شخصية فرعون في القرآن
إعداد الطالب
قاسم توفيق قاسم خضر
إشراف الدكتور
محسن الخالدي
جامعة النجاح الوطنية
كلية الدراسات العليا
شخصية فرعون في القرآن
إعداد الطالب
قاسم توفيق قاسم خضر
إشراف الدكتور
محسن الخالدي
قدمت هذه الرسالة استكمالا لمتطلبات درجة الماجستير في التفسير
بكلية الدراسات العليا في جامعة النجاح الوطنية في نابلس-فلسطين
1423هـ الموافق2003م.
شخصية فرعون في القرآن
إعداد الطالب
قاسم توفيق قاسم خضر
نوقشت هذه الأطروحة بتاريخ 20/7/2003م وأُجيزت.
أعضاء لجنة المناقشة:
1- د0محسن الخالدي رئيسا
2- د0علي علوش مناقشا خارجيا
3- د0خالد خليل علوان مناقشا داخليا
الإهداء
إلى كلِّ الذين قالوا كلمة الحق أمام الطواغيت
الشكر
أتقدم بالشكر الجزيل إلى
فضيلة الدكتور محسن الخالدي
لما قدَّمه لي من نصائح وإرشادات أدت إلى إخراج هذا البحث
سائلا المولى جلّ شأنه أن ينفع المسلمين بعلمه،كما أتقدم بالشكر إلى الأخوة المناقشين الدكتور علي علوش والدكتور خالد علوان.
مسرد الموضوعات
الموضوع الصفحة
قرار لجنة المناقشة ب
الإهداء ت
الشكر ث
ملخص البحث باللغة العربية ز
المقدمة 1
مسوغات البحث(أهميته،ومشكلته،وأهدافه) 1
الفصل التمهيدي 5
المبحث الأول: عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون 5
مكان غرق فرعون 6
زمان غرق فرعون 7
المبحث الثاني:لمحة موجزة عن فرعون 10
فرعون لغة 10
فرعون موسى 10
فرعون موسى عليه السلام غير فرعون يوسف عليه السلام 11
طبيعة الألوهية والربوبية التي ادعاها فرعون 12
الفصل الأول:صفات شخصية فرعون 16
المبحث الأول:الاستكبار 17
امتناع فرعون عن قبول الحق رغم قيام الحجة والبرهان دليل على استكباره 20
فرعون يُفرط في استكباره رغم كثرة الآيات 21
معجزة الانتصار العظيم على السحرة دلالة أخرى على استكبار فرعون 23
المبحث الثاني:العلو 26
اليهود مثال حيٌّ للعلوِّ والإفساد 28
المبحث الثالث:الطغيان 31
المبحث الرابع:الظلم 35(1/1)
تنوع الظلم في ظل شخصية فرعون 37
كل من شارك الظالمين أو سكت لغير عذر مشروع فهو منهم 38
الظلم قلب للأوضاع 39
الموضوع الصفحة
المبحث الخامس:الإفساد 40
الفساد في ظل الطاغوت المعاصر 42
المبحث السادس:الإستبداد 44
بسبب الإستبداد كان مطلب موسى عليه السلام إطلاق بني إسرائيل 49
المبحث السابع:الوهم والغرور 52
الوهم والغرور يُؤديان إلى كثرة العثرات ويمنعان من رؤية الحقيقة 57
المبحث الثامن:الإسراف 59
المبحث التاسع:المكر 63
عبرة المبحث:’’ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‘‘. 70
نتيجة الفصل:العقدة الأساسية في شخصية فرعون 71
الفصل الثاني:الأسباب التي أدت إلى تكوّن شخصية فرعون 74
المبحث الأول: الكفر 75
بعض نتائج الكفر وآثاره في شخصية فرعون 78
تنبيه لا بدّ منه:إنّ الخلل في أي جزء من العقيدة له آثار مدمرة على الفرد والمجتمع 79
الكفر عارض والإيمان أصيل 81
المبحث الثاني:المحافظة على المكتسبات الخاصة 82
المكتسبات أو الإمتيازات التي تمتع بها فرعون 83
المبحث الثالث:فسق الأغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون ومساندتهم له 89
أولا:هامان 90
ثانيا:الأسرة الحاكمة،وتشمل الملأ من قوم فرعون وآل فرعون وقومه 91
أولا:الملأ من قوم فرعون 93
إتباع الملأ لأمر فرعون 95
الأسباب الحقيقة لاتباع الملأ أمر فرعون 96
المشاركة العملية للملأ 98
كلمة في بطانة السوء 102
ثانيا:آل فرعون 103
بيان أنّ آل فرعون أداة تنفيذية في نظام فرعون 104
الموضوع الصفحة
العقوبات التي أنزلها الله على آل فرعون دليل على مشاركتهم في الإثم والعدوان 105
ثالثا:قوم فرعون 107
بيان بعض صفات قوم فرعون وأنّها سبب في إظهار شخصية فرعون 107
رابعا:السحرة 109
الطاغوت المعاصر والفئات المشاركة 112
الوقاية خير من العلاج 112
الفصل الثالث:الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان حكمه 115
المبحث الأول:وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلال 116(1/2)
ذبح الأبناء واستحياء النّساء لون من ألوان العذاب في نظام فرعون 117
فرعون يجدد أوامر القتل 119
فرعون يهدد بقتل موسى واستئصال بني إسرائيل 121
فرعون يسجل أبشع مأساة عرفها التاريخ 123
الخوف في ظلّ فرعون وسيلة ونتيجة 125
السجون لون آخر من عذاب فرعون 126
المبحث الثاني:استجهال المجتمع 129
لقد استعمل فرعون لتجهيل النّاس عدة وسائل،تدور في مجملها حول محورين 130
وبين المنع والحقن تمّ إشغال النّاس بما يضر ولا ينفع 132
لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون 134
وسائل الرد الممكنة 135
المبحث الثالث:الكذب 136
الكذب وسيلة من وسائل فرعون في مواجهته لموسى عليه السلام 136
الكذب تزوير للحقيقة كي لا تتضح معالم المعركة بين الحق واالطاغوت في أذهان الجماهير 141
المبحث الرابع:السيطرة الإقتصادية 143
بعض الشواهد على سيطرة فرعون الإقتصادية 143
تدفق الخيرات بين يدي فرعون ابتلاء من الله،ودليل على قوته الإقتصادية 145
المال بين يدي فرعون وسيلة من وسائل التثبيت لمنهجه ونظامه 146
الموضوع الصفحة
ازدياد تأثير المال في ظل طغيان المفهوم المادي للحياة في عهد فرعون 147
ارتباط السيطرة الإقتصادية مع السيطرة العسكرية 148
المبحث الخامس:السيطرة العسكرية 150
جنود الطاغوت خاطئون 154
وسائل فرعون تنتج نظاما يمتاز بالقوة المادية والخواء الروحي 155
وسائل الطاغوت بين الأمس واليوم 157
الفصل الرابع:آثار شخصية فرعون 159
المبحث الأول:الآثار المجتمعية لشخصية فرعون 160
أولا:ضلال قومه 160
ثانيا:استمراء الذل 164
ثالثا:ظهور المجتمع الطبقي 166
رابعا:طغيان المفهوم المادي للحياة 170
المبحث الثاني:جلب العقوبات الرّبانية 172
العقوبات التي نزلت على فرعون وملئه وآله 173
عبرة العقوبة والذنب 177
الفصل الخامس:الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة فرعون 179
المبحث الأول:مرحلة التهيئة والإعداد للمواجهة 181(1/3)
بعض مميزات شخصية موسى والتي تُعتبر نموذجا للشخصية القادرة على مواجهة الطاغوت183
أولا:النفس العزيزة 183
ثانيا: المروءة والفطرة السليمة 184
ثالثا:القوة والأمانة 185
رابعا:الصلابة والخشونة 187
المبحث الثاني:مرحلة المباشَرة في التنفيذ 189
أولا:بيان هدف الدعوة وغايتها مع تقديم الحجة والبرهان 189
وهذا هو معنى قوله تعالى لموسى وهارون:’’فقولا له قولا لينا‘‘ 192
ثانيا:القدره على التعامل مع المواقف المختلفة والمستجدة وسرعة البديهة وروح المبادرة 194
الموضوع الصفحة
موسى عليه السلام يُدير الحوار بنباهة واقتدار 194
الطاغوت يثير الشبهات وموسى عليه السلام يرد عليها ويدحضها 195
موسى عليه السلام يُجيد ترتيب المبارة مع السحرة 200
عبرة 201
المبحث الثالث:مرحلة مواجهة الإبتلاءات والمحن بعد إفلاس الطاغوت في الحجة والبرهان203
وسائل مواجة الإبتلاءات والمحن 204
الوسيلة اللأولى:التعبئة الروحية 204
أولا:ذكر الله 204
ثانيا:إقامة الصلاة 206
ثالثا:الدعاء 208
الوسيلة الثانية:التوكل على الله 211
تفويض الأمر إليه 213
الوسيلة الثالثة:الاستعانة بالله والصبر 214
السحرة آية من آيات الصبر والثبات 218
امرأة فرعون مثال في الصبر أمام الطاغوت 219
وبالصبر تمت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل 221
الوسيلة الرابعة:الاستقامة وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون 221
الوسيلة الخامسة:الإستعاذة بالله 224
الوسيلة السادسة:سريّة اللإيمان والإنتماء 226
مبدأ التَّقِيَّة وسريّة الإيمان 228
نظرة تحليلية عامة على كيفية مواجهة فرعون 229
الخاتمة 232
أولا:البعد الغيبي في الأحداث حقيقة نوقن بها ولا تُلغي واجب الأخذ بالأسباب 232
ثانيا:سنّة أخذ الله للظالمين،وقوله تعالى:’’فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين‘‘. 233
ثالثا:الفتنة والاختبار،وقوله تعالى:’’وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‘‘. 234
رابعا:لا أثر للقاعدين على رصيف الحياة 236
المصادر 239(1/4)
الموضوع الصفحة
فهرس الآيات 249
فهرس الأحاديث 262
ملخص البحث باللغة الإنجليزية 264
ملخص البحث باللغة العربية
بدأت بحثي بفصل تمهيدي تحدثت فيه عن قصة فرعون بشكل مجمل،وعن مكان وزمن غرقه،وذلك كي يطّلع القارىء على مضمون القصة،ممّا يساعده على فهم ما جاء في هذه الرسالة. وأَتْبَعْتُ تلك الإشارة حديثا موجزا عن فرعون نفسه الذي نحن بصدد الحديث عن شخصيته،وذكرت طبيعة الألوهية والربوبية التي ادعاها فرعون.
ثمّ انتقلت بعد ذلك للحديث عن صفات شخصية فرعون كما ذكرها القرآن،سواء باللفظ الصريح لتلك الصفات،أم من خلال فهم النصوص والاستدلال منها على تلك الصفات،مع ما يُرافق ذلك من تحليل ونتائج،وربط بين الواقع والنصوص،حيث شكّل الحديث عنها وربطها بالواقع تشخيصا للمرض القديم والحديث معا.
بعد الحديث عن صفات شخصية فرعون أصبح من الضروري الكشف عن أسباب هذه الظاهرة العجيبة،فتحدثت عن تلك الأسباب،والتي كانت تدور في مجملها حول الأسباب الذاتية في ذات فرعون،والموضوعية التي أحاطت به،وبينت أنّ اجتماع تلك الأسباب أدى لظهور تلك الشخصية.وربطت بين القديم والواقع ونبهت على ضرورة الوقاية،فمعرفة سبب المرض تعين على الوقاية منه كما تُعين على العلاج.
وتحدثت بعد ذلك عن وسائل فرعون في تثبيت ملكه وفرضه لشخصيته،تلك الوسائل التي دارت حول الإرهاب والتخويف بالقتل والتعذيب تارة،وباستجهال المجتمع لإفراغه من كل محتوى فكري أو إنساني تارة أخرى،واعتماده على الكذب والدجل لإخفاء الحقيقة عن الجماهير،وأضاف إلى ذلك سيطرة شبه تامة على المال والسلاح؛فجمع بين يديه القوة الإقتصادية والعسكرية.(1/5)
انتقلت بعد ذلك للحديث عن آثار تلك الشخصية على الجماهير الواقعة تحت سيطرتها،والتي تمثلت بضلال قومه وضياعهم وتيههم،واعتيادهم على حياة الذل وخنوعهم،وبظهور الطبقية وتشرذم المجتمع،وطغيان المفاهيم المادية المصاحبة بسبب غياب القيم والمعاني الإنسانية،وما صاحب ذلك من عقوبات ربانية.
ثمّ تحدثت-أخيرا-عن السبل التي أرشد القرآن إليها في مواجهة فرعون،والتي تمثلت في مرحلة التهيئة لشخصية موسى عليه السلام كشخصية مكافئة لشخصية فرعون.ومرحلة التنفيذ المُتمثلة في بيان طبيعة الدعوة،والقدرة على التعامل مع المواقف المستجدة.ومرحلة مواجهة الإبتلاءات وما تتطلبه من وسائل التعبئة الروحية،والأخذ بالأسباب المادية.وقد تخلل البحث الكثير من الدروس والعبر،ووضعت في الخاتمة أهم تلك الدروس والعبر والنتائج التي أسفر عنها هذا البحث،وأسأل الله التوفيق.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد المرسلين،وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:-
فإنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم،لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،قول فصل وما هو بالهزل، وهو الحق والحقيقة،من تمسك به اهتدى ومن تركه ضلّ وغوى،لاتنقضي عجائبه،ولا يخلق على كثرة الرد،ولا يشبع منه العلماء،من قال به صدق،ومن حكم به عدل.
من هنا كان القرآن كتاب حياة لا قصة حياة،وعلى هدي هذه الحقائق المطلقة،لفت انتباهي قصة فرعون في هذا الكتاب العظيم،وكنت على يقين أنّ ورودها بهذا الحجم لا بدّ له من عبر جليلة،وفوائد للأمة عظيمة،فبدأت النّظر فيها مرة بعد مرة،فوجدت نفسي في شوق إلى سبر أسرارها ما استطعت إلى ذلك سبيلا.وها أنا أضع مسوغات بحثي متوكلا على الله أن يلهمني السداد والرشاد.
مسوغات البحث
أهميته،ومشكلته،وأهدافه
1-أهمية البحث:(1/6)
أ-البعد الواقعي؛ذلك أنّ شخصية فرعون تتكرر بأشكال مختلفة وجوهر واحد،فأحيانا نراها متمثلة بشخص،يقول بلسان الحال-إن لم يقل بلسان المقال-أنا ربكم الأعلى،وأحيانا نرى شخصية فرعون متمثلة بالمنهج الذي يقوم عليه جمع من النّاس تواطأوا عليه،وتعاونوا على تطبيقه،وقهروا الأمم والشعوب في سبيل إخضاعهم له.فليس لأحد خيار إلاّ أن يدخل في دينهم ويحمل ثقافتهم وأفكارهم!كمن قالوا:’’لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا‘‘(1)،وبالتالي تتكرر الشخصية وإفرازاتها السلبية والمَرَضيَّة،فهي إذن شخصية واقعيه ندرك وجودها وحقيقتها وآثارها في حياة الناس.
فهي معاناة تتكرر كلما تهيأت لها الأسباب والظروف المواتية،ونحن نرى أنّه قد تهيأت الظروف هنا وهناك لمثل هذه الشخصية،فظهرت مرة أخرى في صور مختلفة؛ولهذا وجب إلقاء الضوء عليها كحاجة عصرية.
ب-البعد الإنساني؛لأنّ ظهور مثل هذه الشخصية كارثة إنسانية،وليست مشكلة إسلامية،وفي هذا إظهار للبعد الإنساني في القرآن،وهو يدعو لمجابهة هذه الشخصية.
ت-إظهار الإعجاز القرآني وهو يتحدث عن هذه الشخصية بشمول تام،حيث لم يدع الجماعة المسلمة تتفاجأ بمواجهة هذه الشخصية عندما تتكرر؛وهذا سبق للأحداث والحاجات.على عكس المناهج الوضعية التي تضع الحلول عند وقوع المشكلات.
ث-إبراز شخصية فرعون في القرآن في موضوع واحد،بحيث تصبح واضحة جلية لكل من أراد الإطلاع على هذه الشخصية التي ذكرها القرآن في مواضع متعددة،وهذا يعني فهم شخصية فرعون من خلال المعاني التي تُعرض متفرقة في مواضعها،ومن ثم ربط بعضها مع بعض للوصول إلى فهم عميق لهذه الشخصية.
ج-الكشف عن أوجه الترابط بين شخصية فرعون ونظام حكمه،وبين شخصيته ومجموعة القيم والمعتقدات السائدة في ذلك المجتمع،بمعنى أنّ فرعون ابن بيئته.
2-مشكلة البحث:
__________
(1) الأعراف:88].(1/7)
تتمثل مشكلة هذا البحث في سبر غور شخصية فرعون وتحليلها،إذ أنّ هناك الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى دراسة علمية دقيقة وعميقة، والتي سأحاول-بعون الله-الإجابة عليها من خلال هذا البحث،ومنها:
أ-ما هي الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه الشخصية(الذاتية والموضوعية) ؟
ب-ما هي مكونات هذه الشخصية،الظاهرة منها والخفية ؟
ت-وهل هي شخصية مرضية؟ ولماذا؟
ث-ما هي الأساليب والتدابير الوقائية اللازم اتباعها لمنع ظهور مثل هذه الشخصية؟(الوقاية)
ج- ما هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع هذه الشحصية؟(العلاج)
ح-لماذا لم تستجب هذه الشخصية للآيات البينة الجلية؟وما هي أسباب العمى الذي أصيب به؟
خ-كيف استطاع فرعون السيطرة على الجماهير وقهرها وإذلالها؟
وأسئلة أخرى سنراها في ثنايا هذا البحث،وهي بحاجة إلى إجابات من القرآن الكريم عينه،إذ لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ وهدى إليها.
3-أهداف البحث:
أ-خدمة كتاب الله.
ب-معرفة العبر التي من أجلها ساق القرآن قصة فرعون أكثر من مرة في مواضع عديدة.
ت-بيان أنّ فرعون نموذج لكل حاكم طاغية.
ث-الكشف عن منهج فرعون من حيث خصائصه ومقوماته وأهدافه وغاياته،وخطوط منهجه الرئيسية والفرعية.
ج-بيان الوسائل التي قررها القرآن في مواجهة هذه الشخصية،والتي تستفيد الجماعة المسلمة منها أثناء حركتها في واقع الحياة.
ح-الإسهام في إثراء المكتبة الإسلامية في جانب التفسير الموضوعي.(1/8)
الدراسات السابقة:لم أجد دراسة سابقة تبحث في هذا الموضوع كدراسة موضوعية من القرآن،وإنّما طُرِحَ هذا الموضوع على شكلٍ مفرق كما هو الحال في كتب التفسير،وقد تحدث الكثيرون عن فرعون ولكن على شكل مقتطفات من شخصيته بما يتناسب مع الموضوع المُراد بحثه؛فمن تحدث عن الظلم تحدث عن فرعون الظالم،وكذلك من تحدث عن الإستبداد والطغيان وغيرها من المواضيع ذات الصلة بشخصية فرعون.كما تحدث المؤرخون عن الفراعنة وتكلموا عن تلك الحقبة التاريخية…ولكن لم أجد من تحدَّث عن شخصية فرعون بهذا الأسلوب الموضوعي الشامل من القرآن.
منهج البحث:كان منهجي في البحث معتمداً على تجميع كل النصوص القرآنية التي تتحدث عن فرعون وتتصل به،ثمّ استعنت على فهم تلك النّصوص بالرجوع إلى كتب التفسير ومعاجم اللغة وبعض الكتب الإسلامية التي تحدثت عن جزئيات من الموضوع،كما استعنت بالحديث الشريف للدلالة على بعض المعاني المتصلة بالموضوع،ثمّ توسعت بالفهم وذلك بربط المعاني الجزئية بعضها مع بعض،والخروج بمفاهيم قرآنية حول الموضوع.ثمّ قمتُ بترتيب وتبويب تلك النصوص-بناء على ما تقدم من فهمي لها-وتوزيعها على الفصول والمباحث،وربطت بين تلك المفاهيم القرآنية وبين الواقع المعاش بأسلوب حركي قادر على معالجة الظواهر الواقعية المستجدة.وربما تكرر استشهادي بالآية الواحدة أكثر من مرة في مواضع متعددة،وذلك لتعدد المعاني التي تُفيدها الآية أو الآيات،وتلك سمة يتميز بها كتاب الله سبحانه.وربما-أيضا-جمعت العدد من الآيات التي تتحدث عن المعنى نفسه،ثمّ تحدثت عنها بشكل مجمل نظرا إلى المعنى العام الذي يجمعها.وهنا لا بدّ من تسجيل ملاحظة،وهي أننّي من المتأثرين بمنهج سيد قطب رحمه الله،وبالتالي سيظهر هذا التأثر في ثنايا هذا البحث.
وهكذا قسمت بحثي على الفصول والمباحث الآتية:
الفصل التمهيدي
المبحث الأول: عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون.
المبحث الثاني:لمحة موجزة عن فرعون(1/9)
الفصل الأول:صفات شخصية فرعون
المبحث الأول:الاستكبار
المبحث الثاني:العلو
المبحث الثالث:الطغيان
المبحث الرابع:الظلم
المبحث الخامس:الإفساد
المبحث السادس:الإستبداد
المبحث السابع:الوهم والغرور
المبحث الثامن:الإسراف
المبحث التاسع:المكر
الفصل الثاني:الأسباب التي أدت إلى تكوّن شخصية فرعون
المبحث الأول: الكفر
المبحث الثاني:المحافظة على المكتسبات الخاصة
المبحث الثالث:فسق الأغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون ومساندتهم له
الفصل الثالث:الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان حكمه
المبحث الأول:وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلال
المبحث الثاني:إستجهال المجتمع
المبحث الثالث:الكذب
المبحث الرابع:السيطرة الإقتصادية
المبحث الخامس:السيطرة العسكرية
الفصل الرابع:آثار شخصية فرعون
المبحث الأول:الآثار المجتمعية لشخصية فرعون
المبحث الثاني:جلب العقوبات الرّبانية
الفصل الخامس:الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة فرعون
المبحث الأول:مرحلة التهيئة والإعداد للمواجهة
المبحث الثاني:مرحلة المباشَرة في التنفيذ
المبحث الثالث:مرحلة مواجهة الإبتلاءات والمحن بعد إفلاس الطاغوت في الحجة والبرهان الخاتمة
وأرجو أن أكون قد وُفقت في الفهم والتحليل راجيا من الله الثواب على ما قدمت والعفو على ما قصرت،فهو ذو الفضل العظيم.
الفصل التمهيدي
المبحث الأول: عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون.
المبحث الثاني:لمحة موجزة عن فرعون
الفصل التمهيدي
المبحث الأول
عرض مجمل لقصة موسى مع فرعون
لقد وردت قصة موسى عليه السلام مع فرعون-لعنه الله-في مواضع عديدة وحلقات متفرقة،(وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو الإشارات متناسقة مع موضوع السورة،أو السياق الذي تعرض فيه ،وكانت تشارك في تصوير الموضوع الذي إليه السياق...(1/10)
وكذلك لا نجد تكرارا في عرض القصة أبدا على كثرة ما عرضت في سور القرآن .لأنّ هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض ،ومشاهد كل حلقة ،والجانب الذي يختار من كل مشهد ،وطريقة عرضه…كل أولئك يجعلها جديدة في كل موضع .متناسقة مع هذا الموضع)(1)بل سنرى أنّ الآية الواحدة صالحة للإستدلال بها في مواضيع متعددة ومتنوعة،وذلك لغنى النّص القرآني،ففي كلّ مرّة نستدل بالآية عينها نجدها أصيلة في الموضوع الذي يُستدلّ بها عليه.وتلك ظاهرة يتميّز بها كتاب الله وينفرد،وما ذلك إلاّ دليل على إعجاز القرآن الكريم.
لقد ذكرت قصة موسى عليه السلام مع فرعون-لعنه الله-كثيرا في الكتاب العزيز،وذلك لأنها من أعجب القصص،ولما حوته من فوائد جمّة ودروس عديدة تتكرر بين الحق المتمثل في موسى والباطل الذي يمثله فرعون؛ذلك أنّ فرعون حذر من موسى كلّ الحذر،فقد أُخبر أنّ مولودا سيولد من بني إسرائيل فيكون نهاية ملكه على يده،لهذا شرع فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل وذبحهم كي لا يخرج منهم من يهدم عرشه.
__________
(1) سيد قطب،في ظلال القرآن،ط5،دار إحياء التراث العربي،بيروت،لبنان،1386هـ-1967م.(6/196-197)مع بعض التّصرف،وسأشير إليه لاحقا هكذا(في ظلال القرآن).(1/11)
ثمّ لمّا تطاول الزمن وبنو إسرائيل تحت هذا البلاء،وأسرف في قتلهم وكاد يفنيهم،(قيل له:أفنيت الناس وقطعت النسل،وإنهم خولك(1)وعمّالك.فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما،فولد هارون في السنة التي يُستحيا فيها الغلمان،وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون)(2)؛فأوحى الله إلى أُمّ موسى أن تقذفه في التابوت ثمّ تُلقيه في اليمّ،يقول تعالى:’’وأوحينا إلى أُمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ،ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين‘‘(3)،وكان قدر الله أن يلتقطه آل فرعون،ثمّ يُحمل الوليد الصغير إلى القصور الفرعونية ليكون لهم عدوا وحزنا.فلمّا رأته امرأة فرعون طلبت أن تستبقيه عسى أن ينفعها أو يتخذوه ولدا وهم لا يشعرون،فقد ألقى الله على موسى محبة منه.
__________
(1) خول الرجل حشمه الواحد خائل،وقد يكون الخول واحدا،وهو اسم يقع على العبد والأمة،وهو جمع خائل وهو الراعي. وقال آخرون:هو مأخوذ من التخويل وهو التمليك الخول) ابن منظور:محمد بن مكرم الأفريقي المصري،(630- 711هـ)، لسان العرب،15جزء،ط1، دار صادر، بيروت.مادة:خول(11/224)مع بعض التصرّف،وسأشير إليه لاحقا هكذا(لسان العرب)،.وانظر:الرازي:محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر،(ت721)، مختار الصحاح،جزء واحد،تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415هـ – 1995م.مادة:خول(81)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(مختار الصحاح).
(2) الطبري:أبو جعفر،محمد بن جرير بن يزيد بن خالد،(224-310هـ)، تاريخ الأمم والملوك،5أجزاء،ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ.(1/232)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تاريخ الطبري).
(3) القصص:7].(1/12)
ترعرع موسى في قصور فرعون،ثمّ عقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم؛ذلك أنّه قتل قبطيا ردا على اعتدائه على من هو من شيعة موسى،فتمّت ملاحقته من قبل فرعون وجنوده فخرج من بلاده خائفا يترقب،ومكث سنين في أهل مدين،فتزوج من ابنة الرجل الصالح الذي دعاه لأخذ الأجر على ما سقى لابنتيه،(ورزقه الله النبوة والرسالة والتكليم،وبعثه إلى فرعون ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه،هذا مع ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان،فجاءه برسالة الله تعالى وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام،فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة،وركب رأسه وتولى بركنه،وادعى ما ليس له،وافترى على الله وعتا وبغى،وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل،والله تعالى يحفظ رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه التي لا تنام.ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يد موسى شيئا بعد شيء ومرة بعد مرة،مما يبهر العقول ويدهش الألباب،مما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله،’’وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها‘‘(1)، وصمم فرعون وملؤه-قبحهم الله-على التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة)(2).
__________
(1) الزخرف:48].
(2) ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي،(701-774هـ)، تفسير القرآن العظيم،4أجزاء، دار الفكر،بيروت، 1401هـ.(2/427-428)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير ابن كثير).(1/13)
و(لمّا طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة،كلمّا جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل،فإذا مضت أخلف موعده،وقال:هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصلات،كلّ ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفّها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل،فإذا كفّ ذلك أخلف موعده ونكث عهده،حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه؛فخرج بهم ليلا،فلمّا أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا،أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة)(1)،فكانت نهايته أن أغرقه الله وجنوده أجمعين،وأحلّ به بأسه الذي لا يرد،وتلك هي سنّة الله في الظالمين،يقول تعالى:’’فكلا أخذنا بذنبه،فمنهم من أخذته الصيحة،ومنهم من خسفنا به الأرض،ومنهم من أغرقنا،وما كان الله ليظلمهم،ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‘‘(2).
مكان غرق فرعون
لقد أوحى الله إلى موسى أن يسري بعباده،وأن يرحل بهم ليلا،بعد تدبير وتنظيم،وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر،والذي نسمّيه في هذه الأيام بالبحر الأحمر،ونبأه أنّ فرعون سيتبعهم بجنده،،حيث كان حتفه ومنيّته.
__________
(1) المصدر السابق(3/152).
(2) العنكبوت:40].(1/14)
جاء في معجم البلدان أنّ(أبا خالد هو كنية البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وجنوده،وهو بحر القلزم الذي يسلك من مصر إلى مكة وغيرها وهو من بحر الهند،وجاء في التفسير أن موسى عليه السلام هو الذي كناه أبا خالد،لمّا ضربه بعصاه فانفلق بإذن الله)(1)،والأرجح أنّ ذلك كان (عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحريات.)(2)
زمان غرقه لعنه الله
ليس عندنا ما نعتمده عن زمان غرقه إلاّ ما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما(أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة وجدهم يصومون يوما يعني عاشوراء،فقالوا:هذا يوم عظيم،وهو يوم نجّى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون،فصام موسى شكرا لله.فقال:أنا أولى بموسى منهم فصامه وأمر بصيامه)(3).والحديث فيه دلالة على يوم غرقه لا سنة غرقه.
__________
(1) الحموي: أبو عبد الله ،ياقوت بن عبد الله.(ت626)، معجم البلدان،5أجزاء، دار الفكر، بيروت.(1/80)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(معجم البلدان).وانظر: القرطبي: أبو عبد الله ، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح،(ت671)،الجامع لأحكام القرآن،20جزءا ،تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني ،ط2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ.(1/389)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير القرطبي).
(2) في ظلال القرآن(6/211).
(3) البخاري: أبو عبدالله، محمد بن إسماعيل الجعفي،(194- 256هـ)، الجامع الصحيح المختصر(صحيح البخاري)،6أجزاء،تحقيق: مصطفى ديب البغا، ط3، دار ابن كثير،اليمامة، بيروت، 1407هـ،1987م.كتاب الأنبياء،باب قوله تعالى وهل أتاك حديث موسى وكلم الله موسى تكليما،(3/1244/ 3216)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(صحيح البخاري).(1/15)
وهنا لا بد من الإشارة أنّ كتب التاريخ مليئة بالإسرائيليات والأخبار غير المعقولة،ولهذا أعرضت عن الخوض في تاريخ الفراعنة،وهذا ينسجم مع إراض القرآن الكريم عن تلك القضية،فالمهم هو أخذ العبرة من الحدث وليس السرد التاريخي الخالي من العبرة،بالإضافة إلى أنّ بحثي هذا دراسة موضوعية من القرآن فلا داعي للخروج عن هذا النسق.
المبحث الثاني
لمحة موجزة عن فرعون
ينتسب فرعون إلى(الأسر التي حكمت مصر منذ(3100) قبل الميلاد وحتى السيطرة الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد،وكلمة’’فرعون‘‘قد تعني النبيل أو الشريف أو السامي.
تميّز فرعون مصر بسيطرة مطلقة وحرية تصرف كاملة في كل ما يتعلق بأمور الدولة،كما كان قائدا أعلى للجيش،وتمادى بعض الفراعنة فادّعوا الألوهية.
كان فرعون مصر-في ذلك الحين-مالكا لكل الأرض المصرية ومستعمرات الدولة بمن فيها وما عليها،وكثيرا ما كانت سلطة فرعون الدكتاتورية تؤجج ثورات داخلية قصيرة العمر ما تلبث أن تقمع بشدة وحزم)(1).
__________
(1) الكيالي:عبد الوهاب،موسوعة السياسة،6أجزاء،ط1،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،1983.(4/482)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(موسوعة السياسة).(1/16)
(وفرعون علم على كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم،كما أنّ قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا،وكسرى لمن ملك الفرس،وتبّع لمن ملك اليمن كافرا،والنجاشي لمن ملك الحبشة،وبطليموس لمن ملك الهند)(1).
وفرعون لغة من(الفرعنة: الكبر والتجبر. وفرعون كل نبي ملك دهره…و فرعون الذي ذكر الله تعالى في كتابه من هذا، وإنّما ترك صرفه في قول بعضهم لأنّه لا سمي له كإبليس فيمن أخذه من أبلس.وقال آخرون:أنّ فرعون هذا علم أعجمي ولذلك لم يصرف اسمه…وكل عات فرعون.والعتاة الفراعنة، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء وتكبر)(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير(1/91).(ومنها فرعون واسمه الوليد بن مصعب وكنيته أبو العباس وقيل أبو الوليد وقيل أبو مرة وقيل إن فرعون لقب لكل من ملك مصر)الغزي:محمد بن محمد بن محمد، إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن،جزءان،تحقيق: خليل محمد العربي، ط1، الفاروق الحديثة، القاهرة، 1415هـ.(2/381)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(إتقان ما يحسن من الأخبار).وانظر:تفسيرالقرطبي(1/383)والبيضاوي: (ت 791)، تفسير البيضاوي،5أجزاء،تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسونة، دار الفكر، بيروت، 1416هـ – 1996م.(1/320)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير البيضاوي).
(2) لسان العرب،مادة:فرعن(13/323)مع بعض التصرّف.وفي مختار الصحاح: (فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر، وكل عات فرعون. والعتاة الفراعنة. وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء و مكر).مختار الصحاح،مادة:فرعن،(1/209).(1/17)
وفرعون موسى هو ذلك الطاغية الذي بعث الله إليه موسى عليه السلام،وهو،(شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له،كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار،وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه. وما قاله بعض الجهله في تأويل قوله تعالى:’’اذهبا إلى فرعون إنه طغى‘‘(1). إنّه :إشارة إلى قلبه،وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان،تحريف للقرآن عن ظاهره يعلم بطلانه قطعا)(2).
وفرعون لقب لمن ملك وحكم الأقباط وأرض مصر،ومن هنا ندرك السر الذي من أجله عدل القرآن عن ذكر اسم فرعون إلى ذكر لقبه،والسبب هو أنّ القرآن هدف إلى إبراز شخصية فرعون بغض النّظر عمّن يمثّل هذه الشخصية.
__________
(1) طه:43].
(2) الزرقاني: محمد بن عبدالعظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن،ط1، دار الفكر، بيروت، مكتب البحوث والدراسات ، 1996م.(2/67)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(مناهل العرفان).(1/18)
ونفس الجواب يقال لمن سأل:هل واجه موسى عليه السلام فرعونا واحدا أم اثنين،فرعون الإضطهاد وفرعون الخروج؟ وذلك لأنّ كل من اتصف بميزات وخصائص شخصية فرعون فهو فرعون الذي لعنه الله وذمه في كتابه،مع أنّ الظاهر أنّ موسى عليه السلام واجه فرعونا واحدا،وأنّ فرعون هذا قد عمّر،فليس هناك أي دليل على وجود فرعونين،فكل كتب التاريخ والتفسير لم تذكر إلاّ اسما واحدا لفرعون موسى(1).(ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله
__________
(1) انظر: العكري:ابن العماد،عبد الحي بن أحمد الدمشقي الحنبلي،(1032- 1089هـ)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب،4أجزاء،دار الكتب العلمية،بيروت.(1/65) .وسأشير إليه لاحقا هكذا(شذرات الذهب)،وإبن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(508 –597هـ)،المنتظم في تاريخ الملوك والأمم،12جزء،تحقيق: محمد و مصطفى عبد القادر عطا،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1412هـ – 1992م.(1/332)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(المنتظم في التاريخ)ومعجم البلدان(5/140)والأتابكي: أبو المحاسن،جمال الدين يوسف بن تغرى بردى،(813- 874هـ)،النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة،المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر،مصر.(1/58)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(النّجوم الزاهرة).(1/19)
ولا أعظم قولا ولا أطول عمرا في ملكه منه،وكان اسمه الوليد بن مصعب،ولم يكن من الفراعنة فرعون أشد غلظة ولا أقسى قلبا ولا أسوأ ملكا لبني إسرائيل منه يعذبهم فيجعلهم خدما وخولا،وصنَّفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون وصنف يزرعون له،فهم في أعماله،ومن لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية،فسامهم-كما قال الله-سوء العذاب.وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقه،وقد استنكح منهم امرأة يقال لها آسية بنت مزاحم من خيار النساء المعدودات،فعمّر فيهم وهم تحت يديه عمرا طويلا)(1).
واختلفت الرواة في نسبه،(فقالوا:هو رجل من لخم،وقالوا:من غيرها من قبائل اليمن،وقالوا:من العمالقة،وقالوا:من قبط مصر يقال له ظلما،وهو الذي كان من أمره مع موسى ما قد قصه الله جل وعز)(2).
فرعون موسى عليه السلام غير فرعون يوسف عليه السلام
__________
(1) تاريخ الطبري(1/232).وانظر: المقدسي:مطهر بن طاهر،(ت507هـ)،البدء والتاريخ،مكتبة الثقافة الدينية،القاهرة.(3/81)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(البدء والتاريخ)،وابن الأثير:محمد بن محمد بن عبد الواحد الشيباني،(ت630هـ)، الكامل في التاريخ ،10أجزاء،تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي،ط2،دار الكتب العلمية،بيروت،1415هـ – 1995م.(1/131)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الكامل في التاريخ)والمنتظم في التاريخ(7/241).
(2) اليعقوبي:أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر العباسي،تاريخ اليعقوبي،جزءان،دار صادر،بيروت.(1/186)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تاريخ اليعقوبي).وانظر:النّجوم الزاهرة(1/58).(1/20)
كان فرعون يوسف(هو الريّان بن الوليد،أحضر يوسف من السجن،واستخلصه لنفسه،وحمله وخلع عليه وضرب له بالطبل،وأشاع أن يوسف خليفة الملك،فقام له في الأمر كله)(1)،وقد(آمن بيوسف عليه السلام ومات في حياته،وقيل:كان هو فرعون موسى عاش أربعمائة سنة،بدليل قوله تعالى:’’ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‘‘(2)،والمشهور أنّه من أولاد فرعون يوسف(3)،والآية-’’ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات‘‘-من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء)(4).
فكيف يصح القول أنّ فرعون موسى عليه السلام هو فرعون يوسف عليه السلام؟مع أنّ فرعون يوسف عليه السلام مؤمن، وفرعون موسى عليه السلام كافر،ثمّ طول الفترة الزمنية بينهما تقطع بأنهما ليسا شخصا واحدا،فمن غير المعقول أن يعمِّر تلك المدة. ومن قال:إنّ فرعون موسى هو فرعون يوسف لأنّه عمّر،فليس في الآية(ما يدل على أنّه هو،لأنّه إذا أتى بالبينات نبي لمن معه ولمن بعده فقد جاءهم جميعا بها،وعليهم أن يصدقوه بها)(5).
طبيعة الألوهية والربوبية التي ادعاها فرعون
كان من الطبيعي أن نلقي بعض الضوء على هذه المسألة،ذلك أنّ ادعاء الألوهية أو الربوبية أمر لا يدّعيه البشر،لأنّنا من الأغيار،نشيب ونهرم،ونتعب وننشط،وننام ونستيقظ..وكلّ هذه أدلّة على كذب تلك الدعوى.ولمّا كان الأمر كذلك،فكيف ادعى فرعون ذلك لنفسه؟وما هي حقيقة تلك الدعوى؟
ومن أجل توضيح هذه المسألة كان لا بد من تَتَبُّعِ النصوص القرآنية ذات الصلة بالموضوع،والتي من خلالها نستطيع أن نقف على طبيعة الألوهية والربوبية التي ادعاها فرعون.يقول تعالى حكاية لقول فرعون:’’وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله
__________
(1) معجم البلدان(4/287).
(2) غافر:34].
(3) 23هنا لا بد من ملاحظة أنّ القرآن لم يستعمل كلمة’فرعون‘في قصة يوسف عليه السلام وإنّما استعمل كلمة’الملك‘.
(4) تفسيرالبيضاوي(3/280).وانظر معجم البلدان(5/140)وتاريخ الطبري(1/231).
(5) تفسير القرطبي(15/312-313).(1/21)
غيري(1)‘‘(2). أي:ما علمت لكم من إله غيري(فتعبدوه وتصدقوا قول موسى-فيما جاءكم به-من أنّ لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي)(3).
__________
(1) قصد بنفي علمه بإله غيره نفى وجوده أي:مالكم من إله غيري،أو هو على ظاهره،وإن إلها غيره غير معلوم عنده) النسفي:أبو البركات،عبد الله بن أحمد بن محمود، تفسير النسفي،4 أجزاء.(3/237)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير النسفي).وانظر الألوسي: أبو المعالي،محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين،(1273-1342هـ)،روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني،30جزءا، دار إحياء التراث العربي، بيروت.(20/80)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(روح المعاني).
(2) القصص:38].
(3) تفسير الطبري(20/77).وانظر:تفسير القرطبي(13/288).(1/22)
( والظاهر-من الآية- أنّ فرعون أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه،وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده،فانّ عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه،ولم يجزم بالعدم بأن يقول:ليس لكم إله غيري،مع أنّ كلا من هذا وما قاله كذب،لأنّ ظاهر قول موسى عليه السلام له:’’لقد علمتَ(1) ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر‘‘(2)،يقتضي أنّه كان عالما بأنّ هناك إلها غيره.
__________
(1) 29(قرأ الكسائى وحده:’لقد علمتُ‘،بضم التاء.وقرأ الباقون:’لقد علمتَ‘ بفتح التاء) التميمي :أبو بكر، أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي،(245- 324هـ)، كتاب السبعة في القراءات،جزء واحد،تحقيق: شوقي ضيف،ط2، دار المعارف، القاهرة، 1400هـ.(385-386)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(كتاب السبعة في القراءات).(وحجة الكسائي: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:’لقد علمتُ‘،قال:والله ما علم عدو الله،إنما علم موسى صلى الله عليه) ابن زنجلة: أبو زرعة،عبد الرحمن بن محمد. حجة القراءات،جزء واحد،تحقيق: سعيد الأفغاني،ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 – 1982.(411)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(حجة القراءات).( فالحجة لمن فتح أنه جعل التاء لفرعون دلالة على المخاطبة،والحجة لمن ضم أنه جعل التاء لموسى دلالة على إخبار المتكلم عن نفسه) ابن خالويه: أبو عبد الله ،الحسين بن أحمد.( 314- 370هـ)، الحجة في القراءات السبع،جزء واحد،تحقيق: عبد العال سالم مكرم ،ط4، دار الشروق، بيروت، 1401هـ.(221)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الحجة في القراءات السبع).
(2) الإسراء:102].(1/23)
وما تركه-أي الجزم بعدم وجود إله- أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه السلام اختيارا لدسيسة شيطانية،وهو إظهار أنّه منصف في الجملة،ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله،وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه،فكأنّه قال:ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى والأمر محتمل)(1)…
ثمّ بدا له الجزم و(كان قوله لموسى عليه السلام’’لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين‘‘(2)،بعد هذا القول المحكي ههنا-وهو قوله:’’ما علمت لكم من إله غيري‘‘- بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على البت أن لا إله لهم غيره،ثمّ هدّد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر بخلافه،وهذا وجه في الآية لا يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء)(3).
(ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية-زعما منه-أنّ فيه الاعتراف بأصل الوجود،وذكروا أنّ ادعاءه الألوهية وقوله:أنا ربكم الأعلى إنّما كان إرهابا لقومه الذين استخفهم،ولم يكن ذلك عن اعتقاد.وكيف يعتقد أنّه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنّه وجد بعد أن لم يكن،ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه،ولم يكن له إلا ملك مصر،ولذا قال شعيب لموسى-عليهما السلام-لما جاءه في مدين:لاتخف نجوت من القوم الظالمين.
__________
(1) روح المعاني(20/80).
(2) الشعراء:29].
(3) روح المعاني(20/80).(1/24)
وقال بعضهم:إنّه كان جاهلا بالله تعالى،ومع ذلك لايعتقد في نفسه أنّه خالق السموات والأرض وما فيهما،بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه،معتقدا وجوب الوجود بالذات للأفلاك،وأنّ حركاتها أسباب لحصول الحوادث،ويعتقد أنّ من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعة استحق العبادة من أهله،وكان ربّا لهم،ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمّهما حيث قال:’’ما علمت لكم من اله غيري‘‘(1)،و’’أنا ربكم الأعلى‘‘)(2). (فما أثبته في قوله:’’لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘(3)،الإله لغير مملكته، وما نفاه هو أن يكون هناك إله غيره في مملكته،كما يشير اليه قوله: ( لكم)،ولا يخلو عن بحث )(4).
وربما كان من القائلين(بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقدا حلوله عز وجل فيه،ولذلك سمى نفسه إلها.وقيل: كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره،وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل)(5)،كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى:’’وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك‘‘(6).حيث دلّت الآية أنّ لفرعون آلهة كان يعبدها وربما كان يتخذها وسيلة في إضفاء القدسية على شخصه،أو ربما اعتبر نفسه وسيطا بينها وبين النّاس،بمعنى أنّ هناك علاقة معينة بناها فرعون بينه وبين هذه الآلهة لتخدم الوضع القائم الذي يريده فرعون.
وروي أنّه( كان أولا يدعو النّاس إلى عبادة الأصنام ثم دعاهم إلى عبادة البقر فكانت تعبد ما كانت شابة فإذا هرمت أمر بذبحها ثم دعا بأخرى لتعبد ثم لما طال الزمان قال:’’أنا ربكم الأعلى‘‘)(7)
__________
(1) القصص:38].
(2) روح المعاني(19/73).
(3) القصص:38].
(4) تفسير ابن كثير(3/391)،وانظر: روح المعاني(20/80-81)وتفسير البيضاوي(4/236).
(5) روح المعاني(19/74).
(6) الأعراف:127].
(7) تفسير القرطبي(15/317).(1/25)
وكما أنّه ادعى الألوهية كذلك ادعى الربوبية،’’فقال أنا ربكم الأعلى‘‘(1)،أي لارب لكم فوقي، وكل رب دوني وكذب الأحمق …وقيل:كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها،فقال أنا رب أصنامكم.وقيل:أراد القادة والسادة هو ربهم،وأولئك هم أرباب السفلة(2).
(والذي يغلب على الظنّ ويقتضيه أكثر الظواهر أنّ اللعين كان يعرف الله عز وجل،وأنّه-سبحانه-هو خالق العالم،إلاّ أنّه غلبت عليه شقوته،وغرتّه دولته،فأظهر لقومه خلاف علمه،فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله.ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديهيات… وأمّا من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوفه من فرعون،أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا)(3).
__________
(1) النّازعات:24].
(2) انظر: تفسير القرطبي(19/202)وتفسير الطبري(30/40)والبغوي: أبو محمد،الحسين بن مسعود الفراء،(ت 516)، معالم التنزيل،4أجزاء،تحقيق: خالد العك - مروان سوار،ط2، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ – 1987م.(4/444)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير البغوي)،وابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(508 –597هـ)، زاد المسير في علم التفسير،9أجزاء،ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ.(9/21)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(زاد المسير).
(3) روح المعاني(19/74)مع بعض التصرف.(1/26)
(إنّ فرعون لم يكن يدّعي الألوهية بمعني أنّه هو خالق هذا الكون ومدبره ، أو أنّ له سلطانا في عالم الأسباب الكونية.إنّما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل ! بمعنى أنّه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقوانينه،وأنّه بإرادته وأمره تمضي الشؤون وتقضى الأمور.وهذا ما يدّعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقوانينه،وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره –وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي- كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له – فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك،كما هو ظاهر من قول الملأ له :’’ويذرك وآلهتك‘‘،وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية.إنّما كانوا يعبدونهم بمعنى أنهم خاضعون لما يريدوه بهم،لا يعصون له أمرا،ولا ينقضون له شرعا..وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة ، فأيّما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه)(1)،وذلك هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود والنّصاري:’’اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‘‘(2)،– عندما سمعها منه عدي بن حاتم – وكان نصرانيا جاء ليسلم – فقال : يا رسول الله ما عبدوهم.فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :’’أمّا إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنّهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرّموا عليهم شيئا حرموه‘‘(3)
__________
(1) في ظلال القرآن(3/306).
(2) التوبة:31].
(3) الترمذي:أبو عيسى،محمد بن عيسى السلمي،(209-279هـ)، الجامع الصحيح(سنن الترمذي)،5أجزاء،تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت.كتاب التفسير،باب ومن سورة التوبة(5/278/22963).قال أبو عيسى:حديث غريب،وسأشير إليه لاحقا هكذا(سنن الترمذي)،والطبراني:أبو القاسم،سليمان بن أحمد بن أيوب،(260- 360هـ)،المعجم الكبير،20جزءا،تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي،ط2،مكتبة العلوم والحكم،الموصل،1404 – 1983م.(17/92/218)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(المعجم الكبير)،والبخاري: أبو عبدالله، محمد بن إسماعيل الجعفي،(194- 256هـ)، التاريخ الكبير،8أجزاء،تحقيق: هاشم الندوي،دار الفكر.كتاب الغين،باب غطيف(7/106/471)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(التاريخ الكبير).(1/27)
.فدلّ الحديث على أنّ من أطاع بشرا في التحليل والتحريم فقد عبده من دون الله.
الفصل الأول:صفات شخصية فرعون
المبحث الأول:الاستكبار
المبحث الثاني:العلو
المبحث الثالث:الطغيان
المبحث الرابع:الظلم
المبحث الخامس:الإفساد
المبحث السادس:الإستبداد
المبحث السابع:الوهم والغرور
المبحث الثامن:الإسراف
المبحث التاسع:المكر
الفصل الأول
صفات شخصية فرعون
أحاول في هذا الفصل أن أتتبع نصوص الكتاب العزيز لأصل إلى فهم دقيق لهذه الشخصية التي طالما تحدث عنها القرآن،وذلك بإبراز صفاتها،سواء كانت تلك الصفات منصوص عليها بالعبارة الواضحة في كتاب الله-كالإستكبار مثلا-أو غير منصوص عليها كالوهم والغرور،ولكنّها تفهم من خلال حديث القرآن عن تلك الشخصية،من حيث سلوكها ومنهجها وتصورها والأساس الذي بنيت عليه،حيث أنّ بالإمكان بعد تدقيق النظر أن نتوصل إلى فهم أوسع لتلك الشخصية التي نثر القرآن الحديث عنها في مواضع عديدة لإسباب معلومة في بيان القرآن وطريقة تعبيره،مع ما يتبع ذلك من تحليل وربط بين تلك الصفات المجتمعة في نموذج تلك الشخصية المتمثل في شخص واحد هو فرعون.
يعتبر هذا الفصل بمثابة تشخيص للمرض المتمثّل بوجود هذه الشخصية،ممّا يساعدنا على التفريق بين المرض وأعراضه،وهو ما يختلط كثيرا في أذهان العاملين في سبيل التخلص من الطواغيت،فينشغلون بمعالجة الأعراض ويبقى المرض مستترا عليهم ينخر في جسم الأمّة،ومن هنا كان تشخيص المرض أولا ثمّ البحث عن أسبابه وطرق علاجه.
لقد وصف القرآن الكريم تلك الشخصية بالعديد من الصفات أهمها الاستكبار والعلو والطغيان والظلم والإفساد والاستبداد والوهم والغرور والإسراف والمكر،وإليك بيان ذلك فيما يلي من المباحث.
المبحث الأول(1/28)
الاستكبار(1).
(الاستكبار: الامتناع عن قبول الحق معاندة وتكبرا)(2)،وليس الإمتناع جهلا أو لقلة علم أو معرفة أو لاشتباه الأمر عليه،بل هو الإمتناع مع العلم أنّ ما رفضه وأنكره هو الحق الساطع المبين،وذلك هو ما تميّزت به شخصية فرعون؛الامتناع عن قبول الحق عن بيّنة وعلم،فلا شبهة ولا غبش ولا غشاوة.ولقد علم-لعنه الله-لو كان العلم يجدي-الحقّ وتنكّب عن سبيله،بل وحاربه بلا هوادة.
__________
(1) الكبر بالكسر و الكبرياء العظمة والتجبر… و التكبر و الاستكبار التعظم)لسان العرب،مادة:كبر(5/129).وانظر:مختار الصحاح،مادة:كبر(1/234). أمّا الكبر(فهو صفة في النفس،وما في الظاهر من إماراتها:وهو أن يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال،فيحصل في قلبه اغترار وهزة وفرح وركون إلى رؤية نفسه.والتكبر إما على الله تعالى والعياذ بالله من ذلك،كتكبر فرعون ونمرود،وإما على الرسل والانبياء بأن لا يطيعهم،كتكبر أبي جهل وأبي بن خلف،وأما على الخلق وهذا وإن كان دون الاولين إلا أنه داء عظيم،ولهذا ذمه الله تعالى ورسوله،والكتاب والسنة مشحونان بذمه ومدح التواضع) القنوجي:صديق بن حسن،(1248- 1307هـ)،أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم،3أجزاء،تحقيق: عبد الجبار زكار،دار الكتب العلمية،بيروت،1978م.(2/88)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(أبجد العلوم).وانظر: ابن حجر:أبو الفضل، أحمد بن علي العسقلاني.(773-852هـ)،فتح الباري شرح صحيح البخاري،13جزء،تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي ومحب الدين الخطيب،دار المعرفة،بيروت،1379هـ.(10/489)مع بعض التصرف،وسأشير إليه لاحقا هكذا(فتح الباري).
(2) لسان العرب،مادة:كبر(5/126).(1/29)
و(أصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق،لابمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله،بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك.وإنما عبّر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأنّ مآله محض الطلب بدون حصول المطلوب)(1)؛ أي يحسبون أنفسهم كبارا فيظلمون الناس،ويغصبون حقوقهم لمجرد أنّهم أوتوا قدرا من القوة.
وبسبب هذه النّظرة الإستكبارية التي ميزت فرعون ومن حوله فإنهم( رأوا كل من سواهم حقيرا بالإضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء إلاّ لأنفسهم،فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد في الأرض)(2)؛ذلك أنّ الاستكبار هو(الأنفة مما ينبغي أن لا يؤنف منه)(3)،ممّا أسس لنظام الطبقات في ظلّ شخصية فرعون؛بمعنى أنّ الإستكبار سبب في ظهور الطبقية في المجتمع،كما أنّه إذا استحكم في النّفس يحجب صاحبه عن الحقيقة،وبهذا نفسر وقوع فرعون بالعديد من الأخطاء في مواجهته لموسى.
لقد قرر القرآن حقيقة استكبار فرعون،ونص على استكباره بالعبارة الواضحة الجلية ،فقال سبحانه وتعالى:’’واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق‘‘(4).وقال سبحانه:’’ثمّ بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘(5).
__________
(1) روح المعاني(6/41).
(2) روح المعاني(20/82).
(3) النّووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري،(631- 676هـ)،تحرير ألفاظ التنبيه (لغة الفقه)،جزء واحد،تحقيق:عبد الغني الدقر،ط1،دار القلم،دمشق،1408هـ.(1/334)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(التنبيه).
(4) القصص:39].
(5) يونس:79].(1/30)
والاستكبار لا يكون إلاّ بغير حق؛ذلك أنّه لم يكن عند فرعون حجة يدفع بها ما جاء به موسى،ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات (1)،فهو محض امتناع عن قبول الحق تكبرا مع وضوح الحجة وقيام البرهان،وهو ما صبغ شخصية فرعون. ممّا يؤكد حقيقة مفادها أنّ الإستكبار علامة يقينية على إفلاس المستكبر في الحجة والبرهان،ويترتب على هذا أنّ مواجهة الطاغوت لا تكفيها إقامة الحجة والدليل وحسب،لأنّه قد قام الدليل وسطع البرهان.يقول تعالى:’’ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكنّ أكثرهم يجهلون‘‘(2)،فلو نزّل الله إليهم الملائكة حتى يروها عيانا،وكلمهم الموتى وأخبروهم أنك محق فيما تقول،وأن ما جئتهم به حق من عند الله.ولو حشر الله عليهم كل شيء قبلا ما آمنوا ولا صدقوا ولا اتبعوا،إلاّ أن يشاء الله،ولكنّ أكثرهم يجهلون هذه الحقيقة،ويحسبون أنّ الإيمان إليهم والكفر بأيديهم متى شاءوا آمنوا ومتى شاءوا كفروا(3).
__________
(1) انظر: الشوكاني:محمد بن علي بن محمد،(1173- 1250هـ)، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير،5أجزاء، دار الفكر، بيروت.(4/174)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(فتح القدير)،وتفسير القرطبي(13/289)وتفسير الطبري(20/78)وأبو السعود:محمد بن محمد العمادي،(ت951)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم،9أجزاء، دار إحياء التراث العربي، بيروت.(7/14)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير ابي السعود)،وزاد المسير(6/223)وتفسير النسفي(3/238).
(2) الأنعام:111].
(3) انظر:تفسير الطبري(8/1).(1/31)
والاستكبار جهل،إذ لو أدرك المستكبر حقيقة نفسه لما اقتحم ما ليس له بحق،وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:’’وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين‘‘(1).والشاهد في الآية قوله تعالى:’’في الأرض‘‘،فهو( إشارة إلى قلة عقولهم،لأنّ من في الأرض لا ينبغي له أن يستكبر)(2)،ولو كان عند فرعون أدنى ذرة من عقل لما استكبر،وهكذا كل من نهج طريقه وسلك سبيله فإنه لا عقل عنده وإن ادعى ذلك،لأنّ أدنى تدبر لمعاني الحياة وما فيها من عبر تجعل الإنسان يدرك أنّ التكبر والإستكبار رذيلة لا ينبغي أن تكون،ولكنّها الغفلة عن الحقائق التي تنتج عن قلوب لا تعقل وآذان لا تسمع وأعين لا تُبصر.
لقد كان فرعون أول الممتنعين عن قبول الحق،وأول الداعين إلى رفضه وعدم قبوله ترفعا وتكبرا وتعظّما عن الإيمان بالله وعبادته،وكان من الآثمين الخاطئين(3)،يقول تعالى:’’ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين،فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون،فكذبوهما فكانوا من المهلكين‘‘(4).
ولقد تضمنت هذه الآيات الإشارة إلى كبر فرعون وملئه بشقيه:
الأول:الإمتناع عن قبول الحق بعد الآيات والسلطان المبين كراهية منهم للحق،لأنّه يخالف شهواتهم وأهواءهم ومصالحهم(5)،يقول تعالى:’’بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون‘‘(6)؛فهو ينسف قيمهم الباطلة التي عليها يقتاتون وبها يعيشون،لأنّ الحق لا يدور مع الهوى،وسيأتي بيان هذه النقطة لاحقا.
__________
(1) العنكبوت:39]
(2) روح المعاني(20/158).
(3) انظر:تفسير الطبري(11/145)وتفسير البغوي(3/310)وزاد المسير(5/475)وتفسير النسفي(3/123).
(4) المؤمنون:45-48].
(5) انظر:تفسير البيضاوي(4/162).
(6) المؤمنون:70].(1/32)
الثاني:احتقار الناس،وهذا جليّ من قولهم:’’وقومهما لنا عابدون‘‘(مسخرون خاضعون.وهي أدعى-في إعتبار فرعون وملئه-إلى الاستهانة بموسى وهارون!فأمّا آيات الله التي معهما،وسلطانه الذي بأيديهما،فكل هذا لا إيقاع له في تلك القلوب المطموسة)(1)،والسبب في تلك الانتكاسة نابع من إعجاب المستكبر بنفسه،فيرى نفسه أكبر من غيره،وتلك هي العلة الكامنة من وراء قول الملأ من قريش:’’لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‘‘(2)،ويقصدون بذلك سادة القبائل في مكة والطائف،ممّن لهم الجاه والسلطان.
إنّ الكبر(3)داء خطير أفرز شخصية تسلطية رافضة للحق والحقيقة،لذلك توجه موسى عليه السلام إلى ربه ملتجئا ومستعيذا به جلّ شأنه(من كل متكبر عليه،تكبر عن توحيده والإقرار بألوهيته وطاعته)(4).’’وقال موسى اني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب‘‘(5).أي من كل(متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث والنشور،ويدخل فرعون في هذا العموم دخولا أوليا) (6).وقال: من كل متكبر(لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة،وليكون على طريقة التعريض فيكون أبلغ،وأراد بالتكبر الاستكبار عن الاذعان للحق،وهو أقبح استكبار وأدلّ على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه)(7).
__________
(1) في ظلال القرآن(6/31).
(2) الزخرف:31].
(3) ومن الكبر الخيلاء،حيث ورد في الحديث،أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:’’بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة‘‘صحيح البخاري،كتاب الأنبياء،باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم،(3/1285)رقم(3297).إذا كان هذا في جرّ إزار فكيف بمن ادعىأنّه رب يعبد؟!
(4) تفسير الطبري(24/57).
(5) غافر:27].
(6) فتح القدير(4/488)،وانظر:زاد المسير(7/216).
(7) تفسير النسفي(4/72)،وانظر:روح المعاني(24/63).(1/33)
ودلّ هذا على ثقل العبء الذي ألقي على كاهل موسى عليه السلام في مواجهته لشخصية مستكبرة متكبرة،حتى دعته طبيعة المواجهة إلى هذه الإستعاذة الواضحة’’من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب‘‘(1)،إذ لو كان يؤمن بيوم يُحاسب النّاس فيه،ويُحشرون حفاة عراة لما سولت له نفسه فعل ما لا ينبغي له فعله.
امتناع فرعون عن قبول الحق رغم قيام الحجة والبرهان دليل على استكباره
فكما أنّ القرآن الكريم نص على استكبار فرعون فإنّه-أيضا-أظهر هذه الحقيقة بإسلوب آخر،وهو امتناع فرعون عن قبول الحق بعد قيام الحجة والدليل ،أي بعد إدراكه وعلمه بصدق موسى عليه السلام،وذلك بالآيات العديدة التي أوتي موسى عليه السلام والتي لا تدع مجالا للشك والريبة بل هي آيات تثمر العلم واليقين.ولكن وبعد كلّ هذه الآيات امتنع فرعون عن قبول الحق،وكفى بهذا دليل على استكباره.يقول تعالى:’’ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ان أخرج قومك من الظلمات الى النور‘‘(2).ويقول تعالى:’’ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب‘‘(3)،وعليه لم تكن عثرة فرعون في قصور الحجة والبرهان،’’فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‘‘(4)،وإنّما مرض الكبر قد استقر في قلبه الآثم،فأورثه العمى والتيه،وذلك أنّ فرعون جاءته البينات والبراهين والحجج فأعرض استكبارا لا جهلا،ولا ريب أنّ( أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تَبَيُّنِها ويَتَعَظَّمُوا عن قبولها)(5)كما هو حال فرعون،حيث سوّلت له نفسه المستكبرة عن الحق أن
__________
(1) غافر:27].
(2) ابراهيم:5].
(3) غافر:24].
(4) الحج:46].
(5) تفسير النسفي(2/137)وانظر: الزمخشري:أبو القاسم،محمود بن عمر بن محمد،(467-538هـ)الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،4أجزاء،تحقيق:محمد عبد السلام شاهين،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،1415هـ،1995م.(2/348)وسأشير إليه لاحقا هكذا(الكشاف).(1/34)
يتهاون في عظيم الأمور.
إنّ هذا الإستكبار بعد الآيات والبراهين مع ما يصاحبه من اتهامات باطلة لتشويش صوت الحق ليس مقصورا على فرعون ومن تابعه بل هو ديدن المستكبرين،يقول تعالى:’’كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‘‘(1).(فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين؛وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون،كأنّما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون،وما تواصوا بشيء،وإنّما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين)(2).
فرعون يُفرط في استكباره رغم كثرة الآيات
إنّه لمن العجب أن يزداد الداء مع نجاعة الدواء،’’ونخوفهم فما يزيدهم إلاّ طغيانا كبيرا‘‘(3)،فها هو نوح يرفع أكفّ الضراعة إلى ربه قائلا:’’ربّ إنّي دعوت قومي ليلا ونهارا،فلم يزدهم دعائي إلاّ فرارا‘‘(4)،فمع الإستمرار بالدعوة يزداد القوم إصرارا على كفرهم.
__________
(1) الذاريات:53].
(2) في ظلال القرآن(7/589)مع بعض التصرف.
(3) الإسراء:60].
(4) نوح:5-6].(1/35)
وهكذا كان حال موسى عليه السلام،أُوتي العديد من المعجزات،ومع هذا واجه استكبارا قلّ مثيله،ممّا أدخله في دائرة أولي العزم من الرسل.يقول تعالى:’’ولقد آتينا موسى تسع آيات بيِّنات‘‘(1)،وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم،ومن عدّ اليد والعصا آية جعل الطمسة(2)آية سابعة،ومنهم من جعل السنين ونقص الثمرات واحدة وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون… فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة ههنا وهي المعينة في قوله تعالى:’’وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جانّ ولّى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف‘‘(3)،إلى قوله’’في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين‘‘(4).فذكر هاتين الآيتين العصا واليد،وبيّن الآيات الباقيات في سورة الأعراف،وفصلها في قوله تعالى:’’فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘(5).
وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخرى كثيرة؛منها ضربه الحجر بالعصا وخروج الماء منه،ومنها تظليل بني إسرائيل بالغمام وإنزال المنّ والسلوى…ولكن ذكر ههنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر،فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا (6)،(ولا يعد الفلق-أي فلق البحر- لأنّه لم يبعث به إلى فرعون)(7).
__________
(1) الإسراء:101].
(2) طمس الشيء: ذهابه عن صورته. و الطمس آخر الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام،حين طمس على مال فرعون بدعوته فصارت حجارة)لسان العرب،مادة:طمس(6/126)،وانظر:مختار الصحاح،مادة:طمس(1/167).
(3) النمل:10].
(4) النمل:12].
(5) الأعراف:133].
(6) انظر:تفسير ابن كثير(3/67-68)وتفسير البيضاوي(4/260).
(7) تفسير البيضاوي(4/260).(1/36)
والشاهد على إفراط فرعون في استكباره أنّ هذه الآيات لم تكن جملة واحدة بل على فترات زمنية،فإنّ توالي المعجزات مرّة بعد مرّة أبلغ في الإعجاز من نزولها مرّة واحدة؛فآيتي العصا واليد كانت في أول مواجهة مع فرعون أي وقت تبليغ الرسالة،ثّم تلتها معجزة الإنتصار على السحرة،وبعدها كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.يقول تعالى:’’فأراه الآية الكبرى‘‘(1). أي:فأراه المعجزة الكبرى،حيث أظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ودليلا واضحا على صدق ماجاء به من عند الله،وهي قلب العصا حية فإنّه كان المقدّم والأصل،ولكنّ فرعون كذَّب موسى عليه السلام وعصى الله عز وجل بعد ظهور الآية وتحقق الأمر.وهذا يعني أنّ عِلْمَ فرعون للحق الذي جاء به موسى لا يلزم منه أنّه مؤمن به،لأنّ المعرفة علم القلب والإيمان عمله وهو الانقياد للحق والخضوع له (2)،وبهذا يزول الإشكال عند من يجول بخاطره:كيف يمتنع فرعون عن الإيمان بعد علمه وتحققه من الأمر؟!وهو نفس السؤال الذي يُراود بعض الدعاة إلى الله حينما يُواجهون نوعيات من البشر مشابهة لشخصية فرعون،فيتعجبون من عدم إيمانهم مع حصول العلم لديهم،وما ذلك إلاّ بسبب استكبارهم أي امتناعهم عن الانصياع لأمر الله مع قيام الدليل وظهور الحجة.
__________
(1) النّازعات:20].
(2) انظر:تفسير البيضاوي(5/447)وتفسير ابن كثير(4/469)وتفسير الطبري(30/39)وفتح القدير(5/376)وزاد المسير(9/21)والكشاف(2/670) .(1/37)
إنّ علم فرعون بمن أنزل المعجزات والآيات-كما نص القرآن على ذلك-ثمّ هو يستكبر ويصرّ على الكفر إصرارا دليل بيّن على إفراطه في الإستكبار.يقول تعالى –حكاية لقول موسى عليه السلام لفرعون:’’قال لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر‘‘(1). يعني(الآيات التسع و’’أنزل‘‘بمعنى أوجد’’إلا رب السموات والأرض بصائر‘‘أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته، وإنما أضاف موسى إلى فرعون العلمَ بهذه المعجزات لأنّ فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله،وأنّ مثل ما فعل لايتهيأ لساحر،وأنّه لايقدر على فعله إلا من يفعل الأجسام ويملك السموات والأرض )(2)،فهي بصائر ودلالات يُستدل بها على الفاعل المختار،’’وربك يخلق ما يشاء ويختار‘‘(3).
