عليك، أو تَعَذَّرَ خُروجُها..! فهل يقول عاقل: إنَّ طريق تخليصها سوقها إلى داخل؟!
فكذلك النظرة إذا أثَّرَتْ في القلب.. فإنْ عَجَّل الحازمُ، وحَسَمَ المادةَ مِن أوَّلِها سَهُل علاجه، وإنْ كرَّرَ النظر، ونَقَّبَ عن محاسن الصورة، ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه؛ تمكنت المحبة.. وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة؛ فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب، ويُعرِض عن الفكر فيما أُمِرَ به؛ فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويُلقِي القلب في التلف.. والسبب في هذا أنّ الناظر التذَّتْ عينُه بأول نظرة؛ فطلبت المعاودة، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة.. ولو أنه غَضَّ أولاً لاستراح قلبه وسلم..
وتأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "النظرةُ سهمٌ مسمومٌ مِن سهامِ إبليسَ" فإنَّ السهم شأنه أن يسري في القلب؛ فيعمل فيه عمل السم الذي يُسقاه المسموم، فإنْ بادر استفرغه؛ وإلا قتله ولا بد..!
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإنْ لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمَى في الحشيش اليابس؛ فإنْ لم تحرقه كله أحرقت بعضه، كما قيل:
كلُّ الحوادثِ مَبدأُها مِنَ النظرِ.. ومُعظَمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشَّرَرِ(1/126)
كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلبِ صاحبِها فَتْكَ السهامِ بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ
والمرءُ ما دامَ ذا عَيْنٍ يُقَلِّبُها في أعْيُنِ الغِيدِ مَوقوفٌ على الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَتَهُ.. لا مَرحبًا بسرورٍ عادَ بالضَّررِ ](1)
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فالنظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد؛ ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
ومَن أطلق لحظاته دامت حسراته. قال علي بن أبي طالب: العيون مصائد الشيطان.
عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثةٌ لا ترى أعينُهم النارَ: عينٌ حَرَسَت في سبيلِ اللهِ، وعينٌ بَكَت مِن خشيةِ اللهِ، وعينٌ كَفَّت عن مَحارمِ اللهِ". [رواه الطبراني ورواته ثقات، وقال الألباني: حسن لغيره]
وفي غض البصر عدة منافع؛ منها:
- أنه يورث القلب أنسًا بالله؛ فإن إطلاق البصر يفرق القلب، ويشتته، ويبعده من الله، ويورث الوحشة بين العبد وربه.
يقول أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار محلاً للقاذورات؛ فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه، والأنس والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
- أنه يُلبِس القلب نورًا، كما أن إطلاقه يُلبسه ظُلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى آية النور عقيب الأمر بغض البصر، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30]، ثم قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح) [النور: 35] أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن؛ الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
__________
(1) روضة المحبين (بتصرف)(1/127)
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان.
- أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، و الصادق والكاذب. كان "شجاع الكرماني" يقول: مَن عمَّر ظاهره باتباع السنه، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال؛ لم تخطئ له فراسة. وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة.
ومَن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فإذا غض العبد بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضًا عن حبس بصره لله، ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة.
- أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بها. وإطلاق البصر ينسيه ذلك، ويحول بينه وبينه؛ فينفرط عليه أمره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه.
سئل أحد المعاصرين لـ"عتبة الغلام":(1)أتعرف أحدًا يمشي في الطريق مشتغلاً بنفسه؟ قال: ما أعرف إلا رجلاً؛ الساعة يدخل عليكم. فلما دخل عتبة؛ وطريقه على السوق، قال: يا عتبة! مَن تَلَقَّاك في الطريق؟ قال: ما قابلتُ أحدًا..!
وكان الربيع بن خثيم من شدة غضه لبصره وإطراقه؛ يظن بعض الناس أنه أعمى!
وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود - رضي الله عنه - عشرين سنة، فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود: صديقك الأعمى قد جاء! فكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يضحك من قولها. وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا نظر إليه يقول: وبشِّر المخبتين.. أما والله لو رآك محمد - صلى الله عليه وسلم - لفرح بك.
- - -
حفظ الأذن
قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36]
__________
(1) سمي بـ"الغلام" لجده واجتهاده في العبادة منذ صغره.(1/128)
إنْ كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها: السمع والبصر، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب، السمع أولاً، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر، فالإنسان بمجرد أنْ يُولَد تعمل عنده حاسة السمع، أما البصر فإنه يتخلف عن السمع لعدة أيام من الولادة، إذن: فهو أسبق في أداء مهمته، هذه واحدة.
الأخرى: أن السمع هو الحاسَّة الوحيدة التي تُؤدي مهمتها حتى حال النوم، وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم.
وقد أعطانا الخالق سبحانه صورة واضحة لهذه المسألة في قصة أهل الكهف، فلما أراد سبحانه أن يناموا هذه السنين الطوال ضرب على آذانهم وعطل حاسة السمع لديهم، وإلا لَمَا تمكَّنوا من النوم الطويل، ولأزعجتهم الأصوات من خارج الكهف. فقال تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) [الكهف:11]
ولم يسبق البصر السمع إلا في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي: (رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا.. ) [السجدة:12]، والحديث هنا ليس عن الدنيا، بل عن الآخرة، حيث يفزع الناس من هَوْلها فيقولون: (رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحا) [السجدة:12] لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا.
فالسمع أول الحواس، وهو أهمها في إدراك المعلومات، حتى الذي يأخذ معلوماته بالقراءة سمع قبل أن يقرأ، فتعلَّم أولاً بالسماع ألف باء، فالسمع أولاً في التعلُّم، ثم يأتي دَوْر البصر.
والذي يتتبع الآيات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر، مثل قوله سبحانه: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ) [السجدة:9]، إلا في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36](1/129)
لماذا؟ وما الحكمة من إفرادها هنا بالذات؟ وقبل أن نُوضِّح الحكمة هنا يجب أن نعي أن المتكلم هو الله تعالى، وما دام المتكلم هو الله فلا بُدَّ أن تجد كل كلمة دقيقة في موضعها، بليغة في سياقها.
فالسمع جاء بصيغة الإفراد؛ لأنه لا يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع، فإذا حدث الآن صوت نسمعه جميعا، فهو واحد في جميع الآذان.
أما البصر فهو خلاف ذلك؛ لأن أمامنا الآن مرائيَ متعددة ومناظر مختلفة، فأنت ترى شيئا، وأنا أرى شيئا آخر، فَوحدة السمع لا تنطبق على البصر؛ لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة الجمع.
أما في قوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ..) [الإسراء:36] فقد ورد البصر هنا مفردا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المسئولية؛ مسئولية كل إنسان عن سَمْعه وبصره، والمسئولية أمام الحق سبحانه وتعالى فردية لا يُسأل أحد عن أحد، بل يُسأل عن نفسه فحَسْب، فناسب ذلك أنْ يقول: السمع والبصر؛ لأنه سيُسأل عن بصر واحد وهو بصره.
فالإنسان إذن مسئول عن سَمْعه وبصره وفؤاده من حيث التلقِّي، تلقّي القضايا العلمية التي سنسير عليها في حركة حياتنا، وكذلك من حيث الإعطاء، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للأذن: لا تسمعي إلا خيرا، ولا تتلقي إلا طيبا، ويا مُربِّي النشء! لا تُسْمِعه إلا ما يدعو إلى فضيلة، ولا تعط لأذنه إلا ما يُصلح حياته ويُثريها. ويقول للعين: لا ترَىْ إلا الحلال لا يهيج غرائزك إلى الشهوات، ويا مُربِّي النشء! (43) عنه ما يثير الغرائز ويفسد الحياة.. وبذلك نربي في المجتمع المعلومات الصحيحة التي تنبني عليها حركة حياته. [تفسير الشعراوي]
وحفظ الأذن يتحقق بتنزيه السمع عن الغيبة والنميمة، والفُحش، وقول الزور، واللهو، والغناء المحرم، ومزامير الشيطان، وكل ما هو باطل.(1/130)
والغناء في شهر رمضان يخرج شهر القرآن من وصفه؛ [فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغي؛ فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح؛ فهو والخمر رضيعا لُبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان؛ فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه.. عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يُفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تُنسخ، وهو جاسوس القلب وسارق المروءة، وسوس العقل يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخيل؛ فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة.. فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن؛ فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه..
قال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والحماقة في قوم.
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش. وإدمانه يُثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية.
قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب.
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن؛ فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها يُنبت النفاق في القلب كما يَنبت العشب على الماء.] [إغاثة اللهفان](1/131)
وليحذر الذين يأخذون بالرُّخَص في جُلِّ شئونهم؛ قال سليمان التيمي /: لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله.
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ما منكم مِن أحد إلا سيخلو الله عز وجل به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا ابن آدم! ما غَرَّك بي؟ يا ابن آدم! ما عملتَ فيما علمتَ؟ يا ابن آدم! ماذا أجبتَ المرسلين؟ يا ابن آدم! ألم أكن رقيبًا على عينك؛ وأنت تنظر بها إلى ما لا يحل لك؟ ألم أكن رقيبًا على أذنيك؟ وهكذا حتى عَدَّ سائر أعضائه.
- - -
حفظ اللسان
[اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة؛ فإنه صغير جِرْمُه، عظيم طاعته وجُرْمُه! إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان.
ومَن أطلق عَذَبَةَ اللسان،(1)وأهمله مَرخِيّ العَنان سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جُرُف هار؛ إلى أنْ يضطره إلى البوار..
ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا مَن قيده بلجام الشرع؛ فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله أو آجله.
وعِلم ما يُحمَد فيه إطلاق اللسان أو يُذَم غامض عزيز، والعمل بمقتضاه على مَن عرفه ثقيل عسير..! وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان؛ فإنه لا تعب في إطلاقه، ولا مؤنة في تحريكه! وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله، والحذر من مصائده وحبائله.. وإنه أعظم آلة للشيطان في استغواء الإنسان.] [الإحياء]
__________
(1) عَذَبَة اللسان: طَرَفُه الدقيق.(1/132)
والكلام ترجمان يُعبِّر عن مستودعات الضمائر، ويُخبِر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يُقدَر على رد شوارده، فحق على العاقل أنْ يحترز من زلَلِه بالإمساك عنه أو بالإقلال منه.. فـ[لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة فى دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح أو فائدة، أم لا؟ فإنْ لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإنْ كان فيها ربح؛ نظر: هل تفوته بها كلمة هي أربح منها؛ فلا يضيعها بهذه. وإذا أردت أن تستدل على ما في القلوب فاستدل عليه بحركة اللسان؛ فإنه يطلعك على ما في قلب صاحبه.
قال يحيى بن معاذ: "القلوب كالقدور تغلى بما فيها، وألسنتها مغارفها،. فانظر الرجل حين يتكلم؛ فإن لسانه يغترف لك به مما فى قلبه؛ حلو وحامض وعذب وأُجاج وغير ذلك، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه".. أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته؛ كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه. فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك.
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز مِن أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغيرذلك؛ ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه؛ حتى يُرَى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة؛ وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقِي لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب! وكم ترى مِن رجل متورع عن الفواحش والظلم؛ ولسانه يفري فى أعراض الأحياء والأموات ولا يبالى مايقول.. فإن أيسر حركات الجوارح حركة اللسان وهى أضرها على العبد.
واختلف السلف والخلف: هل يُكتب جميع ما يلفِظ به، أو الخير والشر فقط على قولين؛ أظهرهما الأول. وقال بعض السلف: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان مِن ذكر الله وما والاه.(1/133)
والكلام أسيرك؛ فإذا خرج مِن فِيكَ صرتَ أسيره، واللهُ عند لسان كل قائل: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد) [ق: 18]
وفى اللسان آفتان عظيمتان؛ إنْ خلص العبد من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت. وقد يكون كل منهما أعظم إثما مِن الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله، مراءٍ مداهن؛ إذا لم يخف علي نفسه.. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاصٍ لله.. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين. وأهل الوسط -وهم أهل الصراط المستقيم- كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه، ضائعة بلا منفعة؛ فضلا أنْ تضره في آخرته.. وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال؛ فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال؛ فيجد لسانه قد هدمها مِن كثرة ذكر الله عز وجل، وما اتصل به.] [الجواب الكافي (ملخصًا)]
ولما كانت آفات اللسان كثيرة، ولها في القلب حلاوة، ولها بواعث من الطبع؛ فلا نجاة من خطرها إلا بالصمت، سأل عقبة بن عامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما النجاة؟ قال: "أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليَسَعْكَ بيتُكَ، وابكِ على خطيئتِكَ" [رواه الترمذي وابن أبي الدنيا والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره]
قال الإمام النووي في "الأذكار": اعلم أنه لكلّ مكلّف أن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة فالسنّة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلُها شيء.
قال أبو الدرداء: لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: منُصْت واعٍ، أو متكلم عالم.
وروي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: كلِّم الناس قليلاً، وكلِّم ربك كثيرًا؛ لعل قلبك يرى الله تعالى.(1/134)
قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: ما صلح منطق رجل إلا عُرف ذلك في سائر عمله.
قال سفيان الثوري: أول العبادة الصمت، ثم طلب العلم، ثم العمل به، ثم حفظه، ثم نشره.
قال علي بن بكار: جعل الله تعالى لكل شيء بابين، وجعل للسان أربعة أبواب: فالشفتان مصراعان، والأسنان مصراعان.
وقال بعضهم: تعلم الصمت، كما تتعلم الكلام؛ فإنْ كان الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك.
قال وهب بن منبه: في حكمة آل داود: حق على العاقل أن يكون عارفًا بزمانه، حافظًا للسانه، مُقبلاً على شأنه.
وكم ببن عبد يسكت تصاونًا عن الكذب والغيبة. وبين عبد يسكت لاستيلاء سلطان الهيبة عليه!
قال الغزالي في "الإحياء": [فإنْ قلتَ: هذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان؛ من الخطأ والكذب، والغيبة والنميمة، والرياء والنفاق، والفحش والمراء، وتزكية النفس، والخوض في الباطل، والخصومة، والفضول والتحريف، والزيادة والنقصان، وإيذاء الخلق وهتك العورات.
فهذه آفات كثيرة، وهي لا تثقل على اللسان، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان؛ فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب؛ فإن ذلك من غوامض العلم. ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة؛ فلذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار، والفراغ للفكر والذكر والعبادة، والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة.] أ.هـ (ملخصًا)
اغتنِمْ ركعتينِ زُلفَى إلى اللهِ إذا كنتَ فارغًا مستريحَا
وإذا ما هممتَ بالنُّطْقِ بالباطلِ فاجعَلْ مكانَهُ تسبيحَا
إنّ بعضَ السكوتِ خيرٌ مِنَ النُّطْقِ وإنْ كنتَ بالكلامِ فصيحَا
- - -
من بديع أقوالهم في حفظ اللسان:
عن مالك بن دينار عن الأحنف بن قيس قال: قال عمر بن الخطاب: يا أحنف! مَن كثر كلامه كثر سَقطه، ومَن كثر سقطه قَلَّ حياؤه، ومَن قلّ حياؤه قل ورعه، ومَن قلّ ورعه مات قلبه.(1/135)
قال أبو الدرداء: كفى بك كذبًا أن لا تزال محدِّثًا؛ إلا حديثًا في ذات الله تبارك وتعالى.
عن كعب قال: العافية عشرة أجزاء؛ تسعة منها في السكوت.
قال عمر بن عبد العزيز: مَن لم يعد كلامه مِن عمله كثرت خطاياه.
قال الفضيل بن عياض: شيئان يقسيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
قال عطاء: فضول الكلام ما عدا تلاوة القرآن، والقول بالسنة عند الحاجة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تنطق في أمر لا بدَّ لك منه في معيشتك، أما يستحيي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره أن يرى أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه؟! ثم تلا: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ) [الانفطار:10-11] و(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد) [ق:17-18]
قال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك؛ فإنما جُعل لك أذنان وفم واحد؛ لتسمع أكثر مما تتكلم.
قال عمرو بن العاص: زلّة الرِّجْل عظم يُجبَر، وزلّة اللسان لا تُبقِي ولا تذر. وصدق القائل:
يُصابُ الفتى مِن عَثْرَةٍ بلسانِهِ ... وليس يُصابُ المرءُ مِن عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فعَثْرَتُهُ في القولِ تُذهِبُ رأسَهُ ... وعَثْرَتُهُ بالرِّجْلِ تَبْرَأُ على مَهْلِ
قال ابن مسعود: والله الذي لا إله غيره؛ ما شيء أحق بطول سجْن من لسان.
قال الإمام النووي في "الأذكار": بلغنا أن قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانية آلاف عيب، ووجدتُ خصلة إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها! قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.
قال الأوزاعي: ما ابتُلِيَ أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه.
قيل في منثور الحكم: إذا تم العقل نقص الكلام.
- - -
أقباس نورانية من حرص السلف على حفظ اللسان:(1/136)
ذكر الإمام مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخل على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو يجبذ(1)لسانه، فقال له عمر: مه! غفر الله لك! فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد!!
قال بعض الصحابة لخادمه يومًا: هات لى السفرة نعبث بها! ثم قال: أستغفر الله؛ ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام.
ذكر الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" عن سعيد الجريري، عن رجل قال: رأيت ابن عباس آخذًا بثمرة لسانه وهو يقول: ويحك.. قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم! فقال له رجل: يا ابن عباس! ما لي أراك آخذًا بثمرة لسانك؛ تقول: كذا وكذا؟! قال: إنه بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه.
قال سفيان الثوري يومًا لأصحابه: أخبروني لو كان معكم مَن يرفع الحديث إلى السلطان؛ أكنتم تتكلمون بشيء؟ قالوا: لا.. قال: فإنَّ معكم مَن يرفع الحديث إلى الله عز وجل.
قال رجل لعمرو بن عبيد: إنّي لأرحمك مما يقول النّاس فيك. قال: فما تسمعني أقول فيهم؟ قال: ما سمعتك تقول إلا خيرًا.. قال: فإيَّاهم فارحم.
عن إبراهيم التيمي قال: أخبرني مَن صحب الربيع بن خُثَيْم عشرين عامًا فلم يسمع منه كلمة تعاب.
ذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" عن جرير بن حازم قال: ذكر ابن سيرين رجلاً، فقال: ذلك الرجل الأسود! ثم قال: أستغفر الله؛ إني أراني قد اغتبته.
قال المعلى بن زياد: قال مُوَرِّق العِجْلي: أمرٌ أنا في طلبه منذ عشر سنين، ولست بتارك طلبه! قال: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني.
قال عبد الله بن أبي زكريا: عالجت الصمت عشرين سنة فلم أقدر منه على ما أريد! وكان لا يدع يعاتب في مجلسه أحد؛ ويقول: إنْ ذكرتم الله أعنَّاكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم.
__________
(1) جبذ لغة في (جذب) أي أمسكه بشدة.(1/137)
قيل لبكر بن عبد الله المزني: إنك تطيل الصمت! فقال:إن لساني سبعٌ، إن تركته أكلني.
سئل عمر بن عبد العزيز عن قتلة عثمان، فقال: تلك دماء كفَّ الله عنها يدي، فأنا أكره أن أغمس فيها لساني.
جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: إنك تغتابني! فقال الحسن: ما بلغ قدرك عندي أن أحكِّمك في حسناتي.
قال عبد الله بن المبارك: لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ لأنهما أحق بحسناتي.
كان عبد الله بن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا؛ فأجهدني! فكنت أغتاب وأصوم.. أغتاب وأصوم.. فنويت أني كلما اغتبت إنسانًا أن أتصدق بدرهم؛ فمِن حب الدراهم تركت الغيبة.
قال بكار: ما رأيتُ عبد الله بن عون يمازح أحدًا و لا يماري أحدًا. كان مشغولا بنفسه.. وما رأيته شاتمًا أحدًا قط؛ عبدًا، ولا أمَة، ولا دجاجة، ولا شاة.. ولا رأيت أحدًا أملك للسانه منه، وكان إذا خلا في منزله إنما هو صامت، لا يزيد على: الحمد لله ربنا.
وقال سعيد بن عامر: ما ساد ابن عون الناس أنْ كان أتركهم للدنيا، ولكن ابن عون إنما ساد الناس بحفظ لسانه.[صفة الصفوة]
- - -
اللسان ثغر الشيطان الأعظم:
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُهُ، ولا يستقيمُ قلبُهُ حتى يستقيمَ لسانُهُ، ولا يدخلُ الجنةَ حتى يأمنَ جارُهُ بَوائقَهُ". [رواه أحمد، وابن أبي الدنيا في "الصمت"، وحسنه الألباني]
يقول ابن القيم: [يقول الشيطان لأبنائه: قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك؛ فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالوا بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.(1/138)
والثاني: السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لك أخرس ، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح: "المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس"؟!
فالرباط.. الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.
واعلموا يا بَنيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِك منه بني آدم، وأكبهم منه على مناخرهم في النار؛ فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر!!
وأُوصيكم بوصية فاحفظوها: لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع؛ فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعوانا على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب واقعدوا لهم كل مرْصد، أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين) [الأعراف: 16-17]؟ أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرُقه كلها ، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره؛ حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها؟] [الجواب الكافي]
وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: "الفم و الفرج" [قال الترمذي: حديث حسن صحيح](1/139)
وسأل معاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال: "ألا أخبرك بِمِلاكِ ذلك كلِّه؟" قال: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه ثم قال: "كُفَّ عليكَ هذا". فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يا معاذ؛ وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوهِهِم -أو على مَناخِرِهِم- إلا حصائدُ ألسنتِهم". [قال الترمذي: حديث حسن صحيح].
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: إذا أصبح ابنُ آدمَ فإنَّ أعضاءَه تُكَفِّرُ اللسانَ؛ تقول: اتقِ اللهَ فينا؛ فإنكَ إنِ استقمتَ استقمنا، وإنِ اعوججتَ اعوججنا.
- - -
وقولوا قولا سديدا:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]
تقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإيمان. والقول: الكلام الذي يصدر من فم الإنسان يعبر عما في نفسه. والسديد: الذي يوافق السداد. والسداد: الصواب والحق، فشمل القولُ السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة؛ مثل ابتداء السلام، وقول المؤمن للمؤمن الذي يُحبه: إني أحبك.
والقول يكون بابا عظيما من أبواب الخير، ويكون كذلك من أبواب الشر. فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القول السديد. وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأئمة الفقه. ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح. ومن القول السديد الأذان والإقامةُ، قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب) [فاطر:10]، والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/140)
فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيّئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله.
قال القاشاني: السداد في القول، الذي هو الصدق والصواب، هو مادة كل سعادة، وأصل كل كمال؛ لأنه من صفاء القلب، وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات، وهو وإن كان داخلاً في التقوى المأمور بها، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى، لكنه أفرد بالذكر للفضيلة، كأنه جنس برأسه، كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.
ولما في التقوى والقول السديد من وسائل الصلاح جُعل للآتي بهما جزاءٌ بإصلاح
الأعمال ومغفرة الذنوب. فقال تعالى: (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي: يكون ذلك سببًا لصلاحها، وطريقًا لقبولها، لأن استعمال التقوى، تُتقبَّل به الأعمال كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، ويُوفَّق فيه الإنسان للعمل الصالح، ويصلح الله الأعمال أيضًا بحفظها عما يفسدها، وحفظ ثوابها ومضاعفته، كما أن الإخلال بالتقوى، والقول السديد سبب لفساد الأعمال، وعدم قبولها، وعدم تَرَتُّبِ آثارها عليها.
(وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أيضًا (ذُنُوبَكُمْ) التي هي السبب في هلاككم، فالتقوى تستقيم بها الأمور، ويندفع بها كل محذور.
والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم؛ فإنكم إنْ فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلب من تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها.
فالله يرعى المسددين، ويقود خطاهم، ويُصلح لهم أعمالهم جزاء التصويب والتسديد. والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح، ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاءون. ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير.
((1/141)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا): والطاعة بذاتها فوز عظيم. فهي استقامة على نهج الله. والاستقامة على نهج الله مريحة مُطَمْئِنَة. والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه. وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله مِن خَلق الله يتجاوب معه ويتعاون؛ كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله مِن خَلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه!
فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة. فضل مِن كرم الله وفيضه بلا مقابل. والله يرزق مَن يشاء بغير حساب. [التحرير والتنوير - تيسير الكريم الرحمن - محاسن التأويل - في ظلال القرآن]
تكلَّمْ وسَدِّدْ ما استطعتَ فإنما ... كلامُكَ حَيٌّ والسكوتُ جَمادُ
فإنْ لم تَجِدْ قولاً سديدًا تقولُهُ ... فصمتُكَ عن غيرِ السدادِ سَدادُ
اكسُ ألفاظك أحسنها:
وقد بلغت العناية بحفظ اللسان أن علماء "الجرح والتعديل"(1)لم يبيحوا لأنفسهم أن يخوضوا في أعراض الرجال حتى وإن كان بعضهم قد اشتهر بالكذب؛ فهذا "المزني" يقول: سمعني "الشافعي" يومًا وأنا أقول: فلان كذاب. فقال لي: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظك أحسنها؛ لا تقل: كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء.
__________
(1) الجرح: هو الطعن في راوي الحديث بما يسلب عدالته أو ضبطه. وله ألفاظ مخصوصة مثل: لين، ضعيف، متروك الحديث، كذاب...الخ. والتعديل: هو توثيق الراوي ووصفه بالعدالة والضبط. وقد أجمع المحَدِّثون على جواز ذكر مساوئ رواة الأحاديث، والتفصيل في أحوالهم دون حرج لمصلحة حفظ الحديث النبوي، واعتبروا ذلك أمانة في أعناقهم. واعتبر العلماء أن علم "الجرح والتعديل" صيانة للشريعة، وذلك لحفظه الحديث النبوي.(1/142)
وقد وضعوا قواعد وضوابط لعلم "الجرح والتعديل"، وحرصوا أن يكون كلامهم في الرجال يحكمه العلم والعدل؛ حتى قال العلامة ابن دقيق العيد: أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف عليها الْمُحَدِّثون والحكَّام.
[فالتجريح ليس من الغيبة في شئ ما لم يتعد الحدود، وإذا كان عيبٌ واحد يكفي في تجريح الرجل حتى لا يُؤخذ عنه العلم فلا يتعداه المجرح إلى ذكر اثنين من عيوبه.
قال أبو بكر بن أبي الأسود: كنت أسمع "الأصناف" من خالي عبد الرحمن بن مهدي، وكان في أصل كتابه قوم قد ترك حديثهم، مثل "الحسن بن أبي جعفر"، و"عباد بن صهيب"، وجماعة نحو هؤلاء.
ثم أتيته بعد ذلك بأشهر، وأخرج إليّ كتاب "الديات"، فحدثني عن "الحسن بن أبي جعفر"، فقلت: يا خالي! أليس كنتَ قد ضربتَ على حديثه وتركتَه؟ قال: بلى.. تفكرتُ فيه إذا كان يوم القيامة؛ قام "الحسن بن أبي جعفر"، فيتعلق بي فيقول: يا ربِّ! سل عبد الرحمن بن مهدي فيم أسقط عدالتي؟ وما كان لي حجة عند ربي، فرأيت أن أُحدِّث عنه. فحدَّث عنه بأحاديث.
نستشف من النص وغيره أنهم لا يُجرحون أحدًا إلا بحق مخافة الحساب في اليوم الآخر، ولا يذكرون الجرح إلا مفسرًا لما قد يكون جرحًا عند المتشددين وليس كذلك عند غيرهم، ويقتصدون في الجرح، فإذا كفاهم واحد لا يزيدون عليه، وهي منهجية صادقة اقتفى السير عليها أغلب علماء "الجرح والتعديل".](1)
__________
(1) التعديل والتجريح لسليمان الباجي(1/143)
قال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أنْ ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحدًا. قال الإمام الذهبي: صدق رحمه الله، ومَن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يُضَعِّفه؛ فإنه أكثر ما يقول: "مُنكَر الحديث"، "سكتوا عنه"، "فيه نظر".. ونحو هذا. وقَلَّ أنْ يقول: "فلان كذاب"، أو: "كان يضع الحديث"، حتى إنه قال: إذا قلتُ: "فلان في حديثه نظر"؛ فهو مُتَّهَم واهٍ.. وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبتُ أحدًا.. وهذا هو والله غاية الورع. [سير أعلام النبلاء]
فيا كثير الكلام..