لقد مثّل فرعون أعتى حالات الاستكبار التي يُمكن لنا أن نتصورها،وذلك هو ما نفهمه من قوله تعالى:’’ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى‘‘(4)،أي حجج الله الدالة على توحيده،وهو لم ير كل آيات الله لأنّها لا تحصى،والمعنى أنّ ما رآه من الآيات يساوي في قيام الحجة رؤية الآيات كلّها،ولكنّه كذب وقال هذا سحر،وأبى أن يقبل الحق استكبارا وعتوا،وهذا يدل على أنّه كفر عنادا لأنّه رأى الآيات عيانا لا خبرا (5).
رفضه معجزة الإنتصار العظيم على السحرة دلالة أخرى على استكبار فرعون
__________
(1) الإسراء:102].
(2) تفسير القرطبي(10/336-337).
(3) القصص:68].
(4) طه:56].
(5) انظر: تفسير الطبري(16/175)وتفسير ابن كثير(3/157)وفتح القدير(3/370)وزاد المسير(5/294)وتفسير القرطبي(11/211).(1/38)
وإنّما أفردناها تحت عنوان خاص بها لعظيم وقعها في نفس من شاهدها،وذلك بسبب الظروف والملابسات التي أحاطت بها،ممّا جعلها من أعظم الأدلّة الساطعة على نبوة موسى عليه السلام،وهي-في المقابل-من الأدلة الدّامغة على استكبار فرعون،لأنّ كلّ معجزة يجريها الله سبحانه على يد موسى عليه السلام يقابلها فرعون بالرفض والامتناع تكون دليلا آخر على استكباره.
لقد بالغ فرعون-لعنه الله-في بذل كلّ جهد مستطاع لكسب تلك المباراة،وحشد كلّ ما لديه من القدرات والإمكانيّات،ونادى في النّاس للإجتماع والحضور في مكان وزمان مناسبين لرؤية الأحداث بوضوح،وكان مع هذا الجهد من رأس النّظام حرصُ السحرة على الفوز والغلبة لأسباب كثيرة.كلّ هذا وغيره جعلت من تلك المباراة معجزة عظيمة ودليلا على (مكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة،ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة النّاس كلهم،وغلب كل الغلب،شرع في المكابرة والبهت وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم)(1).
ولنا أن نتابع بعض اللقطات من تلك المباراة الكبيرة لنعلم عظم وقعها على نفس من شاهدها؛ذلك أنّ فرعون لم يدَّخر وسعا للتحضير لها،فبعث في المدائن حاشرين ليأتوه بكل ساحر عليم.وجاءت تلك الجموع من السحرة مُلَبِّيَة لنداء فرعون ناظرة إلى اغتنام تلك الفرصة لتحقيق الأمنيات عند السلطان.ولهذا قال بعضهم لبعض’’وقد أفلح اليوم من استعلى‘‘(2).أي(قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره)(3)،وفي قولهم هذا دليل على أهمية تلك المباراة بالنسبة إليهم.فاجتمع عند السحرة القدرة الفائقة على السحر والرغبة الجامحة والحرص المبالغ فيه على الفوز.
__________
(1) تفسير ابن كثير(3/159).
(2) طه:64].
(3) تفسير الطبري(16/184).(1/39)
ولفرط ثقتهم بأنفسهم وإظهارا لعدم اكتراثهم خيّروا موسى عليه السلام فقالوا:’’يا موسى إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون أول من ألقى‘‘(1)،فقال لهم موسى عليه السلام: (ألقوا أنتم أولا؛ليرى الناس صنيعهم ويتأملوه،فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلب له والإنتظار منهم لمجيئته،فيكون أوقع في النفوس وكذا كان)(2)،ولهذا قال تعالى:’’فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم‘‘(3)،وفي هذا بيان للقدرة التي تمتع بها السحرة،بل وصل الأمر إلى أن أوجس في نفسه خيفة موسى(من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية)(4).
إنّ فرعون والملأ والجماهير أصبحوا على يقين بالنّصر والظفر،فهم يترقبون لحظة الاستسلام من موسى،فماذا باستطاعته أن يفعل وقد امتلئت الأرض بالسحر العظيم؟ثمّ ما هي إلاّ لحظات حتى بدا لهم من موسى ما لم يكونوا يحتسبون،’’فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون‘‘(5).ثمّ تتلوها مفاجأة أخرى تهزُّ عرش فرعون حين أعلن السحرة إيمانهم،يقول تعالى:’’فأُلقي السحرة ساجدين،قالوا آمنّا برب العالمين،رب موسى وهارون‘‘(6)؛ذلك لأنّهم أعلم النّاس بصنعة السحر،فأيقنوا أنّ ما جاء به موسى هو الحق ممّا جعلهم ملقين على وجوههم تنبيهاً على أنَّ الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك،فكأنّهم أُخذوا فطرحوا على وجوههم،وكأنّ مُلقيا ألقاهم لعلمهم بأنّ مثل ذلك خارج عن حدود السحر،وأنّه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه الصلاة والسلام لتصديقه،وذلك حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه(7).
__________
(1) طه:65].
(2) تفسير ابن كثير (2/238)مع بعض التصرف.
(3) الأعراف:116].
(4) تفسير البيضاوي(4/59)وانظر:تفسير ابي السعود(6/27).
(5) الشعراء:45].
(6) الشعراء:48].
(7) انظر:تفسير ابي السعود(6/243)وتفسير البيضاوي(3/48).(1/40)
إنّ من له أدنى نظر وعقل ليقف مشدوها أمام هذه المعجزة الباهرة،وسيكون أكثر اندهاشا حين يرى فرعون-وقد أخذته العزة بالإثم-يزداد عتوا وفجورا،وهو يُقدم على فعلة نكراء بشعة بقتله للسحرة وصلبهم،وتلك هي الحالة التي يُرشد إليها قوله تعالى:’’ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذّكّروا وما يزيدهم إلا نفورا‘‘(1)،أي(تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار)(2)،وهكذا كان فرعون يزداد استكبارا مع توالي الآيات والبراهين والمعجزات،فهناك نوع من النّاس-ما زلنا نشاهدهم-يزدادون ترفعا عن الحق كلما سطع،بل ويزداد حقدهم على الذين آمنوا كلما استطاعوا أن يُقدِّموا للنّاس براهينهم وحججهم،فما أن يسمع بحجة دامغة إلاّ وسعى بجهد جديد كي يدحضها بدلا من أن يُعيد النّظر بما يحمله من الباطل!
__________
(1) الإسراء:41].
(2) تفسير القرطبي(10/265)وانظر:تفسير ابن كثير(3/42).(1/41)
ولنا أن نقرر أنّ الإمتناع عن قبول الحق بعد حصول العلم تعبير ظاهري عن مرض الكبر المدفون في النّفس،والذي هو رؤية النفس أنّها فوق غيرها(1)،فكيف يأخذ المُصاب بذلك المرض الحقَّ ممّن يراه دونه؟ومن هنا كانت عقوبته شديدة هائلة يقول صلى الله عليه وسلم:’’لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.قال رجل:إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة.قال:إنّ الله جميل يحب الجمال.الكبر بطر الحق وغمط الناس‘‘(2)،أي احتقارهم وازدراؤهم،وبطر الحق دفعه وانكاره ترفعا وتجبرا(3).
المبحث الثاني
العلوّ
__________
(1) العجب مجرد استعظام الشيء فإن صحبه من يرى أنه فوقه كان تكبرا) الصنعاني:محمد بن إسماعيل الأمير،(773-852هـ)،سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام،4أجزاء،تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي،ط4،دار إحياء التراث العربي،بيروت،1379هـ.(4/201).
(2) مسلم: أبو الحسين، بن الحجاج القشيري النيسابوري.( 206- 261هـ) صحيح مسلم،5أجزاء،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.كتاب الإيمان،باب تحريم الكبر،(1/93)رقم(91)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(صحيح مسلم).
(3) النّووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري،(631- 676هـ)،صحيح مسلم بشرح النووي،18جزء،ط2،دار إحياء التراث العربي،بيروت،1392هـ.(2/90)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(شرح النووي على صحيح مسلم).(1/42)
العلوّ(العظمة والتجبر،يقال:علا فلان في الأرض إذا استكبر وطغى. وقوله تعالى:’’ولتعلنّ علوّا كبيرا‘‘(1)،معناه لتبغنّ ولتتعظمنّ. ويقال لكل متجبر قد علا وتعظم)(2)،(وعلا في الأرض تكبر فيها)(3).فالعلوّ يفارق الاستكبار في أنّه شعور بالعظمة والقوة والمَنَعَة،ممّا يؤدي إلى التّرفع والنّظرة الفوقية،وذلك لوجود الإمكانيّات والقدرات،حيث تهيأت لفرعون أسباب القوة والمنعة،وأوتي من كلّ شيء سببا،استدراجا منه جلّ شأنه لفرعون ولأمثاله من الطواغيت،’’حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون‘‘(4)،بينما يكون الاستكبار بالإمتناع عن قبول الحق للمحافظة على تلك الإمتيازات والإمكانات التي توفرها طريقة الحياة والمنهج المتبع،وبهذه النظرة يكون الإستكبار وسيلة بينما يكون العلوّ نتيجة.
والعلوّ من خصائص شخصية فرعون،يقول تعالى:’’وإنّ فرعون لعال في الأرض وإنّه لمن المسرفين‘‘(5)،ويقول تعالى:’’إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين‘‘(6)،ويقول تعالى:’’إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم‘‘(7)،ويقول تعالى:’’ولقد نجيّنا بني إسرائيل من العذاب المهين،من فرعون إنَّه كان عاليا من المسرفين‘‘(8).
__________
(1) الإسراء:4].
(2) لسان العرب،مادة:علا(15/85).وانظر: الفراهيدي:أبو عبد الرحمن،الخليل بن أحمد،(100-175هـ)،كتاب العين،5أجزاء،تحقيق: مهدي المخزومي،وإبراهيم السامرائي،دار ومكتبة الهلال.مادة:علو(2/245)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(كتاب العين).
(3) مختار الصحاح،مادة:علا(190).
(4) الأنعام:44].
(5) يونس:83].
(6) المؤمنون:46].
(7) القصص:4].
(8) الدّخان:30-31].(1/43)
وأنت تلحظ هنا أنّ هذه الكلمة اقترنت مع فرعون في مواطن عدة،لذلك كان لا بدّ من أن يكون لها دلالة.وإذا ما تأملنا تلك النّصوص نجد أنّ فرعون في شخصيتة المتعالية يرى في نفسه أنّه فوق مستوى البشر،ومن هذه النّظرة الفوقية المنحرفة بغى فرعون وطغى وظلم واعتدى وتعظم وتكبر وتجبر في الأرض،وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان،وافتخر بنفسه ونسي العبودية في الأرض،وادعى الربوبية لنفسه، وصار غالبا قاهرا متطاولا على الله،مترفعا عن عبادته،عاليا على من تحت يده في الأرض (1)،قائلا بلسان الحال والمقال:من أشدّ منّي قوة!
ويبرز الاستعلاء بأبشع صِوَرِهِ في حياة فرعون حين حشر’’فنادى فقال أنا ربكم الأعلى‘‘(2)،وهذه أشدُّ حالات الإستعلاء البشري حيث أدت إلى استضعاف الآخرين واستخفافهم وإذلالهم للتمكن منهم.وإلى هذه الحالة المَرَضية تعود طائفة كبيرة من المصائب والمحن والابتلاءات التي يعاني منها البشر قديما وحديثا.
__________
(1) انظر:تفسير القرطبي(8/370، 13/248)وتفسير النسفي(2/138،3/138،226)وتفسير أبي السعود(4/171،7/2)والسيوطي:أبو الفضل،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال(849-911هـ)،وجلال الدين محمد بن أحمد،تفسير الجلالين،ط1، دار الحديث، القاهرة.(1/279) .وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير الجلالين)،والواحدي:أبو الحسن،علي بن أحمد،(ت468)، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز،جزءان،تجقيق: صفوان عدنان داوودي ،ط1، دار القلم،الدار الشامية،دمشق،بيروت،1415هـ.(1/506) .وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير الواحدي)،وابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(508 –597هـ)،تذكرة الأريب في تفسير الغريب،جزء واحد،المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ.(240)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تذكرة الأريب في تفسير الغريب).
(2) النّازعات:24].(1/44)
إنّ تطاول الزمن على فرعون وهو يملك الثروة والمال والجاه والسلطان والقوة البدنية والعسكرية… أدخل في نفسه العلوّ،يقول تعالى:’’كلاّ إنّ الإنسان ليطغى،أن رآه اسغنى‘‘(1)،وهذا يعني أنّ الغالبية من البشر لا يشكرون حين يستغنون،وهو ذات المعنى الذي نفهمه من قوله تعالى:’’وقليل من عبادي الشكور‘‘(2)؛فحقيقة الشكر(الإعتراف بالنعمة للمنعم،واستعمالها في طاعته،والكفران استعمالها في المعصية،وقليل من يفعل ذلك لأنّ الخير أقل من الشر،والطاعة أقل من المعصية بحسب سابق التقدير)(3).
لقد غابت عن فرعون-غفلة منه-الحقيقة الباقية’’وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور‘‘(4)،فالحياة في الأرض قصيرة محدودة بأجل،متاع الغرور،تخدع من غفل قلبه عن المتاع الذي يدوم ولا ينقضي.وهكذا خُدع فرعون بما ظنّ أنّه كثير وهو-مع الدنيا-بأسرها لا يعدل عند الله جناح بعوضة،يقول تعالى:’’وفرحوا بالحياة الدّنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ متاع‘‘(5)،وتلك علة يُعاني منها كثير من البشر.
لم يخرج فرعون عن تلك القاعدة فبدّل نعمة الله كفرا،حين ثبت ملكه وكثر جنده،وغمرته الخيرات والأرزاق،فأنهار مصر تجري من تحته ولا يُشق له عصا؛فاستغرق في المتاع وخلا قلبه من ذكر المنعم جلّ في علاه،واستمتع بالجاه والسلطان والملك،وقد طمست بصيرته زخارف الدّنيا وبهارجها،فلا عجب-إذن- أن يرشح من شخصية فرعون المستعلية كلّ هذا الظلم والعدوان،كإفراز طبيعي لما استقر في نفسه من العلوّ،فالذي خبث لا يخرج إلا نكدا،فكان من هذا النّكد أن ترفّع عن عبادة ربه؛وكيف يعبد الله من أعجبته نفسه،بل وصل به الحال إلى أن ادعى الألوهية.وما هذا إلا نتيجة لتلك النظرة إلى الذات والإعجاب بها،ولا فرق بين اليوم والبارحة،فكلّ إناء بما فيه ينضح.
اليهود مثال حيٌّ للعلوِّ والإفساد
__________
(1) العلق:6،7].
(2) سبأ:13].
(3) تفسير القرطبي(14/276).
(4) آل عمران:185].
(5) الرعد:26].(1/45)
إنّ من الأمثلة الحية والتي أشار إليها القرآن هذا العلو الكبير لبني إسرائيل،الذين لم يأخذوا العبرة ممّا حدث لهم قديما على يد فرعون حين استعلى عليهم وأذلهم..كما لم يأخذوا العبرة من مأساتهم على يد هتلر حين سامهم سوء العذاب فشتتهم في بقاع الأرض!فتلك طبيعتهم يخضعون ويخنعون حتى إذا نفّس الله عنهم كربتهم مارسوا دور الظالم لهم!ونسوا ما حدث لهم بالأمس..تغُرُّهم قوتهم وإمكانياتهم وإقبال الأيام عليهم،وغفلوا أنّ الأيام دول!وتلك هي مصيبتهم في أنفسهم.
ويرجع هذا العلو إلى تلك النفسية التي يعيشها اليهود قديما وحديثا،فهم أمّة مشرذمة ممزقة تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى،تسودهم روح العداوة والبغضاء،يقول تعالى:’’وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‘‘(1)،ويشعرون بالنّقص وعقدة الجبن والخوف والشح،’’ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة‘‘(2)،(وتنكير حياة للتحقير،أي أنّهم أحرص الناس على أحقر حياة)(3).من هذه الأشلاء الإنسانية والعقد النفسية المُركبة كان مَنْبَتُ علوهم وإفسادهم؛ذلك أنّ المشاعر النّفسية المنحطة لا تنمو إلاّ في بيئة محطمة من الداخل كما هو الحال عند يهود.
إنّهم يقومون بنفس الدور الذي مارسه فرعون ضدهم؛فيقتلون وينهبون ويُذلّون النّاس ويرهبونهم بوسائل يطول الحديث عنها،فلم يتركوا شكلا من أشكال العذاب والإهانة والقمع إلاّ ومارسوه بعنجهية وغطرسة ظاهرة جليّة.تسمع في نبرتهم وترى في كلّ حركاتهم نَفَسَ الاستعلاء والتَّرفع..وتلك هي الحقيقة التي أخبرنا القرآن بها’’وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوا كبيرا‘‘(4).والمقصود في الأرض(أرض الشام وبيت المقدس وما والاها،وأراد بالعلو التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان)(5).
__________
(1) المائدة:64].
(2) البقرة:96].
(3) فتح القدير(1/115).
(4) الإسراء:4].
(5) تفسير القرطبي(10/214)مع بعض التصرف.(1/46)
إنّ هذا السلوك الإستعلائي قديما وحديثا ما هو إلاّ نتيجة لامتلاك أسباب القوة المادية والسيطرة عليها من قبل شخص أو أشخاص يتميّزون بعقد نفسية وأفكار وتصورات جاهلية،ومثال ذلك الإعجاب بالذّات وهو مرض يصل بصاحبه-إذا تضخَّم في نفسه وتعمَّق-أن يعبد ذاته؛فكلما زاد إعجابه بذاته زاد تأليهه لنفسه حتى إذا تهيأت له الظروف المناسبة كما تهيأت لفرعون نصّب نفسه إلها من دون الله،أو هو الشعور بحب الإنتقام لأسباب كثيرة،أو الشعور بالنّقص حيث يُراد تعويض هذا النّقص بمظاهر الاستعلاء والتّرفع..فإذا اجتمعت الإمكانيات وتلك الشخصية المريضة وُجِد السلوك الخطير في واقع الحياة.فقد تُوجد الشخصية الحاملة للمرض ولكنّها لم تجد فرصة للتعبير عن ذاتها،وهذا ما نفسر به خصومة بعض النّاس للطاغوت حتى إذا ما منحه الطاغوت بعضاً ممّا يُشبع به رغباته سكت عن المخاصمة وأصبح في سلك النّظام.
فالعلوّ الذي يُمارسه البشر سمة مخيفة مرعبة تجعلك تدرك مدى الخطورة التي مثّلتها شخصية فرعون حين تطاولت على خالقها وانفلتت من كلِّ القيم،فلا غرابة إذن حين نراه مستعليا متبجحا في سحق من سوّلت لهم أنفسهم الخروج عن سلطانه المزعوم،فها هو يقول بمليء فمه’’وإنّا فوقهم قاهرون‘‘(1).وهي نفس الكلمات التي نسمعها من فراعنة العصر مثل:سنسحق، وسنجتث،وسنلاحقهم في كل مكان،وليس لهم مكان آمن فوق الأرض… وتلك هي (صفة الفوقية والمراد بها العلو من غير جهة،وقد قال فرعون:وإنّا فوقهم قاهرون،ولا شك أنّه لم يرد العلو المكاني)(2).
__________
(1) الأعراف:127].
(2) اتقان ما يحسن من الأخبار(2/19).(1/47)
كما أنّنا نلاحظ في خطابات فرعون وبياناته لقومه ثقته بكلّ كلمة يقولها،فلا يستثني أبدا!فليس عنده أدنى شك بقدرته واستطاعته على تنفيذ ما يقول،وذلك هو الشعور بالعظمة والاقتدار الذي ملأ نفس فرعون ففاضت به كلماته وتصرفاته،ومن هنا كان(تفسير ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء)(1).
إنّ توفر أسباب القوة والذي نشاهده اليوم عند من لا قيم عنده ولا أخلاق لهو ما يُنذر بالخطر،ويجعل البشرية جمعاء تعيش حالة من الخوف والرعب والترقب والذل والإهانة؛وقد ظهرت عليهم نزعة التسلط على رقاب النّاس واستعبادهم لشهواتهم ونزواتهم ومصالحهم،بل سولت لهم أنفسهم إخضاع النّاس لتصوراتهم ومعتقداتهم وطريقة ومنهج حياتهم.فلم يعودوا يروا سوى أنفسهم.
إنّ النّظام العالمي الجديد-والذي تحاول قوى البغي أن تفرضه على الشعوب-إفراز حتميّ لتلك النزعة الفوقية،وهذا يعني بالتأكيد أنّ هذا النّظام لا يُبنى إلاّ على حطام الإنسانية وتحطيمها،وهو عين ما نشاهده من تدمير للعلاقات الإنسانية في جميع أشكالها،فانتشرت الأمراض الإجتماعية كالحسد والعدوان والحقد والتدابر والبغضاء والكراهية فيما بين الناس..فهو نظام تسلطي لا يقوم إلاّ على أساس تفريغ الحياة من مضامينها الإنسانية الرفيعة،وقتل القيم الأخلاقية.
__________
(1) الباقلاّني:أبو بكر،محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم،إعجاز القرآن،جزء واحد،تحقيق:عماد الدّين أحمد حيدر،ط3،مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت،لبنان،1416هـ-1995م. (93 1)وسأشير إليه لاحقا هكذا(اعجاز القرآن).(1/48)
وكما أنّ للعلوّ آثار مدمرة في حياة النّاس والجماهير،فإنّه أعظم آفة على طالبه؛فهو قد جعل نفسه إلها وشرع ينسب صفات الله لنفسه،ذلك أنّ(العظيم المستحق لأوصاف العلو والرفعة والجلال والعظمة والتقديس من كل آفة هو الله سبحانه وتعالى،وهو التي يستحقها بذاته)(1)،يقول الله تعالى:’’تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الإرض ولا فسادا‘‘(2).فالله سبحانه يُخبرنا(أنّ الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علوا في الأرض،أي ترفعا على خلق الله وتعاظما وتجبرا بهم ولا فسادا فيهم)(3).
المبحث الثالث
الطغيان
__________
(1) البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى،(384-458هـ)،الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث،جزء واحد،تحقيق: أحمد عصام الكاتب،ط1،دار الآفاق الجديدة،بيروت،1401هـ.(58)مع بعض التصرف،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الاعتقاد).وانظر: المناوي:محمد عبد الرؤوف،(952-1031)هـ،التوقيف على مهمات التعاريف،جزء:واحد، تحقيق:محمد رضوان الداية،ط:1،دار الفكر المعاصر،دار الفكر،بيروت،دمشق،1410هـ.(517)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(التعاريف).
(2) القصص:83].
(3) تفسير ابن كثير(3/403).(1/49)
الطغيان لغة من(طغى):و(الاسم الطغيان،وهو مجاوزة الحد،وكل شيء جاوز المقدار والحد في العصيان فهو طاغ)(1)،(وكل شيء جاوز القدر فقد طغى، كما طغى الماء على قوم نوح،وكما طغت الصيحة على ثمود… والطواغي جمع طاغية،وهي ما كانوا يعبدونه من الأصنام وغيرها،ومنه هذه طاغية دوس وخثعم،أي صنمهم ومعبودهم. ويجوز أن يكون المُراد بالطواغي: من طغى في الكفر وجاوز الحد وهم عظماؤهم وكبراؤهم… والطاغية الذي لا يبالي ما أتى،يأكل النّاس ويقهرهم لا يثنيه تحرج ولا ضمير)(2).
فالطغيان: تجاوز الحد في الكفر والتجبر والفساد…فليس هو ارتكاب للمعصية فحسب بل تجاوز الحد فيها،وهكذا كان فرعون متجاوزا الحدّ في كل رذيلة،ففي كفره-لعنه الله- تجاوز الحد إلى إدعاء الربوبية والألوهية،واستكبر حتى طغى في استكباره بدليل قوله تعالى:’’ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى‘‘(3)،والآية الواحدة تَرْدَعُ؛وهذا لم تردعه الآيات!فهو بهذا الوصف طاغوت(4).
__________
(1) الفيومي:أحمد بن محمد بن علي المقري،(ت:770هـ)،المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي،جزءان،المكتبة العلمية،بيروت.مادة،طغا(2/374)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(المصباح المنير).
(2) لسان العرب،مادة:طغى(15/7-8-9-10)مع بعض التصرف.وانظر مختار الصحاح،مادة:طغى(165).
(3) طه:56].
(4) انظر:تفسير القرطبي(3/281).(1/50)
ولقد بيّن القرآن حقيقة طغيان فرعون بصريح العبارة،يقول تعالى:’’اذهب إلى فرعون(1) إنّه طغى(2)‘‘(3)،ويقول تعالى:’’اذهبا(4)
__________
(1) إنّ ما ذهب إليه بعض المنحرفين في تأويل قوله تعالى: (إذهب إلى فرعون إنه طغى)من أنّ (إنّه) إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان(صرف لألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها من غير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسول الله فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر)مناهل العرفان(2/66).وانظر:تفسير القرطبي(1/33-34).
(2) طغى: أي ترفع وعلا حتى جاوز الحد أو كاد)المصري:شهاب الدين،أحمد بن محمد الهائم،(753 –815)هـ، التبيان في تفسير غريب القرآن،تحقيق: فتحي أنور الدابولي،ط1، دار الصحابة للتراث بطنطا، القاهرة،1992م.(1/287)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(التبيان في تفسير غريب القرآن).
(3) طه:24].
(4) وقوله في موضع آخر ( اذهب إلى فرعون إنه طغى) لا ينافي هذا لأنهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور ويجوز أن يقال أمر موسى أولا ثم لما قال واجعل لي وزيرا من أهلي قال اذهبا إلى فرعون)تفسير القرطبي(13/31)،وقيل:( خص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدم وجمعهما هنا تشريفا لموسى بإفراده،وتأكيدا للأمر بالذهاب بالتكرير.وقيل:إن فى هذا دليلا على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما.وقيل:الأول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس،والثاني أمر لهما بالذهاب إلى فرعون)فتح القدير(3/366)،(ويمكن أن يقال إن تخصيص موسى بالخطاب فى بعض المواطن لكونه الأصل فى الرسالة والجمع بينهما فى الخطاب لكونهما مرسلين جميعا)فتح القدير(4/76).(1/51)
إلى فرعون إنّه طغى‘‘(1)،ويقول تعالى:’’قالا ربنا إنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‘‘(2)،ويقول تعالى:’’اذهب إلى فرعون إنّه طغى‘‘(3)،فقد تجاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر والتمرد… وتجبر على الله وعصاه ،وتجاوز قدره وتمرّد على ربه حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية والألوهية،وتجاوز الحد في ضلاله وغيِّه وفساده وإفساده (4).
إنّ طغيان فرعون لم يكن بارتكاب المعاصي بل بتجاوز الحد والإفراط فيها.فهو يُقتّل ولا يقتل،ويُصلّب ولا يصلب،ويُقطّع ولا يقطع…ويصل به الطغيان أن يُصلّب السحرة في جذوع النّخل وليس على جذوعها!يقول تعالى حكاية لقول فرعون:’’ولأصلبنّكم في جذوع النّخل‘‘(5).(للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف المشتمل عليه)(6)،وذلك دلالة على شدة حنقه منهم.
ولمّا كان حال الطغاة بهذا الحجم من الشراسة والإفراط في الجريمة فإنّ من الطبيعي لمن يريد مواجهتهم أن يكون على قدر كبير من الهمة والعزيمة والتّحمّل،مع ما يصاحب ذلك من الوسائل الضرورية والتي لا بدّ منها،لتكون في حدّها الأدنى كافية للوقوف أمام الطغاة والقيام بالوظيفة الملقاة على عاتق الداعية إلى الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) طه:43].
(2) طه:45].
(3) النّازعات:17].
(4) انظر: تفسير ابن كثير(3/ 154)وتفسير الطبري(16/158،168)وتفسير ابي السعود (6/11،12)وتفسير الواحدي(2/693،695،1170)وتفسير النسفي(3/53)وروح المعاني(16/181).
(5) طه:71].
(6) تفسير ابي السعود(6/29).وانظر:تفسير البيضاوي(4/61).(1/52)
وهذا ما نفهمه من المناسبة في قوله تعالى:’’قال ألقها يا موسى،فألقاها فإذا هي حية تسعى،قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى،واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى،لنريك من آياتنا الكبرى،اذهب إلى فرعون إنّه طغى‘‘(1)،فبعد أن آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنّه رسول،ومهّد له تلك المقدمات، أمره بالذهاب إلى فرعون وأمره أن يدعوه (2)،وليس هذا إلاّ لأنّ موسى عليه السلام قادم على مهمة صعبة وهي:قول الحق أمام فرعون الذي طغى.
ومن هنا كان الخطاب من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام:’’اذهب إلى فرعون‘‘(الذي خرجت فارا منه وهاربا،فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له،ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم،فإنّه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى…فاستشعر موسى عليه السلام ثقل المهمة،فتوجه إلى الله بالسؤال أن يشرح له صدره فيما بعثه به،فإنّه-سبحانه- قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم،بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا وأكثرهم جنودا وأعمرهم ملكا وأطغاهم وأبلغهم تمردا،بلغ من أمره أن ادعى أنّه لا يعرف الله ولا يعلم لرعاياه إلها غيره)(3).
__________
(1) طه:19-24].
(2) انظر:تفسير القرطبي(11/192)وتفسير ابي السعود(6/11).
(3) تفسير ابن كثير(3/147)مع بعض التصرف.(1/53)
فكان ردّ موسى عليه السلام ببسط مسألته،وقد أحس بضخامة المهمة وخطورتها ووعورتها،فطلب كل ما يساعده على المواجهة؛ذلك أنّ موسى عليه السلام تربى في قصر فرعون ويعلم من هو فرعون،ويعلم ماذا فعل ببني إسرائيل،فطلب من الله التيسير’’قال رب اشرح لي صدري،ويسر لي أمري،واحلل عقدة من لساني،يفقهوا قولي،واجعل لي وزيرا من أهلي،هارون أخي،اشدد به أزري،وأشركه في أمري‘‘(1)،لأنّه ضاق موسى صدرا بما كُلِّف من مقاومة فرعون وجنوده،فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق وينوره بالإيمان والنّبوة حتى لا يخاف فرعون وجنوده، وليحتمل الوحي والمشاق وردئ الأخلاق من فرعون،وسأل الله أن يسهل عليه ما أمره به وبعثه له من تبليغ الرسالة إلى فرعون،وأن يحلل عقدة من لسانه(2)،وأن يجعل له وزيرا من أهله هارون أخيه:أي ظهيرا يعتمد عليه ويعينه على تبليغ الرسالة (3).
إنّ تجاوز فرعون الحد والإفراط في المعصية له أسبابه؛فالطغيان مهما كانت درجة حدَّته ينبع من مشاعر الاستغناء بسبب كثرة المال أو امتداد الجاه أو غزارة العلم أو قوة في البدن..وقد تجتمع أسباب عدة-كما هو الحال عند فرعون حين كثُر ماله وجنده وأتباعه وامتد جاهه وسلطانه-حينئذ يَصِلُ الطغيان حالته الهستيرية وهي الحالة المتمثلة بشخص الطاغوت فرعون.يقول تعالى:’’كلاّ إنّ الإنسان ليطغى،أن رآه استغنى‘‘(4)،فالعلاقة مطردة بين الإستغناء والطغيان،فبمقدار ما يستغني الإنسان-إلاّ من خاف مقام ربه ونهى النّفس عن الهوى-بمقدار ما يطغي.
__________
(1) طه:25-32].
(2) ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة،ولهذا بقيت بقية،قال الله تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال:’’أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين‘‘أي يفصح بالكلام)تفسير ابن كثير(3/147-148).
(3) انظر:تفسير القرطبي(11/192)وزاد المسير(5/281)وتفسير النسفي(3/53،54).
(4) العلق:6،7].(1/54)
إنّ تجاوز الحدّ في الجريمة والإفراط فيها يَنتجُ عنه آثار مدمرة وفساد وخلل في كل شيء،وهو ما يُرشد إليه قوله تعالى:’’وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد،فأكثروا فيها الفساد‘‘(1)؛ذلك أنّ الطغيان يفسد الطاغية ويحوله إلى كائن مفترس بلا مشاعر وأحاسيس،وهذا ما نراه في بعض الجرائم التي ترتكب ويصعب علينا أن نتصور أنّ بشرا يُقدم عليها.إنّهم يحرقون الأرض مع البشر بأبشع أنواع القتل والتدمير،وبأعتى الأسحلة وأفظعها دون رحمة أو شفقة.ولا عجب فتلك هي نفسية الطاغوت،وتلك هي شخصية فرعون تظهر مرة بعد مرة!
والطغيان يُفسد العلاقة بين الطاغية والجماهير فهو ينهب خيراتهم وأموالهم ثمّ يُسيء التصرف بها،ويمنعهم من حرية التعبير والمشاركة،فتنعدم مشاعر الإنتماء للدولة،وتصبح الجماهير مستعدة لفعل كلّ شيء تصل إليه أيديها ما دامت آمنة من الملاحقة والمراقبة والقانون؛فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم-في ظل الطاغوت-مشحونة بالحقد والكراهية،تدور بين كيد الطاغية وتدبيره وبين ردّ الجماهير على هذا الكيد والتدبير،فكلّ طرف يتربص بالطرف الآخر.
إنّ النّاس في ظلّ شخصيته الطاغية أصفار لا وزن لهم ولا قيمة،حيث لا يوجد متسع للحشائش الصغيرة في ظلّ الأشجار الكبيرة،فلا نور ولا هواء،فيبقى النّاس في الهامش وتسلط الأضواء على صاحب الجلالة!فهو الحكمة والشجاعة والكرم…وهو الملهم الذي جاد به الزمن!فلولاه لما كان الرخاء والعلم ولجاع الناس وفسدت الأرض!ولولاه لأصبح النّاس أيتاما لا راعي لهم…إنّه إله سواء نطق بها كما فعل فرعون أم لم ينطق بها كما هو حاصل اليوم!
__________
(1) الفجر:10-11].(1/55)
ولأنّ الطاغية فاسد في جوهره ليس عنده شيء وليس هو على شيء،ويعيش حالة نفسية فقيرة خاوية من المعاني التي تُرضي الإنسان وتُقنعه بمبرر وجوده،فهو يعيش عقدة الصِّغر في ذاته مناقضا لما يُظهره للنّاس من الانتفاش،وبسبب هذا الواقع المرّ نراه يحقد على كلّ من يرى فيه قدرة على استمالة الجماهير والفوز بثقتها،وبهذا نفهم المحاولات الضخمة من أجل إقصاء الجماعة المسلمة عن الحياة السياسية،بل وعزلها ما أمكن عن حياة النّاس،لما تتمتع به من مميزات تجعلها أمل الجماهير.بينما يعيش الطاغوت أسير المخاوف والعقد النفسية؛ذلك أنّ الطاغوت لا يستمد شرعيته من الإرادة الحرة للجماهير،فهو يحكمهم بالقسر والقهر،ولذلك يبقى الطاغية متخوفا متوجسا لأنّه يُدرك تلك الحقيقة.
المبحث الرابع
الظلم
(الظلم: وضع الشيء في غير موضعه)(1)،(وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد… والظلم الميل عن القصد)(2).والظلم بكل معانيه وصوره ملازم لفرعون كالظّل،وهو من خصائص شخصيته التي بيّنها القرآن الكريم،لأنّ تلك الشخصية وضعت نفسها في غير موضعها بدعواها للربوبية والألوهية،بمعنى أنّ أساس هذه الشخصية ومنبتها قائم على الظلم،ثمّ تَرَتَّب على هذا الأصل كل أنواع الظلم الأخرى،لأنّ سلوك فرعون وتصوره ومنهجه…كل ذلك قائم على ذلك الأصل الظالم بوضع شخصيته في غير موضعها.وهو بذلك جار على الحق والحقيقة وجاوز كل حد،ومال عن القصد كلّ الميل فكان من الناكبين،وهذا هو الظلم.
__________
(1) الفيروزآبادي:محمد بن يعقوب،(ت817هـ)،القاموس المحيط،جزء واحد.فصل الظاء،مادة:الظلم(1464)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(القاموس المحيط)،ولسان العرب،مادة ظلم(12/373).
(2) لسان العرب،مادة ظلم(12/373)مع بعض التصرف.وانظر مختار الصحاح،مادة ظلم(170).(1/56)
وعلى هذا الأساس-المتلبس بالظلم والمنغمس فيه-تنطلق شخصية فرعون إلى واقع الحياة،ومن ثمّ فإنّ كل ما تفرزه هذه الشخصية أو تنشؤه من مناهج وأنظمة وأجهزة مرتبط بالحقيقة الأولى وهي الظلم التي بُنيت عليه،فالشيء يرجع في المذاق لأصله،وهي الحقيقة التي بيّنها القرآن الكريم.يقول تعالى:’’ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(1)،ويقول تعالى:’’وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين(2)،قوم فرعون ألا يتقون‘‘(3)،ويقول تعالى:’’فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين،وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا‘‘(4)،ويقول تعالى:’’قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين‘‘(5).
__________
(1) الأعراف:103].
(2) قوله في طه:(إلى فرعون)[طه:43]،وفي الشعراء(أن ائت القوم الظالمين،قوم فرعون ألا يتقون)[الشعراء:10 11]،وفي القصص(فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه)[القصص:32]،لأن طه هي السابقة وفرعون هو الأصل المبعوث إليه وقومه تبع له،وهو كالمذكورين معه،وفي الشعراء قوم فرعون،أي قوم فرعون وفرعون،فاكتفى بذكره في الإضافة عن ذكره مفردا،ومثله’’أغرقنا آل فرعون‘‘أي آل فرعون وفرعون،وفي القصص’’إلى فرعون وملئه‘‘فجمع بين الآيتين فصار كذكر الجملة بعد التفصيل) الكرماني:محمود بن حمزة بن نصر، أسرار التكرار في القرآن،جزء واحد،تحقيق: عبد القادر احمد عطا ،ط2، دار الاعتصام، القاهرة، 1396هـ.(1/139)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(أسرار التكرار في القرآن).
(3) الشعراء:10-11].
(4) النّمل:13-14].
(5) القصص:25].(1/57)
لقد ظلموا-بزعامة فرعون وبتوجيه منه ودعم-بآيات الله،أي كفروا بها فجعلوا موضع ما يجب من الإيمان-الذي هو من حقها لوضوحها-الكفر فقيل:ظلموا بها بمعنى كفروا بها،ولهذا أجري الظلم مجرى الكفر لكونهما من واد واحد (1)، (فالظلم وضع الشيء في غير موضعه)(2)،(والكفر بآيات الله وضع لها في غير موضعها وصرف لها إلى غير وجهها الذي عنيت به)(3).
وكان ظلمه عظيما لأنّ( كفره بالآيات التى جاء بها موسى كان كفرا متبالغا،لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التى جاءهم بها،والمراد بالآيات هنا هى الآيات التسع)(4)،والتي أرشد إليها قوله تعالى:’’ولقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات‘‘(5).
ويتعاظم ظلم فرعون كلما تنوعت وتعددت الآيات،فردّ الدليل مع ازدياد قوته يوجب أشدّ العذاب،ولهذا كان قوله تعالى في شأن المائدة التي طلبها بنو إسرائيل من عيسى عليه السلام:’’إنّي منزّلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين‘‘(6).
__________
(1) انظر: النحاس:أبو جعفر،(ت338)، معاني القرآن الكريم،تحقيق: محمد علي الصابوني،ط1، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1409هـ.(3/60)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(معاني القرآن)،وتفسير البيضاوي(3/45)وتفسير ابي السعود(3/257)وتفسير النسفي(2/27-28)والكشاف(2/131).
(2) تفسير القرطبي(7/256).وانظر:تفسير الطبري(9/13)وتفسير البغوي(2/185).
(3) تفسير الطبري(9/13).
(4) فتح القدير(2/231).
(5) الإسراء:101].
(6) المائدة:115].(1/58)
وها هي الآيات تأتي فرعون مبصرة(إشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر،أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي،والعمي لا تهتدي فضلا عن أن تهدي،أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها،فكان رد فرعون ومن تبعه أنّ هذا سحر مبين واضح سحريته،وجحدوا بها وكذبوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وترفعا عن الإيمان)(1)،أي تيقّنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا،ولكنّهم كفروا بها وتكبّروا أن يؤمنوا بموسى،وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين ظالمين على غير استحقاق للجحد (2)،فالظلم يحمل صاحبه للجحود مهما كانت الآيات والمعجزات،وهو مصداق قوله تعالى :’’ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون‘‘(3).
ولقد أفرط فرعون في ظلمه وبارز الرب بالمخالفة،وادعى أنّه الرب الأعلى،فإن لم يكن ظالما فهو الظلم بعينه،فصار الخروج من ظلّ شخصيتة الظالمة نجاة وطمأنينة،وذلك ما أراده الرجل الصالح من مدين من قوله لموسى:’’لا تخف نجوت من القوم الظالمين‘‘(4)،(يريد فرعون وقومه.فطب نفسا وقرّ عينا فقد خرجت من مملكتهم فلا حكم لهم في بلادنا،فليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان،لأنّ مدين كانت خارجة عن مملكة فرعون)(5).
__________
(1) تفسير البيضاوي(4/261)مع بعض التصرف.
(2) انظر تفسير القرطبي(13/163)وتفسير الطبري(15/174)والثعالبي: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف،الجواهر الحسان في تفسير القرآن،4أجزاء،مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت.(3/157)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير الثعالبي).
(3) الأنعام:33].
(4) القصص:25].
(5) تفسير ابن كثير (3/151،385).وانظر:تفسير القرطبي(13/271)وتفسير الطبري(20/61)ومعاني القرآن(5/175)وتفسير الواحدي(2/816)وتفسير البغوي(3/442)وفتح القدير(4/168)وزاد المسير(6/215)وتفسير النسفي(3/233).(1/59)
وهكذا تتكرر صور الخروج والهجرة،وتزداد أعداد الهاربين من الظلم والطّالبين حق اللجوء السياسي في بلاد الكفار!بعد أن كُمّمت الأفواه ونُصبت أعواد المشانق في بلاد العرب والمسلمين.إنّها ذات القصة القديمة.
تنوع الظلم في ظل شخصية فرعون
ظلم للحق الذي عرفوه وأيقنوه،يقول تعالى:’’والكافرون هم الظالمون‘‘(1)،فإنّ مجرد معرفة الحق وعدم مناصرته ظلم عظيم يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة،فكيف بمن ينكره ويحاربه؟!بل ويستخدم شتّى الوسائل والحيل لحجبه ومنعه وقهره ومحاصرته،ويبذل الجهد والمال بسعي دؤوب لتشويه الحقائق كي لا تصل إلى النّاس صافية بالكذب والتضليل المبرمج.
وظلم للنفس،حيث عرّضوها للعذاب في الدنيا،فكل من لا يرتبط بالحق يعيش حياة مطّربة يسودها القلق والخوف والهواجس والحسرة والعبثية والحزن والشقاء…وغير ذلك كثير من أمراض النّفس الفتّاكة التي تصاحب إنكار الحق وعدم القبول به.وكلّ ذلك من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر،وهو تعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد في جهنّم يوم القيامة،يقول تعالى:’’ولا تحسبنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار،مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء‘‘(2)،ويا لها من عاقبة مؤلمة لا يعلم مداها إلاّ الله،حيث ينقلب ظلمه ظلمات عليه،يقول صلى الله عليه وسلم:’’الظلم ظلمات يوم القيامة‘‘(3).
__________
(1) البقرة:254].
(2) ابراهيم:42-43].
(3) صحيح البخاري،كتاب المظالم،باب الظلم ظلمات يوم القيامة(2/864)رقم(2315).(1/60)
وظلموا الناس بصدهم عن الإيمان بها،وحجبوا عنهم نور الهداية ورحمة الله،فآذوا من آمن،وعرّضوه للفتنة كي لا يبقى على إيمانه،وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب وذبح أولادهم وأخذ أموالهم ومصادرة حقوقهم،فليس لهم إلاّ ما يبقيهم على قيد الحياة لخدمة فرعون،والمعصية هنا أشد من غيرها لأنها لا تقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار،وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب،لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر.
وكما تنوع الظلم في ظلّ شخصية فرعون تعددت دركاته أيضا،فقد أتى فرعون بأعظم أنواع الظلم وهو الكفر بآيات الله بل وادعى أنّه رب وإله،ثمّ ما سفكه من الدماء بغير حق،وسلبه أموال النّاس وإذلالهم..فلم يترك جريمة إلاّ وفعلها،ولقد قيل:أنّ(العلة المانعة من الظلم عقل زاجر،أو دين حاجز،أو سلطان رادع،وعجز صاد)(1)،وإذا تأملت لم تجد عند فرعون واحدة منها.
كلّ من شارك الظالمين أو سكت لغير عذر مشروع فهو منهم
__________
(1) المناوي:محمد عبد الرؤوف،(952-1031)هـ،فيض القدير شرح الجامع الصغير،6أجزاء،ط:1،المكتبة التجارية الكبرى،مصر،1356هـ.(4/143)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(فيض القدير).(1/61)
يقول تعالى:’’واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصَّة‘‘(1)،أي(لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم بل يعمّه وغيره،كإقرار المنكر بين أظهرهم،والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد)(2)،فالله سبحانه وتعالى يأخذ الظالمين وأتباعهم وأعوانهم والساكتين بغير عذر شرعي عن ظلمهم،يقول تعالى:’’ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من الله‘‘(3)،(لأنّهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها)(4).فإذا سكت الذين يعلمون فمتى يتعلَّم الجهلة؟!ومن هو الذي سيحمل الحقيقة إن لم يحملها العالمون بها؟يقول تعالى:’’إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‘‘(5)والكتمان(ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه،وتحقق الداعي إلى إظهاره،وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه)(6).
__________
(1) الأنفال:25].
(2) تفسير أبي السعود(4/16).وانظر:تفسير البيضاوي(3/100).
(3) البقرة:140].
(4) الكشاف(1/196).
(5) البقرة:159].
(6) تفسير أبي السعود(1/182).(1/62)
لقد أخذ الله فرعون وأخذ جنوده الذين شاركوه في ظلمه،يقول تعالى:’’فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‘‘(1)،فانظر كيف أخذ الله فرعون على ضخامة ظلمه مع الجنود على صغر ظلمهم بالمقارنة مع فرعون،لأنّ أدنى مساندة للظالمين تجعل صاحبها يستحق العقوبة نفسها،فالأتباع والمتبوعون في العقوبة سواء كما هو واضح في كثير من المواضع في القرآن؛وذلك لأنّ الظالم لا يقوى على الظلم والعدوان وحده دون مُعين؛فبقاء الظلم والعدوان مرتبط بالمساندين والراضين وحتى الساكتين بغير عذر شرعي،الذين يُشكلون البنية التحتية للظلم.يقول تعالى:’’ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون‘‘(2)،و(الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به)(3)،فالرضا بالظلم من قبل النّاس يُجمّل وجهه القبيح،ويؤدي إلى أن يُصبح وجها مقبولا بدل أن يكون منبوذا ومحاربا،كما أنّه يُغري الظالم بالاستمرار في ظلمه،وربما يُغريه لتوسيع دائرة ظلمه،طالما هو وجه مقبول ومَرْضيٌّ عنه.
الظلم قلب للأوضاع
ما دام الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه فهو قلب للأوضاع،وأخطر الظلم هو وضع مناهج للحياة بدلا عن منهج الله سبحانه،فتصبح الحياة مقلوبة بالكامل،وهذا هو منشأ الظلم الذي نشاهده اليوم بكافة أشكاله وألوانه،وذلك ما يرشد إليه قوله تعالى:’’ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‘‘(4)،أي(المبالغون في الظلم المتعدون لحدوده تعالى الواضعون للشيء في غير موضعه)(5)،والمعنى أنّ كلّ حكم بغير ما أنزل الله وضع للأمور في غير موضعها،ممّا يفسر لنا هذا الإنتشار المرعب للظلم في مشارق الأرض ومغاربها؛فمن المستحيل أن توضع الأمور في موضعها ما دامت شريعة الله مستبعدة عن حياة النّاس.
__________
(1) القصص:40].
(2) هود:113].
(3) تفسير القرطبي(9/108).
(4) المائدة:45].
(5) تفسير أبي السعود(3/43).(1/63)
وحتى تستقيم الحياة وتوضع الأمور في موضعها،ويقوم النّاس بالقسط لا بدّ من ميزان الشرع،وهذا ما يُرشد إليه قوله تعالى:’’لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط‘‘(1).أي(ليعمل الناس بينهم بالعدل)(2).
وقد يدعي البعض ممّن تحكموا في رقاب النّاس أنّهم مسلمون وأن بلدهم الذي يحكمونه مسلما…ولكنّهم كاذبون في دعواهم،فالواقع العملي يقول:أنّ الحكم المطبق هو حكم الشيطان والهوى،فلعنة الله على الظالمين.
المبحث الخامس
الإفساد
الفساد-لغة- (نقيض الصلاح)(3)،و(المفسدة ضد المصلحة)(4)،فهو-أي الفساد-خلل يطرأ على الأشياء فيمنع الاستفادة منها،ويحيلها إلى وضع تستحيل معه المنفعة،فالطعام الفاسد لا يُؤكل،والشراب الفاسد لا يُشرب…وكلّ ما طرأ عليه الفساد يخرج من دائرة الانتفاع به،وهكذا حياة النّاس قد يصيبها الفساد،فيتبدل الأمن خوفا،والعدل جورا،والطمأنينة قلقا واضطرابا…وينحرف سير الحياة عن الغاية التي خلق من أجلها الإنسان،فتتعطل الوظيفة المناطة بالبشر كما لو حصل الخراب بآلة فَعَطَّلها عن أداء وظيفتها.
وتكون خطورة الفساد متناسبة مع أهمية الجزء المصاب من حياة النّاس ومدى حيويته،ففساد العقيدة والتّصور أخطر من فساد التشريع.وتشتدُّ خطورة الفساد ويزداد تأثيره مع طول الفترة التي يبقى بها الخلل قائما،لأنّه قد يتحوّل إلى مرض مزمن يصعب الخلاص منه.
__________
(1) الحديد:25].
(2) تفسير الطبري(27/237).
(3) كتاب العين،مادة:فسد(7/231)،و(الفساد نقيض الصلاح…ويقال: أفسد فلان المال يفسده إفسادا و فسادا)لسان العرب،مادة:فسد(3/335).
(4) مختار الصحاح،مادة:فسد(211).(1/64)
وقد يكون الفساد في موظف صغير ولكنّه مع ترقّي الرتبة أخطر،فإذا كان في رأس الهرم أصبح مأساة!وقد يكون في جزء من المنهج،ولكنه إذا انتشر في أجزاء أخرى أخطر،وإمّا إذا كان المنهج المطبق من أساسه ومنبعه فاسدا فإنّ الحياة تصبح جحيما لا توصف.فكيف ورأس الهرم فرعون مفسد وليس بفاسد فحسب؟!ومنهج الحياة في ظلّه-جملة وتفصيلا،وأصولا وفروعا-فاسد!يقول تعالى:’’إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنّه كان من المفسدين‘‘(1).أي إنّه كان من الراسخين في الإفساد،ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من لا جنحة له من أبناء الأنبياء عليهم السلام لتخيل فاسد،ثمّ هو من المفسدين في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر والقتل،وفي الآية الكريمة بيان أنّ القتل من فعل أهل الإفساد (2)،وفرعون أسرف في القتل،أي أسرف في الفساد.
__________
(1) القصص:4].
(2) انظر:روح المعاني(20/43)وتفسير أبي السعود(7/2)وتفسير القرطبي(13/249)وفتح القدير(4/159)وزاد المسير(6/201)وتفسير الجلالين(1/506)وتفسير النسفي(3/226).(1/65)
إنّ الفساد نتيجة حتمية لمن ظلم وطغى وجعل نفسه إلها من دون الله،ومن هنا لم تكن هذه الشخصية مفسدة فحسب بل كانت كثيرة الإفساد بالجور والأذى(1)،يقول تعالى:’’وفرعون ذي الأوتاد،الذين طغوا في البلاد،فأكثروا فيها الفساد،فصب عليهم ربك سوط عذاب‘‘(2)،حيث أصاب الخلل كلّ مناحي الحياة،فانتشر الكفر والظلم والجور والأذى والقتل والمعاصي…حتى وصل الفساد والإفساد عقول النّاس وتصوراتهم ،وهو أخطر فساد يمكن أن يقع، ولم يكن عطاؤه للسحرة وإجابتهم لما طلبوا إلاّ في سبيل إفساد عقول الناس وأفكارهم وتصوراتهم بهذه التهاريج.يقول تعالى:’’فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إنّ الله سيبطله إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين‘‘(3)،(أى عمل جنس المفسدين على الإطلاق فيدخل فيه السحر دخولا أوليا)(4)،فالآية دليل على أنّ السحر-الذي كان فرعون يرعاه وينفق عليه-من عمل المفسدين.(والمعنى أنّ الله لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه وعمل فيها بمعاصيه )(5)(ولا يجعل عملهم نافعا لهم )(6).
وحصل ذلك حين حاول فرعون من خلال السحر- الذي كان جزءا من نظامه- أن ينتصر على موسى عليه السلام ويعارض ما جاء به عليه السلام من الحق المبين بزخارف السحرة، عند ذلك قال موسى عليه السلام:’’ما جئتم به السحر إنّ الله سيبطله،إنّ الله لا يُصلح عمل المفسدين‘‘.
__________
(1) انظر:تفسير القرطبي(20/49)وتفسير ابن كثير(4/509).
(2) الفجر:10-13].
(3) يونس:81].
(4) تفسير ابي السعود(4/170).وانظر:فتح القدير(2/466)وروح المعاني(11/167).
(5) تفسير الطبري(11/148).
(6) زاد المسير(4/ 51).وانظر: تفسير الواحدي(1/505).(1/66)
وأصل فساد فرعون وإفساده أنّه كان من المكذبين الكافرين بآيات الله،يقول تعالى:’’ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(1)، ويقول تعالى:’’فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين،وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(2).(أي الذين صدّوا عن سبيل الله وكذبوا رسله)(3)،وكم بذل فرعون جهودا ليلا ونهارا للصد عن سبيل الله،حتى أنّه يصح منّا القول:إنّ وظيفته ووظيفة من حوله من الملأ والحاشية والجند ليست سوى الصد عن سبيل الله،وهكذا هي حال كل سلطة حاكمة تمارس الإفساد.
والمعنى(فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي المكذبين بالآيات الكافرين بها وجعلهم مفسدين لأنّ تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد)(4)،لما يترتب على هذا التكذيب من آثار خطيره،حيث لا تصلح الحياة إذا كُذّب بآيات الله وكُفر بها،و(وضع المفسدين موضع ضمير الظالمين للإيذان بأن الظلم مستلزم للإفساد)(5)،ففرعون ظالم ومفسد،وكأنّ شخصيته موضع لكل رذيلة،فهذه الرذيلة مرتبطة مع رذيلة أخرى،وتلك مفسدة تفرز مفسدة أخرى.
__________
(1) الأعراف:103].
(2) النّمل:13-14].
(3) تفسير ابن كثير(2/236).
(4) فتح القدير(2/231).
(5) تفسير أبي السعود(3/257)وانظر:روح المعاني(9/18).(1/67)
(إنّ الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد من دون الله،وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلاّ يوم أن كانت عبوديتهم لله وحده –عقيدة وعبادة وشريعة- وما تحرر الإنسان قط إلاّ في ظلال الربوبية الواحدة ، ومن ثّم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه:’’فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(1).وكل طاغوت يخضع العباد بشريعة من عنده،وينبذ شريعة الله،هو من المفسدين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون ؟)(2)؛ذلك أنّ صلاح هذا الكون بالقوانين التي تحكمه،فهو مسخر من الله بتلك القوانين،وبالتالي أصبح نافعا،وحين يطبق النّاس قانون الله-أي شرعه-في حياتهم تصبح مفيدة مؤدية لغايتها كما هو حال هذا الكون،فالشرع هو الذي يُنظم حياتنا لتصبح صالحة ومفيدة،فإذا استثني الشرع تصادمت الأهواء والأغراض وحصل الخلل والفساد.
ثمّ كانت نهاية هذه الشخصية المفسدة بائسة وعاقبتها وخيمة،فالله يُمهل ولا يُهمل،فبفسادهم صب عليهم ربك سوط عذاب،وأنزل عليهم رجزا من السماء،وأحل بهم عقوبة لا تُردُّ عن القوم المجرمين،وقص علينا خبرهم ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لكل فاسد مفسد،فلا يقعوا فيما وقع فيه أسلافهم،لأنّ سنة الله واحدة لا تبديل فيها ولا تحويل،يقول تعالى:’’حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين،آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين‘‘(3).أي(الصادين عن سبيل الله)(4).
وهكذا تكون آخر اللحظات إعلان من الله سبحانه أنّ فرعون من المفسدين، فتُختم صفحة حياته الفاسدة بتسجيل وصمة العار التي تلاحقه وتلاحق كل مفسد،وتغيب بين الأمواج شخصية فاسدة مفسده عليها اللعنة من الله.
الفساد في ظل الطاغوت المعاصر
__________
(1) النمل:14].
(2) في ظلال القرآن(3/596-597).
(3) يونس:90-91].
(4) تفسير الطبري(11/164).(1/68)
قلنا:إنّ الفساد خلل يُصيب الحياة،والنّاظر في حياة النّاس اليوم يرى أنّ الخلل قد أصاب معظم مناحي حياتهم؛خلل في الفكر والتصور والمفاهيم،أورث القلق والاضطراب والأمراض النّفسية وفقدان السعادة والطمأنينة..وخلل في النّظام السياسي العالمي والإقليمي والمحلي،أورث انتشار الرشوة والمحسوبية واستثناء الكفاءة،وفشت عقلية المؤامرة وفقدان الثقة،وانعدمت روح المسؤولية،وغاب حس الإنتماء.وخلل في الأخلاق أورث انتشار الجريمة المنظمة والشذوذ الجنسي وهدم الأسرة وظهور الوصوليين.وخلل في الإعلام الذي أصبح هدفه الهبوط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان،وإحياء الغرائز الحيوانية فيه،وزرع الأفكار المادية الخاوية من أي روح إنسانية.وخلل في الإقتصاد بنشر الربا وما يتبع ذلك من فساد وشر،ونشر الغش والاحتكار والغبن وعدم الأمانة والاختلاس…إنّه الخلل الذي نشاهد آثاره في المجاعات المنتشرة هنا وهناك وموت الآلاف من البشر جوعا،ونشاهده في انتشار جيوب الفقر على أطراف الأحياء المترفة والمتخمة،وما يتبع هذا من خلل في العلاقات الإجتماعية وانحرافات جنونية هستيرية.
إنّ أخطر ما في ظاهرة الفساد والإفساد المعاصر هو أن يتحول الفساد إلى منظومة متكاملة من فكر فاسد،أُنشأت له مدارس ومعاهد،ومناهج تُبنى عليه،وخصوصا أنّ المفسدين في الأرض يسيطرون على المفاصل الحساسة في حياة النّاس.
ومن أجل أن يُتمّ المفسدون مشروعهم عملوا بكل قوتهم لمنع عناصر الإصلاح المتمثلة بالجماعة المسلمة من الحركة،فهم يحاولون محاصرة أي نشاط إصلاحي وعلى كافة المستويات؛السياسية والإجتماعية والثقافية والإعلامية..بل وصل بهم الأمر إلى إغلاق المعاهد والمدارس الإسلامية ومنع المتحجبات من دخول المؤسسات الحكومية من المدرسة والجامعة وصولا إلى البرلمان رمز الديمقراطية الحديثة!(1/69)
إنّ المنع المفروض على القوى المصلحة،وإطلاق العنان للأيد المفسدة نذير شؤم،وناقوس خطر ندقه فوق رؤوس النّاس،فمع مرور الزمن تنكسر الحواجز النّفسية،والتي لولا انكسارها لما أعلن فرعون أُلوهيته وربوبيته!حينئذ ينفلت الإنسان من قيد القيم،وتُصبح الحياة عفناً كاملا!ويُصبح المصلح غريبا.وهو ما يُريده المفسدون في الأرض.
ولمنع الفساد لا بدّ من المدافعة،يقول تعالى:’’ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‘‘(1)،فلولا أنّه سبحانه وتعالى(يدفع بعض الناس ببعض،وينصر المسلمين على الكفار،ويكف بهم فسادهم لغلبوا وأفسدوا في الأرض)(2).ولا بدّ في مرحلة متقدمة من القتال،يقول تعالى:’’وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدَّين كلُّه لله‘‘(3)،أي(حتى لا يكون شرك)(4)،فالشرك أساس لكل فساد.
المبحث السادس
الإستبداد(5)
الإستبداد في اللغة من استبد( يقال استبد بالأمر يستبد به استبدادا إذا انفرد به دون غيره،واستبد برأيه انفرد به)(6)،و(استبد بالأمر انفرد به من غير مشارك له فيه)(7)،ويترتب على هذا التعريف أنّ المستبد لا يقبل قول غيره،ويميل بطبعه للإنفراد والاستئثار،وينفُر ممّن يُحاول مشاركته بما يعدُّه حقا خاص به.
__________
(1) البقرة:251].
(2) تفسير البيضاوي(1/584).
(3) الأنفال:39].
(4) تفسير الطبري(2/192)وانظر: تفسير الثعالبي(1/150).
(5) الاستبداد: وهو افتعال من الأمر كأن نفسه أمرته فائتمر أى امتثل أى لا يأتى برشد من قبل نفسه ولا يقبل قول غيره) الزمخشري:محمود بن عمر،(467-538هـ)،الفائق في غريب الحديث،4أجزاء،تحقيق: علي محمد البجاوي –محمد أبو الفضل إبراهيم،ط2،دار المعرفة،لبنان.(4/123)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الفائق).
(6) لسان العرب،مادة:بدد(3/81).
(7) المصباح المنير،مادة: بدد(1/38)وانظر:مختار الصحاح،مادة:بدد(18).(1/70)
وفرعون على هدي هذا التعريف مستبد منفرد بالرأي والتصرف ويختصر الدولة في شخصيته،حتى صح القول منّا إنّ فرعون الدولة والدولة فرعون!وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي نصب نفسه إلها؟!وهل يقبل الإله رأي الآخر؟ أو حتى يسمح للآخرين أن يقدموا بين يديه! وما كان للعبيد أن يناقشوا أو يحاوروا إلههم،فهو لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون!فلا عجب إذن بعد هذا المنطق الفرعونيّ أن تتميز شخصيته بالإستبداد المطلق لكونه إلها!وهذا يعني حرمان الناس من ممارسة حياتهم الطبيعية؛فالمستبد يفرض نفسه على النّاس بقهرهم على ما يريد،وتصبح الدولة في ظلّ المُستبد انعكاسا لشخصيتة وتعبيرا عن طموحاته ونزواته وشهواته..وتُمسَخ شخصية الأمة وتقلُّ قدرتها على التغيير والتصحيح،ومع مرور الزمن تتعفن النفوس،وتتعايش مع الذل والاستحمار،وفي بعض المراحل تفقد الجماهير القدرة على الإستقلال،فتصير بحاجة إلى التدرج والتدريب حتى تستعيد عافيتها وتصبح قادرة على العيش مرة أخرى في ظلّ الحرية.
لقد ازداد استبداد فرعون تحت غطاء الدين؛فالنّاس بطبعهم يخشون الخروج عن رأي الدين ومخالفة الإله،ولا شك أنّ رجال الدين في عصره لعبوا دورا كبيرا في هذه القضية وإعطاء فرعون صفة القدسية،فهو-بزعمهم-إله لا يُخطىء ولا يجوز الخطأ عليه.وهي نفس الممارسة التي مارستها الكنيسة على النّاس في عصور الظلام في أوروبا.فباسم الدين تكمم الأفواه وتسجن الكلمة!ولهذا كانت ثورة النّاس في أوروبا على الدين كل الدين،لأنّهم ظنّوا أنّ كل دين هو كدين الكنيسة،بمعنى أنّ رفضهم للدين كان من واقع تجربتهم مع الدين المُحرَّف.وما من شك أن ديانة الفراعنة ليست سوى خرافات وأساطير قُصد منها تحقيق مصالح للمستفيدين منها.(1/71)
إنّ الإستبداد ملازم لدعوى الألوهية والربوبية التي زعمها فرعون لنفسه،وملازم لضعف الحجة والبرهان،فعندما تفلس الحكومة المستبدة في حججها وبراهينها-وهي التي تعلم قبل غيرها أنّها ليست على شيء-تلجأ للعصا ترفعها فوق رؤوس الجماهير منعا لأيّ رأي مخالف يكشف عن وهن فكرها وزيف عقائدها.
لقد أفرزت شخصية فرعون سلوكا ومنهجا وتصورا يدلّ على استبدادها،فالقرآن الكريم وإن لم ينص بالعبارة الصريحة على هذه الصفة في شخصية فرعون،ولكنّها صفة تعلم بمجرد النظر فيما أورده القرآن الكريم عن شخصية فرعون من أقوال وأفعال وسلوك ومنهج،وأهمها في هذا الباب وأوضحها ما ادعاه فرعون من ربوبية وألوهية،وما تبع ذلك من استعداد عند فرعون لفعل أيّ جريمة في سبيل المحافظة على ألوهيته وربوبيته المزعومة وإرغام النّاس على الإنصياع التّام لما يدّعي،مستبدا لا يقبل فيها رأيا ولا حجة،لأنّ ذلك يكشف تهافت دعوته،فعدل-كما يقولون- عن الحجة والبيان إلى السيف والسنان،وذلك معنى وجوهر قوله لموسى عليه السلام:’’لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين‘‘(1).ذلك أنّه لمّا قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه،وعدل إلى التهديد بدلا عن المحاجة بعد الإنقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج (2)الذي لا يقبل رأيا آخرا ولا يسمح لأيّ إنسان أن يتنفس.
__________
(1) الشعراء:29].
(2) انظر:تفسير البيضاوي(4/176)وتفسير ابن كثير(3/334)وتفسير الطبري(19/70).(1/72)
وللإستبداد وسائله التي بها يخرس كل صوت ويقتل كل فكر،فها هو فرعون يلوّح لموسى بالعصا الغليظة المعهودة عند أولئك المستعبدين في ظل فرعون المستبد،يسلطها في وجه موسى عليه السلام،’’لأجعلنّك من المسجونين‘‘،(أي لأجعلنّك ممن عرفت أحوالهم في سجوني حيث كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك لم يقل لأسجننك)(1)،فسجونه معروفة معهودة،تنشر الرعب وتُسكت الأصوات!وهكذا تنتشر السجون في كل مرة تحكم فيها شخصية مستبدة،وبهذا-أيضا-نفسر حجم الشدة التي يُقمع بها أصحاب الدعوة الإسلامية في هذا الزمان.
وبحجم الإستبداد الممارس من قبل فرعون-ومن شاكله-كانت سجونه مرعبة مخيفة،(فسجنه أشد من القتل لأنّه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا)(2)،( وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت)(3)،ليكون لمن تُسوّل له نفسه رفع رأسه برأي عبرة!
ومن الأدلة على استبداده قوله عز وجل:’’فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‘‘(4)،ومعنى الآية الكريمة أنّه(ما آمن له عليه السلام في مبدأ أمره إلا ذرية من قومه أي إلا أولاد بعض بني إسرائيل،حيث دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم فالمراد من الذرية الشبان.
ووجه آخر في الآية أنّ المؤمنين من غير بني إسرائيل-إذا كان الضمير في قومه عائدا إلى فرعون لا إلى موسى-أي من القبط قوم فرعون،كمؤمن آل فرعون.وفي إطلاق الذرية على هؤلاء نوع خفاء.
__________
(1) تفسير ابي السعود(6/240)وانظر:تفسير النسفي(3/183)وروح المعاني(19/73).
(2) تفسير البغوي(3/358)وانظر:تفسير الجلالين(1/482)وتفسير النسفي(3/183)وروح المعاني(19/73).
(3) فتح القدير(4/98).
(4) يونس:83].(1/73)
ورجح بعضهم أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون،وكانوا قد بُشروا بأنّ خلاصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا وكذا،فلما ظهر موسى عليه السلام إتبعوه،ولم يعرف أنّ أحدا منهم خالفه،والمراد حينئذ فما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه ولم يظهروه بسبب خوفهم من فرعون وملئه،وربما بسبب خوفهم من أشراف بنى إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم.
وعلى كلّ حال فإنّ الخلاف في تحديد من آمن بموسى عليه السلام ليس هو الشاهد الذي نريد،إنّما أردت توضيح معنى الآية ليُفهم الشاهد منها،وهو أنّ الآية دلّت أنّ من آمن- حين آمن- كان على خوف من فرعون أن يفتنهم بالعذاب،فيصدهم ويصرفهم عن دينهم ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله ،وإنّما أسند الفعل إلى فرعون خاصة لأنّه الآمر بالتعذيب (1).وبهذا تظهر شخصية فرعون الإستبدادية،وفي مقابلها فئة قليلة آمنت على خوف ووجل منه،وأخرى أعرضت عن الإيمان بالكلية!
ليس هذا فحسب فهناك نموذج آخر أفرزته شخصية فرعون الإستبدادية وهو كتمان الإيمان،يقول تعالى:’’وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم‘‘(2)،(أي يُسّر إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه)(3).
__________
(1) انظر:روح المعاني(11/168)وتفسير النسفي(2/138)وتفسير ابي السعود(4/170،171)وتفسير الطبري(11/150،151)وتفسير القرطبي(8/369،370)وتفسير البيضاوي(3/211).