ما ظنك بمن يُحصي جميع كلماتك، ويضبط كل حركاتك، ويشهد عليك بجميع حالاتك.. لا ينقص ولا يزيد.. عن اليمين وعن الشمال قعيد..
كلامك مكتوب، وقولك محسوب، وأنت يا هذا مطلوب؛ ولك ذنوب وما تتوب! وشمس الحياة قد أخذت في الغروب، فما أقسى قلبك من بين القلوب؛ وقد أتاه ما يصدع الحديد: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)..
أتظن أنك متروك مُهمَل؟ أم تحسب أنه ينسى ما تعمل؟ أو تعتقد أن الكاتب يغفل؟! هذا صائح النصائح قد أقبل؛ يا مَن أَجَلُهُ ينقص وأمله يزيد: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)..(1)
} - { } - {
الاستغفار يرقع ما خرقته الجوارح
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يُرَقِّعه؛ فمَن استطاع منكم أن يجيء بصوم مُرقَّع فليفعل.
وعن ابن المنكدر معنى ذلك: الصيام جُنة من النار ما لم يخرقها، والكلام السيئ يخرق هذه الجُنة، والاستغفار يُرَقِّع ما تخرق منها.
فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعمل صالح له شافع.. كم نخرق صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه، وقد اتسع الخرق على الراقع.. كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع..
__________
(1) موضوع "حفظ اللسان" منقول باختصار من كتاب "بشريات السلامة من أهوال القيامة": 6(1/144)
كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها، كما يستغفر المذنب من ذنبه. إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم؟! فرحماك يا ربِّ لمَن حسناته كلها سيئات، وطاعاته كلها غفلات..
و قريب من هذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ل في ليلة القدر بسؤال العفو؛ فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه وقيامه، فإذا قرب فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو، كالمسيء المقصر.
كان صلة بن أشيم يُحيي الليل، ثم يقول في دعائه عند السحر: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار؛ ومثلي يجترئ أن يسألك الجنة؟! وكان مطرف يقول: اللهم ارضَ عنا، فإنْ لم ترضَ عنا فاعفُ عنا. وقال يحيى بن معاذ: ليس بعارف مَن لم يكن غاية أمله من الله العفو.
إن كنتُ لا أصلحُ للقُربِ فشأنُكمُ العفوُ عن الذنبِ
وأنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، وهي حل عقدة الإصرار؛ فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود؛ فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود.
قال كعب: مَن صام رمضان وهو يُحدِّث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله؛ دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومَن صام رمضان وهو يُحدِّث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه؛ فصيامه عليه مردود. [لطائف المعارف]
عن الزبير - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أحبَّ أنْ تَسرَّهُ صحيفتُهُ فليكثِرْ فيها مِن الاستغفار" [حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، وقال: رواه البيهقي بإسناد لا بأس به]
وعن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "طُوبَى لمن وجدَ في صحيفتِه استغفارًا كثيرًا". [رواه ابن ماجه، والبيهقي، وصححه الألباني](1/145)
وقال بكر بن عبد الله المزني: استكثروا من الاستغفار؛ فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفارًا سَرَّه ذلك.
وقال أبو المنهال: ما جاور عبد في قبره مِن جار أحب إليه مِن استغفار كثير.
عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ صاحبَ الشمال ليرفعُ القلمَ سِتَّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطئ أو المسيء، فإنْ ندمَ واستغفرَ اللهَ منها ألقاها، وإلا كُتِبَتْ واحدةً". [رواه الطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الجامع]
والاستغفار عبادة يحبها الله، شرعها لعباده تفضلاً منه وإنعامًا ليكفر عنهم سيئاتهم ويمحوها.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأينما كنتم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
وفي بعض الآثار أن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بـ"لا إله إلا الله" والاستغفار.
قال محكول الشامي: مَن آوى إلى فراشه ثم لم يتفكر فيما صنع في يومه؛ فإن عمل خيرًا حمد الله، وإن أذنب استغفر ربه عز وجل.. وإن لم يفعل كان مثل التاجر الذي ينفق ولا يحسب؛ حنى يفلس وهو لا يشعر!
وما ألطف قول ابن الجوزي إذ سئل: أأُسَبِّح أو أستغفر؟ فقال: الثوب القذر أحوج إلى الصابون من البخور.
- - -
استغفار يحتاج إلى استغفار:
الاستغفار استفعال مِن الغفران، وأصله الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه، وتدنيس كل شيء بحسبه، والغفران مِن الله للعبد أنْ يصونه عن العذاب.
والاستغفار هو طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها.(1/146)
وقول القائل: "اللهم اغفر لي" طلب منه للمغفرة؛ فيكون حكمه حكم سائر الدعاء.. فإنْ شاء الله أجابه وغفر لصاحبه؛ لا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات.. ولذلك كان لقمان يقول لابنه: يا بني! عوِّد لسانك: "اللهم اغفر لي"؛ فإنَّ لله ساعات لا يرد فيهن سائلا.
فالاستغفار دعاء، بل هو من أعظم الدعاء لأنه طلب من العبد فيما لا يقدر عليه إلا الرب.
وكان الرجل مِن الصالحين مِن السلف - رضي الله عنهم - يكثر مِن الاستغفار، حتى يقول مَن حوله: إنَّ هذا الرجل قد وقع في ذنبٍ عظيم؛ لأنه يستغفر!
وليس (أستغفر الله) كلمةً يرددها على لسانه، كما يقول بعضهم:
أستغفرُ اللهَ مِن "أستغفرُ اللهَ" مِن كلمةٍ قُلتُها لم أدْرِ معناها
ليس يجري الاستغفار على لسانه دون فهمٍ ولا إدراك، بل يستغفر الله بقلبٍ مكسور، ونفسٍ مجروحة، وحُزنٍ عظيم على تفريطه وإهماله وتقصيره، فكان مَن رآه يظن أنه قد وقع في ذنبٍ عظيم! ولو تأملت حياته، لما وجدت فيها إلا الصوم، والصلاة، والعبادة، والذكر، والدعاء، والصدقة، والإحسان.. لكنه شعورهم بالتقصير في حق الله جلَّ وعلا، وهكذا كان سيد المستغفرين - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا كان أصحابه - رضي الله عنهم - .
سئل "سهل" عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب، فقال: أول الاستغفار الاستجابة، ثم الإنابة، ثم التوبة.. فالاستجابة أعمال الجوارح، والإنابة أعمال القلوب، والتوبة إقباله على مولاه بأنْ يترك الخلق، ثم يستغفر الله مِن تقصيره الذي هو فيه، ومِن الجهل بالنعمة وترك الشكر؛ فعند ذلك يُغفَر له.(1/147)
قال الغزالي في "الإحياء": [الاستغفار بالقلب والتدارك بالحسنات -وإنْ خلا عن حل عقدة الإصرار- فليس يخلو عن الفائدة أصلا، فلا ينبغي أنْ تظن أنَّ وجودها كعدمها، بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أنَّ قول الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة:7] صِدق، وأنه لا تخلو ذرة مِن الخير عن أثر، كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر.. ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها، ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات، وذلك بالضرورة محال.. بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أنْ يثقل؛ فترفع كفة السيئات.. فإياك أنْ تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها، وذرات المعاصي فلا تنفيها.. كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغَزْل تعللا بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد، وتقول: أي غنى يحصل بخيط، وما وَقْعُ ذلك في الثياب؟ ولا هي تدري أنَّ ثياب الدنيا اجتمعت خيطًا.. خيطًا.. وأنَّ أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة.. ذرة..
فإذن التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع عند الله أصلا، بل أقول الاستغفار باللسان أيضًا حسنة، إذ حركة اللسان بها عن غفلة؛ خَيْرٌ مِن حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم، أو فضول كلام.. بل هو خير مِن السكوت عنه؛ فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه، وإنما يكون نقصانًا بالإضافة إلى عمل القلب. ولذلك قال بعضهم لشيخه أبى عثمان المغربي: إنَّ لساني في بعض الأحوال يجرى بالذكر والقرآن، وقلبي غافل..! فقال: اشكر الله إذ استعمل جارحة مِن جوارحك في الخير، وعَوَّدَهُ الذكر، ولم يستعمله في الشر، ولم يعوده الفضول.(1/148)
وما ذكره حَقٌّ؛ فإنَّ تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي.. فمَن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع مِن غيره كذبًا؛ سبق لسانه إلى ما تعود، فقال: أستغفر الله.. ومَن تعود الفضول؛ سبق لسانه إلى قول: ما أحمقك وما أقبح كذبك! ومَن تعود الاستعاذة إذا حُدِّث بظهور مبادئ الشر مِن شرير؛ قال بحكم سبق اللسان: نعوذ بالله.. وإذا تعود الفضول؛ قال: لعنه الله! فيعصي في إحدى الكلمتين، ويسلم في الأخرى. وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير، وهو مِن جملة معاني قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) [يوسف:90] ومعاني قوله تعالى: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]. فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول.. هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات، وتضعيف الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون..
فإياك وأنْ تَلْمَح في الطاعات مجرد الآفات؛ فتفتر رغبتك عن العبادات؛ فإنَّ هذه مكيدة رَوَّجَها الشيطان بلعنته على المغرورين، وخَيَّل إليهم أنهم أرباب البصائر، وأهل التفطن للخفايا والسرائر.. فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب؟ فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات..
أما السابق فقال: صدقتَ يا ملعون! ولكن هي كلمة حق أردتَ بها باطلا فلا جرم أعذبك مرتين، وأرغم أنفك مِن وجهين؛ فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب. فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه.
وأما الظالم المغرور فاستشعر في نفسه خيلاء الفطنة لهذه الدقيقة، ثم عجز عن الإخلاص بالقلب؛ فترك مع ذلك تعويد اللسان بالذكر؛ فأسعف الشيطان، وتدلى بحبل غروره؛ فتمت بينهما المشاركة والموافقة.(1/149)
وأما المقتصد فلم يقدر على إرغامه بإشراك القلب في العمل، وتفطن لنقصان حركة اللسان بالإضافة إلى القلب، ولكن اهتدى إلى كماله بالإضافة إلى السكوت والفضول؛ فاستمر عليه، وسأل الله تعالى أنْ يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير.
فكان السابق كالحائك الذي ذُمَّت حياكته؛ فتركها وأصبح كاتبًا.. والظالم المتخلف كالذي ترك الحياكة أصلا، وأصبح كَنَّاسًا!! والمقتصد كالذي عجز عن الكتابة؛ فقال: لا أنكر مقدمة الحياكة، ولكن الحائك مذموم بالإضافة إلى الكاتب، لا بالإضافة إلى الكناس.. فإذا عجزت عن الكتابة؛ فلا أترك الحياكة..
ولذلك قالت رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير.. فلا تظن أنها تذم حركة اللسان مِن حيث إنه ذكر الله، بل تذم غفلة القلب؛ فهو محتاج إلى الاستغفار مِن غفلة قلبه لا مِن حركة لسانه.. فإنْ سكتَ عن الاستغفار باللسان أيضًا احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد..!! فهكذا ينبغي أنْ تفهم ذم ما يُذَم، وحَمد ما يُحمَد؛ فإنَّ هذه أمور تثبت بالإضافة، فلا ينبغي أنْ تؤخَذ مِن غير إضافة، بل ينبغي أنْ لا تستحقر ذرات الطاعات والمعاصي.
ولذلك قال جعفر الصادق: إنَّ الله تعالى خَبَّأ ثلاثًا في ثلاث: رضاه في طاعته؛ فلا تحقروا منها شيئًا، فلعل رضاه فيه.. وغضبه في معاصيه؛ فلا تحقروا منها شيئًا، فلعل غضبه فيه.. وخَبَّأ ولايته في عباد؛ فلا تحقروا منهم أحدًا، فلعله ولي الله تعالى.. وزاد: وخَبَّأ إجابته في دعائه؛ فلا تتركوا الدعاء، فربما كانت الإجابة فيه.] أ.هـ(1/150)
والاستغفار له فوائد ثلاث: الأولى: ألا يقدم الله هلاكك في الدنيا، يقول جعفر الصادق: لو نزلت صاعقةٌ من السماء؛ لأصابت كل عبدٍ إلا المستغفر؛ لأن الله يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33] ، والثانية: أنها متاع حسن في الجسم والولد، قال سبحانه: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [هود:3]، والثالثة: أنها زيادة في المال والولد، قال نوحٌ ؛: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12]
- - -
سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - يستغفر في المجلس الواحد مائة مرة:
أخرج النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه" في المجلس قبل أنْ يقوم مائة مرة. وله مِن رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: إنا كنا لنعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس: "ربِّ اغفِرْ لي وتُبْ عليّ؛ إنكَ أنتَ التوابُ الغفورُ" مائة مرة.
قال ابن حجر في "فتح الباري": [وأخرج النسائي أيضًا من طريق عطاء عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس فقال: "يا أيها الناس! توبوا إلى اللهِ؛ فإني أتوبُ إليهِ في اليومِ مائةَ مرةٍ".(1/151)
وعند مسلم بلفظ: "إنه ليغانّ على قلبي، وإني لأستغفرُ اللهَ كلَّ يومٍ مائةَ مرة". قال عياض: المراد بـ(الغين) فترات عن الذكر الذي شأنه أنْ يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر ما؛ عَدَّ ذلك ذنبًا؛ فاستغفر منه. وقيل: هو شيء يعتري القلب مما يقع مِن حديث النفس. وقيل: هو السكينة التي تغشى قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية لله، والشكر لما أولاه. وقيل: هي حالة خشية وإعظام، والاستغفار شكرها. ومِن ثَمَّ قال المحاسبي: خوف المقربين خوف إجلال وإعظام. وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لا يعتقد أنَّ (الغين) في حالة نقص، بل هو كمال، أو تتمة كمال. ثم مَثَّل ذلك بجفن العين حين يسبل ليدفع القذى عن العين مثلا، فإنه يمنع العين من الرؤية.. فهو مِن هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال.
وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، وأجيب بعدة أجوبة، منها ما تقدم في تفسير (الغين)، ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير.
ومحصل جوابه أنَّ الاستغفار مِن التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى. ويحتمل أنْ يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة، أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة، ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة.. وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله، والتضرع إليه، ومشاهدته ومراقبته.. فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس. ومنها أنَّ استغفاره - صلى الله عليه وسلم - تشريع لأمته، أو من ذنوب الأمة، فهو كالشفاعة لهم.] أ.هـ
وقال الغزالي في الإحياء: [كان - صلى الله عليه وسلم - دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها؛ فاستغفر من الحالة السابقة.(1/152)
وقال الشيخ السهروردي: لما كان روح النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل في الترقي إلى مقامات القُرْب يستتبع القلب، والقلب يستتبع النَّفْس، ولا ريب أنَّ حركة الروح والقلب أسرع مِن نهضة النفس، فكانت خُطا النفس تقصر عن مَداهما في العروج؛ فاقتضت الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تنقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين.. فكان - صلى الله عليه وسلم - يفزع إلى الاستغفار لقصور النفس عن شأو ترقى القلب، والله أعلم.] أ.هـ
رسولَ اللهِ.. ماذا قد أقولُ ... فأنتَ.. ودونكَ الدنيا سرابُ
سأدّخرُ القوافي يا شفيعي ... ليومِ الحوضِ والناسُ انتحابُ
فبعدَكَ كلُّ مدحٍ سوفَ يَفنى ... وبَعدَكَ كلُّ قافيةٍ تُذابُ
سأُعلِنُها أمامَ الصحبِ أنّي ... عجزتُ، وضاعَ من شَفتي الصوابُ
فنونُ الوصفِ للشعراءِ بحرٌ ... ووصفُ مُحمّدٍ حقًّا يُهابُ
فأحمدُ في فؤادي سوفَ يبقى ... مفاخرَ؛ حينَ تُذكرُ تُستَطابُ(1)
- - -
الاستغفار عقيب الطاعات:
ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" أن: [أرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارًا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيده، وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات؛ وهو أجَلُّ المواقف وأفضلها فقال: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم) [البقرة: 199]
وقال تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) [آل عمران: 17]. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل.
__________
(1) من قصيدة "ودمع العين أكثره جواب" للشاعر/ عبد الناصر منذر رسلان - موقع "صيد الفوائد"(1/153)
وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلَّم من الصلاة استغفر ثلاثًا، ثم قال: "اللهم أنتَ السلامُ، ومنك السلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ". وأمره الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها، وقضاء فرض الحج، واقتراب أجله، فقال في آخر سورة أُنزلت عليه: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3] ومن ههنا فهم عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - أن هذا أجَلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه به، فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه؛ فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك، ولم يبق عليك شيء؛ فاجعل خاتمته الاستغفار، كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل، وخاتمة الوضوء أيضًا أنْ يقول بعد فراغه: "سبحانك اللهم وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُك وأتوبُ إليكَ.. اللهم اجعلني مِنَ التوابين، واجعلني مِنَ المتطهرين". فهذا شأن مَن عرف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها.] أ.هـ
- - -
فاستغفروني أغفر لكم:
قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:110-111]
[قال الضحاك: إن هذه الآية نزلت في شأن "وحشي" قاتل حمزة، أشرك بالله، وقتل حمزة، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هل لي من توبة؟ فنزلت الآية.
وعلى كل حال فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنبًا، ثم استغفر الله سبحانه.(1/154)
فمَن تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم، ثم استغفر الله استغفارًا تامًّا يستلزم الإقرار بالذنب، والندم عليه، والإقلاع والعزم على أن لا يعود؛ فهذا قد وعده مَن لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.
فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه؛ لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه.
واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي؛ الصغيرة والكبيرة، وسمي (سوءًا) لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن.
وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيُفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس؛ وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. ويُفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس (ظلمًا) لأن نفس العبد ليست ملكًا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل؛ بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملا فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها
عن العدل، الذي ضده الجور والظلم.
ثم قال: (ومَن يَكْسِبْ إثمًا فإنما يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ) وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير، فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه، لا تتعداها إلى غيرها، كما قال تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الزمر: 7] لكن إذا ظهرت السيئات فلم تُنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها، فلا تخرج أيضًا عن حُكم هذه الآية الكريمة؛ لأن من ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة.(1/155)
وفي هذا بيان عدل الله وحكمته؛ أنه لا يعاقب أحدًا بذنب أحد، ولا يعاقب أحدًا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه، ولهذا قال: (وكانَ اللهُ عليمًا حكيمًا) أي: له العلم الكامل والحكمة التامة.
ومِن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه، والسبب الداعي لفعله، والعقوبة المترتبة على فعله، ويعلم حالة المذنب؛ أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته؛ أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة. وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافًا بنظر ربه، وتهاونًا بعقابه؛ فإن هذا بعيد من المغفرة، بعيد من التوفيق للتوبة.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء، ثم استغفر الله غُفر له: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110] ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:64]] [فتح القدير - تيسير الكريم الرحمن]
وفي الحديث القدسي: ".. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا؛ فاستغفروني أغفِرْ لكم.." [رواه مسلم]
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ! إنكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كانَ منكَ، ولا أُبالي.. يا ابنَ آدمَ! لو بلغتْ ذنوبُكَ عَنانَ السماءِ، ثم استغفرتَني غفرتُ لكَ.. يا ابنَ آدمَ! إنك لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثم لَقِيتَني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
- - -
ومن يغفر الذنوب إلا الله..(1/156)
قال ابن حجر في "فتح الباري": [أخرج الترمذي وغيره مِن حديث يسار وغيره مرفوعًا: "مَن قال: أستغفرُ اللهَ العظيمَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأتوبُ إليهِ؛ غُفرَت ذنوبُه وإنْ كان قد فَرَّ مِنَ الزَّحفِ".
قال أبو نعيم الأصبهاني: هذا يدل على أنَّ بعض الكبائر تُغفَر ببعض العمل الصالح، وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكمًا في نفس ولا مال. ووجه الدلالة منه أنه مَثَّل بالفرار مِن الزحف، وهو من الكبائر؛ فدلَّ على أنَّ ما كان مثله أو دونه يُغفَر، إذا كان مثل الفرار من الزحف؛ فإنه لا يوجب على مرتكبه حكمًا في نفس ولا مال.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135]
اختُلِف في معنى قوله: (ذكروا الله) فقيل: إنَّ قوله: (فاستغفروا..) تفسير للمراد بالذكر. وقيل: هو على حذف، تقديره: (ذكروا عقاب الله)، والمعنى: تفكروا في أنفسهم أنَّ الله سائلهم؛ فاستغفروا لذنوبهم أي لأجل ذنوبهم.
أخرج أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من حديث علي بن أبي طالب، قال: حدثني أبو بكر الصديق -وصَدَقَ أبو بكر-: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن رجل يذنب ذنبًا، ثم يقومُ فيتطهر، فيحسن الطهور، ثم يستغفر الله عز وجل؛ إلا غفر له"، ثم تلا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً..)
وقوله تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا..) فيه إشارة إلى أنَّ مِن شرط قبول الاستغفار
أنْ يُقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. ولأبي سعيد رفعه: قال إبليس: يا ربِّ! لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله تعالى: "وعزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" [أخرجه أحمد]] أ.هـ(1/157)
قال ابن مسعود: هذه الآية خير لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها. وقال ابن سيرين: أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ عبدًا أصابَ ذنبًا، فقال: يا ربِّ إني أذنبتُ ذنبًا فاغفره. فقال له ربُّه: عَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يَغفِرُ الذنبَ ويأخذُ بهِ، فغفرَ لهُ. ثم مكثَ ما شاءَ اللهُ، ثم أصابَ ذنبًا آخرَ.. وربما قال: ثم أذنبَ ذنبًا آخرَ فقالَ: يا ربِّ إني أذنبتُ ذنبًا آخرَ فاغفِره لي. قال ربُّه: عَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يَغفِرُ الذنبَ ويأخذُ به فغفرَ له. ثم مكثَ ما شاءَ اللهُ، ثم أصابَ ذنبًا آخرَ.. وربما قال: ثم أذنبَ ذنبًا آخرَ فقالَ: يا ربِّ إني أذنبتُ ذنبًا فاغفِره لي. فقال ربُّه: عَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يَغفرُ الذنبَ ويأخذُ بهِ، فقالَ ربُّه: غفرتُ لعبدي فليَعمَلْ ما شاءَ". [رواه البخاري ومسلم] يعني ما دام على هذه الحال؛ كلما أذنب ذنبًا استغفر منه.
وروي ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي - رضي الله عنه - قال: خياركم كل مفتن تواب، قيل: فإذا عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: حتى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور.
وقيل للحسن: ألا يستحيي أحدنا من ربه؛ يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود.. فقال: وَدَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا؛ فلا تملوا من الاستغفار. وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا مِن أخلاق المؤمنين.. يعني أن المؤمن كلما أذنب تاب.
وقال عمر بن عبد العزيز: أيها الناس! مَن ألَمَّ بذنب فليستغفر الله، وليتب.. فإنْ عاد؛ فليستغفر الله، وليتب.. فإنْ عاد؛ فليستغفر، وليتب.. فإنما هي خطايا مطوَّقَة في أعناق الرجال، وإنَّ الهلاك في الإصرار عليها..(1/158)
ومعنى هذا أنّ العبد لا بد أنْ يفعل ما قُدِّر عليه من الذنوب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كُتِب على ابن آدم حظُّه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة.."، ولكن الله جعل للعبد مخرجًا مما وقع فيه من الذنوب، ومحاه بالتوبة والاستغفار.. فإنْ فعل فقد تخلص من شر الذنوب، وإن أصر على الذنب هلك.
والله تبارك وتعالى [يضاعف الحسنة وينميها ويثيب على الهم بها، والسيئة لا يضاعفها، ولا يؤاخذ على الهم بها.. فيعطي صاحب الحسنة مِن الحسنات فوق ما عمل، وصاحب السيئة لا يجزيه إلا بقدر عمله.. قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160]
والحسنة مضافة إليه عز وجل؛ لأنه أحسن بها من كل وجه، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه سبحانه! وأما السيئة فهو إنما يخلقها بحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه؛ فإنَّ الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وحسنات، وفعله كله خير.. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعاء الاستفتاح: "والخير بيديك، والشر ليس إليك.."؛ فإنه لا يخلق شرًّا مَحضًا، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة؛ هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي.. فأما شر كلي أو شر مطلق فالرب منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، وأما الشر الجزئي الإضافي فهو خير باعتبار حكمته، ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردًا قط.. بل إما أنْ يدخل في عموم المخلوقات كقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام:101]، وإما أنْ يضاف إلى السبب كقوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَق) [الفلق:2]، وإما أنْ يحذف فاعله كقول الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن:10]] [الحسنة والسيئة]
- - -
وا ذنوباه..!(1/159)
ذكر ابن حجر في "فتح الباري": [عن سهل بن سعد رفعه: "إياكم ومحقراتِ الذنوب، فإنما مثلُ محقراتِ الذنوبِ كمثلِ قومٍ نزلوا بطنَ وادٍ فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزَهم، وإنَّ محقراتِ الذنوبِ متى يؤخَذ بها صاحبُها تُهلكه". [أخرجه أحمد بسند حسن]
وعند النسائي وابن ماجة عن عائشة ل أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة! إياك ومحقراتِ الذنوب؛ فإنَّ لها مِن الله طالبًا". [صححه ابن حبان]
قال ابن بطال: المحقرات إذا كثرت صارت كبارًا مع الإصرار. وقد أخرج أسد بن موسى في الزهد عن أبي أيوب الأنصاري قال: إنَّ الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها وينسى المحقرات، فيلقى الله وقد أحاطت به، وإنَّ الرجل ليعمل السيئة فلا يزال منها مشفقًا حتى يلقى الله آمنًا.] أ.هـ
وعن جابر - رضي الله عنه - أنَّ رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: وا ذُنوباه..! مرتين أو ثلاثا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - قل: "اللهم مغفرتُك أوسعُ من ذنوبي، ورحمتُكَ أرجى عندي من عملي"، فقالها.. ثم قال له: عُدْ؛ فعاد، ثم قال له: عُدْ؛ فعاد، فقال له: "قُمْ قد غفر الله لك". [رواه البيهقي في "شعب الإيمان"، والحاكم في "المستدرك"، وضعفه الألباني]
وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أنْ يقع عليه، وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه".(1/160)
قال ابن حجر في "فتح الباري": [(إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أنْ يقع عليه..)، قال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أنَّ قلب المؤمن منور، فإذا رأى مِن نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه عَظُمَ الأمر عليه. والحكمة في التمثيل بالجبل أنَّ غيره مِن المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة.. وحاصله أنَّ المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده مِن الإيمان، فلا يأمن العقوبة بسببها.. وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى مِن صغير عمله السيئ.
(وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كأنها ذباب مَرَّ على أنفه)، أي: ذنبه سهل عنده، لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أنَّ ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه.
(فقال به هكذا): أي دفعه بيده. قال المحب الطبري: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه مِن الله، ومِن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة. والفاجر قليل المعرفة بالله؛ فلذلك قلَّ خوفه، واستهان بالمعصية.
وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أنَّ قلب الفاجر مظلم، فوقوع الذنب خفيف عنده؛ ولهذا تجد مَن يقع في المعصية إذا وُعِظ يقول: هذا سهل!
قال: ويستفاد من الحديث أنَّ قلة خوف العبد ذنوبه، وخفته عليه يدل على فجوره. قال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب كون الذباب أخف الطير وأحقره، وهو مما يعايَن، ويُدفَع بأقل الأشياء.
قال: وفي ذكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده؛ لأنَّ الذباب قلما ينزل على الأنف، وإنما يقصد غالبًا العين. قال: وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضًا؛ لأنه بهذا القدر اليسير يدفع ضرره. قال: وفي الحديث ضرب المثل بما يمكن وإرشاد إلى الحض على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان.] أ.هـ(ملخصًا)
- - -
سيد الاستغفار:(1/161)
عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنتَ ربي لا إلهَ إلا أنتَ، خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بكَ مِن شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لكَ بنعمتِكَ عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفِرْ لي؛ فإنهُ لا يَغفِرُ الذنوبَ إلا أنتَ).. مَن قالها في النهارِ مُوقنًا بها، فماتَ مِن يومِهِ قبلَ أنْ يُمسي؛ فهو
مِن أهلِ الجنةِ، ومَن قالها مِنَ الليلِ وهو مُوقِنٌ بها، فماتَ قبلَ أنْ يُصبِحَ؛ فهو مِن أهلِ الجنةِ". [رواه البخاري]
قال ابن حجر في "فتح الباري":[قوله: (سيد الاستغفار) قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم (السيد)، وهو في الأصل الرئيس الذي يُقصَد في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور.
قوله: (وأنا على عهدك..) قال الخطابي: يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك مِن الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك ما استطعتُ من ذلك. ويحتمل أنْ يريد: أنا مقيم على ما عهدتَ إليّ من أمرك، ومتمسك به، منتجز وعدك في المثوبة والأجر.
واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى. وقال ابن بطال: قوله: (وأنا على عهدك ووعدك..) يريد (العهد) الذي أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: "ألستُ بربكم..؟" فأقروا له بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية. وبـ(الوعد) ما قال على لسان نبيه: إنَّ مَن مات لا يشرك بالله شيئًا، وأدى ما افترض عليه أنْ يُدخله الجنة. قال: وفي قوله: (ما استطعتُ..) إعلام لأمته أنَّ أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله، ولا الوفاء بكمال الطاعات، والشكر على النعم.. فَرَفَق الله بعباده فلم يكلفهم مِن ذلك إلا وسعهم.(1/162)
قوله: (أبوء لك بنعمتك عليّ..) أبوء معناه: أعترف. قوله: (وأبوء لك بذنبي..) أي أعترف أيضًا، وقيل: معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني. وقال الطيبي: اعْتَرَفَ أولا بأنه أنعم عليه، ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شكرها، ثم بالغ فعده ذنبًا مبالغة في التقصير وهضم النفس. قلت: ويحتمل أنْ يكون قوله: أبوء لك بذنبي اعترف بوقوع الذنب مطلقًا؛ ليصح الاستغفار منه، لا أنه عَدَّ ما قَصَّر فيه مِن أداء شكر النعم ذنبًا.
قوله: (فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت..) يؤخذ منه أنَّ مَن اعترف بذنبه غُفِر له. وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل، وفيه: "العبد إذا اعترف بذنبه وتاب؛ تاب
الله عليه..".
قوله: (مَن قالها موقنًا بها..) أي مخلصًا مِن قلبه، مصدقًا بثوابها. وقال الداودي: يحتمل أنْ يكون هذا مِن قوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات) [هود:114]
قال ابن أبي جمرة: جمع - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مِن بديع المعاني، وحُسْن الألفاظ ما يحق له أنْ يُسمَّى (سيد الاستغفار)؛ ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة مِن شر ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجدها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو.. وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة؛ فإنَّ تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون مِن الله تعالى، وهذا القدر الذي يُكنى عنه بالحقيقة. فلو اتفق أنَّ العبد خالف حتى يجرى عليه ما قُدِّر عليه، وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة؛ لم يبق إلا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل، أو العفو بمقتضى الفضل.(1/163)
وقال أيضًا: مِن شروط الاستغفار صحة النية والتوجه والأدب. فلو أنَّ أحدًا حَصَّل الشروط، واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد، واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخَلَّ بالشروط.. هل يستويان؟ فالجواب: إنَّ الذي يظهر أنَّ اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة، والله أعلم.] [فتح الباري (ملخصًا)]
وقد [أجمع العارفون على أنّ التوفيق أنْ لايكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أنْ يكلك الله تعالى إلى نفسك.. فمَن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته، وجوده وبره..(1/164)
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لايمكنه أن يسير إلا بهما؛ فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.. قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل.. وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح من حديث بريدة : "سيدُ الاستغفار أنْ يقولَ العبدُ: اللهم أنت ربي لا إلهَ إلا أنتَ، خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِكَ عليّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفِرْ لي؛ فإنهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ" فجمع في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي" مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل؛ فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان. ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأنْ لا يرى نفسه إلا مفلسًا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس؛ فلا يرى لنفسه حالا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة منه يَمُن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض؛ دخول مَن كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه؛ فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه.. وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبَر؛ إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.(1/165)
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى! والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل، وذل تام. ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين؛ وهما: مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام.. وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غِرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره.] [الوابل الصيب]
يا مَن يَجُودُ بفضلِهِ فيَعُمُّنا ... مَن ذا يُجيرُ المذنبينَ سواكا
يا مَن لهُ كلُّ الخلائقِ سُجَّدٌ ... صَفْحًا ففَيْضُكَ غامرٌ ونَداكا
يا مَن لهُ عَنَتِ الوجوهُ جميعُها ... والكلُّ يسعى لائذًا بحِماكا
يا مَن بعثتَ لنا الحبيبَ محمدًا ... معهُ كتابُكَ حافلاً بهُداكا
إني سألتُكَ يا إلهي توبةً ... فامْنُنْ بها متكرمًا برضاكا
موضوع "الاستغفار" منقول من كتاب "بشريات السلامة من أهوال القيامة": 4
إنما يتقبل الله من المتقين
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:60-61]
أي: يعطون من أنفسهم مما أُمروا به، مِن كل ما يقدرون عليه؛ من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك، ومع هذا (قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي: خائفة (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) أي: خائفة عند عرض أعمالها عليه، والوقوف بين يديه، أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لعلمهم بربهم، وما يستحقه من أصناف العبادات.
((1/166)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، هَمُّهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه أمامهم، ويمنة ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم. ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: (وَهُمْ لَهَا) أي: للخيرات (سَابِقُونَ) قد بلغوا ذروتها، وتباروا هم والرعيل الأول، ومع هذا، قد سبقت لهم من الله سابقة السعادة، أنهم سابقون.
قال تعالى: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، وفرْق بين (أسرع) و(سارع): أسرع يُسرع يعني: بذاته، إنما سارع يُسارع أي: يرى غيره يسرع، فيحاول أنْ يتفوق عليه، ففيه مبالغة وحافز على المنافسة.
وفرق بين (سارع إلى) و(سارع في)، فمعنى (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ..) أنهم كانوا في حيِّز الخيرات ومظروفين فيه، لكن يحاولون الارتقاء والازدياد من الخيرات للوصول إلى مرتبة أعلى. فأسند المسارعة إليهم، إيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم. وإيثار كلمة (في) على كلمة (إلى) للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات، لا أنهم خارجون عنها، متوجهون إليها بطريق المسارعة.
فإذن العبرة ليست بمجرد العمل، إنما العبرة بقبول العمل، والعمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصا لوجه الله لا يخالطه رياء ولا سمعة، فهم إذن يعملون ويتحرَّوْن الإخلاص وأسباب القبول ويتصدَّق أحدهم بالصدقة، بحيث لا تعلم شماله ما أنفقتْ يمينه، ومع ذلك يخاف عدم القبول، وهذا أيضا من علامات الإيمان.(1/167)
وكأن ربك عز وجل يَغَار عليك أنْ تعمل عملاً لا تأخذ عليه أجرا؛ لأنك إنْ رأيت الناس في شيء من العمل تركك الله وإياهم تأخذ منهم الجزاء، فهذا إذن جهد مُهْدر لا فائدة منه، وهذه المسألة لا يرضاها لك ربك.
فالمؤمن يؤدي ما عليه، ومع ذلك تراه خائفا وَجِلاً؛ لأنه يثق في الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه، وهو ربه الذي يُجازيه على قَدْر إخلاصه، ويخاف أيضا أن يفتضح أمره إنْ خالط عملَه شيءٌ من الرياء؛ لأن ربه غيور لا يرضى معه شريكاً في العمل، وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى ذرات الشر.
عن عائشة ل قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ..): أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنتَ الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يُقبَلَ منهم، أولئك الذين يُسارعون في الخيرات". [رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني]
روي عن علي قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين) [المائدة:27]
وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين)
وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك؛ فقد كنتَ وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
قال ابن دينار: الخوف على العمل أن لا يُتقبل أشد من العمل. وقال عطاء السلمي: الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيُقبَل منهم أم لا؟(1/168)
وقال بعض السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم.
خرج عمر بن عبد العزيز في يوم عيد فطر فقال في خطبته: أيها الناس! إنكم صمتم لله ثلاثين يوما، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم، كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا؛ فلا أدري أيقبله مني أم لا؟
لعلك غضبانُ و قلبي غافلُ سلامٌ على الدارين إن كنتَ راضيا
عن ابن مسعود أنه كان يقول: مَن هذا المقبول منا فنهنيه، ومَن هذا المحروم منا فنعزيه.. أيها المقبول هنيئا لك.. أيها المردود جبر الله مصيبتك..
ماذا فات مَن فاته خير رمضان، وأي شيء أدرك مَن أدركه فيه الحرمان، كم بين مَن حظه فيه القبول والغفران، ومَن كان حظه فيه الخيبة والخسران.. رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر، وصائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش! [محاسن التأويل - تيسير الكريم الرحمن - تفسير الشعراوي - لطائف المعارف]
} - { } - {
والعاقبة للتقوى
قال تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132] أي : والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل لأهل التقوى والخشية من الله، دون مَن لا يخاف له عقابا ولا يرجو له ثوابا. كما قال تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83]
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى اللهِ وحسنُ الخُلُقِ". [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]
قال الطيبي قوله: (تقوى الله) إشارة إلى حسن المعاملة مع الخالق؛ بأن يأتي جميع ما أمره به، وينتهي عما نهى عنه، وحسن الخلق إشارة إلى حسن المعاملة مع الخلق، وهاتان الخصلتان موجبتان لدخول الجنة.
ومعنى الأكثرية أن أكثر أسباب السعادة الأبدية الجمع بين الخصلتين. [تحفة الأحوذي](1/169)
روى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يُحبس الناس في بقيع واحد فينادي منادٍ: أين المتقون؟ فيقومون في كنفٍ من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: مَن المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشركَ وعبادةَ الأوثان وأخلصوا العبادة؛ فيمرون إلى الجنة.
وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الذاريات:15]، فجزاء المتقين جنات وعيون؛ فيها من النعيم والسرور والغبطة، وتنكير (جنات) للتعظيم. نظير قوله تبارك وتعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان:51-52]
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله عز وجل: أعددتُ لعباديَ الصالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ. واقرأوا إن شئتم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)" [رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه]
وقال تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) [النبأ:31-36] أي: الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عما يكرهه؛ فلهم مفاز ومنجي، وبُعد عن النار.
وقال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61]
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ) أي: بفوزهم، ونجاتهم لإتيانهم بأسباب الفوز، وذلك لأن معهم آلة النجاة، وهي تقوى الله تعالى، التي هي العُدة عند كل هول وشدة. (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي: العذاب الذي يَسوءُهم، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فنفى عنهم مباشرة العذاب وخوفه، وهذا غاية الأمان.
فلهم الأمن التام، يصحبهم حتى يوصلهم إلى دار السلام، فحينئذ يأمنون من كل سوء ومكروه، وتجري عليهم نَضرة النعيم، ويقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).(1/170)
وقال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الشعراء:90]، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد) [ق:31]
الإزلاف: التقريب. والمعنى: أن المتقين يجدون الجنة حاضرة فلا يتجشمون مشقة السوْق إليها. والجنة موجودة من قبل وُرود المتَّقين إليها، فإزلافها قد يكون بحشرهم للحساب بمقربة منها كرامة لهم عن كلفة المسير إليها، وقد يكون عبارة عن تيسير وصولهم إليها بوسائل غير معروفة في عادة أهل الدنيا. [التحرير والتنوير]
وقال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات) [محمد:15]
وقد استحقوا كل هذا النعيم المقيم لأنهم كانوا في الدنيا قد آخذوا ما آتاهم الله من الأوامر والنواهي، فتلقوها بالرحب، وانشراح الصدر، منقادين لما أمر الله به بالامتثال على أكمل الوجوه، ولما نهى عنه بالانزجار عنه لله على أكمل وجه، فإن الذي أعطاهم الله من الأوامر والنواهي هو أفضل العطايا، التي حقها أن تُتلقَّى بالشكر لله عليها والانقياد.
فلما سَلَّموا لله واستسلموا كان جزاؤهم من جنس عملهم. قد أعطاهم مولاهم جميع مُناهم، من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم، ولم يطلبوا منه بدلا ولا يبغون عنه حولا؛ كلٌّ قد ناله من النعيم، ما لا يطلب عليه المزيد. [تيسير الكريم الرحمن (بتصرف)]
وما ذاك إلا غيرةٌ أنْ يَنالَها ... سوى كُفئها والربُّ بالخلقِ أعلَمُ
وإنْ حُجِبَتْ عنا بكلِّ كريهةٍ ... وحُفَّتْ بما يُؤذي النفوسَ ويُؤلِمُ
فللهِ ما في حَشْوِها مِن مَسَرَّةٍ ... وأصنافِ لذاتٍ بها يُتَنَعَّمُ
فأقدِمْ ولا تَقنَعْ بعيشٍ مُنَغَّصٍ ... فما فازَ باللذاتِ مَن ليس يُقْدِمُ(1/171)
وإنْ ضاقتِ الدنيا عليكَ بأسرِها ... ولم يَكُ فيها منزلٌ لكَ يُعلَمُ
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها ... منازلُنا الأولى وفيها المُخَيَّمُ
} - { } - {
أهل المرحمة
(3) الراحمون يرحمهم الرحمن
الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، وهي باقية ما بقيت أخلاقهم، هذه حقيقة مُسلَّمة. وإن من أعظم الأخلاق المندوبة، والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم، أن فقدان الرحمة بين الناس، فقدان للحياة الهانئة، وإحلال للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الراحمون يَرحمُهم الرحمنُ، ارحموا مَن في الأرضِ يَرحمْكم مَن في السماء". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]، وعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يَرحمُ اللهُ مَن لا يَرحَمُ النَّاسَ". [رواه البخاري]
قال ابن القيم: دل الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل.
فمَن صفا صُفي له، ومَن كدَّر كُدِّر عليه، ومَن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومَن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال، ومن صحت بدايته صحت نهايته.
وللرحمة كمال في الطبيعة يجعل المرء يَرِق لآلام الخَلْق ويسعى لإزالتها، ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى، هي كمال في الطبيعة؛ لأن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة الحيوان ويسلبه أفضل ما فيه.(1/172)
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ترى المؤمنينَ في تَوادِّهِم وتَراحُمِهِم وتَعاطفِهِم كمثلِ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمَّى" [رواه مسلم]. قال الألباني في "السلسلة الصحيحة": وله شاهد من حديث سهل بن سعد مرفوعا بلفظ: "إن المؤمنَ مِن أهلِ الإيمانِ بمنزلةِ الرأسِ من الجسدِ، يَألَمُ المؤمنُ لأهلِ الإيمانِ كما يَألَمُ الجسدُ لما في الرأسِ" [أخرجه أحمد، وسنده لا بأس به في الشواهد]
قال القاضي عياض: تشبيهه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيح، وفيه تقريب للفهم وإظهار للمعاني في الصور المرئية، وفيه تعظيم حقوق المسلمين والحض على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضًا.
وما ترى في الأرض من توادٍّ وبشاشة وتعاطف وبر أثر من رحمة الله التي أودع جزءًا منها في قلوب الخلائق؛ فأرق الناس أفئدة أوفرهم نصيبًا من هذه الرحمة، وأرهفهم إحساسًا بحياة الضعفاء.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعد جمود العين واستغلاق القلب من الشقاء. فإن القسوة في خُلُق إنسان دليل نقص كبير، وفي تاريخ أمة دليل فساد خطير..(1/173)
والله عز وجل حينما بعث رسله جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلا من أصول رسالاتهم، وأساسا من أسس دعواتهم. ولقد أراد الله أن يمتن على العالم بمَن يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثي لخطاياه، يستميت في هدايته، ويناصر الضعيف، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها، ويخضد شوكة القوي حتى يرده إنسانًا سليم الفطرة لا يَضرِي ولا يَطغَى.. فأرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، وسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خُلُقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى؛ ما جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرا.. ولذلك قال فيه ربه تبارك وتعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]. وقال تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ) [التوبة:128].
وقد لازمته هذه الفضائل العذبة طيلة عمره الميمون، وتجلت رحمته - صلى الله عليه وسلم - ، في جوانب كثيرة من حياته، حتى لقد أصبحت سمة بارزة، في كل شأن من شئونه، فهو عطوف رحيم أرسله إلى البشرية رحمن رحيم.(1/174)
أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: (رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [إبراهيم:36]. وتلا قول عيسى ؛: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118]. فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي" وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل ؛ فسأله، فأخبره بما قال -وهو أعلم- فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتِك ولا نَسوءُك".
لقد تجلت رحمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأمته، حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان، أقسمت بنت من بناته ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله الصبي، ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ قال: "هذه رحمةٌ جعلها اللهُ في قلوبِ عبادِه، وإنما يرحمُ اللهُ مِن عبادِه الرحماءُ". [رواه البخاري]
إن رحمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أراملَ وأيتاما، نساءً ومساكينَ، صغارا وكبارا.. حتى قال في التحذير من عدم الإشفاق على الناس، ونزع الرحمة عنهم: "اللهم مَن وَلِيَ مِن أمرِ المسلمين شيئًا فشقَّ عليهِم فاشقُقْ عليهِ، ومَن وَلِيَ مِن أمرِ المسلمين شيئًا فرفقَ بِهِم فارفُقْ به". [رواه مسلم](1/175)
وقد أمر الإسلام بالتراحم العام، وجعله من دلائل الإيمان الكامل، فالمسلم يلقى الناس قاطبة وفي قلبه لهم عطف مذخور وبر مكنون؛ فهو يوسع لهم، ويخفف عنهم جهد ما يستطيع.. عن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لن تؤمنوا حتى تراحموا". قالوا: يا رسول الله! كلنا رحيم. قال: "إنه ليس برحمةِ أحدِكم صاحبَه ولكنها رحمةُ العامةِ". [رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح، وقال الألباني: حسن لغيره]
أجل.. فإن الرجل قد يهش لأصدقائه حين يلقاهم، وقد يرق لأولاده حين يراهم. وذلك أمر يشيع بين الكثير؛ بيد أن المفروض في المؤمن أن تكون دائرة رحمته أوسع؛ فهو يبدي بشاشته، ويظهر مودته ورحمته لعامة مَن يلقى..
وعن عبد الله بن عمرو ب يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس منا مَن لم يَرحمْ صغيرَنا ويَعرفْ حقَّ كبيرِنا". [رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني]
وممن تجب الرحمة بهم اليتامى؛ فإن الإحسان إليهم والبر بهم وكفالة عيشهم وصيانة مستقبلهم من أزكى القربات، بل إن العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك، وتلزم الجادة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال: "امسحْ رأسَ اليتيمِ وأطعمِ المسكينَ". [رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني: حسن لغيره]
وذلك أن القلب يتبلد في المجتمعات التي تضج بالمرح الدائم، والتي تصبح وتمسي وهي لا ترى من الحياة غير آفاقها الزاهرة، ونعمها الباهرة. والناس إنما يُرزقون الأفئدة النبيلة والمشاعر المرهفة عندما يتقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويبلون مس السراء والضراء.. عندئذ يحسون بالوحشة مع اليتيم، وبالفقدان مع الثكلى، وبالتعب مع البائس الفقير.(1/176)
ومن مواطن الرحمة أن نحسن معاملة الخدم، وأن نرفق معهم فيما نكلفهم من أعمال، وأن نتجاوز عن هفواتهم، وألا نحس سطوة التصرف فيهم؛ فإن الله إذا مَلَّك أحدًا شيئًا فاستبد به وأساء سلبه ما ملك، وأعد له سوء المنقلب.
عن أبي مسعود الأنصاري قال: كنتُ أضرب غلامًا لي، فسمعتُ مِن خلفي صوتًا: "اعلم أبا مسعود! لَلهُ أقدرُ عليكَ منكَ عليهِ"، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلتُ: يا رسول الله! هو حرٌّ لوجهِ الله. فقال: "أما لو لم تفعلْ للفحتْكَ النارُ"، أو: "لمستك النارُ". [رواه مسلم]
وثمة أناس ينتهزون فرصة ضعف الخدم فيوقعون بهم ألوان الأذى، وقد رهَّب الإسلام من هذه الفظاظة وتوعَّد عليها: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن ضَربَ سَوْطًا ظُلمًا اقتُصَّ منه يومَ القيامةِ". [رواه البزار والطبراني بإسناد حسن، وقال الألباني: حسن صحيح]
والسلف الصالح خير مَن ترجم معاني الرحمة إبَّان عيشهم، فها هو الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم، منذ نعومة أظفاره، وما سُمي بالعتيق، إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم، وإنقاذا لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق، كان يتعهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سرًّا، إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا. فسمعها فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه.(1/177)
ولقد بلغت الرحمة أجلى صورها في الفاروق - رضي الله عنه - ، الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان، انقلبت نفسه رأسا على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس، غليظ القلب، فلما وُلي الخلافة، خطب الناس مطمئنا لهم قائلا: "اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف"..
فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.
ومن الرحمة المطلوبة الرفق بالحيوان، رأى عمر - رضي الله عنه - رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال: ويلك! قُدها إلى الموت قودًا جميلا.
عن معاوية بن قرة عن أبيه - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله! إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: "إن رحمتها رحمك اللهُ". [رواه الحاكم، وصححه الألباني]
والإسلام شديد المؤاخذة لمن تقسو قلوبهم على الحيوان ويستهينون بآلامه، وقد بين أن الإنسان يدخل النار في إساءة يرتكبها مع دابة عجماء: عن ابن عمر ب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دَخَلَت امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فلم تُطْعِمْها ولم تَدَعْها تأكلُ مِن خَشَاشِ الأرضِ". [رواه البخاري](1/178)
كما بين أن كبائر المعاصي تمحوها نزعة رحمة تغمر القلب، ولو بإزاء كلب: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَيْنَا رَجُلٌ بطريقٍ اشتدَّ عليهِ العطشُ فوجدَ بئرًا فنزلَ فيها فشَرِبَ ثُمَّ خرجَ فإذا كلبٌ يَلْهَثُ يأكلُ الثَّرَى مِنَ العطشِ فقالَ الرجلُ: لقد بَلَغَ هذا الكلبَ مِنَ العطشِ مِثْلُ الذي كانَ بَلَغَ مني فنزلَ البئرَ فملأ خُفَّهُ ماءً فسقَى الكلبَ فشكرَ اللهُ له فغفرَ لَهُ". قالوا: يا رسول الله! وإنَّ لنا في البهائمِ لأجرًا؟ فقال: "في كُلِّ ذاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". [رواه البخاري]
وفي رواية: "أنَّ امرأةً بَغِيًّا رَأَتْ كلبًا في يومٍ حارٍّ يُطِيفُ ببئرٍ قد أَدْلَعَ لسانَهُ مِنَ العطشِ فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لها". [رواه مسلم]
ولئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا؛ فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب!
وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَ - صلى الله عليه وسلم - حن الجمل وذرفت عيناه؛ فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح ذِفراه فسكت، فقال: "مَن ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟"، فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله! فقال له: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجيعُه وتُدئبُه". [رواه أبو داود، وصححه الألباني] (فمسح ذِفراه: ذِفرى البعير: أصل أذنه - تُدئبه: تكده وتتعبه)(1/179)
فيا لله العجب! حتى البهائم أُلهمت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة الله مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم عباد الله من قصة هذا الجمل؟ أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟ ناهيكم عن إيذاء البشر والاستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟ أين أنت يا سائق الإبل؟ أين أنت يا راعي الأسرة؟ أين أنت يا راعي المدرسة؟ وأنت يا راعي الدولة؟ اتقوا الله جميعا فيمن استرعاكم، ولئن كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه، أو البشر بطلب النصرة منه، فإن ربه حي لا يموت، يراكم ويسمعكم، ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]. [خلق المسلم للغزالي - ارحموا من في الأرض للشريم]
- - -
المواساة بالمال والطعام وقضاء الحاجات رحمة:
إن الفقر معرة إذا لصقت بالإنسان أحرجته، وهبطت به دون المكانة التي كتب الله للبشر، وإنها لتوشك أن تحرمه الكرامة التي فضل الله بها الإنسان على سائر الخَلق، وإنه لعزيز على النفس أن ترى شخصًا مشقوق الثياب، تكاد فتوقه تكشف عن سوءته، أو حافي الأقدام أبلى أديم الأرض كعوبه وأصابعه، أو جوعان يمد عينيه إلى شتى الأطعمة ثم يرده الحرمان وهو حسير..
والذين يرون هذه الصورة الفاحشة ثم لا يكترثون بها ليسوا بشرا وليسوا مؤمنين؛ فبين البشر عامة رَحِم يجب أن توصل وألا تمزقها الفاقة.
ولقد حدث أن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد هذه المناظر الحزينة فشق عليه مرآها، فجمع المسلمين ثم خطبهم، فذكرهم بحق الإنسان على الإنسان، وخوفهم بالله واليوم الآخر، وما زال بهم حتى جمعوا ما أغنى وستر..(1/180)
عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفاة عُراة مُجتابي النِّمار أو العَبَاء، مُتقلدي السيوف، عامتُهم من مُضَر، بل كلهم مِن مُضَر؛ فتمعَّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إلى آخر الآية: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، والآية التي في الحشر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ).. تصدَّقَ رجلٌ مِن دينارِه، مِن درهمِه، من ثوبِه، من صاعِ بُرِّه، من صاعِ تَمرِه"، حتى قال: "ولو بشِقِّ تمرةٍ". قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مَذهبَة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ مَن عَمِلَ بها بعدَه مِن غيرِ أنْ يَنقُصَ مِن أجورِهم شيءٌ، ومَن سَنَّ في الإسلامِ سُنةً سيئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عَمِلَ بها مِن بعدِه مِن غيرِ أنْ يَنقُصَ مِن أوزارِهم شيءٌ". [رواه مسلم]
ومن كان متأسيًا فليتأسَّ بجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي الصحيحين عن ابن عباس ب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناسِ، وأجودُ ما يكونُ في رمضانَ حينَ يلقاهُ جبريلُ، وكان جبريلُ ؛ يلقاهُ في كُلِّ ليلةٍ مِن رمضانَ فيُدَارِسُهُ القرآنَ، فَلَرسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخيرِ مِنَ الريحِ المُرسَلَةِ.(1/181)
والجود: هو سعة العطاء وكثرته، والله تعالى يوصف بالجود. وفي الحديث: "إن الله تعالى جوادٌ يُحبُّ الجودَ، ويُحبُّ مَعاليَ الأخلاقِ ويَكرهُ سَفسافَها". [خرجه السيوطي، وصححه الألباني في صحيح الجامع]
فالله سبحانه وتعالى أجود الأجودين، وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان. و في الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره: أنه يُنادَى فيه: "يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة".
سمع الشبلي قائلا يقول: يا الله! يا جواد!ّ فبكى وقال: بلى.. يا جواد! فإنك أوجدت تلك الجوارح وبسطت تلك الهمم؛ فأنت الجواد كل الجود؛ فإنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حدَّ له.. فيا جوادًا يعلو كل جواد، وبه جاد كل مَن جاد..
ولما كان الله عز وجل قد جبل نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أكمل الأخلاق وأشرفها؛ فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس. وكان جوده - صلى الله عليه وسلم - بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم..
ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة ل في أول مبعثه: "والله لا يُخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتَقري الضيف، وتَحمل الكَّل، وتُكسب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق". ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافا كثيرة.