(2) غافر:28].
(3) تفسير الطبري(24/57).(1/74)
وهكذا سلك النّاس سلوك التخفي في ظلّ شخصية مستبدة،عقدتها وسرّ استبدادها يكمن في تصورها أنّها إله ورب!فنمى بسببها التخفي والحذر،وحيثما يوجد الإستبداد توجد الحركات السّريّة،تلك الحركات التي لم تجد لنفسها مكانا فوق الأرض فاختارت العمل من وراء الحجب،وأكثر ما يكون هذا في دعوات الحق التي يحملها الأنبياء وأتباعهم،فدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدأت سرا،وكلما تمّ التضييق علينا كلما ذهبنا نحو السريّة والتّخفي وسيلة منّا لاتقاء شرّ المستبد.
ومن شدة استبداد فرعون استنكاره على السحرة إيمانهم بدون إذن منه،’’آمنتم له قبل أن آذن لكم‘‘(1)،فالكلمة في عهد فرعون تحتاج إلى ترخيص وإذن من الحكومة!ومن العجيب أن يدور الزمان فيجتهد بعض المسلمين في الحصول على ترخيص لمجلة أو جريدة فلا تسمح لهم الحكومة.تشابهت أخلاقهم!
__________
(1) طه:71].(1/75)
وبلغ الإستبداد في عهد فرعون أن سلك النّاس السريّة في صلاتهم،يقول تعالى:’’وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءأ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة(1) واقيموا الصلاة‘‘(2)،حيث كان بنو إسرائيل لا يُصلُّون إلا في كنائسهم وكانت ظاهرة،فلما أُرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخُرّبت كلها ومنعوا من الصلاة ،فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بمصر بيوتا؛أي صلّوا في بيوتكم سرا لتأمنوا،وذلك حين أخافهم فرعون.فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت،وكان من دينهم أنهم لا يصلّون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن،فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم (3)،فلمّا خافوا على أنفسهم(أمروا أن يصلوا فى بيوتهم فى خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم،كما كان المسلمون على ذلك فى أول
__________
(1) واجعلوا بيوتكم قبلة)أي: واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها.وهو ما اختاره ابن جرير وذلك-كما يقول-(إنّ الأغلب من معاني البيوت-وإن كانت المساجد بيوتا-البيوت المسكونة إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد،لأنّ المساجد لها اسم هي به معروفة خاص لها وذلك المساجد.فأمّا البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ولا إضافتها إلى شيء فالبيوت المسكونة،وكذلك القبلة الأغلب من استعمال الناس إياها في قبل المساجد وللصلوات،فإذا كان ذلك كذلك،وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك،ولم يكن على قوله واجعلوا بيوتكم قبلة دلالة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب،لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا،وكذلك القول في قوله:قبلة وأقيموا الصلاة)تفسير الطبري(11/ 156،155،153).
(2) يونس:87].
(3) انظر:تفسير القرطبي(8/371،372)وتفسير الثعالبي(2/189)وتفسير الواحدي(1/506)وروح المعاني(11/171).(1/76)
الإسلام بمكة)(1).
إنّ الإستبداد الذي تميزت به شخصية فرعون بيّن في قوله تعالى:’’فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم‘‘(2)،أي فلما جاءهم-موسى عليه السلام- بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم فيمتنع الإنسان من الإيمان،أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أولا كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه السلام(3).
إنّ من معاني الإستبداد أنّ الحق والحقيقة والبرهان…يقابلها القتل،ودلّ على ذلك قولُه تعالى:’’فأراد فرعون أن يستفزهم من الارض‘‘(4)، أي يستخفهم ويزعجهم و يخليهم منها ويزيلهم عنها وينفيهم من الأرض أرض مصر أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال أو الإبعاد (5)،فعدل فرعون عن الجدال بالحجة الى الإرهاب بالقوة.( قال العلماء وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،لأنّه لما خرج موسى فطلبه فرعون هلك فرعون وملك موسى،وكذلك أظهر الله نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع اليها ظاهرا عليها)(6)،وفي هذا بشرى للمطاردين والملاحقين من المسلمين أن الفرج قريب،فما تزيدنا هذه الملاحقة إلاّ تمسكا بعقيدتنا وجدّية في انتمائنا وتنقية لصفوفنا ونفوسنا…فكأنّ نتائج هذه المجاهدة مؤهلات لاستحقاق النّصر الموعود من الله جلّ شأنه.
__________
(1) تفسير النسفي(2/139).
(2) غافر:25].
(3) انظر:تفسير القرطبي(15/305)وتفسير البيضاوي(5/89)وتفسير ابن كثير(4/77)وتفسير الطبري(24/56).
(4) الإسراء:103].
(5) انظر: تفسير البيضاوي(3/470)وتفسير القرطبي(10/338)وتفسير ابن كثير(3/68)ومعاني القرآن(4/203)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(1/310).
(6) زاد المسير(5/95)،وانظر:روح المعاني(15/2).(1/77)
ولا يغرّنّك-في هذا المبحث-قول فرعون لموسى عليه السلام:’’إن كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين(1)‘‘(2) .حيث(لم يكن هذا من فرعون حرية رأي،بل هي فرصة أمام فرعون وملئه أن يُظهروا موسى عليه السلام بمظهر الكاذب الذي يزعم أنّه رسول من رب العالمين بلا بينة ولا دليل)(3)،وعندما أثبت موسى بيِّنته،ورأى فرعونُ الحقَّ هدد موسى وتوعده،وخرج من ميدان الحجة إلى ميدان السلاح والقوة؛ذلك أنّ فرعون صاحب الشعار المعروف’’ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‘‘(4)،أي ما أشير عليكم أيها الناس من الرأي والنصيحة وما أهديكم بهذا الرأي إلا سبيل الرشاد(5).
__________
(1) أي من عند من أرسلك كما تدعيه فأت بها أي فأحضرها حتى تثبت بها رسالتك إن كنت من الصادقين في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة) تفسير ابي السعود(3/258)،وانظر:فتح القدير(2/231)وتفسير ابن كثير(2/237)وتفسير الطبري(9/14).
(2) الأعراف:106].
(3) في ظلال القرآن(3/600).
(4) غافر:29].
(5) انظر: روح المعاني(24/65)وزاد المسير(7/219)وتفسير الجلالين(1/622)وتفسير الطبري(24/59)وتفسير القرطبي(15/310).(1/78)
ومثل ذلك يُقال حين استشار فرعون قومه بشأن موسىعليه السلام بعد أن أحس فرعون بالخطر على عرشه،يقول تعالى حكاية لقول فرعون:’’قال للملأ حوله إنّ هذا لساحر عليم،يريد أن يُخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘(1)،ففي تلك اللحظة يفطنون لشعوبهم،يقول سيد قطب رحمه الله:(وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسّون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم . عندئذ يلينون في القول بعد التجبر ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام . ويتظاهرون بالشورى باللأمر وهم كانوا يستدبون بالهوى : ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثمّ إذا هم هم جبارة مستبدون ظالمون !)(2).فتلك مشورة للمناورة تقتضيها الظروف الصعبة والخطيرة،حتى إذا مرّت العاصفة عادوا كما كانوا.
بسبب الإستبداد كان مطلب موسى عليه السلام إطلاق بني إسرائيل
ولا عجب أن يكون مطلب موسى عليه السلام الأول والأوحد هو إطلاق بني إسرائيل،حيث يقول تعالى حكاية لقوله:’’قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل‘‘(3).(أي أطلقهم من أسرك وقهرك وعذابك ودعهم وعبادة ربهم)(4).فهي-إذن-رسالة مفادها التحرر من الإستبداد الذي كان مسيطرا في ظلّ شخصية فرعون،وهذا هو جوهر رسالتنا الإسلامية،فهي تهدف لتحرير الإنسان في كلّ الأرض من أن يكون عبدا لشهواته ونزواته..أو أن يكون أسيرا لتصورات ومعتقدات باطلة وملوثة،فهي تحرير للإنسان من داخل نفسه،ثمّ إزالة العقبات الخارجية المادية والمعنوية والتي تمنعه من الإنطلاق،وتعطِّل حركته في الحياة.
إنّ النّظام الاستبدادي له عيوب وعورات كثيرة نُجملها بما يلي:
__________
(1) الشعراء:34-35].
(2) في ظلال القرآن(6/205).
(3) الأعراف:105].
(4) تفسير القرطبي(7/256)وانظر: تفسير البغوي(2/195)وزاد المسير(3/237).(1/79)
العيب الأول:أنّ الاستبداد وإكراه النّاس يقتل روح الإبداع في المجتمع،وهو سبب من أسباب تخلف البلاد الإسلامية في هذه الأيام،ومنبع الأزمات التي نعيشها في بلادنا ويعيشها العالم أجمع،فكثير من مظاهر التخلف والتفتت والتأزم ترجع لهذا السبب.كما يرجع إلى الإستبداد الإحتقان في العلاقات بين الحاكم والمحكوم،وانعدام الثقة فيما بينهما.ممّا أدى إلى انتشار الأجهزة البوليسية والمخابرات وغيرها من أجهزة التنصت على النّاس.
العيب الثاني:يكمن في أنّ المستبد حين ينفرد بالرأي،ويمتنع عن الأخذ بالمشورة والرأي الآخر،يصاب بعثرات كثيرة ومطبات متعددة؛ذلك أنّ الإنسان مهما وصل من الذكاء والفطنة والنباهة والعلم يبقى محتاجا للآخرين فهو لا يُحيط بكل شيء علما.وصدق من قال من شاور النّاس شاركهم في عقولهم،كما أنّ المشورة تجعل الآخرين يُحسون بوجودهم،ويتحملون المسؤولية مع الحاكم.وباستثناء النّاس تقل رغبتهم في التضحية من أجل المصلحة العامة،ويصبح سلوكهم سلبيا اتجاهها،كما ينعدم الإحساس بالإنتماء،وهذا ما نلاحظه في سلوك كثير من النّاس حين يُظهرون اللامبالاة،فتنشأ حالة من الخمول والشلل،وتنعدم روح الإبداع والمبادرة.
إنّ(الإستبداد السياسي-الذي نعانيه-ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام،وليس إماتة لشرائع فرعية فيه،بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته..!!فبقاء الكفر في الأرض،والزيغ في شتى الأفئدة،يرجع إلى مسالك أولئك الذين شانوا تاريخنا ولوثوا دعوتنا،وأعزوا من أذل الله وأذلوا من أعز الله.إنّ الإستبداد صنع هذه الأوضاع وحماها،وقبر تحت ترابها الأخوة الإنسانية والدينية فليس ثمّ فرد يرغب ويرهب وآخرون يزدلفون ويرتقبون،ومراسم غريبة لوثنيات سياسية أعقد من الوثنيات التي اختلقتها الجاهليات الأولى)(1).
__________
(1) الغزالي محمد،الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية،ط2،دار نهضة مصر،مصر،2000م.(56-57)مع بعض التصرف.(1/80)
إنّنا نستطيع الانعتاق من النّظم الاستبدادية حين ننعتق من الاستعباد للشهوة والخوف والتقاليد الميتة،وحين نعلو عن حطام الدنيا ونُقبل على الآخرة.ولنا في امرأة فرعون مثال يُحتذى في القدرة على التحرر من أعتى صور الرق!فهي في رغد من العيش والجاه والمنصب..ولكنّها مسترقة في فكرها وعقيدتها..فأبت أن تكون مسترقة بأعظم جزء يُعبِّر عن ماهية الإنسان،وأعلنت إيمانها وتحمَّلت تبعات هذا الإعلان فتحررت.
إنّ الانعتاق من النّظم الاستبدادية وحل مشكلة التفرد بالحكم غاية وهدف،ولتحقيقها في الواقع لا بدّ من مرجعية ثابتة تتمثل بشرع الله،تُقيّد الحاكم والمحكوم حتى لا يبغي أحد على أحد،ولا بدّ من صفات خاصة تُقيدنا في اختيار الخليفة،ولا بدّ من وعي المسلمين لدينهم كي يكونوا أدوات مراقبة وإصلاح وتقويم إن حصل خلل ما؛ذلك أنّ تقويم الحاكم من صفات الأمم الحيَّة.
ثمّ لا بدّ من تعميق مفهوم الشورى وتأصيله كركن أساسي في النّظام السياسي،وجعل الشورى ثقافة شاملة لحياة المسلمين في جميع أشكالها في الأسرة والمدرسة والشارع..ذلك أنّ التنشأة الإسلامية على الشورى تمنعنا من أن نكون مستبدين إن نحن تسلمنا مقاليد الحكم؛ذلك أنّ العيش تحت الاستبداد لفترات طويلة تُنتج آثارا نفسية خطيرة حين تحمل الجماهير فكرة الاستبداد،فكم من مخاصم للمستبد صار مستبدا حينما صار هو في سدة الحكم! وهذا ما يُرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول امرأة فرعون:’’ونجني من فرعون وعمله‘‘(1)،أي من كفره وظلمه وعذابه(2)،فهي لم تطلب النّجاة من فرعون وحسب،بل وطلبت النّجاة من عمله،فقد ينجو المسلم من الظلمة ولكنّه قد لا ينجو من الظلم،فيصير ظالما كما فعل الظالمون ومستبدا كما كان المستبدون.
__________
(1) التحريم:11].
(2) انظر:تفسير القرطبي(18/203).(1/81)
وللوقاية من الاستبداد لا بدّ من إيجاد مؤسسات تحمي الدولة من التسلط إن حدث،ولمنع الانحراف من الحاكم والمحكوم سواء،ثمّ لا بدّ من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر-كما فعل مؤمن آل فرعون حين أمر ونهى-بعدِّه واجبا على الأمّة وحقا لها،وليس لأحد أن يمنعها من ممارسة هذا الحق،وفي المقابل لا يجوز للأمة أن تُقَصِّرَ بالقيام بهذا الواجب؛ذلك أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وسيلة الأمّة لحماية مؤسساتها وبناءها الحضاري،فإذا حصل ووقع استبداد بنسبة معينة-كما حدث ببعض الفترات في تاريخنا الإسلامي-فإنّما يرجع هذا إلى عدم تطبيق الإسلام بالصورة المثالية الواعية التي طُبق فيها في العصور المزدهرة وخاصة عصر الخلافة الراشدة.
وقد يتصور بعض النّاس أنّ الحل يكمن في نقل النموذج الغربي لإنهاء الاستبداد السياسي في بلاد العرب والمسلمين،وذلك وَهْمٌ لسببين اثنين:الأول:أنّ الحرية الغربية حرية شكلية تُعطَى للنّاس ظاهرا ويملكها على وجه الحقيقة أصحاب رؤوس الأموال،فهم الذين بما يمتلكون من أموال وعبر وسائل الإعلام التي يمتلكونها يُشكلون القانون المُتَفِق مع مصالحهم..الثاني:أنّ النّموذج الغربي للحرية والديمقراطية أنتج ما نُسمّيه تسلط الدولة،فالإستبداد سلوك قد يقوم به الفرد أو الجماعة أو الدولة؛فالدول الغنية تتسلط على الفقيرة،والقوية تتسلط على الضعيفة.فهي دول استبدادية في سياستها الداخلية والخارجية.
المبحث السابع
الوهم والغرور(1/82)
الوهم: (من خطرات القلب والجمع أوهام،وللقلب وهم.وتوهّم الشيء تخيله وتمثله كان في الوجود أو لم يكن)(1).و(الغرور بالضم:ما اغتر به من متاع الدنيا.وفي التنزيل العزيز:’’فلا تغرنّكم الحياة الدنيا‘‘(2)، يقول: لا تغرنكم الدنيا،فإن كان لكم حظ فيها ينقص من دينكم فلا تؤثروا ذلك الحظ،ولا يغرنّكم بالله الغرور)(3)،فالغرور(سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع،وعبر عنه بعضهم بأنه كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشيطان)(4)،و(المغرور:من خدعه وأطمعه الباطل)(5).
فالمغرور-على هدي هذا التعريف-مخدوع دخل الوهم عليه،واغتر بما لديه وخدعه زخرف الدنيا أو الجاه أو السلطة أو القوة،وتخيّل ما هو عكس الحقيقة والواقع،فالغرور نوع من الوهم والتخيّل في المحصلة.ولذلك سُمّي متاع الدنيا بمتاع الغرور لأنّه يخدع من ركن إليها،وهناك من تعجبه الدنيا بمتاعها حتى يعتقد أن لا دار سواها ولا معاد وراءها وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة(6).
__________
(1) لسان العرب،مادة:وهم(12/643)وانظر:كتاب العين،مادة:وهم(4/100)والمصباح المنير،مادة:وهم(2/674).
(2) لقمان:32].
(3) لسان العرب،مادة:غرر(5/12). وفي مختار الصحاح(اغتر الرجل واغتر بالشيء خدع به و الغرر بفتحتين الخطر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهو مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء،والغرور بالفتح الشيطان ومنه قوله تعالى ولا يغرنكم بالله الغرور،والغرور أيضا ما يتغرغر به من الأدوية،والغرور بالضم ما اغتر به من متاع الدنيا)مختار الصحاح،مادة:غرر(197).
(4) التعاريف(1/537).
(5) لسان العرب،مادة غرر(5/11).
(6) انظر:تفسير ابن كثير(4/314).(1/83)
إنّ شخصية فرعون-على ضوء تلك المعاني التي أوردناها في التعريف-شخصية واهمة مغرورة يرى نفسه فوق النّاس،وأوضح دليل على وهمه وغروره ادعاؤه للألوهية والربوبية؛ذلك أنّ تمام الصحة وسلامة البدن،وكثرة الجند ودعم القوم والآل ومؤازرة الملأ،وسعة الملك وطول المكث في الحكم والتحكم،مع ما أوتي من متاع الدنيا وزخرفها،وانتشار السحر والشعوذة وفساد التصورات السائدة والاساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة(1)…مع ما استقر في نفسه من الإعجاب المفرط بالذات والشهوة الجامحة في الحكم والتحكم والقابلية للإنحراف…كلّ ذلك تهيأ لفرعون فطوّعت له نفسه قول كلمة الكفر.فالوهم والغرور جعل رؤيته للأحداث وتفسيره للظروف سببا في اجترائه على تلك الفرية.وكم من النّاس من غرّه إقبال الحياة عليه،وتوّهم دوام الحال.
__________
(1) انظر:في ظلال القرآن(6/349).(1/84)
وقد دلّ القرآن على وهم فرعون وغروره في أكثر من موضع،مع أنّ القرآن لم ينص على ذلك صراحة ولكنّه أمر يعرف بالنّظر في الكتاب العزيز.وشواهدنا على ذلك كثيرة:منهاقوله تعالى -حكاية لقول فرعون حين أعلن السحرة إيمانهم بموسى عليه السلام-:’’قال آمنتم به قبل أن آذن لكم‘‘(1).وفي آية أخرى’’قال آمنتم له(2) قبل أن آذن لكم‘‘(3).فمن وهمه وغروره ظنّ أنّ قلوب الناس بيده يملك حتى إيمانهم،بل ويصل به الوهم والغرور أن يبدي تعجبا وإنكارا وتوبيخا’’آمنتم به قبل أن آذن لكم‘‘،(أي صدقتموه قبل أن آذن لكم في الإيمان،فتعديتم وفعلتم ما لم آمركم به،وكان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ولا تفتاتوا على ذلك،فإن أذنت لكم فعلتم،وإن منعتكم امتنعتم(4)،فإنّي أنا الحاكم المطاع) (5)،فأيّ وهم وغرور غرق به فرعون إلى درجة يتصور معها أنّه يملك قلوب النّاس!
__________
(1) الأعراف:123].
(2) قوله:قال آمنتم له.يقال:آمن له وآمن به،فمن الأول قوله:’’فآمن له لوط‘‘[العنكبوت:26].ومن الثاني قوله فى الأعراف:’’آمنتم به قبل أن آذن لكم‘‘[الأعراف:123].وقيل:إن الفعل هنا متضمن معنى الإتباع.وقرئ على الاستفهام التوبيخي،أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك) فتح القدير(3/376).
(3) طه:71].
(4) و(ليس معنى كلامه –لعنه الله-أنه ربما سيأذن لهم، ولكنّ معنى خطابه كما في قوله تعالى: ( لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي)[الكهف:109].لا أن الإذن منه ممكن أو متوقع).تفسير أبي السعود(6/243)،وانظر:روح المعاني(9/27).
(5) انظر:تفسير البيضاوي(4/61)وتفسير القرطبي(7/260)،(11/224)وتفسير ابن كثير(3/159،336)وتفسير الطبري (9/23)وتفسير أبي السعود(6/29).(1/85)
وربّما تصور فرعون–نتيجة وهمه وغروره-أنّه بمجرد توجيهه هذا التوبيخ والإنكار المغلف بالتهديد والوعيد للسحرة أن يتراجعوا عن إيمانهم بل ويطلبوا منه العفو على ما فرط منهم،ولكنّهم أصروا على موقفهم،وأظهروا استعدادا للتضحية بأرواحهم في سبيل إيمانهم.وكان هذا كافيا لإخراج فرعون من وهمه وغروره،لولا أنّه وصل مرحلة من الوهم والغرور لم يعد قادرا معها على رؤية الحقائق مهما سطعت.
وهذه زوجته التي عاشت حياة الترف والقصور..ها هي تفاجىء فرعون بإيمانها،لعله يستيقظ من وهمه أو يترك غروره،يقول تعالى:’’وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين‘‘(1)،ومع هذا لم يتيّقظ ولم ينتبه،ممّا يدلّ على حالة مغرقة بالوهم والغرور.
وتظهر شخصية فرعون الواهمة المغرورة في قوله:’’وما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد(2)‘‘(3)،أي ما أشير عليكم إلا بما أراه صوابا،وما أعلمكم إلا ما علمت من الهدى والرشاد(4)،فهو يتصور –وهما وغرورا-أن كلّ ما يقوله ويفعله صوابا لا شبهة فيه ولا ريبة،وهي ذات المعاني التي يروّجها المغرورون من الحكّام،فكلّ ما يفعلونه حكمة بالغة ومصلحة سابغة!بينما نلاحظ انتشار الفقر والمرض والجوع والمحسوبية والرشوة والتّأخر العلمي والاقتصادي…ومع هذا فإنّ الزعيم يهدي ولا يُضلّ!
__________
(1) التحريم:11].
(2) الرشاد: ضد الغي تقول رشد يرشد مثل قعد يقعد رشدا بضم الراء وفيه لغة أخرى من باب طرب و أرشده الله والطريق الأرشد مثل الأقصد)مختار الصحاح،مادة:رشد(103).(و الضلال ضد الرشاد)مختار الصحاح،مادة:ضلّ(160).
(3) غافر:29].
(4) انظر:تفسير الطبري(24/59).(1/86)
وهذا عكس الحقيقة التي قررها القرآن عن فرعون حيث يقول تعالى:’’وأضل فرعون قومه وما هدى‘‘(1).فبينما يخيّل إليه -وهما وغرورا-أنّ ما يراه هو الصواب والصلاح والرّشاد يقرر القرآن أنّه ضال ومضل،وأنّه سفيه(2)سخيف الرأي لم يرشدهم إلى نفع أو خير.
ويظهر وهمه وغروره في أسلوب ردّه على معجزات موسى عليه السّلام،حيث يقول:’’فلنأتينّك بسحر مثله‘‘(3)،أي(لنعارضنّك بمثل ما جئت به من السحر،حتى يتبيّن للنّاس أنّ الذى جئت به سحر يقدر على مثله الساحر)(4)،( وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا،واعتقد من اعتقد منهم وأوهم من أوهم أن ماجاء موسى به عليه السلام من قبيل ما ما يأتونه من سحرهم،فلهذا جمعوا له السحرة يعارضوه بنظير ما أراهم من البينات)(5)،ولم يكن هذا إلا بأمر الموهوم المغرور الذي وصل به الوهم حدا لم يعد قادرا فيه على إبصار أعظم الحقائق وأجلاها وأبينها،وهي المعجزات التي أُيّد بها موسى عليه السلام.
__________
(1) طه:39].
(2) السفه الجهل بلغة كنانة ثم يكون لكل شيء، يقال للكافر سفيه، لقوله’’سيقول السفهاء من الناس‘‘[البقرة:142]يعني اليهود.والجاهل سفيه، لقوله’’فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا‘‘[البقرة:282]…السفيه الجاهل والضعيف الأحمق…وقيل السفه في اللغة الخفة)التبيان قي تفسير غريب القرآن(1/58).
(3) طه:58].
(4) فتح القدير(3/370)وتفسير النسفي(3/58).
(5) تفسير ابن كثير(2/237)مع بعض التصرف.(1/87)
وهكذا قاده غروره ووهمه إلى تلك المعارضة التي فضحت أمره وكشفت زيغه،(فإذا كان كل ما يقدمه موسى نوع من أنواع السحر فما أسهل الرد عليه،وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إنّما تخفي ورائها هدفا من أهداف هذه الأرض،وأنّها ليست سوى ستار للملك والحكم..ثّم هم يرون مع أصحاب الدعوات آيات،إمّا خارقة كآيات موسى،وإمّا مؤثرة في النّاس تأخذ طريقها إلى قلوبهم وإن لم تكن من الخوارق.فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهريا..سحر نأتي بسحر مثله !)(1)،فهذا هو الوهم الذي يغرق فيه فرعون وأمثاله.
__________
(1) في ظلال القرآن(5/480).(1/88)
ومما يدل على غرور فرعون ووهمه تلك اللامبالاة التي أظهرها في قوله لموسى عليه السّلام:’’فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوىً(1)‘‘(2).أي(فاجعل بيننا وبينك موعدا أي وعدا،كما يُنبّئُ عنه وصفه بقوله تعالى:’’لا نخلفه‘‘فإنه المناسب للمكان والزمان،أي لا نخلف ذلك الوعد نحن ولا أنت،وإنّما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه الصلاة والسلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال وإظهار الجلادة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر،كما أنّ تقديم ضميره على ضمير موسى عليه الصلاة والسلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلاف)(3)،وهو بهذا مخدوع بما لديه من أسباب القوة والمنعة والأعوان حتى خيّل إليه أنّه قادر على إخفاء الحقيقة وطمسها.
__________
(1) واختلفوا فى قوله تعالى: ( مكانا سوى) فى ضم السين وكسرها، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائى (مكانا سوى) كسرا، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة سوى بضم السين)كتاب السبعة في القراءات(1/418)،(فالحجة لمن ضم أنه أراد مكانا مساويا بيننا وبينك والحجة لمن كسر أنه أراد مكانا مستويا أي لا مانع فيه من النظر وقيل هما لغتان فصيحتان)الحجة في القراءات السبع(1/241)،(قال الفراء وأكثر كلام العرب بالفتح إذا كان في معنى نصف وعدل فتحوه ومدوه والكسر والضم مع القصر عربيان، وقد قرىء بهما. قال الليث تصغير سواء الممدود سوي .وقال أبو إسحق: مكانا سوى، ويقرأ بالضم ومعناه منصفا أي مكانا يكون للنصف فيما بيننا وبينك وقد جاء في اللغة سواء بهذا المعنى)لسان العرب،مادة:سوا(14/413).وانظر:مختار الصحاح،مادة:سوا(1/136).
(2) طه:58].
(3) تفسير أبي السعود(6/24)وانظر:روح المعاني(16/216،217).(1/89)
وقوله:’’مكانا سوى‘‘، أي( مكانا مستويا من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض،ومراده مكانا يتبين الواقفون فيه ولا يكون ما يستر أحدا منهم،ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة،وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه )(1)،فكانت كل هذه الترتيبات وبالا عليه،حيث كشفت الحقيقة- التي طالما اجتهد موسى عليه السلام لإظهارها وإبرازها للنّاس-كشفا هائلا وبشكل لايدع مجالا لأيّ شك أو ريب،فكان فرعون بغروره ووهمه أن فعل ما يخدم قضية موسى عليه السلام خدمة جليلة كبيرة ربما لم تكن حتى في حساب موسى عليه السلام نفسه.
ومن دلائل وهم فرعون وغروره قوله للسحرة حين آمنوا:’’ولتعلمنّ أيّنا أشد عذابا وأبقى‘‘(2)،والمعنى(ولتعلمنّ أينا يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله:آمنتم له قبل أن آذن لكم،واللام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى،وهذا إمّا لقصد توضيع موسى عليه الصلاة والسلام والهزء به لأنّه لم يكن من التعذيب في شيء،وإمّا لإراءة أن إيمانهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبل موسى عليه الصلاة والسلام،حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا.وقيل:يريد به رب موسى الذي آمنوا به بقولهم:آمنا برب هارون وموسى )(3).وعلى كلا الوجهين فإنّ هذا الموقف المتشدد والمتشنج من فرعون وتهديده للسحرة بهذه الصيغة-بعد رؤيته للمعجزات وما جرى من إيمان السحرة-لأكبر دليل على غروره،فالقوة الظاهرة بين يديه من الجند والملأ والقوم أوهمته بالقدرة والاستطاعة وعمته عن إدراك الحقائق الكبرى التي جرت بين يديه.
__________
(1) قال الألوسي: ( وهذا المعنى عندى حسن جدا واليه ذهب جماعة)روح المعاني(16/217)،وانظر:تفسير الطبري(16/176).
(2) طه:71].
(3) تفسير أبي السعود(6/29)وانظر: تفسير ابن كثير(3/160)وتفسير الطبري(16/189)وتفسير الثعالبي(3/33).(1/90)
وها هو المغرور الموهوم ينادي في قومه-وقد غرّه زخرف الحياة الدنيا وبهارجها:’’ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين‘‘(1).يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وعناده أنّه جمع قومه فنادى بنفسه أو بمناديه في قومه في مجمعهم أو فيما بينهم- بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم- متبجحا مفتخرا مغرورا بملك مصر وتصرّفه فيها أليس لي ملك مصر لا ينازعني فيه أحد ولا يخالفني فيه مخالف، وهذه الأنهار تجري من تحتي،أنهار النيل وفروعه وهي تجري من تحت قصري أو بين يدي في جناني. أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك،ومايظنّ فرعون أن تبيد هذه أبدا…مفتخرا مغرورا بما ملك،وما قد مكّن له من الدنيا استدراجا من الله له. وحسِب-وهما منه- أن الذي هو فيه من ذلك ناله بيده وحول منه وقوة،وأنّ موسى إنما لم يصل إلى الذي يصفه،فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة،وهذا أشدّ الوهم من فرعون،إذ خيّل إليه أن ما قاله حجة وهو ليس بذلك،ثمّ احتج بتلك الأوهام على جهلة قومه-مخادعا لهم- بأنّ موسى عليه السلام لو كان محقا فيما يأتي به من الآيات والعبر ولم يكن ذلك سحرا لأكسب نفسه من الملك والنعمة مثل الذي هو فيه من ذلك،وفي هذا دلالة على جهله ووهمه (2).
ويتمادى فرعون في غروره حيث عدَّ نفسه خيرا من موسى عليه السلام الذي وصفه بالحقير؛’’أم أنا خير من هذا الذي هو مهين‘‘(3)،فتوهم-لعنه الله-أنّ الملك والمال والسلطان دليل على أنّه خير من موسى الذي كان صفر اليدين من هذا كله.
الوهم والغرور يُؤديان إلى كثرة العثرات ويمنعان من رؤية الحقيقة
__________
(1) الزخرف:51-52].
(2) انظر:تفسير ابن كثير(4/130،131)وتفسير القرطبي(16/99)وتفسير الطبري(25/81،82)وتفسير البغوي(4/142)وفتح القدير(4/559).
(3) الزخرف:52].(1/91)
إنّ الكثير من العثرات والإخفاقات التي أُصيب بها فرعون كانت نتيجة وهمه وغروره،فبينما هو يعيش في وهمه وغروره تصدمه الحقيقة،وهذا ما نفسر به بعض الإخفاقات التي يُصاب بها الطواغيت،والتي كان بإمكانه تلافيها وعدم الوقوع بها،ممّا يصبغ حكم الطاغوت بالحماقة والتهور أحيانا،ويرجع ذلك إلى غياب القدرة على فهم وإدراك الحقيقة،فالغرور جعل على قلب الطاغوت غشاوة،وجعله من الأخسرين أعمالا الذين ضاع سعيهم وخاب ظنّهم،’’وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‘‘(1)،أي(يحسبون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق،وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها)(2).
إنّ المغرور لم يدرك غاية خلقه وليس عنده أدنى فهم لمعنى الحياة الدنيا،فهي دار لا يدوم نعيمها؛فإمّا أن تزول النعمة لأسباب كثيرة،وإمّا أن يزول عنها صاحبها بموته.فتلك حقيقة لا يمارى فيها.فطول الأمل غرور وجهل؛فمن طال أمله خدعته الدنيا،كمن قال:’’وما أظنّ الساعة قائمة‘‘(3)،فدلّ قوله على جهله لمعنى الدنيا وجوهرها لأنّه قدَّم الفاني على الباقي.وصدق الله حيث يقول:’’والآخرة خير وأبقى‘‘(4).
والمغرور مشغول بما ليس منه فائدة ولا خير،كالساعي وراء السراب يظنّه ماءا،حتى إذا جاءه لم يجده شيئا؛ذلك أنّ الغرور يمنع من إدراك الحقائق،وممّا يزيد من البلاء وجود بطانة تُزيّن للطاغوت أعماله وأفعاله،فتجتمع العوامل الداخلية في ذات الطاغوت مع العوامل الخارجية،فتنعدم الإشارات المنبهة للطاغوت،فيعيش بوهم كامل.وهذا ما نشاهده في زماننا،حين تلتف حول الحاكم بطانة سيئة وظيفتها مدح الطاغوت وتبرئته من الزلل،فينشأ-مع ما في داخله من غرور-العمى؛فلا يعود يرى الحقائق مهما سطعت!
__________
(1) الكهف:104].
(2) تفسير أبي السعود(5/249).
(3) الكهف:36].
(4) الأعلى:17].(1/92)
إنّ حديثنا عن الوهم والغرور عند الطاغوت لا يعني أنّه منفرد بهذا المرض،فهناك من يُصابون به،بل قد لا يخلو إنسان-إلاّ من رحم ربي وقليل ما هم-من نسبة معينة من مرض الوهم والغرور.والعلاج الأوحد لذلك المرض هو معرفة الحقيقة ثمّ الانصياع لها باسشرافها وتأملها حتى تتحول من مجرد أفكار ميتة إلى مشاعر ووجدان يعيش الإنسان به.ولكي ندرك الحقيقة لا بدّ من العودة إلى القرآن وسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛فالدّين الحق يحرر الإنسان من الخرافات والأوهام.
المبحث الثامن
الإسراف
الإسراف لغة من (سرف: والسرف الإسراف مجاوزة القصد،وأسرف في ماله عجل من غير قصد،وأما السّرف الذي نهى الله عنه فهو ما أنفق في غير طاعة الله قليلا كان أو كثيرا،والإسراف في النفقة التبذير)(1).وقالوا:الإسراف(إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس وتجاوز الحد في النفقة،وقيل:أن يأكل الرجل ما لا يحل له،أو يأكل مما يحل له متجاوزا حدّ الاعتدال ومقدار الحاجة.وقيل:الإسراف تجاوز في الكمية،فهو جهل بمقادير الحقوق،وصرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي بخلاف التبذير)(2).
والإسراف في اصطلاح المفسرين(الإفراط في الشيء،يقال:أسرف فلان في هذا الأمر إذا تجاوز مقداره فأفرط)(3)،(وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح،وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير،غير أنّه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال:أسرف يسرف إسرافا،وإذا كان كذلك في التقصير فالكلام منه سرف يسرف سرفا،يقال:مررت بكم فسرفتكم،يراد منه فسهوت عنكم وأخطأتكم)(4).
__________
(1) لسان العرب،مادة:سرف(9/148).وفي مختار الصحاح:) الإسراف من الفعل سرف،والسّرف بفتحتين ضد القصد والسرف أيضا الضراوة… وقيل هو من الإسراف،و الإسراف في النفقة التبذير).مختار الصحاح،مادة:سرف(125).
(2) التعاريف(1/38).
(3) تفسير الطبري(4/120).
(4) تفسير الطبري(4/254)،وانظر:روح المعاني(4/207).(1/93)
وقبل أن نورد الأدلة على إسراف فرعون لا بدّ من الإشارة أن هناك فروقا بين الطغيان والإسراف اللذين تميّزت بهما شخصية فرعون.فالطغيان مجاوزة الحدّ في العصيان،بينما الإسراف تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح(1).ثمّ إنّ الطغيان ليس مجرد ارتكاب للجريمة والمعصية بل المبالغة فيها،فالقتل معصية والتّقتيل طغيان في القتل،بينما الإسراف هو الإستكثار من المعاصي،فليس هو يقتل فحسب إنّما يتعدى ذلك إلى معاص عديدة أخرى،كالإذلال وأخذ أموال النّاس بالباطل وغيرها من المعاصي(2).ثمّ إنّ الإسراف قد يكون في الإفراط والتفريط،بينما لا يكون الطغيان إلاّ في الإفراط،وكأنّ الطغيان نمو رأسيّ في المعصية،بينما الإسراف نمو أفقي في المعاصي تنويعا وتكرارا.
__________
(1) كما هو الحال عند قوم لوط عليه السّلام حيث نعتهم الحق جلّ شأنه بالإسراف:(لنرسل عليه حجارة من طين،مسومة عند ربك للمسرفين)[الذاريات:33-34]،وذلك لأنّهم تجاوزوا المباح من النّساء إلى ما لم يبح من الرجال،وذلك بيّن في قوله تعالى: (إنّكم لتأتون الرجال شهوة من دون النّساء بل أنتم قوم مسرفون)[الأعراف:81]،إذ يريقون طاقتهم في غير موضع الإخصاب،فهو تفريط منهم بهذه الطاقة.
(2) انظر:لسان العرب،مادة:طغى(15/7-8-9-10)ومختار الصحاح،مادة:طغى(165).(1/94)
بعد هذا فإنّ الأدلة على أنّ الإسراف من خصائص شخصية فرعون-لعنه الله-كثيرة وبيّنة في كتاب الله جلّ شأنه، يقول سبحانه وتعالى:’’وإنّ فرعون لعال في الأرض وإنّه لمن المسرفين‘‘(1).ويقول سبحانه حكاية لقول مؤمن آل فرعون:’’لا جرم أنّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأنّ مردنا إلى الله وأنّ المسرفين(2) هم أصحاب النار‘‘(3). ويقول سبحانه:’’كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب‘‘(4). ويقول تعالى:’’إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب‘‘(5). ويقول سبحانه:’’ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين،من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين‘‘(6).
لقد كان فرعون-بنص القرآن الكريم-من المسرفين(في الكبر والعتو واسترقاق أسباط الأنبياء)(7)،(وتجاوز الحق إلى الباطل وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به وجحوده وحدانية الله وادعاؤه لنفسه الألوهية وسفكه الدماء بغير حق)(8)،(بالقتل والصلب وتنويع العقوبات)(9)،فهو من(المستكثرين من معاصى الله)(10).
فالإسراف الذي هو من خصائص شخصية فرعون-يقينا لا ريب فيه-معناه الإستكثار من المعاصي،حيث شهد واقع فرعون على هذا المعنى،فتعددت معاصيه وتنوعت جرائمه حتى شملت كل حركة له في هذه الدنيا،فليس هناك معصية إلا ولفرعون كفل منها،فرّبما وُجد في حياة العاصي بعض المساحات تدلّ على بعض الخير،فَقِلَّةٌ هم الذين تُظْلِمُ كلّ مساحة الحياة عندهم،كما أظلمت حياة فرعون بالمعاصي،ودلّ على هذه الظلمة أمران:
__________
(1) يونس:83].
(2) يعني فرعون ومن معه.انظر:تفسير الطبري(24/69).
(3) غافر:43].
(4) غافر:34].
(5) غافر:28].
(6) الدخان:30-31].
(7) تفسيرالبيضاوي(3/ 211)مع بعض التصرف.وانظر:القرطبي(8/370)وتفسير أبي السعود(4/171).
(8) تفسير الطبري(11/151).
(9) فتح القدير(2/466).
(10) فتح القدير(4/494).(1/95)
الأول:لا توجد في القرآن آية أو إشارة تدلّ على مثقال حبة من إيمان عند فرعون،وأمّا ما قاله فرعون عند غرقه وإعلانه الإيمان فقد حصل في ساعة لا تقبل فيها التوبة،فلا تُحسب له عند الله،بل إنّ النّص القرآني يؤكد أنّ فرعون ملعون في الدنيا والآخرة،يقول تعالى:’’وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‘‘(1)،فحياته لعنة مستمرة عليه،وظلام دامس لا يخالطه بصيص من نور.
الثاني:ما قصه القرآن علينا من حياة فرعون يدلّ على حقيقة استكثاره من المعاصي،فليس هناك ذكر لفرعون في القرآن إلاّ وهو مرتبط ومقترن بذكر معصية أو جريمة،فهو كافر بدعواه للألوهية والربوبية وباعتقاده أنّه لا يرجع إلى الله.ولم يكتف بالكفر وحده بل دعا النّاس إليه،وصد عن سبيل الله كثيرا…وهو متكبر يتّرفع عن عبادة الله،ويرى نفسه فوق الناس حيث يحتقرهم ويزدريهم…ومستكبر يرفض الحق بعد تبيّنه،فامتنع عن قبول الحق بعد العديد من الآيات التي بعث الله بها موسى،فإنّ كثرة الآيات وقوتها وتراخيها لفترات طويلة وتكرار بعضها كالعصا يدلّ على قوة الحجة والبرهان الذي قام على فرعون،فكان استكباره بعد ذلك إسرافا في الإستكبار…وهو متجبر طاغ يبطش بقلب لا رحمة فيه،ينشر الخوف والرعب والقتل وسفك الدماء مرة بعد مرة…وهو يقهر النّاس بالصلب والسجن والإرهاب بكل صوره وألوانه،ويعتدي على الأعراض ويستحيي النّساء لإذلالهم،ويأخذ الأموال بالباطل،وينشر الفرقة بين النّاس فيتحاسدون ويتباغضون ويحقدون وتمتلؤ قلوبهم وعقولهم بمعاني الكراهية والتباعد والتدابر،ويفسد عقول النّاس بالسحر والشعوذة والكذب والتضليل… وهكذا كان فرعون مسرفا مستكثرا من المعاصي في مختلف شؤون الحياة.
__________
(1) القصص:42].(1/96)
هناك معصية وهناك إسراف في المعصية،فإذا كانت المعصية دلالة على الضعف البشري فإنّ الاستكثار منها يدل على موت الروح الإنسانية.قد تكون المعصية مفسرة-ولا أقول مبررة لأنّ المعصية لا تبرر-كمعصية الزنا بوجود التجاذب بين الجنسين..بينما اللواط إسراف في المعصية لأنّه معصية غير مفسرة،ولهذا كانت عقوبة قوم لوط قاسية،حيث أرسل الله عليهم حجارة من طين’’مسومة عند ربك للمسرفين‘‘(1)،وقلب بهم الأرض فجعل عاليها سافلها.والمعنى أنّ الإسراف في المعاصي حالة هستيرية يُصاب بها الطواغيت ولا نجد لها تفسيرا.
وقد تكون المعصية إشباعا لرغبة أو شهوة أو غريزة بهيمية بطريق حرام،بينما يكون الإسراف لمجرد الإنتقام وتفريغ الأحقاد،فيصل المسرف حد التمتع بآلام الآخرين،والارتياح لعذاباتهم.فالفرق واضح بين من يسرق متاعا أو مالا وبين من يُتلفه انتقاما وحقدا،فالأولى جريمة ومعصية،والثانية إسراف في الجريمة والمعصية.
ولهذا ربط التصور الإسلامي بين الإسراف وبين عدم حب الله وبغضه لصاحبه،يقول تعالى:’’ولاتسرفوا إنّه لا يحب المسرفين‘‘(2)(بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم،والجملة في موضع التعليل للنهي)(3)؛ذلك أنّ الإسراف فساد لا صلاح فيه،يقول تعالى:’’ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون‘‘(4)،فالمسرفون(يفسدون فىالأرض بالظلم والكفر،ولا يصلحون بالإيمان والعدل.والمعنى أنّ فسادهم مصمت(5) ليس معه شىء من الصلاح كما تكون حال بعض المفسدين)(6).
المبحث التاسع
المكر
__________
(1) الذاريات:34].
(2) الأعراف:31].
(3) روح المعاني(8/111).
(4) الشعراء:151-152].
(5) 304(يقال للرجل إذا اعتقل لسانه فلم يتكلم أصمت فهو مُصْمِت..ويوم أصمت العليل فهو مصمت إذا اعتقل لسانه)لسان العرب،مادة:صمت(2/54)والمعنى أنّه لا يصدر عنهم خير.
(6) تفسير النسفي(3/194).(1/97)
والمكر لغة: (احتيال في خفية… والمكر الخديعة والاحتيال)(1).وفي التفسير:المكر(التدبير للأمر في خفية)(2)،وهو(حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة)(3)،و(كل فعل قصد فاعله في باطنه غير ما يقتضيه ظاهره فهو مكر)(4).و(المكر من جانب الحق ترادف النعم مع المخالفة،ومن جانب العبد إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر،وعرّفه بعضهم:بأنّه صرف الغير عما يقصده بحيلة،وذلك ضربان:محمود وهو أن يتحرى به فعلا جميلا،ومذموم وهو أن يتحرى به فعلا قبيحا)(5).
والمكر-بمعناه المذموم-ملازم لشخصية فرعون كالظّل،وبيان ذلك أنّ شخصية فرعون تقوم في أساسها ومنبعها على أكبر فرية وهي دعوى الألوهية والربوبية،ولذلك فهي شخصية تحتاج حتما إلى احتيال وخديعة وتزوير لتسويق أكذوبتها وباطلها،وهو ذات المنهج الذي يحتاجه القائمون على الباطل لإخفاء حقيقتهم،فهم يَخْشَوْنَ انكشاف الحقائق أمام الجماهير،ولهذا كان المكر قناعا تستتر وراءه شخصية فرعون.
__________
(1) لسان العرب،مادة:مكر(5/183).وفي مختار الصحاح(المكر الاحتيال والخديعة)مختار الصحاح،مادة:مكر(263)وانظر:القاموس المحيط،مادة:المكر(1/614).
(2) تفسير القرطبي(7/397).
(3) تفسير البيضاوي(2/44). أمّا المكر من الله كما في قوله تعالى:’ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‘[الأنفال:30]إنّما هو بمعنى جزاء مكرهم،فهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني.وانظر:تفسير القرطبي(1/208)وَ(10/202).وإنّما وقع هذا(لأنّه بحذائه وجواب له،فهو لفظ خرج على مثال لفظ،والعرب تفعل ذلك إذا جعلوه جوابا له أو جزاء ذكروه مثل لفظه،وإن كان مخالفا له في المعنى) الزرقاني:محمد بن عبد الباقي بن يوسف،(ت1122هـ)،شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك،4:أجزاء،ط:1،دار الكتب العلمية،بيروت،1411هـ.(1/348)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(شرح الزرقاني).
(4) فيض القدير(6/276)مع بعض التصرف.
(5) التعاريف(1/673)مع بعض التصرف.(1/98)
لقد جعل فرعون النّاس شيعا،كتدبير لا بد منه لنظام يقوم على الكذب والظلم والطغيان…ولا عجب أن يكون فرعون وصوليّا،الغاية عنده تبرر الوسيلة،فالمكر السيء الخبيث وسيلة متناسبة مع الغايات الخسيسة التي يسعى لتحقيقها فرعون ومن ماثله،يقول تعالى:’’إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم‘‘(1).أي جعلهم فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد،ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه،أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته،أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل ويسخره فيه من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة،ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها،أو فرقا مختلفة يُكرم طائفة ويُهين أخرى،فأكرم القبطي وأهان الإسرائيلي،قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم،فاستضعف طائفة منهم أي يجعلهم ضعفاء مقهورين وهم بنو إسرائيل (2).
وهذا من باب سياسة فرق تسد،وقد أتقنها فرعون لتسهّل عليه مهمة السيطرة على الناس؛فالفئة المستفيدة من هذه التفرقة ستدافع عن النظام القائم لأنها إنما تدافع عن مصالحها وامتيازاتها التي كسبتها من هذه التفرقة،وبهذا يضمن قِسما من الناس يؤيّده مهما كانت سياسته،ما دام هؤلاء مستفيدين من الوضع الذي خططت له الطغمة الحاكمة بشخص فرعون.
__________
(1) القصص:4].
(2) انظر:تفسير الواحدي(2/812)وتفسير البغوي(3/434)وتفسير الصنعاني(3/87)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(1/54)وزاد المسير(6/201)وتفسير النسفي(3/226).(1/99)
ومن المكر والاحتيال صرف نظر الجماهير كي لا ترى الحقيقة التي يخشاها فرعون ومن شاكله سعيا منهم لتزوير الحقيقة وقلب الموازين،ولهذا نادى فرعون في قومه و’’قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون،أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين‘‘(1).إنّه ينادي قوما تعودوا التعلق بالحياة الدنيا وزخارفها،لا يتطلعون إلاّ إلى الأرض.إنّه يلفت أنظارهم إلى ما تعلقت به قلوبهم وامتلأت به عقولهم،ويقدّم لهم المغريات.
وفي تلك اللحظة التي بهر بها أبصارهم-فلم يعودوا يروا غير المال والثروة،ولسان حالهم يقول فيها يا ليتنا نحظى بالقرب من السلطان-ينفث فرعون في روعهم مراده:’’فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين‘‘(2)،(فأوهم قومه أنّ رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في الشاهد،ولم يعلم أنّ رسل الله إنّما أُيّدوا بالجنود السماوية،وكلّ عاقل يعلم أنّ حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه،وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونوا معه أعوانا، أو دليلا على صدقه،وليس يلزم هذا لأنّ الإعجاز كاف،وقد كان من الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما كذب مع ظهور الآيات،وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى لأنّه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم)(3).ولكنّها الخديعة التي انطلت عليهم من متمرس في المكر والاحتيال.
__________
(1) الزخرف:51-52].
(2) الزخرف:53].
(3) تفسير القرطبي(16/100-101).(1/100)
ويمكننا أن نرى المكر الذي تميزت به شخصية فرعون من خلال حواره مع موسى عليه السلام عندما بلّغه رسالة الله،فكان ردّ فرعون خبيثا مراوغا يريد تحويل الحوار عن مجراه،فبدلا من مجابهة الحجة والبرهان عدل إلى ما ظنّه احتقار وازدراء لموسى،’’قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين،وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين‘‘(1).قال هذا على جهة المنّ عليه والاحتقار(2)،فهو المكر الذي يخفي الحقائق،ذلك أنّ موسى عليه السلام لم يكن ليربى في قصور الظالمين لولا القتل والتعذيب الذي مارسه فرعون على بني إسرائيل،ورغم هذه الحقيقة المرّة فقد جاء فرعون في حديثه مع موسى عليه السلام على آخر القصة المرعبة متحايلا في منطقه لإخفاء الأسباب التي جاءت بموسى إلى قصوره،فتلك نعمة تفاخر بها فرعون وقد جاءت عقب تعبيد بني إسرائيل وإذلالهم.
وبدأ فرعون يحتال بكل الوسائل للقضاء على موسى عليه السلام،فيحرض الناس ويستثير فيهم الحمية الدينية الباطلة،فهو بحاجة إلى حشد كل الطاقات بأيّ وسيلة كانت،وأهمها حَثُّ النّاس للدفاع عن الدين التي ألفته النّفوس:’’وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد‘‘(3).أي أريد قتله خوفا عليكم من أن يغير حالكم وعبادتكم إلى عبادة ربه،مخفيا بذلك خوفه هو من تغيير الأحكام والأوضاع التي يحرص عليها،ولكنّه احتال عليهم ليظهر وكأنّه يخشى أن يضل موسى النّاس ويغير دينهم وعاداتهم(4).
__________
(1) الشعراء:18-19].
(2) انظر:القرطبي(13/94-95).
(3) غافر:26].
(4) انظر:تفسير ابن كثير(4/78).(1/101)
ثمّ أظهر لهم أنّه يخشى عليهم الفساد الذي سيقع بين الناس بسبب الخلاف والفتنة؛فيقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم إذا ظهروا عليكم كما كنتم تفعلون بهم،وهو بهذا يحشدهم في حربه ضد موسى عليه السلام.أو أنّه أراد بالفساد ظهور عبادة رب موسى الذي يدعوهم إلى عبادته،وذلك كان عنده هو الفساد.فجعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره فى الأرض واهتداء الناس به فسادا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه (1).
ومن العجيب أنّ هذا المكر السيء الذي يقلب الحقيقة تماما ما زلنا نسمعه هنا وهناك،حيث يحذر الفراعنة الجدد من ظهور الفساد وخراب البلاد على أيّد من يسمّونهم بأسماء كثيرة ومتعددة؛ذلك أنّ الطاغوت يُوحي للجماهير أنّ زواله لن يكون إلاّ بتخريب البلاد وتحويلها إلى دمار كامل وشامل،وكأنّ الطاغوت يُخيِّر النّاس بين القبول بالواقع الذي يعيشه النّاس في ظل الطاغوت،وبين الدمار الشامل الذي ينتظرهم إذا ما قام هؤلاء الذين يدَّعون الإصلاح بعزل الطاغوت وتدميره!وقد تنطلي تلك المناورة على بعض الجهلة،فيروحون يحذرون من الفتنة!ويروجون للمثل القائل:عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة،فيقبلون بالفتات الذي تُسكتهم به حكومة الطاغوت.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير(4/77،78)وتفسير الطبري(24/57)والسيوطي:أبو بكر،جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال،(ت911هـ)، الدر المنثور،8أجزاء، دار الفكر، بيروت، 1993م.(7/284)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الدر المنثور)وفتح القدير(4/488)وزاد المسير(7/416).(1/102)
وهكذا هو تمويه الطواغيت وتلبيسهم على الجماهير،كما كان يدعي طواغيت مكة أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم يُفرق بين المرء وأخيه،فهو-بزعمهم-تهديد خطير للأمن الداخلي،وتفكيك لما يُسمَّونه بالوحدة الوطنية،وما ذلك إلاّ من أجل الإبقاء على الوضع القائم.فبعض النّاس يرضى بالفتات وشيء من الخوف،وبعضهم لا تنطلي عليهم تلك المناورة ويعلمون أنّ زوال الطاغوت معناه سطوع الشمس بعد غياب طويل.وصدق فيهم قول الله تعالى:’’ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون‘‘(1).
إنّ إشغال النّاس وإبعادهم عن الأحداث بقضايا تافهة،أو تشكيكهم بالعقيدة التي قد تشكل خطرا على الأوضاع القائمة على الباطل،أو حتى تشويهها واللغو المتعمد فيها لتعكير صفائها ونقائها…كلّ ذلك وأبعد منه يحاوله فرعون بمكر وخداع،فعندما(قال مؤمن آل فرعون ما قال،وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم،أوهم أنّه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد،فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم،وإن لم يصح ثبتهم على دينهم،فأمر وزيره هامان ببناء الصرح)(2)،’’وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع الى إله موسى وإني لأظنه كاذبا‘‘،أي(قصرا طويلا لعلي أبلغ أبواب السموات وأطرافها التي توصلني إليها)(3).(وأراد بصنيعه هذا أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئا يتوصل به إلى تكذيب موسى عليه الصلاة والسلام)(4)،ولهذا قال تعالى:’’وما كيد فرعون إلا في تباب‘‘(5)،أي(وما احتيال فرعون الذي يحتال للإطلاع إلى إله موسى إلا في خسار وذهاب مالٍ وغبن)(6).
__________
(1) البقرة:12].
(2) تفسير القرطبي(15/314).
(3) تفسير الواحدي(2/945).
(4) تفسير ابن كثير(4/81).
(5) غافر:37].
(6) تفسير الطبري(24/66).(1/103)
(وهكذا يموّه فرعون الطاغية ويحاور ويداور،كي لا يواجه الحق جهرة،ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه،وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه.وبعيد عن الإحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه.وبعيد أن يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو الساذج،وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور.إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة.والتظاهر بالإنصاف والتثبت منه جهة أخرى.وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن)(1)،وكل هذه الفروض تدل على القدرة الكبيرة التي يتمتع بها فرعون في المكر والاحتيال،فهو يظهر غير ما يبطن ببراعة وذكاء.
وحين أحس فرعون بالخطر الدّاهم على سلطانه شرع يمكر بكل ما يستطيع ويحتال،و’’قال للملأ حوله : إنّ هذا لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ، فماذا تأمرون‘‘(2).فهو يوجّه الخطاب للملأ المستقرين حوله-فهم لا يغادرون السلطان،ويلتصقون به حفاظا على مصالحهم- إنّ هذا لساحر عليم،فائق في فنّ السحر،وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسمّيها سحرا،فهو يصف ساحرها بأنّه ساحر عليم.ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به بقوله-للملأ والجماهير من بعدهم-يريد أن يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها وتوطنتموها بسحره، وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له ،إذ من أصعب الأشياء على النّفوس مفارقة الوطن لاسيما إذا كان ذلك قسرا، وهو السر في نسبة الإخراج والأرض إليهم (3)،فأظهر لهم غير ما كتمه في نفسه من خوفه على عرشه وسلطانه.
__________
(1) في ظلال القرآن(7/183-184).
(2) الشعراء:35].
(3) انظر:تفسير ابن كثير(3/334)وتفسير أبي السعود(6/241)وتفسير النسفي(3/184)وروح المعاني(19/76).(1/104)
والعجيب أنّ فرعون استعمل هذه الخديعة قبل بدء المباراة،تحريضا منه لحشد كلّ جهد مستطاع’’قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى،فلنأتينك بسحر مثله‘‘(1).ورددها الملأ من بعده،يريدون الاحتيال على الجماهير،’’قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‘‘(2).وقالها السحرة بعد أن تنازعوا أمرهم بينهم قبل بدء المباراة:’’قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما‘‘(3).ثمّ يعود إليها فرعون بعد أن قُهر وغُلب يحتال بها على النّاس ويخدعهم،مُتَّهما السحرة بالإنضمام إلى المؤامرة بعد إعلانهم الإيمان،’’قال فرعون إنّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون‘‘(4)،وكأنّهم تواطؤا جميعا عليها بعد أن ابتدعها فرعون،لما لهذه الخديعة من أثر في النّفوس.
__________
(1) طه:57-58].
(2) الأعراف:109-110].
(3) طه:62].
(4) الأعراف:123].(1/105)
وتظهر شخصيته الماكرة في ردّه على السحرة عندما أعلنوا إيمانهم،فاتهمهم بما هو متلبس به،’’إنّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون‘‘(1).والمعنى إنّ غلبته لكم في يومكم هذا إنّما كان على تشاور منكم ورضا منكم لذلك ،وحيلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة،وهذا تمويه منه على القبط،يريهم أنّهم ما غُلبوا ولا انقطعت حجتهم.وهو يعلم-وكلّ من له لب-أنّ هذا الذي قاله من أبطل الباطل،فإنّ موسى عليه السلام بمجرد ماجاء من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ماجاء به،فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن مملكته فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر ممن إختار هو والملأ من قومه،وأحضرهم عنده،ووعدهم بالعطاء الجزيل،ولهذا قد كانوا أحرص النّاس على ذلك وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون، وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك،وإنّما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم (2)،وبهذا قلب فرعون الحقيقة،فهو الذي يمكر ويدبر في الخفاء ويجمع السحرة ويحشد النّاس والأعوان ويوزع الأدوار وينفق الأموال… ولكنّه المكر والاحتيال الذي يتقنه فرعون وكلّ من يدين بمثل منهجه.
__________
(1) الأعراف:123].
(2) انظر:تفسير ابن كثير(2/239)وفتح القدير(2/234)وتفسير النسفي(2/30)وروح المعاني(9/27).(1/106)
وتهمة أخرى وبدعة كبرى تنتجها عقلية فرعون الماكرة،فهو لم يتّهم موسى بأنّه تلميذ نجيب للسحرة،بل هو –بزعم فرعون-كبير السحرة ومعلمهم،وذلك هو قول فرعون:’’إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر‘‘(1)،أي لعظيمكم ورئيسكم في التعليم وعنه أخذتم السحر،وإنّما غلبكم لأنّه أحذق به منكم،أو لأنّه علمكم شيئا دون شيء،ولو قال تلميذكم لما صح هذا المعنى الذي أراده لعنه الله.أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه، وأراد به التلبيس والخداع على قومه ليشتبه الأمر عليهم كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق،وإلاّ فقد علم فرعون أنّهم لم يتعلموا من موسى بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته،ولكنّها مكابرة يعلم كل واحد بطلانها،فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر (2)؟
__________
(1) طه:71].
(2) انظر:تفسير البيضاوي(4/238)وتفسير القرطبي(11/224)وتفسير ابن كثير(3/159،366)وتفسير ابي السعود(6/243)وروح المعاني(19/79).(1/107)
وتظهر شخصيته الماكرة المخادعة في طريقة تصرّفه ومخاطبته لأتباعه بعد أن علم بخروج بني إسرائيل خفية،يقول تعالى:’’فأرسل فرعون في المدائن حاشرين،إن هؤلاء لشرذمة قليلون،وإنهم لنا لغائظون،وإنا لجميع حاذرون(1)‘‘(2)،فإنّه لمّا علم بخروج بني إسرائيل(اشتد غضبه عليهم لما يريد الله به من الدمار،فأرسل سريعا في بلاده حاشرين،أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب،ونادى فيهم:إنّ هؤلاء يعني بني إسرائيل’’لشرذمة قليلون‘‘أي لطائفة قليلة،’’وإنّهم لنا لغائظون‘‘أي كل وقت يصل إلينا ما يغيظنا،’’وإنا لجميع حاذرون‘‘أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإنّي أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد خضراءهم)(3).
فانظر كيف رتّب خطابه،حيث أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم،يريد أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم،ثمّ إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم،لأنّهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا،فيجب التيقظ في شأنهم لأنّنا قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور،فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إخماده.وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه (4)،وبهذه العقلية الماكرة أخفى فرعون ما أراد إخفاءه.
__________
(1) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (وإنا لجميع حذرون) بغير ألف،وقرأ الباقون: (حاذرون)بالألف، أي مؤدون مقوون أي ذوو أداة و ذوو سلاح و قوة،فالحاذر المستعد والحذر المتيقظ أي قد أخذنا حذرنا وتأهبنا وقالوا:الحاذر الذي يحذر الآن والحذر المخلوق حذرا لا تلقاه إلا حذرا حذرا وكان الكسائي يقول أصلهما واحد من الحذر)حجة القراءات(1/517).
(2) الشعراء:53-56].
(3) تفسير ابن كثير (3/336،337).
(4) انظر: تفسير البيضاوي(4/239)وتفسير أبي السعود(6/244)وتفسير النسفي(3/186،187).(1/108)
ولكن ماذا كانت نتيجة مكره؟كانت وبالا عليه،فالله جلّ شأنه كان له بالمرصاد،يعلم تدبيره ويطلع على مكره،يقول تعالى:’’ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله‘‘(1). أي(وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم)(2).فهل يتعظ المعاصرون بما حدث للغابرين؟فليسوا هم بأشد ممّن سبقهم مكرا ولا تدبيرا ولا كيدا،فأخذهم الله بذنوبهم وكانت عاقبة أمرهم خسرا،يقول تعالى:’’وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا‘‘(3)،لقد جرّب الأولون فضرُّوا بمكرهم أنفسهم لأنهم أسخطوا ربهم بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم ونجى رسله،فهو أحكم تدبيرا و أعظم كيدا(4).
وأمّا الدّعاة إلى الله فنذكرهم بوصية الله لنبيه صلى الله عليه وسلّم،حيث يقول سبحانه:’’واصبر وما صبرك إلاّ بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق ممّا يمكرون‘‘(5).(فلا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله،فالله حافظه من المكر والكيد،لا يدعه للماكرين الكائدين،وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه،وقد يقع به الأذى لامتحان صبره،ويبطيء عليه النصر لابتلاء ثقته بربه،ولكنّ العاقبة مظنونة ومعروفة،فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون)(6).
عبرة المبحث:’’ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‘‘(7).
لقد حاق المكر السيء بأهله،فأغرق الله فرعون وجنوده..وها هم أهل مكة أجبروا الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة بسبب مكرهم وتآمرهم فأقام الله له دولة!فلماذا لا يتعظ اللاحقون بالسابقين؟أم أنّهم يحسبون أنفسهم على المكر أقدر؟فلربما سوّلت لهم أنفسهم أنّ ما لديهم من الخطط والإمكانيات أكثر،ولكن قد مكر الطواغيت من قبلهم’’وعند الله مكرهم‘‘(8).أي(عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالا له)(9).
__________
(1) فاطر:43].
(2) تفسير ابن كثير(3/563).
(3) الرعد:42].
(4) انظر:تفسير الطبري(13/175).
(5) النّحل:127].
(6) في ظلال القرآن(5/293-294)مع بعض التصرف.
(7) الأنفال:30].
(8) ابراهيم:46].
(9) تفسير البيضاوي(3/355).(1/109)
إنّ الطواغيت يلجأون-رغم عدوانيتهم وعنفهم-إلى المكر والاحتيال حين لا يستطيعون استخدام القوة،أو حين يحسون بالخطورة من استخدامها،وبسبب انعدام الأخلاق والقيم فالطاغوت يستعمل كلّ وسائل المكر والدسيسة للوصول إلى هدفه،ولا يشعر حين يرتكب جريمته بأي نوع من التأنيب،بل ويستغل كل مناسبة لابتزاز الآخرين،ولكي لا ينكشف أمره فهو يطور وسائل الاحتيال ويُنوِّعها،فمرة بإلصاق تهمة مدبرة ومرة بالتظاهر بالصلاح والتقوى..ويشترك خِفْيَةً مع أطراف وأشخاص متعددين يتقنون الاحتيال الجماعي،وبهذه العقلية الماكرة الخبيثة المتشعبة يصعب أحيانا كشف المؤامرة،كما يصعب إقناع النّاس بها،فهي بحاجة إلى متابعة وفحص وتدقيق وربط بين أجزائها،وهذا ما نلاحظه في عالمنا من توسيع لدوائر المكر والاحتيال،حتى أصبح للمكر مؤتمرات سريّة دورية،وهو ما يسمّونه بما وراء السطور!
كما تمتاز شخصية الطاغوت بالقدرة على التمثيل كلما اقتضت الحاجة لتسويق خدعته،فيلبس ثوب الدين والوطنية والقومية والعلمانية..فَلِكُلِّ مناسبة ثوبها،ويُنشؤون رأيا عامّا يتفاعل مع تلك الحركات التمثيلية،وبهذا يُفسر خوفهم من التفكير والتعبير كي لا يظهر الفرق بين التمثيل والحقيقة.
ولمّا كان الطاغوت يشعر بالخطر فهو على حذر دائم،ممّا يفسر لنا شدته وغلظته على مخالفيه،وقمعهم والاحتيال لتدميرهم،فهم يشكلون مصدر الخوف والقلق للطاغوت،ويفسر لنا جهده الدائم على إيجاد جماهير ساذجه تنطلي عليها حيله ومكره،وتقبل بالواقع على مرارته مع آمال وهمية في المستقبل.(1/110)
إنّ الدواء الوحيد أمام احتيال ومكر الطواغيت هو الوعي واليقظة والانتباه؛لأنّه بدون الجماهير الساذجة والجاهلة لا يستطيع الطاغوت أن يمرر مؤامراته،فالجماهير المُفرغة من المضمون القيمي والأخلاقي هي وسيلة الطاغوت كما أنّها محل جريمته.وليس معنى هذا أن الباب مفتوح لتوعية الجماهير،بل إنّ الطاغوت سيضع العقبات والعراقيل أمام القوى الفاعلة الواعية في المجتمع،وسيتهمها بالخروج والزندقة!فعملية التوعية بحاجة إلى صبر وثبات ومثابرة وتضحية كما تحتاج إلى القيادة الواعية الحكيمة القادرة رغم الظروف المأساوية أن تصل إلى الجماهير لتعبئتهم وتوعيتهم،فتحولهم من أكداس بشرية خاوية ميتة إلى جماهير واعية حيّة مثقفة بصيرة بواقعها وحالها ومآلها.
نتيجة الفصل:العقدة الأساسية في شخصية فرعون(1/111)
لمعرفة العقدة الأساسية في شخصية فرعون لا بدّ من استحضار المهمة التي بُعث بها موسى عليه السلام،وهي إرسال بني إسرائيل من قبضة فرعون والكف عن تعذيبهم،وذلك ما يُرشد إليه قوله تعالى:’’فأتياه فقولا إنّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تُعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى،إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولى‘‘(1).وقوله تعالى:’’فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول رب العالمين،أن أرسل معنا بني إسرائيل‘‘(2).أي(أطلقهم ولا تعذبهم بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان)(3)،ثمّ ما حمله هذا الخطاب من هجوم واضح على أهم ما تقوم عليه شخصية فرعون من دعوى الألوهية والربوبية،وظهر ذلك في قول موسى وهارون:’’إنّا رسولا ربك‘‘(4)،والمعنى أنّهما(أُمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه)(5)؛فالمهمة بطرفيها المترابطين متصلة بالنّزعة الفوقية،وهي العقدة الأساسية في شخصية فرعون؛وبيان ذلك أنّ دعوى فرعون للألوهية والربوبية تكشف لنا عن مدى ما يشعر به من فوقية وتفوِّق على الآخرين،فالشعور بالتفوق وتَضَخُّمِهِ في نفس فرعون أدى به إلى ادعاء الألوهية والربوبية،وذلك ليضع نفسه في إطار من القدسية يُشبع تلك المشاعر.ولهذا تعرض موسى عليه السلام في خطابه لهذه العقدة الأساسية.أمّا القضية الثانية فهي ناتجة عن الشعور بالفوقية أيضا،حيث أفرز هذا الشعور المتضخم سلوكا تسلطيا من فرعون،فتسلط على من هم تحت يده،ولهذا كانت القضية الثانية في الخطاب إرسال بني إسرائيل.