وكان جوده - صلى الله عليه وسلم - كله لله، وفي ابتغاء مرضاته؛ فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألف به على الإسلام مَن يَقوى الإسلام بإسلامه، وكان يُؤثر على نفسه وأهله وأولاده؛ فيُعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يُوقد في بيته نار، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع.(1/182)
وكان جوده - صلى الله عليه وسلم - يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، وفي ذلك فوائد كثيرة؛ منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه.
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن "مَن جهز غازيًا فقد غزا، ومَن خلفَه في أهلِه فقد غزا". [رواه مسلم]، وعن زيد بن خالد الجُهَنِي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن فَطَّرَ صائمًا كان له مِثْلُ أجرِهِ غيرَ أنه لا يَنْقُصُ مِن أجرِ الصائمِ شيءٌ". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، كما في الحديث: "إنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظاهرُها مِن باطنِها وباطنُها مِن ظاهرِها، أعدَّها اللهُ تعالى لمن أطعمَ الطعامَ وألانَ الكلامَ وتابعَ الصيامَ، وصلى بالليلِ والناسُ نيامٌ". [أخرجه السيوطي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع] ، وهذه الخصال كلها تكون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام. والصلاة والصيام والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل. قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصا إنْ ضم إلى ذلك قيام الليل، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصيامُ جُنة". وفي حديث معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجلِ من جوفِ الليلِ". [رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني] يعني أنه يُطفئ الخطيئة أيضا.(1/183)
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه، وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي؛ و لهذا نهى أن يقول الرجل: صمتُ رمضان كله، أو قمتُه كله. والصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل؛ ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث.
وله فوائد أخر، قال الشافعي /: أحب للرجل الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.
والله تبارك وتعالى يقبل الصدقة وينميها لصاحبها، ويعطي عليها الثواب الجزيل: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ اللهَ يَقبَلُ الصدقةَ ويأخذُها بيمينِه فيُربِّيها لأحدِكم كما يُرَبِّي أحدُكم مُهرَه، حتى إنَّ اللقمةَ لَتصيرُ مِثلَ أُحُدٍ". [رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح لغيره]
وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يُحدَّث أن أبا الخير حدَّثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صدقتِهِ حتى يُفصَلَ بينَ الناسِ". أو قال: "حتى يُحكَمَ بينَ الناسِ". قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء؛ ولو كعكة، ولو بصلة! [رواه أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم]
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما مِن يومٍ يُصبِحُ العبادُ فيهِ إلا مَلَكانِ يَنزلانِ فيقولُ أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللهم أعطِ مُمسِكًا تَلَفًا" [متفق عليه](1/184)
وعن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجًرا؟ قال: "أنْ تَصدَّقَ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ تَخشَى الفقرَ وتأملُ الغِنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغتِ الحلقومَ؛ قلتَ: لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا وقد كان لفلان" [متفق عليه]
عن عائشة ل قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه: "أسرعُكنَّ لحوقًا بي أطولُكن يدًا". قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى تُوُفِّيَت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا؛ فعرفنا حينئذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد بطول اليد الصدقة. وكانت زينب ل امرأة صناعة اليد، فكانت تدبغ وتخرز، وتتصدق في سبيل الله. [أخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضلُ الأعمالِ أنْ تُدخِلَ على أخيكَ المؤمنِ سرورًا أو تَقضيَ عنه دينًا، أو تُطعمَه خبزًا". [أخرجه السيوطي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع]
قال ابن القيم: وقد دلَّ العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومِلَلها ونِحَلها على أنّ التقرب إلى رب العالمين، والبِر والإحسان إلى خَلقه مِن أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأنَّ أضدادها مِن أكبر الأسباب الجالبة لكل شر؛ فما استُجْلِبَتْ نِعَم الله واستُدْفِعَتْ نِقَمه بمِثل طاعته والإحسان إلى خلقه.
وللصدقة والإحسان تأثير عجيب في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة..(1/185)
فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جُنة واقية وحصن حصين، وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها، ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن؛ فإنه لا يفتر ولا يَني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود؛ فحينئذ
يبرد أنينه وتنطفيء ناره -لا أطفأها الله-..
فما حرس العبد نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله؛ وهو كفران النعمة، وهو باب إلى كفران المنعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه، فمن لم يكن له جند ولا عسكر، وله عدو؛ فإنه يوشك أن يظفر به عدوه؛ وإن تأخرت مدة الظفر، والله المستعان. [التفسير القيم]
وعن عبد الله بن عمرو ب أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي الإسلام خير؟ قال: "تُطعِمُ الطعامَ، وتقرأُ السلامَ على مَن عرفتَ ومَن لم تَعرفْ". [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه]
عن عليّ - رضي الله عنه - قال: لأنْ أجمع أناسًا مِن أصحابي على صاع مِن طعام أحب إليّ مِن أنْ أخرج إلى السوق؛ فأشتري نَسَمَة فأعتقها.
وعن حمزة بن صهيب أنَّ صهيبًا - رضي الله عنه - كان يُطعِم الطعام الكثير، فقال له عمر: يا صهيب! إنك تُطعِم الطعام الكثير؛ وذلك سَرَف في المال. فقال صهيب: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "خِيارُكم مَن أطعمَ الطعامَ"؛ فذلك الذي يحملني على أنْ أُطعِم الطعام.
عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: لأنْ أُشبع كبدًا جائعة أحبُّ إليّ مِن حَجَة بعد حَجَة.(1/186)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن نََفَّسَ عن مسلمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليهِ في الدنيا والآخرةِ، ومَن سَتَرَ مسلمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدنيا والآخرةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيهِ.." [رواه مسلم]
وجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج؛ لأن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما يرحمُ اللهُ مِن عبادِهِ الرُّحماءَ"، وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الذين يُعَذِّبون الناسَ في الدنيا".
قال الإمام النووي: ويدخل في كشف الكربة وتفريجها مَن أزالها بماله أو جاهه، أو مساعدته، والظاهر أنه يدخل فيه مَن أزالها بإشارته ورأيه ودلالته.
عن ابن عمر ب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخلُه على مسلمٍ، أو تكشفُ عنه كربةً، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطردُ عنه جوعًا.. و لأن أمشي مع أخي المسلمِ في حاجةٍ أحبُّ إليّ مِن أنْ أعتكفَ في المسجدِ شهرًا، ومَن كفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عورتَه، ومَن كظمَ غيظًا ولو شاءَ أنْ يُمضيَهُ أمضاهُ ملأَ اللهُ قلبَه رضًا يومَ القيامةِ، ومَن مشى مع أخيهِ المسلمِ في حاجتِهِ حتى يُثبِتَها له أثبتَ اللهُ تعالى قدمَه يومَ تَزِلُّ الأقدامُ، وإنَّ سُوءَ الخُلُقِ ليُفسِدُ العملَ كما يُفسِدُ الخلُّ العسلَ". [أخرجه السيوطي، وابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني في صحيح الجامع]
- - -
أقباس نورانية من سيرة السلف:(1/187)
عن برزة ابنة رافع قالت: لما جاء العطاء بعث أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - إلى أم المؤمنين زينب بنت جحش ل بالذي لها، فلما دخل عليها قالت: غفر الله لعمر؛ لَغيري مِن أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني. قالوا: هذا كله لك. قالت: سبحان الله! واستترتْ دونه بثوب، وقالت: صبوه، واطرحوا ثوبًا.. فصبوه وطرحوا عليه ثوبًا. فقالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة؛ فاذهبي إلى آل فلان وآل فلان مِن أيتامها وذوي رحمها. فقسمتْه حتى بقيتْ منه بقية.. فقالت لها برزة: غفر الله لك.. والله لقد كان لنا في هذا حظ! قالت: فلكم ما تحت الثوب. قالت: فرفعنا الثوب، فوجدنا خمسة وثمانين درهمًا.. ثم رفعتْ يديها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا. قالتْ: فماتت رضوان الله عليها.
عن مولاة لأبي أمامة الباهلي قالت: كان أبو أمامة رجلاً يحب الصدقة، ويجمع لها مِن الدينار والدرهم والفلوس، ولا يقف به سائل إلا أعطاه ما تهيأ له؛ حتى يضع في يد أحدهم البصلة!
قالت: فأصبحنا ذات يوم وليس في بيته شيء من الطعام، وليس عنده إلا ثلاثة دنانير.. فوقف به سائل؛ فأعطاه دينارًا.. ثم وقف به سائل؛ فأعطاه دينارًا.. ثم وقف سائل؛ فأعطاه دينارًا..!
قالت: فغضبتُ وقلتُ: لم يبقَ لنا شيء! فاستلقَى على فراشه، وأغلقتُ عليه باب البيت حتى أذَّن المؤذن للظهر، فجئتُه فأيقظتُه.. فراح إلى المسجد صائمًا.. فرققتُ عليه، فاستقرضتُ ما اشتريتُ به عشاءً، وهيأتُ سراجًا وعشاءً، ودنوتُ مِن فراشه لأمهده له، فرفعتُ المرفقة؛ فإذا بذهب! فقلتُ: ما صنع إلا ثقة بما جاء به.. قالت: فعددتُها فإذا ثلاثمائة دينار..! فتركتُها على حالها.(1/188)
قالت: فلما دخل ورأى ما هيأتُ له حمد الله تعالى، وتبسم في وجهي، وقال: هذا خير مِن غيره.. فجلس فتعشى.. فقلتُ: يغفر الله لك.. جئتَ بما جئتَ به ثم وضعتَه بموضع مضيعة؟! فقال: وما ذاك؟! فقلتُ: ما جئتَ به مِن الدنانير.. ورفعتُ المرفقة عنها؛ ففزع لما رأى تحتها، وقال: ويحك.. ما هذا؟! فقلتُ: لا علم لي به؛ إلا أني وجدتُه على ما ترى. [صفة الصفوة (بتصرف)]
قدمت لعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - سبعمائة راحلة تحمل على ظهورها كل ما يحتاج إليه الناس، وما إنْ دخلت المدينة حتى رُجَّت الأرض بها رجًّا، وسُمِع لها دَوِي وضجة.. فقالت عائشة ل: ما هذه الرجة؟ فقيل لها: عِير لعبد الرحمن بن عوف؛ سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام. فقالت عائشة: بارك الله فيما أعطاه في الدنيا، ولَثواب الآخرة أعظم.
وما إنْ لامست مقالة أم المؤمنين سمع عبد الرحمن حتى ذهب إليها مسرعًا وقال: أشهدكِ يا أُمَّه أنَّ هذه العِير جميعها؛ بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله.(1)
كان علي بن الحسين أكثر ما حُبِّب إليه مِن أعمال البر صدقة السر، كان يحمل أكياس الدقيق على ظهره في عتمة الليل والناس نيام.. فكان ناس مِن أهل المدينة يعيشون لا يدرون مِن أين معاشهم.. فلما مات فقدوا ما كانوا يُؤتَون به بالليل.. وكان إذا أتاه سائل قال: مرحبًا بمَن يحمل زادي إلى الآخرة.
__________
(1) أقتابها: جمع (قَتَب)، وهو رَحْل صغير على قدر سَنام البعير / أحلاسها: جمع (حِلْس)، وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة.(1/189)
وهذا الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد، ولي الله تعالى العارف به شمس الدين بن المنير الشافعي، كان يبيع سائر أنواع العطارة، وكان يجلس في حانوته ببعلبك، وفي كل يوم يضع من كسبه من الدنانير والدراهم والفلوس في أوراق ملفوفة، ويضع الأوراق في مكان عنده، وإذا وقف عليه الفقراء أعطاهم من تلك الأوراق ما يخرج في يده، لا ينظر في الورقة المدفوعة، ولا في الفقير المدفوع إليه.. وكان كثير الصدقة، معاونًا على البر والتقوى، وكان يعمر المساجد الخراب، ويكفن الفقراء، وكان له مهابة عند الحكام؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. وكان صاحب أوراد ومجاهدات. [الكواكب السائرة]
قال سعيد بن مسلمة بن هشام الأموي: كانت أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان تبعث إلى نسائها، فيجتمعن ويتحدثن عندها، وهي قائمة تصلي.. ثم تنصرف إليهن فتقول: أحب حديثكن، فإذا قمتُ إلى صلاتي نسيتكن!
قال: وكانت تكسوهن الثياب الحسنة، وتعطيهن الدنانير، وتقول: الكسوة لَكُنَّ، والدنانير اقسمنها بين فقرائكن.. وكانت تقول: جُعِل لكل قوم نَهْمة في شيء، وجعلتُ نَهْمتي في البذل والإعطاء.. والله للصلة والمواساة أحب إليّ مِن الطعام الطيب على الجوع، ومِن الشراب البارد على الظمأ.. ما حسدتُ أحدًا قط على شيء إلا أنْ يكون ذا معروف؛ فإني كنتُ أحب أنْ أشركه في ذلك.. وهل يُنال الخير إلا باصطناعه؟
وقال منصور مولى بني أمية: كانت أم البنين تعتق في كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله.
قال المكي بن إبراهيم: كنا عند ابن جريج المكي فجاء سائل فسأله، فقال ابن جريج لخازنه: أعطه دينارًا. فقال: ما عندي إلا دينار، إنْ أعطيتُه لجعتَ وعيالُك، قال: فغضب وقال: أعطه.(1/190)
قال المكي: فنحن عند ابن جريج إذ جاءه رجل بكتاب وصرة، وقد بعث إليه بعض إخوانه، وفي الكتاب: "إني قد بعثت خمسين دينارًا".. قال: فحلَّ ابن جريج الصرة فعدَّها، فإذا هي واحد وخمسون دينارًا، قال: فقال ابن جريج لخازنه: قد أعطيتَ واحدًا فردَّه الله عليك وزادك خمسين دينارًا. [ذكره الترمذي عقب حديث: "من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعلِه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء"]
عن أبي حاتم سليم بن منصور، قال: سمعت أبي يقول: دخلتُ على الليث بن سعد يومًا وعلى رأسه خادم يغمزه، فخرج، ثم ضرب الليث بيده إلى مصلاه؛ فاستخرج من تحته كيسًا فيه ألف دينار، ثم رمى بها إليَّ، ثم قال: يا أبا السري! لا تُعلِم بها ابني فتهون عليه. [حلية الأولياء]
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى السوق، فلحقته امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجي، وترك صبية صغارًا.. والله ما ينضجون كراعًا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيتُ عليهم الضبع! وأنا ابنة "خفاف بن إيماء الغفاري"، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقف معها عمر ولم يمضِ، وقال: مرحبًا بنسب قريب.. ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار؛ فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعامًا، وجعل بينهما نفقة وثيابًا.. ثم ناولها خُطامه، وقال: اقتاديه.. فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير! فقال رجل: يا أمير المؤمنين! أكثرتَ لها..! فقال عمر: ثكلتك أمك! والله.. إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنًا زمانًا؛ فافتتحاه.. ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه. [انفرد بإخراجه البخاري](1/191)
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عمر يصوم الدهر، وكان زمان الرمادة إذا أمسى أُتى بخبز قد ثُرد في الزيت! إلى أنْ نحروا يومًا مِن الأيام جزورًا؛(1)فأطعمها الناس، وغرفوا له طيبها.. فأُتِي به؛ فإذا قدر مِن سنام، ومِن كبد.. فقال: أنَّى هذا؟! قالوا: يا أمير المؤمنين! مِن الجزور التي نحرنا اليوم. قال: بخٍ.. بخٍ.. بئس الوالي أنا إنْ أكلتُ أطيبها، وأطعمتُ الناس كراديسها..!(2)ارفع هذه الجفنة، وهات لنا غير هذا الطعام؛ فأُتى بخبز وزيت.. فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز.. ثم قال: ويحك يا يرفأ! ارفع هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بـ"ثمغ"؛(3) فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مقفرين.. فضعها بين أيديهم.
عن شرحبيل بن مسلم أنَّ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان يُطعِم الناس طعام الإمارة ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت.
عن مصعب بن ثابت قال: بلغني والله أنَّ حكيم بن حزام حضر يوم عرفة ومعه مائة رقبة، ومائة بَدَنَة،(3)ومائة بقرة، ومائة شاة.. وقال: الكل لله.. فنحرها جميعًا وأطعم فقراء المسلمين.
قال عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد: صحبتُ الليث عشرين سنة، فكان لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، ولا يأكل إلا الألوان الكثيرة باللحم الوافر، وكان كل مَن جاءه مِن التلاميذ يأكل وينام وينفق على حسابه، لا يكلفه مِن ماله شيئًا، وإذا أراد السفر أعطاه نفقته وزاده.
__________
(1) الناقة المجزورة أي المذبوحة. (2) كراديسها: عظامها
(2) مال لعمر بن الخطاب بالمدينة جعله وقفًا. (4) البَدَنَة: تطلق على الناقة والبقرة والبعير الذكر مما يجوز في الهدي والأضاحي، ولا تطلق على الشاة، وسُمِّيَت بَدَنَة لعِظَمها وسِمَنها، وجمع البَدَنَة: البُدْن. [لسان العرب](1/192)
وكان يتخذ الحلوى لأصحابه، ويضع فيها الدنانير؛ ليرغبهم بذلك في الأكل ويُغنيهم.. وكانت له موائد عامة للناس، يطعمهم فيها الهرايس بعسل النحل وسمن البقر في الشتاء، وباللوز والسكر في الصيف. [رجال من التاريخ]
وعن سليمان بن منصور بن عمار، قال: سمعت أبي يقول: كنت عند الليث ابن سعد يومًا جالسًا، فأتته امرأة ومعها قدح، فقالت: يا أبا الحارث! إن زوجي يشتكي؛ وقد نُعت له العسل.. فقال: اذهبي إلى "أبي قسيمة"، فقولي له يعطيك مطرًا من عسل.. فذهبت، فلم ألبث أن جاء "أبو قسيمة"، فسارَّه بشيء لا أدرى ما قال له؟ فرفع رأسه إليه فقال: اذهب فأعطها مطرًا(1)؛ إنها سألت بقدرها وأعطيناها بقدرنا. [حلية الأولياء]
عن ابن شوذب قال: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرُّطَب يثلم(2) حائطه، ثم يأذن للناس فيه؛ فيدخلون، ويأكلون، ويحملون..! قال: وكان ينزل حوله ناس مِن أهل البدو؛ فيدخلون، ويأكلون، ويحملون..!
وكان إذا دخله ردد هذه الآية: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه) حتى يخرج مِن الحائط.
قال إسماعيل بن العلاء: دعاني الكلوذاني رزق الله بن موسى، فقدَّم إلينا طعاما كثيرا، وكان في القوم أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو خيثمة وجماعة، فقدَّم لوزينج (حلوى تشبه القطايف)، أنفق عليها ثمانين درهما، فقال أبو خيثمة: هذا إسراف. قال: فقال أحمد: لو أن الدنيا جُمعت حتى تكون في مقدار لقمة، ثم أخذها امرؤ مسلم، فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفا. قال: فقال يحيى: صدقت يا أبا عبد الله. [طبقات الحنابلة]
عن هشام بن عروة عن أبيه أن قيس بن سعد بن عبادة خرج من مصر، فمَرَّ بأهل بيت من "القَيْن"(2)،
__________
(1) المطر: مائة وعشرون رطلا. (2) يثلم: يكسر السياج المحيط بالبستان.
(2) القَيْن: قرية من جهة القِبلة في أوائل اليمن. (2) نوع من الحلواء يخلط فيه التمر والسمن.
(
3) الصحفة: إناء كالقصعة، والجمع (صحاف)(1/193)
فنزل بهم، فنحر لهم صاحب المنزل جَزورًا، وأتاهم به؛ فقال: دونكم.. فلما كان من الغد نحر لهم آخر، ثم حبستهم السماء اليوم الثالث؛ فنحر لهم مثله. فلما أراد "قيس" أن يرتحل وضع عشرين ثوبًا من ثياب مصر، وأربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل، وخرج قيس.. فما سار إلا قليلاً؛ حتى أتاه صاحب البيت على فرس كريم، ورمح طويل، وقدامه الثياب والدراهم؛ فقال: يا هؤلاء! خذوا بضاعتكم عني.. قال قيس: انصرف أيها الرجل؛ فإنا لم نكن لنأخذها! فقال الرجل: لتأخذُنَّها، أو لا ينفذ منكم رجل، أو تذهب نفسي! فعجب قيس منه، وقال: لِمَ.. لله أبوك؟! ألم تكرمنا، وتحسن إلينا؟ فكافأناك.. ما في هذا من بأس! فقال الرجل: إنا لا نأخذ لقِرَى ابن السبيل وقِرَى الضيف ثمنًا.. لا والله؛ لا أفعل أبدًا.. قال لهم قيس: أما إذ أبَى فخذوها منه. فأخذوها، ثم قال قيس: ما فضلني رجل غير هذا. [روضة العقلاء]
عن هلال بن إساف أنه ذهب مع أخ له لعيادة الربيع بن خثيم في مرض له.. يقول هلال: دخل علينا ابن الشيخ فقال: يا أبتِ إنّ أمي قد صنعتْ لك خبيصًا (2) وجَوَّدَتْه، وإنه ليجبر قلبها أنْ تأكل منه، فهل آتيك به؟ فقال: هاته. فلما خرج ليحضره طرق الباب سائل، فقال: أدخلوه. فلما صار في صحن الدار نظرتُ إليه؛ فإذا هو رجل كهل ممَزَّق الثياب؛ قد سال لعابه على ذقنه، وبَدَا مِن ملامح وجهه أنه معتوه. فما كدتُ أرفع بصري عنه حتى أقبل ابن الشيخ بصحفة الخبيص؛ فأشار إليه أبوه أنْ ضعها بين يدي السائل. فوضعها، فأقبل عليها الرجل، وجعل يلتهم ما فيها التهامًا، فما زال يأكل حتى أتى على ما في الصحفة (3) كله.
فقال له ابنه: رحمك الله يا أبتِ.. لقد تكلفتْ أمي وصنعتْ لك هذا الخبيص، وكنا(1/194)
نشتهي أنْ نأكل منه؛ فأطعمتَه لهذا الرجل الذي لا يدري ماذا أكل. فقال: يا بُني..! إذا كان هو لا يدري فإنَّ الله يدري.. ثم تلا قول الله عز وجل: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]
كان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهن كل يوم؛ فيشتري لهن حوائجهن وما يُصلحهن.
كان على مسروق دَيْن ثقيل، وكان على أخيه خيثمة دَيْن أيضا؛ فذهب "مسروق" وقضى دين "خيثمة" وهو لا يعلم! وذهب "خيثمة" وقضى دين "مسروق" وهو لا يعلم!
وذُكِر عن ابن المبارك أنه خرج مِن "خراسان" يريد الحج، وكان يسكن في "مَرْو"، فلما وصل بالقافلة إلى الكوفة؛ إذا بامرأة خرجت من الكوفة، وأخذت غرابًا ميتًا من مزبلة! فقال لمولاه: اذهب إلى هذه المرأة، واسألها: لماذا أخَذَت الغراب الميت؟ فذهب إلى المرأة وسألها، فقالت: والله ما في بيتنا طعام، ووالله ما نأكل منذ ثلاثة أيام إلا ما يُلقى في هذه المزبلة من المَيْتَة! فعاد إلى ابن المبارك فأخبره، فدمعت عينا ابن المبارك، وقال: نحن نأكل اللحم والفالوذج، وهم يأكلون الغربان الميتة؟! اصرفوا هذه القافلة بحبوبها وزبيبها ولحمها، وثيابها وجِمالها في أهل الكوفة، وعودوا.. لا حج لنا هذه السنة.
} - { } - {
أروا الله من أنفسكم خيرا
إن [من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل أبواب الحسنات متعددة وكثيرة جدًّا، بحيث لا يعجز أي إنسان عن الاستكثار منها، القوي والضعيف، والغني والفقير، والصغير والكبير، والعالم والجاهل.. كلٌّ مِن هؤلاء له طرق لا تُحصى للحصول على الثواب.(1/195)
والعمل الذي يتعدى نفعه إلى الغير أفضل من العمل القاصر الذي يقتصر نفعه على فاعله وحده. وفي ذلك يقول الله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114] فيمكن للإنسان أن يحصل على ثواب العمل مرتين، أو يحصل على ثواب بلا عمل بدني ولا مالي. وذلك كما يقول الحارث بن أسد المحاسبي: بأن ينوي الإنسان قبل خروجه من بيته: ألا يجد ضعيفًا إلا أعانه، ولا أعمى إلا أرشده إلى الطريق، ولا مريضًا يعرفه من المسلمين إلا عاده، ولا جنازة إلا شيعها، ولا منكرًا إلا نهى عنه، ولا ملهوفًا إلا أغاثه، إلى آخر ما يمكن عمله من أعمال البر، ينوي قبل خروجه أن يصنعه إن استطاع. فإن وجده فصنعه فله أجران: النية، وأجر العمل. وإن لم يجد، أو وجده ولم يستطع أن يصنعه، كأن يعجز ماليًّا أو صحيًّا عن العمل، فله أجر النية.
والأعمال العادية التي لا غنى للإنسان عنها، كالطعام والشراب، واللباس، والجماع. يمكن تحويلها إلى أعمال ذات ثواب جزيل، ويمكن تحويلها إلى أعمال ذات إثم شنيع، ويمكن أن تكون أعمالا مهدرة ليس لها ثواب ولا عليها عقاب. فالطعام والشراب إذا اقترن بنية القوة على العبادة، والسعي في المعاش، وفي مصلحة الأسرة. واللباس إذا اقترن بنية شرح الصدر والتحدث بنعمة الله. والجماع بنية العفة والإعفاف وهكذا بقية الأعمال، كالجلوس مع الإخوان بنية التعاون على البر والتقوى، كانت أعمالا ذات ثواب عظيم.
أما الطعام بنية القوة على البطش والتجبر، واللباس بنية التكبر، والجماع لإذلال الزوجة، والجلوس مع الإخوان للهذر، فكلها أعمال سوء ذات إثم عظيم. فإن لم تقترن تلك الأعمال بنية مطلقًا فهي هدر، لا لها ولا عليها.(1/196)
وإفشاء السلام مشروع لتأصيل الحب بين المسلمين، ولطلب الثواب عليه من الله، وقد يدخل الشيطان على المسلم بخدعة ليبطل ثواب إفشاء السلام، فيلقى في روع الإنسان: إنك لو لم تسلم على فلان لغضب منك، فيسلم عليه لئلا يغضب منه، وحينئذ يفقد المسلم نية طلب الثواب، ولا ثواب له على إفشاء السلام، فالأصل هو: طلب ثواب الله على السلام.] [مكفرات الذنوب وموجبات الجنة]
- - -
يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله عز وجل: "أنا عندَ ظَنِّ عبدي بِي، وأنا معَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي إنْ ذَكرَني في نَفْسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكرَني في ملَأٍٍ ذَكَرتُهُ في ملَأٍ هُم خَيْرٌ منهم، وإنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إليهِ ذراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إليَّ ذراعًا تَقَرَّبتُ منهُ بَاعًا، وإنْ أتَاني يَمشِي أتَيتُهُ هَرْوَلَةً" [رواه البخاري ومسلم]
قال الإمام النووي: [قوله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي) قال القاضي: قيل: معناه بالغفران له إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية. وقيل: المراد به الرجاء وتأميل العفو، وهذا أصح.
قوله تعالى: (وأنا معه حين يذكرني) أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية. وأما قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم) [الحديد: 4] فمعناه بالعلم والإحاطة.
هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره، ومعناه: من تقرب إليّ بطاعتي تقربتُ إليه برحمتي والتوفيق والإعانة، وإنْ زاد زِدتُ، فإنْ أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيتُه هرولة، أي صببتُ عليه الرحمة وسبقتُه بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد أن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه.] [شرح النووي على صحيح مسلم (ملخصًا)](1/197)
وقال ابن حجر: [قال ابن أبي جمرة: المراد بالظن هنا العلم، وهو كقوله: (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْه) [التوبة: 118]
وقال القرطبي في "المفهم": قيل: معنى (ظن عبدي بي) ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكًا بصادق وعده، وقال: ويؤيده قوله في الحديث الآخر: "ادعوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابة". قال: ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له؛ لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد. فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها وأنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومَن مات على ذلك وُكل إلى ما ظن، كما في بعض طرق الحديث المذكور: "فليظن بي عبدي ما شاء". قال: وأما ظن المغفرة مع الإصرار فذلك محض الجهل والغِرة.