__________
(1) طه:47-48].
(2) الشعراء:16-17].
(3) تفسير البيضاوي(4/52-53).
(4) طه:47].
(5) تفسير ابي السعود(6/19).(1/112)
ومن العوامل المساعدة في إيجاد هذه النزعة عند فرعون أنّه وُلد ونشأ في عائلة مالكة تتمتع بالجاه والسلطة،فهو من سلالة الملوك،فتربى في بيئة تتنفس تلك النزعة،ثمّ إنّ فرعون نفسه امتاز عن غيره بثبات ملكه وقوته ممّا غذى تلك النزعة عنده.يقول تعالى:’’وفرعون ذو الأوتاد‘‘(1).أي ذو الملك الثابت(2)،ولا شك أنّ قوة النّظام تنعكس على شخصية فرعون نفسه.لأنّ(ذو الأوتاد:صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد)(3).
لقد ظهرت النزعة الفوقية لفرعون في مقارنته لنفسه مع موسى عليه السلام،يقول تعالى حكاية لقول فرعون:’’أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين‘‘(4)،أي(ضعيف حقير)(5)؛ذلك أنّ احتقار الآخرين وازدرائهم من إفرازات النزعة الفوقية،فهو يرى كل ما عداه حقيرا تافها لا قيمة له.وهنا ندرك علة عدم اكتراث الطواغيت بآلام الجماهير وعذاباتهم،فهم-أي الطواغيت-يتصورون النّاس كائنات منزوعة الأحاسيس والمشاعر.
ونلاحظ هذا الظهور-لتلك النّزعة-في رده على الملأ حين طلبوا منه حلاً لمشكلة موسى،فرد عليهم بقوله:’’وإنّا فوقهم قاهرون‘‘(6).وأراد بالفوقية العلو المعنوي وليس العلو المكاني(7)،وتلك هي العقدة الأساسية التي تتفرع عنها باقي الخصائص في شخصية فرعون،والتي تمثلت آثارها في سلوك فرعون المَرَضي ومنهجه التعسفي.
__________
(1) الفجر:10].
(2) انظر:تفسير القرطبي(15/154-155)وتفسير البيضاوي(5/38-39)ومعاني القرآن(6/85).
(3) روح المعاني(23/170).
(4) الزخرف:52].
(5) تفسير الجلالين(1/652).
(6) الأعراف:127].
(7) انظر:اتقان ما يحسن من الأخبار(2/19).(1/113)
ولنا أن نقرر أنّ دعوى الألوهية والربوبية تعبير ظاهري عن تلك النّزعة،بلغت أقصى درجاتها حين أوجب فرعون على النّاس أن يتوجهوا إليه بنوع من العبادة،بينما هو في داخله يعبد ذاته.من هنا كان الإمتناع عن قبول الحق مهما أوتي صاحبه من برهان؛ذلك أنّ قيام البرهان أو عدمه ليس هو المشكلة ما دامت تلك الشخصية ترفض أي وضع لا تستطيع فيه التعبير عن مكنوناتها النّفسية،ولزم من ذلك الإستعلاء والاستبداد؛ذلك أنّ العبيد ليس لهم وظيفة بين يدي الإله والرب المزعوم سوى السمع والطاعة والتنفيذ،ولا يملكون حق التصرف ولو في أنفسهم.
إنّ الطغيان وتجاوز الحد في المعصية ببلوغ أسفل الدركات قد تمثل بادعاء فرعون للألوهية والربوبية كتعبير ظاهري عن مشاعر التّفوق والفوقية،ولزم من ذلك الظلم بكل معانيه وأنواعه وتصاريفه حين وضع فرعون نفسه في غير موضعها،وصاحب تلك الدعوى الفساد والإفساد،إذ كيف يكون الصلاح في وضع قائم على مفسدة كبرى صار العبد فيها ربا وإلها!فكل ما يُبنى على تلك المقدمة الفاسدة سيصيبه الخلل والعوار.
ولمّا كانت دعواه تصادم الفطرة وتدعو للنّفور أسرف في الجريمة واستكثر منها لإسكات المعارضين،وفي المقابل كان المكر والاحتيال لتمرير تلك الأكذوبة؛ذلك أنّ فرعون يعيش عقدة داخلية متمثلة بشعوره أنّه صغير يخشى الإنكشاف،ممّا يضطره للاحتيال الدائم لإخفاء الحقيقة وللتعويض عن الصِّغَر الذي يشعر به.
وفرعون واهم مغرور اغتر بما لديه،وخدعه زخرف الدنيا والجاه والسلطان والقوة،وتخيّل-بسبب انبهاره بما لديه-ما يكّذبه الواقع ويردّه،فهو ليس إلها ولا ربا،فحصلت على عينيّه غشاوة حجبت عنه الرؤية الصحيحة،ولكنّ هذا لا يغيّر الحقيقة،كما أنّ السراب لا يتحوّل إلى ماء،وهكذا الغرور نوع من الوهم والتخيّل في المحصلة.(1/114)
إنّنا ما زلنا نعاني من تلك النّزعة التي تظهر بين حين وآخر حيث تخرج علينا شخصيات مريضة تشعر بالتفوّق والفوقية،ويقوم الإعلام المُوجَّه بالتعبير عن مكنونات تلك النّفس الخبيثة المترفعة…فلولاه-كما يُقال-لما تقدّم البلد أو القطر أو المملكة أو الجمهورية،ولولاه لما كانت المدارس والجامعات والمعاهد والمصانع…وهو مع هذا كلّه عبقري لا يُراجع له قرار،فلقد جاد الزمان به!وهو الرياضي الأول والعسكري والملهم…والنّاس ينادونه بصاحب الجلالة أو صاحب العظمة…وهو مولى النعمة وجالب الخير…وأقواله تشريع وأفعاله سنن!يعني تماما أنّه رب أو إله يعبد!
الفصل الثاني:الأسباب التي أدت إلى تكوّن شخصية فرعون
المبحث الأول: الكفر
المبحث الثاني:المحافظة على المكتسبات الخاصة
المبحث الثالث:فسق الأغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون ومساندتهم له
الفصل الثاني
الأسباب التي أدت إلى تكوّن شخصية فرعون
(السبب-لغة-كلّ شيء يتوصل به إلى غيره، والجمع أسباب.وكلّ شيء يتوصل به إلى الشيء فهو سبب)(1)،واصطلاحا:(ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته)(2).
__________
(1) لسان العرب،مادة:سبب(1/458)وانظر:مختار الصحاح،مادة:سبب(119).
(2) البهوتي: منصور بن يونس بن إدريس، كشاف القناع عن متن الإقناع،6أجزاء،تحقيق:هلال مصيلحي مصطفى هلال،دار الفكر،بيروت،1402هـ.(4/404) وانظر: السبكي:علي بن عبد الكافي،(ت756)،الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي،جزءان،ط1، دار الكتب العلمية،بيروت،1404هـ.(1/206)والنفراوي: أحمد بن غنيم بن سالم المالكي،(ت1125)،الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني،جزءان،،دار الفكر،بيروت،1415هـ.(1/114).(1/115)
إنّ مّما لاشك فيه أنّ ظهور هذه الشخصية له أسبابه،فشخصية كشخصية فرعون-وبهذه الخصائص التي أشرت إليها سابقا-تجعل الإنسان يفكر كيف يصل إنسان إلى هذا الدرك من الإنحطاط والفجور والعتو!وهوتساؤل يطرحه كلّ من تمتّع بفطرة سليمة وصحة نفسيّة،مخافة أن يقع بمثل هذا الشر،ولكي يمنع وقوعه إذا استطاع ذلك.
ولأنّ الأسباب مقدمات إن وجدت وجدت النتائج المترتبة عليها،فإنّ القرآن الكريم بيّن هذه الأسباب لأهمّية بيانها للنّاس.للوقاية أولا،ولمعرفة العلاج لها إن حدثت ثانيا،فمعرفة سبب المرض تسهّل الوقاية منه،كما لا يكون العلاج إلاّ بمعرفة السبب.
ولكن لا بدّ من ملاحظة أنّ تشخيص المرض سابق للبحث عن أسبابه وطرق علاجه،إذ من غير المعقول أن نبحث عن أسباب لمرض لا نعرفه أو عن علاج لداء نجهله.من هنا كان لا بدّ أن نبدأ بتشخيص هذه الحالة المرضية،فقدّمت خصائص شخصية فرعون-والتي تمثل تشخيصا للحالة المرضية-عن البحث عن أسباب ظهورها،ثمّ إن تقديم تشخيص الحالة المرضية بكل ما تحمله من مساويء تجعل الإنسان يسأل بإلحاح عن أسباب ظهورها،ممّا يضيف إلى البحث عنصر التشويق.
ونعود إلى السؤال:ما هي أسباب ظهور هذه الشخصية؟
وللإجابة لا بدّ من استقصاء الأسباب التي ذكرها القرآن الكريم أو أشار إليها أو أمكن فهمها من واقع فرعون الذي أخبرنا القرآن عنه.حيث يمكننا إجمال تلك الأسباب التي أدت إلى تكوّن وظهور شخصية فرعون بالخصائص التي ذكرناها في ثلاثة أسباب هي:1-الكفر2-والمحافظة على المكتسبات الخاصة3-وفسق الأغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون ومساندتهم له.ولقد أفردت لكل سبب منها مبحثا مستقلا.
المبحث الأول
الكفر(1/116)
(الكفر نقيض الإيمان،وكفر بالله يكفر كفرا وكفورا وكفرانا. ويقال لأهل دار الحرب:قد كفروا أي عصوا وامتنعوا.والكفر كفر النعمة وهو نقيض الشكر،والكفر جحود النعمة وهو ضد الشكر،وقوله تعالى:’’إنّا بكل كافرون‘‘(1)أي جاحدون.وكفر نعمة الله يكفرها كفورا و كفرانا،وكفر بها جحدها وسترها.وكافره حقه جحده،ورجل مُكفر مجحود النعمة مع إحسانه. ورجل كافر جاحد لأنعم الله مشتق من الستر،وقيل:لأنه مغطى على قلبه)(2).والكفر(تغطية ما حقه الإظهار،والكفران ستر نعمة المنعم بترك أداء شكرها،وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة،والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا،والكفر في الدين أكثر)(3)،و(الكافر الليل المظلم لأنّه ستر بظلمته كلّ شيء.وكلّ شيء غطى شيئا فقد كفره،ومنه سمي الكافر لأنّه يستر نعم الله عليه،والكافر الزارع لأنّه يغطي البذر بالتراب و الكفار الزراع)(4).
(قال بعض أهل العلم:الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به،وكفر جحود،وكفر معاندة،وكفر نفاق،من لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فأمّا كفر الإنكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد… وأمّا كفر الجحود فأن يعترف بقلبه ولا يقر بلسانه فهو كافر جاحد… وأمّا كفر المعاندة فهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به حسدا وبغيا… وأمّا كفر النّفاق فأن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ولا يعتقد بقلبه)(5).
__________
(1) القصص:48].
(2) لسان العرب،مادة:كفر (5/144).
(3) التعاريف(1/606).
(4) مختار الصحاح،مادة:كفر(239).
(5) لسان العرب،مادة:كفر(5/144)مع بعض التصرف.(1/117)
وفي الشرع:الكفر(إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به،مما أشتهر حتى عرفه الخواص والعوام)(1)،ويمكننا أن نعرفه إصطلاحا:على أنّه(ستر الحق بالجحود)(2).وهذا يشمل كل من كفر بأيّ حق،سواء كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أم نبوة غيره من الأنبياء عليهم السلام،كما جحد فرعون نبوة موسى عليه السلام.
والكفر رأس كلّ خطيئة وأساس كلّ مفسدة،فليس بعد الكفر ذنب؛فالكفر ظلم،’’والكافرون هم الظالمون‘‘(3).(أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا)(4)،لأنّهم(الواضعون جحودهم في غير موضعه،والفاعلون غير ما لهم فعله،والقائلون ما ليس لهم قوله)(5).
والكفر ظلمة وسراب،مُنبتٌ لا أصل له،يقول تعالى:’’والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة،يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه . والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي ، يغشاه موج من فوقه موج ، من فوقه سحاب . ظلمات بعضها فوق بعض ، إذا أخرج يده لم يكد يراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور‘‘(6).(فالكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون.وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى.ومخافة لا أمن فيها ولا قرار…ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)(7).
__________
(1) روح المعاني(1/127)وانظر:تفسير البيضاوي(1/137).
(2) تفسير النسفي(1/14).
(3) البقرة:254].
(4) تفسير ابن كثير(1/305).
(5) تفسير الطبري(3/4).
(6) النّور:39-40].
(7) في ظلال القرآن(6/108)مع بعض التصرف.(1/118)
ولقد بيّن القرآن الكريم حقيقة كفر فرعون،إمّا بالعبارة المباشرة وإمّا من خلال أقواله وأفعاله التي تدل على كفره.ولسنا هنا بصدد استقصاء كل الأدلة التي تثبت كفره ،إنّما يكفي منها ما يبرهن على ذلك لنعلم أنّ فرعون من الكافرين،ثمّ لنرى بعد ذلك كيف كان الكفر سببا في تكوين وتشكيل شخصية فرعون،بمعنى أنّ كل رذيلة تلبس فيها فرعون أو جريمة ارتكبها لم تكن بهذه الصورة وهذا الحجم المأساويّ لولا كفره وعدم إيمانه.
والأدلة على كفره كثيرة منها:
قوله تعالى:’’واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنّوا أنّهم إلينا لا يرجعون‘‘(1).والشاهد فيها أنّ فرعون من الذين ظنّوا أنّهم لا يرجعون إلى الله،فمعنى الآية أن فرعون وجنوده اعتقدوا وحسبوا أنّهم إلى الله لا يرجعون بالنشور،فلا قيامة ولا معاد،فهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت فلا ثواب ولا عقاب (2).و(الظنّ هنا شك،فكفر على الشك لأنّه قد رأى من البراهين ما لا يُخيّل على ذي فطرة)(3)،(وقيل:أنّ الظنّ هنا بمعنى اليقين)(4).(وهذا من كفره وتمرده أنّه كذّب موسى عليه الصلاة والسلام في أنّ الله عز وجل أرسله إليه)(5)،
(ويحتمل أن يكون عنى به كاذبا في دعوى الرسالة،وأن يكون عنى به كاذبا في دعوى أنّ له إلها غيري)(6)،وأيّ المعنيين أراد فرعون بقوله فهو كفر.
__________
(1) القصص:39].
(2) انظر:تفسير الطبري(20/174)وتفسير البيضاوي(4/294)وتفسير ابن كثير(3/391)وفتح القدير(4/174)وزاد المسير(6/223).
(3) تفسير القرطبي(13/289).
(4) تفسير القرطبي(5/315).
(5) تفسير ابن كثير(4/81)وانظر:فتح القدير(4/492).
(6) روح المعاني(24/70).(1/119)
وقوله تعالى:’’وقال موسى إنّي عذت بربي وربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب‘‘(1). والشاهد فيها أنّ موسى عليه السلام قصد بالمتكبر الذي لايؤمن بيوم الحساب فرعون،وذلك(لمّا هدّده فرعون بالقتل استعاذ موسى بالله من كل متكبر،أي متعظم عن الإيمان وصفته أنّه لا يؤمن بيوم الحساب)(2)،(لأنّه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على الله وعباده ولم يترك عظيمة إلاّ ارتكبها)(3)؛ذلك(أنّ من لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا ولا للعقاب على الإساءة وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا،ولذلك كانت استجارته من هذا الصنف من النّاس خاصة)(4)،(ويدخل فرعون في هذا العموم دخولا أوليا)(5).
ومن الأدلة على تكذيبه وكفره قوله تعالى:’’فأراه الآية الكبرى،فكذب وعصى،ثمّ أدبر يسعى‘‘(6). فكذب نبي الله موسى وعصى ربّه عز وجل بعد ظهور الآية وتحقق الأمر، ثمّ أدبر يسعى أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان وطاعة ربه،يسعى أي يعمل بالفساد في الأرض.وقيل:يعمل في نكاية موسى لإبطال دعوته مجتهدا في معارضة ما جاء به موسى عليه السلام (7).
__________
(1) غافر:27].
(2) تفسير القرطبي(15/305)وانظر:تفسير ابن كثير(4/78).
(3) تفسير النسفي(4/72)وانظر:روح المعاني(24/63).
(4) تفسير الطبري(24/57).
(5) فتح القدير(4/488).
(6) النّازعات:20-22].
(7) انظر:تفسير الطبري(30/40)وتفسير البيضاوي(5/447،448)وفتح القدير(5/376)وتفسير القرطبي(19/202).(1/120)
وكما أنّه عاش كافرا مات كافرا،حيث لم يقبل الله توبته،يقول تعالى:’’حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‘‘(1).(فآمن حيث لا ينفعه الإيمان،’’فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين،فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون‘‘(2).ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال’’آلآن وقد عصيت قبل‘‘(3).أي أهذا الوقت تقول وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه’’وكنت من المفسدين‘‘(4).أي في الأرض الذين أضلوا الناس وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون،وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم)(5).
بعض نتائج الكفر وآثاره في شخصية فرعون
أول نتائج الكفر وأقساها أن تحل لعنة الله على من كفر،يقول تعالى:’’فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين‘‘(6).فليس هناك أي مظهر للرحمة لا في حياته ولا حين مماته ولا بعد موته.فأينما يكون الكفر تحل اللعنة،ومن هنا ندرك العلة في اختفاء مظاهر الرحمة والتراحم في كثير من بقاع الأرض.
__________
(1) الأعراف:90].
(2) غافر:84-85].
(3) يونس:91].
(4) يونس:91].
(5) تفسير ابن كثير(2/431).
(6) البقرة:89].(1/121)
إنّ الكفر أدّى بفرعون إلى الضلال عن الطريق المستقيم،’’ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السبيل‘‘(1).أي (فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال،وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والإنقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والإقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر)(2)؛ذلك أنّ(المنافق والكافر استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق؛فأضلّهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون)(3)،وهذا يفسر لنا حالة العمىالتي عاشها فرعون وسبب انحرافه وشدة غيّه،وتعدى ذلك إلى إضلال قومه وعدم هدايتهم،يقول تعالى:’’وأضل فرعون قومه وما هدى‘‘(4).
وكفر فرعون دليل على فسقه،لأنّه لا يكفر بآيات الله إلا الفاسقون،ممّا يفسر لنا تمرده على الله،ويبيّن لنا أسباب عتوه وفجوره،يقول تعالى:’’ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون‘‘(5).وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،فإنّ كلّ من يكفر بآيات الله فهو من الفاسقين الخارجين عن أمر الله المتمردين عليه.
وبسبب كفره كان فرعون على ربّه ظهيرا،وهي حقيقة بيّنها القرآن كقاعدة عامة بقوله تعالى:’’وكان الكافر على ربه ظهيرا‘‘(6).أي(معينا للشيطان على ربه مظاهرا له على معصيته)(7)،فهو معين للشيطان على ربّه بأفعاله وأقواله ومنهجه…،كما أنّه داعيا لكل النّاس الذين يحكمهم إلى عدم توحيد الله،بل وطلب منهم أن يعتبروه إلها لهم،وهو أيضا معاونا للشيطان على أولياء الله،فقد شنّ حربا لا هوادة فيها عليهم،يقتلهم ويعذبهم ويسجنهم ويتهمهم بالجنون.
__________
(1) البقرة:180].
(2) تفسير ابن كثير(1/154).
(3) تفسير الطبري(1/139).
(4) طه:79].
(5) البقرة:99].
(6) الفرقان:55].
(7) تفسير الطبري(19/26).(1/122)
والكفر سبب في غروره،يقول تعالى:’’إن الكافرون إلاّ في غرور‘‘(1)،أي(إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به)(2).وسبب في استكباره،يقول تعالى:’’بل الذين كفروا في عزة وشقاق‘‘(3)،أي في استكبار وحمية شديدة لا يذعنون للحق(4).وسبب في مكره وكذبه واحتياله،يقول تعالى:’’بل الذين كفروا يُكذِّبون‘‘(5).وسبب في حياته البهيمية،يقول تعالى:’’والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام‘‘(6)،(كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم ساهون عما في غدهم)(7).
إنّ كفر فرعون سبب في استواء الإنذار له من عدمه؛ذلك أنّ الكفر حجاب يمنع المعرفة والعلم،يقول تعالى:’’إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‘‘(8)؛ذلك لأنّهم غطّوا الحق وستروه فاستوى الإنذار وعدمه عندهم(9).
لقد استبان سبب الخلل الذي أصاب الحياة في ظلّ فرعون،فمن وحل الكفر نبتت تلك الشخصية بما فيها من غرور واستكبار واستبداد…ومن أجل بيان هذا الترابط بين الكفر وأثره أهتم القرآن بتلك القصة العجيبة.
تنبيه لا بدّ منه:إنّ الخلل في أي جزء من العقيدة له آثار مدمرة على الفرد والمجتمع
__________
(1) الملك:20].
(2) روح المعاني(29/18).
(3) ص:2].
(4) انظر:تفسير أبي السعود(7/213)وتفسير البيضاوي(5/35).
(5) الإنشقاق:22].
(6) محمد:12].
(7) تفسير الطبري(16/235)وانظر:تفسير ابن كثير(4/176).
(8) البقرة:6].
(9) انظر:تفسير ابن كثير(1/46).(1/123)
إنّ عدم إيمان فرعون بيوم الحساب يبين لنا سببا مهما في ظهور هذه الشخصية؛ذلك أنّ(الإيمان باليوم الآخر له أثر عظيم في حياة النّاس،ذلك أنّ الإيمان به وبما فيه من جنّة ونار وحساب وعقاب،وثواب وفوز وخسران له أشدّ الأثر في توجيه الإنسان وانضباطه والتزامه بالعمل الصالح وتقوى الله عز وجلّ،وشتان ما بين اثنين:أحدهما لا يعتقد ببعث ولا حساب على أعماله وأقواله،ولا يقيده غير مصلحته الشخصية ومنفعته الذاتيّة،وآخر يعتقد بيوم يحاكم فيه الإنسان على أعماله وأقواله أمام أعدل العادلين فيثاب على الخير،ويعاقب على الشر.فالأول منفلت من أي ضابط سوى هواه وشهوته،والغاية عنده غاية أنانية تبرر أي وسيلة وأي خُلُق وأي عمل،مهما كان ضرره.والآخر منضبط في حدود الحق والخير والصلاح،وهي الأمور التي لها وزن واعتبار عند الله في ذلك اليوم)(1)، ،كما قال تعالى:’’والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون،ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون‘‘(2).
إنّ الذي لا يؤمن بالبعث والنّشور لا يؤمن أنّ هناك حياة أخرى،وبتصوره هذا يعتبر هذه الحياة فرصته الوحيدة ،فيكون جشعا في اغتنام فرصته الوحيدة-حسب تصوره واعتقاده-،وسيعمل بكل ما أوتي من قدرة على استغلال فرصته الوحيدة،فهو نفعيّ مادي لايرى رسالة له سوى تحقيق أكبر قدر من اللذة،وهذا سبب في انتشار العقلية النّفعية في العالم،بل وسبب في نشوء مذهب الرأسمالية.فما دام الإنسان لا يؤمن بالحياة الأخرى فلن يتوانى في سبيل تحقيق رغباته ومطالبه بأي وسيلة كانت لإشباع نهمه،وهو يرى فرصته الوحيدة تأكلها الأيام والسنون..فتغيب الأخلاق حتما لأنّ ما لا يحقق لذة أو يجلب منفعة لا يُقبل في حياتهم.
__________
(1) ياسين:محمد نعيم،الإيمان أركانه حقيقته نواقضه،جزء واحد،ط3،الطابعون،جمعية عمال المطابع التعاونية،عمّان،1402هـ،1982م.(74-75).
(2) الأعراف:8-9].(1/124)
إنّ أيّ خلل في العقيدة له آثار سلبية،ومثال ذلك ما حصل لبني إسرائيل حين اعتقدوا أنّهم لن يُعذّبوا في النار إلاّ أياما معدودات،’’ذلك بأنهم قالوا:لن تمسنا النّار إلا أياما معدودات وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون‘‘(1)أي(بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه،وأنّ الله قد وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحدا من ولده النّار إلا تحلة القسم)(2)،فحملهم ذلك التصور الأخرق على ارتكاب المعاصي،وجرَّأهم على مخالفة الحق حتى صاروا مثلا للمنحرفين والفاسقين،وأدى ذلك بهم إلى تحريف كتب الله وقتل الأنبياء…فكيف إذا علمنا أنّ كفر فرعون أغلظ من كفرهم وأسوأ؟!
من هنا ندرك خطورة ما تقوم به الجاهلية اليوم من إبعاد النّاس عن دينهم سواء كان هذا الإبعاد بإنكار الخالق كما في الفكر الشيوعي،أو بإهمال القضية الغيبية وحصرها في زاوية محدودة،وذلك بفصل الدّين عن الحياة كما في العلمانية،أو بِحَثِّ النّاس على عدم احترام الدّين وجعله صورة باهتةً لا أثر له في واقع حياتهم…لأنّ هذا الإقصاء للدّين هو السبب وراء انتشار الجرائم الكبرى التي تمارسها السلطات الحاكمة،والجرائم الصغرى التي يمارسها العالم السفلي!فهناك الرشوة والمحسوبية والصفقات المشبوهة والمخدرات والسرقة والغش والاحتكار…وكلّ ذلك آثار المرض،أمّا سبب المرض فهي ضعف الإيمان أو انعدامه في القلوب.
الكفر عارض والإيمان أصيل
__________
(1) آل عمران:24].
(2) تفسير الطبري(3/219).(1/125)
قد يظنّ بعض النّاس نتيجة لما يرون من الكفر والكافرين-وخصوصا عند اطِّلاعهم على قصة فرعون-أنّ الكفر أصل في الإنسان وأنّ الإيمان طارىء،وهذا عكس الحقيقة التي يقررها القرآن والسنّة؛ذلك أنّ الله تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنّه لا إله غيره،يقول تعالى:’’وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى‘‘(1)؛(ذلك أنّ الله تعالى فطر خلقه على الإسلام ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية)(2).يقول تعالى:’’فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون‘‘(3).
يقول صلى الله عليه وسلم:’’ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء‘‘(4)، ومعناه(أنّه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة لا يولد أحد إلا على ذلك،ولا تفاوت بين الناس في ذلك)(5).وفي الحديث القدسي’’وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم،وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم،وحرمت عليهم ما أحللت لهم،وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا‘‘(6).
المبحث الثاني
المحافظة على المكتسبات الخاصة
__________
(1) الأعراف:172].
(2) تفسير ابن كثير(3/433).
(3) الروم:30].
(4) صحيح البخاري،كتاب التفسير،باب(لا تبديل لخلق الله):لدين الله،(خَلْق الأولين):دين الأولين.والفطرة الإسلام.(5/512)رقم(4775).
(5) تفسير ابن كثير(3/433).
(6) صحيح مسلم،كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها،باب في صفة يوم القيامة(4/2197)رقم(2865).(1/126)
إنّ المحافظة على المكتسبات الخاصة التي ميّز فرعون بها نفسه كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه الشخصية،ومن أهم العوامل التي شكّلتها،فالمحافظة على المكتسبات انعكاس للاستئثار الذي تميزت به شخصية فرعون.وفي نفس الوقت كان الحرص على متاع الحياة الدنيا والتكالب عليها نتيجة لما يحمله فرعون من تصور فاسد حول هذه الحياة،فهو كافر منكر للبعث والنّشور،وكل من ينكر اليوم الآخر تزداد شراهته ونهمه في الحياة الدنيا،وبهذا تكون المحافظة على المكتسبات الخاصة نتيجة وسببا؛ذلك أنّ الحرص على متاع الحياة الدنيا والتعلق بها أحد موانع الإيمان،’’ذلك بأنّهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأنّ الله لا يهدي القوم الكافرين‘‘(1)،أي بسبب أنّهم اختاروا نعيم الدنيا على نعيم الآخرة(2).ومن ثمّ يكون الحرص سببا للكفر ونتيجة له كذلك؛فالعلاقة بين الكفر والحرص على متاع الحياة الدنيا علاقة تبادلية.
إنّ الحرص من طبيعة ابن آدم،يقول صلى الله عليه وسلم:’’لو كان لابن آدم واد من ذهب أحب أنّ له واديا آخر ولن يملأ فاه إلا التراب والله يتوب على من تاب‘‘(3)،فكيف إذا أضيف لهذه الطبيعة قلب ينكر البعث والآخرة؟!لذا كان فرعون شرسا في جمع الدنيا!ومن هنا نفهم قوله تعالى:’’ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‘‘(4).أي(حرصها على المال)(5).
__________
(1) النحل:107].
(2) انظر:تفسير الطبري(14/182)وتفسير القرطبي(10/192).
(3) صحيح مسلم،كتاب الزكاة،باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا (2/725)رقم(1048).
(4) الحشر:9].
(5) تفسير الجلالين(1/731).(1/127)
ومن المعلوم أنّ أتباع الرسل كانوا من الفقراء والضعفاء الذين لا يعوّق إيمانهم مصلحة ولا جاه ولا مال ولا سلطة،وهذا ما نطق به هرقل لإبي سفيان في حواره معه حين قال:’’وسألتك أشراف النّاس يتّبعونه أم ضعفاؤهم فزعمت أنّ ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل‘‘(1)،وفي هذا بعض ما نفهم به ظهور شخصية فرعون،إذ أن تلك المكتسبات معوّقات للإيمان،لأنّ إيمان فرعون يعني التنازل عن كلّ ما ليس له به حق.
لقد تراكمت على قلب فرعون ظلمات بعضها فوق بعض(من حب الدنيا وحب الجاه وحب الثناء وحب الرياسة وحب الشهوات وفتن الدنيا…فإذا عرض عليه ذكر شيء هو حق-وعلى الحق نور-حالت الظلمة بين نور الحق ونور القلب فلم يمتزجا،ولم يعرف القلب ذلك الحق فصاحبه في ظلمة،وإذا عرض أمر هو باطل-وعلى الباطل ظلمة-امتزج الباطل بظلمة الشهوات ورين الذنوب)(2).يقول الله تعالى:’’كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون‘‘(3)،والران(صدأ الذنوب الذي سود قلوبهم،فلم يصل إليها بعد ذلك في الدنيا شيء من معرفة الله ولا من إجلاله ومهابته وخشيته)(4).
المكتسبات أو الإمتيازات التي تمتع بها فرعون
__________
(1) صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة،وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله،وقوله تعالى:’ما كان لبشر أن يوتيه الله‘،إلى آخر الآية(3/1076)رقم(2782).
(2) الترمذي: أبو عبدالله الحكيم،محمد بن علي بن الحسن،نوادر الأصول في أحاديث الرسول،4أجزاء،تحقيق:عبد الرحمن عميرة،ط1، دار الجيل،بيروت،1992م.(1/241)مع بعض التصرف،وسأشير إليه لاحقا هكذا(نوادر الأصول).
(3) المطففين:14].
(4) ابن رجب:أبو الفرج،عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي،(736-795هـ)،التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار،جزء واحد،ط1،مكتبة دار البيان،دمشق،1399هـ.(143)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(التخويف من النّار).(1/128)
تدور تلك المكتسبات حول نوعين:الأول:الحكم،والثاني:والملك.أمّا الحكم والجاه والسلطان وحب الرياسة فذلك عند فرعون حالة هستيرية،فقد نصّب نفسه إلها وأعلن ذلك على الملأ بقوله:’’يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري‘‘(1).وهدد موسى عليه السلام حيث قال له:’’لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين‘‘(2).وهو الذي قال:’’أنا ربكم الأعلى‘‘(3).بمعنى أنّه لا رادّ لقوله ولا معقب لحكمه!يرسم ما يشاء ويأمر بما يشاء،فهي إرادة ملكية سامية،فهو المتفرد المستبد بكل أمر،والنّاس عبيد ينفذون،فهذه وظيفتهم.إنّه الحاكم المطلق وعلى الجماهير أن تقدسه وتسبح بحمده!
وهذا ما نلاحظه في بعض الأوضاع السائدة حيث تستعمل بعض العبارات الدّالة على هذا التوجه الفوقي التسلطي،فيقول الفرد عن نفسه:(نحن فلان)من باب التعظيم والعلو،ولا يقول: (أنا فلان)،ومثلها أيضا ما يقال عنه(الإرادة السّامية)أو(صاحب الجلالة)،وغيرها من العبارات التي تدل على التأليه أو الإقتراب منه.وكذلك ما نسمعه من أنّ الحاكم ولي كل نعمة وسبب كل رخاء،فإليه يُرد الفضل،ولذلك ينادونه ب(مولاي)!
ثمّ بعد هذا ما يصنعونه من التعظيم والتمجيد المبرمج،فهو مع ما سبق خارق الذكاء وبعيد النظر ويعرف ما لا يعرفه النّاس ويدرك بحنكته ما لا يدركون،وهو الأول في كل شيء!ولن يكون مثله كما لم يكن مثله،وللأسف أنّ الأرحام قد عجزت عن الإتيان بمثله!بمعنى أنّه إله وإن لم يعلن ذلك.وتتولى الأجهزة التي وضعت لهذا الغرض تسويق هذا الدجل!وما الاستعراضات والمهرجانات إلاّ صورة معبرة عن هذا الانتفاخ الزائف،وتعبير دقيق عن مكنونات تلك النّفوس.
__________
(1) القصص:38].
(2) الشعراء:29].
(3) النّازعات:24].(1/129)
إنّ الطاغوت مشغوف بحب الظهور فتراه يقرِّب منه أصحاب الذمم الميتة من الشعراء والأدباء والخطباء وأصحاب الأقلام المأجورة كي يُكيلوا له المديح والثناء إشباعا لنزعته في حب الظهور،بل إنّ وظيفة الجهاز الإعلامي الأولى هي تمجيد الزعيم والاهتمام بأعياده الخاصة!
إنّ الحكم والجاه مدار صراع بين النّاس وعليه تكالبهم،يقول تعالى:’’فما اختلفوا إلا بعد ما جاءهمُ العِلم بَغْياً بينهم‘‘(1)أي(فما وقع الخلاف بينهم في الدين إلا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم،وإنّما اختلفوا لبغى حدث بينهم حسدا وطلبا وجلبا للرياسة)(2)،وإلى هذا المرض ترجع كثير من المنازعات المغلفة بشعارات كاذبة تخفي ورائها حب الرياسة والظهور؛ذلك هو معنى الحديث:’’ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه‘‘(3)،فأنت كما ترى أن حب الرياسة مرض يجلب الفساد على الحاكم والمحكوم سواء.
(فحب الرياسة والجاه من أمراض القلوب،وهو من أضر غوائل النّفس وبواطن مكائدها)(4)،بل إنّ حب الرياسة شر من حب الدنيا،ومن ثمّ قيل:الدنيا خمر الشيطان فمن شرب منها لم يفق من سكرتها إلا في عسكر الموتى خاسرا نادما،وقالوا: (حب الرياسة أصل كل موبقة)(5).
__________
(1) الجاثية:17].
(2) تفسير النسفي(4/131)مع بعض التصرف.
(3) مسند أحمد(3/456)وسنن الترمذي،كتاب الزهد،باب ما جاء في أخذ المال(4/588)رقم(2376)قال أبو عيسى:هذا حديث حسن صحيح.سنن الدارمي،كتاب الرقائق،باب ما ذئبان جائعان(2/394)رقم(2730).
(4) فيض القدير(3/196).
(5) ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(510- 597هـ)،صفوة الصفوة،4أجزاء،تحقيق: محمود فاخوري ومحمد رواس قلعه جي،ط2،دار المعرفة،بيروت،1399هـ – 1979م.(4/236)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(صفوة الصفوة).(1/130)
إنّ حب الزعامة من موانع الإيمان عند الطواغيت؛فالذي منع أبو جهل عن الإيمان هو حب الزعامة،يقول تعالى:’’وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‘‘(1)،(فالرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف النّاس من الكفار)(2)؛ذلك أنّهم امتنعوا عن الإيمان بسبب حبهم للزعامة والرياسة.
من هنا ندرك سببا مهما من أسباب ظهور هذه الشخصية الطاغوتية ألا وهو حب الرياسة والظهور والتسلط؛ذلك المرض الذي يتجاوب مع مكنونات نفس فرعون وشعوره بالفوقية والعلو والترفع،وحب التفرد والاستبداد والاستئثار بمعنى أن تخلص له الزعامة والريادة.
ومع هذا نستطيع القول أنّ حب الظهور يجلب على صاحبه همّا دائما،فهو باستمرار يراقب ما يقوله النّاس عنه،ويحاول باستمرار أن يجلب إعجابهم به،وتلك غفلة منه عن الحقائق.فماذا يستفيد الإنسان حين يمدحه الآخرون؟أليس في هذا حمق وسفه لمن يسعى لتلك الغاية؟!
__________
(1) الزخرف:31].
(2) تفسير القرطبي(13/18).(1/131)
أمّا النوع الثاني وهو:الملك فيعني المال والثروة وهي من أهم الزخارف الدنيوية التي تصرف النّاس عن النّظر والتدبر والمعرفة والعلم،فتصبح الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم،ينشغلون بالتّافه من الأمور ويتركون العظام منها،وتصبح الدنيا محور اهتمامهم.والمنشغل في الدنيا ذاهل عن الحقائق الكبرى هابط في اهتماماته،يقول تعالى:’’فلا تغرنّكم الحياة الدنيا‘‘(1)،أي(فلا تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها)(2)،وهكذا حال الطواغيت في ذهول عن الحقائق الكبرى لا يرون إلاّ ما بين أيديهم من متاع وزخرف،وذلك هو معنى قوله تعالى:’’كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة‘‘(3).أي(إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة،ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم لأنّ همَّتَهم إلى الدار الدنيا العاجلة وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة)(4).
__________
(1) فاطر:5].
(2) تفسير البيضاوي(4/411).
(3) القيامة:20-21].
(4) تفسير ابن كثير(4/450-451).(1/132)
لقد كان فرعون صاحب ثروة ومال،بل هو المالك لكل شيء له قيمة معتبرة،وكل المال بين يديه،فها هو ينادي في قومه،أي(يرفع صوته بنفسه فيما بين قومه بذلك القول،ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه بعد أن كُشف العذاب،فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع القبط،ويعظهم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلام ويتركوه،أو أنّه أمر بالنداء بذلك في الأسواق والأزقة ومجاميع الناس)(1)،’’قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون‘‘(2).فنراه متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها، أليس لي ملك مصر من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل،وهذه الأنهار تجري من بين يدي في الجنان والبساتين ومن تحت القصور،وهي الخلجان الكبار الخارجة من النيل،حيث كانت لهم جنات وأنهار ماء، أفلا تبصرون أي أفلا ترون ما أنا فيه من النعيم والخير والعظمة وشدّة الملك (3).
ويسمعه قومه ويقرّونه،لأنّ النظام والمنهج الذي فرضه فرعون على النّاس يعطيه هذه الإمتيازات الخاصة،وبالتالي سيدافع فرعون عن منهجه ونظامه،لأنّه بذلك يدافع عن مكتسباته وامتيازاته مهما كانت طريقة الدفاع باطلة وهمجية ،ممّا يفسر لنا سبب انحرافه وسرّ ظهور شخصيته وتكوّنها.
__________
(1) روح المعاني(25/89).
(2) الزخرف:51].
(3) انظر:تفسير الطبري(25/80)وتفسير ابن كثير(4/130)وتفسير الثعالبي(4/129)وتفسير البغوي(4/142)وتفسير الجلالين(1/652).(1/133)
ومن الأدلّة على أنّه صاحب ثروة ومال قوله تعالى:’’وقال موسى ربنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك‘‘(1)،والشاهد في الآية أنّ موسى أخبر في دعائه حقيقة هي:أنّ الله قد آتى فرعون وملأه زينة وأموالا،أي ما يتزين به من الملابس والمراكب والحلي والفراش والسلاح ونحوهما من أثاث الدنيا ومتاعها،وأموالا جزيلة من أعيان الذهب والفضة،وكثيرة منوعة في هذه الحياة الدنيا (2)،ولم تكن هذه الثروة إلا نتيجة للنظام المطبق والمنهج المتبع،الذي يدافع فرعون عنه أي عن ثروته التي أفرزها ذلك الواقع.
ومن الأدلّة على ثروته قوله تعالى حكاية لقول فرعون:’’فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب‘‘(3)،والمعنى:فهلا ألقي على موسى إن كان صادقا أنه رسول رب العالمين أسورة من ذهب وهو جمع سوار،وهوما يلبس في اليد عادة،باعتبار أنّ هذا من علامات الزعامة والسيادة عندهم (4)،ولم يكن فرعون يحتج بمثل هذا لولا كونه صاحب أسورة الذهب التي تدل على زعامته وسيادته.
وكيف لا يكون شرسا مجرما في الدفاع عن مصالحه المشبوهة وهو الذي يراها مقياسا في تقييم البشر،ودليلا ظاهرا في تمييز الأعلى من بين الناس،بل هي عنده دليل على كذب موسى عليه السلام، فلو كان نبيا كما يدعي لكان صاحب مال وثروة،’’فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب‘‘(5).
__________
(1) يونس:88].
(2) انظر:تفسير الطبري(11/156)وتفسير البيضاوي(3/212)وتفسير ابن كثير(2/430)وتفسير البغوي(2/365)وفتح القدير(2/468)وروح المعاني(11/172).
(3) الزخرف:53].
(4) انظر:تفسير الطبري(25/82)وتفسير الواحدي(2/976)وتفسير البغوي(4/142).
(5) الزخرف:53].(1/134)
إنّ فرعون ينفق ما يشاء ولمن يشاء،ويُسَخِّرُ النّاس لتنمية هذه الثروة وليس لهم إلا ما يجعلهم قادرين على الخدمة والعمل،وفي سبيل هذا أغرى قسما من النّاس وحرم الأغلبية ليكون المستفيدون عونا له على قمع العبيد والخدم إذا ما سولت لهم أنفسهم التمرد على النظام القائم.
إنّ العلاقة بين الحكم والملك ظاهرة جليّة،فمن يملك يحكم،لأنّه بسيطرته على المال يسيطر على عصب الحياة،ويجعل النّاس في حاجة إليه،فيبدأ النّاس بالتودد رياءا إلى السلطان كي يمنّ عليهم بشيء ممّا عنده،فيكون أكثرهم حظا أنفعهم في تثبيت النظام،فكلما كان الفرد قادرا ومواليا كان حظه من المال أكثر.
وفي المقابل فإنّ ازدياد السيطرة والتّحكم يؤدي إلى ازدياد القدرة على جمع الثروه ونهب خيرات الجماهير،والعجزة غير قادرين بحكم السيطرة والقوة على معاندة النظام.وهكذا دواليك،فكل زيادة في التّحكم تقابلها زيادة في السيطرة على المال والثروة،والعكس صحيح.
ومن أجل هذا النّمو المتبادل بين التّحكم والسيطرة على المال والثروة كان المنهج الذي يحقق تلك الزيادة المستمرة،وهو المنهج الذي يعكس شخصية فرعون ويميّزها؛ذلك أنّ المحافظة على تلك المكتسبات هي التي شكلت المحور الأساسي الذي يدور حوله منهج فرعون،فانعكس هذا على الوسائل المستخدمة في الدفاع عن الوضع والمنهج القائم،والذي من إفرازاته ونتائجه تميّز فرعون بتلك الميزات الخاصة.
إنّ أي تغيير للأوضاع يعني تغييرا في الإمتيازات المكتسبة،ولهذا رفض فرعون معادلة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان لأنّها تهدم النّظام القائم،ودلّ على هذا شكل المواجهة التي اختارها بعد أن أقام موسى الحجة عليه،حيث قال:’’ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد‘‘(1).فالقتل هو الحل في دين فرعون ومنهجه،وهو الحل في كل نموذج تتكرر فيه شخصية فرعون.
__________
(1) غافر:26].(1/135)
من هنا نفهم لماذا يقف أصحاب الإمتيازات أمام الدّين الحق ويحاربونه؛(لأنّه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين.وهم إنّما يقيمون ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته.وأقاموا أنفسهم أربابا من دون الله يُشرِّعون للناس ما يشاؤون،ويعبدون النّاس لما يشرعون!إنّهما منهجان لا يجتمعان،أو هما دينان لا يجتمعان..وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون..ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين)(1)؛ذلك أنّ البوصلة التي تحدد اتجاه فرعون وخط سيره هي المحافظة على مكتسباته،فكل ما يصبُّ بهذا الإتجاه فهو مصان في نظام فرعون.
إنّ الطواغيت لديهم حساسية من أي مراقبة مالية،فهم يستأثرون بالثروة وبتوزيعها،ينتفضون بشراسة إن سُئلوا من أين لكم هذا؟أو إن سُئلوا أين أنفقتم أموال الأمّة؟فتلك أسئلة محرجة قد توقظ الجهلة والغافلين،ليسألوا عن حقوقهم،وذلك باب لا يريد الطاغوت له فتحا.فالطاغوت لا يقبل أن تُذاع على النّاس أخبار القصور وحياة الترف والبذخ التي يعيشها الطواغيت على حساب الشعوب وحرمانهم.وفي المقابل كان الطواغيت-وما زالوا-أعداءا للحرية والرأي،فهم لا يقبلون المشاركة في الحكم وسياسة الدولة؛ذلك أن أي مشاركة تُنقص من جاههم المزعوم،وقد تؤدي إلى فضح ما لا يسمح الطاغوت بفضحه.
إنّ لنا في فرعون عبرة وعظة،ولقد حذرنا النبيّ صلى الله عليه وسلّم بقوله:’’إنّ الدنيا حلوة خضرة،وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الدنيا‘‘(2).
المبحث الثالث
فسق الأغلبية ومشاركة الفئات المستفيدة لفرعون ومساندتهم له
__________
(1) في ظلال القرآن(3/605-606).
(2) سنن الترمذي،كتاب الفتن،باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة (4/483)رقم(2191)وقال أبو عيسى:’’هذا حديث حسن صحيح‘‘.(1/136)
إنّ الحاكم-أيّا كان هذا الحاكم-فهو فرد،وليس بمقدور الفرد مهما أوتي من قدرات وميّزات أن يسيطر على النّاس بمفرده،ولا أن يدير دفة الحكم ويرعى شؤون الدولة وحده،فلكي يكون قادرا على السيطرة أو على رعاية الأمة لا بدّ له من أعوان يساعدونه في إدارة الحكم والمحافظة على النّظام وغير ذلك كثير.
وسواء كان هذا الحاكم أو السلطان فاروقا في العدل أو مغرقا في الظلم،فهو بحاجة إلى معين له.فأبو بكر الصدّيق يقول للنّاس(فإن أحسنت فأعينوني)(1)،فلا غنى لمن هو في قمة الإحسان والورع عن الأعوان.فإن كان الحاكم
__________
(1) هذا جزء من الخطاب الذي ألقاه أبو بكر بعد تولّيه الخلافة حيث قال: (أيها الناس فإني وليت عليكم ولست بخيركم،فإن أحسنت فأعينوني،وإن أسأت فقوموني،الصدق أمانة،والكذب خيانة،والضعيف منكم قوي عندي حتى أرد عليه حقه إن شاء الله تعالى،والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله تعالى.لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل،ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم البلاء.أطيعوني ما أطعت الله ورسوله،فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم،قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله) الطبري:أبو جعفر،أحمد بن عبد الله بن محمد،(615-694هـ)،الرياض النضرة في مناقب العشرة،جزءان،تحقيق: عيسى عبد الله محمد مانع الحميري،ط1،دار الغرب الإسلامي،بيروت،1996.(2/213)رقم(416)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الرياض النضرة)،وانظر الأزدي: معمر بن راشد،(ت151)،الجامع،جزءان،تحقيق: حبيب الأعظمي (منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني ج10)،ط2،المكتب الإسلامي،بيروت،1403.(11/336)رقم(20702)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الجامع لمعمر بن راشد)وتاريخ الطبري(2/238)وابن هشام:أبو محمد،عبد الملك بن أيوب الحميري المعافري،(ت213هـ)،السيرة النبوية لابن هشام،6أجزاء،تحقيق: طه عبد الرءوف سعد،ط1،دار الجيل،بيروت،1411هـ.(6/82)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(السيرة النبوية لابن هشام).(1/137)
من أهل الحق فلمن عاونه أجر عظيم،لأنّه لولا هذه المعونة لما استطاع الحكم،وهؤلاء هم بطانة الخير وأهل الفضل.وأمّا إن كان الحاكم جائرا ظالما فعلى من سانده وعاونه إثم ووزر،لأنّه لولا هذه المعاونة لما استطاع أن يُخضع النّاس ويُذلّهم،فهم أنصار الباطل وشركاء الإثم.
ولمّا كان فرعون فردا لا يستطيع أن يفرض نظامه بمفرده كان لا بدّ له من أعوان يساندونه ويشاركونه،وهم بذلك سبب في ظهور هذه الشخصية المنحرفة، فلولاهم لما تفرعن فرعون وطغى وتجبر.وفي المقابل لا بدّ من جمهور يتقبل هذا الذل،ولن تخضع الجماهير للذل إلا إذا كانت فاسقة،فيكون فسق الأغلبية سببا في انتفاش الباطل وسيطرته.ولمّا اجتمع لفرعون فسق الجمهور ومشاركة المنتفعين المتزلفين تمكّن.
ويمكننا من خلال القرآن الكريم أن نحدد المشاركين والمساندين لفرعون الذين ساهموا في إبراز شخصيته وإظهارها،وهم:
أولا:هامان
والذي يمثل أقرب النّاس إلى فرعون،فهو(وزيره ومدبر رعيته ومشير دولته)(1)وساعده الأيمن،والشخصية الثانية في هرم الحكومة،حيث نص القرآن على أنّه شريك في الخطيئة،حيث يقول تعالى:’’إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين‘‘(2).أي كانوا خاطئين آثمين في كل شيء،في أفعالهم وأقوالهم،ومذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم،ليكون لهم عدوا وحزنا (3).وهامان شريك في كل ذلك فقد جمعه النّص مع فرعون في الإثم والعقوبة.
__________
(1) تفسير ابن كثير(3/391).
(2) القصص:8].
(3) انظر:تفسير البيضاوي(4/283)وتفسير الطبري(20/33)وتفسير ابي السعود(7/4)وفتح القدير(4/160)وتفسير النسفي(3/228).(1/138)
وهامان هو الذي يُسوِّق دجل فرعون،ويشترك معه في خداع النّاس وتضليلهم،فبعد أن أعلن فرعون عدم علمه بإله غيره-’’وقال فرعون يا أيُّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي اطلع الى إله موسى واني لأظنه من الكاذبين‘‘(1)-أمر هامان بفعل ما من شأنه تضليل النّاس،فدور هامان في إسناد الحكومة وتثبيتها دور كبير خطير،وذلك لما يتمتع به هامان من قدرات ومواهب شخصية مكّنته من لعب هذا الدور،ولهذا يسند إليه فرعون المهمة تلو المهمة،ولقد كان من أبرز هذه المهمات بناء الصرح،فهو يأتمر بأمره ويفهم أهداف فرعون ومراميه.’’وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب‘‘(2).فتلقّى هامان أوامر فرعون وإعلانه بالقبول والإقرار،وباشر العمل مع علمه بكذب فرعون ودجله.
إنّ هامان يشارك فرعون القلق والحذر والتّيقظ،يقول تعالى:’’ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‘‘(3).والشاهد في الآية أنّ الله سبحانه أخبرنا أنّ هامان-كما هو حال فرعون-كان يحذر من موسى عليه السلام،(والحذر هو التّوقي من الضرر،وذلك أنّهم أُخبروا أنّ هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل،فكانوا على وجل منهم،فأراهم الله ما كانوا يحذرون)(4).والسبب لهذا الحذر من قبل هامان هو فسقه ومحافظته على امتيازاته التي يفرزها ذلك النّظام،فمصلحته مع بقاء النّظام وتزول بزواله.
__________
(1) القصص:38].
(2) غافر:26].
(3) القصص:6].
(4) تفسير البغوي(3/434)وانظر:تفسير الواحدي(2/813)وتفسير القرطبي(13/249).(1/139)
إنّ أعوان الظلم والقهر والإضطهاد ليسوا في منزلة واحدة في القرب من النّظام،فالأسوأ والأكثر قدرة وإمكانيات هو الأقرب منزلة،فكلما أثبت أنّه الأسوأ والأقدر على الخدمة كلما كان حظه في سُلّم الوظائف المُنعم بها على الأعوان من قبل السلطة أوفر،فهذا هو مقياس الحكومة الرشيدة!التي لا تُري النّاس-بزعم فرعون-إلا سبيل الرشاد؛ولهذا كان هامان مُقرّبا،وهكذا كلّ من كان مثله في أيّ حكومة رشيدة كحكومة فرعون!
وكما شارك هامانُ فرعون الحذر شاركه -أيضا-في الإستكبار،ممّا جعله أكثر تأهيلا للمشاركة الفاعلة،يقول تعالى:’’وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض بغير الحق وما كانوا سابقين‘‘(1).فهو من الممتنعين-مع السلطان-عن قبول الحق مهما كانت البينات كثيرة وساطعة.
وهامان من الطغمة الحاكمة،فموسى عليه السلام مبعوث إليه كما هو مبعوث إلى فرعون،يقول تعالى:’’ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب‘‘(2).فكان هامان مع فرعون قولا واحدا؛’’ساحر كذّاب‘‘،فلا ندري أهو سبق الحكومة أم الحكومة سبقته!فهو في سباق الشر طائش.وهذا تفسير لبعض ما قد يحدث،حيث نرى أذناب النّظام أشد شراسة من النّظام نفسه،يبتغون عنده القرب والمنزلة،ويحاولون بمثل هذا أن يثبتوا جدارتهم كي يعتمد النّظام عليهم!
__________
(1) العنكبوت:39].
(2) غافر:23-24].(1/140)
وبعد هذا ألا يكون هامان سببا في دعم النّظام المتمثل بشخصية فرعون،وهو المشترك في الخطيئة والمنفذ للأوامر والدّائم الحذر!وهو الذي يسابق الحكومة في قول الزور.ولم تكن هذه المشاركة والمؤازرة من هامان إلا لكونه من أصحاب الإمتيازات،فمصلحته مع النّظام القائم،وهذا سرّ دعمه لفرعون.وكم نحن نعاني من أولئك المنتفعين من النّظام،حيث تزداد شراستهم كلما ازدادت منفعتهم منه.فليست المسألة عندهم قناعة يمارسونها أو إيمان يسيرون معه،فهذا شرف لمن فعله،ولكنهم مجردون من كل شرف!
ثانيا:الأسرة الحاكمة
وتشمل الملأ من قوم فرعون وآل فرعون وقومه
الأسرة الحاكمة من الفئات المشاركة والمساندة لحكم فرعون،وهم الفراعنة،و(هي الأسر التي حكمت مصر منذ(3100)قبل الميلاد وحتى السيطرة الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد)(1).وذكر(أنّ الذين ملكوا مصر-باتفاق كثير من أهل التاريخ على اختلاف بينهم-من الفراعنة اثنان وثلاثون فرعونا)(2)،ممّا يدلّ على طول مدة حكم الفراعنة.وتتشكَّلُ الأسرة الحاكمة من الفئات التالية:
__________
(1) موسوعة السياسة(4/482).
(2) النّجوم الزاهرة(1/60).(1/141)
أولا:الملأ من قوم فرعون،وهم(الرؤساء سُمُّوا بذلك لأنّهم ملاءُ بما يحتاج إليه،وقيل:أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذي يرجع إلى قولهم)(1)،(واشتقاقه من ملأت الشيء،وفلان مليء إذا كان مكثرا،فمعنى الملأ:الذين يملأون العين والقلب وما أشبه هذا)(2).ونقول:(تمالئوا على الأمر اجتمعوا عليه،والملأ الجماعة)(3)،و(هم الذين يملؤون العيون بهجة والقلوب هيبة)(4)،و(المليئون بما يفوض إليهم)(5).والملأ من قوم فرعون هم أشراف القوم ورؤساءهم وسادتهم وقادتهم والكبراء منهم(6)،فالملأ(أشراف قوم فرعون ورؤساءهم)(7)،و(هم أهل مشورته ورؤساء دولته)(8)،وهم البطانة والحاشية المقربة المستقرون حول فرعون،والجلساء الخاصون من أشراف قومه(9).
__________
(1) لسان العرب،مادة:ملأ(1/159)وانظر:القاموس المحيط،فصل الميم،مادة:ملأ(1/66)وكتاب العين،مادة:ملأ(8/346).
(2) التبيان في تفسير غريب القرآن(1/132).
(3) مختار الصحاح،مادة:ملأ(1/263)وانظر: ابن المطرز:أبو الفتح،ناصر الدين بن عبد السيد بن علي،(538-610هـ)،المغرب في ترتيب المعرب،جزءان،تحقيق: محمود فاخوري وعبدالحميد مختار،ط2،مكتبة أسامة بن زيد،حلب،1979م.مادة:ملأ(2/272)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(المغرب).
(4) التعاريف(1/673).
(5) معاني القرآن(3/46).
(6) انظر:تفسير البيضاوي(3/30)وتفسير القرطبي(7/234)وتفسير ابن كثير(2/224)وتفسير الطبري(11/150)وفتح القدير(2/217).
(7) تفسير الطبري(20/52).
(8) روح المعاني(9/21).
(9) انظر: الكامل في التاريخ(1/140).(1/142)
ثانيا:آل فرعون هم(أهله وعياله)(1)،(ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالبا،فلا يقال:آل الاسكاف كما يقال:أهله)(2)،وقالوا:الآل ليس بمعنى الأهل(لأنّ الأهل القرابة،والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأى أو مذهب)(3)،فالآل-على هذا القول-هم الأتباع(وهم الذين كانوا على منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه )(4)،والظاهر أنّ آل فرعون(أطلق على أهل بيته وعلى الأتباع)(5)؛فآل فرعون(قومه وأهل دينه)(6).
ثالثا:قوم فرعون،(وهم قبط مصر)(7)،وهم القاعدة العريضة في الأسرة الحاكمة التي تساند فرعون.
أولا:الملأ من قوم فرعون
__________
(1) لسان العرب،مادة:أول(11/37).
(2) القاموس المحيط،مادة:آل(1/1245).
(3) روح المعاني(1/253)مع بعض التصرف.(وقيل:الآل بمعنى الأهل وألفه بدل من هاء وتصغيره أهيل.وقيل:الآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب،فألفه بدل من واو،وتصغيره أويل.قال الأخفش لا يضاف إلا إلى الر ئيس الأعظم نحو آل محمد وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة)التبيان في تفسير غريب القرآن(1/84).
(4) تفسير الطبري(9/49).
(5) المصباح المنير،مادة:آل(1/29).
(6) التبيان في تفسير غريب القرآن(1/84).
(7) تفسير ابن كثير(4/142)وانظر:تفسير الطبري(25/118)والمنتظم في التاريخ(1/346) وابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل ابن عمر الدمشقي،(701-774هـ)، البداية والنهاية،14جزء،مكتبة المعارف،بيروت.(1/268)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(البداية والنهاية).(1/143)
وهم في مكانة مرموقة في نظام فرعون،حيث يشغلون مراكز حساسة ووظائف مهمة،وبسبب وضعهم هذا فقد جمعهم القرآن الكريم مع فرعون،وساوى بينهم وبينه من حيث أنّ موسى مبعوث إليهم كما هو مبعوث إلى فرعون،ولذلك(كان تخصيصهم بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم لأن من عداهم كالأتباع لهم)(1).يقول سبحانه وتعالى:’’ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(2).بآياتنا يعني المعجزات التي بعثنا بها موسى إليهم،فظلموا بها بأن كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها،فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا،كقوله تعالى:’’إنّ الشرك لظلم عظيم‘‘(3)،ولقد ظلموا أنفسهم بسببها بأن عرَّضوها للعذاب الخالد،وظلموا النّاس بصدهم عن الإيمان بها.وكان كفرهم عنادا لا عن قصور في الدليل،لقوله تعالى:’’وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(4)،أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله،كيف كان آخر أمرهم،ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مسلتزم للإفساد (5).
__________
(1) فتح القدير(2/230).
(2) الأعراف:103].
(3) لقمان:13].
(4) النمل:14].
(5) انظر:تفسير النسفي(2/28)وتفسير البغوي(2/185)وتفسير ابي السعود(3/257)وتفسير الطبري(9/13)ومعاني القرآن(3/60).(1/144)
وكما كان الملأ مع فرعون مشتركين في الظلم الذي لازمه الفساد والإفساد،فهم أيضا مع فرعون في رفض الحق والامتناع عن قبوله،كما أنّهم في الإجرام سواء، يقول تعالى:’’ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين،فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إنّ هذا لسحر مبين،قال موسى أتقولون للحق لمّا جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون‘‘(1).والمعنى أنّهم استكبروا عن اتباع الحق والإنقياد له فامتنعوا عن قبوله،وكانوا قوما مجرمين معتادين الإجرام،ذوي آثام عظيمة كبيرة،فلذلك تهاونوا برسالة ربهم واجترأوا على ردّها،لأنّ الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب؛فلمّا جاءهم الحق من عند الله وعرفوه بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك،قالوا من فرط تمردهم:إنّ هذا لسحر مبين،ظاهر أنّه سحر أو فائق في فنّه واضح فيما بين إخوته،كأنّهم قبحهم الله أقسموا على ذلك وهم يعلمون أنّ ما قالوه كذب وبهتان (2).
__________
(1) يونس:75-77].
(2) انظر:تفسير ابن كثير(2/427)وتفسير البيضاوي(3/210)وفتح القدير(2/464)وتفسير النسفي(2/137).(1/145)
إنّ الملأ يتنفسون المنصب والجاه والسلطة ولا يرون للأتباع أي حق ولوكان مجرد الإستماع لهم والتفكير-ولو لحظة-فيما يقولون؛ذلك لأنّهم من المستكبرين العالين كما بيّن القرآن الكريم،يقول تعالى:’’ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين‘‘(1).والمعنى أنّهم استكبروا على الإيمان والمتابعة،أى طلبوا الكبر وتكلفوه فلم ينقادوا للحق،وكانوا قوما عالين مترفعين من عادتهم الاستكبار والتمرد،متكبرين على أهل ناحيتهم ومن في بلادهم من بني إسرائيل وغيرهم بالظلم قاهرين لهم (2).إنّ تنفس الملأ للجاه والمنصب جعلهم يُواجهون موسى عليه السلام بالسخرية والاستهزاء،وسولت لهم أنفسهم-المُصابة بمرض الإنتفاش-الاستخفاف بآيات الله.يقول تعالى:’’ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إنّي رسول رب العالمين،فلمّا جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون،وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون‘‘(3).أي(فلمّا جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون استهزاء وسخرية)(4).وبيّن سبحانه أنّ العلة فى أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم،ولكنّ الملأ لم يرجعوا عن غيّهم وضلالهم،فهم أموات غير أحياء،لأنّ الميت من مات قلبه والعياذ بالله.
__________
(1) المؤمنون:45-46].
(2) انظر:تفسير الواحدي(2/747)وتفسير البغوي(3/310)وفتح القدير(3/485)وزاد المسير(5/475)وتفسير النسفي(3/123).
(3) الزخرف:46-48].
(4) فتح القدير(4/558-559)وانظر:تفسير النسفي(4/116)وروح المعاني(25/87).(1/146)
والملأ من قوم فرعون كفرعون فاسقون،لأنّ من يصل إلى درجة ومرتبة الأشراف والسادة في نظام كنظام فرعون لا بدّ أن يكون فاسقا،ذلك أنّ غير الفاسق لا يستطيع الإنخراط في مثل حكومة كهذه،فلكلّ كائن حيّ وسط يعيش فيه،ثمّ إنّ الحكومة لا تقبل في هذا المنصب رجلا نظيفا لا يتصف بالفسق،فالفسق شرط وضرورة للتّرقّي في سلم الحكومة،ودلّ على ذلك قوله تعالى:’’فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه،إنّهم كانوا قوما فاسقين‘‘(1)، أي(من الرؤساء والكبراء،إنّهم كانوا قوما فاسقين،أي خارجين عن طاعة الله مخالفين لأمره ودينه)(2)،فهم جديرون بسبب فسقهم أن يُبعث إليهم.
إتباع الملأ لأمر فرعون
__________
(1) 495[القصص:32].
(2) تفسير ابن كثير(3/389)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير الطبري(20/73)ومعاني القرآن(5/179)وتفسير الثعالبي(3/176)وفتح القدير(4/170).(1/147)
لقد اتبع الملأ أمر فرعون عن علم وبينة،بعد أن جاءهم موسى عليه السلام بالآيات والسلطان المبين،فلم يكن اتباعهم عن قلة علم ومعرفة،وفي هذا زيادة سوء وقبح منهم،ودليل على غيهم وفسادهم،فبدلا من اتباع موسى-الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة-اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان،الدّاعي إلى ما لا يخفي فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم(1).،يقول تعالى:’’ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين،إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد‘‘(2).أي(ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا وحجة تبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيح أنها تدل على توحيد الله وكذب كل من ادعى الربوبية دونه،وبطلان قول من أشرك معه في الألوهة غيره إلى فرعون وملئه)(3)أي أشراف قومه.فاتبعوا أمر فرعون،أي شأنه وحاله ومنهجه حتى اتخذوه إلها وخالفوا أمر الله تعالى،ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة،ولكنّهم اتبعوا أمر فرعون الذي هو جهل وضلال وكفر وعناد،وليس برشيد ولا سديد يؤدي إلى صواب،فليس فيه رشد ولا هدى،وإنّما هو غي محض وضلال صريح (4).
لقد اختار الملأ اتباع أمر فرعون،فاستقبلوا أكذوبة فرعون الكبرى بالقبول والتأييد والترحيب والترويج،يقول تعالى:’’وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري‘‘(5).فهم أول من يُوجَّه لهم الخطاب الفاجر،فيذعنون ويقرون ويتّبعون.
__________
(1) انظر:تفسير ابن كثير(4/77)وتفسير البيضاوي(3/259).
(2) هود:96-99].
(3) تفسير الطبري(12/109).
(4) انظر:تفسير القرطبي(9/93)وتفسير ابن كثير(2/459)وتفسير البيضاوي(3/259).
(5) القصص:38].(1/148)
(ولمّا كانوا تبعا لفرعون في هذا الأمر يمشون خلفه،ويتبعون خطواته الضالة بلا تدبر ولا تفكر،ودون أن يكون لهم رأي،مستهينين بأنفسهم،متخلين عن تكريم الله لهم بالإرادة والعقل وحرية الاتجاه واختيار الطريق .. لما كانوا كذلك فإنّ فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعا)(1).يقول تعالى:’’فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد،يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود،وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود‘‘(2)،(فأوردهم إياها وشربوا من حياض رداها،وله في ذلك الحظ الأوفر من العذاب الأكبر)(3)؛ذلك أنّ نهاية وعاقبة الذين يتبعون أئمة الضلال وخيمة وحسرتهم كبيرة،حين يقولون:’’لو أنّ لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منّا،كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النّار‘‘(4).إنّها لحظات مرّة ومريرة،حيث لا ينفع النّدم،ولا يُقبل عدل ولا تنفع شفاعة.فهل من رجوع إلى الله قبل أن تأتي ساعة لا مردّ لها من الله.
الأسباب الحقيقة لاتباع الملأ أمر فرعون
إنّ رفض الحق وعدم الإنصياع له بعد ظهوره من قبل الملأ له أسبابه،كما هو الحال عند كل من يمتنع عن قبول الحق،وليست هذه الأسباب مرتبطة بقصور الحجة بل إنّ النصوص تثبت والوقائع كلها أنّ هذا الإمتناع كان بعد علمهم وتيّقنهم أنّ ما جاء به موسى هو الحق من الله،فهناك موانع خاصة ومصالح دنيوية تلعب دورا مهما في قبول أو رفض الحق،وهكذا كان الملأ من قوم فرعون،فعدى عن كونهم كفروا بآيات واستكبروا وظلموا وفسقوا وأجرموا،فهم أيضا استحبوا الحياة الدنيا،وآثروا العاجلة على الآخرة،حيث أعمتهم مصالحهم القريبة الفانية عن رؤية الحق والحقيقة،وهذه علة مزمنة وعاهة مستديمة ومرض الحكومات الفاجرة والبطانة المساندة.
إنّ مصالح الملأ تدور على محورين هما:
__________
(1) في ظلال القرآن(4/419).
(2) هود:96-99].
(3) تفسير ابن كثير(2/459).