قوله: (وأنا معه إذا ذكرني) أي بعلمي، وهو كقوله: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46] والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة: 7]
وقال ابن أبي جمرة: معناه فأنا معه حسب ما قصد من ذكره لي. قال: ثم يحتمل أن يكون الذكر باللسان فقط، أو بالقلب فقط، أو بهما، أو بامتثال الأمر واجتناب النهي.
قوله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) أي: إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرًّا ذكرته بالثواب والرحمة سرًّا. وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم) [البقرة: 152]، ومعناه: اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام.(1/198)
وقال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45] أي: أكبر العبادات، فمَن ذكره وهو خائف آمنه، أو مستوحش آنسه، قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]
قوله: (وإن ذكرني في ملأ) أي جماعة (ذكرته في ملأ خير منهم): قال بعض أهل العلم: يستفاد منه أن الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري. والتقدير: إنْ ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أُطلع عليه أحدًا، وإنْ ذكرني جهرًا ذكرته بثواب أُطلع عليه الملأ الأعلى.
قال القاضي كمال الدين بن الزملكاني: إن الله قابل ذكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه، وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ، فإنما صار الذكر في الملإ الثاني خيرًا من الذكر في الأول؛ لأن الله وهو الذاكر فيهم، والملأ الذين يذكرون والله فيهم أفضل من الملأ الذين يذكرون وليس الله فيهم.] [فتح الباري (ملخصًا)]
ولا يزال الصادق الموفق مجتهدًا في طاعة الله عز وجل؛ فيصير من أولياء الله الذين جاءتهم البشرى في الحديث الشريف عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "..وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مما افترضتُه عليهِ، ولا يَزالُ عبدي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتى أُحبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمعُ بهِ، وبصرَهُ الذي يُبصِرُ بهِ، ويدَهُ التي يَبطشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشي بها، ولَئِنْ سألني لأُعطِيَنَّهُ، ولَئِنِ استَعاذَني لأُعيذَنَّهُ.. " [رواه البخاري](1/199)
وقال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (يتقرب إلي): التقرب طلب القرب، قال أبو القاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه، ثم بإحسانه. وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه. ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق. قال: وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء.
قوله: (بالنوافل حتى أحبه): ظاهره أن محبة الله تعالى للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل، وقد استشكل بما تقدم أولا أن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة؟ والجواب أن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده أن في رواية أبي أمامة: "ابن آدم! إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك". وقال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على
إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى.
وقال ابن هبيرة: يؤخذ من قوله: (ما تقرب..) أن النافلة لا تُقدَّم على الفريضة؛ لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومَن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب.
وأيضًا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبًا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة بخلاف مَن يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين.
وأيضًا فإن من جملة ما شُرعت له النوافل جبر الفرائض كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم: "انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته.." الحديث بمعناه فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا مَن أخل بها، كما قال بعض الأكابر: مَن شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.] أ.هـ (ملخصًا)(1/200)
و[أداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والوَرَعُ عما حرَّم الله، وصِدقُ النيّة فيما عند الله عز وجل. وذلك لأنَّ الله عز وجل إنَّما افترض على عباده هذه الفرائض لِيُقربهم منه، ويُوجِب لهم رضوانه ورحمته.
والتقرب إلى الله بعدَ الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفافِ عن دقائق المكروهات بالوَرعِ، وذلك يُوجبُ للعبد محبة الله، كما قال: "ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتّى أُحبَّه"، فمن أحبه الله، رزقه محبَّته وطاعته والاشتغالَ بذكره وخدمته، فأوجبَ له ذلك القرب منه، والزُّلفى لديه، والحظْوة عنده.
قال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: مَن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومَن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل يحبونه ويحبون ذكره، ويحببونه إلى خلقه؛ يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله وأحباؤه، وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه.
وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دأبًا وشوقًا. وأنشد بعضهم:
ما للمُحِبِّ سوى إرادةِ حُبِّهِ إنَّ المُحِبَّ بكلِّ بِرٍّ يَضْرَعُ](1)
قال ابن حجر: [قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به): قد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره؟ والجواب من أوجه: أحدها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.
__________
(1) جامع العلوم والحكم: الحديث الثامن والثلاثين.(1/201)
ثانيها: أن المعنى: كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.
ثالثها: المعنى: أحصل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره.
رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه.
خامسها: قال الفاكهاني وسبقه إلى معناه ابن هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير: كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه، وحافظ بصره كذلك.
سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله؛ وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذِكرِي، ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك.
وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها. وقال الخطابي: هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله. وإلى هذا نحا الداودي، ومثله الكلاباذي، وعبر بقوله: أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي، لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه.
سابعها: قال الخطابي أيضًا: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.][فتح الباري (ملخصًا)](1/202)
وقال الحافظ ابن رجب: [المراد بهذا الكلام: أن مَن اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه؛ فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته، وخوفه ومهابته وإجلاله، والأنس به والشوق إليه؛ حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدًا له بعين البصيرة.] [جامع العلوم والحكم]
و[قوله: (وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه): قال الطوفي: هذا الحديث أصل في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفته ومحبته وطريقه، إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان، والظاهرة وهي الإسلام، والمركب منهما وهو الإحسان فيهما كما تضمنه حديث جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها. وفي الحديث أيضًا أن مَن أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يُرَد دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم، وفيه أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبًا لله لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية.] [فتح الباري (ملخصًا)]
[(ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) يعني أن هذا المحبوب المقرب، له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئًا أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء أعاذه منه، وإنْ دعاه أجابه؛ فيصير مجاب الدعوة لكرامته على ربه عز وجل، وقد كان كثير من
السلف الصالح معروفًا بإجابة الدعوة.
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كم مِن أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرَين(1)لا يُؤبَهُ لهُ، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ؛ منهم البراءُ بنُ مالكٍ" [رواه الترمذي والبيهقي في دلائل النبوة، وقال الألباني: حسن صحيح]
__________
(1) الطِّمْر: الكساء البالي من غير الصوف، والجمع: أطمار.(1/203)
وقد لقي "البراء" زحفًا من المشركين، فقال له المسلمون: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا ربِّ لما منحتنا أكتافهم؛ فمنحهم أكتافهم. ثم التقوا مرة أخرى، فقالوا: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك - صلى الله عليه وسلم - ؛ فمُنحوا أكتافهم، وقُتل البراء.
وروى أبو نعيم بإسناده عن سعد: أن عبد الله بن جحش قال يوم "أُحد": يا ربِّ! إذا لقيتُ العدو غدًا، فلقني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حَرَدُه(1)أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غدًا، قلتَ: يا عبد الله! مَن جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك؛ فتقول: صدقتَ. قال سعد: فلقد لقيتُه آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط.
وشكا أنس بن مالك - رضي الله عنه - عطش أرض له في البصرة، فتوضأ وخرج إلى البرية، وصلى ركعتين ودعا؛ فجاء المطر فسقى أرضه، ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيرا.
وكان رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن البصري، فيؤذيهم، فلما زاد أذاه قال الحسن: اللهم قد علمت أذاه لنا، فاكفناه بما شئت؛ فخر الرجل من قامته، فما حمل إلى أهله إلا ميتًا على سريره.
وكان صلة بن أشيم في سرية، فذهبت بغلته بثقلها، وارتحل الناس، فقام يصلي وقال: اللهم إني أقسم عليك أن ترد عليّ بغلتي وثقلها؛ فجاءت حتى قامت بين يديه.
ومثل هذا كثير جدا، ويطول استقصاؤه. وأكثر مَن كان مجاب الدعوة من السلف كان يصبر على البلاء، ويختار ثوابه، ولا يدعو لنفسه بالفرج منه. وقد روي أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة دعوته، فقيل له: لو دعوتَ الله لبصرك، وكان قد أضر، فقال: قضاء الله أحب إليّ من بصري.
__________
(1) الحِرْدُ والحَرَدُ لغتان، يقال: حَرِدَ الرجل فهو حَرِدٌ إِذا اغتاظ فتحرش بالذي غاظه وهَمَّ به.(1/204)
وربما دعا المؤمن المجاب الدعوة بما يعلم الله الخيرة له في غيره؛ فلا يجيبه إلى سؤاله، ويعوضه عنه ما هو خير له إما في الدنيا أو في الآخرة.] [جامع العلوم والحكم]
يا ربِّ.. ما خطَّتْ يدايَ صحيفةً ... إلا وغنّتْ بالحروف سرائرُ
مَنْ لم يجِدْكَ و ضلَّ وِردَكَ مَشربًا ... فَقَدَ النجاةَ، وفي لقاكَ بشائرُ
لا عاش قلبٌ لستَ فيهِ ولا اهتدى ... إنْ ضلَّ غيرَ سبيلِ حبِّك حائِرُ
وإذا عيونٌ لا تراكَ أمامَها ... عَمِيَتْ، وشُلَّتْ في الوجوهِ مَحاجرُ
خسرَ الذي ينساكَ طيبَ حياتِهِ ... ومَنِ استعزَّ بغير عزِّكَ خاسرُ
قالوا: خُذِ الدّنيا و دعْ ما دونها ... قلتُ: الحياةُ بما سواكَ صغائرُ
قالوا: كفرتَ بما حبتْكَ فقلتُ: مَنْ ... يَقضي الحياةَ بغير حبِّكَ كافرُ
قالوا، وقلتُ.. ولستُ أرجو بعد ذا ... إلا رضاكَ، وما سواهُ فَغابرُ
من قصيدة "قالوا وقلتُ" للشاعر السورى/ أنس إبراهيم الدغيم نقلا عن موقع "رابطة أدباء الشام"
} - { } - {
قُرُبات مضاعفة الحسنات
قراءة القرآن والإنصات إليه والعمل به
شهر رمضان له خصوصية بالقرآن، كما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ) [البقرة:185]، وقد ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان؛ خصوصا الليالي التي يُطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها؛ فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان. وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم.(1/205)
فكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام. وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وكانت عائشة ل تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه.
وللقرآن تأثير عظيم في نفوس أوليائه، فقد كانوا رضوان الله عليهم يتنافسون في حفظه وقراءته في الصلاة وفي غير الصلاة، حتى لقد طاب لهم أن يهجروا لذيد منامهم من أجل تهجدهم به في الأسحار ومناجاتهم العزيز الغفار، وما كان هذا حالا نادرًا فيهم، بل ورد أن المار على بيوت الصحابة بالليل كان يسمع لها دَوِيًّا كدوي النحل بالقرآن، وكان التفاضل بينهم بمقدار ما يحفظ أحدهم من القرآن، وكانت المرأة ترضى بل تغتبط أن يكون مهرها سورة يعلمها إياها زوجها من القرآن.
ولم يقتصر الأمر على التلاوة، بل إن جل اهتمامهم العمل به وتنفيذ تعاليمه في كل شأن من شئونهم، تاركين كل ما كانوا عليه مما يخالف تعاليمه ويجافي هداياته؛ طيبة بذلك نفوسهم، طيعة أجسامهم، سخية أيديهم وأرواحهم، حتى صهرهم القرآن في بوتقته، وأخرجهم للعالَم خَلْقًا آخر؛ مستقيم العقيدة، قويم العبادة، طاهر العادة، كريم الخُلُق، نبيل المطمح..
جاء في ترجمة الآمدي لـ"عامر بن ربيعة"؛ أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه.. ثم جاءه هذا الرجل وقد أصاب أرضًا، فقال له: إني استقطعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واديًا في العرب، وقد أردتُ أنْ أقطع لك منه قطعة؛ تكون لك ولعقبك من بعدك.. فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك؛ نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُون) [الأنبياء:1](1/206)
وهذا هو فرق ما بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة، والقلوب الميتة المغلقة الخامدة، التي تُكَفِّن ميتتها باللهو، وتواري خمودها بالاستهتار، ولا تتأثر بالذكر؛ لأنها خاوية من مقومات الحياة..!
والمؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام وتلاوة القرآن؛ فمَن جمع بين هذين الجهادين، ووفَّى بحقوقهما، وصبر عليهما وُفي أجره بغير حساب. [لطائف المعارف - مناهل العرفان (بتصرف) - الظلال]
عن عبد الله بن عمر ب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ الصيامُ: أي رَبِّ منعتُه الطعامَ والشهوةَ فشفِّعني فيه، ويقولُ القرآنُ: منعتُه النومَ بالليلِ فشفِّعني فيه. قال: فيُشفَّعان". [رواه والطبراني، وابن أبي الدنيا، وصححه الألباني]
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن قرأَ حرفًا مِن كتابِ اللهِ فلهُ بهِ حسنةٌ، والحسنةُ بعَشرِ أمثالِها، لا أقولُ: ألم حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
فيا عباد الله..
إن ربنا تبارك وتعالى [يتعبد خلقه بتلاوة القرآن، ويُقربهم إليه، ويأجرهم على مجرد ترديد لفظه، ولو مِن غير فهمه؛ فإذا ضموا إلى التلاوة فهمًا زادوا أجرًا على أجر.. قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29-30](1/207)
والقارئ المخلص يتدرج -بتوفيق الله- إلى التدبر والاهتداء بهدي القرآن عن طريق هذا الترغيب المشوق؛ فإن مَن يقرأ القرآن في يومه وهو غافل عن معانيه، يقرأه في غده وهو ذاكر لها، ومَن قرأه في غده وهو ذاكر لها أوشك أنْ يعمل بعد غد بهديها.. وهكذا ينتقل القارئ من درجة إلى درجة أرقى منها؛ حتى يصل إلى الغاية بعد تلك البداية؛ فكل مَن سار على الدرب وصل..
ويرحم الله "ابن عطاء الله السكندري" إذ يقول في حِكَمه: لا تترك الذِّكر لعدم حضورك مع الله فيه؛ لأنَّ غفلتك عن وجود ذِكره أشد مِن غفلتك في وجود ذِكره. فعسى أنْ يرفعك مِن ذِكر مع وجود غفلة؛ إلى ذِكر مع وجود يقظة.. ومِن ذِكر مع وجود يقظة؛ إلى ذِكر مع وجود حضور.. ومِن ذكر مع وجود حضور؛ إلى ذِكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور.. وما ذلك على الله بعزيز.] [مناهل العرفان في علوم القرآن (بتصرف)]
ومَن [أحب أن يكون من أهل القرآن وأهل الله وخاصته؛ ينبغي أن يتأدب بآداب القرآن، ويتخلق بأخلاق شريفة يتميز بها عن سائر الناس ممن لا يقرأ القرآن.. هِمته إيقاع الفهم لما ألزمه الله من اتباع ما أمر، والانتهاء عما نهى، ليس همته متى أختم السورة؟ هِمته متى أستغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من المحسنين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أحفظ لساني؟ متى أغض طرفي؟ متى أستحيي من الله حق الحياء؟ متى أصلح ما فسد من أمري؟ متى أتزود ليوم معادي؟ متى أكون بزجر القرآن متعظًا؟ متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلاً؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهب ليوم موتي وقد غُيب عني أجلي؟ متى أعمر قبري؟ متى أفكر في الموقف وشدته؟(1/208)
فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن؛ فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله، وما قبح منه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه.. فمَن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصفة، فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحرزًا.. ومَن كان هذا وصفه؛ نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا وفي الآخرة.] [أخلاق حملة القرآن للآجري (بتصرف يسير)]
} - { } - {
صلة الأرحام
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن سَرَّه أنْ يُبسَطَ له في رزقِه، وأنْ يُنْسَأَ له في أثَرِه فليَصِلْ رَحِمَهُ". [رواه البخاري]
وفي "صحيح الترغيب والترهيب" عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما مِن ذنبٍ أجدرَ أنْ يُعَجِّلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ في الدنيا مع ما يَدخِرُ له في الآخرةِ مِن البغيِ وقطيعةِ الرحمِ". [رواه ابن ماجه والترمذي، والحاكم]
قال الألباني: ورواه الطبراني فقال فيه: ".. من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإنَّ أعجلَ البِرِّ ثوابًا لَصلةُ الرحمِ، حتى إنَّ أهلَ البيتِ ليكونون فجرةٌ فتنمو أموالُهم ويكثرُ عددُهم إذا تواصلوا". ورواه ابن حبان في صحيحه ففرقه في موضعين، ولم يذكر الخيانة والكذب، وزاد في آخره: "وما من أهل بيت يتواصلون فيحتاجون".
وفي صحيح مسلم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخلُ الجنةَ قاطعٌ". قال ابن أبي عمر: قال سفيان: يعني قاطع رحم.(1/209)
قال الإمام النووي: هذا الحديث يتأول تأويلين: أحدهما: حمله على مَن يَستحِل القطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمها؛ فهذا كافر يخلد في النار، ولا يدخل الجنة أبدًا. والثاني: معناه: ولا يدخلها في أول الأمر مع السابقين، بل يُعاقَب بتأخره القدر الذي يريده الله تعالى. [شرح النووي على صحيح مسلم]
قال عمرو بن دينار: ما من خطوة بعد الفريضة أعظم أجرًا من خطوة إلى ذي رحم.
وقال سليمان بن موسى: قيل لعبد الله بن محيريز: ما حق الرحم؟ قال: تُستقبَلُ إذا أقبلت، وتُتبعُ إذا أدبرت.
قال ابن عباس ب: احفظوا أنسابكم؛ تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا بُعد بالرحم إذا قربت، وإن كانت بعيدة، ولا قُرب بها إذا بعدت، وإن كانت قريبة، وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها، تشهد له بصلة إن كان وصلها، وعليه بقطيعة إن كان قطعها. [الأدب المفرد]
عن عبد الله بن عمرو ب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكنَّ الواصلَ الذي إذا انقطعت رَحِمُه وصلَها". [رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني]
و[هذا من باب الحث على مكارم الأخلاق كقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون: 96] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "صِلْ مَن قطعك، وأحسن إلى مَن أساء إليك" [أخرجه السيوطي عن علي، وصححه الألباني]
ونظيره قولك: هو ليس بالرجل، بل الرجل مَن يصدر منه المكارم والفضائل.] [تحفة الأحوذي (ملخصًا)]
- - -
الجزاء من جنس العمل:(1/210)
في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ خلقَ الخلقَ حتى إذا فرغَ مِن خلقِه قالتِ الرَّحِمُ: هذا مَقامُ العائذِ بكَ مِنَ القطيعةِ. قال: نعم.. أما تَرضَيْنَ أنْ أصلَ مَن وَصلَكِ وأقطعَ مَن قطعَكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ. قال: فهو لك". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فاقرأوا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)" [محمد: 22]
[قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني، ليست بجسم، وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة، ويتصل بعضه ببعض، فسمي ذلك الاتصال رحمًا. والمعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل، وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها، وفضيلة واصليها، وعظيم إثم قاطعيها بعقوقهم، لهذا سمي العقوق قطعًا، والعق الشق كأنه قطع ذلك السبب المتصل. قال: ويجوز أن يكون المراد قام مَلَك من الملائكة وتعلق بالعرش وتكلم على لسانها بهذا بأمر الله تعالى. هذا كلام القاضي.
والعائذ المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء الملتجئ إليه المستجير به. قال العلماء: وحقيقة الصلة العطف والرحمة، فصلة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بهم، ورحمته إياهم، وعطفه بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى، وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته.
قال القاضي عياض: ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة. قال: والأحاديث في الباب تشهد لهذا، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب، ومنها مستحب، ولو وصل بعض الصلة لم يصل غايتها لا يسمى قاطعًا، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لا يسمى واصلاً.] [شرح النووي على صحيح مسلم](1/211)
وقال ابن حجر في "فتح الباري": [مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة مَن استجار به فأجاره فأدخله في حمايته، وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "مَن صلى الصبح فهو في ذمة الله، وإنَّ مَن يَطلبُه اللهُ بشيءٍ مِن ذمتِه يُدركُه ثم يَكبُّه على وجهِه في النارِ". [أخرجه مسلم]
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الرحمَ شُجنةٌ مِن الرحمنِ، فقالَ اللهُ: مَن وصلَكِ وصلتُه، ومَن قطعَكِ قطعتُه". [رواه البخاري]
قوله: (الرحم شجنة) بكسر أوله وسكون الجيم بعدها نون، وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة. وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، والشَّجَن بالتحريك واحد الشجون وهي طرق الأودية، ومنه قولهم: "الحديث ذو شجون" أي يدخل بعضه في بعض.
وقوله: (من الرحمن) أي أخذ اسمها من هذا الاسم، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعًا: "أنا الرحمنُ، خلقتُ الرحمَ وشققتُ لها اسمًا مِن اسمي"، والمعنى: أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله. وقال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتُقَّ اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة، وليس معناه أنها من ذات الله. تعالى الله عن ذلك.
قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة، فالعامة رحم الدِّين؛ وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة. وأما الرحم الخاصة فتزيد للنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم. وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك. وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء.(1/212)
والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارًا أو فُجارًا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وَعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى.] أ.هـ(ملخصًا)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله! إنَّ لي قَرابةً أصِلُهم ويَقطَعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهلون عليَّ.. فقال: "لَئِنْ كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، ولا يَزالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلكَ". [رواه مسلم]
[(أحلم عنهم ويجهلون) أي يسيئون، والجهل هنا القبيح من القول. (الْمَل): الرماد الحار، و(الظهير) المعين، والدافع لأذاهم.
ومعناه كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه. وقيل: معناه إنك بالإحسان إليهم تُخزيهم وتُحقِّرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم، كمَن يسف المل. وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم. والله أعلم.] [شرح النووي على صحيح مسلم]
- - -
أحق الناس بالبر والصلة:
قال تعالى: (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) [البقرة: 177]
[((1/213)
وآتَى المالَ) وهو كل ما يتموله الإنسان من مال، قليلا كان أو كثيرا، أي: أعطى المال (على حُبِّه) أي: حب المال، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس، فلا يكاد يُخرجه العبد.. فمَن أخرجه مع حبه له تقربًا إلى الله تعالى، كان هذا برهانًا لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه، أن يتصدق وهو صحيح شحيح، يأمل الغنى، ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة، كانت أفضل؛ لأنه في هذه الحال يحب إمساكه، لما يتوهمه من العدم والفقر.
وكذلك إخراج النفيس من المال، وما يحبه من ماله كما قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه.
ثم ذكر المنفَق عليهم، وهم أولَى الناس ببرك وإحسانك؛ من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم، وتفرح بسرورهم، الذين يتناصرون ويتعاقلون.. فمن أحسن البر وأوفقه تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي، على حسب قُربهم وحاجتهم.. فإن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح.. وقد أمر بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبه محبتهم إياه والتئامهم، وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله: (لِتَعَارَفُوا) [الحجرات: 13] فليس مُقيَّدًا بوصف فقرهم، بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم، وشامل للتوسعة على المتضائقين وترفيه عيشتهم؛ إذ المقصود هو التحابب.] [تيسير الكريم الرحمن - التحرير والتنوير (بتصرف يسير)]
[(1/214)
وما قيمة إيتاء المال -على حبه والاعتزاز به- لذوي القربي؟ إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة.. انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق. فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال. وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال. لا في الرخيص منه ولا الخبيث. فيتحرر من عبودية المال؛ هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرءوس. ويتحرر من الحرص. والحرص يذل أعناق الرجال. وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام، الذي يحاول دائمًا تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها، يقينًا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات..!
ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة.. هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس، وكرامة الأسرة، ووشائج القربى. والأسرة هي النواة الأولى للجماعة. ومِن ثَم هذه العناية بها وهذا التقديم..] [في ظلال القرآن]
[وذوو القربى أحق الناس بالبر والصلة؛ فإن الإنسان إذا احتاج وفي أقاربه غنى؛ فإن نفسه تتوجه إليه بعاطفة الرَّحِم، ومن المغروز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوي رحمه وعدمهم أشد مما يألم لفاقة غيرهم؛ فإنه يهون بهوانهم، ويعتز بعزتهم.. فمَن قطع الرحم، ورضي بأنْ ينعم وذوو قُرباه بائسون؛ فهو بريء من الفطرة والدين، وبعيد من الخير والبر.. ومَن كان أقرب رَحِمًا كان حقه آكد وصلته أفضل.] [تفسير المنار]
عن سلمان بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ، وهي على ذي الرحمِ ثِنتانِ: صدقةٌ وصلةٌ". [رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي، وصححه الألباني](1/215)
وأخرج مسلم في صحيحه عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تصدقنَ يا معشرَ النساءِ ولو مِن حُلِيِّكُنَّ". قالت: فرجعت إلى عبد الله، فقلتُ: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا بالصدقة، فأتِه فاسأله، فإن كان ذلك يَجزي عني وإلا صرفتُها إلى غيركم. قالت: فقال لي عبد الله: بل ائتِه أنتِ.. قالت: فانطلقتُ فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجتي حاجتها.. قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُلقِيَت عليه المهابة.. قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن.. قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن هما؟" فقال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أيُّ الزيانب؟" قال: امرأة عبد الله. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لهما أجران: أجرُ القرابةِ وأجرُ الصدقةِ".
[قوله - صلى الله عليه وسلم - : (يا معشر النساء تصدقن) فيه أمر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفعال الخير، ووعظه النساء إذا لم يترتب عليه فتنة. والمعشر الجماعة الذين صفتهم واحدة.
قولهما: (ولا تخبره من نحن)، ثم أخبر بهما: قد يقال: إنه إخلاف للوعد، وإفشاء للسر. وجوابه: أنه عارض ذلك جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجوابه - صلى الله عليه وسلم - واجب محتم لا يجوز تأخيره، ولا يُقدَّم عليه غيره، وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها.(1/216)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة) فيه الحث على الصدقة على الأقارب، وصلة الأرحام وأن فيها أجرين.] [ شرح النووي على صحيح مسلم]
عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحبَّ أمواله إليه بيْرَحاءُ، وكانت مُسْتَقْبلة المسجد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، قال أنس: فلما نزلت: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] قال أبو طلحة: يا رسول الله! إن الله يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإن أحبَّ أموالي إليَّ بيْرَحاءُ، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله تعالى، فَضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "بَخٍ، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَاكَ مَالٌ رَابِح، وقد سَمِعتُ، وأنا أرى أنْ تَجعلَها في الأقربين". فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه [متفق عليه]
عن سليمان بن يسار، عن أم المؤمنين ميمونة ل قالت: كانت لي جارية فأعتقتُها فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه، فقال: "آجرك اللهُ أما إنك لو كنتِ أعطيتِها أخوالَك كان أعظمَ لأجرِكِ". [رواه مسلم وأبو داود والنسائي]
قال صاحب عون المعبود: [(كانت لي جارية): أي مولودة مملوكة في ملكي. (آجرك الله): بالمد والقصر أي أعطاك الله جزاء عملك. (أخوالك): جمع الخال لأنهم كانوا محتاجين إلى خادم من ضيق الحال. (كان أعظم لأجرك): لأن في إعطائها صلة الرحم والصدقة، وفي الإعتاق الصدقة فقط.] أ.هـ(1/217)
وعن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما مِن ذي رحمٍ يأتي ذا رحمِه فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه، فيبخلُ عليه إلا أخرجَ اللهُ له مِن جهنمَ حيةً يقالُ لها: شجاعُ؛ يَتلمَّظُ فيُطوَّقُ به". [رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن صحيح]
وعن عبد الله بن عمر ب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أيما رجلٍ أتاه ابنُ عمِّه يسألُه مِن فضلِه، فمنعَه منعَه اللهُ فضلَه يومَ القيامةِ". [رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره]
قال عطاء بن أبي رباح: لَدِرهمٌ أضعه في قرابتي أحب إليَّ مِن ألفٍ أضعها في فاقة. فقال له قائل: يا أبا محمد! وإن كان قرابتي مثلي في الغنى؟ قال: وإن كانوا أغنى منك!