(4) البقرة:167].(1/149)
أولا:الكبر والمحافظة على الموروث والحرص على الرياسة الدنيوية،حيث لم يُخفِ الملأ علّتهم حيث قالوا:’’أجئتنا لتلفتنا(1)عمّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين‘‘(2).أي أجئتنا لتلفتنا أي تثنينا وتصرفنا وتلوينا وتردنا عمّا وجدنا عليه آباءنا،أي الدين الذي كانوا عليه من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون.وتكون لكما أي لك ولهارون الكبرياء في الأرض،أي العظمة والرياسة والعز والسلطان والملك فيها،لأنّ الملوك موصوفون بالكبر والعظمة والعلو..فما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به (3).
(وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز الحجة،ولم يجدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم،بل لجئوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة وهو الاحتجاج بما كان عليه آباؤهم من الكفر،وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم للآيات البينة وهو الرياسة الدنيوية التى خافوا عليها،وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا..والحاصل أنّهم علّلوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين:التمسك بالتقليد للآباء،والحرص على الرياسة الدنيوية،لأنّهم إذا أجابوا النّبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه،ولم يبق للملك رئاسة تامة،لأنّ التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات.ثم قالوا وما نحن لكما بمؤمنين تصريحا منهم بالتكذيب وقطعا للطمع في إيمانهم)(4).
__________
(1) اللفت الصرف،يقال: ما لفتك عن فلان أي ما صرفك عنه،واللفت لي الشيء عن جهته كما تقبض على عنق إنسان فتلفته)لسان العرب،مادة:لفت(2/84-85).ومعنى(لتلفتنا لتصرفنا والالتفات الانصراف)التبيان في تفسير غريب القرآن(1/232).
(2) يونس:78].
(3) انظر:تفسير ابن كثير(2/427)وتفسير الثعالبي(2/187)وتفسير ابي السعود(4/169)وتفسير الواحدي(1/505)وتفسير البغوي(2/363).
(4) فتح القدير(2/465)مع بعض التصرف.(1/150)
لقد أظهر الملأ أغراضهم وغاياتهم،فقد قالوها صريحة فيما بينهم:’’أنؤمن لبشرين مثلنا(1)وقومهما لنا عابدون،فكذبوهما فكانوا من المهلكين‘‘(2).والمعنى لا نؤمن لبشرين مثلنا فنتبعهما وقومهما-يعني بني إسرائيل-لنا عابدون خادمون منقادون مطيعون متذللون،يأتمرون لأمرهم ويدينون لهم،والعرب تسمي كل من دان الملك عابدا له(3)،(وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما السلام،وحط رتبتهما العليّة عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية….بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من المال والجاه،كدأب قريش حين قالوا:’’لولا نُزِّلَ هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‘‘(4)،وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من خلقه)(5).
__________
(1) إنّ قصارى شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم لما بينهم من المماثلة في الحقيقة،وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمل،فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإدراك لكنها متباينة الأقدام فيهما..فالأنبياء أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال،فيدركون ما لا يدرك غيرهم ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم، وإليه أشار بقوله تعالى:’’قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد‘‘[الكهف:110]) تفسير البيضاوي(4/156-157)مع بعض التصرف.وانظر:روح المعاني(18/36).
(2) المؤمنون:47-48].
(3) انظر:تفسير الطبري(18/25)وتفسير البغوي(3/310)وفتح القدير(3/485)وتفسير النسفي(3/123).
(4) الزخرف:31].
(5) روح المعاني(18/37)مع بعض التصرف.(1/151)
إنّه(الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة،التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي.وهو الخوف على السلطان في الارض،هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.إنّها العلة القديمة الجديدة،التي تدفع الطغاة إلى مقاومة الدعوات،وانتحال شتى المعاذير،ورمي الدعاة بأشنع التهم ، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة)(1).
ثانيا:المحافظة على مكتسباتهم الخاصة،وثروتهم التي حازوها بالباطل.ولقد بيّن القرآن أنّهم أصحاب ثروة ومال،كما جاء في دعاء سيدنا موسى عليه السلام’’ربنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك‘‘(2).فهم أصحاب الزينة والمال،وهو ما يتزين به من الملابس والمراكب والحلي والفراش والسلاح ونحوهما من أثاث الدنيا ومتاعها،وأموالا جزيلة من أعيان الذهب والفضة،وكثيرة منوعة في هذه الحياة الدنيا (3)،حيث استعملها الملأ في الإضلال عن سبيل الله.
لقد رفضوا الحق الذي يحاسبهم على ثروتهم التي جلبوها من استغلال النّاس واستعبادهم بطرق آثمة،ودعموا نظام فرعون لأنّه يحافظ على تلك الثروة ويمنع محاسبتهم،فكانوا سببا في تشكيل تلك الشخصية العاتية المتجبرة وتثبيت ذلك النّظام.
__________
(1) في ظلال القرآن(4/465).
(2) يونس:88].
(3) انظر: تفسير ابن كثير(2/430)وتفسير الطبري(11/156)وتفسير البغوي(2/365)وفتح القدير(2/468)وروح المعاني(11/172).(1/152)
وهكذا كان الملأ من قريش يتخوَّفون من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تسلبهم مراكزهم التي أفرزها الوضع الجاهلي الذي يعيشون فيه،فإن تَغَيَّرَ هذا الوضع زالت عنهم تلك الزعامة الظالمة والمكاسب الخاصة،فهم المستفيدون من هذا التفاوت الطبقي الجائر،يقول تعالى:’’وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يراد‘‘(1)،لقد أطلقوا تحذيراتهم وصفارات إنذاراتهم قائلين: (إنّ هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء،وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه)(2)،إنّها العلة القديمة الجديدة،يَستُرونَها بأغطية متنوعة متعددة؛مرة بدعوى المحافظة على أمن البلد..ومرة بعدم السماح للمخربين من تحقيق مآربهم..ومرة من أجل مستقبل مشرق بأيد أمينة!وكلّها أغطية تستر وراءها أطماع الملأ والحاشية المقربة.
المشاركة العملية للملأ
من أجل مصالحهم شاركوا في تثبيت النظام،فهم جشعون نفعيّون وصوليون،ولهذا دعموا فرعون في موقفه من موسى والدعوة الجديدة،فهم ممتنعون عن قبول الحق رافضون له كما تقدم،ويعلنون اتِّباعهم لفرعون ومنهجه وطريقة حكمه.ثمّ بعد هذا يشاركون عمليا في تصريف شؤون الحكم والدولة،ويحافظون على النظام،حتى أنّ النّص القرآني-في أول إشارة منه إلى طبيعة مشاركتهم-لم يذكر معهم فرعون،فكأنّ ما قاموا به من مؤامرة على موسى يقع ضمن صلاحياتهم،أو أنّهم بادروا من تلقاء أنفسهم لحماية الحكومة للتدليل على مدى إخلاصهم لفرعون،وكان ذلك عندما وكز موسى عليه السلام القبطي دفاعا عن مظلوم من بني قومه فقضى عليه.
__________
(1) ص:6].
(2) تفسير الطبري(23/126).(1/153)
(لقد عرف الملأ من قوم فرعون،وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنّها فعلة موسى.وما من شك أنّهم أحسوا فيها بشبح الخطر،فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد،والإنتصار لبني إسرائيل؛فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر.ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها الملأ والكبراء)(1).وفي هذا دليل على مدى حرصهم على نظام فرعون،وحزمهم في القضاء على أي نوع من التململ الذي ينذر بالتّمرد على النظام.
فها هم يديرون المؤامرة في الخفاء لقتل موسى،فالقتل جزء من المعالجة لأي تمرد قد يقع،كما أنّه وسيلة لإرهاب من تحدثه نفسه بالخروج على النّظام.ويتسرب الخبر إلى رجل يميل بقلبه إلى دعوة موسى،فينطلق إليه مخبرا.(ذُكر أن قول الإسرائيلي سمعه سامع فأفشاه وأعلم به أهل القتيل،فحينئذ طلب فرعون موسى وأمر بقتله،فلمّا أمر بقتله جاء موسى مخبر وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره،وأشار عليه بالخروج من مصر بلد فرعون وقومه)(2).وهذا ما يرشد إليه قوله تعالى:’’وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون(3)بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من النّاصحين‘‘(4).أي(إنّ الملأ-وهم وجوه أهل دولة فرعون-يأتمرون بك أي يتشاورون بسببك،وإنّما سمي التشاور ائتمار لأنّ كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر ليقتلوك،فاخرج من المدينة قبل أن يظفروا بك إنّي لك من النّاصحين)(5).
__________
(1) في ظلال القرآن(6/335).
(2) تفسير الطبري(20/50).
(3) تأمروا على الأمر وائتمروا تماروا وأجمعوا آراءهم)لسان العرب،مادة:أمر(4/29).و(يأتمرون بك:يتآمرون في قتلك)التبيان في تفسير غريب القرآن(1/327).
(4) القصص:20].
(5) روح المعاني(20/58).(1/154)
ومن مظاهر مشاركتهم ومساندتهم لفرعون ترديدهم لكلامه وتبنِّيهم لمواقفه وسيرهم على نهجه،فهم مستقرون حول فرعون-في مشهد يوحي بمدى قربهم منه وملاصقتهم له-يستمعون لخطابه في معرض ردّه على موسى عليه السلام،حيث يقول لهم:’’إنّ هذا لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘(1)،وقصد-لعنه الله-تنفيرهم عن موسى عليه السلام بتذكيرهم بسلطانهم وملكهم المهدد على يديه،من خلال نسبة الإخراج من الأرض إليهم(2).إنّه يُحرِّضهم ويُحرِّضونه-كما سيأتي قريبا-،فكأنّهم تواصوا به،فيوصي بعضهم بعضا،فالمشاعر متجانسة والمصالح متشابكة وهم في سلة واحدة،فمصيرهم واحد،وجميعهم من موسى حذرون!
__________
(1) الشعراء:34-35].
(2) انظر:تفسير البيضاوي(4/237)وتفسير أبي السعود(6/241).(1/155)
وسرعان ما وافقوه وقالوا كمقالته،فلكل طاغية أبواق تنعق بما تعلم ولا تعلم،يشاركون في التزوير والتضليل دعاة على أبواب جهنّم(1)،يقول تعالى:’’قال الملأ من قوم فرعون(2)إنّ هذا لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون(3)‘‘(4).فتشاوروا(كيف يصنعون في أمره،وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه،وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره-فيما يعتقدونه-فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم وإخراجه إياهم من أرضهم،والذي خافوا منه
__________
(1) روى البخاري من حديث أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول:’’ثم كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.فقلت يا رسول الله:إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير،فهل بعد هذا الخير من شر؟قال:نعم.قلت:وهل بعد ذلك الشر من خير؟قال:نعم وفيه دخن.قلت:وما دخنه؟قال:قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر.قلت:فهل بعد ذلك الخير من شر؟قال:نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.قلت يا رسول الله:صفهم لنا.قال:هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.قلت:فما تأمرني إن أدركني ذلك؟قال:الزم جماعة المسلمين وإمامهم.قلت:فان لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟قال:فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك‘‘صحيح البخاري،كتاب الفتن،باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة(6/2595)رقم(6673).
(2) إنّ هذا الكلام قاله فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم.أو أنّ هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملأ نقلا عنه)روح المعاني(9/22).
(3) فماذا تأمرون الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم لبعض وقيل انه من كلام فرعون)تفسير الثعالبي(2/42).
(4) الأعراف:109-110].(1/156)
وقعوا فيه،كما قال تعالى:’’ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‘‘(1).فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ماحكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى:’’قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين،يأتوك بكل ساحر عليم‘‘(2)(3).وفي قوله:’’قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين،يأتوك بكل سحّار عليم‘‘(4)،فهم حوله يستشيرهم فلا يبخلون عليه بالمشورة.
وقام الملأ بدور التحريض،ممّا يدلّ على شدة حرصهم على النّظام القائم،فمصيرهم مرتبط بمصير فرعون،أو كما قيل:إنّهم في قارب واحد.وهودور خطير يلقي الضوء على سبب مهم من أسباب ظهور شخصية فرعون.يقول تعالى:’’وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك‘‘(5).أي تدعهم ليفسدوا في الأرض بتغيير النّاس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك وعبادة ربهم دونك،فتحدث الفرقة وتشتيت الشمل،ويفسدوا عليك خدمك وعبيدك،فيحدث الفساد الديني والدنيوي،فصار هؤلاء يشفقون على إفساد موسى وقومه(6)!
__________
(1) القصص:6].
(2) الأعراف:111-112].
(3) تفسير ابن كثير(4/237).
(4) الشعراء:36-37].
(5) الأعراف:137].
(6) انظر:تفسير الطبري(9/24)وتفسير الواحدي(1/408)وتفسير القرطبي(7/261)وفتح القدير(2/235)وروح المعاني(9/28).(1/157)
فالإفساد في الأرض –من وجهة نظرهم-(هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده،حيث يترتب عليها تلقائيا بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله.إذ إنّ هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون لأمره –أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه- وإذن فهو- بزعمهم-الإفساد في الأرض،بقلب نظام الحكم،وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر،وإنشاء وضع آخر مخالف تماما لهذه الأوضاع،الربوبية فيه لله لا للبشر.ومن ثمّ قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه)(1)؛ذلك لأنّ تلك الآلهة هي الغطاء التي يعيش تحته الملأ،ومنه يستمدون قدسيتهم وهيبتهم ومراكزهم..وإلاّ فهم يدركون أكثر من غيرهم أنّها لا تضر ولا تنفع،ولكنّها الوسيلة الموصلة إلى أهدافهم وغاياتهم،بينما هم يعبدون في الحقيقة مصالحهم ومكتسباتهم،وتلك هي الجاهلية في أخس مظاهرها حيث أصبح الرب شعارا عندهم،ووسيلة للتغطية على معبودهم المرفوض أمام الجماهير،وتلك هي العلة الكامنة وراء الفرق الشاسع بين شعارات الحكومة وواقع الحياة المُعاش.
إنّ اللجوء إلى قلب الحقائق سياسة مُتَّبعة عند كلّ الطواغيت ومعاونيهم وبطاناتهم،مع إدراكهم لفساد مناهجهم وتصوّراتهم إلاّ أنّهم يزوّرون الحقائق اتباعا للهوى،يقول تعالى:’’أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا‘‘(2).فلا عجب من إضمارهم الكذب وإصرارهم عليه؛ذلك بأنّهم اتخذوا الهوى إلها،فانفلتوا من كل القيم والأخلاق.
لقد أقر الملأُ فرعونَ بالقول والعمل واتبعوا أمره،ولهم أسبابهم كما هي أسباب المؤيدين للطواغيت،ثمّ تقدموا في شرهم وإثمهم فشاركوه وساندوه،وبقيت حلقة أخرى غفلت قلوبهم عنها،تلك اللحظة التي يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا،يقول تعالى:’’ثمّ يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ومأواكم النّار وما لكم من ناصرين‘‘(3).
__________
(1) في ظلال القرآن(3/310-311).
(2) الفرقان:43].
(3) العنكبوت:25].(1/158)
كلمة في بطانة السوء
إنّ بطانة السوء تقوم بدور الشيطان وسوسةً وتزييناً للباطل،يقول تعالى:’’ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون‘‘(1)؛ذلك أنّ بطانة السوء لا تأمر إلاّ بالشر والفساد،ولا تدخّر جهدا في الفساد وجلب الضرر.كما أنّ بطانة السوء تمنع الحاكم من رؤية الحقيقة بسبب تزيينهم له الباطل،وتشجع الظالم على الاستمرار في ظلمه وفساده وبغيه،بل وربما زيّنت له توسيع دائرة الظلم والفساد.
وإنّ أخطر أنواع البطانات السيئة هم أولئك الذين يلبسون ثوب الخلق والفكر والدّين..ويعتبرون أنفسهم الأحرص على مقدرات الأمّة ومستقبلها،والأخطر من ذلك أن يقوموا بعزل الحاكم عن النّاس كي يبقى بعيدا عن الحقيقة؛ذلك من أجل المحافظة على مراكزهم ومكتسباتهم وشركاتهم ووكالاتهم!
__________
(1) آل عمران:118].(1/159)
لقد تحدث القرآن طويلا عن تلك البطانة السيئة ودورها في ردّ الحق ومحاربته،فهم من تصدُّوا لنوح عليه السلام،واتهموه بالضلال،يقول تعالى حكاية لقولهم’’وقال الملأ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين‘‘(1)،وذلك(حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له)(2)،وهم الذين اتهموا هودا عليه السلام بالسفاهة والكذب،حين قالوا:’’إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين‘‘(3)،أي(في حماقة وخفة عقل)(4)،وهم الذين هدّدوا شعيبا عليه السلام بالإخراج حين قالوا:’’لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا‘‘(5)،أي(لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه)(6)،لأنّهم المتضررين الوحيدين من الدين الجديد..وهكذا هي أدوارهم وما زالت،فتراهم يحملون حملة خبيثة لئيمة على حملة الحق والهدى،ويرفعون شعارات متعددة للتّخفي وراءها.
__________
(1) الأعراف:60].
(2) تفسير الطبري(8/213).
(3) الأعراف:66].
(4) تفسير القرطبي(7/236).
(5) الأعراف:88].
(6) 546تفسير الطبري(9/1).(1/160)
إنّهم موجودون نراهم ونحس بأدوارهم ومكرهم وخبثهم.إنّهم أولئك المنتفشون الذين يحتقرون الجماهير،وينظرون إليهم نظرة فوقية،ويزدرونهم ويحتقرونهم.إنّها نفس المشاعر القديمة والتي عبَّر عنها الملأ من قوم نوح-عليه السلام-حين قالوا:’’وما نراك اتَّبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي‘‘(1)،و(إنّما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية)(2).إنّها ذات المشاعر الهابطة التي دفعت الزعامة المستعلية من كفّار قريش أن يطلبوا أن يكون لهم مجلس خاص لا يجلس معهم فيه الفقراء؛ذلك ليحافظوا على الفوارق التي عليها يقتاتون ومنها يستمدون جاههم المزعوم؛فمصالحهم تتصادم مع مصالح الطبقة العريضة المسحوقة.عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد قال:(كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر،فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم:اطرد هؤلاء لا يجترؤن علينا.قال:وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع،فحدث نفسه،فأنزل الله عز وجل’’ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‘‘(3)(4)،وتلك هي معجزة هذا الدّين التي أرادها الله ورفضها الملأ!
إنّ الملأ يشكلون خط الدفاع الأول للطاغوت،وهم الذين يكافحون الحق ويُلحقون الأذى بالأنبياء وأتباعهم،ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم،’’اللهم عليك الملأ من قريش.اللهم عليك أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو أبي بن خلف‘‘(5)؛ذلك بأنّهم حجر عثرة أمام تقدُّم الحق!
__________
(1) هود:28].
(2) الكشاف(2/374).
(3) الأنعام:52].
(4) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم،باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه(4/1878)رقم(2413).
(5) صحيح البخاري، أبواب الجزية والموادعة،باب طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن(3/1163)رقم(3014).(1/161)
وفي المقابل فإنّ على(الحاكم أن لا يبادر بما تلقيه إليه حاشيته حتى يبحث عنه،وأن يتخذ لسره ثقة مأمونا فطنا عاقلا لأنّ المصيبة إنّما تدخل على الحاكم المأمون من قبول موثوق به إذ كان هو حسن الظن،فيلزمه التثبت والتدبر ويسأل الله الهداية والتبصر)(1).
ثانيا:آل فرعون
وآل فرعون من الفئات المشاركة والمساندة لحكم فرعون ونظامه،وقد لعبوا دورا مهما في ظهور شخصية فرعون؛ذلك أنّهم اتصفوا بصفات جعلتهم أداة طيّعة بيد فرعون أهمها الكفر والتكذيب بآيات الله،حتى صاروا لظلمهم ومظاهرتهم للظالم الطاغي مضربا للمثل في صنيعهم ومشايعتهم لفرعون،يقول تعالى:’’كدأب آل فرعون(2)والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب‘‘(3)،ويقول تعالى:’’كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين‘‘(4)،فمن دأبهم وشأنهم وعادتهم الكفر بآيات الله والتكذيب،فكيف لا يكونون دعامة لحكم فرعون الكافر المكذب؟!فآلٌ هكذا نعتهم لديهم القابلية للإقرار بحكم فرعون والقبول بربوبيته وألوهيته،فهم أرض قابلة لمثل هذا الزرع الخبيث.
__________
(1) فيض القدير(2/252).
(2) أي كشأن آل فرعون وكأمر آل فرعون كذا قال أهل اللغة.وقالوا:أنّ دأب ههنا اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام.يقال دأبت أدأب دأبا و دؤوبا إذا اجتهدت في الشيء،و الدائبان الليل والنهار)لسان العرب،مادة:دأب(1/369)مع بعض التصرف.( والدأب عند أهل اللغة العادة،وحقيقتة عندهم أنه من قولك فلان يدأب أي يداوم على الشيء)معاني القرآن(3/163).
(3) آل عمران:11].
(4) الأنفال:54].(1/162)
وبلغ الآل في كفرهم وتكذيبهم وانحرافهم أن كذبوا بآيات الله كلها،بعد أن جاءهم النّذر،يقول تعالى:’’ولقد جاء آل فرعون النذر،كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‘‘(1).أي لقد جاء آل فرعون إنذارنا بالعقوبة بكفرهم بنا وبرسولنا موسى صلى الله عليه وسلم-واكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنّه أولى بذلك منهم-لأنّهم كذبوا بآيات الله وبالمعجزات والحجج التي جاءتهم من عند الله،وهي العصا واليد والسنون والطمسة والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم،والتي تدلّ على توحيد الله ونبوة أنبيائه وأنّه لا إله إلا الله وحده،ولكنّهم كذّبوا فعاقبهم الله بكفرهم عقوبة شديد لا يُغلب،مقتدر على ما يشاء غير عاجز ولا ضعيف،فإنّه لا يعجزه شيء(2)،ومن الملاحظ(أنّ قصتهم صدرت بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الاعتناء بشأنها،لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها،وهول ما لاقوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ)(3).
بيان أنّ آل فرعون أداة تنفيذية في نظام فرعون
__________
(1) القمر:41-42].
(2) انظر:تفسير الطبري(27/107)وتفسير البغوي(4/263)وتفسير النسفي(4/198).
(3) تفسير أبي السعود(8/173)وروح المعاني(27/91).(1/163)
من السهل الآن وبعد أن بيّنا بعض صفاتهم أن ندرك لماذا كانوا أدواتا تنفيذية عند فرعون،حيث أسند فرعون إليهم مهمة القهر والقتل والتعذيب ودليل ذلك قوله تعالى:’’واذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‘‘(1)،وقوله تعالى:’’وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتّلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‘‘(2).ومن الملاحظ أنّ القرآن أسند الفعل إليهم مع أنّ الآمر به هو فرعون،لأنّهم الفاعلين لذلك كله،والمرتكبين لتلك الجرائم،وتكفي هذه المشاركة العملية من آل فرعون لتكون سببا في ظهور شخصية فرعون،وعلة تقف وراء هذه الظاهرة البشعة في تاريخ الإنسانية.وستظهر شخصية فرعون مرة أخرى في كلّ مرة تجتمع فيها تلك الظروف والملابسات والأسباب.
ومن الوظائف التي قام على تنفيذها آل فرعون:وظيفة المراقبة التي تشبه مهمة المخابرات في زماننا هذا،وهي مهمة حساسة غالبا ما يعتمد الطواغيت على المقربين فيها،يقول تعالى:’’فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا‘‘(3).أي موسى عليه السلام وهو في مرحلة الطفولة الأولى،(وهم لم يلتقطوه ليكون عدوا وحزنا وإنّما التقطوه فكان لهم)(4).
__________
(1) البقرة:49].
(2) الأعراف:141].
(3) القصص:8].
(4) تفسير الطبري(11/156).(1/164)
وبيان ذلك أنّ النّظام كلّه-في عهد فرعون-على حذر،وهكذا كل نظام جائر،(فالعدل يدعو إلى الألفة ويبعث على الطاعة وتنعم به الأرض..كما قال الهرمزان لعمر حين رآه نائما بالمسجد مبتذلا:عدلت فأمنت فنمت)(1)،فهو أمن وأمان(2)،بينما الظلم خوف وترقّب وحذر وقلق.ولولا هذه المراقبة لما ألقت أمّ موسى موسى عليه السلام في اليم،فلمّا حصل الخوف منها عليه ألقته في اليمّ،ولم يكن هذا الخوف إلاّ من المراقبة التي أمر بها فرعون واجتهاد العيون في البحث عن المواليد.
العقوبات التي أنزلها الله على آل فرعون دليل على مشاركتهم في الإثم والعدوان
لقد أنزل الله على آل فرعون عقوبات متعددة،تمثل في مجموعها عقوبة هائلة كبيرة،ممّا يؤكد لنا عظم الجريمة التي اقترفوها والمتمثلة بدعمهم ومساندتهم ومشاركتهم لنظام فرعون،ولهذا نعتبر تلك العقوبات دليل آخر على الدور الذي لعبه آل فرعون في إظهار شخصية فرعون وتثبيت نظام حكمه.ومن خلال النظر في الكتاب العزيز يمكن لنا أن نقسم تلك العقوبات إلى ثلاثة أنواع:
__________
(1) فيض القدير(4/378)مع بعض التصرف.
(2) ذكر الطبري في تاريخه(أنّ الهرمزان قال: أين حرسه وحجابه عنه؟قالوا:ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا ديوان.قال:فينبغي له أن يكون نبيا.فقالوا:بل يعمل عمل الأنبياء)تاريخ الطبري(2/502).(1/165)
أولا:عقوبة في الدنيا قبل الموت.يقول تعالى:’’ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون،فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون،وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين،فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘(1).والمعنى أنّ الله قد أخذ آل فرعون أي اختبرهم وامتحنهم وابتلاهم بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع ونقص من الثمرات،وهم فى أرض مصر،المخصبة المثمرة المعطاء،وتلك(ظاهرة تلفت النظر،وتهز القلب،وتثير القلق،وتدعو إلى اليقظة والتفكر،لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت-بفسقهم عن دين الله –فيطيعونه،لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا)(2).
ثانيا:وعقوبة عند الموت.يقول تعالى:’’وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‘‘(3)؛ذلك أنّ الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل،فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده وصادفهم على شاطىء البحر،فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه،فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها حتى عبروا البحر،ثمّ لما وصل إليه فرعون ورآه منفلقا اقتحم فيه هو وجنوده فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين.
__________
(1) الأعراف:130-133].
(2) في ظلال القرآن(3/614).
(3) البقرة:50].(1/166)
واعلم أنّ هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل،ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام(1)،(كذلك إقصاصها على ماهي عليه من رسول الله معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية،وتنقاد لها النفوس الغبية،موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالإذعان،فلا تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها،ولا تذكرت أواخرهم بتذكيرها وروايتها،فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها)(2).
لقد حلّت بهم نقمة الله،فكان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات،وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها،أي غير معتبرين بها لأنّهم لا يتدبرونها(3)،يقول تعالى:’’فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‘‘(4).أي(كانوا عن النقمة التي أحللناها بهم غافلين-قبل حلولها بهم-أنها بهم حالة)(5).
__________
(1) انظر:تفسير الطبري(1/275)وتفسير الواحدي(1/104)وتفسير البيضاوي(1/342)وتفسير ابن كثير(1/92)وتفسير النسفي(1/43).
(2) تفسير أبي السعود(1/101).
(3) انظر:تفسير الواحدي(1/410)وتفسير البغوي(2/193)وتفسير الجلالين(1/211).
(4) الأعراف:136].
(5) تفسير الطبري(9/42).وانظر:تفسير القرطبي(7/272).(1/167)
ثالثا:وعقوبة بعد الموت ويوم تقوم الساعة.(فإنّ أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة،فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النّار)(1)يقول تعالى:’’وحاق بآل فرعون سوء العذاب،النّار يعرضون عليها غدوا وعشيّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب‘‘(2)،أي(عذاب جهنّم فإنه أشد مما كانوا فيه،أو أشد عذاب جهنم،فإنّ عذابها ألوان بعضها أشد من بعض)(3)،والمعنى أدخلوهم أشده ألما وأعظمه نكالا؛ذلك أنّ شدة العذاب دليل على عظم الجريمة التي ارتكبوها.فيا له من مشهد مخيف ونهاية شقية بئيسة!
إنّ هذه العقوبات تدلُّ على عظم الجرم الذي ارتكبه آل فرعون،وهو الدور الذي مثّلوه في نظام فرعون ومن ثمّ إظهار شخصيته،وهو ما أردت تبيانه من أنّ آل فرعون كانوا سببا في ظهور هذه الشخصية المنحرفة.
ثالثا:قوم فرعون
قوم فرعون(وهم قبط مصر)(4)،وهم القاعدة العريضة التي تساند فرعون،ولقد اتصف قوم فرعون بصفات سيئة كانت في مجموعها سببا في خضوعهم وطاعتهم لفرعون ،وكان هذا الخضوع وهذه الطاعة والمتابعة لفرعون سببا في عتوه واستكباره وتجبره،فهناك ارتباط واضح بين صفات القوم وبين خضوعهم وطاعتهم لفرعون؛ذلك الخضوع الذي أظهر شخصية فرعون.ومن هنا كان لا بدّ أن نلقي بعض الضوء على صفاتهم التي كانت الأساس الذي منه ظهرت شخصية فرعون،وكانت العلة في عتوه وتجبره.
__________
(1) تفسير ابن كثير(4/82).وانظر: ابن تيمية:أبو العباس،أحمد بن عبد الحليم الحراني،(661-728هـ)،دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية،6أجزاء،تحقيق: محمد السيد الجليند،ط2،مؤسسة علوم القرآن،دمشق،1404هـ.(2/255)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(دقائق التفسير)،وتفسير البغوي(4/99)وفتح القدير(4/495)وروح المعاني(24/73).
(2) غافر:45-46].
(3) تفسير أبي السعود(7/279).
(4) تفسير ابن كثير(4/142)وانظر:تفسير الطبري(25/118)والبداية والنهاية(1/268)والمنتظم في التاريخ(1/346).(1/168)
بيان بعض صفات قوم فرعون وأنّها سبب في إظهار شخصية فرعون
أولا:الفسق.لقد اتصف قوم فرعون بالفسق،و(الفسق العصيان والترك لأمر الله عز وجل والخروج عن طريق الحق..والفسوق الخروج عن الدين وكذلك الميل إلى المعصية،كما فسق إبليس عن أمر ربه.وفسق عن أمر ربه،أي جار ومال عن طاعته..والعرب تقول إذا خرجت الرطبة من قشرها:قد فسقت الرطبة من قشرها،وكأنّ الفأرة إنّما سميت فُوَيسقه لخروجها من جحرها على الناس.والفسق الخروج عن الأمر)(1).
__________
(1) لسان العرب،مادة:فسق(10/308)مع بعض التصرف.وانظر:مختار الصحاح،مادة:فسق(211).(1/169)
إنّ فسق قوم فرعون مكّن فرعون من استخفافهم-كما بيّن القرآن-ليصبحوا أداة طيّعة بيده الآثمة،وسببا من أسباب عتوه وتجبره؛فهي جماهير خاوية ميّتة مُفرغة من أي محتوى أو مضمون،يقول تعالى:’’فاستخف قومه فأطاعوه(1)إنّهم كانوا قوما فاسقين‘‘(2).أي(طلب منهم الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلامهم فأطاعوه فيما أمرهم به،إنّهم كانوا قوما فاسقين فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق)(3)،وذلك لأنّه دعاهم إلى الإعتراف له بالإلهية فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم،(وإنّما أطاعوه فاستجابوا لما دعاهم إليه عدو الله من تصديقه وتكذيب موسى لأنهم كانوا قوما عن طاعة الله خارجين بخذلانه إياهم وطبعه على قلوبهم)(4)،(فإنّ قوما صدقوه في قوله:’’أنا ربكم الأعلى‘‘(5)،من أجهل خلق الله وأضلهم)(6).
__________
(1) أي حملهم على الخفة والجهل.يقال:استخفه عن رأيه واستفزه عن رأيه إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب،واستخف به أهانه)لسان العرب،مادة:خفف(9/80).و(المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم.يقال: استخفه الفرح أي أزعجه،واستخفه أي حمله على الجهل،ومنه’’ولا يستخفنك الذين لا يوقنون‘‘[الروم:60]. وقيل:استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب.وقيل:استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول،وهذا لا يدل على أنه يجب أن يطيعوه،فلا بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه.وقيل:استخف قومه وقهرهم حتى اتبعوه،يقال:استخفه خلاف استثقله واستخف به أهانه.إنّهم كانوا قوما فاسقين أي خارجين عن طاعة الله)القرطبي(16/101).وانظر:فتح القدير(4/560).
(2) الزخرف:54].
(3) تفسير البيضاوي(5/149)وانظر:تفسير ابي السعود(8/50).
(4) نفسير الطبري(25/84).
(5) النّازعات:24].
(6) تفسير ابن كثير(2/239).(1/170)
وكما كان فسق قوم فرعون علة في استخفاف فرعون لهم وطاعتهم له،كان فسقهم-أيضا- علة في بعث موسى عليه السلام إليهم بالآيات،حيث جمعهم القرآن مع فرعون في تلك المهمة التي بُعث بها موسى عليه السلام،ودليل ذلك قوله تعالى:’’وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنّهم كانوا قوما فاسقين،فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين،وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(1).وقوله:’’إنّهم كانوا قوما فاسقين‘‘تعليل للإرسال،أي(خارجين عن طاعة الله)(2)،(فهم أحقاء بأن يُرسل إليهم)(3)،حتى إذا جاءتهم آيات الله واضحة بينة قالوا:هذا سحر مبين واضح سحريته،جروا على عادتهم من التكذيب فلهذا قال:’’وجحدوا بها‘‘أي وكذبوا بها وقد استيقنتها أنفسهم ظلما،حيث حطّوها عن رتبتها العالية وسمّوها سحرا،وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنّها آيات من عند الله ثمّ سمّاها سحرا بيّنا(4).
ثانيا:العلو والظلم والإفساد.لقد اتصفوا بالعلوّ والإستكبار؛ذلك أنّهم تيقنوا أنّ الآيات التي جاء بها موسى هي من عند الله وأنّها ليست سحرا،ولكنّهم كفروا بها وتكبّروا أن يؤمنوا بموسى،وهذا يدلّ على أنّهم كانوا معاندين.فانظر كيف كان عاقبة المفسدين الكافرين الطاغين وهو الإغراق في الدنيا فى البحر على تلك الصفة الهائلة والإحراق في الآخرة فإنّ فيه معتبرا للمعتبرين(5).يقول تعالى:’’وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين‘‘(6)؛ذلك أن جحود الحق فساد كبير يبدأ في النّفس ثمّ تظهر آثاره في واقع الحياة.
__________
(1) النّمل: 12-14].
(2) تفسير القرطبي(13/163).
(3) تفسير البيضاوي(4/292).
(4) انظر:تفسير أبي السعود(6/275)وتفسير البيضاوي(4/261).
(5) انظر:تفسير الواحدي(2/801)وتفسير القرطبي(13/163)وتفسير أبي السعود(6/275)وزاد المسير(6/158)وتفسير النسفي(3/206)وروح المعاني(19/168).
(6) النّمل:14].(1/171)
إنّ علوَّهم وظلمهم وإفسادهم علامة على انعدام التقوى في قلوبهم،يقول تعالى:’’وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين،قوم فرعون ألا يتقون‘‘(1).أي ائت قوم فرعون الظالمين بالكفر واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم، ألا يتقون عقاب الله على كفرهم به،فيطيعونه ويوحدونه،وذلك تعجيبا لهم من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه(2)،ودلّ قوله:’’ألا يتقون‘‘على أنّهم لا يتقون،وعلى أنّه أمرهم بالتقوى.
ثالثا:الإجرام.فهم قوم اعتادوا ارتكاب الجرائم والذنوب(3)،يقول تعالى:’’ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم،أن أدّوا إليّ عباد الله إنّي لكم رسول أمين،وأن لا تعلوا على الله إنّي آتيكم بسلطان مبين،وإنّي عذت بربي وربكم أن ترجمون،وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون،فدعا ربّه أنّ هؤلاء قوم مجرمون‘‘(4).والمعنى أنّه(دعا ربه-بعدما كذبوه-أنّ هؤلاء قوم مجرمون،وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به،ولذلك سّماه دعاء)(5)،أو(فيه حذف،أي فكفروا فدعا ربه أنّ هؤلاء قوم مجرمون أي مشركون،قد امتنعوا من إطلاق بني إسرائيل ومن الإيمان بالله)(6).وكان ذلك بعدما(طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم،وأقام حجج الله تعالى عليهم،كلّ ذلك وما زادهم ذلك إلا كفرا وعنادا،حينئذ دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم)(7).
ثالثا:السحرة
__________
(1) الشعراء: 10-11].
(2) انظر:تفسير الطبري(19/64)وتفسير الواحدي(2/787)وتفسير البيضاوي(4/232-233)وتفسير الجلالين(1/480).
(3) الجريمة:الذنب)مختار الصحاح،مادة:جرم(43).
(4) الدخان:17-22].
(5) تفسير البيضاوي(5/161)وانظر:تفسير أبي السعود(8/62).
(6) تفسير القرطبي(16/136)وانظر:تفسير الثعالبي(4/137).
(7) تفسير ابن كثير(4/142)وانظر:تفسير الطبري(25/120)وروح المعاني(25/122).(1/172)
لقد ساهم السحرة في انحراف فرعون وإظهار شخصيته،حيث كان الفراعنة يعتمدون في وثنيتهم على الكهنة والسحرة،بل نستطيع القول أنّ السحرة كانوا يمثلون المرتبة الأولى في طبقة الكهنة،في واقع انتشر فيه السحر إنتشارا واسعا(1)،وممّا يؤيّد هذا(أنّ معجزة كل رسول موافقة للأغلب من أحوال عصره والشائع المنتشر في ناس دهره،لأنّ موسى عليه السلام حين بعث في عصر السحرة خص من فلق البحر يبسا وقلب العصا حية،ما بهر كل ساحر وأذل كل كافر)(2).
ويظهر هذا في شواهد عديدة منها قول فرعون:’’فلنأتينّك بسحر مثله‘‘(3).أي(لنعارضنّ ما جئت به،ليتبين للنّاس أن ما أتيت به ليس من عند الله)(4)،وإنّما هو سحر يقدر على مثله الساحر،حيث تصور فرعون أن كل ما لدى موسى هو سحر وسوف يقابله بسحر مثله،وذلك بسبب سيطرة السحر على عقولهم وتصوراتهم.
كما يظهر تأثير السحر في ردهم على الحق الذي جاء به موسى بقولهم:’’إنّ هذا لساحر عليم‘‘(5).(فروَّج عليهم فرعون أنّ هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة)(6)،فهي فرية قريبة من عقول النّاس،فهي الأنسب في الرد على موسى.ولهذا كان اتهام موسى بالسحر هو الردّ الأبرز من بين ردودهم،والأكثر تداولا وشيوعا فيما بينهم.
__________
(1) انظر:البداية والنّهاية(1/254).
(2) الماوردي:أبو الحسن،علي بن محمد بن حبيب،(370-429هـ)،أعلام النبوة،جزء واحد،تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي،ط1،دار الكتاب العربي،بيروت،1987م.(97)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(أعلام النّبوة).
(3) طه: 58].
(4) تفسير القرطبي(11/212).وانظر:تفسير الواحدي(2/698)وفتح القدير(3/370)وزاد المسير(5/294)وتفسير الجلالين(1/410)وتفسير النسفي(3/58).
(5) الشعراء:34].
(6) تفسير ابن كثير(3/334).(1/173)
ويظهر هذا التأثير من قول عامة النّاس عندما اجتمعوا لحضور المباراة:’’لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين‘‘(1).والمعنى(كي نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى)(2)،ويكون(الترجي على تقدير غلبتهم ليستمروا على دينهم فلا يتبعوا موسى)(3).وفي هذا دلالة واضحة على مدى ثقة النّاس بالسحرة وإيمانهم بقدرتهم على الغلبة،وهذا يعني أنّ السحر منتشر وله فاعلية حتى في تصورات الجماهير ومعتقداتهم.
كما يظهر الإنتشار والتأثير في قول السحرة فيما بينهم:’’إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘(4).(والغرض أنّ السحرة قالوا فيما بينهم:تعلمون أنّ هذا الرجل وأخاه-يعنون موسى وهارون-ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر،يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم،ويستوليا على الناس وتتبعهما العامة،ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم.وقولهم:’’ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘،أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر،فإنّهم كانوا مُعظَّمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها.يقولون إذا غلب هذان أهلكاكم، وأخرجاكم من الأرض،وتفردا بذلك،وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم)(5)،ويظهر من قولهم هذا سر وقوفهم مع فرعون في الرد على موسى،(على أنّ هذه المقالة منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة،فلا بدّ أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم)(6)،ألا وهو ذهاب تعظيمهم وأرزاقهم التي يكسبونها من وراء سحرهم.وفي هذا دلالة كبيرة على الإحترام الذي يتمتع به السحرة في وسط يعظّم السحر والسحرة.
__________
(1) الشعراء:40].
(2) تفسير الطبري(19/72).
(3) تفسير الجلالين(1/482).
(4) طه:63].
(5) تفسير ابن كثير(3/158).وانظر:تفسير الطبري(16/182)وتفسير الواحدي(2/698)وتفسير القرطبي(11/220)وتفسير البغوي(3/223).
(6) تفسير أبي السعود(6/25).وانظر:روح المعاني(16/224).(1/174)
لقد بيّن القرآن الكريم موقف السحرة قبل أن تحصل المعجزة الكبرى أمامهم بانتصار موسى عليه السلام وهزيمتهم،حيث كان همهم هو المادة ومتاع الدنيا،مما يدل على المستوى النفسي الذي كان يعيشه السحرة،وكذلك يدلُّ على أنّهم أداة من أدوات التضليل التي استعان بها فرعون لقلب الحقيقة وتزويرها.يقول تعالى:’’فلمّا جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين،قال نعم وإنّكم إذا لمن المقربين‘‘(1).إنهم يقفون بين يدي فرعون صفوفا (وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم،ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم.يقولون أئنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين؟قال:نعم،وإنّكم إذا لمن المقربين.قال لهم موسى:ويلكم لا تفتروا على الله كذبا،أي لا تخيلوا النّاس-بأعمالكم-إيجاد أشياء لا حقائق لها وإنّها مخلوقة وليست مخلوقة،فتكونون قد كذبتم على الله،فيسحتكم بعذاب أي يهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له،وقد خاب من افترى)(2).
ووصل الأمر بالسحرة أن أقسموا بعزة فرعون وعظمته،يقول تعالى:’’فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون(3)إنّا لنحن الغالبون‘‘(4).وأي شيء أكبر دلالة على دعمهم لفرعون من هذا القول،حين(أقسموا بقوة فرعون وشدة سلطانه ومنعة مملكته إنّا لنحن الغالبون موسى)(5)،والمعنى أنّهم أقسموا(على أنّ الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم،أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر)(6).
الطاغوت المعاصر والفئات المشاركة
__________
(1) الشعراء:41-42].
(2) تفسير ابن كثير(3/158).
(3) قولهم(بعزة فرعون)وجهين الأول أنه قسم وجوابه إنا لنحن الغالبون والثانى متعلق بمحذوف والباء للسببية أى نغلب بسبب عزته والمراد بالعزة العظمة)فتح القدير(4/99).
(4) الشعراء:44].
(5) تفسير الطبري(19/72).وانظر:تفسير النسفي(3/185).
(6) تفسير البيضاوي(4/238).وانظر:تفسير أبي السعود(6/242).(1/175)
يبحث الطاغوت-حين يبحث-فقط عمّن يُواليه ويطمئنّ إليه،وذلك ليستتر الطاغوت به ويحتمي،ولقد تعددت تلك السواتر وتنوعت،ومنها الأحزاب السياسية التي تحمل فكر النّظام،ويُطلق على هذا الشكل من السواتر(الحزب الحاكم)،ويكون لعناصره امتيازات خاصة،لأنّ الولاء للطاغوت معناه ولاء للمصلحة،فيقوم النّظام الحاكم بتسهيل كل ما من شأنه تطوير هذا الحزب وتقويته،ويفرض على النّاس-أحيانا-منهجا ثقافيا يصب في خدمة الحزب الحاكم،كما يعمد النظام إلى تكليف عناصر الحزب بالوظائف المهمة والحساسة في الدولة،ليضمن بذلك عدم قدرة الجماهير في تغيير النّظام إن هي فكرت يوما بذلك.
وقد يكون المشاركون من عشيرته،فالأسرة الحاكمة هم الأمراء والأميرات!وكلما ازداد عددهم وتوزعت أدوارهم وبسطوا نفوذهم كلما تأكد الطاغوت من ثبات ملكه.وزيادة في الحيطة والحذر يقوم الطاغوت بإذكاء روح العشائرية والقبائلية،حيث يستميل بعض القبائل ببعض الأعطيات والمنح!ويخلق جوا من التنافس فيما بينها في كسب وُدّ الحكومة،فكل قبيلة تحافظ على هذا الود ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.وكلٌّ يُريد أن يكون له ظهرٌ عند الحكومة يساند مطالبه وقضاياه.
وقد يكونون من الأقليات العرقية أو الدينية بدعوى المحافظة على حقوق الأقليات وضمان حرية العبادة!ثمّ تتجاوب هذه الأقليات مع النّظام الذي يحقق مصلحتها،وتُناط بها بعض المراكز الحساسة ذات الخطورة العالية،ذلك لأنّ هذه الأقليات لا تملك بحكم حجمها القدرة على قلب الحكومة.بينما تقوم الحكومة باستغلال هذه الأقليات فتمنع الحق الساطع وأصحابه من التحرك بدعوى أنّ حركتهم تُثير الفتن والقلاقل الطائفية والعرقية!فيُظهر الطاغوت نفسه بمظهر الذي يُحقق التوازن ويضمن الأمن للجميع!(1/176)
وقد يكون المشاركون أصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى،والتي بدعمها للنّظام تضمن التشريعات القانونية التي تخدم مصلحتها؛فالمصلحة بينهما متبادلة..وقد يعتمد الطاغوت على أكثر من فئة أو عامل من عوامل تثبيته.
والملاحظ في كلّ الأحوال أن هذه الفئات تمتاز بفسقها وخروجها عن الحق،فالحق لا يُلائمها،ويصادم مصالحها،فهي تعلم أنّ ما تأخذه أكثر من حقها،أو ربما تهادن النّظام خوفا على مصالحها.وفي كل الأحوال تسعى جاهدة لتحصيل الحصة الأكبر تحت ظلّ الطاغوت.
الوقاية خير من العلاج
وفي نهاية هذا المبحث أعود لما ذكرته في أوله،وهو أنّ ظهور شخصية فرعون له أسبابه،وأنّ الأسباب مقدمات إن وجدت وجدت النتائج المترتبة عليها،والقرآن الكريم حين بيّن هذه الأسباب بيّنها للوقاية منها،ولمعرفة العلاج لها إن حدثت،فمعرفة سبب المرض تسهّل الوقاية منه،كما لا يكون العلاج إلاّ بمعرفة السبب.
إنّ تضافر الأسباب التي ذكرناها أظهرت هذه الشخصية؛ذلك لمّا اجتمع لفرعون فسق الجمهور ومشاركة المنتفعين المتزلفين-مع ما كان عنده من كفر وحرص على الملك الموروث-تمكّن.وهذا يحصل في كلّ مرّة يحكم بها الطاغوت ويتمكّن،فلولا فسق الأغلبية ومشاركة المستفيدين لما استطاع الظلمة من تثبيت ظلمهم؛ذلك أنّ زمن الرويبضة لن يكون إلاّ حين تسقط القيم ويتنازل النّاس عن مبادئهم،فلا يعودوا يملكون من المعاني الإنسانية والكرامة البشرية شيئا،حينئذ يلجئون إلى الطاغوت ويتخذونه وليا من دون الله.(1/177)
إنّ الوقاية تكون بتجنّب أسباب المرض،فكلما تجنب النّاس أفرادا وجماعات-كل حسب مسؤوليته في المجتمع-أسباب المرض كان المجتمع معافى سليما،بحيث لو وُجد شخص كفرعون كفرا وحرصا على مصالحه فإنّ هذا الشخص لن يستطيع فعل شيء ما لم تتوفر له باقي الأسباب،وأهمها فسق الجماهير أو فسق الأغلبية.لأنّ شخصية فرعون حين ظهرت ظهرت بتضافر الأسباب جميعها،وهذا يعني أن انفضاض النّاس عن مظاهرة الحاكم الظالم من أهم العوامل في إسقاط الطواغيت.
وهذا يعني بالضرورة العمل على محورين:
المحور الأول:البناء الصالح في المجتمع،وتنشأة أجيال تتقي الله؛ذلك أنّ الطاغوت إنّما يعمل على إيجاد جماهير فارغة من المحتوى ليس عندها فكر ولا عقيدة ولا هدف أو غاية،وليس لها قضية تحيا من أجلها أو تكافح في سبيلها،تُسيِّرها الغريزة والشهوة الحيوانية،فهي-إذن-عملية مسخ للمعاني والقيم والروح الإنسانية يجهد في تنفيذها الطاغوت.
وهذا يعني خوض حملة دعوية شاملة تعيد النّاس لدينهم،وتعمِّق الإيمان في قلوبهم،وعمل كل ما تقتضيه هذه الدعوة من وعظ وإرشاد وتذكير بالله وإقامة الدلائل على وحدانيته سبحانه،والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر،وهي دعوة مستمرة إلى يوم القيامة لا يجوز التهاون فيها أو تركها ،يقول تعالى:’’قل هذه سبيلي أدعو إلى الله‘‘(1).
ثمّ لا بدّ من التركيز على ما قد يُصيب القلوب من أمراض وطرق علاجها،وبيان أنّ الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة،وأنّ حب الدنيا أساس كل مفسدة،لذا يجب حَثُّ النّاس على الزهد فيها وعدم التكالب عليها…وتلك أيضا دعوة مستمرة لتحرير الإنسان من أن يكون عبدا لشهواته ونزواته وهواه،فيتحرر من همّ الرزق والخوف من الموت.
__________
(1) يوسف:108].(1/178)
وهذا يحتاج إلى دعاة يمتازون بالحكمة والإخلاص والمثابرة والجد والاجتهاد والثبات والاستقامة والقدوة الحسنة،كما نحتاج إلى العمل الجماعي،وإلى إتقان فنّ التكامل بالعمل،فكلٌّ يعمل بما يستطيع،ولا يُناقض بعضنا بعضا،فإنّ ذلك يذهب بالجهود هدرا،’’ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم‘‘(1).
المحور الثاني:محاربة المفسدين ومحاصرتهم؛ذلك أنّ العمل على إصلاح المجتمع مع وجود المفسدين الذين يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون لن يكون مُجديا وكافيا.فلا بدّ إذن من محاولة القضاء على جيوب الإفساد أيضا،فإذا لم نستطع-ولو لبعض الوقت-القضاء عليها فلا أقل من التشويش عليها ومحاولة إشغالها وإرباكها،كي لا تستطيع العمل بأريحية كاملة بسبب وجود مَن يجلب لها القلق وعدم الإستقرار،فينكمش تأثيرها كلما كانت جهودنا أوسع في محاصرتها وفضح أمرها؛ذلك(أنّ بذور الشر تنبت في أكناف المجتمع أول الأمر مخالفات محدودة محصورة الشأن،ولكنها مع الإهمال والاستهانة لا تزال تنمو وتغلظ حتى تفسد ما حولها،كالنبات الشيطاني عندما يترك فيكثر فيلتهم ما حوله)(2).
الفصل الثالث:الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان حكمه
المبحث الأول:وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلال
المبحث الثاني:إستجهال المجتمع
المبحث الثالث:الكذب
المبحث الرابع:السيطرة الإقتصادية
المبحث الخامس:السيطرة العسكرية
الفصل الثالث
الوسائل التي استعملها فرعون في تثبيت أركان حكمه
(الوسيلة ما يُتَقَرَّبُ به إلى الغير والجمع الوُسُلُ والوسائل…وتوسّل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل)(3)،و(الوسيلة هي في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به)(4).
__________
(1) الأنفال:46].
(2) الغزالي:محمد،في موكب الإيمان،ط1،دار نهضة مصر،مصر،1997م.وسأشير إليه لاحقا هكذا(في موكب الإيمان).(165).
(3) مختار الصحاح،مادة:وسل(1/300)مع بعض التصرف.وانظر:كتاب العين،مادة:وسل(7/298).
(4) لسان العرب،مادة:وسل(11/275).(1/179)
وعلى ضوء هذا التعريف اللغوي يمكننا أن نُعرّف الوسائل التي استعملها فرعون على أنّها مجموع الأفعال التي توصّل بها فرعون إلى مراميه وأهدافه وغاياته،والتي تصب في نهايتها في تثبيت حكمه ونظامه،وذلك بطريق مباشره وغير مباشرة.يحارب موسى وجها لوجه تارة،ويحاربه من وراء ستار تارة أخرى.
ولقد أنتجت هذه الوسائل نظاما قويا متينا من النّاحية المادية،ودلّ على ذلك قوله تعالى:’’وفرعون(1)ذو الأوتاد‘‘(2).أي ذو الملك الثابت،أو ذو البناء المحكم،والجنود الكثيرة(3).ومن الشواهد التي تدل على متانة نظامه وتطوّره المادي تلك الأهرامات التي ما زالت ماثلة حتى يومنا هذا،وليس هذا غريبا؛ذلك(أنّ للطبائع الملتوية أسلوبا تنجح به في ميادين شتى،فإذا تعلق الأمر بالعقائد والفضائل والمبادىء لم تصب من النجاح سهما،ذلك أنّ طريق أصحاب المثل غير طريق أصحاب المصالح،وسياسة الدعوات القائمة على الشرف والمرتبطة بالسماء غير سياسة التطلع والترصد)(4)،وتلك هي سياسة فرعون المجردة من القيم والمثل والأخلاق.
لقد بيّن القرآن الكريم وسائل فرعون في تثبيت حكمه وبناء شخصيته،حيث تراوحت ما بين القهر والتعذيب تارة،والترغيب تارة أخرى.فَقِسْمٌ من النّاس تُخضعه العصا والآخر تُشترى ذممهم،وما بين العصا والجزرة كان التجهيل والتضليل والكذب.فتلك هي وسائل الطاغوت لا تخرج من وحل الرجس ومستنقع الرذيلة.
__________
(1) فرعون ذو الأوتاد هو الذي بُعث إليه موسى وهارون عليهما السلام) ابن حيان: أبو محمد،عبد الله بن محمد بن جعفر الأصبهاني،(274- 369هـ)،العظمة،5أجزاء،تحقيق: رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري،ط1،دار العاصمة،الرياض،1408هـ.(5/1609)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(العظمة).
(2) الفجر:10].
(3) انظر:تفسير القرطبي(15/154-155)وتفسير البيضاوي(5/38-39)ومعاني القرآن(6/85)وتفسير ابي السعود(7/217)وفتح القدير(4/423)وتفسير النسفي(4/34).
(4) في موكب الدعوة(172).(1/180)
وبعد التدبر في الكتاب العزيز يمكننا أن نُجمل وسائله في المباحث التالية:
المبحث الأول
وسيلة التعذيب من قتل وسجن وإذلال
التعذيب بشتى صوره وسيلة فرعون الأكثر رواجا واستعمالا،فقد صبّ-لعنه الله-العذاب صبّا فوق رأس كل من خالف أمره أو رابه منه شيء،حتى عدَّه القرآن الكريم عذابا بذاته لشدة ممارسته للتعذيب،فإمّا أن تعتنق مذهب الطاغوت وإمّا الموت بأشكال وألوان مرعبة،يقول تعالى:’’ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين،من فرعون(1)إنّه كان عاليا من المسرفين’’(2).ويعني بالعذاب المهين ما كانت القبط تفعل ببني إسرائيل بأمر فرعون؛من قتل الأبناء واستخدام النساء واستعبادهم إياهم وتكلفهم الأعمال الشاقة.والشاهد أنّ كلمة’فرعون‘بدل من العذاب المهين،أي جعله-عليه اللعنة-عين العذاب مبالغة،لإفراطه في التعذيب(3).ومن هذا النّص نعلم مدى إسرافه في التعذيب حتى صار عذابا بذاته ونقمة على من تحته من الجماهير.
__________
(1) من فرعون:هو بدل من العذاب باعادة الجار أي من عذاب فرعون ويجوز أن يكون جعل فرعون نفسه عذابا) العكربي:أبو البقاء، محب الدين عبدالله بن أبي عبدالله الحسين بن أبي البقاء،(538- 616هـ)، التبيان في إعراب القرآن،تحقيق:علي محمد البجاوى، إحياء الكتب العربية.(2/229)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(التبيان في إعراب القرآن).وجعل الطبري فرعون بدلا من العذاب،وهو ما اخترناه لأنّ فرعون موصوف بالإسراف والطغيان فناسبه هذا المعنى.وانظر:تفسير الطبري(25/126).
(2) الدخان:30-31].
(3) انظر:تفسير القرطبي(16/142)وتفسير ابن كثير(4/144)وفتح القدير(4/575)وروح المعاني(25/125).(1/181)
ولهذا كان مطلب موسى عليه السلام-ومعه هارون-تحرير بني إسرائيل،يقول تعالى حكاية لقول موسى وهارون:’’فأرسل(1)معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم‘‘(2).وهو أمر من الله لهما،يقول تعالى:’’فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول رب العالمين،أن أرسل معنا بني إسرائيل‘‘(3).أي خلّ عنهم وأطلقهم ولا تعذبهم،وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد،يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم،ويكلفهم من العمل في الطين واللبن و بناء المدائن ما لا يطيقونه،وفي ذلك إشارة على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان(4).
__________
(1) المراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر والقسر وإخراجهم من تحت يده،لا تكليفهم أن يذهبوا معه إلى الشام كما ينبئ عنه قوله تعالى:’’ولا تعذبهم‘‘)تفسير أبي السعود(6/19).
(2) طه:47].
(3) الشعراء:16-17].
(4) انظر:تفسير البيضاوي(4/52،53)وتفسير الواحدي(2/696)وتفسير البغوي(3/219)وتفسير النسفي(3/56).(1/182)
لقد جاء موسى عليه السلام بالبينة والبرهان لتحقيق مطلب وحيد هو إرسال بني إسرائيل،ممّا يؤكّد على الإشارة السابقة أنّ تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان،لأنّ دعوتهم إلى الإيمان وهم تحت سيطرة الطاغوت وتأثيره يعني أنّنا ندعوا قوما ليس عندهم قدرة على الإختيار،ولهذا كانت الفتنة أشد من القتل وأكبر،وهو ما يُرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول موسى عليه السلام:’’قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل‘‘(1).أي قد جئتكم(بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به،فأرسل معي بني إسرائيل،أي أطلقهم من أسرك وقهرك)(2)،وهذا وجه في تفسير قوله تعالى:’’ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم،أن أدوا إلي عباد الله،إنّي لكم رسول أمين‘‘(3)،والشاهد في الآية قول موسى:’’أن أدوا إلي عباد الله‘‘أي(سلّموهم إليّ ولا تعذبوهم،يعني بني إسرائيل)(4).
ذبح الأبناء واستحياء النّساء لون من ألوان العذاب في نظام فرعون
__________
(1) الأعراف:105].
(2) تفسير ابن كثير(2/236).
(3) الدخان:17-18].
(4) تفسير الواحدي(2/983).وانظر:وتفسير الطبري(25/118)وتفسير البيضاوي(5/160)والصنعاني:عبد الرزاق بن همام،(126- 211هـ)، تفسير القرآن،3أجزاء،تحقيق: مصطفى مسلم محمد،ط1، مكتبة الرشد، الرياض، 1410هـ.(3/207)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير الصنعاني).(1/183)
لقد كان القتل الوسيلة الأشهر من بين وسائل فرعون حتى طغى على ألوان العذاب الأخرى؛وذلك لأنّ القتل ينشر الرعب ويُخضع النّاس،فحب الحياة وغريزة البقاء تضغط على الجنس البشري برمّته،بل وجميع الأحياء تُصارع الموت وتفرُّ منه،ومن ثمّ كان القتل الوسيلة الأقصر والأخصر للتخلص من المخالفين للنّظام،ولا يزال التّخويف من الموت سوطا تُلوّح به الطواغيت،لا يقتحمه إلاّ أصحاب الإيمان واليقين الذين يؤمنون أنّ القتل في سبيل الله أو الموت له معنى واحد هو البقاء في ظلّ الرحمة التي لا تنقطع،يقول تعالى:’’ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير ممّا يجمعون‘‘(1).
__________
(1) آل عمران:157].(1/184)
لقد أسرف فرعون في سفك الدماء وإزهاق الأرواح في سبيل المحافظة على ملكه،يقول تعالى:’’واذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم(1)سوء العذاب يذبحون(2)أبناءكم
__________
(1) يسومونكم: يولونكم،ويقال:يريدونه منكم ويطلبونه…ومنه يقال:سامه بخطة خسف أولاه وإياه،والثاني من مساومة البيع.وقيل: سامه كلفه العمل الشاق.وقيل:معناه يعلمونكم من السيماء وهي العلامة.وقيل:يرسلون عليكم من إرسال الإبل المرعى)التبيان في تفسير غريب القرآن(1/84)مع بعض التصرف.
(2) وإنما قال ههنا يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله:’’يسومونكم سوء العذاب‘‘ثم فسره بهذا لقوله ههنا:’’اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‘‘.وأما في سورة إبراهيم فلما قال:’’وذكرهم بأيام الله‘‘أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك:’’يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‘‘،فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل)تفسير ابن كثير(1/91). (لذلك أتى بالعاطف ليؤذن بأن إسامتهم العذاب مغاير لتذبيح الأبناء وسبى النساء،وهو ما كانوا عليه من التسخير بخلاف المذكور فى البقرة،فإن ما بعد يسومونكم تفسير له فلم يعطف عليه،ولأجل مطابقة السابق جاء فى سورة الأعراف’’يقتلون أبناءكم‘‘ليطابق سنقتل أبناءهم ونستحى نساءهم) الزركشي: أبو عبد الله،محمد بن بهادر بن عبد الله،( 745- 794هـ)، البرهان في علوم القرآن،4أجزاء،تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، 1391هـ.(1/120)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(البرهان في علوم القرآن).(وقوله:’’يذبحون‘‘بغير واو هنا على البدل من يسومونكم، وفي الأعراف’’يقتلون‘‘،وفي إبراهيم’’ويذبحون‘‘بالواو لأن ما في هذه السورة والأعراف من كلام الله تعالى فلم يرد تعداد المحن عليهم،والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدد المحن عليهم وكان مأمورا بذلك في قوله:’’وذكرهم بأيام الله‘‘)أسرار التكرار في القرآن(1/27).(1/185)
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‘‘(1)،ويقول تعالى:’’وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقّتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‘‘(2)،ويقول تعالى حكاية لقول موسى:’’وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون(3)أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم’’(4).(وذلك لأنّ الكهنة قالوا له:إنّ مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه،أو قال المنجمون له ذلك،أو رأى رؤيا هالته،رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل،مضمونها أنّ زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل.وهذا من حمقه حيث لم يدر أنّ الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع،وإن كذب فلا معنى للقتل.وقيل أنّ سمّاره تحدثوا عنده بأنّ بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة)(5).
__________
(1) البقرة:50].
(2) الأعراف:141].
(3) ويذبحون أبناءكم وأدخلت الواو في هذا الموضع لأنه أريد بقوله:’’ويذبحون أبناءكم‘‘الخبر عن أن آل فرعون،كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح.وأما في موضع آخر من القرآن فإنه جاء بغير الواو،’’يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم‘‘في موضع وفي موضع’’يقتلون أبناءكم‘‘ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها،لأنه أريد بقوله:’’يذبحون‘‘وبقوله:’’يقتلون‘‘تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم)تفسير الطبري(13/185).( وعطف’’يذبحون أبناءكم‘‘على’’يسومونكم سوء العذاب‘‘وإن كان التذبيح من جنس سوء العذاب إخراجا له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدة)فتح القدير(3/96).
(4) إبراهيم:6].
(5) تفسير القرطبي(13/ 248).وانظر:زاد المسير(1/78)وتفسير الجلالين(1/330)وتفسير النسفي(1/43).(1/186)
وأيا ما كانت الرواية الصحيحة فإنّ المؤكد أنّ فرعون شرع بقتلهم وإذلالهم منعا لهم من تدمير ملكه،فهذا هو السبب الأساسي في جرائمه وبطشه،وهو نفس السبب الذي يدفع بالطواغيت نحو البطش والجريمة.
فعندما خشي فرعون على عرشه أمر-لعنه الله-بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات،وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها،(وههنا فسّر العذاب بذبح الأبناء،وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال:’’يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‘‘)(1).
فكانوا يوردونهم ويذيقونهم ويولونهم سوء العذاب،وكان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا،وصنّفهم في أعماله:فصنف يبنون وصنف يزرعون له،فهم في أعماله،ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه الجزية.فسامهم سوء العذاب، وجعلهم في الأعمال القذرة،وجعل يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم،وبعث رجالا معهم الشّفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ففعلوا، فلما رأوا أنّ الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم وأنّ الصغار يذبحون قالوا:توشكون أن تفنوا بني إسرائيل،فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم،فاقتلوا عاما ودعوا عاما،فحملت أمّ موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية،حتى إذا كان القابل حملت بموسى،أي في العام الذي يقتل فيه الأبناء(2).
إنّ عقلية الطاغوت مبدعة في مجال الإرهاب والجريمة،فليُقتل أبناؤهم عاما بعد عام،لا رحمة بهم ولا شفقة،بل ليباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونه فرعون وقومه!ثمّ(لا يخفى ما في قتل الأبناء واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال الذل بهم وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم،لما في ذلك من العار)(3).
فرعون يجدد أوامر القتل
__________
(1) تفسير ابن كثير(1/91).
(2) انظر:تفسير الطبري(1/271-272)وتفسير البغوي(1/70)وروح المعاني(1/253).
(3) فتح القدير (1/83).(1/187)
لمجرد هاجس أو حلم أو اقتراح لحرب إستباقية تحدّث بها بعض سمّاره شنّ فرعون حملة ذبح لا هوادة فيها على شعب بأكمله! فكانت تلك هي المرحلة الأولى من القتل والذبح من قبل أن يُبعث موسى عليه السلام،ثمّ تلتها مرحلة أخرى من القتل،ودليل ذلك قوله تعالى:’’فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال‘‘(1).(إنّ هذا الأمر بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسى واستحياء نسائهم كان أمرا من فرعون وملئه من بعد الأمر الأول الذي كان من فرعون قبل مولد موسى)(2).ويؤيّد هذا ما جاء في جواب فرعون للملأ عندما قالوا له:’’أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك‘‘(3).حيث اعتبر الملأ دعوة موسى إلى الله إفساد يضر بفرعون وبمنظومته القيمية الباطلة،فردّ عليهم بقوله:’’سنُقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم(4)قاهرون‘‘(5).(وهذا أمر ثان بهذا الصنيع،وقد كان نكّل بهم قبل ولادة موسى عليه السلام حذرا من وجوده،فكان خلاف ما رامه وضد ما قصده فرعون.وهكذا عومل في صنيعه أيضا لما أراد إذلال بني إسرائيل وقهرهم،فجاء الأمر على خلاف ما أراد،أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده)(6)،وهذا معنى قوله تعالى:’’وما كيد الكافرين إلا في ضلال(7)‘‘(8)،أي وما مكرهم إلاّ في خسران وهلاك،والمعنى أنّ قصدهم-الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا يُنصروا عليهم-ذاهب وهالك في ضياع وخسران،لأنّ احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله جور عن سبيل الحق،وصد عن قصد المحجة،وأخذ على غير هدى(9)
__________
(1) غافر:25].
(2) تفسير الطبري(24/56).
(3) الأعراف:127].
(4) أراد بالفوقية-لعنه الله-العلو المعنوي وليس العلو المكاني.انظر:اتقان ما يحسن من الأخبار(2/19).
(5) الأعراف:127].
(6) تفسير ابن كثير(2/240).
(7) الضلال والضلالة ضد الهدى والرشاد)لسان العرب،مادة:ضلل(11/390).
(8) غافر:25].
(9) انظر:تفسير ابن كثير(4/77)وتفسير الطبري(24/56).(1/188)
،(ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة)(1)،وفي هذا غاية البلاغة والبيان،فليس كيد فرعون وحده في ضلال بل كيد الكافرين كلهم إلى قيام الساعة في ضياع،وفيه أيضا تثبيت للمؤمنين في كل مرة يواجهون فيها شخصية كشخصية فرعون،فقد قضى الله أن يجعل كيدهم في تضليل.