لا تَمنَعَنَّ يَدَ المعروفِ عن أحَدٍ ... مادُمتَ مُقتدِرًا فالسعدُ تاراتُ
قد ماتَ قومٌ وما ماتت مكارمُهُم ... وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ
موضوع "صلة الرحم" منقول باختصار من كتاب "بشريات السلامة من أهوال القيامة": 8
} - { } - {
كثرة الخطا إلى المساجد
في صحيح مسلم عن أُبَي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له، (أو قلت له): لو اشتريتَ حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء؟ قال: ما يسرني أنَّ منزلي إلى جنب المسجد؛ إني أريد أن يُكتَب لي مَمشايَ إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قد جمعَ اللهُ لكَ ذلكَ كلَّه".
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ أعظمَ الناسِ أجرًا في الصلاةِ أبعدُهم إليها مَمشًى فأبعدُهم". [رواه البخاري ومسلم](1/218)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن تَطهَّرَ في بيتِهِ ثم مَشى إلى بيتٍ مِن بيوتِ اللهِ ليَقضيَ فريضةً مِن فرائضِ اللهِ كانت خطوتاهُ إحداهما تَحُطُّ خطيئةً والأخرى ترفعُ درجةً".[رواه مسلم]
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا تطهَّرَ الرجلُ ثُم أتى المسجدَ يَرعَى الصلاةَ كَتب له كاتباهُ أو كاتبُه بكلِّ خطوةٍ يخطوها إلى المسجدِ عشرَ حسناتٍ، والقاعدُ يَرعَى الصلاةَ كالقانتِ، ويُكتَبُ مِن المصلين مِن حِينِ يَخرجُ مِن بيتِهِ حتى يَرجعَ إليهِ". [رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وصححه الألباني]
وعن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن غَدَا إلى المسجدِ لا يَريدُ إلا أنْ يتعلَّمَ خيرًا أو يعلمه كانَ له كأجرِ حاجٍّ تامًّا حَجَّتُهُ". [رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به، وصححه الألباني]
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "مَن غَدَا إلى المسجدِ أو راحَ أعدَّ اللهُ لهُ في الجنةِ نُزُلاً كلما غَدَا أو راحَ".[رواه مسلم] والنُّزُل ما يُهَيأ للضيف عند قدومه.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن صلى للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ يُدرِكُ التكبيرةَ الأولى كُتِبَتْ لهُ بَراءتانِ: براءةٌ مِنَ النارِ وبراءةٌ مِنَ النفاقِ" [رواه الترمذي، وحسنه الألباني]
قال سعيد بن المسيب: مَن حافظ على الصلوات الخمس في جماعة؛ فقد ملأ البَّر والبحر عبادة.
- - -
صلاة التراويح:(1/219)
فرض الله تعالى صيام أيام رمضان، وسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام لياليه: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: "مَن قَامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِه". [متفق عليه]
وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة التراويح ثلاث ليالٍ، ولم يصلها بعدُ معهم خشية أن تُفرض عليهم، وكان بالمؤمنين رحيما، فصلاها الصحابة فرادى، حتى جمعهم عمر على الصلاة خلف أُبَي بن كعب رضوان الله عليهم جميعا.
عن عائشة ل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: "أما بعد.. فإنه لم يَخْفَ عليَّ مكانُكم لكني خشيتُ أنْ تُفرَضَ عليكم فتَعجزوا عنها". [رواه البخاري]
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ؛ فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر؛ وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي رمضان.
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتبْ مِنَ الغافلين، ومَن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتبَ مِنَ القانتين، ومَن قامَ بألفِ آيةٍ كُتبَ مِنَ المقنطرين". [صححه الألباني في صحيح الجامع] (يعني أنه كتب له قنطار من الأجر)(1/220)
ومن أراد أن يزيد في القراءة ويطيل، وكان يصلي لنفسه؛ فليطول ما شاء. وكذلك مَن صلى بجماعة يرضون بصلاته. وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشرة.
وكان عمر - رضي الله عنه - قد أمر أُبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر.
وسئل الإمام أحمد عما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - فقال: في هذا مشقة على الناس، ولا سيما في هذه الليالي القصار، وإنما الأمر على ما يحتمله الناس.
وكلام الإمام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين؛ فلا يشق عليهم. وقاله أيضًا غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم.
قال ابن منصور: سئل إسحاق بن راهويه: كم يُقرأ في قيام شهر رمضان؟ فلم يُرخِّص في دون عشر آيات من البقرة، والآيات الخفاف فبقدر عشر آيات من البقرة في كل ركعة. وكذلك كره الإمام مالك أن يُقرأ دون عشر آيات.
عن جبير بن نفير عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان، فلم يقم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلتُ: يا رسول الله! لو نفلتَنا قيام هذه الليلة؟ قال: فقال: "إنَّ الرجلَ إذا صلى مع الإمامِ حتى ينصرفَ حُسبَ له قيامُ ليلةٍ". قال: فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلتُ: وما الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بقية الشهر. [رواه أبو داود، وصححه الألباني]
وهذا يدل على أن قيام ثلث الليل ونصفه يُكتب به قيام ليلة لكن مع الإمام، وكان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث ويصلي مع الإمام حتى ينصرف، ولا ينصرف حتى ينصرف(1/221)
الإمام. وقال بعض السلف: مَن قام نصف الليل فقد قام الليل.
- - -
الاعتكاف والاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان:
لما كان صلاحُ القلب واستقامتُه على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقِّفا على جمعيته على الله، ولَمِّ شَعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شَعَثَ القلب لا يَلُمُّه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فُضول الطعام والشراب، وفُضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيدُه شَعَثاً، ويُشَتِّتُهُ فى كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يُضعِفه، أو يعوقه ويُوقِفه.
اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يُذهِب فضولَ الطعام والشراب، ويَستفرِغُ مِن القلب أخلاطَ الشهوات المعوِّقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفعُ به العبد فى دنياه وأُخراه، ولا يضرُّه ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذى مقصودُه وروحُه عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبال عليه فى محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بَدَلَها، ويصير الهمُّ كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكُر فى تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بَدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة فى القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
ولما كان هذا المقصود إنما يتمُّ مع الصوم، شُرِع الاعتكاف فى أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم يُنقل عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف مُفطِرًا قَطُّ، بل قد قالت عائشة ل: لا اعتكاف إلا بصوم. ولم يذكر اللهُ سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلا مع الصوم.(1/222)
فالقول الراجح فى الدليل الذى عليه جمهورُ السلف: أن الصوم شرط فى الاعتكاف، وهو الذى كان يُرجِّحه شيخُ الإسلام أبو العباس بن تيمية.
وأما الكلام، فإنه شُرِعَ للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع فى الآخرة. وأما فُضول المنام، فإنه شُرِعَ لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبة، وهو السهر المتوسِّطُ الذى ينفع القلبَ والبدن، ولا يَعُوق عن مصلحة العبد.
كل هذا تحصيلا لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكَف موضِع عِشْرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوى لون. واللَّه الموفق.
وكثير من العلماء يقولون: إنك إذا دخلت المسجد تأخذ ثواب الاعتكاف مادمت قد نويت سنة الاعتكاف؛ بشرط ألا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا؛ لأنك جئت من حركتك المطلقة في الأرض إلى بيت الله في تلك اللحظة، فاجعل لحظاتك لله. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن سَمِعَ رجُلا يَنْشُدُ ضَالَّةً في المسجدِ فلْيَقُلْ: لا رَدَّها اللهُ عليكَ؛ فإنَّ المساجدَ لم تُبْنَ لهذا". [رواه مسلم](1/223)
فالمسجد مكان للعبادة، ولذلك أقول لمن يحدثني في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة: أبشر بأنها لن تنفع! لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط، إن لحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربك وتناجيه، وتعيش في حضن عنايته، فلماذا تأتي بالدنيا معك؟ وليكن لنا في أحد الصحابة قدوة حسنة؛ كان يقول: كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا. فيمكن أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الكثيرة، والمسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل، فضع دنياك مع نعلك خارج المسجد، وادخل بقلب خالٍ من هموم الدنيا المتشعبة وعلائقها المعوقة. واجلس في المكان الذي تجده خاليا. فلا تتخطَ الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد. فأنت تدخل بعبودية لله وقد يأتي مجلسك بجانب مَن يخدمك، والصغير يقعد بجانب الكبير، ولا تلحظ لك قَدْرًا إلا قدرك عند الله. وانوِ الاعتكاف، ولا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا.
فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد؛ خصوصًا في شهر رمضان؛ خصوصًا في العشر الأواخر منه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذِكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يُقربه منه؛ فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه.
فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق. وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال. كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس مَن ذكرني..
وقد ثبت في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده. [زاد المعاد - تفسير الشعراوي - لطائف المعارف](1/224)
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر. ففي الصحيحين عن عائشة ل قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجَدَّ، وشَدَّ الْمِئْزَر. وفي رواية لمسلم عنها لقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره.
قال الإمام النووي: [اختلف العلماء في معنى (شَدَّ المِئْزَر)، فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته - صلى الله عليه وسلم - في غيره، ومعناه: التشمير في العبادات، يقال: شددتُ لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرتُ له وتفرغتُ، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات.
وقولها: (أحيا الليل) أي: استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، وقولها: (وأيقظ أهله) أي: أيقظهم للصلاة في الليل، وجَدَّ في العبادة زيادة على العادة.
ففي هذا الحديث: أنه يُستحب أنْ يُزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب إحياء لياليه بالعبادات.
وأما قول أصحابنا: يُكره قيام الليل كله، فمعناه: الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر، ولهذا اتفقوا على استحباب إحياء ليلتي العيدين وغير ذلك. (والمئزر) هو الإزار. والله أعلم.] [شرح النووي على صحيح مسلم]
} - { } - {
الإكثار من النوافل
في سنن أبي داود عن أبى الأسود الدؤلي قال: بينما نحن عند أبى ذر - رضي الله عنه - قال: "يُصبِحُ على كلِّ سُلامَى مِن أحدِكم في كلِّ يومٍ صدقةٌ، فلهُ بكلِّ صلاةٍ صدقةٌ، وصيامٍ صدقةٌ، وحجٍّ صدقةٌ، وتسبيحٍ صدقةٌ، وتكبيرٍ صدقةٌ، وتحميدٍ صدقةٌ" فعَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأعمالِ الصالحةِ، ثم قال: "يُجزِئُ أحدَكم مِن ذلك ركعتا الضحى". [صححه الألباني](1/225)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ب قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة، فتحدث الناس بقُرب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أدلُّكم على أقربَ منهم مَغزًى وأكثرَ غنيمةً وأوشكَ رجعةً؟ مَن توضأَ ثُم غَدَا إلى المسجدِ لسُبْحَةِ(1)الضحَى فهو أقربُ منهم مغزًى وأكثرُ غنيمةً وأوشكُ رجعةً". [قال الألباني: حسن صحيح]
عن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ب قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن عبدٍ مسلمٍ يصلي للهِ تعالى في كلِّ يومٍ ثنتي عشرةَ ركعةً تطوعًا غير فريضةٍ إلا بنى اللهُ تعالى له بيتًا في الجنة"ِ. (أو إلا بُنيَ له بيتٌ في الجنةِ) [رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي] وزاد الترمذي: "أربعًا قبلَ الظهرِ، وركعتينِ بعدَها، وركعتينِ بعدَ المغربِ، وركعتينِ بعد العشاءِ، وركعتينِ قبل صلاةِ الغَداة".
وعن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عليكَ بكثرةِ السجودِ؛ فإنك لن تسجدَ للهِ سجدةً إلا رفعَكَ اللهُ بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئةً". [رواه مسلم]
"مَن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ، ثُم قعدَ يذكرُ اللهَ حتى تطلعَ الشمسُ، ثُم صلَّى ركعتينِ كانت له كأجرِ حَجةٍ وعمرةٍ". قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تامةٍ.. تامةٍ.. تامةٍ". [رواه الترمذي، وقال الألباني: حسن لغيره]
} - { } - {
ذكر الله تعالى
__________
(1) السُّبْحة: الدعاء وصلاة التطوع والنافلة، يقال: فرغ فلانٌ من سُبْحَته أَي من صلاته النافلة. وقيل لصلاة النافلة: سُبْحة لأَنها نافلة كالتسبيحات والأَذكار في أَنها غير واجبة. والسُّبْحَة التطوع من الذِّكر والصلاة. [لسان العرب](1/226)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قديرٌ) في يوم مائةَ مرةٍ كانت له عَدْلَ عَشرِ رقابٍ، وكُتبَت له مائةُ حسنةٌ، ومُحيَت عنه مائةُ سيئةٍ، وكانت له حِرزًا مِن الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ أفضلَ مما جاء بهِ إلا أحدٌ عملَ أكثرَ مِن ذلك. ومَن قال: (سبحان اللهِ وبحمدهِ) في يومٍ مائةَ مرةٍ حُطَّت خطاياهُ ولو كانتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ". [أخرجه مسلم]
وفي صحيح مسلم عن مصعب بن سعد: حدثني أبي قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيَعجزُ أحدُكم أنْ يكسبَ كلَّ يومٍ ألفَ حسنةٍ؟" فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: "يسبحُ مائةَ تسبيحةٍ فيُكتَب له ألفُ حسنةٍ، أو يُحَطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ".
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ غصنًا فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ تَنفُضُ الخطايا كما تَنفضُ الشجرةُ ورقَها". [رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وحسنه الألباني]
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أُنبِئُكُم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عندَ مَليكِكم وأرفعِها في درجاتِكم وخيرٍ مِن إنفاقِ الذهبِ والوَرِقِ وخيرٍ لكم مِن أنْ تَلقَوا عدوَّكم فتَضربوا أعناقَهم ويَضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى! قال: "ذكرُ اللهِ". [رواه أحمد بإسناد حسن، وابن أبي الدنيا، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وصححه الألباني](1/227)
وعن جابر - رضي الله عنه - رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عملَ آدميٌّ عملاً أنجَى لهُ مِن العذابِ مِن ذكرِ اللهِ تعالى". قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلا أنْ يضربَ بسيفِهِ حتى ينقطعَ". [رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح. وقال الألباني: حسن لغيره]
وعن سليمان بن يسار - رضي الله عنه - عن رجل من الأنصار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال نوح لابنه: إني موصيك بوصية وقاصرها؛ لكي لا تنساها.. أوصيك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين.. أما اللتان أوصيك بهما؛ فيستبشرُ اللهُ بهما وصالحُ خلقِه، وهما يُكثران الولوجَ على اللهِ.. أوصيك بلا إله إلا الله؛ فإن السماواتِ والأرضَ لو كانتا حلقةً قصمتهما، ولو كانتا في كفةٍ وزنتهما.. وأوصيك بسبحان اللهِ وبحمدِه؛ فإنهما صلاةُ الخَلق، وبهما يُرزقُ الخَلقُ؛ وإنْ مِن شيءٍ إلا يُسَبِّحُ بحمدِه ولكنْ لا تفقهونَ تسبيحَهم إنه كان حليمًا غفورًا.. وأما اللتان أنهاك عنهما؛ فيحتجبُ الله منهما وصالحُ خَلقِه؛ أنهاك عن الشركِ والكِبرِ". [رواه النسائي واللفظ له، والبزار، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني]
وعن ابن عباس ب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن عجزَ منكم عن الليلِ أنْ يُكابدَه، وبَخلَ بالمالِ أنْ يُنفقَه، وجَبنَ عن العدوِّ أنْ يُجاهدَه فليُكثِرْ ذكرَ اللهِ". [رواه الطبراني، والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره](1/228)
وعن الحارث الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمسِ كلماتٍ أنْ يعملَ بهن، ويأمر بني إسرائيلَ أنْ يعملوا بهن.."، منها: "وأمرَكم بذكرِ اللهِ كثيرًا، ومثلُ ذلك كمثلِ رجلٍ طلبَه العدوُّ سراعًا في أثرِه حتى أتى حصنًا حصينًا فأحرزَ نفسَه فيه، وكذلك العبدُ لا ينجو مِن الشيطان إلا بذكرِ اللهِ". [رواه الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، واللفظ له، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه الألباني]
- - -
إذا مرضنا تداوينا بذكركم:
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟ قال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]
[قال ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت. فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم) [الأنفال: 2] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان؟ والجواب من وجوه: الأول: أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يُقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل، وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة، سكنت قلوبهم إلى ذلك.. وأحد الأمرين لا ينافي الآخر؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب، والطمأنينة بذكر الثواب، ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي، وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات.
الثاني: أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزًا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا حقًّا من عند الله. أما شكهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم.(1/229)
الثالث: أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صادق في كل ما أخبر عنه، إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا؟ وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا؟] [مفاتيح الغيب للرازي]
و[الاطمئنان السكون، واستعير هنا لليقين وعدم الشك؛ لأن الشك يستعار له الاضطراب. و(ذكر الله) يجوز أن يراد به خشية الله ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه. ويجوز أن يراد به القرآن؛ قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف: 44]، والذكر من أسماء القرآن، ويجوز أن يراد ذكر الله باللسان؛ فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته.
وهذا وصف لحسن حال المؤمنين ومقايستهِ بسوء حالة الكافرين الذين غمر الشك قلوبهم.. واختير المضارع في (تطمئن) مرتين لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره، وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.
وافتتحت جملة (ألا بذكر الله) بحرف التنبيه اهتمامًا بمضمونها، وإغراءً بوعيه. وهي بمنزلة التذييل لما في تعريف (القلوب) من التعميم. وفيه إثارة الباقين على الكفر على أن يتسموا بسمة المؤمنين من التدبر في القرآن لتطمئن قلوبهم، كأنه يقول: إذا علمتم راحة بال المؤمنين؛ فماذا يمنعكم بأن تكونوا مثلهم؛ فإن تلك في متناولكم لأن ذكر الله بمسامعكم.] [التحرير والتنوير]
[(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله).. تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه. تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير. وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء. وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة..
((1/230)
ألا بذكر الله تطمئن القلوب).. ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله. يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها؛ لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها، ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردًا بلا أنيس.. فكل ما حوله صديق؛ إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه.
وليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله. ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون. ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة؛ لأنة لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود. ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدًا وحيدًا شاردًا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله، مطمئنًا إلى حماه؛ مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله؛ فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).] [في ظلال القرآن]
[(الذين آمنوا وتطمئن قلوبُهم بذكرِ الله) أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها.
(ألا بذكرِ اللهِ تطمئن القلوبُ) أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذكرها له، هذا على القول بأن ذكر الله، ذكر العبد لربه؛ من تسبيح وتهليل وتكبير وغير ذلك.(1/231)
وقيل: إن المراد بذكر الله كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين، فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر الله؛ أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها؛ فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالأدلة والبراهين، وبذلك تطمئن القلوب، فإنها لا تطمئن القلوب إلا باليقين والعلم، وذلك في كتاب الله، مضمون على أتم الوجوه وأكملها، وأما ما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه فلا تطمئن بها، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة وتضاد الأحكام. قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82] وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب الله وتدبره، وتدبر غيره من أنواع العلوم، فإنه يجد بينها وبينه فرقًا عظيمًا.] [تيسير الكريم الرحمن]
فـ[منزلة الذكر هي منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائما يترددون.. والذكر منشور الولاية الذي مَن أُعطيه اتصل، ومَن مُنعه عُزل.. وهو قوت قلوب القوم؛ الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التى إذا تعطلت عنه صارت بورًا.. وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب..
إذا مَرضنا تَداوينا بذِكرِكُمُ ونَتركُ الذكرَ أحيانًا فننتَكِسُ
به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات.. إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم.. فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورءوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا، ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورًا..(1/232)
وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة، والذكر عبودية القلب واللسان؛ وهي غير مؤقتة، بل هم يأمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال؛ قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم.. فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها.. وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا؛ ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقًا.. وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه؛ نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء..
به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار.. زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين؛ فاللسان الغافل كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء..
وهو باب الله الأعظم؛ المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته.. قال الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن؛ فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق!
وبالذكر يصرع العبد الشيطان، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان.. قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي!
وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه..] [مدارج السالكين](1/233)
قال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 22-23]
[أفيستوي مَن شرح الله صدره للإسلام، فاتسع لتلقي أحكام الله والعمل بها، منشرحًا قرير العين، على بصيرة من أمره، وهو المراد بقوله: (فهو على نورٍ مِن ربه) كمن ليس كذلك؟ بدليل قوله: (فويلٌ للقاسيةِ قلوبُهم مِن ذكرِ اللهِ) أي: لا تلين لكتابه، ولا تتذكر آياته، ولا تطمئن بذكره، بل هي معرضة عن ربها، ملتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشر الكبير.
(أولئك في ضلالٍ مبينٍ) وأي ضلال أعظم من ضلال مَن أعرض عن وليه؟ ومَن كل السعادة في الإقبال عليه، وقسا قلبه عن ذكره، وأقبل على كل ما يضره؟
(الله نزل) يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه (أحسنَ الحديثِ) على الإطلاق، فأحسن الحديث كلام الله، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن، علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه أجل المعاني، لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى مِن اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا مِن حكيم عليم، هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع.(1/234)
وأما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات) [آل عمران: 7] فالمراد بها، التي تشتبه على فهوم كثير من الناس، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى المحكم، ولهذا قال: (منه آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هن أمُّ الكتابِ وأُخَرُ مُتشابهاتٌ) فجعل التشابه لبعضه، وهنا جعله كله متشابها، أي: في حسنه، لأنه قال: (أحسنَ الحديثِ) وهو سور وآيات، والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا.
(مَثَانِيَ) أي: تثنى فيه القصص والأحكام، والوعد والوعيد، وصفات أهل الخير، وصفات أهل الشر، وتثنى فيه أسماء الله وصفاته، وهذا من جلالته وحُسنه، فإنه تعالى لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، وأن تلك المعاني للقلوب بمنزلة الماء لسقي الأشجار، فكما أن الأشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت، بل ربما تلفت، وكلما تكرر سقيها حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة؛ فكذلك القلب يحتاج دائمًا إلى تكرر معاني كلام الله تعالى عليه، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن، لم يقع منه موقعًا، ولم تحصل النتيجة منه، ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم، اقتداء بما هو تفسير له، فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع، بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى، غير مراعٍ لما مضى مما يشبهه، وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة، وهكذا ينبغي للقارئ للقرآن، المتدبر لمعانيه، أن لا يدع التدبر في جميع المواضع منه، فإنه يحصل له بسبب ذلك خير كثير، ونفع غزير.(1/235)
ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة، أثَّر في قلوب أولي الألباب المهتدين، فلهذا قال تعالى: (تقشعرُّ منه جُلُودُ الذين يخشَوْنَ ربَّهم) لما فيه من التخويف والترهيب المزعج، (ثُمَّ تَلينُ جلودُهم وقلوبُهم إلى ذكرِ اللهِ) أي: عند ذكر الرجاء والترغيب، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر.
(ذلك) الذي ذكره الله من تأثير القرآن فيهم (هُدَى اللهِ) أي: هداية منه لعباده، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم، (يهدي بهِ) أي: بسبب ذلك (مَن يشاءُ) مِن عباده. ويحتمل أن المراد بقوله: (ذلك) أي: القرآن الذي وصفناه لكم.
(هُدَى اللهِ) الذي لا طريق يوصل إلى الله إلا منه (يَهْدِي بهِ مَن يشاءُ مِن عبادِه) ممن حسن قصده، كما قال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) [المائدة: 16]
(ومَن يُضْلِلِ اللهُ فما له مِن هَادٍ) لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه والتوفيق للإقبال على كتابه، فإذا لم يحصل هذا، فلا سبيل إلى الهدى، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء][تيسير الكريم الرحمن]
- - -
ولذكر الله أكبر:
قال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45]
عن ابن عباس ب: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له؛ لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى.
و[الذكر نوعان: أحدهما ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى.. وهذا أيضا نوعان:(1/236)
أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.. وسبحان الله وبحمده.. ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ونحو ذلك.. فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه، نحو: سبحان الله عدد خلقه؛ فهذا أفضل من مجرد سبحان الله.. وقولك: الحمد لله عدد ما خلق في السماء، وعدد ما خلق في الأرض، وعدد ما بينهما، وعدد ما هو خالق؛ أفضل من مجرد قولك: الحمد لله.. وهذا في حديث جويرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مراتٍ لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليومِ لوَزَنَتْهن: سبحان الله وبحمدِه عددَ خَلْقِه ورِضا نَفْسِه وزِنَةَ عرشِه ومِدادَ كلماتِه". [رواه مسلم](1/237)
الثاني: الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته، ونحو ذلك.. وأفضل هذا النوع الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.. وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حمد وثناء ومجد، فالحمد لله الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى؛ مع محبته والرضاء به؛ فلا يكون المحب الساكت حامدًا، ولا المثني بلا محبة حامدًا حتى تجتمع له المحبة والثناء، فإن كرر المحامد شيئًا بعد الشيء كانت ثناءً، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا.. وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال: مَجَّدني عبدي.
النوع الثاني من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه وهو أيضًا نوعان:
أحدهما: ذكره بذلك إخبارًا عنه؛ أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا..
والثاني: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه.. فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر..
فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر؛ فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه.
فائدة: فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية..
ومِن ذكره سبحانه وتعالى ذكر آلائه وإنعامه، وإحسانه وأياديه، ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضًا من أجل أنواع الذكر..(1/238)
فهذه خمسة أنواع، وهي تكون بالقلب واللسان تارة؛ وذلك أفضل الذكر، وبالقلب وحده تارة؛ وهي الدرجة الثانية.. وباللسان وحده تارة؛ وهي الدرجة الثالثة.. فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن التقصير في الطاعات والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا منها؛ فثمرته ضعيفة..] [الوابل الصيب]
قال عمر بن الخطاب: أفضل مِن ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 135] فدخل فيه التوبة، ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها؛ من القتل وأخذ أموال الناس، والحِرابة، والإِضرار بالناس في المعاملات.
قال المناوي في "فيض القدير": [ذكر الله شفاء القلوب مما يلحقها من ظُلمة الذنوب، ويدنسها من درن الغفلة؛ ولهذا كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أكمل الناس ذكرًا، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه؛ أمره ونهيه، وتشريعه، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده، وتمجيده وتسبيحه وتحميده، ورغبته ورهبته؛ ذكرًا منه بلسانه وصمته، وذكرًا منه بقلبه في كل أحيانه.
قال الراغب: ذكر الله تارة يكون لعظمته؛ فيتولد منه الهيبة والإجلال. وتارة لقدرته؛ فيتولد منه الخوف والحزن. وتارة لفضله ورحمته؛ فيتولد منه الرجاء. وتارة لنعمته؛ فيتولد منه العز. فحق المؤمن أن لا ينفك أبدًا عن ذكره على أحد هذه الوجوه.] أ.هـ
قال عبد الرحمن بن بكر: سمعت ذا النون المصري يقول: مَن ذكر الله تعالى ذكرًا على الحقيقة نسي في جنب ذكره كلَّ شيء، وحفظ الله تعالى عليه كل شيء، وكان له عوضًا عن كل شيء.(1/239)
وقال أحمد المسجدي: قيل لأبي عثمان: نحن نذكر الله تعالى، ولا نجد في قلوبنا حلاوة.. فقال: احمدوا الله تعالى؛ أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته.
قال الجنيد: لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة؛ كان ما فاته أكثر مما ناله.
قال ابن القيم: محبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة؛ بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته؛ هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين.
ومن علامات صحة القلب أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره.
قال الربيع بن أنس: علامة حب الله كثرة ذكره؛ فإنك لن تحب شيئًا إلا أكثرت ذكره. وقال فتح الموصلي: المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين.
قال ذو النون: مَن اشتغل قلبه ولسانه بالذِّكر؛ قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه.
قال إبراهيم بن الجنيد: كان يُقال: من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان، وقلَّما وَلعَ المرءُ بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حبَّ الله.
وكلَّما قويت المعرفة صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كُلفة، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه: الله.. الله.. ولهذا يُلهم أهلُ الجنة التَّسبيح كما يُلهمون النَّفَسَ، وتصيرُ (لا إله إلا الله) لهم كالماء البارد لأهل الدنيا.