وهنا لا بد من الإشارة أن تجديد أوامر القتل من فرعون بعد الأمر الأول الذي كان قبل مولد موسى يعني أحد احتمالين: (الإحتمال الأول:أنّ فرعون الذي أصدر ذلك الأمر كان قد مات وخلفه أبنه أو ولي عهده،ولم يكن الأمر منفذا في العهد الجديد،حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد،الذي كان يعرفه وهو ولى للعهد،ويعرف تربيته في القصر،ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل.فحاشيته تشير إلى هذا الأمر،وتوحي بتخصيصه بمن آمن بموسى،سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه ..والإحتمال الثاني:أنّه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى ما يزال على عرشه.وقد تراخى تنفيذ الأمر الأول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته.فالحاشية تشير بتجديده،وتخص به الذين أمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف)(2).
__________
(1) تفسير البيضاوي(5/89).وانظر:تفسير أبي السعود(7/273).
(2) في ظلال القرآن(7/177).(1/189)
وبغض النّظر أي الإحتمالين أرجح(1) فإنّ المتيقن عندنا أنّ أهداف فرعون من القتل قد تغيرت مع بقاء الوسيلة ذاتها،ممّا يؤكد أنّ القتل أقرب الوسائل لعقله المريض،حيث أراد فرعون من تجديد القتل إظهار قوته وسيطرته،فبينما كان الأمر الأول(لأجل الإحتراز من وجود موسى،أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم،أو لمجموع الأمرين،كان الأمر الثاني لإهانة هذا الشعب وصدّه عن مشايعة موسى،ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلام)(2).(ولئلا يكثر جمعهم فيعتضدوا بالذكور من أولادهم،فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله)(3)،ومن ثمّ ليعلم موسى وقومه أنّ فرعون ما زال على ما هو من القهر والغلبة،ولكي لا يتوهم موسى عليه السلام أنّه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده.وهذا ما يعنيه فرعون من قوله:’’وإنّا فوقهم قاهرون‘‘(4)،أي غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا(5).
وفي هذه المرحلة-أي مرحلة تجديد القتل-كان قول بني إسرائيل:’’أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون‘‘(6).أي(أوذينا بقتل أبنائنا من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا،لأنّ فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظله زمان موسى،ومن بعد ما جئتنا برسالة الله،لأنّ فرعون لمّا غُلبت سحرته-وقال للملأ من قومه ما قال-أراد تجديد العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم)(7).
__________
(1) 657 لقد ذكرت هذا في معرض الحديث عن فرعون موسى،ورجحت أن يكون شخصا واحدا.راجع تعريف فرعون موسى.ص9.
(2) تفسير ابن كثير(4/77)مع بعض التصرف.
(3) تفسير القرطبي(15/305).
(4) الأعراف:127].
(5) انظر:تفسير البيضاوي(3/50)وتفسير أبي السعود(3/262)وفتح القدير(2/235)وتفسير النسفي(2/31)وروح المعاني(9/29).
(6) الأعراف:129].
(7) تفسير الطبري(9/27)مع بعض التصرف.(1/190)
(وبالجملة فهو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل من اضطرابهم على أنبيائهم وقلة يقينهم،واستعطاف موسى لهم بقوله:عسى ربكم أن يهلك عدوكم ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض،يدلّ على أنه يستدعي نفوسا نافرة،ويُقَوّي هذا الظنّ في جهة بني إسرائيل سلوكهم هذا السبيل في غير ما قصة.وقوله:’’فينظر كيف تعملون‘‘تنبيه وحض على الإستقامة)(1)؛ذلك أنّ موسى عليه السلام أراد أن يرفع من معنوياتهم وهم الذين ما يزالون يعيشون هاجس الكارثة وكابوس المرحلة السابقة.
فرعون يهدد بقتل موسى واستئصال بني إسرائيل
إنّ من أكبر الأمنيات عند فرعون أن يستيقظ ذات يوم فلا يرى موسى مع الأحياء،وليس أمرا غريبا أن يفكر فرعون بقتل موسى،فإنّ أول ما يفكر به الطواغيت هو التّخلص من رأس الدعوة وقيادتها،وهو ما رآه أبو جهل بن هشام حلا نهائيا لخصومتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم،حيث أشار على قومه(أن يأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا-أي قويا-حسيبا في قومه نسيبا وسطا،ثم يعطى كل فتىمنهم سيفا صارما،ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه)(2)،لكي يستريحوا منه،وهكذا ديدن الطغاة والمتجبرين.
__________
(1) تفسير الثعالبي(2/46).
(2) الحلبي:علي بن برهان الدين،(975-1044م)،السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون،3أجزاء،دار المعرفة،بيروت،1400هـ.(2/190)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(السيرة الحلبية)،والكلاعي:أبو الربيع،سليمان بن موسى الأندلسي،(565-634هـ)،الإكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله،تحقيق: محمد كمال الدين عز الدين علي،ط1،عالم الكتب،بيروت،1997م.(1/334)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الإكتفاء بما تضمنه من مغازي الرسول).(1/191)
ولكنّ المُلْفِت للنّظر هو خطابه لقومه:’’ذروني اقتل موسى وليدع ربه‘‘(1).فهل هذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى عليه الصلاة السلام؟أي قال لقومه دعوني حتى أقتل لكم هذا،وقد كانوا يكفونه عن قتله،ويقولون:إنّه ليس الذي تخافه بل هو ساحر،ولو قتلته ظن أنك عجزت عن معارضته بالحجة،أم هو تعلل منه بذلك مع كونه سفاكا في أهون شيء؟ممّا يدلّ على أنّه تيقن أنه نبي فخاف من قتله،أو ظنّ أنّه لو حاوله لم يتيسر له،ويؤيده قوله:’’وليدع ربه‘‘،فإنّه تجلد وعدم مبالاة بدعائه،أي لا أبالي منه وهذا في غاية الجحد والعناد،فكأنّه قيل له:إنّا نخاف أن يدعو عليك فيجاب.فقال:وليدع ربه الذي يزعم أنّه أرسله إلينا فيمنعه منّا،أي لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإنّه لا حقيقة له،وأنا ربكم الأعلى(2).
(والظاهر أنّه-لعنه الله تعالى-استيقن أنّه عليه السلام نبي،ولكن كان فيه خب،وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء.فكيف لا يقتل من أضعف منه بأنّه الذي يهدد عرشه ويهدم ملكه؟ولكنّه يخاف إن هم بقتله أن يُعاجل بالهلاك.فقوله:’’ذروني أقتل موسى وليدع ربه‘‘كان تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه،وما كان يكفه إلاّ ما في نفسه من هول الفزع،ويرشد إلى ذلك قوله:’’وليدع ربه‘‘،لأنّ ظاهره الإستهانة بموسى عليه السلام بدعائه ربه سبحانه،كما يقال:ادع ناصرك فإني منتقم منك،وباطنه أنّه كان ترعد فرائصه من دعاء موسى ربه،فلهذا تكلم به أول ما تكلم،وأظهر أنّه لا يبالي بدعاء ربه،وما هو إلا كمن قال:ذروني أفعل كذا،وما كان فليكن،وإلاّ فما كان لمن يدعي أنه ربهم الأعلى أن يجعل لما يدعيه موسى عليه السلام وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة)(3).
__________
(1) غافر:25].
(2) انظر:تفسير الطبري(24/56)وتفسير البيضاوي(5/90)وتفسير ابن كثير(4/77)وفتح القدير(4/488)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(1/130).
(3) روح المعاني(24/92).(1/192)
إنّ عقلية القتل والتصفية والاستئصال ظاهرة في وسائل الطغاة والعتاة،فتارة بالنفي والإبعاد وتارة بالسحق والطمس والاجتثاث،سعيا منهم لإبادة صوت الحق الذي يشوش حياتهم ويهدد مصالحهم،ولكنّ الله يأبى إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
أراد فرعون أن يستخف موسى وقومه وينفيهم ويزيلهم من الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال أو الإبعاد،يقول تعالى:’’فأراد أن يستفزهم(1)من الأرض‘‘(2).فكان عكس ما تمنّاه،وارتدّ مكره عليه دمارا وبوارا بأن أغرقه الله ومن معه جميعا،يقول تعالى:’’فأغرقناه ومن معه جميعا‘‘(3).
(وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،لأنّه لما خرج موسى فطلبه فرعون هلك فرعون وملك موسى،وكذلك أظهر الله نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع إليها ظاهرا عليها)(4)،وتلك سنّة الله وإرادته الغالبة،’’فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين‘‘(5)،فلتطمئنّ قلوب الذين آمنوا وليستبشروا بفرج الله القريب.
فرعون يسجل أبشع مأساة عرفها التاريخ
لم يخطر ببال فرعون أبدا أن يؤمن السحرة بموسى حين قرر أن يستعين بهم لمعارضة ما جاء به موسى من الحق،بل أراد أن يُحرزَ نصرا باهرا يُثْبِتُ به –حسب زعمه-كذب موسى،وأنّه ليس إلاّ ساحرا ماهرا.وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشاه على معتقداته الموروثة،وعلى سلطانه في الأرض،تلك هي الدوافع الحقيقة لمهرجان السحرة.
__________
(1) استفزه من الشيء أخرجه و استفزه ختله حتى ألقاه في مهلكة)لسان العرب،مادة:فزز(5/391).
(2) الإسراء:103].
(3) الإسراء:103].
(4) زاد المسير (5/95).وانظر:روح المعاني(15/2).
(5) الصّافات:98].(1/193)
ثمّ بين لحظة وأخرى يُفاجىء فرعون بما لم يخطر له على بال،حيث(كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه.فالجماهير حاشدة.وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة.عبأوهم بأكذوبة أنّ موسى الإسرائيلي ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره،ويريد أن يجعل الحكم لقومه،وأنّ السحرة سيغلبونه ويفحمونه ..ثمّ هاهم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته.ثمّ يُغلبون حتى ليقرون بالغلب،ويعترفون بصدق موسى برسالته من عند الله.وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاؤوا لخدمته،وانتظروا أجره،واستفتحوا بعزته!وإنّه لانقلاب يتهدد عرش فرعون)(1).
بدأ فرعون حربه على السحرة-حين آمنوا-بقلب الحقيقة،بل والإسراف بالتهمة،فاعتبرهم تلاميذ متآمرين مع موسى ضد العرش!وضد الشعب المُخدّر!فتلك-بزعمه-مؤامرة تستهدف الجماهير والأمّة،وقال:’’إنّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‘‘(2)،يريد بذلك حشد النّاس وإقحامهم معه في المعركة الخطيرة.وأتبع ذلك بفرية أخرى في محاولة تعكس الرعب الذي دخل على شخص فرعون بقوله عن موسى:’’إنّه لكبيركم الذي علمكم السّحر‘‘(3).
__________
(1) في ظلال القرآن(6/208)مع بعض التصرف.
(2) الأعراف:123].
(3) الشعراء:49].(1/194)
ومن العجيب أن يصل الحد بفرعون أن يعدَّ إيمان السحرة استسلاما،فهل يُعاب الإنسان عند استسلامه للحق وخضوعه له؟ثمّ ازداد غطرسة وعنجهيّة عندما عدَّ إيمانهم خارجا عن القانون،لأنّهم لم يطلبوا الإذن من صاحب الجلالة!وهنا تظهر صفة الفوقية التي تميّزت بها شخصية فرعون(1)،يقول تعالى حكاية لقول فرعون:’’قال آمنتم له قبل أن آذن لكم‘‘(2)،فلكي تؤمن لا بد لك من ترخيص وإذن من الطاغوت!وهذا مؤشر على ذوبان المجتمع في شخصية فرعون،وعلى حجم الكارثة التي أدت إلى انعدام إرادة الإختيار أو حتى القدره عليه لدى الجماهير؛فلولا ذلك لما أبدى فرعون عجبه من هذا التصرف الخارج عن المألوف!
__________
(1) إنّ فرعون رام ما لا ينبغي له،(فالعظمة والعلو والفوقية معناها استحقاقه تعالى نعوت الجلال وصفات التعالي على وصف الكمال وتقدسه عن مشابهة المخلوقين)التعاريف(1/517).
(2) الشعراء:49].(1/195)
لجأ فرعون-حينئذ-إلى ما يلجأ الطواغيت إليه،فجعل يُهددهم بالعذاب الغليظ بعد إفلاسه في الحجة والبرهان،يقول تعالى حكاية لقول فرعون:’’فسوف تعلمون لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف(1)ثمّ لأصلبنكم أجمعين‘‘(2)،ويقول تعالى:’’فلأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أيّنا أشد عذابا وأبقى‘‘(3)،ويقول تعالى:’’لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين‘‘(4)،والمعنى العام للآيات الكريمات أنّ فرعون حذّرهم عاقبة فعلتهم،وهو تهديد مجمل تفصيله لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف،أي من كل شق طرفا،ويعني هذا قطع يد الرجل اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس،فيخالف بين العضوين في القطع،ثم يعمد إلى صلبهم وهم أحياء تنزف دماءهم تفضيحا لهم وتنكيلا لأمثالهم،وأكَّدَ ذلك بأجمعين إعلاما منه أنّه غير مستبق منهم أحدا.وخصّ النّخل لطول جذوعها،أي لأجعلنَّكم مثلة ولأقتلنَّكم ولأشهرنَّكم،حيث شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف المشتمل عليه،للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا،وفي هذا إفراط في تعذيبهم،وكان-لعنه الله-أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف.وإنّما فعل ما فعل لما رأى من خذلان الله إياه وغلبة موسى عليه السلام وقهره له (5).
__________
(1) الخلاف المخالفة أي يده اليمنى ورجله اليسرى يخالف بين قطعهما)التبيان في تفسير غريب القرآن(1/182).
(2) الأعراف:124].
(3) طه:71].
(4) الشعراء:49].
(5) انظر:تفسير القرطبي(7/261)وتفسير البيضاوي(3/49،61)وتفسير أبي السعود(3/261)وفتح القدير(2/234)وزاد المسير(3/243)وتفسير النسفي(2/30).(1/196)
إنّ لجوء فرعون إلى هذه الجريمة البشعة يعني عدة أمور،ويَعْنينا في هذا المقام أمران؛الأول:أنّ أيَّ تهديد حقيقي لعروش الطواغيت يعني حتما مواجهة ساخنة بين الحق وبينهم،ممّا يعني حتما أن نستعد لمثل هذه المنازلة،والتي قد لا تحدث اليوم أو غدا ولكنّها حادثة لا محالة في مستقبل الأيام،فالطاغوت أيّا كان لا يستسلم بسهولة لدعوة الحق،فلا بدّ إذن من أن تراق الدماء الزّكية في سبيل الله.الثاني:أنّ الطاغوت عندما يلجأ إلى القتل والاستئصال إنّما يفعل هذا لهدف قريب هو القضاء على العصبة المؤمنة أولا،ثمّ لتحقيق هدف بعيد،وهو زرع الرعب في قلوب النّاس كي لا تُحدثهم نفوسهم بالخروج عن السلطان!أي يريد أن ينزع من ذاكرة الجماهير معاني التمرد والثورة.
ولنا في نهاية المأساة أن نقرر أنّ وجودنا في دائرة الخصومة مع الطاغوت يعني حالة صحية في الجماعة المسلمة،وأنّ التعايش معه بهدوء يعني حالة مَرَضية في الجماعة المسلمة توجب علينا البحث عن الخلل؛ذلك أنّ الحق لا يتعايش مع الباطل.
الخوف في ظلّ فرعون وسيلة ونتيجة
الخوف(رعدة تحصل في القلب عند ظنّ مكروه يناله)(1)،حيث انتشر بين الناس نتيجة لما رأوه بأمّ أعينهم أو لما تناها إلى مسامعهم من أمور مرعبة ،فصاروا مكبّلين بقيد الخوف المانع من التفكير والإبداع والحركة والثورة؛فالخوف-عند درجة معينة-حالة مَرَضِيَّة تؤدي إلى الإنغلاق والبحث الدائم عن مأمن،فينتقل الفرد من التفكير بالهمِّ العام إلى التفكير بالهمِّ الخاص الذي ملأ حياته وأشغله عن كل شيء.
__________
(1) فيض القدير(1/215).(1/197)
وللإبقاء على الوضع مشدودا ومتوترا يعمد الطاغوت عبر وسائل إعلامه إلى بث برامجه التي يهدف من ورائها إلى جعل النّاس يعرفون ما يُسمّونه بالخطوط الحمراء فلا يتجاوزونها،ثمّ ينشر بين الجماهير من عناصره من يروّج لتلك الخطوط،وينصح النّاس بعدم تجاوزها!فتنشأ حالة من البلادة والإحجام بين النّاس،كلّ هذا في بيئة معبئة بالخوف والرعب تجعل الإنسان في حالة شلل فكري.
من هنا فقدت الجماهير في ظلّ فرعون قدرتها حتى على اختيار عقيدتها،فما آمن لموسى حين آمن إلاّ وهو على خوف وحذر ووجل،يقول تعالى:’’فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‘‘(1)،(لا خوفا من فرعون فحسب،وإنّما من بني إسرائيل أنفسهم،ذلك هو خبر القرآن في مثل هذه القضية الخطيرة.ثمّ يأتي الواقع الذي نحياه ونعيشه ليصدق القرآن)(2)؛ذلك أنّ كثيرا من فئة المستضعفين أصبحوا جندا للطاغوت!وشكَّلوا بتراجعهم واستسلامهم للطاغوت طابورا من العملاء.
(وهنا لا بد من إيمان يرجح هذه المخاوف،ويطمئن القلوب،ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه)(3)،وذلك هو موقف الصحابة رضوان الله عليهم،حيث سُجّل موقفهم في أعظم كتاب وأجلّ سجل،يقول تعالى:’’الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‘‘(4)،أي ازدادوا يقينا إلى يقينهم وتصديقا لله ولوعده(5)،وإنّها لمعجزة هذا الدين أن يزداد أتباعه إيمانا في ساعة الشدة.
__________
(1) يونس:83].
(2) عباس:فضل حسن،القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته،ط1،دار الفرقان،عمان،الأردن،1987م.(336).
(3) في ظلال القرآن(4/468).
(4) آل عمران:173].
(5) انظر:تفسير الطبري(4/178).(1/198)
إنّ الطاغوت مهما أوتي من قوة لن يتجاوز هذه الحياة الدنيا،وهو ما ردّ به السحرة عندما أراد فرعون إدخال الخوف منه إلى قلوبهم،حين قالوا:’’فاقض ما أنت قاض إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا‘‘(1).(ولم يكن أمرهم إياه بأن يقضي ما هو قاض على معنى التكذيب،ولا على الإباحة لأن يفعل بهم ما قد توعدهم،ولكنّهم أعلموه أنّهم قد استعدوا له بالصبر على ما حلّ بهم من عذابه…فليفعل ما هو فاعل،فإنّهم يستقلون ذلك في جنب ما يتوقعونه من ثواب الله عز وجل،وما يرجون أن يصرفه الله عنهم من عذابه ثوابا على بذلهم أنفسهم)(2)،والمعنى(إنما تقدر أن تعذبنا في هذه الحياة الدنيا التي تفنى)(3).
إنّ الخوف من بطش الطواغيت أساس وسبب في نشوء الحركات السّريّة،فإذا ضاق ظاهر الأرض فما للمتمردين على الطاغوت سوى العمل تحت الأرض سرا.فها هو موسى عليه السلام يخرج مع قومه سرا تحت جنح الظلام كي لا يحس به فرعون وجنوده،يقول تعالى:’’وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنّكم متبعون‘‘(4)،حيث(أمر موسى عليه السلام بالخروج ليلا،وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف)(5)،ممّا جعل حركتهم سرّيّة.
السجون لون آخر من عذاب فرعون
__________
(1) طه:72].
(2) المروزي:أبو عبد الله،محمد بن نصر بن الحجاج،(202-294هـ)،تعظيم قدر الصلاة،جزءان،تحقيق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي،ط1،مكتبة الدار،المدينة المنورة،1406م.(2/561)مع بعض التصرف،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تعظيم قدر الصلاة).
(3) تفسير الطبري(16/189).وانظر:تفسير ابن كثير(3/160).
(4) الشعراء:52].
(5) تفسير القرطبي(16/136).(1/199)
إنّ العذاب الممارس من قبل الطواغيت متنوع ومتعدد،وليست السجون سوى لون من ألوان العذاب،فمن لم يردعه هذا اللون من العذاب يردعه لون آخر.ومن العجيب أن بعض الطواغيت يعدلون عن القتل والإعدام والشنق إلى السجن بعدما رأوا حب المؤمنين إلى الشهادة!وما قد تتركه حالات الإعدام في نفوس الجماهير من تقدير عظيم للشهداء،لأنّ التضحية بالنّفس أقصى ما يُقدّمه الإنسان في سبيل عقيدته وإيمانه،فهو بشهادته يحوز على إعجاب النّاس وتبقى كلماته وأهدافه التي مات عليها ومن أجلها حيّة في قلوب النّاس،فالشهادة حياة.من هنا كان السجن بدلا من الشنق والقتل ليست رأفة في القلوب السوداء،وإنّما هو إجراء آخر لإيقاع أشدّ العذاب على من خالفهم،ولتقليل الأضرار الناجمة عن أحكام الإعدام.
السجن وسيلة لا غنى للطواغيت عنها،فالحبس والقيد والوثاق أدوات الردّ التي يرفعونها أمام الحق وأتباعه،يحاولون بذلك عزله عن محيطه الإجتماعي الذي يُؤثر فيه للحد من خطر انخراطه بين النّاس،كما حاول كفّار مكة أن يُثبتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،يقول تعالى:’’وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك‘‘(1).أي ليحبسوك(2) حتى يشلّون حركته.
والسجن حالة قهرية لا يموت فيها السجين فيستريح من عناء لا ينقطع،ولا يحيا لأنّ حياة السجن ليست حياة معتبرة،فالمقصود هو تحطيم الحالة النفسية للسجين وإذلالها حت تخنع وتخضع،ولكي يعيد النّظر فيما من أجله سُجن،أو حتى يُعلن توبته وبراءته ممّا فعل!!أو ربّما يُطالَبُ السجين برفع استرحام كشرط لإخراجه من السجن!وتلك والله عقوبة أشد من القتل.
__________
(1) الأنفال:30].
(2) التبيان في تفسير غريب القرآن(1/218).(1/200)
وبمثل هذا النوع من العذاب هدّد فرعونُ موسى عليه السلام،وذلك كوسيلة لتكميم الأفواه،(فالطغيان لا يخشى شيئا كما يخشى يقظة الشعوب،وصحوة القلوب،ولا يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة،ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية)(1).
لقد كانت السجون في عهد فرعون البائس معهودة ومعروفة منتشرة،يقول تعالى حكاية قول فرعون لموسى:’’قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين‘‘(2)،( أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنّه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك)(3)،(وروي أن سجنه كان أشد من القتل،وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه من سجنه حتى يموت فكان مخوفا)(4).فلمّا أفلس فرعون في باب الحجة والبرهان عدل إلى الإرهاب والقمع،وتلك علامة ضعف كما أنّها علامة استكبار عن الحق.
ولكن ورغم صعوبة السجن وقهره،وآلام العذاب بأنواعه،ورهبة الموت والقتل،فإنّ ذلك لايمنع الدعاة إلى الله من الإستمرار في حمل دعوتهم،فما عليهم إلاّ أن يتوجهوا إلى من بيده مقاليد السماوات والأرض،فرحمته وسعت كلّ شيء،فلا أحد في هذا الوجود يستطيع أن يمسك رحمة الله،(بل مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لامانع ومع عدمها لا مقتضى)(5)،يقول تعالى:’’ما يفتح الله للنّاس من رحمة فلا ممسك لها،وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم‘‘(6).فهو سبحانه الغالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.
المبحث الثاني
استجهال المجتمع
__________
(1) في ظلال القرآن(6/203).
(2) الشعراء:29].
(3) تفسير البيضاوي(4/236).وانظر:تفسير أبي السعود(6/240)وتفسير النسفي(3/183)وروح المعاني(19/73).
(4) تفسير القرطبي(13/99).
(5) ابن تيمية:أبو العباس،أحمد بن عبد الحليم الحراني،(661-728هـ)،كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير،17جزء،تحقيق: عبد الرحمن محمد قاسم النجدي،مكتبة ابن تيمية.(14/17)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(فتاوى ابن تيمية في التفسير).
(6) فاطر:2].(1/201)
(الجهل ضد العلم..واستجهله عده جاهلا واستخفّه أيضا،والتجهيل النسبة إلى الجهل،والمجهلة بوزن المرحلة الأمر الذي يحمل على الجهل)(1)،أي:حمل فرعون النّاس على اتباعه في الغي(2)،فأتباع الرذيلة يودُّون لو كان النّاس كلهم مثلهم في الرذيلة،’’ودُّوا لو تكفرون كما(3)كفروا فتكونون سواء‘‘(4).أي(هم يودّون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها(5).(والعرب تضع الضلال موضع الجهل،والجهل موضع الضلال،فتقول:قد جهل فلان الطريق وضل الطريق بمعنى واحد)(6)؛ذلك أنّ الأمة التي تجهل تضل الطريق ويصير حالها إلى ضياع؛ذلك أنّ(الجهل خلو النفس من العلم،واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه،وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل)(7).ويكفى أن تعلم أنّ’’من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل‘‘(8).
__________
(1) مختار الصحاح،مادة:جهل(49)مع بعض التصرف.وانظر:لسان العرب،مادة:جهل(11/129).
(2) وانظر:تفسير القرطبي(14/49)وفتح القدير(4/232).
(3) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي كفرا مثل كفرهم) القيسي:أبو محمد،مكي بن أبي طالب،(355-437هـ)، مشكل إعراب القرآن،جزءان،تحقيق: حاتم صالح الضامن،جزء واحد،ط2،مؤسسة الرسالة،بيروت،1405هـ.(1/205)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(مشكل إعراب القرآن).
(4) النساء:89].
(5) تفسير ابن كثير(1/534).
(6) تفسير الطبري(19/67).
(7) فيض القدير(1/328).
(8) صحيح البخاري،كتاب العلم،باب رفع العلم وظهور الجهل (1/43)رقم(81).(1/202)
إنّ تجهيل المجتمع من وسائل تثبيت النّظام الذي يريده فرعون؛فشخصية فرعون مرتبطة بالنّظام المطبق في حياة النّاس وجودا وعدما.فمن هنا وعلى أساس هذا الفهم كانت سياسة التجهيل،فاستخفاف الطغاة للجماهير سياسة معلومة متعبة،(فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة،ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها،ولا يعودوا يبحثون عنها،ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة.ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك،ويلين قيادهم)(1)،وكلما طال الزمن على هذه الحال أصبح المرض مزمنا والتخلص منه عسيرا،ممّا يتطلب المزيد من الجهد والاجتهاد للتخلص من الآثار التي أوجدها فرعون وأمثاله في حياة النّاس،وهي لا شك آثار تدميرية.
ولذلك لم تغب هذه الوسيلة عن عقل فرعون ونهجه،فهو يستدعي كل ما به يثبت نظامه ويقوي حكمه،ودليل ذلك قوله تعالى:’’فاستخف(2)قومه فأطاعوه‘‘(3).والمعنى فاستجهل قومه فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم.وقيل:استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول.وهذا لا يدلّ على أنّه يجب أن يطيعوه،فلا بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه.وقيل:استخف قومه وقهرهم حتى اتبعوه،أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده وغروره فأطاعوه فيما أمرهم به وقبلوا قوله وكذبوا موسى(4).ولم تكن خفة أحلامهم وقلة عقولهم إلا نتيجة لما امتلأت به من خرافات وعقائد باطلة،ولما تعرّضت له من العزل عمّا من شأنه أن ينوّر لها الطريق ويجلي لها الحقائق.
__________
(1) في ظلال القرآن(7/340).
(2) فاستخف قومه فأطاعوه:أي حملهم على الخفة والجهل يقال استخفه عن رأيه واستفزه عن رأيه إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب واستخف به أهانه)لسان العرب،مادة:خفف(9/80).
(3) الزخرف:54].
(4) انظر:تفسير القرطبي(16/101)وفتح القدير(4/560)وتفسير أبي السعود(8/50)وتفسير البيضاوي(5/149)وروح المعاني(25/91).(1/203)
لقد استعمل فرعون لتجهيل النّاس عدة وسائل،تدور في مجملها حول محورين:
المحور الأول:منع حرية الرأي وتكميم الأفواه،وذلك بنشر الخوف بين النّاس بالقتل والسجن والتعذيب،كما سبق وبيّنا،حتى لا ينتشر النّور والهدى بين النّاس،ودلّ على ذلك شواهد كثيرة،منها قوله تعالى:’’وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة‘‘(1).حيث خاف بنو إسرائيل على أنفسهم(فأمروا أن يصلوا فى بيوتهم فى خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك فى أول الإسلام بمكة)(2)،فنشر الخوف بين النّاس أمر مقصود حتى لا يظهر للإيمان في واقع الحياة أيّ مظهر،فيؤثر في نفوس النّاس فيجذبهم إليه،وهذا مالا يسمح به فرعون.
وبسبب هذا الواقع المرّ انقسم النّاس في ظلال شخصية فرعون القاتمة إلى ممتنع عن الإيمان خوفا وجزعا ممّا قد يلحق به لو كُشف أمره للطغمة الحاكمة.وشاهد ذلك ودليله ما حدث للسحرة بمجرد إعلان إيمانهم.وقسم آخر وهو قليل آمن على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم،فهم على حذر شديد لمجرد الإيمان الذي يكتمونه.وفي المحصلة لا نجد صنفا من النّاس يَدعُون إلى الهدى والنّور لما في ذلك من خطر يتهدد حياتهم،وعلى هذا فالمتكلم الوحيد هو فرعون وزمرته،وليس في المقابل من يستطيع أن يرد عليه بهتانه وفريته،وبذلك أظلمت حياة النّاس وأغرقهم فرعون في جهل مرعب.
__________
(1) يونس:87].
(2) تفسير النسفي(2/139).(1/204)
ويلحق بمنع النّور والهدى سياسة تشويه الحق لمنع وصوله صافيا إلى الجماهير،ومن ذلك اتهام موسى عليه السلام أنّه ساحر عليم،وأنّه يريد إخراج النّاس من أرضهم بسحره،وأنّه يسعى لأن تكون له الكبرياء في الأرض،وغير ذلك من التشويهات،حيث يشبه منهج فرعون في ذلك منهج كفّار مكة حين قالوا:’’لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‘‘(1).أي لا تصغوا إليه،وعارضوه بالخرافات وبالكلام الخالي عن أي فائدة والذي لا طائل تحته،وعيبوه وأنكروه وعادوه،أو ارفعوا أصواتكم لتشوشوه بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء وصولكم للغلبة(2).
فجمعوا بين المنع المباشر بعدم السماع وبين اللغو في القرآن،وهو منهج ما زال مستمرا حتى يومنا هذا،حيث توظف له أجهزة ضخمة ليس لها سوى زرع الشك والريبة في نفوس وعقول الجماهير،لئلا تنجذب للحق عندما يصلهم صافيا نقيّا،ويصاحب تلك الدعاية تشكيك بأهداف وغايات حملة الهدى والنّور،فهم-بزعم الطواغيت-طلاّب سلطة ومال ومآرب خاصة!وهكذا يتكرر المشهد القديم مرة بعد مرة.
المحور الثاني:ويتمثل في نشر الخرافات والتصورات الفاسدة،وحقن الجماهير بها بطرق مختلفة،كالسحر والكهانة والشعوذة،باعتبارها أدوات تجهيل للمجتمع؛حيث غُطِّيَت تلك الأدوات بأردية مقدسة.وقد أولى فرعون هذه الوسيلة إهتماما كبيرا،لأنّ السحر والكهانة جزء من النّظام القائم على تقديس فرعون وإعطائه صفة الألوهية والربوبية.فهم-أي السحرة والكهنة-يسحقون وعي النّاس سحقاً وحشياً،حتى أضحت الجماهير مقيدة العقول!مأسورة في طوق من الخرافات والأوهام والأباطيل،وتلك هي البيئة التي تنمو فيها شخصية فرعون.
__________
(1) فصلت:26].
(2) انظر:تفسير الطبري(24/112)وتفسير ابن كثير(4/99)والدر المنثور(7/321)وتفسير ابي السعود(8/12)وفتح القدير(4/514)وزاد المسير(7/252).(1/205)
وكما كان السحر والكهانة سبب في ظهور شخصية فرعون،فهما أيضا وسيلته المفضلة في تثبيت حكمه ونظامه،ودلّ على ذلك حشده لهم في مباراة مصيرية مع موسى عليه السلام.يقول تعالى:’’وجاء السحرة فرعون،قالوا إنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين،قال نعم وإنّكم لمن المقربين‘‘(1).(إنّهم محترفون..يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة!والأجر هو هدف الإحتراف في هذا وذاك!وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين حين يفسدون!فيصبحون أداة طيّعة لتزييف الحقائق باسم أنّهم رجال دين،فيأولون النّصوص بما يخدم الطاغوت،ويبذلون جهدا لاهثا في التّمحل والتزييف)(2).
وهكذا طواغيت العصر يستعينون بالمأجورين من علماء الدين،فيحرفون الكلم عن مواضعه،ويحرّفونه من بعد مواضعه،فيغيّرون معانيه ليلائم سياسة الحكومة،ويحلون ما حرم الله،وهم بهذا يُزَوِّرُونَ الدّين،ويميّعون ما شرعه الله،ويسكتون-عمدا-عن مخازي الحكومة،بل ويستشهدون بأقوال الحاكم بأمر الشيطان كما لو كانت قرآنا!ثمّ تصبح دروسا يتعلمها التلاميذ في مدارسهم ومعاهدهم؛فينتشر الجهل ويسود الظلام وتنعدم الرؤية الصحيحة لمعنى الحياة.
__________
(1) الأعراف: 113-114].
(2) في ظلال القرآن(3/602)مع بعض التصرف.(1/206)
وهناك طائفة أُخرى تمَّ تسليطها على الأمة تلك هي طائفة المثقفين!!حيث فُتحت لهم كلّ الأبواب،ووضعت تحت أيديهم أجهزة الإعلام،فدورهم تخريب فكر الأمّة ومهاجمة الإسلام بدعوى التنوير والعصرنة،فإذا أراد أحد المراهقين بالفكر أن يشتهر فأقرب الطرق هي مهاجمة الإسلام!وتقوم الحكومة بإيوائه وتوفير الأمن له والترويج لأفكاره وسمومه.ويقوم الإعلام المُوجّه بالترويج لهذه الطائفة بأنّها أمل الأمة وسبيل الخلاص لكل المُشكلات التي تعاني منها.أمّا الحقيقة المرّة فليس هؤلاء سوى أبواق للحضارة الهابطة أو ما تُسمّى بحضارة العالم الحر!وليس دورهم ووظيفتهم سوى تجهيل الأمّة بدينها وتشكيكهم به كي يسهُل استسلام الأمة وانقيادها لمخططات الطواغيت،ثمّ ليتعايش النّاس مع الأوضاع القائمة،وذلك حين تسود الأفكار والتصورات التي تتعايش مع الطاغوت ولا تتمرد عليه؛فالهدف الأخير لتلك الطائفة(هو اقتلاع العقيدة الإسلامية من قلوب المسلمين وصرفهم عن التمسك بالإسلام،أمّا وسائلهم فهي كثيرة ومتنوعة،أخطرها وأهمها السيطرة على مناهج التعليم ووسائل الإعلام)(1).
وبين المنع والحقن تمّ إشغال النّاس بما يضر ولا ينفع
إنّ إشغال الجماهير وسيلة لإبعادها عن إدراك واقعها المر،فتعيش حياتها لاهية غافلة لا هدف ولا قضية ولاغاية،فهي في لهو باطل لا خير فيه،حتى إذا جاءهم الحق استقبلوه بالهزء والسخرية(لتناهي غفلتهم،وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب)(2)؛ذلك لأنّ قلوبهم لاهية غافلة.يقول تعالى:’’ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلاّ استمعوه وهم يلعبون،لاهية قلوبهم‘‘(3)،وهي حالة ترضى عنها الحكومة وترعاها!
__________
(1) محمد قطب،واقعنا المعاصر،ط1،مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر،المملكة العربية السعودية،1407هـ،1986م.196،مع بعض التصرف،وسأشير إليه لاحقا هكذا(واقعنا المعاصر).
(2) تفسير البيضاوي(4/82).وانظر:تفسير أبي السعود(6/54).
(3) الأنبياء:2-3].(1/207)
فتارة يلهيهم الطاغوت بما في ظاهره متعة ولكنّها مضللة،كالمهرجانات والمباريات والاحتفالات…فها هو فرعون يُحمّس الجماهير لحضور المباراة التاريخية المشهورة بين موسى عليه السلام وبين السحرة،(وتظهر من التعبير حركة الإهاجة والتحميس للجماهير،’’وقيل للنّاس هل أنتم مجتمعون،لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين‘‘(1).هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد،لنترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الاسرائيلي!والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الامور،دون أن تدرك ما وراء هذه السياسة،فالطواغيت يشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات،ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس)(2)،ثمّ تطور الشكل القديم إلى برامج وأجهزة ووزارات تعتنى بتلك الغاية.
إنّ فرعون-كما كل الطغاة-عندما يُواجه بالحجة والدليل يبحث عن مخرج،ولقد رأى فرعون ببناء الصرح ما يشغل النّاس ويُلهيهم،فأمر هامان ببنائه،كما حكى الله عنه قوله:’’فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘(3).وقوله:’’يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب،أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى‘‘(4).فاعتراف الطاغوت بالحق أمر في غاية الصعوبة،لذا(رجع إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره)(5)،فهو-لعنه الله-يشغلهم بشيء يعلم هو قبل غيره أن لا فائدة من بنائه،ولكنّه أراد أن يُبهرهم بما يصنع،وأن يشغلهم بتلك الألاعيب عن الحقائق والبينات التي جرت على يد موسى،وفي هذا التصرف من فرعون إشارة إلى إنحطاط الوعي العام عند الجماهير.
__________
(1) الشعراء:39-40].
(2) في ظلال القرآن(6/206).
(3) القصص: 38].
(4) غافر:36-37].
(5) فتح القدير(4/173).(1/208)
ومن وسائل اللهو كثرة الأعياد والمناسبات،فعيد للشجرة وعيد للجلوس وعيد للأمّ…!وهكذا دواليك.ولم يكن فرعون شاذا عن هذه القاعدة بل كان له يوم الزينة،(وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم)(1)،وذلك ما يُرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول موسى عندما طلب منه فرعون تعيين يوم للمباراة مع السحرة:’’قال موعدكم يوم الزينة‘‘(2)،وهذا الإختيار من موسى عليه السلام يدلّ على كثرة النّاس المجتمعين في ذلك اليوم،حيث يخرج النّاس إلى الأماكن العامة المكشوفة.
إنّ سياسة إشغال النّاس ما زالت مستمرة كي لا يكون عندهم وقت للتفكير بالواقع المرّ الذي يعيشونه،وليس شرطا أن يكون إشغالهم بوسائل ترفيهية هابطة تثير أقبح ما في النفس من دوافع وغرائز حيوانية،وتخلق أجيالا كسيحة فحسب،بل تتعدى سياسة الإشغال هذا الشكل إلى ما نسمّيه بخلق الأزمات المستمرة،فيَجِدُ الفرد نفسه يخرج من أزمة ليدخل في أُخرى،فينتقل تفكيره وهمَّه من الهمّ العام إلى الهم والمشكلة الخاصة.
ولنا أن نقرر أن الجهل أرض خصبة ووسط مناسب تنمو فيها الخرافات والتصورات الفاسدة والعقائد الباطلة،وهو البيئة المناسبة لحكم الطواغيت.فأينما حلّ الجهل في قوم أو جماعة تكون القابلية لتلك الخرافات،وتكون القدرة على تسخير النّاس من قبل الطغاة أكثر،لأنّ التجهيل شرط لا بدّ منه لأي حكومة جائرة مستبدة،وقد بدت العداوة والبغضاء بين الطواغيت وبين العلم والوعي لشدة خطورة ذلك على أيّ نظام ظالم.
لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
__________
(1) البداية والنهاية(1/254).وانظر:تفسير الثعالبي(3/32).
(2) طه:59].(1/209)
إنّ ظلام الجهل لن يزول بغير نور العلم،وتلك هي وظيفة القرآن العظيم(1)،يقول تعالى:’’قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين‘‘(2)؛فالقرآن الكريم(يُوضِّح للنّاس أبين المسالك،وينفي عنهم الضلالة،ويرشدهم إلى أقوم حالة)(3)،فتتَّضح المعاني الحقيقية للحياة لمن سار على هداه.فبينما يسيرالنّاس المنقطعون عن القرآن في حيرة واضطراب وتيه تجد أتباع القرآن مدركين لما يدور حولهم،لا تنطلي عليه مناورات الطواغيت وألاعيبهم؛ذلك بأنّهم حازوا العلم الحق،يقول تعالى:’’قل:هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‘‘(4).(فالحق منهج واضح،والدين ميزان راجح،والجهل لا يزيد إلا عمى ولا يورث إلا ندما)(5).
ومن هنا نفهم الاستجهال المعاصر،وهو جعل النّاس يعيشون ويموتون دون أن يُدركوا غاية وجودهم،وتُستعمل لهذا الغرض أجهزة الإعلام الضخمة والهائلة،تبث الفجور وتهبط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان!يعيش لشهوته ونزواته وهواه.وتُنشر لتحقيق هذا الغرض أفكار يُسمّونها تقدمية تحررية!ويُنفق في هذا السبيل المليارات.وأطلقوا على حملتهم إسم التنوير!
إنّ المسؤول-أو هكذا يُراد-عن برامج المسلمين الثقافية والتعليمية هي وكالات الاستخبارات الأجنبية،فهم إنّما يريدون تجهييل الأمة بدينها شيئا فشيئا؛يمنعون بعض المواضيع التي تؤثر في نهضة الأمة وخصوصا باب الجهاد في سبيل الله،كما يريدون تحويل الدّين من عبادة إلى عادة.والأدهى من ذلك ما يعقدونه من اتفاقيات ثقافية مشبوهة يُراد منها إخراج جيل لا يعرف من الإسلام إلاّ اسمه،ولديه قابلية للترويض والخنوع.
__________
(1) انظر:مناهل العرفان(2/256).
(2) المائدة:15].
(3) تفسير ابن كثير(2/35).
(4) الزمر:9].
(5) إعجاز القرآن(1/303).(1/210)
وفي المقابل يُحاصر أصحاب الحق والحقيقة،ويُتهمون بتهم شتى،مرة بالإرهاب الفكري،ومرة باحتكار الحقيقة المطلقة..ومرة يُزج بهم في غياهب السجون،وتغض مؤسسة حقوق الإنسان الطرف!فتلك مؤامرة عالمية لاستحمار الشعوب وإفراغها من كل مضمون إنساني كي يسهُل انقيادها..وتلك هي عقلية اليهود الذين يُشكلون القاعدة الأساسية في هذا المشروع الكبير المدمّر.
وسائل الرد الممكنة
أمام هذه الحملة الإعلامية الضخمة لا بدّ لنا من محاولة جادة تُنقذ ما يُمكننا إنقاذه،فليس أمرا مقبولا أن نكتفي بالشتم وبيان عورات الحكومة،ثمّ نقف عاجزين عن فعل أي شيء.فهناك ما نستطيع أن نفعله.نبدأ بأنفسنا فنصلحها لتكون قادرة على حمل الصلاح للآخرين..ونهتم بأسرنا وأبنائنا،ونبعدهم عن كل المؤثرات التي يُريد الطاغوت لهم البقاء تحت تأثيرها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.ولا بدّ أن نكون قدوة لهم كي لا تكون تعاليمنا لهم نظرية لا يُصدقها الواقع.
ثمّ تخطو الجماعة المسلمة خطوة أخرى نحو تحقيق القدرة الإقتصادية والتي بدورها تمكننا من إنشاء المؤسسات الإعلامية والمنابر الثقافية وغيرها كالنوادي وأماكن الترفيه والتربية..وفي المحصلة نريد اعتزال الثقافة الجاهلية وعزلها،وفي المقابل نريد امتلاك وسائل التثقيف والإعلام كي ننشر نور الحق والهدى،وهي عملية متكاملة لتفريغ الأذهان ممّا احتوته من سموم-يعني التخلية-ثمّ تعبئتها بالحقيقة الإسلامية،وكلّ ذلك بحاجة إلى تضحيات وجهود مخلصة،كي تنقشع الظلمات ويسطع النّور.(1/211)
ومع هذا الواجب الذي يقع على عاتقنا لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أنّ ما نفعله ليس سوى خطوة على الطريق وليس بديلا عن الحلّ الجذري الذي نسعى له وهو إزالة فرعون من الوجود.كما وننبه أنّ أيّ مؤسسة ننشؤها تبقى في مهب الريح غير مستقرة بسبب السيطرة التي نعاني منها من قبل الطواغيت،فقد يُقدم الفراعنة الجدد على إغلاق المؤسسات الإعلامية وغيرها،وقد يُحاولون إبعاد الصوت الإسلامي..وقد يحققون بعض النّجاح لأنّهم يُمسكون بزمام الأوضاع.كلّ هذا صحيح ولكن لا يمنع من فعل ما نستطيع دون الغفلة عن الهدف الأكبر والغاية العظمى.
المبحث الثالث
الكذب
الكذب نقيض الصدق(1)،و(هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه)(2)،فهو تزوير وتحريف للحقيقة،بنفيها أو إثبات ما لا حقيقة له،وهو في كلا الحالتين تزوير وإخفاء للحقائق؛ذلك أنّ(الصدق مطابقة الخبر للواقع والكذب عدمها)(3).وقد يكون الكذب بلسان المقال أو بلسان الحال.وهو وسيلة الطغاة لتحقيق الغايات والأهداف غير المشروعة،ومنهج كل من يؤمن أنّ الغاية تبرر الوسيلة،وهو سلوك العاجزين والمنافقين والضعفاء والمفلسين والجبناء الذين يخافون من مواجهة الحقائق.
وهكذا كان فرعون-فاجرا منافقا عاجزا-يتوصل بالكذب الممنهج لتثبيت باطله وتدعيم نظامه بَعْدَ أَنْ علم الحق بدليل قوله تعالى:’’لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر‘‘(4).فاختار-لعنه الله- وزمرته المقربة الكذب لرد الحق وتسويق الباطل،وهم يعلمون أنّه كذب’’ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‘‘(5)،ولا عجب فالقيم في ظلّ الطاغوت بضاعة تُشترى وتباع.
__________
(1) لسان العرب،مادة:كذب(1/704).وفي مختار الصحاح)التكاذب ضد التصادق)مادة:كذب(236).
(2) المصباح المنير،مادة:كذب(2/528).
(3) فيض القدير(1/171).وانظر:التعريفات،باب الكاف(1/235)والتعاريف،فصل الذال(1/601).
(4) الإسراء:102].
(5) آل عمران:78].(1/212)
إنّ فرعون أفّاك كذّاب أثيم؛ذلك أنّ الكذب هو الأساس الذي بنى فرعون عليه نظامه والأصل الذي ظهرت من خلاله شخصيته،فهو-لعنه الله-من حمل إثم أكبر كذبة وأعظم فرية،فقد ادعى كذبا أنّه رب أعلى وإله لم يعلم لقومه إلها غيره.ثمّ يأتي بعد ذلك دوْرُ الأجهزة المختصة في الترويج المُستمر لتلك الفرية،ومرة بعد مرّة يُدخَل في روع الجماهير أنّ الطاغوت ليس فردا عاديا،وليس بشرا طبيعيا،كما حصل لبني إسرائيل حين لم يُصدّقوا موت فرعون وغرقه بعد أن تعرضوا لعملية مسح للذاكرة.
الكذب وسيلة من وسائل فرعون في مواجهته لموسى عليه السلام
وماذا يملك فرعون أمام الحجة والبرهان؟ لقد اتهم موسى-كذبا-بأنّه ساحر،يقول تعالى مخبرا عن قول فرعون:’’قال للملأ حوله إنّ هذا لساحر عليم‘‘(1)،وتلك أقرب فرية يُمكن أن يُصدّقها النّاس في زمن انتشر به السحر،لأنّ الطاغوت في ردّه على الحق لا بدّ أن يُفتش عن فرية شبه معقولة!فإن لم تُقنع النّاس فلا أقل من أن تُدخل الشك إلى قلوبهم.
__________
(1) الشعراء:34].(1/213)
يلجأ الطاغوت-حين يكذب-إلى أقرب القول،وهو ما أشار إليه الوليد بن المغيرة حين اجتمع مع نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم،فقال:(وفود العرب ستقدم عليكم فيه،وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا،فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا،فيكذب بعضكم بعضا ويرد قول بعضكم بعضا. فقالوا:فأنت يا أبا عبد شمس،فقل وأقم لنا رأيا نقوم به.فقال:بل أنتم فقولوا لأسمع.فقالوا:نقول كاهن. فقال:ما هو بكاهن،لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة(1) الكاهن وسحره.فقالوا:نقول مجنون.فقال:وما هو بمجنون،ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.فقالوا:نقول شاعر.قال:فما هو بشاعر،قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه(2) ومقبوضه(3) ومبسوطه؛فما هو بالشعر.فقالوا:نقول ساحر.قال:فما هو ساحر،قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده.فقالوا:ما تقول با أبا عبد شمس؟قال:والله إنّ لقوله لحلاوة،وإنّ أصله لمعذق،وأنّ فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل،وأنّ أقرب القول لأن تقولوا ساحر،فتقولوا هذا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه وبين المرء وبين أخيه وبين المرء وبين زوجته وبين المرء وعشيرته)(4)
__________
(1) 742(الزمزمة صوت خفي لا يكاد يفهم)لسان العرب،مادة:زمم(12/274).
(2) القريض الشعر،وهو الاسم كالقصيد،والتقريض صناعته)لسان العرب،مادة:قرض(7/218).
(3) القبض في زحاف الشعر حذف الحرف الخامس الساكن من الجزء،نحو النون من فعولن أينما تصرفت،ونحو الياء من مفاعيلن،وكل ما حذف خامسه فهو مقبوض،وإنما سمي مقبوضا ليفصل بين ما حذف أوله وآخره ووسطه)لسان العرب،مادة:قبض(7/215).
(4) السيوطي:أبو الفضل،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال(849-911هـ)،كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب(الخصائص الكبرى)،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1985م.(1/189)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الخصائص الكبرى).وانظر:الإكتفاء بما تضمنه من مغازي الرسول(1/219) ابن إسحاق:محمد بن يسار،(85-151هـ)،سيرة إبن إسحاق المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي،جزءان،تحقيق: محمد حميدالله،معهد الدراسات والأبحاث للتعريب.(2/132)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(سيرة ابن إسحاق).(1/214)
.
أرأيت كيف يبحث الطاغوت عن فرية؟! ثمّ أرأيت كيف وقع الإختيار؟هكذا هم الطواغيت في بحث مستمر عن فرية جديدة يصدون بها عن سبيل الله،بل وأقاموا مجامع لهم لتشويه وجه الحق،واشتروا عقولا بشرية تمتاز بالدهاء والذكاء والمهارة العالية يُعشعش فيها الشيطان لتعمل ليل نهار في البحث والاستقصاء عن طرق لترويج الباطل وتزوير الحقائق،وبذلوا في ذلك أموالهم وجهدهم،وتطورت أساليبهم وطرقهم،وبقي الكذب هو الجامع بين القديم والحديث منها.
لقد أراد فرعون بفريته الأولى-وهي اتهام موسى أنّه ساحر-التشكيك بنبوة موسى عليه السلام،ثمّ تقدم خطوة أخرى للتشكيك في أهداف الدعوة،فبينما موسى جاء لإطلاق بني إسرائيل من قيد فرعون،راح فرعون ينشر بين النّاس فريته أنّ موسى ما جاء إلاّ ليخرجكم من أرضكم،يقول تعالى مخبرا عن قوله:’’قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى‘‘(1).و(هذا من فرعون تعلل وتحير،ودليل على أنّه علم كونه محقا حتى خاف منه على ملكه،فإنّ الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه)(2)،ولكنّه لجأ إلى الكذب(لحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه الصلاة والسلام بإبراز أن مراده عليه الصلاة والسلام ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم،بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية، حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد،ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة.وسمّى ما أظهره عليه الصلاة والسلام من المعجزة الباهرة سحرا لتجسيرهم على المقابلة)(3).
__________
(1) طه:57].
(2) تفسير البيضاوي(4/56).وانظر:تفسير النسفي(3/58).
(3) تفسير أبي السعود(6/23).وانظر:فتح القدير(3/370)وروح المعاني(16/216).(1/215)
ثمّ يلتفت إلى الجماهير مُبْدِياً حرصه عليهم،’’فماذا تأمرون(1)‘‘(2)،أي(بأي شيء تأمرونني)(3)،متنازلا من عليائه الكاذب في طرح المشورة عليهم،فالديمقراطية أداة في يدّ الطاغوت يستدعيها متى يحتاج إليها!يحاول بذلك استدرار العواطف واستدراج الجماهير بفتات يسير من الحرية الموهومة حتى إذا هدأت العاصفة عاد إلى طبعه.
وتظهر براعته في الكذب والاحتيال على الحقيقة حين ادعى أنّ خصومته لموسى ليست إلاّ دفاعا عن مصالحهم،فهي معركتهم التي يتبناها من أجلهم!فإنّ موسى’’يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘(4).فأي عقلية شيطانية يتمتع بها الطاغوت!
إنّه يُخفي ذعره من تأثر القوم بدعوة موسى فهو يُغريهم به:يريد أن يخرجكم قسرا من أرضكم التي نشأتم فيها وتوطنتموها بسحره،وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له(5)،وكان فرعون يدرك أنّ ما قاله كذب،ولكنّه لا بدّ منه،إذ ليس هناك طريق آخر غير الإحتيال.
__________
(1) قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا)تفسير البيضاوي(3/46).
(2) الأعراف:110].
(3) وهذا من كلام فرعون،وقيل قاله الملأ من قبله بطريق التبليغ إلى العامة.فقوله تعالى:’’قالوا أرجه وأخاه‘‘على الأول وهو الأظهر حكاية لكلام الملأ الذين شاورهم فرعون،وعلى الثاني لكلام العامة الذي خاطبهم الملأ)تفسير أبي السعود(3/259).قال الشوكاني رحمه الله:(وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى بدليل ما بعده وهو:’’قالوا أرجه وأخاه‘‘. قاله الملأ جوابا لكلام فرعون حيث استشارهم وطلب ما عندهم من الرأي)فتح القدير(2/231).
(4) الشعراء:35].
(5) انظر:تفسير ابن كثير(3/334)وتفسير أبي السعود(6/241)وروح المعاني(19/76).(1/216)
واتّهم فرعون-لعنه الله-موسى عليه السلام بأنّه مسحور(1)،يقول تعالى:’’فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا‘‘(2)،(فكلمة الحق والتوحيد والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلاّ من مسحور لا يدري ما يقول!فما يستطيع الطغاة من أمثال فرعون أن يتصوروا هذه المعاني،ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية!)(3).
لم يكتف فرعون بفرية السحر،بل سار على نهج الطغاة،يقول تعالى:’’كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‘‘(4).و(الاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب من حالهم،أي هل أوصي أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطئوا عليه!بل هم قوم طاغون.إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان،أي لم يتواصوا بذلك بل جمعهم الطغيان،وهو مجاوزة الحد في الكفر)(5)،فكأنّهم تواصوا على التكذيب.
__________
(1) أي (ذاهب العقل مفسدا)لسان العرب،مادة:سحر(4/349).
(2) الإسراء:101].
(3) في ظلال القرآن(5/362).
(4) الذاريات:52-53].
(5) فتح القدير(5/92).وانظر:تفسير الطبري(27/10)وتفسير القرطبي(17/54).(1/217)
ولمّا كان فرعون من طبيعته الطغيان شارك الأولين والآخرين نهجهم،فأضاف إلى تهمة السحر تهمة الجنون،حيث قال:’’إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘(1).أي(إنّ رسولكم هذا الذي يزعم أنه أرسل إليكم لمغلوب على عقله،لأنّه يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه.وإنّما قال ذلك ونسب موسى إلى الجِنّة لأنّه كان عنده وعند قومه أنّه لا رب غيره يُعبد،وأنّ الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة)(2)،ولأنّه-لعنه الله-(خاف من تأثر قومه منه،فأراهم أنّ ما قاله عليه الصلاة والسلام مما لا يصدر عن العقلاء صدا لهم عن قبوله،فقال مؤكدا لمقالته الشنعاء بحرفيّ التأكيد’’إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘(3)،ليفتنهم بذلك ويصرفهم عن قبول الحق،وسمّاه رسولا بطريق الإستهزاء،وأضافه إلى مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه)(4).
__________
(1) الشعراء:27].
(2) تفسير الطبري(19/70).وانظر:معاني القرآن(5/74).
(3) الشعراء:27].
(4) تفسير أبي السعود(6/239).(1/218)
لقد أفرط فرعون في التهمة وتوسع فيها،فجمع بين فرية التشكيك بنبوة موسى وبأهليته-فهو إمّا ساحر أو مجنون أو مسحور-وبين فرية التشكيك بما جاء به،فكأنّه أراد أن يشكك بكل ما يمُتّ إلى موسى بصلة،فكلّ ما جاء به موسى-بزعم فرعون-سحر مبين مفترى،يقول تعالى:’’فلمّا جاءهم الحق من عندنا قالوا إنّ هذا لسحر مبين‘‘(1).ويقول تعالى:’’فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلآّ سحر مفترى‘‘(2).أي(فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك،قالوا من فرط تمردهم:’’إنّ هذا لسحر مبين‘‘ظاهر أنّه سحر أو فائق في فنه واضح فيما بين إخوته)(3)،(فهي-إذن-المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه.المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب.إنّهم يدّعون أنّه سحر… وهم لا يناقشون بحجة،ولا يُدلون ببرهان،إنّما يقولون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولا يبطل باطلا ولا يدفع دعوى)(4).
__________
(1) يونس:76].
(2) القصص:36].
(3) تفسير البيضاوي(3/210).وانظر:تفسير الطبري(11/145)وتفسير القرطبي(8/366)وتفسير ابن كثير(2/427)وتفسير النسفي(2/137).
(4) في ظلال القرآن(6/348-349).(1/219)
وكان الكذب وسيلته في رده على السحرة حين آمنوا،حيث وقع إيمانهم عليه وقع الصاعقة،فلجأ إلى وسيلته الخسيسة محاولا رد المعجزة الباهرة،باتهامهم بالتّواطيء مع موسى عليه السلام،واعتبر إيمانهم مؤامرة حيكت في الخفاء،فقال:’’إنّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها‘‘(1).فليس إيمانهم-بزعم فرعون-سوى مواطأة جرت بينهم وبين موسى ليستولوا على مصر،وكان هذا-بزعمه-في المدينة قبل أن يبرزوا إلى هذه المباراة(2)، حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته والإيمان به.(وهذا الذي قاله من البهتان، يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان، بل لا يُروج مثله على الصبيان،فإن النّاس كلهم- من أهل دولته وغيرهم -يعلمون أنّ موسى لم يرَ هؤلاء يوما من الدهر)(3).
ثمّ أفرط في فريته فقلب المنطق كلّه رأسا على عقب،فبدلا من أن يقول إنّه لتلميذكم قال:’’إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر‘‘(4)،أي رئيسكم في التعليم،وإنّما غلبكم لأنّه أحذق به منكم،أو لأنّه علمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبكم،وإنّما أراد فرعون بقوله هذا التلبيس والكذب على النّاس كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق،حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم،وإلاّ فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى،بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته(5).
__________
(1) الأعراف:123].
(2) انظر:تفسير ابن كثير(2/239)وتفسير البيضاوي(3/48)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(1/185)والجصاص:أبو بكر، أحمد بن علي الرازي،(305-370هـ)،أحكام القرآن،5أجزاء،تحقيق: محمد الصادق قمحاوي،دار إحياء التراث العربي،بيروت،1405هـ.(2/170)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(أحكام القرآن للجصاص).
(3) البداية والنّهاية(1/256).
(4) طه:71].
(5) انظر:تفسير الطبري(16/188)وتفسير أبي السعود(6/243)وتفسير الجلالين(1/483)وتفسير النسفي(3/61).(1/220)
وهذا قول ظاهر أنّه بهت وكذب؛(فإنّ موسى عليه السلام بمجرد ماجاء من مدين دعا فرعون إلى الله،وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ماجاء به،فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن مملكته فجمع سحرة متفرقين ممن اختار هو والملأ من قومه،وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل،وكانوا أحرص الناس على الظهور،والتقدم عند فرعون.وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به،وفرعون يعلم ذلك،وإنّما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم)(1).
الكذب تزوير للحقيقة كي لا تتضح معالم المعركة بين الحق واالطاغوت في أذهان الجماهير
إنّ الكذب تزوير للحقيقة،وهو ما يريده فرعون وكل طواغيت الأرض،كي لا تتضح معالم المعركة في أذهان الجماهير،فتبقى جاهلة لأسباب الخصومة بين الحق والباطل،فتتميّع المفاهيم في عقولها،وتتشوش الرؤيا،فلا تصبح قادرة على فعل شيء.لأنّ فهم رسالة الحق أساس في مناصرتها واتباعها،كما أن فهم الباطل أساس في محاربته ومخاصمته،ولهذا درجت الحكومات الجائرة على الكذب تزويرا للحقيقة.
فالكذب وسيلة الطواغيت في إظهار أنفسهم بمظهر لا يعكس حقيقتهم؛وهو وسيلتهم في الردّ على الحق وأهله؛أي أنّهم يكذبون مرّتين:مرّة في تقديم أنفسهم،ومرّة في ردهم على من خالفهم،ولذلك ظهرت عليهم علامات الضلال وعدم الهدى،يقول تعالى:’’إنّ الله لا يهدي من هو مسرف كذاب‘‘(2)،أي(إنّ الله لا يوفق للحق من هو متعد إلى فعل ما ليس له فعله كذاب عليه يكذب ويقول عليه الباطل وغير الحق)(3)،ولهذا كانت الحكومات الحالية ضالة متعثرة غير مُوفقة.
__________
(1) تفسير ابن كثير(2/239)مع بعض التصرف.
(2) غافر:38].
(3) تفسير الطبري(24/58).(1/221)
إنّ الكذب الذي يمارسه الطواغيت كذب خطير لأنّه يمُس حقائق الدّين والمعاني الحقيقة للحياة،فلا يكتفون بالكذب على النّاس في تصريف شؤونهم وحسب بل يتعدى كذبهم ذلك،ويظهر هذا جليّاً في قضية التشريع،يقول تعالى:’’ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون‘‘(1)،(ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي،أو حلل شيئا مما حرم الله،أو حرَّم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه)(2)،ولهذا كان كذبهم علامة على عدم فلاحهم وعلى عدم إيمانهم،يقول تعالى:’’إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله،وأولئك هم الكاذبون‘‘(3).وأقل ما يُقال فيهم أنّ كذبهم علامة نفاق فيهم؛ذلك أنّ آية المنافق’’إذا حدّث كذب‘‘(4)،وهؤلاء يكذبون حتى في ابتساماتهم وحركاتهم وسكناتهم!ومن هنا كانت حكومات النّفاق التي نشاهد.
إنّ سبيل الكذب هو سبيل الشيطان،يقول تعالى:’’ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنَّه لكم عدو مبين،إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‘‘(5).فقولهم على الله ما لا يعلمون حقيقته:’’طاعة منهم للشيطان واتباعا منهم خطواته‘‘(6).
__________
(1) النحل:116-117].
(2) تفسير ابن كثير(2/591).
(3) النحل:105].
(4) صحيح البخاري،كتاب الإيمان،باب علامة المنافق(1/21)رقم(33).
(5) البقرة:168-169].
(6) تفسير الطبري(2/77).(1/222)
والكذب جريمة نكراء وظلم للحقيقة،وهو مسلك الفاجرين إلى النّار،ففي الحديث’’إياكم والكذب،فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور وإنّ الفجور يهدى إلى النّار‘‘(1)،والطاغوت أياً كان يتقن الكذب والتمويه والمداهنة والمراوغة ويعتبرها فنّا من فنون السياسة.وإذا ظهر من يكشف كذب الطاغوت أرعدت الحكومة والبطانة،واتهموه بالزندقة والفتنة والفجور والتطاول على الأكابر.تنقبض قلوبهم الآثمة لسماع الحق؛فكلمة الحق ثقيلة على أسماع الطواغيت.
وإنّ ممّا يزيد الأمور تعقيدا أن يقوم بعض المأجورين بترويج الكذب الذي يعيش في كنفه الطواغيت،وهم يعلمون أنّه كذب.كما كان يفعل الملأ من قوم فرعون وقومه من الذين شايعوه وناصروه.ممّا يستدعي المزيد من الجهد والمثابرة في كشف الحقيقة.
ونختم هذا المبحث بتحذير الأفّاكين من نقمة الله وبطشه في يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون،يقول تعالى:’’وما ظنّ الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة‘‘(2).فما ظنّ الطغاة يا تُرى؟وماذا يتصورون شأنهم يوم القيامة؟أيحسبون أن يفلتوا من عقاب الله!
المبحث الرابع
السيطرة الإقتصادية
وهي من أهم الوسائل التي ثبّت بها فرعون حكمه ونظامه،فالإقتصاد عصب الحياة على مدار تاريخ الأمم والشعوب،وهو سرّ تكالب النّاس قديما على أماكن الكلأ والماء،وهو سبب تكالب النّاس حديثا على مصادر الثروة كالنّفط والمعادن وغيره،لما في تلك المصادر والثروات من حيوية في حياة النّاس وعيشهم،حتى صح القول:من يملك يحكم،لأنّ من بيده المال والثروة يستطيع التّحكّم في حياة النّاس،وبالتّالي حكمهم والسيطرة عليهم.
__________
(1) صحيح مسلم،كتاب البر والصلة والآداب،باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله (4/2013)رقم(2606).
(2) يونس:60].(1/223)
ولم تغب هذه الوسيلة القديمة الجديدة عن وسائل فرعون التي بها وعليها بنى نظامه وأسسه وأصّله،فالمالك للمال بنوعيه المنقول وغير المنقول هو فرعون،فهو يملك الأنهار والأشجار والأرض والأحجار…كما يملك الذهب والفضة والخيل والبقر والبشر…فهو-بزعمه-الإله والرب،وعليه فهو المالك لكل شيء يسمّى في عالم المال مال،ومن يدّعي غير ذلك أو يشك فيه فقد نازع الرب المزعوم الموهوم صلاحيّات الربوبية!فله الملك وحده بزعمه،فهو وليّ كلّ نعمة،وإليه يُردّ كل فضل!والنّاس يعيشون في ظل صاحب الجلالة على الفتات الذي يُنعم به عليهم.
بعض الشواهد على سيطرة فرعون الإقتصادية
بيّن القرآن أنّ فرعون ذو ملكية كبيرة ضخمة،وذلك هو معنى قول فرعون لقومه’’أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون‘‘(1)،فهو يُسائلهم:أليس لي ملك مصر(لا ينازعني فيه أحد)(2)،(وهذه الأنهار أنهار النيل تجري من تحتي من تحت قصوري،أو تجري بين يدي في جناني وبساتيني)(3).(أفلا تبصرون أيها القوم ما أنا فيه من النعيم والخير)(4)!فتسمع الجماهير النّداء وتسكت رهبة أو رغبة.وكفى بهذا النّداء دليلا على ما يتمتع به فرعون من ملكية تشمل أرض مصر وأنهارها.
__________
(1) الزخرف:51].
(2) تفسير القرطبي(16/98).
(3) تفسير البغوي(4/142).
(4) تفسير الطبري(25/81).(1/224)
ومن الشواهد على قدرة فرعون الإقتصادية ما أمر به(وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين،يعني يتخذ له أجرا لبناء الصرح،وهو القصر المنيف الرفيع العالي)(1)،وذلك معنى قوله تعالى حكاية لقول فرعون:’’فأوقد لي يا هامان على الطّين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى‘‘(2).وقوله سبحانه:’’قال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب‘‘(3).ولو كان وضع فرعون الإقتصادي ضعيف لما استطاع أن يبني،أو أن يأمر ببناء مثل هذا الصرح،حتى قيل:إنّ(أول من أمر بصنعة الآجر وبنى به فرعون)(4)،وليس هذا مستغربا عند مشاهدتنا للأهرامات القائمة حتى اليوم.
إنّ قوة فرعون الإقتصادية عكست نفسها في كلام مؤمن آل فرعون،وهو يحذر قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم،وذلك في قوله لهم:’’يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا‘‘(5).أي(قد أنعم الله عليكم بهذا الملك،والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض،فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى،وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله)(6).والشاهد في الآية أنّ مؤمن آل فرعون أخبر من خلال خطابه لقومه أنّهم في نعمة عظيمة وجاه عريض،وفي هذا دليل آخر على مدى الملك الذي حازه فرعون وقومه.
__________
(1) تفسير ابن كثير(3/391).
(2) القصص:38].
(3) غافر:36].
(4) تفسير الطبري(20/77).
(5) غافر:29].
(6) تفسير ابن كثير(4/79).(1/225)
ومن الأدلة على قوة فرعون الإقتصادية،تلك الحليّ التي كانت في ملكية القبط،حيث أخذ بنو إسرائيل جزءا منها عند خروجهم من مصر،والتي كانت تمثل بعضا ممّا كان يملكه القبط من أموال.وذلك ما يُرشد إليه قوله تعالى:’’واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار‘‘(1).وقوله تعالى:’’ولكنّا حمّلنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري،فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار‘‘(2).أي ولكنّا حملنا أحمالا من حلى القبط التي أستعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر،وقيل استعاروا لعيد كان لهم ثمّ لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا بهم،وقيل: هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه.وأيّاً ما كانت طريقة أخذها فالشاهد وجودها عند القبط،وهم أتباع وأعوان فرعون.ولعل بني إسرائيل سمّوها أوزارا لأنها آثام،فإنّ الغنائم لم تكن تحل بعد،أو لأنّهم كانوا مستأمنين،وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي،فقذفوها في النار فكذلك ألقى السامري،فأخرج لهم عجلا جسدا من تلك الحليّ المذابة(3).
تدفق الخيرات بين يدي فرعون ابتلاء من الله،ودليل على قوته الإقتصادية
__________
(1) الأعراف:148].
(2) طه:87-88].
(3) انظر:تفسير البيضاوي(4/66)وتفسير القرطبي(11/235)وتفسير أبي السعود(3/273)وتفسير النسفي(2/37).(1/226)
لم يكن عطاء الله لفرعون علامة رضى وقرب،بل هوابتلاء وامتحان من الله،يقول تعالى:’’فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء،حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون‘‘(1)،أي(حتى إذا فرحوا وأُعجبوا بما أوتوا من النِّعم،ولا يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنِّعم عن المُنْعِمِ والقيام بحقه سبحانه وتعالى أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون متحسرون آيسون)(2)،ولهذا فُتحت الخيرات على فرعون وغمرته،ولكن إلى أجل،حتى إذا فرح بما لديه أخذه الله وهو في سهوته وسكرته.فالملك والرخاء والثراء-كما بيّن القرآن الكريم-لم يكن إلاّ فتنة لهم واختبارا،يقول تعالى:’’ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم‘‘(3)،أي(أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم)(4)،وابتلاهم بالنعمة والسلطان،والتمكين في الأرض.
__________
(1) الأنعام:44].
(2) تفسير البيضاوي(2/409).
(3) الدخان:17].
(4) تفسير أبي السعود(8/61).(1/227)
ثمّ حان الأجل وتركوا تلك المنازل العالية الحسنة والبساتين وعيون الماء والأنهار والأموال والأرزاق وكنوز الذهب والفضة والملك والجاه الوافر والمجالس البهية في الدنيا(1)،يقول تعالى:’’فأخرجناهم من جنّات وعيون،وكنوز ومقام كريم‘‘(2).وكفى بهذا دليلا على ما كان القوم بزعامة فرعون يملكون.يقول تعالى:’’كم تركوا من جنّات وعيون،وزروع ومقام كريم،ونعمة كانوا فيها فاكهين(3)‘‘(4).أي(عيشة كانوا يتفكهون فيها، فيأكلون ما شاءوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد،فسُلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة،وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير)(5).
ومن الشواهد أيضا قوله تعالى:’’ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘(6).أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع،وما كانوا يعرشون من الأبنية والقصور كصرح هامان وغيرها،وقيل:هو تعريش الأشجار والثمار والأعناب(7)،وفي ذلك شواهد وأدلة على قوة الوضع الإقتصادي الذي يتمتع به نظام فرعون،فعندهم عمارات ومزارع وأبنية وقصور،بل وربما تشير الآية بوجه من وجوه التفسير-وأعني التعريش- إلى تقدمهم في المجال الزراعي،الذي هو جزء من القوة الإقتصادية.
المال بين يدي الطاغوت وسيلة من وسائل التثبيت لمنهجه ونظامه
__________
(1) انظر:تفسير الطبري(19/78)وتفسير البيضاوي(4/240)وتفسير ابن كثير(3/337)وفتح القدير(4/101).
(2) الشعراء: 57-58].
(3) ونعمة كانوا فيها فكهين أي أشرين(بطرين)،وفاكهين أي ناعمين)مختار الصحاح،مادة:فكه(213).
(4) الدخان:25-27].
(5) تفسير ابن كثير(4/142)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير الطبري(16/116)والدر المنثور(7/411).
(6) الأعراف:137].
(7) انظر:تفسير الطبري(9/44)وتفسير الواحدي(1/411)وتفسير القرطبي(7/272)وتفسير ابن كثير(2/243)وتفسير البغوي(2/194)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(1/187)وتفسير الجلالين(1/212).(1/228)
ممّا سبق ندرك قوة فرعون من النّاحية الإقتصادية،هذه القوة التي كانت وسيلة من وسائله في تثبيت نظامه وإظهار شخصيته،فتعددت وجوه استعماله للمال،ولكنّها في نهاية المطاف تصب في إبقاء النّظام،وتشد عرش الظلم المتربع فوقه فرعون،فلا يُنفق إلاّ للصد عن سبيل الله،ثمّ بعد هذا تعود عليه بالحسرة والخسران.
لقد كان المال بيد فرعون وسيلة لإضلال الناس عن سبيل الله،لأنّ إضلال النّاس شرط لبقائه في حكمه،(إما بالاغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين،وإمّا بالقوة التي يمنحها المال لإصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم.ووجود النعمة في أيد المفسدين لا شك يزعزع كثيرا من القلوب التي لا يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أنّ هذه النعمة ابتلاء واختبار،وأنّها كذلك ليست شيئا ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا والآخرة.)(1)،وهذا ما نفهمه من قول موسى عليه السلام:’’ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا(2)عن سبيلك‘‘(3)
__________
(1) في ظلال القرآن(4/470).
(2) لم يؤتوا المال ليضلوا،ولكن لما كان عاقبة أمرهم الضلال كانوا كأنهم أوتوها لذلك،فهي لام العاقبة..هذا كله على مذهب الكوفيين،وأما البصريون فالنصب عندهم بإضمار إن وهما جارتان للمصدر واللام الجارة هي لام الإضافة،واعلم إن الناصبة للمضارع تجيء لأسباب:منها القصد والإرادة إما في الإثبات نحو ولتنذر أم القرى،أو النفي نحو وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم،فهو على تقدير حذف المضاف أي لنعلم ملائكتنا وأولياءنا،ويجوز أن يكون تعالى خاطب الخلق بما يشاكل طريقتهم في معرفة البواطن والظواهر على قدر فهم المخاطب.وقد تقع موقع أن وإن كانت غير معلولة لها في المعنى وذلك إن كان الكلام متضمنا لمعنى القصد والإرادة نحو:وأمرنا لنسلم لرب العالمين،إنما يريد الله ليعذبهم بها،ومنها العاقبة على ما سبق)البرهان في علوم القرآن(4/348-349).
(3) يونس:88].(1/229)
.(وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس.ويطلب لوقف هذا الإضلال،ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء،أن يطمس الله على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها،بحيث لا ينتفع بها أصحابها)(1).
والطاغوت وعبر وسائل مختلفة،وبين حين وآخر،يستعرض أمام الجماهير في حركة مقصودة ما يملكه من ثروة ومال، ليلفت انتباههم فيغريهم ويتمنون أن لو كان لهم مثله،فيبدأ بعض الضعفاء ممّن بهرهم زخرف الدنيا واستهوتهم العروض القريبة يتقربون منه لنيل رضاه مبهوتين،ليُنعم عليهم بعضا ممّا يملك،ولم يدُر في أذهانهم أنّ تلك الأموال إنّما جمعها من عرقهم وكدهم وتعبهم،فلولا حرمانهم لما جمع الطاغوت ما جمع!
وبالمال يشتري الطاغوت الذمم وبه يُغري ضعاف النّفوس،إذ لولا المال الذي يسيطر عليه فرعون لما تكلف السحرة مشاقّ السفر إلى القصور الفرعونية،ولما حرصوا كلّ الحرص على الفوز والانتصار،ولما كانوا أدواتٍ طيعة بيد فرعون.لقد فهم فرعون تلك النّفوس،وأدرك أهداف السحرة وغاياتهم،ولهذا أجابهم إلى مطلبهم،وزادهم عليه تحفيزا لهم في ساعة اشتدت الحاجة إليهم،فجعل -لعنه الله-يعدهم ويمنّيهم،وما يعدهم فرعون إلاّ غرورا.يقول تعالى:’’وجاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين،قال نعم وإنّكم لمن المقربين‘‘(2).فالمصلحة بينهم متبادلة،والمال هو القاسم المشترك بين من يملكه وبين من يرغب في الحصول عليه.وتلك هي المعادلة التي تجعلنا نفهم لماذا تحتشد الجموع من الخطباء والشعراء والأدباء وحتى بعض علماء الدين على أبواب السلطان يعرضون قدراتهم ومهاراتهم مقابل الدرهم والدينار…
__________
(1) في ظلال القرآن(4/470).
(2) الأعراف:113-114].(1/230)
والمال بين يدي الطاغوت وسيلة للتفرقة بين النّاس،فالمستفيد من الحكومة يواليها،ويدافع عنها لأنّها تمثل مصالحه،مهما كانت هذه الحكومة طاغية وظالمة،فإن لم يكن من المدافعين فلن يكون من المتمردين عليها أو المطالبين بتغييرها،مع أنّ هذه الفئة تدرك أن رفاهيّتها لم تكن إلاّ على حساب المحرومين من حقوقهم،وكفى بهذا تأجيجا للبغضاء والعداوة بين النّاس.وقد أتقن فرعون هذه السياسة حيث(أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه،يكرم طائفة ويهين أخرى،فأكرم القبطي وأهان الإسرائيلي)(1).يقول تعالى:’’إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا‘‘(2).فتحول المال بين يدي الطاغوت من نعمة إلى لعنة!
وبهذا أصبح المال وسيلة في تثبيت النّظام الفرعوني،حيث دافعت الفئات المستفيدة عن النّظام كالملأ من قوم فرعون وآل فرعون ومن قبلهم هامان وزيره ومدير أعماله والمشرف على تنفيذ خططه،فالمستفيدون من النّظام هم المدافعون عنه،وهم أيضا الرافضون للدّين الجديد الذي يجردهم من امتيازاتهم كما بيّنا سالفا
ازدياد تأثير المال في ظل طغيان المفهوم المادي للحياة في عهد فرعون
__________
(1) تفسير البيضاوي(4/282)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير النسفي(3/226).
(2) القصص:14].(1/231)
وازدادت سيطرة فرعون الإقتصادية على النّاس والجماهير مع ازدياد تعلقهم بمتاع الدنيا وازدياد حبهم لها،فكلما كان النّاس أشدا حبا للمال وتعلقا به كان إغراؤهم به أيسر،وفي هذا بعض التفسير لفاعلية هذه الوسيلة في نظام فرعون،حيث سادت في زمن فرعون العقلية الماديّة مع غياب عقيدة اليوم الآخر،وبسبب العقائد التي كانت سائدة في ذلك الزمان والمفاهيم المغلوطة عن الحياة،ويكفي للدلالة على هذا موقف السّحرة الذين يمثلون النّخبة من طبقة الكهنة وهم يقفون بين يدي فرعون لا يطلبون غير الدرهم والدينار.يقول تعالى’’فلمّا جاء السحرة قالوا لفرعون أئنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين،قال نعم وإنّكم إذا لمن المقربين‘‘(1).فإذا كان هذا حال الطبقة التي تمثل الدّين في هذا المستوى من التفكير والإنحطاط،فكيف الحال بباقي الطبقات؟!
وممّا يدلّ على طغيان المفهوم المادي على النّاس والمجتمع نصيحة وموعظة مؤمن آل فرعون لقومه حين قال لهم:’’يا قوم إنّما هذه الحياة الدّنيا متاع وإنّ الآخرة هي دار القرار‘‘(2).أي(ما هذه الحياة الدنيا العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إلا متاع تستمتعون بها إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون وتزول عنكم،وإن الآخرة هي دار القرار التي تستقرون فيها فلا تموتون ولا تزول عنكم،فلها فاعملوا وإياها فاطلبوا)(3).فهو يذكرهم بحقيقة هذه الدّنيا التي تعلّقوا بها وامتلأت قلوبهم بحبها،فهي متاع زائل لا قيمة له،وأنّ الآخرة هي دار القرار.قال لهم ذلك لأنّهم تعلقوا بمتاع الدّنيا الزائل،فلولا هذه العلة التي يعاني منها القوم لما كان خطابه لهم بهذه الصيغة.
__________
(1) الشعراء:41-42].
(2) غافر:39].
(3) تفسير الطبري(24/67).وانظر:تفسير البيضاوي(5/94)وتفسير القرطبي(15/317)وتفسير أبي السعود(7/277)وزاد المسير(7/224).(1/232)
فاجتمع لفرعون أمران:قوم يحبون المال،وثروة بين يديه،حيث كان فرعون صاحب ثروة ومال،فاستغل قوته المالية والإقتصادية في تدعيم شخصيته وتمرير مخططاته.
ارتباط السيطرة الإقتصادية مع السيطرة العسكرية
وممّا ساعد فرعون في ازدياد سيطرته الإقتصادية ازدياد سيطرته العسكرية المتمثلة بالجيش(الجنود)والمخابرات والشرطة التي كانت تشرف على السجون،وغير ذلك ممّا يشكل في مجمله القوة العسكرية.فالقوة تلزم فرعون في حماية الممتلكات الواقعة في قبضته وفي عمليات السلب والنّهب لما تبقّى من أملاك وثروات لدى الجماهير إن بقي منها شيء.
ومن هنا نفهم الترابط الجدليّ بين القوّة الإقتصادية والقوة العسكرية،فالزيادة هنا تعني الزيادة هناك،والعكس صحيح تماما،وهي المعادلة الموجودة في كلّ مرة يحكم بها الطاغوت ويُقصى فيها الحكم بما أنزل الله،فالحكم حينئذ لحق القوة لا لقوة الحق.
وهكذا يعيد التاريخ نفسه،ونشاهد الأساطيل والقطع الحربية وهي تزحف بشتى المعاذير للسيطرة على منابع النّفط والطّاقة كونها عصب الحياة المعاصرة،في زمن سيطرت فيه الرأسمالية على مناحي الحياة،وما صاحب تلك السيطرة من تحطيم للمعاني الإنسانية؛فانتشرت المذاهب النفعية والوصولية؛ذلك أنّ السيطرة الاقتصادية للدول الغنية والقوية عسكريا،أو الدول الصناعية والشركات الكبرى توسعت حتى أصبحت تشمل كل العالم ضمن مفهوم العولمة الحديث،واستطاعت تلك الدول أن تفرض بقوتها العسكرية شكل المعاملات المالية الدولية؛فالطاغوت الاقتصادي المعاصر هو الذي يتحكم في السوق ورأسمال ومصادر الثروة والتجارة العالمية.(1/233)
وفي المقابل نشاهد شعوبا ودولا قد غرقت بالديون التي تقدر بالمليارات نتيجة لهذه الهيمنة الاقتصادية القائمة على النّظام الربوي؛فانقسم العالم إلى فئة قليلة من الأغنياء وأغلبية من الفقراء،ودول غنية ترفل بالنّعيم وأخرى تأكلها الأزمات الاقتصادية،ممّا أسس لنمو النّظام الطبقي وما يتبع ذلك من أمراض اجتماعية ونفسية خطيرة تهدد الوجود الإنساني برمته.فالأمور تزداد سوءا مع طغيان المفهوم المادي النّفعي العلماني للحياة،فالذي يحكم العلاقات الدولية هي المصلحة النفعية المادية،ولم يعُد للقيم والأخلاق أي أثر في المعادلات الدولية.
وهنا لا بدّ من ملاحظة أن ما تقوم به بعض الدول من جدولة للديون أو شطب قسم منها أو التنفيس بين الفينة والأخرى عن الفقراء في العالم ليس شفقة أو رحمة بل هو خوف من حدوث انفجار عند الفقراء-دولا كانوا أو أفرادا-قد تكون له نتائج عكسية.
المبحث الخامس
السيطرة العسكرية(1/234)
إنّ القوة العسكرية ركيزة مهمة اعتمدها فرعون في تثبيت منهجه وطريقة حكمه،حيث لا بدّ لأي نظام من قوة تحميه،وتعمل على تنفيذه في حياة النّاس،وتشتدّ الحاجة إلى القوة إذا كان هذا النّظام جائرا وظالما،لأنّه عند ذلك يزرع بظلمه وطغيانه بذرة التمرد والثورة،وبسبب إدراك فرعون لهذه الحقيقة فإنّه كان يولي أهمية قصوى إلى القوة العسكرية التي بها يستطيع قمع أيَّ تمرد أو الثورة؛فهو على حذر شديد،حيث يقول تعالى حكاية لقول فرعون:’’وإنّا لجميع حاذرون‘‘(1).أي متيقظون منتبهون متأهبون مستعدون بالسلاح خائفون شرهم،فنحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر والاحتياط(2)،وهكذا هو الطاغوت في حذر دائم وانتباه،فحشد القوة والتأهب بالسلاح دليل على خوفه من أن تتمرد الجماهير المظلومة والمقهورة عليه،فهو-لعنه الله-يعلم أنّه ظالم معتد أثيم.
وظهرت أهمية هذه القوة من خلال عمليات القتل والذبح والتعذيب في السجون وغيرها التي كان يُراد منها تركيع الجماهير وإخضاعهم لإرادة فرعون،إذ لولا تلك القوة لما استطاع فرعون تسخير الأغلبية من الجماهير في الأعمال الشاقة والمتعبة في مُقابل لقمة العيش والبقاء على قيد الحياة،كما أنّ القوة هي الأداة التي أرهبت النّاس وأجبرتهم على قبول ربوبيته المزعومة وألوهيته الكاذبة.
__________
(1) الشعراء:56].
(2) انظر:تفسير القرطبي(13/102)والدر المنثور(6/297)ومعاني القرآن(5/80)والثوري:أبو عبد الله،سفيان بن سعيد بن مسروق،(ت 161هـ)،تفسير سفيان الثوري،جزء واحد،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1403هـ.(1/229)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(تفسير الثوري)وتفسير الواحدي(2/790)والفائق(3/235)وروح المعاني(19/82).(1/235)
إنّ الواقع المرّ التي كانت تعيشه أغلبية الجماهير في ظلّ الظلم والطغيان جعل فرعون يحتاج إلى أدوات قمع جبّارة،بها يسكت الجماهير وبواسطتها له يخضعون،فكان له جيش جرّار ومخابرات مبثوثة هنا وهناك،وشرطة أُنيطت بها المهمّات.ولكي نقف على حقيقة قدراته العسكرية لا بدّ لنا من تتبع النّصوص القرآنية التي من خلالها نعرف أجهزة فرعون العسكرية وتشكيلاتها،وهي على النحو التّالي:
الجيش وهم جنود فرعون الذين يحملون السلاح،ويباشرون المعارك التي تخوضها الدّولة ضدّ فئة كبيرة ذات ثقل عسكري،وهو ما نُسمّيه بالجيش النّظامي،وهم الذين مهنتهم حمل السلاح،والمحافظة على وجود الدولة ككل،ودليل ذلك قوله تعالى:’’فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا‘‘(1).وقوله تعالى:’’فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم‘‘(2).وقوله تعالى:’’واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنّوا أنّهم إلينا لا يرجعون‘‘(3).وقوله تعالى:’’فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مليم‘‘(4).حيث تحدثت الآيات في مجملها عن استعمال فرعون جيشه وجنوده في مهمة ملاحقة بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السّلام،وذلك عندما خرجوا من مصر سرا في جنح الظّلام،حيث لم يكن خروجهم في الأساس إلاّ لكونهم لا يستطيعون مجابهة جيش فرعون،ممّا يدلّ على كثرة عدده.وهذا ما يدلُّ عليه قول فرعون عن بني إسرائيل وهو يهمّ بملاحقتهم:’’إنّ هؤلاء لشرذمة(5)قليلون‘‘(6).وإنّما استقلهم مقارنة مع جنوده(7)
__________
(1) يونس:60].
(2) طه:78].
(3) القصص:39].
(4) الذاريات:40].
(5) الشرذمة القليل من النّاس..والقطعة من الشيء تُسمّى شرذمة،والجمع شراذم..وثياب شراذم أي أخلاق متقطعة.وانظر:لسان العرب،مادة:شرذم(12/322).
(6) الشعراء:54].
(7) ذُكر أنّ بني إسرائيل كانوا ينيفون عن ستمائة ألف،ومع هذا سمّاهم فرعون شرذمة قليلون!انظر:تاريخ الطبري(1/246)والبداية والنهاية(1/270)والأصبهاني:أبو نعيم،أحمد بن عبد الله،(ت430هـ)،حلية الأولياء وطبقات الأصفياء،10أجزاء،ط4،دار الكتاب العربي،بيروت،1405هـ.(4/207) .وسأشير إليه لاحقا هكذا(حلية الأولياء).(1/236)
،وهذه دلالة واضحة على كثرة جنده،وعلى شدة الخطر الذي مثَّلته دعوة موسى على وجود النّظام الفرعوني.
وكما امتاز جيش فرعون بكثرة عدده امتاز كذلك بقوة تنظيمه وسرعة حركته،ممّا يدلّ على الإنضباط التّام في صفوفه،حيث يقول تعالى:’’فأرسل فرعون في المدائن حاشرين‘‘(1).فما هي إلاّ ساعات قليلة بين علم فرعون بخروج بني إسرائيل وأمره بالإستنفار العام والتعبئة العامة وبين لحاقه بهم بهذا الحشد الهائل من الجنود.فها هم بنو إسرائيل بقيادة موسى عليه السّلام يخرجون تحت جنح الظّلام ليلا،وها هو فرعون يتبعهم وقت شروق الشمس،’’فأتبعوهم مشرقين‘‘(2).أي لحقوهم وقت دخولهم في شروق الشمس وهو طلوعها،حيث أشرقت الأرض بالضياء(3)،ممّا يدلّ على سرعة حركتهم.
وبما أنّ مهمتهم كانت مهمة بغي وعدوان،أغرقهم الله جلّ شأنه في البحر عقوبة لهم لكونهم وسيلة بيد الطّاغية المتجبر فرعون،فكلّ من كان سببا أو وسيلة في نظام الظالمين فهو ظالم مثلهم.
__________
(1) الشعراء:53].
(2) الشعراء:6].
(3) انظر:تفسير الطبري(19/78)وتفسير القرطبي(13/105)وتفسير ابن كثير(3/337)ومعاني القرآن(5/83)وتفسير البغوي(3/387).(1/237)
وكما ذكر القرآن جنود فرعون نصّاً،فإنّه ذكرهم بعبارة تدلّ عليهم،ولكن لإعطاء معنى آخر وفائدة أخرى،يقول تعالى:’’وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين،فتولّى بركنه(1)وقال ساحر أو مجنون،فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مليم‘‘(2).والمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل موسى إلى فرعون بسلطان مبين أي بحجة بينة كالعصا واليد،فأعرض فرعون عن الإيمان بموسى وتولّى بما كان يتقوى به من جنوده،وهو اسم لما يركن إليه الشيء ويتقوى به،ومنه قوله تعالى:’’أو آوي إلى ركن شديد‘‘(3)،يعني المنعة والعشيرة،وركن الشيء جانبه الأقوى،وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعة،وهذا عبارة عن المبالغة في الإعراض عن الشيء(4).ويؤيد هذا الوجه في التفسير قوله تعالى بعد ذلك:’’فأخذناه وجنوده‘‘،أي أخذناه وركنه الذي تولّى به،وهذا الوجه في التفسير هو اختيار الطبري(5).
والشاهد في الآية أنّ فرعون رفض الإيمان معتمدا على جنوده،فلولا هذا الركن الذي تولّى به لما تطاول فرعون كلّ هذا التطاول،ممّا يدلّ على أنّ جيش فرعون وسيلة من وسائله في ردّ الحق ورفضه،وبالتّالي وسيلة لتثبيت الباطل على حساب الحق.
__________
(1) ركن الشيء جانبه الأقوى،و الركن الناحية القوية وما تقوى به من ملك وجند وغيره،وبذلك فسر قوله عز وجل:(فتولى بركنه)ودليل ذلك قوله تعالى:(فأخذناه وجنوده)أي أخذناه و ركنه الذي تولى به.والجمع أركان و أركن)لسان العرب،مادة:ركن(13/185).
(2) الذاريات:38-40].
(3) هود:80].
(4) انظر:تفسير البيضاوي(5/239)وتفسير القرطبي(17/49)وتفسير أبي السعود(8/142)وفتح القدير(5/90)وروح المعاني(27/15)وفتح الباري(6/416).
(5) فتولى بركنه)أي(بقومه من جنده وأصحابه،وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظ قائليه فيه)تفسير الطبري(27/3).وانظر:الدر المنثور(7/621)وتفسير الصنعاني(3/244)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(1/179).(1/238)
ومن الأدلة التي تثبت دور الجيش في تثبيت النّظام الفرعوني قوله تعالى:’’وفرعون ذو الأوتاد(1)‘‘(2).وقوله تعالى:’’وفرعون ذي الأوتاد‘‘(3). أي ذو الجنود الكثيرة فسميت الجنود أوتادا لأنهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت،وهذا ما نرجحه،لأنّه لايمكن لدولة أن تقوم بلا جيش تعتمد عليه،وكأنّ الجيش أهم وتد في قيامها ووجودها(4).
بعد هذا يمكننا أن نستنتج أنّ هذا الجيش الجرّار لا بدّ له من مستلزمات تابعة له،حيث لا يقوم الجيش بدونها،كالسيوف والرماح والنّبال وغير ذلك من وسائل قتالية،وما يتبع ذلك من تصنيع لتلك الوسائل،وهذا وإن لم يذكره القرآن الكريم إلاّ أنّه دلّ عليه بما ذُكر.ممّا يؤكد قدرات فرعون العسكرية،ويتبع ذلك أيضا كثرة الخيل والجمال كوسائل نقل في ذلك الزمان،وبناء المعسكرات الخاصة بالجند وما تستلزمه تلك المعسكرات من تموين وخيام وغير ذلك.
__________
(1) ذو الأوتاد:صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد)روح المعاني(23/170).
(2) ص:12].
(3) الفجر:10].
(4) ورد في تفسير الآية وجوه متعددة فقد قيل أنّها بمعنى البناء المحكم،أو كثير البنيان والبنيان يسمى أوتادا،وقيل:أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها،وقيل:كان يعذب الناس بالأوتاد،وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات حتى يموت،وقيل:كان يشبح المعذب بين أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت.انظر:تفسير القرطبي(15/154-155)ومعاني القرآن(6/85)وتفسير أبي السعود(7/217)وتفسير الواحدي(2/920)وزاد المسير(7/105،106).(1/239)
وتشمل السيطرة العسكرية جهاز المخابرات أو الجواسيس والعيون التي يبثها فرعون هنا وهناك،يلتقطون أخبار النّاس ويراقبون حركتهم؛فالجماهير المقموعة تتجه إلى السريّة في حركتها،حيث لم يبق لها أيّ مساحة فوق الأرض تتحرك فيها بأمان واطمئنان،ولهذا تنشأ الحركات السريّة،ولها تُنشيء الحكومة أجهزة الرقابة والمتابعة والملاحقة.
إنّ من يتدبر النصوص يمكنه معرفة كلّ ما سبق،فها هي أمّ موسى عليه السلام تخاف على ابنها القتل،وبالتالي تحاول إخفاءه عن العيون التي تراقب وتلاحق،وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت،وهنا تدركها رحمة الله سبحانه وتعالى،يقول تعالى:’’وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين‘‘(1).أي أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه،فإذا خفت عليه من جواسيس فرعون بأن يبلغ خبره إليه أو أن يحس به فألقيه في اليمّ في البحر يريد النيل،ولا تخافي عليه ضيعة ولا شدة،ولا تحزني لفراقه؛إنّا رادوه إليك عن قريب بحيث تأمنين عليه،وجاعلوه من المرسلين(2).والشاهد في الآية أنّها خافت أن تحس به عيون فرعون وجواسيسه.
__________
(1) القصص:7].
(2) انظر:تفسير البيضاوي(4/283)وفتح القدير(4/159)وروح المعاني(20/45).(1/240)
وها هو موسى عليه السلام-بعد أن قتل القبطي المعتدي الظالم-خائف يترقب،’’فأصبح في المدينة خائفا يترقب‘‘(1).حتى إذا(جاء موسى مخبر وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره وأشار عليه بالخروج)(2)،حينئذ خرج وهو على حذر من إلقاء القبض عليه؛وذلك معنى قوله تعالى:’’فخرج منها خائفا يترقب‘‘(3).أي خائفا يترقب لحوق طالب،ولذلك توجّه بالدعاء إلى ربه قائلا:رب نجني من القوم الظالمين،أي خلصني منهم واحفظني من لحوقهم(4).وفي هذا دليل على أنّ لفرعون أجهزة مراقبة وملاحقة،تلك الأجهزة التي جعلت مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه،إذ لولا شعوره وإدراكه بوجود تلك الأجهزة لما كتم مشاعره وأفكاره،يقول تعالى:’’وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أي يقول ربي الله‘‘(5).
ولولا جهاز المخابرات لما استطاع فرعون أن يكشف بني إسرائيل عند خروجهم سرا وفي الليل،ودليل ذلك قوله تعالى لموسى عليه السلام:’’فأسر بعبادي ليلا‘‘(6). (والسري لا يكون إلا ليلا،فالنّص عليه يعيد تصوير المشهد،مشهد السري بعباد الله –وهم بنو إسرائيل .ثمّ للإيحاء بجو الخفية،لأنّ سراهم كان خفية عن عيون فرعون ومن وراء عملائه)(7)،ورغم هذا التكتم والسرية علم فرعون،وهذا يدل-أيضا-على قوة الاستخبارات الفرعونية التي هي جزء من القوة العسكرية.
إنّ اعتماد فرعون على المخابرات إفراز طبيعي للنّظام الحاكم،حيث لا يمكن للظلم أن يدوم لولا هذا القهر والإرهاب،فهي وسيلة الطغاة في تثبيت حكمهم الذي يفرز تلك الشخصيات المعفرة بدماء الشعوب المستضعفة.
__________
(1) القصص:18].
(2) تفسير الطبري(20/50).
(3) القصص:21].
(4) انظر:تفسير البيضاوي(4/288)وتفسير أبي السعود(7/8)وفتح القدير(4/165)وتفسير النسفي(3/231)وروح المعاني(20/59).
(5) غافر:28].
(6) الدخان:23].
(7) في ظلال القرآن(7/367).(1/241)
كما تشمل قوة فرعون العسكرية جهاز الشرطة والذي يقوم بمهام السجون،أو ما نسمّيه اليوم شرطة مصلحة السجون.ودليل ذلك قوله تعالى حكاية لقول فرعون لموسى عليه السلام:’’قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين‘‘(1).( أي ممن عرفت حالهم في سجوني،فإنّه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجنك)(2)،فالسجن من سياسات فرعون المعهودة والمعروفة بين النّاس،وبالتالي يلزم تلك السجون شرطة تقوم على تعذيب المساجين وقمعهم وحراستهم حتى لا يفروا من جحيم الطاغوت!
جنود الطاغوت خاطئون
إنّ الطاغوت-كما أسلفنا-فرد لا يستطيع مهما أوتي من مهارات وقدرات فرديّة من إخضاع النّاس وسحقهم،فهو إنّما يقوم بما يقوم به بمن شايعه وناصره،ولا شك أنّ جنود النّظام الآثم مثله آثمون لأنّهم يقومون بتثبت الظلم والعدوان،يقول تعالى:’’إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين‘‘(3). أي كانوا خاطئين(في كل شيء،فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفا لأجل موسى،ثمّ أخذوه يُربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون،أو مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم على أيديهم)(4).ثمّ هذه نهايتهم أن عاقبهم الله مع فرعون فأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ذلك لأنّهم ظالمون مثل فرعون،يقول تعالى:’’فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين‘‘(5).وهنا لا بدّ أن نُشير بصراحة أنّ أجهزة الأمن والمخابرات والجيش..وكل ما من شأنه إطالة أمد الظلم هم من جملة الظالمين.والواقع يقول:إنّ هؤلاء هم أدوات القمع والسَحْقِِ عند الطواغيت.
وسائل فرعون تنتج نظاما يمتاز بالقوة المادية والخواء الروحي
__________
(1) الشعراء:29].
(2) تفسير البيضاوي(4/236).وانظر:تفسير أبي السعود(6/240)وتفسير النسفي(3/183)وروح المعاني(19/73).
(3) القصص:8].
(4) تفسير البيضاوي(4/283).
(5) القصص:39-40].(1/242)
إنّ الوسائل التي اعتمدها فرعون أدت إلى نظام يمتاز بالقوة والمتانة،تلك النتائج التي بيّنها القرآن في قوله تعالى:’’وفرعون ذو الأوتاد‘‘(1).أي ذو الملك الثابت بالأوتاد،وهو مأخوذ من ثبات البيت المُثَبَّت بالأوتاد.أو ذو البناء المحكم،أو كثير البنيان والبنيان يسمى أوتادا، وقيل:ذو الأوتاد أي ذو الجنود الكثيرة،فسميت الجنود أوتادا لأنّهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت(2)،أو( فرعون صاحب الأهرامات التي تقوم في الأرض كالأوتاد)(3)،وهي ما زالت ماثلة إلى اليوم.
ولنا أنّ الإختلاف في هذه المعاني إختلاف تنوع لا اختلاف تضاد،فجميعها تدل على قوة وثبات حكمه.ولا شك أنّ قوة النّظام تنعكس على شخصية فرعون نفسه؛لأنّ(ذو الأوتاد:صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد)(4).
ومن الأدلة على قوة فرعون قوله تعالى:’’ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘(5).والمعنى أنّ الله جلّت قدرته(أهلك ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع،وما كانوا يعرشون أي وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور،وأخرجهم من ذلك كله،وخرّب جميع ذلك)(6).وهذا يعني أنّهم كانوا في مستوى من التطور بحيث يصنعون العمارات ويبنون القصور الفخمة،وهذا يدلّ على قوة فرعون المادية.كما دل على ذلك أمر فرعون لهامان أن يبني له صرحا يبلغ بواسطته أسباب السماوات.وقد ذكرنا فيما سبق دلائل قوته الاقتصادية والعسكرية كذلك.
__________
(1) الفجر:10].
(2) انظر:تفسير القرطبي(15/154-155)وتفسير البيضاوي(5/38-39)ومعاني القرآن(6/85).
(3) في ظلال القرآن(7/90).
(4) روح المعاني(23/170).
(5) الأعراف:137].
(6) تفسير الطبري(9/44)مع بعض التصرف.وانظر: تفسير ابن كثير(2/243)وتفسير أبي السعود(3/267)وتذكرة الأريب في تفسير الغريب(1/187)وروح المعاني(9/40).(1/243)
إنّ تأكيدنا لقوة نظام فرعون ليس مدحا له ،فالأمور بمقاصدها و(إنما الأعمال بالنيّات)(1)،فكل فعل يُقصد منه التفاخر والتباهي والتطاول على النّاس،أو الركون إلى الدنيا والرضى بها والإطمئنان إليها،هو فعل يمقته الله سبحانه.فتلك حضارة قامت على غير هدى من الله؛فأنتجت الظلم والجور والعدوان.ولقد ذمّ القرآن هذا النوع من الحضارة!وذلك هو معنى قوله تعالى لعاد قوم هود:’’أتبنون بكل ريع آية تعبثون،وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون،وإذا بطشتم بطشتم جبارين‘‘(2)؛ذلك أنّهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد والطول المديد والأرزاق الدارة والأموال والجنات والأنهار والأبناء والزروع والثمار،فغرّهم ما هم فيه على عادة الطواغيت.فلم يكن بناؤهم ولا تشييدهم للمصانع سوى عبثا،لا للإحتياج إليه بل لمجرد اللعب وإظهار القوة،فما ذلك إلاّ تضييع للزمان وإتعاب للأبدان بلا فائدة،واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة(3)،فتلك حضارات جرّت معها الآلام الجسام على البشرية.
__________
(1) صحيح البخاري،كتاب بدء الوحي،باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/3)رقم(1).
(2) الشعراء:128-130].
(3) انظر:تفسير الطبري(19/93،95)وتفسير ابن كثير(3/342).(1/244)
والحكمة من هذا التمكين لفرعون هي اختبار فرعون،فليست الدنيا إلاّ دار امتحان واختبار،ولقد امتحن الله سبحانه فرعون بالرخاء فسقط فرعون في الإمتحان سقوطا قلّ مثيله،يقول تعالى:’’فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أؤتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون‘‘(1).ويقول تعالى:’’والذين كذّبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إنّ كيدي متين‘‘(2).وفي الحديث’’إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا-على معاصيه-ما يحب فإنّما هو استدراج‘‘(3).
وسائل الطاغوت بين الأمس واليوم
__________
(1) الأنعام:44].
(2) الأعراف:182-183].
(3) مسند أحمد(4/145)والروياني:أبو بكر،محمد بن هارون،(ت307هـ)،مسند الروياني،جزءان،تحقيق: أيمن علي أبو يماني،ط2،مؤسسة قرطبة،القاهرة،1416هـ.(1/195)رقم(261)والطبراني:أبو القاسم،سليمان بن أحمد بن أيوب،(260- 360هـ)،المعجم الأوسط،10أجزاء،تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد،عبد المحسن بن إبراهيم الحسين،دار الحرمين،القاهرة،1415هـ.(9/110)رقم(9272) .وسأشير إليه لاحقا هكذا(المعجم الأوسط)،والطبراني في الكبير(17/330)رقم(913)والبيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى،(384-458هـ)،شعب الإيمان،8أجزاء،تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1410هـ.(4/128)رقم(4540) .وسأشير إليه لاحقا هكذا(شعب الإيمان).قال الهيثمي:رواه أحمد والطبراني وسكت عليه،انظر:الهيثمي:علي بن أبي بكر،(ت807هـ)،مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،10أجزاء،دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي،،القاهرة،بيروت،1407هـ.(7/20) .وسأشير إليه لاحقا هكذا(مجمع الزوائد)،قال العراقي:رواه أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب بسند حسن.وانظر العراقي،تخريج أحاديث إحياء علوم الدين،مطبوع بهامش كتاب الغزالي:أبو حامد،محمد بن محمد،(ت505هـ)،إحياء علوم الدّين،5أجزاء،مكتبة مصر،دار مصر للطباعة،1998م.(4/163).(1/245)
شكل الوسيلة قد يختلف ولكنّ حقيقتها باقية وطبيعتها واحدة،فهي تدور بين الخداع والتمويه والكذب وبين القهر والتركيع،وبينهما الإغراء وشراء الذمم؛فالطاغوت مفلس في مجال الحجة والبرهان،وتلك هي علته المُزمنة،ولهذا فإنّ الطواغيت وإن تباعدت أزمانهم وأماكنهم يلتقون بحقيقة وسائلهم كما يلتقون بغاياتهم.
إنّ الوسائل التي اعتمدها فرعون تعكس الجهد الكبير الذي بذله وأنفقه في تأليه نفسه،وهي ظاهرة واضحة متكررة،فالطاغوت المعاصر يحشد الكثير من الطاقات لتثبيت نفسه،حيث يُنفق الأموال الطائلة على بطانته لتبقى خط الدفاع عن الطاغوت أي عن مصالحها،ثمّ تُنفق الأموال في أجهزة الإعلام المُسخرة لخدمة أغراضه وأهدافه،يقول تعالى:’’إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله‘‘.كما تُزهق الأرواح والأعراض!لو أنفق بعضها في عمارة الأرض،والإنتاج المثمر،لترقية الحياة البشرية وإغنائها،لعاد على البشرية بالخير الوفير(1).
لقد تنوعت وتعددت وسائل القهر الحديثة كي تستطيع التعامل مع مختلف الشخصيات والمجتمعات،فمن لا يُسكته السجن لشدة صبره ومصابرته قد تُذله التهمة المزورة..والشعب الذي تعوَّد مواجهة الشرطة والتمرد على العصا تُخضعه القلاقل والإنقسامت الداخلية والأزمات الإقتصادية،وتعدى ذلك إلى أبشع ما يتصوره العقل البشري من افتعال المجاعات التي تحصد الآلاف من الأرواح،وتكفي هذه المجاعات دليلا على قسوة الأساليب المعاصرة في تركيع الشعوب والأمم..وتلعب المخابرات دورا بارزا في هذا المجال،فيثيرون الفتن الطائفية والقبلية والنعرات الجاهلية..وكل ما يؤدي إلى خلخلة النّظام الاجتماعي وزعزعة أمن المواطن،وهم إنّما يفعلون ذلك بطرق ملتوية عبر أناس مأجورين،وهكذا تغير شكل الوسيلة فلم تعد واضحة المعالم أو أُحادية الإتجاه،بل أصبحت معقدة التركيب متعددة الإتجاهات،يقف وراءها علماء النّفس وخبراء الإجتماع.
__________
(1) انظر:في ظلال القرآن (4/647).(1/246)
يلجأ الطاغوت أحيانا إلى سياسة العصا والجزرة؛ذلك أنّ وجود النقيضين يرفع من مستوى ضراوة المعركة مع الطاغوت،ويتطلب نفسا كبيرة في المواجهة،فالطاغوت يضعك بين خيارين:إمّا الطاعة المستتبعة للمنصب والوظيفة والتسهيلات،أي ما يقع في دائرة الإغراء لإسقاط المجاهدين الرافضين للطاغوت..وإمّا التمرد المستتبع للسجن والتعذيب والقمع..فأيُّ الخيارين تريد؟ثمّ بعد ذلك يروّجون أنّ فلانا قد تاب!وعاد إليه رشده!وحينئذ تشتد المحنة على الأحرار الرافضين استبدال الدين بعرض من أعراض الدنيا،وتلك هي الحرب النّفسية التي يُراد منها كسر إرادتهم وصمودهم.
وما الاستعمار-بكافة صوره القديمة والحديثة،والمباشرة وغير المباشرة والمتمثلة بإيجاد عملاء من أبناء الشعوب المسحوقة يقومون بدور المستعمر ويمثّلون مصالحه وأطماعه-إلاّ صورة من صور التسلط والقهر،بل ويُمكننا القول أنّ الديقراطية العلمانية الحديثة هي وجه مُستعار وصيغة مبتدعة وبديل آخر للإستعمار القديم بعد أن أفلس الوجه القديم للإستعمار،وفُضح أمره ولم يعُد مقبولا عند الجماهير؛ذلك أنّ الديمقراطية الحديثة هي الستار التي يُحارب من ورائه أهل الحق بدعوى أنّهم أعداء للديمقراطية والحرية،وأكثر من ذلك أنّ شعوبا كاملة تُهان وتُمتهن كرامته تحت ستار نشر الديمقراطية!
وقد يُقدم الطاغوت-إن هو أحس بنتائج عكسية لهذا الضغط-إلى التنفيس المُمَنْهَج!وذلك كي لا يؤدي الضغط في مرحلة معينة إلى انفجار لا يُريده الطواغيت ولا يدري ما هي عواقبه،ثمّ ما يلبثون أن يعودوا لسيرتهم الأولى،وهكذا حتى يتم ترويض الجماهير،وتصل مرحلة لا تحس فيها أنّها معذبة أو مقهورة،وتلك هي المرحلة التي يصبح النّاس فيها رقيقا وإن ركبوا في الباصات وأكلوا في المطاعم..فالمُستَرَقُّ هو مُسْتَرَقُّ الجوهر لا المظهر،وهذه هي العبودية الحديثة،أو الرق المعاصر!
الفصل الرابع:آثار شخصية فرعون
المبحث الأول:الآثار المجتمعية لشخصية فرعون(1/247)
المبحث الثاني:جلب العقوبات الرّبانية
الفصل الرابع
آثار شخصية فرعون
إنّ من المؤكّد أن يكون لهذه الشخصية آثارا عميقة نظرا لما تميّزت به من قساوة وعنف واضطهاد؛فالمجتمع الذي تعرض لأقسى درجات الإذلال والاستعباد ولمدة طويلة ظهرت عليه آثار تلك الشخصية؛ذلك أنّ المقدمات الخبيثة والسيئة تنتج آثارا خبيثة وسيئة،’’والذي خبث لا يخرج إلاّ نكدا‘‘(1)،وهكذا كان فرعون كثير الشر عديم الخير.
وليس هذا مرتبطا بشخصية فرعون فحسب،بل ستكون هذه الآثار في كلّ مرة يتعرض فيها المجتمع لمثل تلك الشخصية أو لمثل ذلك المنهج الذي أفرزها.من هنا تأتي أهمية هذا الفصل،فلا يجوز أن نُشغل أنفسنا كثيرا بما أفسده الطاغوت فحسب،بل ننشغل بالقضاء على الطاغوت نفسه،ولا يهمنا في مرحلة المواجهة معه من الأمور إلاّ ما يُقَرِّبُنا لتلك الغاية وتتسع له جهودنا.فلن يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم.فأيّنما وُجد الطاغوت وُجد الفساد والخلل،لذا يجب التفريق بين المرض وآثاره،فالأولى القضاء على سبب المرض لا الانشعال كثيرا بمعالجة أعراضه إلاّ بمقدار ما تنفعنا تلك المعالجات العرضية في تحقيق الهدف الأساسي وهو اجتثاث أسباب المرض والتّخلص بالكليّة من الطاغوت،على أن لا يكون هذا الإصلاح الفرعيّ يُضفي صفة تجميلية للطاغوت،أو يُضفي عليه الشرعية بحيث يظهر المصلح وكأنّه من أعوان الطاغوت ومناصريه ومؤيديه.
وللوقوف على آثار شخصية فرعون لا بدّ من استعراض لآيات القرآن الكريم التي ذكرت تلك الآثار مباشرة أو غير مباشره كي نصل من خلال النظر فيها لتلك الآثار.وعليه نستطيع أن نقسم تلك الآثار إلى مبحثين:الأول:الآثار المجتمعية لشخصية فرعون،والثاني:جلب العقوبات الربانية.
المبحث الأول
الآثار المجتمعية لشخصية فرعون
__________
(1) الأعراف:58].(1/248)
لقد أنتجت شخصية فرعون أمراضا إجتماعية وسلبيات عميقة عديدة؛ذلك أنّ المنهج الذي اعتمده فرعون-وهو المنهج الذي أفرز شخصية فرعون-كان له آثار سلبية خطيرة مرافقة له وملازمة،إذ لا تظهر هذه الشخصية إلاّ في بيئة مرضية،وبالتالي فهي حريصة على تأكيد تلك الأمراض وتأصيلها،فهي الوسط الملائم التي تعيش فيه شخصية فرعون.وهذه الآثار الإجتماعية المتعددة يمكن حصرها فيما يلي:
أولا:ضلال قومه
(الضلال والضلالة ضد الهدى والرشاد)(1)،و(ضل الشيء ضاع)(2)، والضلال-عند المفسرين-أصله الهلاك يقال منه ضل الماء في اللبن إذا استهلك،والضلالة هي العدول عن طريق الحق والذهاب عنه(3)،وهو ما يُرشد إليه قوله تعالى:’’فماذا بعد الحق إلاّ الضلال‘‘(4)،أي(ما بعد عبادة الإله الحق إذا تركت عبادته إلا الضلال)(5)؛ذلك أنّ ما لم يكن حقا فهو الضلال،(ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال-وما تزال كلها تذوق-ما هو حتمي في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله..فهذه هي الحتمية التاريخية المستيقنة لأنها من أمر الله،ومن خبر الله)(6).
والضلال-أيضا-(أن يقصد اعتقاد الحق أو فعل الجميل أو قول الصدق فيظن بتقصيره وسوء تصرفه فيما كان باطلا أنّه حق فاعتقده،أو فيما هو قبيح أنّه جميل وليس بجميل ففعله،أو فيما كان كذبا أنّه صدق فقاله)(7).فالضلال-إذن-(فَقْدُ ما يوصل إلى المطلوب،وقيل:سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب)(8).
__________
(1) لسان العرب،مادة:ضلل(11/390).
(2) مختار الصحاح،مادة:ضلل(160).وانظر:المغرب،مادة:ضلل(2/12).
(3) انظر:تفسير القرطبي(1/245)،(7/234).
(4) يونس:32].
(5) تفسير القرطبي(8/335).
(6) في ظلال القرآن(3/282).
(7) فيض القدير(1/202).
(8) التعاريف(1/474).(1/249)
إنّه التيه والعبثية والجهل وفقدان القدرة على التفكير والنّظر،فالنّاس-حال الضلال-في ضياع تام،وهو ما سلكه فرعون بقومه،لقد أضلهم من أول أمره حتى نهايته،فقد(سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخيبة والخسران في الدين والدنيا معا،حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب الخالد الأخروي.وما أرشدهم قط إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية،وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له إذ رب مضل قد يرشد من يضله إلى بعض مطالبه)(1)،وليس فرعون من هذا النوع،بل إنّ أمره كلّه ضلال ليس بعده هدى.يقول تعالى:’’وأضل فرعون قومه وما هدى‘‘(2).أي أضلهم عن الرشد وأضلهم في الدّين،وما هداهم إلى خير ولا نجاة،وهو تهكم به وجواب قوله:’’ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد‘‘(3)،فكذبه الله تعالى(4)؛(ذلك أنّه سلك بهم طريق أهل النّار بأمرهم بالكفر بالله وتكذيب رسله،وما سلك بهم الطريق المستقيم،وذلك أنّه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى والتصديق به فأطاعوه،فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك،ولم يهتدوا باتباعهم إياه)(5).
__________
(1) تفسير ابي السعود(6/32).وانظر: زكريا:أبو يحيى الأنصاري،فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن،جزء واحد،تحقيق:محمد علي الصابوني،جزء واحد،ط1،عالم الكتب،بيروت،1405هـ ـ1985م.(264).
(2) طه:79].
(3) غافر:29].
(4) انظر:تفسير القرطبي(11/229).
(5) تفسير الطبري(16/192)مع بعض التصرف.(1/250)
إنّ الضلال يُنتج بشرا لا يدركون سبب وجودهم ولا غاية خلقهم،يعيشون ويموتون دون هدف أو غاية،ثمّ تنعكس تلك الحالة العبثية أمراضا نفسية تأكل النّاس وتُحيل حياتهم إلى جحيم؛فالضلال حيرة وتيه تفقد الأمّة بسببه القدرة على تحديد نقطة الإنطلاق نحوالهدف،فلا تعود قادرة على التمييز بين الغث والسمين.حينئذ يعيش النّاس حياة بهيمية بل أقل درجة،وذلك ما نفهمه من قوله تعالى:’’إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا‘‘(1)،(إذ البهيمة لم تخلق لها المعرفة والقدرة التي بها تجاهد مقتضى الشهوات وهذا قد خلق له وعطله)(2)،فليس هناك فارق بين الإنسان والبهيمة غير النّظر والتدبر والفكر!يقول تعالى:’’ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون‘‘(3)،(فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة)(4)،وتلك هي النوعية التي يعيش معها الطواغيت؛جماهير فارغة لا تدري أنّها لا تدري!وتلك علة كبرى.
وفي حال الضلال يكون العقل أسيرا لخرافات(5)تضر ولا تنفع كالسحر والكهانة وغيرها،ولهذا كانت دعوة الأنبياء في جوهرها تحرير للعقل من أن يكون أسيرا للخرافات والخزعبلات،حيث دعى الأنبياء إلى النّظر والتفكر في الكون والحياة؛ذلك أنّ الحق لا يخشى التفكير والحجة والبرهان بل هو يقوم على ذلك،فدعوة أهل الحق النّاس للتفكير والنّظر تنسجم مع حقهم الذي يحملون،على عكس الجاهلية والطاغوت فإنّه يخشى يقظة النّاس لأنّها تكشف زيفه وباطله.
__________
(1) الفرقان:44].
(2) فيض القدير(1/214).
(3) الأعراف:179].
(4) تفسير ابن كثير(4/24).
(5) الخرافة من الفعل خرف،و(خَرِفَ الرجل فسد عقله من الكبر)،لسان العرب،مادة:خرف(9/62).(1/251)
لقد ظهرت آثار التيه والضياع وانعدام القدرة على التمييز على الجماهير في ظلّ شخصية فرعون،وليس أدلّ على هذا من طاعتهم لفرعون رغبا ورهبا في افترائه وزعمه للألوهية والربوبية،فإنّه لا يمكن لفرعون ولا لغيره أن يفكر مجرد تفكير في طرح هذه الفرية لولا أن رأى من قومه القابلية للقبول أو السكوت في أسوأ تقدير.ولا شك في أنّ قوما تابعوا فرعون على فريته الكبرى وكذّبوا موسى عليه السلام بعد أن عاينوا الحق الساطع على يديه لهم أجهل الخلق وأحمق النّاس وأسفههم.(1/252)
ثمّ وصل بهم الشلل الفكري وانعدام النظر أن شَكُّوا في موت فرعون؛وذلك بسبب ما تعرّض له بنو إسرائيل في ظلّ فرعون حيث دخل في نفوسهم من عظمته ما خُيّل إليهم أنّه لا يهلك؛ذلك أنّهم كذبوا موسى صلى الله عليه وسلم حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه جثة هامدة على الساحل،حيث أمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض-وهو المكان المرتفع-ليتحققوا موته وهلاكه(1)،ولم يكن هذا التصور وهذا الاعتقاد إلا نتيجة لجهلهم وسفاهة عقولهم وفساد عقائدهم،يقول تعالى:’’وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‘‘(2).والشاهد في الآية قوله تعالى:’’وأنتم تنظرون‘‘،وذلك(أنّ الله تعالى لما أنجاهم وأغرق عدوهم،قالوا يا موسى:إنّ قلوبنا لا تطمئنّ إنّ فرعون قد غرق،حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه)(3)،والمعنى أنّهم وصلوا بسبب جهلهم وضلالهم حدا يتصورون أنّ فرعون لا يموت!أي قد خالج قلوبهم أنّه ربما يكون إلها!وبسبب هذا التصور الأحمق نجّا الله فرعون ببدنه،يقول تعالى:’’فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية‘‘(4).أي لتكون لمن وراءك علامة،وهم بنو إسرائيل ومن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر،لكي يعتبروا بك فينزجروا عن معصية الله والكفر به والسعي في أرضه بالفساد(5).
__________
(1) انظر:تفسير ابن كثير(2/432)ومعاني القرآن(3/315)وتفسير النسفي(2/141)وروح المعاني(11/184).
(2) البقرة:50].
(3) تفسير القرطبي(1/392).وقد وردت وجوه أخرى في تفسير الآية الكريمة’’وأنتم تنظرون‘‘.منها:ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم)تفسير ابن كثير(1/92)،وهذا لا يتناقض مع الوجه الذي ذكرناه.
(4) يونس:92].
(5) انظر:تفسير الطبري(11/164)وتفسير القرطبي(8/381).(1/253)
إنّ تقديس الطاغوت أو عدَّه شخصا مميّزا ذا صفات خاصة نادرة،والترويج المستمر لتلك الفرية عبر وسائل الإعلام،ثمّ وجود من يقرّ له-من النّاس-بتلك الفرية،يورث مع توالي الزمن وتكرار المشهد وضخامة الدّعاية وعدم القدرة على المعارضة بكتم صوت الحق والحقيقة…يورث ما يشبه التسليم بتلك الفرية واعتبارها حقيقة مسلمة لا جدال فيها،حتى إذا قام سيّد الشهداء بكلمة الحقّ أمام الطاغوت تعجب النّاس من القول الجديد على أسماعهم،وطالبوه بزيادة البيان وتوضيح البرهان!
ومن دلائل ضلالهم تعظيمهم للسحر والسحرة،ويظهر هذا من قول السحرة :’’إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘(1).والمعنى أنّ السحرة قد أقلقهم موسى وهارون،وأصبحت مراكزهم مهددة بالإنهيار،وذلك معنى قولهم:’’ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘،أي(ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر،فإنّهم كانوا مُعَظَّمين بسببها)(2).والشاهد أنّ تعظيم السحرة ما كان إلاّ لجهل الجماهير وسفهها،وكيف لا يكون جهلا والحق جلّ شأنه يقول:’’ولا يُفلح الساحر حيث أتى‘‘(3)،أي لا يفلح(حيث كان وأين أقبل)(4).
__________
(1) طه:63].
(2) تفسير ابن كثير(3/158).
(3) طه:69].
(4) تفسير ابي السعود(6/28).وانظر:تفسير النسفي(3/61)(1/254)
إنّ ضعف الوعي والتّعود على بلادة التفكير أدى ببني إسرائيل بعد أن خرجوا من ظلّ فرعون وتحرروا من قوة فرعون الظاهرة أن يعبدوا العجل،بل ويطلبون من موسى أن يجعل لهم إلها كما لعبدة الأصنام آلهة،’’قالوا يا موسى اجعل لنا إله كما لهم آلهة،قال إنّكم قوم تجهلون‘‘(1)،(فلم تزجرهم تلك الآيات ولم تعظهم تلك العبر والبينات)(2)؛ذلك أنّهم تعرضوا إلى مسخ في الفكر والوعي،فلا علم عندهم ولا معرفة.ممّا يؤكد لنا أن المرض قد استقرّ في قلوبهم وعقولهم،يقول تعالى:’’وأشربوا في قلوبهم العجل(3)‘‘(4).أي(تداخلهم حبه،ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به،كما يتداخل الصبغ الثوب والشراب أعماق البدن)(5)،وهكذا وصل جهلهم حدّ الإشباع والتّشبع!فما أن تركهم موسى أياما معدودات حتى عاد إليهم وقد عبدوا العجل من دون الله،ممّا يكشف عن مدى ما أصابهم من الخلل النّفسي والسفه العقلي والفساد الفكري،
يقول تعالى:’’ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون‘‘(6).فمع ما تعرضوا له من استجهال لا يُعفيهم من المسؤولية بعدما تبيّن لهم الحق.فكل من علم الحق وجب عليه اتباعه،ومن أعرض عنه فهو من الظالمين.
__________
(1) الأعراف:138].
(2) تفسير الطبري(9/45).
(3) وليس المقصود هو ذات العجل(وإنما هو حب العجل) المحاسبي:أبو عبد الله،الحارث بن أسد بن عبد الله،(165-243هـ)،فهم القرآن ومعانيه،جزء واحد،تحقيق: حسين القوتلي،ط2،دار الكندي،دار الفكر،بيروت،1398هـ.(487)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(فهم القرآن).
(4) البقرة:93].
(5) تفسير البيضاوي(1/362-363).
(6) البقرة:92].(1/255)
ومن الشواهد الدّالة على هذا الضلال قَسَمُ السحرة بعزة فرعون،أي(بقوة فرعون وشدة سلطانه ومنعة مملكته)(1).يقول تعالى حكاية لقولهم:’’وقالوا بعزة فرعون إنّا لنحن الغالبون‘‘(2).فهذا يدلّ على أنّ فرعون قد عظم في نفوسهم حتى وصل الأمر بهم أن يقسموا بعزته!ولو كان عندهم أدنى رويّة لما تفوهوا بمثل تلك العبارة،وهم الذين يمثلون طبقة رجال الدّين،وهي الطبقة التي يعتبرها النّاس قدوتهم ومثالهم الذي يحتذى به.فكيف سيكون الحال فيما دونهم من الطبقات التي لا تتقن غير التقليد الأعمى؟!
إنّ المشهد المأساويّ ظاهر في ترديد مقولة فرعون دون تفكير أو نظر حين’’قال للملأ حوله إنّ هذا لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘(3).فردّد الصمّ العمي مقالته وكأنّها أمّ الحقائق!فالملأ يرددون قولته:’’قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم،يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‘‘(4).والسحرة يتبنون موقفه،’’إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘(5)،فماذا عسى أن يكون موقف الجماهير؟!فهم على دين الحكومة سائرين.
ليس هناك سوى صوت واحد تردده الجماهير ولا تعي معانيه وأهدافه،إنّه صوت فرعون ومن تكلم بلسانه،ومع مرور الزمن تعطلت عقولهم وتخدرت،حتى صاروا أبواقا تردد مقولة النّظام الحاكم بلا وعي أو بصيرة،لا يسمعون إلاّ دعاء ونداءا،حتى صح القول أنّهم ميّتون ليس فيهم حياة،لأنّ المجتمع الحيّ هو الذي يقوّم الأخطاء ويصحح العوج ويحاسب الحكومة،ولا يكون هذا إلاّ إذا كان مجتمعا يستمدّ قيمه من الله سبحانه وتعالى.
ثانيا:استمراء الذل
__________
(1) تفسير الطبري(19/72).
(2) الشعراء:44].
(3) الشعراء:34-35].
(4) الأعراف:109-110].
(5) طه:63].(1/256)
والإستمراء لغة من استمرأ،يُقال: (مرىء الطعام استمرأه)(1)و(وطعام مرىء هنيء)(2).وأعني بذلك أن يصبح الذلّ مستساغا مستطابا،فلا يشعر المستذل بوجعه ولا ألمه،وهو نتيجة ملازمة لما تعرضت له الجماهير في ظلّ شخصية فرعون من إذلال وقهر متواصل مستمر ومتعدد الوجوه،حتى إنّ القرآن الكريم وصف فرعون بالعذاب المهين وذلك في قوله تعالى:’’ولقد نجّينا بني إسرائيل من العذاب المهين،من فرعون(3)،إنّه كان عاليا من المسرفين‘‘(4).والشاهد في الآية أنّ بني إسرائيل تعرضوا للعذاب المهين،أي المذل لهم،وهو استعبادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم وتسخيرهم وتكليفهم الأعمال الشاقة المتعبة،وكفى بذلك إهانة لهم وإذلالا(5).
__________
(1) مختار الصحاح،مادة:مري(259).
(2) لسان العرب،مادة:مرأ(1/155).
(3) من فرعون:هو بدل من العذاب باعادة الجار أي من عذاب فرعون ويجوز أن يكون جعل فرعون نفسه عذابا)التبيان في إعراب القرآن(2/229).
(4) الدخان :30-31].
(5) انظر:تفسير البيضاوي(5/161)وتفسير ابن كثير(4/144)ومعاني القرآن(6/406)وتفسير الواحدي(2/984)وزاد المسير(7/347)وروح المعاني(25/125).(1/257)
إنّ العيش في ظلّ الطاغوت أمدا طويلا ومعاناة الإرهاب والخوف والملاحقة والمطاردة والسجون أفسد نفوسهم وقلوبهم وطبائعهم،وأدى إلى إنعكاسات نفسية خطيرة حيث تعودوا على هذا الذل وهذه الإهانة فلم يعودوا يفكرون في التمرد عليها،فقد استمرأوا الذل فأصبح في نفوسهم أمرا طبيعيا،ولهذا رفض بنو إسرائيل القتال مع موسى عليه السلام،وقالوها صريحة حين استنفرهم موسى عليه السلام للجهاد:’’اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون‘‘(1)،(فأبوا وخالفوا وفضلوا القعود والاستحذاء على الجلاد والنزول إلى ميادين الجهاد)(2)،فقد تعود القوم على القعود،فلا همة عندهم ولا عزيمة،وليس عندهم ثقة بأنفسهم،فكل ما يملأ عقولهم وقلوبهم هو الخضوع والخنوع.ولهذا كانت عقوبتهم التيه أربعين سنة،ليخرج جيل آخر لم يتعرض لتلك لحياة المذلة والمهينة التي سببت لهم تلك الانتكاست النّفسية.يقول تعالى:’’فإنّها محرمة عليهم،أربعين سنة يتيهون في الأرض،فلا تأس على القوم الفاسقين‘‘(3).وكأنّ الآية الكريمة تشير إلى أنّ ما حدث معهم مرض مزمن لا يمكن التخلص منه إلا بالإستبدال،وتلك سنّة الله’’وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم‘‘(4)،ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن الجهاد والزهد في الإيمان،ولكن يكونون سامعين مطيعين(5).
__________
(1) المائدة:24].
(2) مناهل العرفان(2/299).وانظر:تفسير ابن كثير(2/40).
(3) المائدة:26].
(4) محمد:38].
(5) انظر:تفسير البيضاوي(5/197)وتفسير ابن كثير(4/183)وفتح القدير(5/42).(1/258)
وليس أدل على ذلك من عبادتهم للعجل،يقول تعالى:’’فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلهم السامري‘‘(1)،وكان ذلك(لمّا ذهب موسى إلى مناجاة ربه واستخلف عليهم أخاه هارون عليهما السلام نسوا الله تعالى،وحنُّوا إلى ما وقر في نفوسهم من الوثنية المصرية وخرافاتها فعبدوا العجل)(2)،(لأنّ الإستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لاحتمال التكاليف والصبر عليها والوفاء بالعهد والثبات عليه،وترك في كيانهم النفسي خلخلة واستعدادا للإنقياد والتقليد المريح .. فما يكاد موسى يتركهم في رعاية هارون ويبعد عنهم قليلا حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختبار.ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلاءات متكررة لإعادة بنائهم النفسي،وكان أول ابتلاء هو ابتلاءهم بالعجل الذي صنعه لهم السامري)(3).
إنّ الركون إلى الدنيا والحرص عليها والخضوع للشهوة والهوى،واعتبار الرزق مرهون بيد الطاغوت لا بيد الله،والخوف من مواجهة الموت،وكأنّ الطاغوت يحيي ويميت..كلّ ذلك أعراض للوهن والضعف الذي أصاب قطاعا واسعا من الأمّة،ممّا جعلها مكبَّلة الإرادة تقبل بالذل والإهانة.بل وتعدى الأمر ذلك إلى أن يتجه بعض النّاس لتلمس العزة عند السلطان’’واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا‘‘(4)!فازدادوا ذلا وإذلالا،وذلك لأنّهم فشلوا في إدراك مصدر العزة،’’فإنّ العزة لله جميعا‘‘(5)،ومن ابتغى العزة لغير الله أذله الله.
__________
(1) طه:85].
(2) مناهل العرفان(2/299).
(3) في ظلال القرآن(5/490).
(4) مريم:81].
(5) النّساء:139].(1/259)
وفي هذا البيان تفسير شاف لما تعيشه الأمّة من ذل وهوان،فلو أنّهم بذلوا أقلّ من تلك التضحيات التي يدفعونها أذلاء للطاغوت،لو أنّهم بذلوها في سبيل الله لخلّصهم الله مما هم فيه!وكما أنّه يُبيّن أنّ استصلاح النّفوس المستذلة أمر في غاية الصعوبة،يحتاج إلى جلد ومعاناة كبيرة؛ذلك أنّ استمراء الذلّ مرض عضال،فكيف يتمرد المستذل على وضع يراه طبيعيا واعتياديا؟حتى يُخيّل إليه أنّ الحياة بهذا اللون الذي لا يمكن تغييره.وقد يصل بعض المستذلين حدا يُعظمون الباغي الظالم ويُجلّونه،بينما إذا قام المظلوم برد الأذى عن نفسه اتهموه بالفتنة والوقاحة والتطاول.
ثالثا:ظهور المجتمع الطبقي
وأعني بالمجتمع الطبقي هو الذي يسوده المفهوم الجاهلي عن الحياة،حيث يكون التفريق فيه بين النّاس على أساس عائلي أو قبلي أو عرق أو لون أو جنس أو كل ما ليس للإنسان فيه اختيار،فلا يستطيع الإنسان أن يُغير لونه أوعرقه مثلا.وهو كلّ مجتمع يتوارث النّاس فيه مقاماتهم دون جهد منهم،فمن كان أبوه من طبقة الملأ فهو من النبلاء أو الأشراف..ومن كان أبوه مستعبدا فهو عبد منذ ولادته..وهو المجتمع الذي يقوم على أساس العدواة والبغضاء بين النّاس؛فهو مجتمع متناقض متشرذم تتصادم فيه المصالح والأهواء،يخلوا من القيم والأخلاق الإنسانية،فلا يُثمر غير الشر والجريمة،ومثال ذلك المافيا-أي الجريمة المنظمة-الروسية كنتاج طبيعي للشيوعية التي كانت تقوم على هذا الأساس الفاشل.(1/260)
إنّ وجود صراع داخلي بين طبقات المجتمع،وحرص كلّ طبقة على مصالحها يؤدي حتما إلى تمزيق المجتمع وتفكيك الروابط الإنسانية فيه،ويُساعد الطاغوت على البقاء والتّحكم،وهي العلّة الكامنة وراء سعيه الدائم في اختلاق الأزمات الداخلية،ونشر النّزاعات المختلفة بين الحين والآخر ضمن مخطط ومنهج مدروس تعتني به عقول شيطانية خاصة،ويعتمد في ذلك على فئة مأجورة مستفيدة لتخريب المجتمع وتفتيته،ولعلّ هذا يُوضِّح لنا لماذا جعل فرعون أهل مصر شيعا.