فإذا قوي حال المحب ومعرفته؛ لم يشغَلْه عن الذكر بالقلب واللسان شاغل، فهو بين الخَلق بجسمه، وقلبه معلق بالمحل الأعلى..(1/240)
ولهذا ورد فضلُ الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في المسند، والترمذى وسنن ابن ماجه عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "مَن دخلَ سوقًا يُصاحُ فيه ويُباع، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ، يُحيي ويُميت، وهو حيٌّ لا يموتُ، بيده الخير وهو على كلِّ شيءٍ قدير.. كَتبَ اللهُ له ألفَ ألفَ حسنةٍ، ومحا عنه ألفَ ألفَ سيئةٍ، ورفع له ألف ألفِ درجةٍ". [حسنه الألباني]
[(مَن دخل السوق) قال الطيبي: خصه بالذكر لأنه مكان الغفلة عن ذكر الله والاشتغال بالتجارة؛ فهو موضع سلطنة الشيطان، ومجمع جنوده، فالذاكر هناك يحارب الشيطان ويهزم جنوده؛ فهو خليق بما ذكر من الثواب.
(فقال) أي سرًّا أو جهرًا.. قال الطيبي: فمَن ذكر الله فيه دخل في زمرة من قال تعالى في حقهم: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37]
(كتب الله له) أي أثبت له أو أمر بالكتابة لأجله، (ومحا عنه) أي بالمغفرة أو أمر بالمحو عن صحيفته.]
قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما دام قلبُ الرجل يذكر الله، فهو في صلاة؛ وإنْ كان في السوق، وإن حرّك به شفتيه فهو أفضل. وكان بعضُ السلف يقصدُ السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة. [جامع العلوم والحكم - تحفة الأحوذي]
بذكرِ اللهِ ترتاحُ القلوبُ ... وتنزاحُ المتاعبُ والكروبُ
وتنزلُ رحمةُ الغفارِ غيثًا ... بهِ تُمحَى المعاصي والذنوبُ
وتنفتحُ البصائرُ بعدَ غَيٍّ ... فتنكشِفُ الغياهِبُ والغُيوبُ
أياربي أتيتُكَ بعدَ عُمرٍ ... أضلتني بِهِ عنكَ الدروبُ
فقَدِّرْ في الخواتمِ لي مَتابًا ... إليكَ ولا تَدَعْ أملي يَخيبُ
فرحمتُكَ العظيمةُ لا تُدانَى ... وعفوُكَ واسعٌ سَمْحٌ رَحيبُ
تَضَاءلُ جنبَهُ كلُّ المعاصي ... وتَصغرُ عندَهُ منا الذنوبُ
- - -
قبسات نورانية من أخبار الذاكرين:(1/241)
عن عائشة ل: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه، والمعنى: في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه، وسواء كان على طهارة أو على حدث.
كان لأبي هريرة - رضي الله عنه - خيطٌ فيه ألفا عُقدة، فلا ينام حتى يُسبِّح به.
كان خالد بنُ معدان يُسبِّح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن، فلما مات وضع على سريره ليغسل، فجعل يُشير بأصبعه يُحركها بالتسبيح.
قيل لعمير بن هانئ: ما نرى لسانك يَفتُر؛ فكم تُسبِّح كل يوم؟ قال: مائة ألف تسبيحة، إلا أنْ تُخطئ الأصابع. يعني أنه يَعدُّ ذلك بأصابعه.
قال عبد العزيز بن أبي رَوَّاد: كانت عندنا امرأة بمكة تُسبِّح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، فماتت، فلما بلغت القبر اختُلِست من بين أيدي الرجال.
كان عامة كلام ابن سيرين: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده.
نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم، قال: فكنتُ كلما استيقظتُ من الليل وجدتُه يذكر الله، فأغتمّ، ثم أُعزِّي نفسي بهذه الآية: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]
قال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يَثبت في مصلاه؛ يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله والتفقه في دينه. [سير أعلام النبلاء]
ذكر ابن القيم في "الوابل الصيب" أن: [الذكر قُوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قُوته.. وحضرتُ شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفتَ إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قُوَّتي.. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر.] أ.هـ(1/242)
ويروي ابن القيم أيضًا في "روضة المحبين"، عن تقي الدين بن شقير أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية صلى صلاة العصر في مسجد بني أمية، ثم خرج إلى الصحراء وحده. قال تقي الدين بن شقير -وكان من تلاميذه-: فخرجت وراءه؛ حيث أراه ولا يراني، فلما توسط الصحراء رفع طرفه إلى السماء وقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ثم بكى، ثم قال :
وأخرجُ من بينِ البيوتِ لعلني أُحدِّثُ عنك النفسَ بالسرِّ خاليًا
ولذلك يقول ابن رجب: إن من الأسباب التي حمته ومنعته من كيد الأعداء؛ كثرة الذكر والأوراد التي ما كان يخل بها.
عن محمش الجلاب قال: صحبتُ أبا حفص النيسابوري اثنتين وعشرين سنة؛ ما رأيتُه ذكر الله عز وجل على حد الغفلة والانبساط، ما كان يذكر إلا على سبيل الحضور والتعظيم والحرمة، وكان إذا ذكر الله تعالى تغيرت عليه حاله؛ حتى كان يرى ذلك منه جميع مَن حضره. وكان يقول: ما أبعد ذكرنا من ذكر المحققين..! ما أظن محقًّا يذكر الله عن غير غفلة، ثم يبقى حيًّا إلا الأنبياء؛ فإنهم أُيدوا بقوة النبوة. [صفة الصفوة]
قال بكار: ما رأيتُ عبد الله بن عون يمازح أحدًا و لا يماري أحدًا. كان مشغولا بنفسه، وكان إذا صلى الغداة مكث مستقبل القبلة في مجلسه؛ يذكر الله عز وجل.. فإذا طلعت الشمس صلى ثم أقبل على أصحابه. [صفة الصفوة](1/243)
ذكر الذهبي في سِيَره أن أبا موسى ابن الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، قال لأبيه في مرض موته: هنا دواء تشربه؟ قال: يا بني! ما بقي إلا الموت. فقلت: ما تشتهي شيئًا؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله سبحانه. فقلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى والله. فقلت: ما توصي بشيء؟ قال: ما لي على أحد شيء، ولا لأحد عليَّ شيء. قلت: توصيني؟ قال: أوصيك بتقوى الله والمحافظة على طاعته، فجاء جماعة يعودونه، فسلموا، فرد عليهم، وجعلوا يتحدثون، فقال: ما هذا؟! اذكروا الله، قولوا: لا إله إلا الله.. فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه، ويشير بعينيه، فقمتُ لأناول رجلا كتابًا من جانب المسجد،
فرجعت وقد خرجت روحه.(1/244)
يقول د. خالد الجبير: أثناء عملي بالمستشفى ناداني ستة أبناء لمريض في الإنعاش قد عمل له أحد الأطباء عملية قلب؛ وهو رجل مسن، وجاءته مضاعفات وأصيب بجلطة بالدماغ بعد العملية، وتوقفت كلاه ورئته، وقلبه ضعيف جدا، وشارف على الموت، وكان في غيبوبة طيلة ستة أو ثمانية أسابيع..وقد رُزق بستة أبناء أسأل الله أن يكون أبنائي وأبناؤكم وأبناء المسلمين مثلهم في البر.. جاءني أحد هؤلاء الأبناء، وقال لي: يا دكتور نطلب منك أن تلقن والدي الشهادة لأنه الآن يُحتضَر.. حاولت أن أقنع أحدهم أن يقوم بهذه المهمة، ولكنهم أصروا إلا أن أقوم أنا بذلك.. فجئتُ إلى أبيهم؛ وأبوهم موصل به الأجهزة، وعلى الشاشة واضح الضغط مابين 35-40/15-16 والنبض كان 25نبضة في الدقيقة.. دنوت منه وقلت له: قل: أشهد ألا إله إلا الله.. وحرك يده وحرك لسانه.. قالت لي الممرضة المسؤلة عنه: دكتور جبير! انظر إلى الشاشة؛ فأجد ضغطه 130/ 85 ونبضه 110!! تعجبت من أمره، وعلمت أن (لا إله إلا الله) لم تحرك لسانه ويده فقط، وإنما حركت جميع جوارحه؛ قلبه ونبضه وإحساسه.. عندما علمت من أمره هذا قلت لأبنائه: أبوكم هذا -أحسبه، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا- على خير، اقرأوا عليه القرآن؛ أظن أنه سيموت خلال ربع ساعة أو نصف ساعة.. فبدأ الأبناء الستة يقرأون عليه القرآن أربع ليالٍ وثلاثة أيام بالتواصل، أربع ليال وثلاثة أيام متوالية؛ لم يقفوا دقيقة واحدة؛ الواحد تلو الآخر.. وبعد أن مات سألت أبناءه: على أي شيء أبوكم هذا؟ قالوا: أبونا هذا صاحب قرآن؛ يختم القرآن في ثلاث أو في خمس، وإن تأخر في أسبوع.. لسانه لا يعرف إلا القرآن، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.. [من محاضرة أمراض القلوب](1/245)
يقول د. محمد العريفي: أخبرني أحد الأطباء أنه دخل في غرفة الإنعاش على مريض، فإذا شيخ كبير وجهه يتلألأ نورًا.. قال الطبيب: أخذتُ أقلب ملفه، فعرفت أنه أجريت له عملية في القلب؛ أصابه نزيف خلالها مما أدى إلى توقف الدم عن بعض مناطق الدماغ؛ فأصيب بغيبوبة تامة.. الأجهزة موصلة به، وقد وضع على فمه جهاز للتنفس الصناعي؛ يدفع إلى رئتيه تسعة أنفاس في الدقيقة.. كان بجانبه أحد أولاده؛ سألته عنه، فأخبرني أن أباه مؤذن في أحد المساجد منذ سنين..
أخذتُ أنظر إليه.. حركتُ يده.. حركتُ عينه.. كلمتُه.. لا يشعر بشيء..
اقترب ولده من أذنه وأخذ يكلمه؛ وهو لا يعقل شيئًا.. بدأ الولد يقول: يا أبي! أمي بخير.. وإخواني بخير.. وخالي رجع من السفر.. واستمر الولد يتكلم؛ والأمر على ما هو عليه؛ الشيخ لا يتحرك، والجهاز يدفع تسعة أنفاس في الدقيقة..
وفجأة قال الولد: والمسجد مشتاق إليك.. ولا أحد يؤذن فيه إلا فلان؛ ويخطئ في الأذان.. ومكانك في المسجد فارغ..
فلما ذكر المسجد والأذان؛ اضطرب صدر الشيخ، وبدأ يتنفس! فنظرتُ إلى الجهاز فإذا هو يشير إلى ثمانية عشر نفَسًا في الدقيقة!
ثم قال الولد: وابن عمي تزوج.. وأخي تخرج.. فهدأ الشيخ مرة أخرى، وعادت الأنفاس تسعة؛ يدفعها الجهاز الآلي..
فلما رأيتُ ذلك أقبلتُ إليه حتى وقفتُ عند رأسه؛ حركتُ يده.. عينه.. هززتُه.. لا شيء.. كل شيء ساكن.. لا يتجاوب معي أبدًا.. قربتُ فمي من أذنه ثم قلتُ: الله أكبر.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح.. وأنا أسترق النظر إلى جهاز التنفس؛ فإذا به يشير إلى ثمانية عشر نفَسًا في الدقيقة..!
فلله درهم من مرضى.. بل والله نحن المرضى.. [في بطن الحوت: العريفي (بتصرف)](1/246)
يروي الشيخ محمد الغزالي أن شيخه محمد الريان كلفه ذات يوم إعراب الجملة التالية: "عبدت الله"، وعلى دأب ذلك الجيل الملتزم أجاب أن اسم الجلالة منصوب على التعظيم، فما تمالك الشيخ أن بكى.. وحُق لإنسان مشغول القلب بحب الله أن يبكي وهو يستمع لذكر مولاه معظَّمًا على لسان تلميذه..
والشيخ الغزالي نفسه يحس عارفوه استغراقه في تلك الإشراقات، لا سيما حين ينطلق على سجيته في كلام عن الله جل وعلا، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ حتى يفضحه الدمع فلا يستطيع له ردًّا. [علماء ومفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب]
فلله درهم.. إن نطقوا فبذكره، وإن تحركوا فبأمره، وإن فرحوا فلقربه..
قد صِيغَ قلبي على مِقدارِ حُبِّهمُ فما لحُبِّ سِواهم فيهِ مُتَّسَعُ(1)
} - { } - {
الإحسان إلى عباد الله
عن خزيم بن فاتك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ كُتبَت لهُ سبعمائةَ ضِعفٍ". [صححه الألباني في صحيح الجامع].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الساعي على الأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ في سبيلِ اللهِ"، وأحسبُهُ قال: "وكالقائمِ لا يَفتُرُ، وكالصائمِ لا يُفطرُ". [متفق عليه]
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن مَسَحَ رأسَ يَتيمٍ لم يَمسحْهُ إلا للهِ كان لهُ بكلِّ شعرةٍ مرَّتْ عليها يدُهُ حسناتٌ، ومَن أحسنَ إلى َيتيمةٍ أو يتيمٍ عندَهُ كنتُ أنا وهو في الجنةِ كهاتينِ" وفَرَّقَ بينَ أصبعيه السَّبابةِ والوُسطَى.
وفي سنن الترمذي عن ابن عمر ب أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا؛ فهل لي توبة؟ قال: "هل لك مِن أمٍّ؟" قال: لا.. قال: "هل لك
مِن خالةٍ؟" قال: نعم.. قال: "فبرَِّها".
__________
(1) موضوع "ذكر الله" منقول باختصار من كتاب "بشريات السلامة من أهوال القيامة": 7(1/247)
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أخرجَ مِن طريقِ المسلمين شيئًا يُؤذيهم كَتبَ اللهُ لهُ بهِ حسنةً، ومَن كَتبَ له عندَهُ حسنةً أدخلهُ بها الجنةَ". [حسنه الألباني في صحيح الجامع]
عن عليّ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن رجلٍ يَعودُ مريضًا مُمسيًا إلا خرجَ معه سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يستغفرونَ له حتى يُصبحَ، ومَن أتاه مُصبحًا خرجَ معه سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يستغفرونَ له حتى يُمسي". [صححه الألباني في صحيح الجامع]
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كُلُّ سُلامَى مِنَ الناسِ عليهِ صدقةٌ، كُلَّ يومٍ تَطلُعُ فيه الشمسُ تَعدِلُ بَينَ الاثنينِ صدقةٌ، وتُعينُ الرَّجُلَ في دابتِهِ فتحمِلُهُ عليها، أو تَرفَعُ لهُ عليها متاعَهُ صدقةٌ، والكَلِمَةُ الطيبةُ صدقةٌ، وبِكُلِّ خُطوةٍ تَمشيها إلى الصلاةِ صدقةٌ، وتُميطُ الأذى عَنِ الطريقِ صدقةٌ". [رواه البخاري ومسلم]
السُّلامَى: جمع سلامية، وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل: واحده وجمعه سواء، ويُجمع على سلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: السُّلامَى كل عظم مجوف من صغار العظام، ومعنى الحديث: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. [النهاية في غريب الحديث](1/248)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس مِن نفسِ ابنِ آدمَ إلا عليها صدقةٌ في كُلِّ يومٍ طلعت فيه الشمسُ". قيل: يا رسول الله! من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال: "إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ؛ التسبيحُ والتحميدُ والتكبيرُ والتهليلُ، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ، وتُميطُ الأذى عن الطريقِ، وتُسمِعُ الأصمَّ، وتَهدي الأعمَى، وتُدلُّ المستدلَّ على حاجتِه، وتَسعَى بشدةِ ساقيكَ معَ اللهفانِ المستغيثِ، وتَحملُ بشدةِ ذراعيكَ معَ الضعيفِ فهذا كلُّه صدقةٌ منكَ على نفسِكَ". [رواه ابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره]
عن هانئ بن يزيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ مِن موجباتِ المغفرةِ: بذلُ السلامِ، وحُسنُ الكلامِ". [رواه الطبراني، وصححه الألباني]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَرَّ رَجُلٌ بغُصنِ شجرةٍ على ظَهْرِ طريقٍ فقال: واللهِ لأُنَحِّيَنَّ هذا عنِ المسلمينَ لا يُؤذِيهِم فأُدخِلَ الجنةَ".
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أُخبرُكم بأفضلَ مِن درجةِ الصيَامِ والصلاةِ والصدقةِ؟" قالوا: بلى! قال: "صلاحُ ذاتِ البَيْنِ؛ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالقةُ". ويُروَى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "هي الحالقةُ، لا أقولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، ولكنْ تَحْلِقُ الدِّينَ". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن رَدَّ عن عِرْضِ أخِيهِ رَدَّ اللهُ عن وَجهِهِ النارَ يومَ القيامةِ". [رواه الترمذي، وصححه الألباني](1/249)
وعن أسامة بن زيد بقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن صُنِعَ إليه معروفٌ فقالَ لفاعلِه: جزاك اللهُ خيرًا فقد أبلغَ في الثناءِ". [رواه الترمذي، وصححه الألباني]
عن عدي بن حاتم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما منكم مِن أحدٍ إلا وسيكلمُهُ اللهُ يومَ القيامةِ ليس بينَ اللهِ وبينَهُ تُرجُمانُ، فينظرُ أيمنَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ مِن عملِهِ، وينظرُ أشأمَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظرُ بينَ يَديْهِ فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهِهِ؛ فاتقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ" [رواه مسلم]، وفي رواية للبخاري: "ما منكم أحَدٌ إلا سيكلمُهُ ربُّهُ ليس بينهُ وبينهُ تُرجمانُ فينظرُ أيمنَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ مِن عملِهِ، وينظرُ أشأمَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ وينظرُ بينَ يديهِ فلا يرى إلا النارَ تِلقاءَ وجهِهِ فاتقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ". قال الأعمش: وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة مثله، وزاد فيه: "ولو بكلمةٍ طيبةٍ".
قال العلامة السعدي /: [وفي هذا الحديث أن من أعظم المنجيات من النار الإحسان إلى الخلق بالمال والأقوال، وأن العبد لا ينبغي له أن يحتقر من المعروف ولو شيئًا قليلاً، والكلمة الطيبة تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون، وإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية. وتشمل الكلام المسر للقلوب، الشارح للصدور، المقارن للبشاشة والبشر، وتشمل الذكر لله والثناء عليه، وذكر أحكامه وشرائعه.. فكل كلام يُقرِّب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله؛ فهو داخل في الكلمة الطيبة.. قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10]، وقال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف: 46] وهي كل عمل وقول يُقرِّب إلى الله، ويحصل به النفع لخلقه. والله أعلم.] [بهجة قلوب الأبرار](1/250)
كُنْ مُحسِنًا فيما استطعتَ فربما ... تُجزَى عن الإحسانِ بالإحسانِ
واعمَلْ لجناتِ النعيمِ وطِيبِها ... فَنَعِيمُها يَبقى وليس بفانِ
أدِمِ الصيامَ معَ القيامِ تَعَبُّدًا ... فكلاهما عملان مَقبولانِ
قُمْ في الدُّجَى واتْلُ الكتابَ ولا ... تَنَم إلا كنَومَةِ حائرٍ وَلهانِ
فلربما تأتي المَنِيَّةُ بَغتَةً ... فتُسَاقُ مِن فُرُشٍ إلى الأكفانِ
} - { } - {
وما أدراك ما ليلة القدر
في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن قامَ ليلةَ القَدْرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ".
وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة ل بالدعاء فيها أيضًا. قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة. قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يُوافق.
ومراده: أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنًا.
قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر:1-5]
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي: أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين، بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) [الدخان:3]، وكانت في رمضان، لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185](1/251)
سميت ليلة القدر، إما بمعنى ليلة التقدير؛ لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دِينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه، أو بمعنى العظمة والشرف، من قولهم: فلان له قدر، أي: له شرف وعظمة؛ لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرَّفه وعظَّمه بالرسالة، وقد جاء بما فيه الإشارة، بل التصريح، بأنها ليلة جليلة؛ بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن. فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي: وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها. وهو تنويه بطريق الإبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمَّة. وكلمة (ما أدراك ما كذا) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه، والمعنى: أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها. والاستفهام يدل على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به. وكذا الاستفهام جارٍ على عادتهم في الخطاب، وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء.
وأعيد اسم (لَيْلَةُ القدر) على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن مقتضى الظاهر الإضمارُ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحا، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها، وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان.
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)؛ لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهو يختبطون في ظلمات الضلال؛ فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص، وتفوض الأمر في تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر إلى الله تعالى؛ فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا. فيكون التحديد بالألف الغرض منه التكثير، وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. كقولهم: واحد كألف، وعليه جاء قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [البقرة:96]، فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله.(1/252)
وتفضيلها بالخَيْر على ألف شهر؛ إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة، واستجابة الدعاء، ووفرة ثواب الصدقات، والبركة للأمة فيها، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها، ولا بما يحدث فيها من حَر أو برد أو مطر، ولا بطولها أو بقصرها، فإن تلك الأحوال غير معتدّ بها عند الله تعالى، ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفرادا وجماعات، وما يعين على الحق والخير ونشر الدين. وقد قال في فضل الناس: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]؛ فكذلك فَضْل الأزمان إنما يُقاس بما يحصل فيها لأنها ظروف للأعمال، وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس؛ ففضلها بما أعدَّه الله لها من التفضيل، كتفضيل ثلث الليل الأخير للقربات.(1/253)
ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) يخبر جل شأنه أن أول عهد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بشهود الملائكة كان في تلك الليلة، تنزلت من عالمها الروحاني الذي لا يحدهُ حد ولا يحيط به مقدار، حتى تمثلت لبصره - صلى الله عليه وسلم - ، والروح هو الذي يتمثل له مُبلغًا للوحي، وهو جبريل ؛. وإنما تظهر الملائكة والروح (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي: إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم، فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذا الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام؛ لأن الله يجلي الملائكة على النفوس، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال: (مِّن كُلِّ أَمْرٍ) أي: أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده، فيكون الإذن مبتدئا من الأمر على هذا المعنى. والأمر ها هنا هو الأمر في قوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [الدخان:4-5]، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام، لا في شيء سواها. وإنما عبر بالمضارع في قوله: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ)، وقوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) مع أن المعنى ماضٍ، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن لوجهين:
الأول: لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله: (وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة:214]، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرًا.
والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد، فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين.(1/254)
ولما كان الملوك والسادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينوها بالفرش والبسط، ويزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة.. فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض؛ لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم والصلاة في ليالي رمضان، ومساجدهم بالقناديل والمصابيح، فيقول الرب تعالى: أنتم طعنتم في بني آدم وقلتم: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة:30]، فقلت لكم: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون).. اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم
قائمين ساجدين راكعين؛ لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين.
وقوله تعالى: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) السلام: معناه السلامة. قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم) [الأنبياء:69]. ويطلق السلام على التحية والمِدحة، وفسر السلام بالخَيْر، والمعنيان حاصلان في هذه الآية، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخيْر سلامة من الشر ومن الأذى، فيشمل السلامُ الغفرانَ وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24]
و(حتى مطلع الفجر) أي أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة، وجيء بحرف (حتى) لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر؛ بحيث أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة لئلا يُتوهم أن نهايتها كنهاية الفِطر بآخر جزء من الليل، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر.(1/255)
ولا إجماع في تعيين تلك الليلة، ففي الصحيحين عن ابن عمر ب أنَّ رجالا مِن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام في السَّبْعِ الأواخِر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أرَى رُؤياكُم قد تَواطَأتْ في السَّبْعِ الأواخِرِ فمَن كان مُتَحَرِّيها فَلْيَتَحَرَّها في السَّبْعِ الأواخِرِ".
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر ب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الْتَمِسُوها في العَشْرِ الأواخِرِ (يعني ليلة القدر) فإنْ ضَعُفَ أحَدُكُم أو عَجَزَ فلا يُغْلَبَنَّ على السَّبْعِ البواقي".
وفي الصحيحين عن عائشة ل أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَحَرَّوْا ليلةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ".
وما ورد في الأحاديث من ذكرها، إنما قُصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة؛ شكرًا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم في أثنائها. ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادًا وجماعات، فمَن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومَن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله. وهذا هو السر في عدم تعيينها. وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفا لنزول القرآن، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه؛ فهي ليلة عبادة وخشوع، وتذكر لنعمة الحق والدين.
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف، ويكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر.
ولله حكمة بالغة في إخفائها عنا، فلو تيقنا أي ليلة هي لتراخت العزائم طوال رمضان، واكتفت بإحياء تلك الليلة، فكان إخفاؤها حافزا للعمل في الشهر كله، ومضاعفته في العشر الأواخر منه، وفي هذا خير كثير للفرد والجماعة.(1/256)
وهذا كما أخفى الله تعالى عنا ساعة الإجابة في يوم الجمعة، لندعوه في اليوم كله، وأخفى اسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب؛ لندعوه بأسمائه الحسنى جميعا.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يُخبِر بليلة القدر فتَلاحَى رجلان مِن المسلمين، فقال: "إني خرجتُ لأُخبرَكم بليلةِ القَدْرِ، وإنهُ تَلاحَى فُلانٌ وفُلانٌ فَرُفِعَتْ، وعسى أنْ يكونَ خيرًا لكم، التَمِسُوها في السَّبْعِ والتِّسْعِ والخَمْسِ".
قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم مَن كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر. فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع و عشرين من رمضان، ورُوي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار أو رداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل. وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر. وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البُناني وحُمَيد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان، ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي تُرجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت: كان لتميم الداري - رضي الله عنه - حُلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي تُرجى فيها ليلة القدر.(1/257)
فتبين بهذا أنه يُستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يُشرع ذلك في الجُمَع والأعياد، وكذلك يُشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، كما قال تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف:31]، وقال ابن عمر ب: الله أحق أن يُتزين له، ورُوي عنه مرفوعا: "ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن". أي بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهير الباطن من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تُغني شيئا، قال الله تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26]
ولا يصلح لمناجاة الملك في الخلوات إلا مَن زين ظاهره وباطنه وطهرهما؛ خصوصًا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، وهو سبحانه لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فمَن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى.
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغفلة عنها وإهمال إحيائها، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ هذا الشهرَ قد حضرَكم وفيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهرٍ، مَن حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيرَ كلَّه، ولا يُحرَمُ خيرَها إلا محرومٌ". [خرجه السيوطي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع](1)
- - -
فاعفُ عني..
عن عائشة ل قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن علمتُ أي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عني". [رواه أحمد وابن ماجه والترمذي، وصححه الألباني]
لقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين عائشة ل أن تدعو بمقاييس الخير الواسع.. فلا يوجد خير أفضل من العفو.
__________
(1) محاسن التأويل - التحرير والتنوير - فقه الصيام للقرضاوي - لطائف المعارف(1/258)
والعفو من أسماء الله تعالى، وهو الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من (الغفور) ولكنه أبلغ منه؛ فإن الغفران ينبئ عن الستر، والعفو ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر.
والله جل جلاله [يعفو عن المسيء كرمًا وإحسانًا، ويفتح عن واسع رحمته فضلا وإنعامًا، حتى يزول اليأس من القلوب وتتعلق بعلام الغيوب.
العفُوّ يزيل عن النفوس ظلمة الزلات برحمته، ووحشة الغفلات عن القلوب بكرامته.. والعفُوّ هو الذي أزال الذنوب من الصحائف، وأبدل الوحشة بفنون اللطائف.. والعفُوّ هو الذي يمحو آثار الذنوب ويزيل ريحها بمغفرته.. العفُوّ هو الذي يترك المؤاخذة على الذنوب، ولا يُذَكِّر بالعيوب..] [د. راتب النابلسي]
وهو سبحانه يحب العفو، فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب مِن عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أعوذُ برضاكَ مِن سَخَطِك و بمعافاتِك مِن عقوبتِك".
قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يَبتَلِ بالذنب أكرم الناس عليه. يشير إلى أنه ابتلى كثيرًا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب؛ ليعاملهم بالعفو؛ فإنه يحب العفو.
والله تبارك وتعالى يحب أن يعفو ويغفر، وإنما أحب أن يعفو ليكون العباد كلهم تحت عفوه، ولا يَدِلُّ(1)عليه أحد منهم بعمل.
كان بعض المتقدمين يقول في دعائه: اللهم إن ذنوبي قد عظمت فجلت عن الصفة، وإنها صغيرة في جنب عفوك؛ فاعفُ عني. وقال آخر: جُرمي عظيم، وعفوك كثير؛ فاجمع بين جُرمي وعفوك يا كريم!
__________
(1) دَلَّ يَدِلُّ: إذا مَنَّ بعطائه.(1/259)
وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا ولا حالا ولا مقالا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر. قال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.
وكان مُطرف يقول في دعائه: اللهم ارضَ عنا، فإنْ لم ترضَ عنا فاعفُ عنا.
فمَن عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا، وكان غاية أمله أن يطمع في العفو، ومَن كملت معرفته لم يرَ نفسه إلا في هذه المنزلة.
يا ربِّ عبدُكَ قد أتاكَ و قد أساءَ و قد هَفَا
يكفيهِ منكَ حياؤهُ مِن سُوءِ ما قد أسلفَا
حمَلَ الذنوبَ على الذنوبِ المُوبِقاتِ وأسرفَا
و قد استجارَ بذيلِ عفوِكَ مِن عِقابِكَ مُلحِفَا
ربِّ اعفُ عنه وعافِهِ فلأنتَ أولَى مَن عَفَا
- - -
ليلة الإنابة فيها تفتح أبواب الإجابة:
قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]
قال الإمام تقي الدين ابن تيمية: [وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ الذي تدعونه أقربُ إلى أحدِكم مِن عُنُقِ راحلتِه". وما ذُكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته؛ لا ينافي ما ذُكر من علوّه وفوقيته؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته. وهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه..!] أ.هـ
وما فائدة ذلك القرب؟ إن الحق يقول: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، ولكن ما الشروط اللازمة لذلك؟
لقد قال الحق: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي)، ونعرف أن هناك فرقًا بين "عبيد" و"عباد"، صحيح أن مفرد كل منهما "عبد"، لكن هناك "عبيد" و"عباد"، وكل مَن في الأرض عبيد الله، ولكن ليس كل مَن في الأرض عبادًا لله، لماذا؟(1/260)
لأن العبيد هم الذين يُقهرون في الوجود كغيرهم بأشياء، وهناك مَن يختارون التمرد على الحق، لقد أخذوا اختيارهم تمردا، لكن العباد هم الذين اختاروا الانقياد لله في كل الأمور.
إن العباد يمتازون بأن الأمر الذي جعل الله لهم فيه اختيارًا قالوا: يا رب! أنت جعلت لنا الاختيار، وقد اخترنا منهجك، ولم نترك هوانا يتحكم فينا، أنت قلت سبحانك: "افعل كذا" و"لا تفعل كذا"، ونحن قبلنا التكليف منك يا ربنا.
إن العباد هم الذين ردوا أمر الاختيار إلى مَن وهب الاختيار، ويصفهم الحق بقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً. وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان:63-64]
هؤلاء هم عباد الرحمن، ولذلك يقول الحق للشيطان في شأنهم: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42]
إذن فللشيطان سلطان على مطلق "عبيد"؛ لأنه يدخل عليهم من باب الاختيار. ولم تأتِ كلمة (عِبَادِي) لغير هؤلاء إلا حين تقوم الساعة، ويحاسب الحق الذين أضلوا العباد فيقول: (أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي) [الفرقان:17]، ساعة تقوم الساعة لا يوجد الاختيار، ويصير الكل عبادًا؛ حتى الكفرة لم يعد لهم اختيار.
قال الراغب: بيَّن تعالى في هذه الآية إفضاله على عباده، وضمن أنهم إذا دعوه أجابهم، وعليه نبَّه بقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]. إن قيل: قد ضمن في الآيتين أن مَن دعاه أجابه، وكم رأينا مِن داعٍ له لم يجبه؟! قيل: إنه ضمن الإجابة لعباده.
وحين يقول الحق: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) فالعباد الذين التزموا لله بالمنهج الإيماني لن يسألوا الله إلا بشيء لا يتنافى مع الإيمان وتكاليفه.(1/261)
والحق يقول: (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي)؛ لأن الدعاء يطلب جوابا، ومادمت تطلب إجابة الدعاء فتأدب مع ربك؛ فهو سبحانه قد دعاك إلى منهجه فاستجب له إن كنت تحب أن يستجيب الله لك: (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي)، وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى في كلمة (الدَّاعِ) ولا يتركها مطلقة، فيقول: (إِذَا دَعَانِ)، فكأن كلمة "دعا" تأتي ويدعو بها الإنسان، وربما اتجه بالدعوة إلى غير القادر على الإجابة، ومثال ذلك قول الحق: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأعراف:194]
فكأن الداعي قد يأخذ صفة يدعو بها غير مؤهل للإجابة، والحق هنا قال: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، أما إذا ذهب فدعا غير قادر على الوفاء؛ فالله ليس مسئولا عن إجابة دعوته.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا أن الإنسان يدعو بالخير لنفسه، وأنت لا تستطيع أن تحدد هذا الخير؛ لأنك قد تنظر إلى شيء على أنه الخير وهو شر، ومادمت تدعو فأنت تظن أن ذلك هو الخير، إذن فملحظية الأصل في الدعاء هي أنك تحب الخير، ولكنك قد تخطيء الطريق إلى فهم الخير أو الوسيلة إلى الخير، أنت تحب الخير لا جدال، لذلك تكون إجابة ربك إلى دعائك هي أن يمنع إجابة دعوتك إن كانت لا تصادف الخير بالنسبة لك، ولذلك يجب ألا تفهم أنك حين لا تجاب دعوتك كما رجوت وطلبت أن الله لم يستجب لك فتقول: لماذا لم يستجب الله لي؟ كلا.. لقد استجاب لك، ولكنه نحَّى عنك حمق الدعوة أو ما تجهل بأنه شر لك. فالذي تدعوه حكيم؛ فيقول: أنا سأعطيك الخير، والخير الذي أعلمه أنا فوق الخير الذي تعلمه أنت، ولذلك فمن الخير لك ألا تجاب إلى هذه الدعوة.
ومن حكم ابن عطاء الله السكندري: لا يَكُن تأخُّرُ أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبا ليأسك؛ فهو ضَمِنَ لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لِنَفسك، وفي الوقت الذي يُريد، لا في الوقت الذي تُريد.(1/262)
وكذلك يكون حظك من الدعاء لا يُستجاب لأن ذلك قد يرهقك أنت.. والحق سبحانه وتعالى يقول: (وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً) [الإسراء:11]، ولذلك يقول سبحانه: (سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء:37]
والعلماء يقولون: إن الدعاء إن قصدت به الذلة والعبودية يكون جميلاً، أما الإجابة فهي إرادة الله، وأنت إنْ قَدَّرتَ حظك من الدعاء في الإجابة عليه فأنت لا تُقدر الأمر. إن حظك من الدعاء هو العبادة والذلة لله؛ لأنك لا تدعو إلا إذا اعتقدت أن أسبابك كبشر لا تقدر على هذه، ولذلك سألت مَن يقدر عليها، وسألت مَن يملك.
فمَنْ يقول: لقد دعوتُ ربي فلم يستجب لي، نقول له: لا تكن قليل الفطنة فمِن الخير لك أنْ لا تُجاب إلى ما طلبت، فالله يعطيك الخير في الوقت الذي يريده.
وشيء آخر، قد يحجب عنك الإجابة، لأنه إن أعطاك ما تحب فقد أعطاك في خير الدنيا الفانية، وهو يحبك فيُبقي لك الإجابة إلى خير الباقية، وهذه ارتقاءات لا ينالها إلا الخاصة، وهناك ارتقاءات أخرى تتمثل في أنه ما دام الدعاء فيه ذلة وخضوع فقد يطبق الله عليك ما جاء في الحديث: "يَنزِلُ رَبُّنا تباركَ وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يدعوني فأستجيبَ لَهُ؟ مَن يسألُني فأُعطيَهُ؟ مَن يستغفرُني فأغفرَ لَهُ؟" [رواه البخاري]
فالعبد المؤمن لا يجعل حظه من الدعاء أن يُجاب، إنما حظه من الدعاء ما قاله الحق: (قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ) [الفرقان:77](1/263)
إذن فقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) تعني ضرورة الاستجابة للمنهج، (وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) أي أن يؤمنوا به سبحانه إلها حكيما. وليس كل مَن يسأل يُستجاب له بسؤاله نفسه؛ لأن الألوهية تقتضي الحكمة التي تُعطي كل صاحب دعوة خيرا يناسب الداعي لا بمقاييسه هو، ولكن بمقاييس مَن يجيب الدعوة.
ويذيل الحق الآية بقول: (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، فما معنى (يَرْشُدُونَ)؟ إنه يعني الوصول إلى طريق الخير وإلي طريق الصواب. وهذه الآية جاءت بعد آية: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ) كي تبين لنا أن الصفائية في الصيام تجعل الصائم أهلاً للدعاء، وقد لا يكون حظك من هذا الدعاء الإجابة، وإنما يكون حظك فيه العبادة. [تفسير الشعراوي]
معنى الدعاء: قال في القاموس وشرحه: الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالسؤال، ويُطلق على العبادة والاستغاثة.
قال ابن القيم في "زاد المعاد" في هديه - صلى الله عليه وسلم - في سجوده: [وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء في السجود، وقال: "إنه قَمِنٌ(1)أنْ يُستجاب لكم". وأحسن ما يُحمل عليه الحديث، أن الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في سجوده من النوعين. والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين. والاستجابة أيضًا نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المثني بالثواب. وبكل واحدٍ من النوعين فُسر قوله
تعالى: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) والصحيح أنه يعم النوعين.] أ.هـ (باختصار)
__________
(1) قَمِن: خليق وجدير وحقيق(1/264)
وكان عمر - رضي الله عنه - يستنصر بالدعاء على عدوه، وكان أعظم جنده، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء.. وكان يقول: إني لا أحمل همَّ الإجابة ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه.
فمن أُلهم الدعاء فقد أُريد به الإجابة؛ فإن الله سبحانه يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم) [غافر:60]، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]. وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن لم يسألِ اللهَ يَغضبْ عليهِ". وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه.
- - -
موانع الدعاء:
قال ابن القيم: [الدعاء مِن أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب. ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان. وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا. فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب عن القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليه، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ".(1/265)
فهذا دواء نافع مزيل للداء. ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته. وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أيها الناسُ! إنَّ اللهَ طيبٌ لا يَقبلُ إلا طيبًا، وإنَّ اللهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بهِ المرسلينَ، فقالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172]، ثم ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ يَمدُّ يدَه إلى السماءِ: يا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعمُه حرامٌ، ومَشربُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِّيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟"
وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب "الزهد" لأبيه: أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفًّا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم؟! ولن تزدادوا مني إلا بُعدًا..
ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويَدَع الدعاء. وهو بمنزلة مَن بذر بذرًا أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله. وفي البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُستجابُ لأحدِكم ما لم يَعْجَلْ، يقولُ: دعوتُ فلم يُستَجَب لي"][الجواب الكافي]
- - -
دعوة لا تُرد:(1/266)
وللدعاء المجاب شرائط وهي: أن يدعو بأحسن الأسماء، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180] ويخلص النية، ويظهر الافتقار، ولا يدعو بإثم، ولا بما يستعين به على معاداته. وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوله وأعطاه. ومعلوم أن مَن هذا حاله فمجاب الدعوة..
قال ابن القيم: [وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذُلا وتضرعًا ورقَّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على محمد عبده - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قدَّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألح عليه في المسالة، وتملَّقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا. ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.
وكثيرًا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرًا لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي.(1/267)
وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ في حصول المطلوب. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس.
والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح. والسلاح بضاربه لا بحده فقط! فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعدٌ قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو.. ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة، تخلف التأثير.. فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَم مانع من الإجابة؛ لم يحصل التأثير..] [الجواب الكافي]
وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشادٌ إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر. كما في الحديث: "ثلاثُ دعواتٍ لا تُردُّ: دعوةُ الوالدِ لولدِه، ودعوةُ الصائمِ، ودعوةُ المسافرِ". [خرجه السيوطي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع]
وروي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ للهِ تبارك وتعالى عتقاءَ في كلِّ يومٍ وليلةٍ - يعني في رمضان - وإنَّ لكلِّ مسلمٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ دعوةً مستجابةً". [قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره]
قِفْ بالخضوعِ ونادِ: يا اللهُ ... إنَّ الكريمَ يُجيبُ مَن ناداهُ
واطلبْ بطاعتِهِ رضاهُ فلم يَزَلْ ... بالجودِ يُرضي طَالبينَ رضاهُ
واسألهُ مغفرةً وفضلاً إنَّه ... مبسوطتانِ لسائلِيه يَداهُ
واقصُدْهُ منقطعًا إليهِ، فكلُّ مَن ... يَرجوهُ منقطعًا إليهِ كفاهُ
شَملتْ لطائفُهُ الخلائقَ كُلَّها ... ما للخلائقِ كافلٌ إلا هُو
فعزيزُها وذليلُها وغنيُّها ... وفقيرُها لا يَرتجون سواهُ
ربٌّ رحيمٌ مشفقٌ متعطفٌ ... لا ينتهي بالحصرِ ما أعطاهُ
} - { } - {
المصادر والمراجع
1- احتساب الثواب أيها الأحباب: محاضرة لفضيلة الشيخ/ المنجد (إلكتروني)(1/268)
2- إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي - مكتبة زهران
3- أدب الدنيا والدين: الماوردي - دار الريان
4- ارحموا من في الأرض: خطبة جمعة لفضيلة الشيخ/ سعود الشريم (إلكتروني)
5- استنشاق نسيم الأنس: ابن رجب الحنبلي - دار الصحابة للتراث / طنطا
6- الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة: البهي الخولي - مكتبة دار التراث
7- الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر العسقلاني - دار الجيل / بيروت
8- أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي - عالم الكتب / بيروت
9- إغاثة اللهفان: ابن القيم - دار المعرفة / بيروت
10- أنوار التنزيل: الإمام ناصر الدين البيضاوي - دار الفكر / بيروت
11- بحر الدموع: ابن الجوزي - دار الصحابة للتراث / طنطا
12- بدائع الفوائد: ابن القيم - مكتبة نزار مصطفى الباز / مكة المكرمة
13- البداية والنهاية: ابن كثير - مكتبة المعارف / بيروت
14- بشريات السلامة من أهوال القيامة: جميلة المصري / دار البيان
15- بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار: العلامة السعدي
16- التاريخ الإسلامي مواقف وعبر: د. عبد العزيز الحميدي - دار الدعوة
17- التبر المسبوك في نصيحة الملوك: أبو حامد الغزالي (إلكتروني)
18- التبصرة: ابن الجوزي - دار ابن خلدون
19- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: الحافظ محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
20- تحفة الذاكرين: الشوكاني - مؤسسة جمال / بيروت
21- التذكار في أفضل الأذكار: القرطبي - مكتبة الأهرام
22- تذكرة الدعاة: البهي الخولي - دار الريان
23- تطهير القلوب من جراحات الذنوب: جميلة المصري - دار البيان
24- تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم تفسير المنار: السيد محمد رشيد رضا - دار المنار
25- تفسير القرآن الكريم: فضيلة الشيخ/ محمد متولي الشعراوي (إلكتروني)
26- تفسير القرآن العظيم: ابن كثير - دار إحياء الكتب العربية(1/269)
27- تنبيه الغافلين: السمرقندي - مكتبة فياض
28- تهذيب "مدارج السالكين": ابن القيم - المكتبة القيمة
29- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن بن ناصر السعدي - مؤسسة الرسالة
30- التوابين: ابن قدامة المقدسي - مكتبة الإيمان
31- توجيهات نبوية: د. السيد محمد نوح - دار الوفاء
32- جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي - دار المنار
33- الجامع لأحكام القرآن: القرطبي - طبعة الشعب
34- الجزاء من جنس العمل: د. سيد العفاني - مكتبة ابن تيمية / القاهرة
35- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: ابن القيم - دار الحديث
36- جواهر الأدب: السيد أحمد الهاشمي - مكتبة المعارف / بيروت
37- الحسنة والسيئة: ابن تيمية - مطبعة المدني / القاهرة
38- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم الأصبهاني - دار الكتاب العربي / بيروت
39- خلق المسلم: محمد الغزالي - دار الدعوة
40- ديوان أبي إسحاق الإلبيري: دار قتيبة / دمشق
41- ذم الهوى: ابن الجوزي - دار الكتب العلمية / بيروت
42- ذيل تذكرة الحفاظ: أبو المحاسن محمد بن علي الحسيني المشقي - دار الكتب العلمية
43- رجال من التاريخ: علي الطنطاوي - دار البشير
44- الرحيق المختوم: صفي الرحمن المباركفوري - دار الريان
45- الرزق خطبة جمعة لفضيلة الشيخ/ الداغستاني (إلكتروني)
46- الرسالة التبوكية: ابن القيم - دار الحديث / القاهرة
47- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البستي / (إلكتروني)
48- روضة المحبين ونزهة المشتاقين: ابن القيم - دار الفكر العربي / القاهرة
49- زاد المعاد في هَدْي خير العباد: ابن القيم - دار الريان
50- الزهد: الحسن البصري - دار الحديث
51- الزواجر عن اقتراف الكبائر: ابن حجر الهيثمي / (إلكتروني)
52- سلسلة إحياء فقه الدعوة: محمد أحمد الراشد - مؤسسة الرسالة
53- سلسلة دروس شرح مدارج السالكين: أ. محمد حسين. (شرائط كاسيت)(1/270)
54- سلسلة دروس ومحاضرات: فضيلة الشيخ/ علي القرني ود. عائض القرني - موقع "طريق الإسلام" - الشبكة الإسلامية - موقع د.عائض القرني
55- سلسلة دروس ومحاضرات: د. علي بن عمر بادحدح - موقع إسلاميات
56- سمير المؤمنين: عبد الكريم عياش - دار المحبة / دمشق
57- سهام الإصابة في الدعوات المستجابة: جلال الدين السيوطي - دار الصحابة للتراث / طنطا
58- سِيَر أعلام النبلاء: الإمام الذهبي - مؤسسة الرسالة / بيروت
59- سيرة عمر بن الخطاب: ابن الجوزي - دار ابن خلدون
60- سيرة عمر بن عبد العزيز: ابن الجوزي - دار ابن خلدون
61- السيرة النبوية: ابن هشام - دار الفكر / بيروت
62- السيرة النبوية: د.علي محمد الصلابي - دار التوزيع والنشر الإسلامية
63- شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب: ابن العماد الحنبلي - دار الآفاق الجديدة / بيروت
64- شرح أسماء الله الحسنى: للعلامة السعدي (إلكتروني)
65- شرح أشرف حديث لأهل الشام: سعيد عبد العظيم - دار الإيمان
66- شُعَب الإيمان: البيهقي - دار ابن كثير / دمشق
67- صحيح مسلم بشرح النووي: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي - دار إحياء التراث العربي
68- صفة الصفوة: ابن الجوزي - دار ابن خلدون
69- الصمت وآداب اللسان: ابن أبي الدنيا - مؤسسة الكتب الثقافية / بيروت
70- صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين: مصطفى أبو المعاطي - زهرة المدائن
71- صور من حياة التابعين: د. عبد الرحمن رأفت الباشا - دار الأدب الإسلامي
72- صور من حياة الصحابة: د.عبد الرحمن رأفت الباشا - دار الأدب الإسلامي
73- صيد الخاطر: ابن الجوزي - دار ابن خلدون
74- طبقات الشافعية الكبرى: تاج الدين السبكي - دار إحياء الكتب العربية
75- الطبقات الكبرى: محمد بن سعد - دار صادر / بيروت
76- طريق الهجرتين: ابن القيم - مكتبة أسامة الإسلامية / القاهرة
77- العبادة في الإسلام: د. يوسف القرضاوي - مؤسسة الرسالة(1/271)
78- علو الهمة: محمد بن إسماعيل المقدم - دار العقيدة للتراث
79- فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني - دار المعرفة / بيروت
80- فتح القدير: الشوكاني - دار الفكر / بيروت
90- فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل - مؤسسة الرسالة / بيروت
91- فقه السيرة: محمد الغزالي - دار الريان
92- الفوائد: ابن القيم - دار الحديث
93- في ظلال القرآن: سيد قطب - دار الشروق
94- القواعد الحسان في أسرار الطاعة والاستعداد لرمضان: رضا بن أحمد صمدي / (إلكتروني)
95- قوت القلوب: أبو طالب المكي - دار الرشاد
96- الكامل في التاريخ: ابن الأثير - دار الكتب العلمية / بيروت
97- الكبائر: الحافظ الذهبي - دار المنار
98- الكشاف: الزمخشري - دار الكتاب العربي
99- لآلئ البيان في محبة الرحمن: د. سيد العفاني- مكتبة معاذ بن جبل
100- لذة الأعمال الصالحة: سامي بن محمد بن جاد الله (إلكتروني)
101- لسان العرب: ابن منظور - دار صادر / بيروت
102- اللطائف في الوعظ: ابن الجوزي - دار الصحابة
103- لطائف المعارف: ابن رجب الحنبلي - دار الكتب العلمية / بيروت
104- محاسن التأويل: جمال الدين القاسمي (إلكتروني)
105- مجموعة قصائد المبدع/ صالح بن علي العمري: موقع "صيد الفوائد"
106- مجموعة قصائد د. عبد الرحمن العشماوي - شبكة "مشكاة الإسلامية"
107- مجموعة قصائد د. عبد المعطي الدالاتي: موقع "صيد الفوائد"
108- المستطرَف في كل فن مستظرَف: شهاب الدين الأبشيهي - دار الكتب العلمية / بيروت
109- معالم التنزيل: الإمام البغوي - دار المعرفة / بيروت
110- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي - مؤسسة جمال / بيروت
111- مفاتيح الرزق: خطبة جمعة لناصر الأحمد / (إلكتروني)
112- المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى: أبو حامد الغزالي (إلكتروني)
113- مكاشفة القلوب: أبو حامد الغزالي - دار الفجر(1/272)
114- مناهل العرفان في علوم القرآن: محمد عبدالعظيم الزرقاني / (إلكتروني)
115- من قصص الشهداء العرب في البوسنة والهرسك: حمد القطري وماجد المدني -تقديم فضيلة الشيخ/ سلمان العودة./ (إلكتروني)
116- مواقف في الورع والعفة والزهد: عبد العزيز الحميدي / (إلكتروني)
117- نوادر الصالحين: عبد الرحمن بكر - دار التقوى
118- الوابل الصيِّب من الكلم الطيب: ابن القيم - دار الكتاب العربي / بيروت
119- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ابن خلكان - دار صادر / بيروت
120- وقاية الإنسان من الجن والشيطان: وحيد عبد السلام بالي - دار البشير/ القاهرة
121- وقفات تربوية مع السيرة النبوية: أحمد فريد - دار ابن خلدون
122- وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين: إحسان العتيبي / (إلكتروني)
} - { } - {
فهرس الموضوعات
مقدمة ... 1
هذا زمان المصالحة وأوان التجارة الرابحة ... 3
أريدوا الله بعملكم ... 6
تعدد النيات يضاعف الحسنات ... 11
من النوايا المتعددة التي نحتسبها عند الله منذ الليلة الأولى ... 12
الفرح والرضا بفريضة الصوم ................................... ... 12
احتساب الأجر عند الله ........................................ ... 13
تعظيم الشهر لأنه من شعائر الله ................................. ... 14
الانقياد والتسليم لأمر الله ....................................... ... 16
الصبر لمضاعفة الأجر ............................................ ... 17
ترك حظوظ النفس إيثارا لمرضاة الله .............................. ... 19
المنافسة في السبق إلى الله عز وجل ................................ ... 21
فُتِّحت أبواب الرحمة ... 23
ربكم ذو رحمة واسعة ............................................ ... 23
من أسماء الله تعالى: الرحمن الرحيم ................................ ... 29
أهل المرحمة (1) المحسنون ... 34
إن رحمة الله قريب من المحسنين ................................... ... 34(1/273)
الإحسان لب الإيمان وروحه وكماله ... 36
المراقبة من الإحسان ... 37
المراقبة تسد مداخل الشيطان إلى النفس .......................... ... 37
إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها .................................... ... 42
أقباس نورانية من سيرة السلف .................................. ... 45
الإخلاص من الإحسان ... 50
فاعبد الله مخلصا له الدين ........................................ ... 50
يا نفسُ.. أخلِصي تتخلصي ...................................... ... 54
إليه وإلا لا تُشَد الركائب ....................................... ... 57
من بديع أقوالهم في الإخلاص ................................... ... 61
علامات الإخلاص ... 62
استواء المدح والذم .............................................. ... 62
نسيان العمل بعد عمله .......................................... ... 65
إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات ............................. ... 65
اتهام النفس ..................................................... ... 68
أقباس نورانية من أخبار المخلصين ................................ ... 72
عاجل بشرى المسلم ............................................ ... 81
ورحمتي وسعت كل شيء ... 85
أهل المرحمة (2) المتقون ... 86
اتقوا الله ما استطعتم ............................................ ... 87
اتقِ الله حيثما كنت ............................................. ... 91
ولباس التقوى ذلك خير ........................................ ... 93
التقوى من مفاتيح الرزق ........................................ ... 95
احفظ الله يحفظك ............................................... ... 101
لعلكم تتقون ... 107
حفظ الجوارح من تمام التقوى ... 110
القلب ملك الأعضاء ... 110
حفظ العين ... 114
حفظ الأذن ... 117
حفظ اللسان ... 120
من بديع أقوالهم في حفظ اللسان ................................ ... 124(1/274)
أقباس نورانية من حرص السلف على حفظ اللسان .............. ... 125
اللسان ثغر الشيطان الأعظم .................................... ... 127
وقولوا قولا سديدا ............................................. ... 129
اكسُ ألفاظك أحسنها ......................................... ... 131
الاستغفار يرقع ما خرقته الجوارح ... 133
استغفار يحتاج إلى استغفار ...................................... ... 135
سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - يستغفر في المجلس الواحد مائة مرة ............. ... 139
الاستغفار عقيب الطاعات ...................................... ... 141
فاستغفروني أغفر لكم .......................................... ... 142
ومن يغفر الذنوب إلا الله ........................................ ... 144
وا ذنوباه..! .................................................... ... 147
سيد الاستغفار ................................................. ... 148
إنما يتقبل الله من المتقين ... 152
والعاقبة للتقوى ... 155
أهل المرحمة (3) الراحمون يرحمهم الرحمن ... 158
المواساة بالمال والطعام وقضاء الحاجات رحمة .................... ... 164
أقباس نورانية من سيرة السلف ................................. ... 170
أروا الله من أنفسكم خيرا ... 178
يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ................................... ... 179
قُرُبات مضاعفة الحسنات ... 187
قراءة القرآن والإنصات إليه والعمل به ... 187
صلة الأرحام ... 190
الجزاء من جنس العمل ......................................... ... 191
أحق الناس بالبر والصلة ........................................ ... 194
كثرة الخطا إلى المساجد ... 198
صلاة التراويح ................................................ ... 199
الاعتكاف والاجتهاد في العشر الأواخر ......................... ... 201
الإكثار من النوافل ... 204
ذكر الله تعالى ... 205(1/275)
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ..................................... ... 207
ولذكر الله أكبر ................................................ ... 213
قبسات نورانية من أخبار الذاكرين .............................. ... 218
الإحسان إلى عباد الله ... 222
وما أدراك ما ليلة القدر ... 226
فاعفُ عني ..................................................... ... 232
ليلة الإنابة فيها تفتح أبواب الإجابة?????????????????????????????? ... 234
موانع الدعاء ................................................... ... 238
دعوة لا تُرد .................................................... ... 239
المصادر والمراجع ... 242
الفهرس ... 247
تم بحمد الله(1/276)