إنّ تفتيت المجتمع وتحويله إلى طبقات متناحرة متباغضة متنافرة أو إلى أفراد لا يربط بينهم رابط هدف وغاية كما هو الحال في مناهج الطواغيت المطبقة حاليا،وما المحاولات المحمومة لنسف الأسر والقيم الإجتماعية،والقضاء حتى على قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشرع الإسلامي،وإحلال القيم الغربية مكانها إلاّ وسيلة من تلك الوسائل الخبيثة لتشتيت المجتمع وتفريقه؛ذلك أنّ القيم الغربية تدعو إلى تأليه الذات والإنكباب عليها،وعدم الإلتفات إلى القيم الإجتماعية أوالمشكلات العامة،وكأنّ حال النّاس في ظلّ تلك المفاهيم يقول:اللهم نفسي!(1/261)
إنّ فرعون-كما هو الحال عند كلّ الطواغيت-لا يعيش إلاّ في مجتمع مريض مشرذم متصادم الأغراض والأهواء والمصالح،تسوده الكراهية والحقد والعدوانية!ولهذا عمد الملعون إلى سياسة التفريق بين النّاس،يقول تعالى:’’إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يُذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنّه كان من المفسدين‘‘(1).أي(فرقا يشيعونه فيما يريد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل،أو أحزابا بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه)(2).فهو يقرب فئة ويستذل أخرى،فهناك طبقة راقية وطبقة منحطة!ممّا يضمن له عدم اتفاق النّاس عليه،بل إنّ الفئات المستفيدة ستدافع عن النّظام الذي يمثل مصالحها وامتيازاتها،ولم تكن تلك الفئات على نفس درجة القرب من الحكومة،فهناك الطبقة الحاكمة حيث يتربع على رأس هرمها فرعون،ومن دونه هامان وزيره وأقرب النّاس إليه،ومن دونه طبقة الأشراف وهم الملأ من آل فرعون،ويمثلون بطانته وحاشيته والمقربين من القصور،ومن دونهم آل فرعون،ومن دونهم طبقة الكهنة والسّحرة،حيث يمثل السحرة قمة هذه الطبقة،ومن دونهم قوم فرعون،ثمّ بنو إسرائيل والذين يُمثلون قاعدة الهرم في النّظام الطبقي الفرعوني،وهم الطبقة المسحوقة.
__________
(1) القصص:4].
(2) تفسير البيضاوي(4/282).وانظر:تفسير أبي السعود(7/2).(1/262)
ومع توالي الزمن ودوران الأيام ازدادت الهوة بين الأشراف!والمسحوقين،وازدادت الفروق النفسية والإجتماعية والمُستويات المعيشية..وانعكست تلك الفروق على السلوك العام وترسخت في أذهان النّاس وكأنّها قدر لا تُرد!أو كأنّها جزء من سنّة الحياة!وليس أدلّ على ذلك من قول فرعون عن موسى:’’أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يُبين‘‘(1).فهو بزعمه أفضل من(هذا الذي هو ضعيف لقلة ماله،وأنّه ليس له من الملك والسلطان شيء)(2)،وكأنّ الجواب حاضر في نفوس المخاطبين الذين استقرت في أعماقهم المفاهيم الطبقية،فالذي يملك المال والسلطان وينتمي إلى طبقة الآلهة والأشراف-عندهم-خير ممّن لا يملك من حطام الدّنيا شيء.وبالطبع لم يكن هذا الجواب الحاضر لولا تطاول الزمن على الجماهير وهي تئنُّ تحت وطأة الجلاد.
ومن الشواهد التي تؤكد لنا استقرار هذا المرض الإجتماعي في عهد فرعون ما ردّ به الملأ من آل فرعون على دعوة موسى عليه السلام،حين قالوا:’’أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون‘‘(3).أي(وقومهما من بني إسرائيل لنا عابدون يعنون أنهم لهم مطيعون متذللون يأتمرون لأمرهم ويدينون لهم)(4)،فالمانع من الإيمان بهما أنّهما من طبقة دون طبقة الملأ من قوم فرعون وآله،وهي ذات القيم التي تذرَّع بها قوم نوح حين قالوا:’’أنؤمن لك واتبعك الأرذلون‘‘(5)،أي(الأقلون جاها ومالا)(6)؛فتلك هي القيم الرخيصة التي يُفرزها المجتمع الطبقي.
__________
(1) الزخرف:52].
(2) تفسير الطبري(25/82).وانظر:معاني القرآن(6/370).
(3) المؤمنون:47].
(4) تفسير الطبري(18/25).وانظر:فتح القدير(3/485)وزاد المسير(5/475)وتفسير الواحدي(2/748)وتفسير البغوي(3/310).
(5) هود:111].
(6) تفسير البيضاوي(4/246).(1/263)
وحتى يكون المجتمع إنسانيا لا بدّ أن يقوم على أساس من العقيدة والفكر والتصور،وهو الأساس الذي يُميّز الإنسان عن البهيمة والأنعام،أي ممّا يقع قي دائرة القدرة على الاختيار فيحاسب الإنسان حينئذ على اختياره.ولكي يكون إنسانيا لا بدّ من تقرير حقيقة مفادها أنّ النّاس كلهم من نفس واحدة،’’يا أيّها النّاس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة‘‘(1)،أي(من هيئة واحدة وشكل واحد)(2)،تلك الحقيقة التي تُسقط الحدود المصطنعة بين البشر،وتُحطم مفهوم الطبقية من القواعد.
إنّ الإسلام جعل التفاوت بين النّاس بالتقوى،فقال سبحانه:’’إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم‘‘(3)،هذا الإعلان الذي أسقط فرق اللون والعرق والقوم…وفي الحديث’’يا أيها الناس ألا إنّ ربكم واحد وإنّ أباكم واحد،ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى‘‘(4).وجعل الإسلام العلاقة بين النّاس تسودها المودة والمحبة وأنكر الشحناء والبغض والأحقاد…يقول صلى الله عليه وسلم:’’لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا‘‘(5).
__________
(1) النساء:1].
(2) تفسير القرطبي(7/339).
(3) الحجرات:13].
(4) مسند أحمد(5/411)رقم(23536)والمعجم الأوسط(5/86)رقم(4749)واللفظ لأحمد.قال الهيثمي(رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)وانظر:مجمع الزوائد(3/266).
(5) صحيح البخاري،كتاب الأدب،باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر وقوله تعالى:ومن شر حاسد إذا حسد(5/2253)رقم(5718).(1/264)
وليس معنى هذا أنّ النّاس غير متفاوتين،بل هم متفاوتون بطبيعة الخلق والتكوين والمواهب..يقول تعالى:’’ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا‘‘(1)،أي فاوت بينهم في الخلق والرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم والأشكال والألوان.. فخالف الله بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا،وخفض من درجة هذا عن درجة هذا(2)؛ذلك(ليستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وينتظم بذلك نظام العالم)(3)،و(ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره،والفقير في فقره ويسأله عن صبره)(4)،وله الحكمة في ذلك كقوله تعالى:’’نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات‘‘(5)،أي(نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا،ولم نفوض ذلك إليهم،وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده)(6)،فالمطلوب هو العدل بين النّاس وليس محو الفوارق الطبيعية بينهم،وهي المعادلة التي لا يستطيع القيام بها وجعلها واقعا في حياة النّاس غير الإسلام،وهذا ما لا يسمح به الطاغوت.
رابعا:طغيان المفهوم المادي للحياة
__________
(1) الأنعام:165].
(2) انظر:تفسير الطبري(8/114)وتفسير القرطبي(7/158).
(3) تفسير البيضاوي(5/145)وانظر:تفسير ابن كثير(4/128)وتفسير أبي السعود(8/46).
(4) تفسير ابن كثير(2/201).
(5) الزخرف:32].
(6) فتح القدير(4/554).(1/265)
وهوإفراز طبيعي لتلك التصورات التي سادت المجتمع في عهد فرعون،والعلاقة بين النّظام المُطبق وتلك المفاهيم علاقة تبادلية،فالنّظام يُشجع وينشر تلك المفاهيم،وتلك المفاهيم تُساعد على بقاء النّظام،والنتيجة لتلك العلاقة تلاشي المعنى الحقيقي للحياة،وغياب الروابط الإنسانية التي يجب أن تسود أفراد المجتمع،وتختفي الأخلاق والقيم ويتحول المجتمع إلى قطعان بشرية تسوقها الغرائز الحيوانية،ويسود الجشع والطمع والأنانية…تلك هي النتائج الحتمية لانعدام الإيمان بيوم آخر يحاسب فيه النّاس على أعمالهم فإنّ أهداف النّاس وغاياتهم تنحصر في هذه الدنيا،ويزداد الجري وراء تحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة واللذة العاجلة،ويسود مذهب النفعيين والوصوليين،ويصبح المقياس الوحيد في عقول النّاس هو المادة.
ومع ذلك فإنّ الكسب في الدنيا مهما بلغ لا يشبع تطلعات الإنسان،فيبقى في جوع دائم حتى يداهمه الموت،ولذلك كان اليوم الآخر والجزاء في الجنّة التي فيها للصالحين ما يشاؤون وعند الله مزيد.فهل يستطيع فرد مهما بلغ من القدرات أن يحقق في دنياه ما يشاء؟!بالطبع لا يستطيع،وبالتالي يبقى في جري دائم ليس له نهاية أو حد.
لقد مهَّد فرعون السبيل لنفسه،وأوجد الأرضية القابلة لاستقبال مفاهيمه وأفكاره،فها هو فرعون يُخاطب الجماهير المُهيّأة للتجاوب مع أطروحاته،ويضرب على الوتر الحساس الذي تتفاعل معه الحشود المنبهرة بما عنده من زينة وأموال،وذلك في معرض ردّه على موسى عليه السلام،فهو يتوقع مسبقا مدى تأثير ذلك الخطاب على تلك الجماهير،يقول تعالى:’’ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون‘‘(1).وأراد بذلك أن يبهرهم بما عنده من متاع الدنيا الزائل،في ظرف طغت فيه المفاهيم المادية على كل شيء.
__________
(1) الزخرف:51].(1/266)
ثمّ يزيدهم في الحجة والبرهان الزائفين بقوله:’’فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين‘‘(1).أي(فهلا أُلقي على موسى إن كان صادقا أنّه رسول رب العالمين أسورة من ذهب)(2)،فاستخف عقولهم بهذا فأطاعوه،لإنّ من اقتصر نظره على الدنيا لا عقل عنده ولا بصر.ولقد علم فرعون الحقيقة كلها:علم أنّه ليس على شيء،فلا حجة عنده ولا برهان،وعلم-في المقابل-سفاهة من يخاطبهم وشدة تعلقهم بالدنيا،فأراد أن يبهرهم بما ينبهرون به من زخارف الأرض كي لا يُبصروا الحقيقة التي يخشاها؛ذلك أن التعلق بالدنيا يُفقد الإنسان القدرة على استيعاب الحقائق،ويُصاب بقصر النّظر بل وانعدامه.
وليس أدلّ على طغيان المفهوم المادي من موقف السحرة عندما استدعاهم فرعون لمعارضة موسى-عليه السلام- بسحرهم،فكان مطلب السحرة الوحيد والهمّ الغالب هو الأجر،’’فلمّا جاء السحرة قالوا لفرعون أئنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين‘‘(3)؛ذلك أنّ طغيان المفهوم المادي قد سيّطر على قلوبهم وعقولهم؛فجعلهم يرغبون في الجمع والمنع والحرص على الدنيا(4)،ومن هنا نفهم سبب تملق الجماهير المصابة بهذا الداء للحكومة وتزلفها لها،فغايتها نيل المطلوب وهو الدرهم والدينار،فليس هناك غاية أبعد من هذه وأبقى!ثمّ تستغل الحكومة المرض الذي أنشأته،فتقرب طائفة وتستذلّ أخرى،ويشتدّ السباق بين الجماهير لإرضاء وليّ النعمة ومَن في جعبته مال الدّولة.ومن هنا كان هذا المرض أثرا للطاغوت وسببا في بقائه واستمراره.
__________
(1) الزخرف:53].
(2) تفسير الطبري(25/82).وانظر:تفسير البيضاوي(5/148)وتفسير الثعالبي(4/130)وتفسير البغوي(4/142).
(3) الشعراء:41].
(4) انظر:فيض القدير(3/261).(1/267)
إنّ طغيان المفهوم المادي يُحوِّل الإنسان إلى عبد مسترق لشهواته،يقول صلى الله عليه وسلم:’’تعس عبد الدينار وعبد الدرهم‘‘(1)،و(خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لايجد خلاصا،ولم يقل مالك الدينار ولا جامع الدينار لأنّ المذموم من الملك والجمع الزيادة على قدر الحاجة)(2)،وكأنّ الدينار والدرهم إله يعبد من دون الله.
المبحث الثاني
جلب العقوبات الرّبانية
إنّ الغيوم السوداء التي انتشرت في عهد فرعون تنذر بالخطر الشديد،’’قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم‘‘(3).لقد جرت سنّة الله أنّه لا عقوبة إلاّ بذنب،يقول تعالى:’’فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا‘‘(4).فالذنب يجلب العقوبة،والعقوبة تتنوع بتنوع الذنب،سنة لا تبديل لها ولا تحويل.
ولمّا كان فرعون رأس كل خطيئة،والدّاعي لكل رذيلة،وأساس كل فتنة،كان لا بدّ أن يكون أول المعاقبين وأشدهم أخذا من الله جلّ شأنه،يقول تعالى:’’فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا(5)‘‘(6)؛(فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول-أي محمد صلى الله عليه وسلم-فيصيبكم ما أصاب فرعون،حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر)(7)،(وفيه تخويف لأهل مكة أنه سينزل بهم من العقوبة مثل ما أنزل به،وإن اختلف نوع العقوبة)(8)،وهو تخويف مستمر،فكلما عصى النّاس رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم-في أي زمان ومكان- أنزل الله عليهم عقوبته.
__________
(1) صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب الحراسة في الغزو في سبيل الله(3/1057)رقم(2730).
(2) فتح الباري(11/254).
(3) الأحقاف:24].
(4) العنكبوت:40].
(5) وبيلا أي شديدا،وضرب وبيل أي شديد)لسان العرب،مادة:وبل(11/720).وانظر:مختار الصحاح،مادة:وبل(1/294).
(6) المزمل:16].
(7) تفسير ابن كثير(4/439).
(8) فتح القدير(5/319).(1/268)
وتشتدّ العقوبة مع عظم الذنب،فلمّا تجاوز فرعون كل الحدود وادعى الربوبية أخذه الله نكال الآخرة والأولى،يقول تعالى:’’فقال أنا ربكم الأعلى،فأخذه الله نكال الآخرة والأولى‘‘(1).فكان الأخذ بعد الذنب..ثمّ اتسعت العقوبة حتى شملت كلّ من تبع فرعون وسار على نهجه،حيث أنزل الله-سبحانه-عليهم بأسه الذي لا يرد،وصب عليهم سوط عذاب لا يرفع،فكانت نهايتهم البوار والهلاك والدّمار؛ذلك(لأنّ السوط كان عندهم نهاية ما يُعذب به)(2)،ولأنّه أشد ألما من غيره عَبَّرَ به،بقوله تعالى:’’وفرعون ذي الأوتاد،الذين طغوا في البلاد،فأكثروا فيها الفساد،فصب عليهم ربك سوط عذاب،إنّ ربك لبالمرصاد‘‘(3).وكانت عقوبة التدمير والتخريب لما صنعوه من العمارات والمزارع،يقول تعالى:’’ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘(4).ويقول تعالى:’’فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا‘‘(5).
إنّ التكذيب بآيات الله والكفر بها سبب لأخذ الله لهم وإهلاكهم،يقول تعالى:’’كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إنّ الله قوي شديد العقاب‘‘(6).ويقول تعالى:’’كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين‘‘(7). ذلك أنّ اتباع الظالمين ومشاركتهم ومساندتهم تجلب عقوبة الله،فلولا هذه المشاركة والمساندة لما استطاع الظالم بمفرده أن يفعل شيئا.
العقوبات التي نزلت على فرعون وملئه وآله
__________
(1) النّازعات:24-25].
(2) تفسير القرطبي(20/49).
(3) الفجر:10-14].
(4) الأعراف:137].
(5) الفرقان:36].
(6) الأنفال:52].
(7) الأنفال:54].(1/269)
بيّن القرآن الكريم العقوبات التي أنزلها الله على أولئك القوم الظالمين،حيث تنوعت وتعددت وتعاقبت على فترات من الزمن لعلهم إلى ربهم يرجعون بالتوبة والإنابة،و(البلوى من الله على جهتين فبلوى رحمة وبلوى عقوبة،فبلوى رحمة يبعث صاحبه على إظهار فقره وفاقته إلى الله وترك تدبيره،وبلوى عقوبة يترك صاحبه على اختياره وتدبيره )(1)،وهؤلاء أصَّروا على غيّهم وفجورهم المرة بعد المرة حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر،ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
كانت أولى العقوبات أن أخذهم الله جلّ شأنه بالقحط ونقص الثمرات،يقول تعالى:’’ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون‘‘(2). أي(إختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع ونقص من الثمرات)(3)،وحدوث القحط ونقص الثمرات فى أرض مصر،المخصبة المثمرة المعطاء،تبدو(ظاهرة تلفت النظر،وتهز القلب،وتثير القلق،وتدعو إلى اليقظة والتفكر)(4).ولكنّ القوم قد ران الشيطان على قلوبهم فأصَّروا على معصيتهم،وأخذتهم العزة بالإثم،’’وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‘‘(5).والمعنى أنّ(أيَّ آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها منك ولانؤمن بك ولا بما جئت به)(6)،معتبرين أنّ ما قدّمه موسى عليه السلام لهم من الآيات سحرا،كبرت كلمة تخرج من أفواههم،إن يقولون إلاّ كذبا.
__________
(1) حلية الأولياء(10/196).
(2) الأعراف:130].
(3) تفسير ابن كثير(2/240).
(4) في ظلال القرآن(3/615).
(5) الأعراف:132].
(6) تفسير ابن كثير(2/241).وانظر:تفسير البيضاوي(3/52).(1/270)
والإصرار على الذنب لا يرفع العقوبة بل يجلب المزيد من غضب الله وسخطه،ولذلك تتابعت النكبات عليهم،فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم،يقول تعالى:’’فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‘‘(1).أي(آيات مفصلات يتبع بعضها بعضا،فكل عذاب كان يمتد أسبوعا وبين كل عذابين شهرا)(2)،ولكنّهم استكبروا وامتنعوا عن قبول الحق وكانوا قوما مجرمين.
ثمّ وقع عليهم الرجز،أي العذاب(وجائز أن يكون ذلك طاعونا وجائز أن يكون غيره ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت أي أصناف ذلك كان)(3)،إنّما يكفي أن نعلم أنّ عذابا من الله قد أصابهم ونزل بهم،والظاهر أنّه عذاب لم يستطيعوا الصمود أمامه،ودلّ على ذلك قوله تعالى:’’ولمّا وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل‘‘(4).
ولكنّ القوم نكثوا وعادوا لغيهم وفسادهم بعد أن استجاب الله لدعاء نبيه عليه السلام،حيث يقول تعالى:’’فلمّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون‘‘(5).،فكان نكثهم سببا لانتقام الله منهم،يقول تعالى:’’فانتقمنا منهم‘‘(6).فالننظر كيف كان عاقبة الظالمين.
__________
(1) الأعراف:133].
(2) تفسير البغوي(2/193).
(3) تفسير الطبري(1/306).
(4) الأعراف:134].
(5) الأعراف:135].
(6) الأعراف:136].(1/271)
لقد سلبهم الله ما خولهم من النّعم:فالشكر قيد النعم به تدوم وتبقى وتزداد،فمن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة(1)،يقول تعالى:’’لئن شكرتم لأزيدنّكم‘‘(2)،وبتركه تُسلب وتتحول،وهؤلاء كفروا نعم الله وعصوا رسله،فأخرجهم الله ممّا كانوا فيه،فكان خروجهم في مطاردة موسى ومن معه خروجا لا عودة منه،يقول تعالى:’’فأخرجناهم من جنات وعيون،وكنوز ومقام كريم،كذلك وأورثناها بني إسرائيل‘‘(3).ويقول تعالى:’’كم تركوا من جنات وعيون،وزروع ومقام كريم،ونعمة كانوا فيها فاكهين‘‘(4).(فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة)(5)؛ذلك لأنّ خروجهم هذا لا عودة بعده،فقد قضى الله عليهم بالموت غرقا،ليكونوا عبرة لمن خلفهم.يقول تعالى:’’فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ بأنّهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‘‘(6)،ويقول تعالى:’’فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا‘‘(7)،ويقول تعالى:’’فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهومليم‘‘(8).
لقد خرجوا في طلب موسى وهم يظنون أنّهم عليه منتصرون،فإذا هم بعد خروجهم لا يرجعون،ذلك أنّ الله قضى عليهم بالغرق بعد أن حلّت عليهم نقمته جلّ شأنه.ذلك بسبب تكذيبهم وكفرهم بآيات الله والغفلة عنها،يقول تعالى:’’ولقد جاء آل فرعون النّذر،كذبوا بآياتنا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‘‘(9)،ولأنّهم كانوا ظالمين(لأنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرضوها للهلاك،أو واضعين الكفر والتكذيب مكان الإيمان والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم)(10)،كما أنّهم كانوا (ظالمين لغيرهم كما كان يجرى منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم)(11)،فكان مرتع الظلم عليهم وخيما،كما كان اتباعهم لفرعون هلاكا لهم ودمارا.
__________
(1) إتقان ما يحسن من الأخبار(2/516).
(2) ابراهيم:7].
(3) الشعراء:57-59].
(4) الدخان:25-27].
(5) تفسير ابن كثير(4/142).
(6) الأعراف:134].
(7) الإسراء:103].
(8) الذاريات:40].
(9) القمر:41-42].
(10) تفسير أبي السعود(4/29-30).
(11) فتح القدير(2/318).(1/272)
أراد فرعون أن يستفز موسى ومن آمن معه من الأرض،فكانت عقوبته من جنس ما همّ به،حيث أزاله الله عن وجه الأرض إلى الأبد.
(إنّ هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى عليه الصلاة والسلام)(1)،و(كذلك اقصاصها على ماهي عليه من رسول الله معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالإذعان فلا تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها ولا تذكرت أو اخرهم بتذكيرهاوروايتها فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها)(2).
وبعد هذا لم يسدل القرآن الستار بل كشف لنا عن مصيرهم بعد موتهم،يقول تعالى:’’وحاق بآل فرعون سوء العذاب،النّار يعرضون عليها غدوا وعشيّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب‘‘(3).(فإنّ أرواحهم تُعرض على النّار صباحا ومساء إلى قيام الساعة،فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النّار)(4)،ولهذا قال:’’ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‘‘،(أي عذاب جهنم،فإنّه أشد مما كانوا فيه،أو أشد عذاب جهنم،فإنّ عذابها ألوان بعضها أشد من بعض)(5)،والمعنى أدخلوهم أشده ألما وأعظمه نكالا.
__________
(1) تفسير البيضاوي(1/342).
(2) تفسير أبي السعود(1/101).
(3) غافر: 45-46].
(4) تفسير ابن كثير(4/82).وانظر:تفسير الطبري(24/71)وتفسير البيضاوي(5/95)ودقائق التفسير(2/255)وتفسير البغوي(4/99)وفتح القدير (4/495)وروح المعاني(24/73).
(5) تفسير أبي السعود(7/279).(1/273)
ثمّ نتابع مع القرآن رحلتهم الشّقية عبر مشاهد تقشعر لها الأبدان فها هو فرعون(يقدم قومه يوم القيامة،يقودهم فيمضي بهم إلى النار حتى يوردهموها ويصليهم سعيرها)(1)،يقول تعالى:’’يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النّار وبئس الورد المورود‘‘(2).يقودهم يوم القيامة(كما كان يقودهم في الدنيا إلى الضلال.’’فأوردهم النار‘‘،ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه،ونزل النّار لهم منزلة الماء فسمى إتياناها موردا،ثمّ قال:’’وبئس الورد المورود‘‘،أي بئس المورد الذي وردوه،فإنّه يُراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش والنّار بالضد)(3).
__________
(1) تفسير الطبري(12/110).وانظر:تفسير الواحدي(1/533)وتفسير البغوي(3/204)وفتح القدير(2/526)وزاد المسير(4/155).
(2) هود:98].
(3) تفسير البيضاوي(3/259).وانظر:تفسير القرطبي(9/93)وتفسير أبي السعود(4/239)وتفسير النسفي(2/171).(1/274)
فها هي آثار فرعون يجلّيها لنا كتاب الله،حيث نصل إلى المشهد الأخير من فصولها المأساوية،ونحن نرى أتباعه أئمة يدعون إلى النّار وقد حلّت عليهم لعنة الله في الدّنيا ولآخرة،حيث يقول تعالى:’’وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون،وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامةهم من المقبوحين‘‘(1).أي(وجعلنا فرعون وقومه أئمة يأتم بهم أهل العتو على الله والكفر به،يدعون الناس إلى أعمال أهل النار.ويوم القيامة لا ينصرهم-إذا عذبهم الله-ناصر،وقد كانوا في الدنيا يتناصرون فاضمحلت تلك النصرة يومئذ.وقوله:’’وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة‘‘،أي وألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيا وغضبا منّا عليهم فختمنا لهم فيها بالهلاك والبوار والثناء السيىء،ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة،فمخزوهم بها الخزي الدائم،ومهينوهم الهوان اللازم)(2).
عبرة العقوبة والذنب
إنّ حركة التاريخ تبدوا وكأنّها سلسلة من الذنوب التي تتبعها العقوبة على أشكال مختلفة ودرجات في الشدّة متفاوتة،متناسبة مع طبيعة الذنب ومدى قبحه،فهي سنّة جارية وتقرير لعدل الله في معاملته لعباده،ذلك(أنّ الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا،واعتداء بعضهم على بعض،فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره)(3).يقول تعالى:’’ذلك بأنّ الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‘‘(4).
__________
(1) القصص:41-42].
(2) تفسير الطبري(20/79).وانظر:تفسير القرطبي(13/290)وتفسير ابن كثير(3/291)وتفسير ابي السعود(7/15)وتفسير البغوي(3/447)وتفسير النسفي(3/238).
(3) تقسير الطبري(13/121).
(4) الأنفال:54].(1/275)
وفي مقابل العقوبة والذنب نجد العطاء والشكر،(فالعاقل الحازم من يستديم النعمة ويداوم على الشكر والإفضال منها على عباده واكتساب ما يفوز به في الآخرة)(1).،يقول تعالى:’’لئن شكرتم لأزيدنّكم‘‘(2).أي(لئن شكرتم ربكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم لأزيدنكم في أياديه عندكم ونعمه عليكم على ما قد أعطاكم)(3).
ولهذا فإنّ عبادة الطاغوت تُخرج من مارسها من النّور إلى الظلمات،يقول تعالى:’’والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يُخرجونهم من النّور إلى الظلمات‘‘(4)؛ذلك أنّ عبادة الطاغوت وموالاته ذنب عظيم تجلب العقوبة من الله،فيعيش النّاس بسببها في الظلمات،تلك الظلمات التي تسبب لهم العثرات والكبوات وتُفقدهم القدرة على الرؤية الصحيحة للأحداث؛ذلك أنّ السير والحركة في الظلام أمر فيه مخاطر كثيرة؛فالظلمات تجلب الحيرة والقلق والاضطراب والخوف والوحشة،وهذا ما نلاحظه في كل مرة يُعبد فيها الطاغوت أو يُوالى من دون الله.
إنّ ما نراه من تناحر وصراع بين الأمم والشعوب لهو دليل آخر على العقوبة الحاصلة في النّاس لعلهم يثوبون أو يرجعون،يقول تعالى:’’قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض‘‘(5)،فها هو العذاب في كلّ مكان وبألوان شتى حيث تُزهق الأرواح وتُنتهك الأعراض ويكثُر الإنتحار والسرقة والزنا وتفكك الأسرة والقهر والاستبداد والأمراض العصبية والنفسية والتفتت الإجتماعي…
وأقسى العقوبات التى نشاهدها أن تفقد الحياة معناها وطعمها؛فترى غالبية الأغنياء قد سئموا من الحياة وملُّوها،وربما وصل الحال عند بعضهم أن يُقدم على الإنتحار!أمّا الفقراء فكثر تسخطهم وتذمرهم،وأعلنوا رفضهم وعدم رضاهم لما قسم الله لهم،وضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
__________
(1) فيض القدير(2/478).
(2) إبراهيم:7].
(3) تفسير الطبري(13/186).
(4) البقرة:257].
(5) الأنعام:65].(1/276)
الفصل الخامس:الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة فرعون
المبحث الأول:مرحلة التهيئة والإعداد للمواجهة
المبحث الثاني:مرحلة المباشَرة في التنفيذ
المبحث الثالث:مرحلة مواجهة الإبتلاءات والمحن بعد إفلاس الطاغوت في الحجة والبرهان
الفصل الخامس
الكيفية التي أرشد إليها القرآن لمواجهة فرعون
يأتي هذا الفصل في سياقه الطبيعي بعد أن ذكرنا خصائص ووسائل وأسباب وآثار شخصية فرعون،فمن الطبيعي أن يطرأ في الذهن تساؤل عن كيفية مواجهة هذه الشخصية،وهو تساؤل طبيعي يأتي متناسقا مع ما مرّ ذكره،ثمّ إنّ تشخيص المرض لا يكفي دون وصف العلاج،فكثيرا ما يُسهب بعض المشتغلين في الدعوة بوصف الأمراض دون ذكر العلاج لها،من هنا تأتي أهمية هذا الفصل.ولفهم كيفية المعالجة والمواجهة لا بدّ من الإشارة إلى أمرين مهمين:
الأول:أنّ موسى عليه السلام أُمر أن يذهب إلى فرعون الذي طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى..وكان حال القوم من حول فرعون شراذم،قسم يسير مع فرعون مشاركا ومؤازرا،وقسم تعود الخضوع والخنوع،حيث أذلهم الإستعباد الطويل وأفسد فطرتهم،وأضعف استعدادهم للمقاومة،فالحالة في غاية الإنحطاط والهبوط.(1/277)
الثاني:أنّ كيفية المواجهة ترتبط بالغايات المرادة من تلك المواجهة.فموسى عليه السلام كانت له مهمة،مفادها إرسال بني إسرائيل من قبضة فرعون والكف عن تعذيبهم،وذلك ما يُرشد إليه قوله تعالى:’’فأتياه فقولا إنّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تُعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى،إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولى‘‘(1).وقوله تعالى:’’فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول رب العالمين،أن أرسل معنا بني إسرائيل‘‘(2).أي(أطلقهم ولا تعذبهم بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان،فإنّهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل، ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام،وفي هذا دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة)(3).
__________
(1) طه:47-48].
(2) الشعراء:16-17].
(3) تفسير البيضاوي(4/52-53).(1/278)
فالكيفية-إذن-مرتبطة بطبيعة المُخَاطَب-فرعون والملأ وآل فرعون والمستعبدين من بني إسرائيل-وبطبيعة الخِطاب ومضمونه،فالخطاب وإن كان مقصوده الأساسي إطلاق بني إسرائيل فقد حمل في طيّاته-أيضا-هجوما واضحا على أهم ما تقوم عليه شخصية فرعون من دعوى الألوهية والربوبية،وبيان ذلك في قول موسى وهارون:’’إنّا رسولا ربك‘‘(1)،والمعنى أنّهما(أُمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه)(2).وقولهما:’’إنّا رسول رب العالمين‘‘(3)،ثمّ ما كان من جواب فرعون’’فمن ربكما يا موسى(4)‘‘(5).وإنّما قال ذلك لموسى(منكرا وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه ومليكه)(6)،فلم يكن سؤال بحث عن الحقيقة،وهو مؤشر على بدء الصدام والخصام.
من هنا يتضح أن الدعوة لإطلاق بني إسرائيل كانت تعني بالنّسبة لفرعون تدمير عرشه وهزّ أركان مملكته،كما تعني-لو سلّم بالأمر-انكشاف كذبه فيما ادعاه من أُلوهية وربوبية.
على ضوء ما تقدّم-وبعد النّظر في كتاب الله-يُمكننا أن نُقَسّم كيفية المواجهة إلى ثلاثة مراحل-أي ثلاثة مباحث:المبحث الأول:مرحلة الإعداد للمواجهة.المبحث الثاني:مرحلة المباشَرة في التنفيذ.المبحث الثالث:مرحلة مواجهة الإبتلاءات والمحن بعد إفلاس الطاغوت في الحجة والبرهان.
المبحث الأول:مرحلة التهيئة والإعداد للمواجهة
__________
(1) طه:47].
(2) تفسير أبي السعود(6/19).
(3) الشعراء:16].
(4) قوله تعالى:’’فمن ربكما يا موسى‘‘أي وهارون فحذف للعلم به ويجوز أن يكون طلب الاخبار من موسى وحده إذ كان هو الأصل)التبيان في إعراب القرآن(2/122).
(5) طه:49].
(6) تفسير ابن كثير(3/156).(1/279)
كانت أولى الخطوات على هذا الطريق تهيئة الشخصية القيادية القادرة على الوقوف أمام طاغية لم يشهد له التاريخ مثيلا،تُمثل في وقوفها رأس الحربة في مواجهة فرعون،وتتحمّل العبء الأكبر،فمواجهة فرعون الطاغية من أعظم الجهاد،وذلك ما يُرشد إليه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن أي الجهاد أفضل فقال:’’كلمة عدل ثَمَّ إمام جائر‘‘(1)،ومن هنا ندرك معنى قوله تعالى لموسى عليه السلام:’’ولتصنع على عيني‘‘(2).أي(تربى وتغذى بمرأى مني لا أكلك إلى غيري)(3)،وما ذلك إلاّ لتلقي الرّسالة وما فيها من تكاليف.
وكذلك ندرك معنى قوله تعالى:’’واصطنعتك لنفسي‘‘(4)،أي اصطفيتك واجتبيتك لوحيي ورسالتي،وخلقتك وقويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهيي،فليس لك من هذه الدنيا شيء.إنّما أنت للمهمة التي اصطنعتك من أجلها،فالتجرد التام من حظ النّفس والذات والإقبال على التضحية ركن أساسي في مواجهة الطواغيت(5).
ولتحقيق الإعداد والتهيئة كان الإبتلاء،وذلك معنى قوله تعالى:’’وفتنّاك فتونا‘‘(6)،أي(وابتليناك ابتلاء،أو أنواعا من الإبتلاء على أنّه جمع فتن أو فتنة،فخلصناك مرة بعد أخرى،وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن والمشي راجلا على حذر وفَقْدِ الزاد وتأجير نفسه)(7)،وهي كلها تجارب ضرورية لتهيأة الشخصية القادرة على المواجهة.
__________
(1) مسند أحمد(5/256)رقم(22261)وشعب الإيمان(6/93)رقم(7582).وانظر:سنن الترمذي،كتاب الفتن،باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل ثم سلطان جائر،(4/471)رقم(2174)،قال أبو عيسى وفي الباب عن أبي أمامة وهذا حديث حسن غريب.
(2) طه:39].
(3) البيان في تفسير غريب القرآن(1/287).وانظر:تفسير الطبري(16/162)وتفسير ابن كثير(3/148).
(4) طه:41].
(5) انظر:تفسير الطبري(16/168)وتفسير القرطبي(11/198)وتفسير ابن كثير(3/154).
(6) طه:40].
(7) تفسير البيضاوي(4/51)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير أبي السعود(6/16).(1/280)
إنّ طبيعة التهيئة والإعداد تتناسب مع حجم المسؤولية والتكليف،وذلك ما نفهمه من قوله تعالى للرسول محمد صلى الله عليه وسلم:’’قم الليل إلاّ قليلا نصفه أو انقص منه قليلا،أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا،إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا‘‘(1)،فالقول الثقيل لما فيه من تكاليف علة في تلك المجاهدة حيث يسهل عليه التكليف بالتهجد والعبادة(2)،ومن هنا بدأ الإعداد للمهمة الكبرى وليس هناك إلاّ الجد والأجتهاد.
__________
(1) المزمل:2-5].
(2) انظر: تفسير البيضاوي(5/405).(1/281)
لهذا دُرّب موسى عليه السلام على المشاق منذ الصغر،في(خط طويل من الرعاية والتوجيه،ومن التلقي والتجريب،قبل النّداء وقبل التكليف… تجربة الرعاية والحب والتدليل.وتجرية الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس،وتجربة النّدم والتحرج والاستغفار.وتجربة الخوف والمطاردة والفزع.وتجربة الغربة والحدة والجوع.وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور.وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة؛ذلك أنّ الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات..ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر-عدا رسالة محمد-صلى الله عليه وسلم-فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر،أعتى ملوك الأرض في زمانه،وأقدمهم عرشا،وأثبتهم ملكا،وأعرقهم حضارة،وأشدهم تعبيدا للخلق واستعلاء في الأرض..وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه،فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا،والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن..وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة،انحرفوا عنها،وفسدت صورتها في قلوبهم.فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجيدة ببراءة وسلامة،ولا هي باقية على عقيدتها القديمة،ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة..وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة،بل لإنشاءها من الأساس.فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا،له حياة خاصة،تحكمها رسالة.وإنشاء الأمم عمل شاق عسير.ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة،فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة)(1).
__________
(1) في ظلال القرآن(6/342-343)مع بعض التصرف.(1/282)
ومن هنا كانت المقارنة لإبراز هذا المعنى في قوله تعالى:’’إنّا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا الى فرعون رسولا،فعصى فرعون الرسول فاخذناه اخذا وبيلا‘‘(1)،أي(فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر)(2)،ويظهر القياس-أيضاً-في قوله تعالى:’’يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه اللّه مما قالوا‘‘(3)،أي(ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله)(4)،وفي هذا المعنى يندرج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه’’ألا ترضى أن تكون منّى بمنزله هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدى نبى‘‘(5)،ذلك أنّ في قصة فرعون ومواجهة موسى له عبرة ومثل للأمة.
بعض مميزات شخصية موسى والتي تُعدُّ نموذجا للشخصية القادرة على مواجهة الطاغوت
أولا:النّفس العزيزة.
__________
(1) المزمل:15-16].
(2) تفسير ابن كثير(4/439).وانظر:تفسير أبي السعود(9/52)وفتح القدير(5/319)وروح المعاني(19/108).
(3) الأحزاب:69].
(4) تفسير الطبري(22/50).
(5) صحيح البخاري،كتاب المغازي،باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة(4/1602)رقم(4154).(1/283)
(العزُّ خلاف الذل..والعزّة الرفعة والإمتناع)(1)،فالنّفس العزيزة هي النّفس الممتنعة على الطاغوت والرافضة للتطبيع والخنوع والذُلّ والمهانة(2)،وهي التي لا غنى عنها في مواجهة الطاغوت،لا تلك النّفوس التي تتعايش مع الواقع الذي يُنشؤه الطاغوت،ومن ثمّ ينحصر دورها في البحث الدائم عن حياة رخيصة في الهامش المتاح لها من قبل الطاغوت،بل وربما تتجنب فعل أي شيء قد يؤدي للصدام معه،وربما قامت بدور المُثبِّط للثائرين عليه.
لقد كان أول ظهور عملي للشخصية العزيزة المتمثلة بموسى على شكل ردة فعل منه عليه السلام على عدوان القبطي أول مرة ثم ردة فعله في الثانية-حتى كاد أن يبطش به-دليلا على رفضه للذل والمهانة؛ذلك أنّ الشخصية العزيزة هي(التي لا تقبل الذل والإهانة،وهي التي تقابل فرعون وتقف في وجهه،لا تلك النفوس التي ألفت رؤية الطغيان يبطش وهم لايتحركون،حتى وهموا أنّ هذا هو الأصل،وأنّ هذا هو الفضل،وأنّ هذا هو الأدب،وأنّ هذا هو الخلق!وأنّ هذا هو الصلاح!فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم عن نفسه،فيُحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الأوضاع التي يقوم عليها…إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا ودهشوا،وسمّوا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا،أو جبارا،وصبوا عليه لومهم ونقمتهم.ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إلاّ القليل!ولم يجدوا للمظلوم عذرا-حتى على فرض تهوره-من ضيقه بالظلم الثقيل!)(3).
__________
(1) لسان العرب،مادة:عزز(5/374).
(2) العز حالة مانعة للإنسان من أن يغلب والعزة قد يمدح بها كقوله:’’ولله العزة ولرسوله‘‘.وقد يذم بها كعزة الكفار’’بل الذين كفروا في عزة‘‘،والعزة التي لله ورسوله والمؤمنين هي العزة الحقيقية الدائمة الباقية،وعزة الكفار هي التعزز وهو في الحقيقة ذل)التعاريف(512-513).
(3) في ظلال القرآن(6/332-333).(1/284)
إنّنا وبدون هذه الشخصية العزيزة التي لم تسمرىء الظلم لن نستطيع مواجهة فرعون،وإنّ أخطر وضع يمكن أن يتصوره الإنسان في ظل شخصية فرعون-أو أي طاغوت آخر-هو استمراء وقبول الجماهير المستذلة للوضع القائم وعدم التفكير بتغييره،فمن يهُن يسهُل الهوان عليه.من هنا كان لا بدّ في مرحلة الإعداد من تعبئة مستمرة على رفض الظلم وتحريض على التّمرد والثورة.
إنّ الطريق إلى الرفعة واحدة لا ثانية لها،يقول تعالى:’’من كان يريد العزة فلله العزة جميعا‘‘(1)،أي من أراد الشرف والمنعة فليطلبها من عند الله فإنّ له كلها(2)،ومحال علينا التحرر من نير الذل والاستعباد إلاّ بالرجوع إلى الله.
إنّ ما نراه من خنوع وخضوع من قبل قطاع كبير من النّاس ما هو إلاّ دليل على ضعف العزيمة والإيمان في قلوبهم،فرغم ما يعانونه من اضطهاد وقمع وأكل لحقوقهم..رغم هذا تجدهم ساكتين لا يؤلمهم هذا الظلم والجور.وفي المقابل نجد كثيرا منهم متمردون على الله لا ينفذون أوامره ولا ينتهون عن نواهيه.فصار خوفهم من الطاغوت أشد مرات عدة من خوفهم من الله،والتزامهم بشرع الطاغوت أقوى من التزامهم بشرع الله!
في مثل وسط كهذا من الخانعين لن يتورع الطغاة عن تنفيذ مآربهم،بل وسيأتون بالمزيد من المأسي على شعوبهم،والسؤال من الذي يمنعهم؟خنوع الجماهير أم خوفهم من الله؟!!أم أولئك الذين يُمرِّغون أنوفهم على عتبات السلطان؟
ثانيا:المروءة والفطرة السليمة.
__________
(1) فاطر:10].
(2) وانظر:تفسير البيضاوي(4/413).(1/285)
(المروءة كمال الرجوليّة)(1)،وهي(قوة للنفس مبدأ لصدور الأفعال الجميلة منها المستتبعة للمدح شرعا وعقلا وعرفا،وقيل:أداة نفسانية يحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف ثَمَّ محاسن الأخلاق وجميل العادات)(2)؛فالمروءة تحمل صاحبها على إغاثة المنكوبين ورفع الظلم عن المستضعفين.ولقد تمثّل كمال المروءة في شخص نبينا صلى الله عليه وسلم،وذلك بشهادة السيدة خديجة رضي الله عنها حين قالت له صلى الله عليه وسلم:’’والله لا يخزيك الله أبدا.إنّك لتصل الرحم،وتصدق الحديث،وتحمل الكل،وتكسب المعدوم،وتقري الضيف،وتعين على نوائب الحق‘‘(3)،فأين أصحاب المروءة في هذا الزمن الذي علت فيه صيحات الثكالى واليتامى من المسلمين؟أين نحن من قوله تعالى:’’وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنّساء والولدان‘‘(4)، أي(ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء)(5).
إنّ مجرد رؤية موسى عليه السلام لامرأتين تذودان حرّك في نفسه مشاعر النّجدة والنّخوة والرجولة،يقول تعالى:’’ولما ورد ماء مدين وجد علية امة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان‘‘(6).أي(تكفكفان غنمهما أن ترد غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا،فلمّا رآهما موسى عليه السلام رق لهما ورحمهما)(7)وهو(مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة،السليمة الفطرة،كنفس موسى عليه السلام،حين وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء،ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء.والأولى عند ذوى المروءة والفطرة السليمة،أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامها أولا،وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما)(8).
__________
(1) لسان العرب،مادة:مرأ(1/155).
(2) التعاريف(650-651).
(3) الخصائص الكبرى(1/156).وانظر:أعلام النبوة(1/311)والسيرة الحلبية(1/391).
(4) النساء:75].
(5) زاد المسير(2/132).وانظر:معاني القرآن(2/133)وتفسير الواحدي(1/275).
(6) القصص:23].
(7) تفسير ابن كثير(3/384).
(8) في ظلال القرآن(6/335).(1/286)
إنّ الإنشغال باللذة العاجلة والجاه الكاذب والمصالح الفانية عن القيام بالواجب ونصرة الحق نقضٌ للمروءة وقتل لها،حيث لم يعُد للفرد همٌ سوى نفسه-إلاّ من رحم ربي-،فهو منشغل بتوفير المتاع لها والراحة،وإذا طلب الإنسان من نفسه القيام بالواجب وجدها عاجزة ضعيفة ثقيلة.والعجيب أنّ الكلَّ يقول’يجب‘!ولكن على من’يجب‘؟إنّه واقع مرُّ أن ترى الأعراض تُستباح والبيوت تُهدم والعدو يُعربد..ثمّ لا تجد من يُنجدك.فغالبية الأمّة تخلت عن واجبها في نصرة المظلوم.أين الأغنياء وأصحاب الملايين من شعوب تُقهر وتُجوَّع؟أين الرُّتب العسكرية وهم ينظرون إلى المستضعفين يُسحقون بآلة العدو سحقا؟لمن هذه الجيوش عُدت؟ونحن نسأل:هل هؤلاء يُقاوَمُ بهم فرعون؟هل هذه عُدتنا للمواجهة مع أشرس عدو وأخبث ملّة؟!
المروءة ليست مراهقة بل هي المُحرّك نحو القيام بواجب النّصرة والعون والإنقاذ(حتى لا تبقى فينا عين تطرف،وهي بذل المال حتى لا يبقى لأحد درهم.فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والقدرة والعدد)(1).يقول صلى الله عليه وسلم’’من قُتل دون ماله فهو شهيد‘‘(2)،فكيف بمن يموت دون أمته وثروتها وعزتها وكرامتها؟
ثالثا:القوة والأمانة
__________
(1) تفسير القرطبي(8/57)مع بعض التصرف.
(2) صحيح البخاري،كتاب المظالم،باب من قاتل دون ماله(2/877)رقم(2348).(1/287)
أراد الله أن يكون المُكلَّف في مواجهة فرعون قويا قادرا على تنفيذ ما أُمر به،أمينا مؤد للتكليف؛فالقوة والأمانة صفتان متلازمتان لحمل الدعوة والتكليف،فالأمين الضعيف عاجز يُقْعِدُه العجز عن المواجهة والتحدي،ولهذا كان’’المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف‘‘(1).فالتكاليف الشرعية شاقة تحتاج إلى أخذها بقوة وخصوصا عند مَن يكون في مركز القيادة،وهو معنى قوله تعالى:’’يا يحيى خذ الكتاب بقوة‘‘(2)،أي بجد وحرص واجتهاد،وذلك بالعمل به والتزام أوامره والكف عن نواهيه(3).فأَمرُ الدّين جدّ لا الهزل فيه،يقول تعالى:’’إنّه لقول فصل وما هو بالهزل‘‘(4)،أي(فاصل بين الحق والباطل مبالغ في ذلك كأنه نفس الفصل،وما هو بالهزل،بل كله جد محض لا هوادة فيه)(5).
وأمّا القوة بلا أمانة فطامة كبرى ومصيبة عظمى،ويكفي دلالة على ذلك أنّ إضاعة الأمانة من علامات الساعه،يقول صلى الله عليه وسلم’’إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها قال إذا وُسِّد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة‘‘(6).
__________
(1) صحيح مسلم،كتاب القدر،باب في الأمر بالقوة وترك العجز والإستعانة بالله وتفويض المقادير لله(4/2052)رقم(2664).
(2) مريم:12].
(3) انظر:تفسير القرطبي(11/86)وتفسير ابن كثير(3/114).
(4) الطارق:13-14].
(5) تفسير ابي السعود(9/142)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير البيضاوي(5/477)وفتح القدير(5/421).
(6) صحيح البخاري،كتاب العلم،باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل،(1/33)رقم(59).(1/288)
ورفع القرآن من شأن الأمانة فقال سبحانه:’’إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها‘‘(1)، والمعنى(إنها لعظمية شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها وأشفقن منها)(2).فالأمانة عظيمة وهي في كلّ شيء مطلوبة،وهي أعم من العهد،وكل عهد فهو أمانة،بل هي تعم جميع وظائف الدّين(3).
ولحكمة بالغة أرادها الله لُقَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل الجاهلية الأولى بالأمين،لأنّ الله سبحانه(قد صانه وحماه من صغره،وطهره من دنس الجاهلية،ومن كل عيب،ومنحه كل خلق جميل حتى لم يعرف بين قومه إلا بالأمين لما شاهدوا من طهارته وصدق حديثه وأمانته،حتى إنّه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه،فقالت كل قبيلة:نحن نضعه،ثمّ اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا:جاء الأمين فرضوا به)(4)؛ذلك أنّ قلوب النّاس تهفوا نحو الفضيلة،فالإنسان بفطرته يتطلع إليها،ويعلم أنّها فضيلة وإن لم يكن هو صاحبها.
__________
(1) الأحزاب:72].
(2) تفسير البيضاوي(4/388).
(3) انظر:تفسير القرطبي(12/107).
(4) ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي،(701-774هـ)،الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم،جزء واحد،تحقيق: محمد العيد الخطراوي،محيي الدين مستو،ط1،مؤسسة علوم القرآن،دار القلم،بيروت،1399هـ.(83)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الفصول).(1/289)
من هنا أثارت قوة موسى وأمانته انتباه تلك المرأة الصالحة حتى قالت لأبيها:’’يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القوي الأمين‘‘(1)،(تقول إنّ خير من تستأجره للرعي القوي على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها،الأمين الذي لا تخاف خيانته فيما تأمنه عليه)(2)،فالقوة والأمانة(تعليل لما وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى،أي إنّه حقيق باستئجارك له لكونه جامعا بين خصلتي القوة والامانة)(3)،فإذا كان قطيع من الغنم يحتاج إلى مَن يتصف بالقوة والأمانة،فكيف بمن يقود أمّة ويحمل لواء المواجهة للطاغوت!
رابعا:الصلابة والخشونة.
حين مواجهة الطاغوت لا بدّ من شخصية تمتاز بالصلابة والخشونة،فالشخصية المدللة المنعمة لا تستطيع المواجهة،فالمواجهة تعني السوط والسجن والزنازين الضيقة المظلمة،والتضييق في الرزق بل والحرب على لقمة العيش،والجراح المؤلمة والمشانق المتدلية..ولا ننسى فراق الأحبة والولد! ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:’’وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير‘‘(4).
__________
(1) القصص:26].
(2) تفسير الطبري(20/63).
(3) فتح القدير(4/169).
(4) صحيح مسلم،كتاب اللباس والزينة،باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع (3/1642)رقم(2069).(1/290)
لهذا كله كانت شخصية موسى عليه السلام صلبة خشنة،فبعد أن شاهدناه مُرفَّها في القصور ها نحن نراه(وحيدا مطاردا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز.مسافات،وأبعاد مترامية،لا زاد ولا استعداد..إنّه في قلب المخافة بعد فترة من الأمن.بل من الرفاهية والطراءة والنّعمى.ونجده وحيدا مجردا من قوى الأرض الظاهرة جميعا،يطارده فرعون وجنده،ويبحثون عنه في كل مكان،لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلا)(1).
ونرى موسى عليه السلام وهو في طريق عودته بعدما قضى الأجل قد(اشتاق إلى أهله،فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة مختف،فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا:واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة وتاهوا في طريقهم،فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف،وجعل يوري زناده فلا يوري شيئا،واشتد الظلام والبرد،فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارا تأجج في جانب الطور،وهو الجبل الغربي منه عن يمينه،فقال لأهله:امكثوا إني آنست نارا-وكأنه-والله أعلم-رآها دونهم،لأنّ هذه النار هي نور في الحقيقة،ولا يصلح رؤيتها لكل أحد-لعلي آتيكم منها بخبر،أي لعلي أستعلم من عندها عن الطريق،أو جذوة من النار لعلكم تصطلون)(2)،يقول تعالى:’’إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون‘‘(3)،فدل هذا على وجود الظلام وعلى كونهم تاهوا عن الطريق.
__________
(1) في ظلال القرآن(6/335)مع بعض التصرف.
(2) البداية والنّهاية(1/246-247).
(3) النمل:7].(1/291)
لقد كان موسى عليه السلام(حديدا خشنا متصلبا في كل شيء)(1)،فقد صلّبته التجارب،فمن الترف إلى شظف العيش،ومن الأمن إلى قلب المخافة،وتلك هي التناقضات التي تكشف عن معادن الرجال،يقول تعالى:’’ونبلوكم بالشر والخير فتنة‘‘(2)،أي(نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى؛فننظر من يشكر ومن يكفر،ومن يصبر ومن يقنط)(3).إنّه البلاء الذي يُنتج الصلابة المطلوبة أمام الطواغيت حين تبدأ المواجهة.
المبحث الثاني
مرحلة المباشَرة في التنفيذ
تأتي مرحلة التنفيذ بعد الإعداد والتهيئة،تأتي وقد تجهز موسى عليه السلام وتسلّح بكل ما هو ضروري لتلك المواجهة.ولا نريد هنا سرد الأحداث فتلك مسألة معلومة،ولكن نريد أن نقرأ حدث المواجهة لاستنباط العناصر الأساسية في تلك المواجهة،وفي كل مواجهة مثلها مع الطواغيت،والتي يُمكن إجمالها فيما يلي:
أولا:بيان هدف الدعوة وغايتها مع تقديم الحجة والبرهان
__________
(1) تفسير البيضاوي(4/67).وانظر:تفسير أبي السعود(6/38).
(2) الأنبياء:35].
(3) تفسير ابن كثير(3/179).وانظر:تفسير القرطبي(11/287).(1/292)
(البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي،أو إظهار المعنى للنفس حتى يتبين من غيره وينفصل عما يلتبس به،أو هو إظهار المتكلم المراد للسامع)(1)؛فالكلمة المبيّنة لهدف الدعوة وغايتها بصورة لا غبش فيها ولا تشويش،وبذل الجهد المستطاع حتى تكون الدعوة مفهومة عند مَن تخاطبه أمر في غاية الأهمية،إذ أنّ قيمة الشيء تكمن في فهمه وإدراكه،فإذا لم تُدرك الجماهير هدف الدعوة وغايتها تبقى الدعوة لا قيمة لها،فنجاح الدعوة-بعد مشيئة الله سبحانه-منوط بوضوح الخطاب ويسره؛ذلك أنّ الله سهّل القرآن وهيأه للذكر والاتعاظ(2)،يقول تعالى:’’ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‘‘(3).ولا بدّ لهذه الكلمة المعبرة الصادقة من تحريك وعي الجماهير حتى تصبح جماهير حيّة قادرة على التمييز والمعرفة،فتعبئة الجماهير فكريا أمر ملح وضروري.
والبيان النّاجح هو البيان الذي يعتمد على الحكمة والموعظة الحسنة،(أي بالمقالة المحكمة الصحيحة،والدليل الموضح للحق المزيح للشبهة،والعبر النافعة المُقنعة على وجه لا يخفى على النّاس وجه الحق)(4)،وذلك بأسلوب لا إفراط فيه ولا تفريط؛فالتشدد في غير موضعه تنفير وتدمير،كما أنّ التفريط إضاعة للحق والدّين.
__________
(1) والبيان أنواع: (بيان التقرير وهو توكيد الكلام بما يرفع احتمال المجاز والتخصيص.وبيان التفسير ما فيه خفاء من المشترك أو المشكل أو المجمل أو الخفي.وبيان التغيير وهو تغيير موجب الكلام نحو التعليق والاستثناء والتخصيص. وبيان الضرورة هو نوع بيان يقع بغير ما وضع له لضرورة إذ الموضوع له النطق وهذا يقع بالسكوت.وبيان التبديل وهو النسخ أي نسخ حكم شرعي بدليل شرعي متأخر).التعاريف(1/149-150)مع بعض التصرف.
(2) انظر:تفسير البيضاوي(5/266)والبرهان في علوم القرآن(3/9).
(3) القمر:17].
(4) تفسير أبي السعود(5/151)مع بعض التصرف.(1/293)
نريد بيانا يكشف عن المعنى المقصود وإظهاره كما هو منهج القرآن،يقول تعالى:’’هذا بيان للناس‘‘(1)،(فالقرآن أعلى منازل البيان وأعلى مراتبه،حيث جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه من تعديل النظم وسلامته وحسنه وبهجته وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان ووقوعه في النفس موقع القبول وتصوره تصور المشاهد..وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما يذهل،ويبهج ويقلق ويؤنس ويطمع ويؤيس ويضحك ويبكي ويحزن ويفرح ويسكن ويزعج ويشجي ويطرب ويهز الأعطاف ويستميل نحوه الأسماع ويورث الأريحية والعزة،وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا،ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا،وله مسالك في النفوس لطيفة ومداخل إلى القلوب دقيقة)(2)،ولا عجب من ذلك فالبيان الناجح له تأثير عظيم على القلوب،يقول صلى الله عليه وسلم:’’إنّ من البيان لسحرا‘‘(3).
__________
(1) آل عمران:138].
(2) الباقلاني:أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم،إعجاز القرآن،جزء واحد ،تحقيق: السيد أحمد صقر،دار المعارف، القاهرة.(1/276-277)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(إعجاز القرآن).
(3) صحيح البخاري،كتاب النكاح،باب الخطبة(5/1976)رقم(4851).(1/294)
ولمّا كان البيان خطوة أولى ذات أهمية قصوى سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل أن يحلل عقدة من لسانه تعينه على البلاغ،’’واحلل عقدة من لساني،يفقهوا قولي‘‘(1)،(أي يعلموا ما أقوله لهم ويفهموه،والفقه في كلام العرب الفهم)(2)،وذلك لأنّه كانت في لسانه عجمه.وذلك معنى قوله:’’ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل الى هارون‘‘(3)،أي ولا ينطلق لساني في المحاجة على ما أحب،فأرسل إلى هارون ليؤازرني ويظاهرني ويعاونني.(وفي هذا دليل على أنّ من لا يستقل بأمر ويخاف من نفسه تقصيرا أن يأخذ من يستعين به عليه،ولا يلحقه في ذلك لوم)(4)،لأنّ الغاية هي البيان وليس التفرد فيه،بل إنّ الواقع اليوم يحتاج إلى تعاون كبير في البيان والتبليغ.
من هنا كانت نقطة البدء عند موسى عليه السلام-في مرحلة المباشرة والتنفيذ-بيان قاعدة رسالتهما:’’إنّا رسولا ربك‘‘(5)،(ليشعر منذ اللحظة الأولى بأنّ هناك إلها هو ربه.وهورب كل الناس.فليس هو إلها خاصا بموسى وهارون أو ببني إسرائيل،كما كان سائدا في خرافات الوثنية يومذاك أنّ لكل قوم إلها أو آلهة،ولكل قبيل إلها أو آلهة.أو كما سائدا في بعض العصور من أن فرعون مصر اله يعبد فيها لأنّه من نسل الآلهة)(6).يجب توضيح الأساس الذي تقوم عليه الدعوة مهما كلّف هذا من ثمن عظيم،لأنّه الأصل الذي يُبنى عليه كل شيء بعده،ولأنّه يُنقذ النّاس من الحيرة وعدم الفهم،وحتى تكون النّاس على بيّنة من أول الأمر.وسنعاني كثيرا إذا لم نبيّن للجماهير أصل دعوتنا ومنبع فكرنا،وسنجد بعد كل محاولة أنّ ثغرة كبيرة تحول بين النّاس وبيننا.
__________
(1) طه:27-28].
(2) تفسير القرطبي(11/193).
(3) الشعراء:13].
(4) تفسير القرطبي(13/92).
(5) طه:47].
(6) في ظلال القرآن(5/476).(1/295)
لقد أوضح موسى عليه السلام حقيقة أمره هكذا مرّة واحدة واضعا كلّ الحقيقة بين يدي الجماهير:’’يا فرعون إنّي رسول من رب العالمين‘‘(1)؛ذلك أنّ وضوح الخطاب أساس في نجاح الدعوة،ولهذا كانت كلمات موسى عليه السلام موجزة معبرة حين قال:’’أن أدّوا إلي عباد الله إنّي لكم رسول أمين،وألاّ تعلو على الله إنّي آتيكم بسلطان مبين‘‘(2)،أي(أن لا تطغو وتبغوا على ربكم فتكفروا به وتعصوه فتخالفوا أمره)(3).
ثمّ نبه عليه السلام إلى وجود الحجة والدليل،فالبيّنة على من ادعى،وذلك كي يقف النّاس-ومنهم فرعون-على الحقيقة التي يدعمها البرهان الساطع الذي لا لبس فيه،فلا يطالب النّاس بالإتّباع إلاّ بعد أن تلزمهم الحجة ويقوم عليهم الدليل،فيؤمن من يؤمن عن بيّنة ويكفر من يكفر عن بيّنة.ولهذا قال:’’قد جئناك بآية من ربك‘‘(4)،أي ببينة تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك،في هذه المهمة التي حددناها،وذلك مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثال بأمرهما،فهو حقيق على أن لا يقول على الله إلاّ الحق،أي جدير بذلك وحريص عليه،فذلك واجب وحق علي أن لا أخبر عنه سبحانه إلاّ بما هو حق وصدق(5).
__________
(1) الأعراف:104].
(2) الدخان:18-19].
(3) تفسير الطبري(25/119).
(4) طه:47].
(5) انظر:تفسير ابن كثير(2/236)وتفسير القرطبي(7/256)والبرهان في علوم القرآن(3/338)..(1/296)
وإظهار اسم الرب مرّة بعد أخرى في خطاب موسى عليه السلام لفرعون كان لتأكيد الحقيقة الأولى أنّ هناك إلها هو رب فرعون ورب كل شيء، وكذلك الحال في قوله تعالى:’’قد جئتكم ببينة من ربكم‘‘(1).أي(قد جئتكم ببرهان من ربكم يشهد أيها القوم على صحة ما أقول وصدق ما أذكر لكم)(2)،ثمّ بيّن له العاقبة بقوله:’’والسلام على من اتبع الهدى‘‘(3)،دون مواربة أو مداهنة،أي(من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه،وليس بتحية،والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب)(4).
__________
(1) الأعراف:105].
(2) تفسير الطبري(9/14).
(3) طه:47].
(4) تفسير القرطبي(11/203).(1/297)
وهذا هو معنى قوله تعالى لموسى وهارون:’’فقولا له قولا لينا‘‘(1)،فالقول الليّن هو(القول الذي لا خشونة فيه.. فإذا كان موسى أُمر بأن يقول لفرعون قولا لينا فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه وأمره بالمعروف في كلامه)(2)،وقد قال تعالى:’’وقولوا للنّاس حسنا‘‘(3)،(فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم،ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة.ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان)(4)،لذلك علم الله سبحانه موسى عليه السلام كيف يخاطب الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب،لعله ينتهي،ويتقي غضب الله وأخذه،وفي(هذه الآية عبرة عظيمة وهي أنّ فرعون في غاية العتو والإستكبار،وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك،ومع هذا أُمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين)(5).يقول تعالى:’’اذهب إلى فرعون إنّه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى‘‘(6)،هل لك الى أن تتطهر من الكفر والطغيان ومن دنس الذنوب؟’’وأهديك الى ربك فتخشى‘‘(7)..هل لك أن أعرفك طريق ربك.فتخافه وتتقيه،إذ الخشية إنّما تكون بعد المعرفة.فما يطغى الإنسان ويعصي إلاّ وهو بعيد عن ربه(8).
__________
(1) طه:44].
(2) تفسير القرطبي(11/200).
(3) البقرة:83].
(4) في ظلال القرآن(5/474).
(5) تفيسر ابن كثير(3/154).
(6) النّازعات:17-18].
(7) النّازعات:19].
(8) انظر:تفسير الطبري(30/39)وتفسير البيضاوي(5/447)وتفسير القرطبي(19/201).(1/298)
ومن هنا-أيضا-نفهم قوله تعالى لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم:’’فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك‘‘(1). أي(فبرحمة من الله لنت لهم أي سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم بالغضب،ولو كنت فظا يعني جافيا سيء الخلق قليل الاحتمال،غليظ القلب لانفضوا من حولك أي نفروا وتفرقوا عنك)(2)،فالقليل من العطف على أخطاء النّاس وهفواتهم،وعدم تتبع عوراتهم وزلاّتهم تقرّب المسافة بيننا وبينهم،وليس هذا تملق أو تزييف للحقيقة بل إيصالها بوجه حسن وأسلوب يرفع قابلية النّاس لاستقبال دعوتنا إلى الله سبحانه.
وهكذا جعل لين الجانب من مظاهر رحمة الله على النبي صلى الله عليه وسلم،ويشبه ذلك قوله تعالى:’’لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم‘‘(3).ممّا(يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى)(4)،كما في قوله تعالى:’’أُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن‘‘(5).
__________
(1) آل عمران:159].
(2) تفسير البغوي(1/365)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير النسفي(1/188)والدر المنثور(2/358)ومعاني القرآن(1/500)وتفسير الثعالبي(1/326)وتفسير الجلالين(1/89).
(3) التوبة:128].
(4) أحكام القرآن للجصاص(2/329).
(5) النحل:125].(1/299)
ولمّا كان لين القول ليس على حساب الحقيقة زاد موسى عليه السلام في بيانه،فقال:’’إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذب وتولى‘‘(1)،أي أنّ العذاب على من كذّب الرسل وتولى عن الإيمان؛ذلك(أنّ القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة،لا يعني الخشونة والفظاظة؛فقد أَمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة-وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة-والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق.فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه.والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة،وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها.فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول)(2)،وهكذا نفهم لين القول لا كما يفهمه بعض المهزومين أمام ضغط الجاهلية والعلمانية والطاغوت.
ثمّ يجب أن ندرك أنّ هذا الخطاب وهذه النبرة كانت في بداية المواجهة مع فرعون،ولكنّه حين أصر على الكفر وهدد وأرعد واتهم موسى بالباطل ردّ عليه موسى عليه السلام بقوله:’’وإنّي لأظنّك يا فرعون مثبورا‘‘(3)،والظنّ هنا بمعنى التحقيق(4)،أي(إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير)(5)،فلا يجب أن نفهم من لين القول في بداية الدعوة والمواجهة أنّه لن تكون هناك مخاشنة إذا اقتضت الأمور،بل إنّ من الضعف أن نواجه صلف الطاغوت بلين نُخفي وراءه ضعف القدرة عن قول كلمة الحق!
ثانيا:القدره على التعامل مع المواقف المختلفة والمستجدة وسرعة البديهة وروح المبادرة
__________
(1) طه:48].
(2) في ظلال القرآن(2/805).
(3) الإسراء:102].
(4) انظر:تفسير القرطبي(10/337).
(5) تفسير الطبري(15/175).(1/300)
لن تنتهي الأمور بهذا الحد من البيان؛فليس قيام الدعاة بعرض دعوتهم بالبيان الشافي والكافي لها،وبذل كلّ جهد مستطاع في إيصال حقائقها نهاية المطاف،فالطاغوت سيحاور ويناور ولن يُقر بالحق بسهولة،وسيحاول دفع الحق بكل وسيلة مستخدما كل مكره ودهائه،ممّا يتطلب وجود مهارات وقدرات خاصة للردّ عليه.وهذا ما سنعرضه من خلال تعامل موسى عليه السلام مع مواقف فرعون المختلفة بما يُثبت ضرورة القدرة على التعامل مع المواقف المستحدثة.ولن نُسهب كثيرا بتعداد الردود بل يكفي منها ما يدلّ على تلك القدرة والبراعة التي يجب أن نُوفرها في الدعاة إلى الله.
موسى عليه السلام يُدير الحوار بنباهة واقتدار
فبعد ما أتياه وقالا له ما أُمرا به(1).قال فرعون:فمن ربكما يا موسى؟و(لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى:’’إنّا رسولا ربك‘‘(2)،وقوله تعالى:’’قد جئناك بآية من ربك‘‘(3)،لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما)(4).قال موسى:ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثمّ هدى’’(5)أي(الذي أعطى كل شيء من الأنواع خلقه صورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن له،أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به..أي أعطى كل مخلوق ما يصلحه.ثمّ عرّفه كيف يرتفق بما أُعطي،وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا.وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها،ودلالته على أنّ الغني القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى،وأنّ جميع ماعداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله)(6).
__________
(1) ولعله حذف لدلالة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله لا محالة)تفسير البيضاوي(4/53).وانظر:تفسير الطبري(16/171).
(2) طه:47].
(3) طه:47].
(4) تفسير أبي السعود(6/19).
(5) طه:49-50].
(6) تفسير البيضاوي(4/54)مع بعض التصرف.(1/301)
و(لما شاهد اللعين مانظمه موسى عليه الصلاة والسلام في سلك الاستدلال من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس أحقية مقالاته عليه الصلاة والسلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بيّنا،فأراد أن يصرفه عليه الصلاة والسلام عن سننه إلى مالا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات،ويشغله عما هو بصدده عسى أن يظهر فيه نوع غفلة؛فيتسلق بذلك إلى أن يدعى بين يدي قومه نوع معرفة)(1)،فقال:’’فما بال القرون الأولى‘‘(2)،(ذلك أنّ فرعون لمّا أخبره موسى بأنّ ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى شرع يحتج بالقرون الأولى،أي الذين لم يعبدوا الله،أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره)(3)،فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة؟قال موسى:’’علمها عند ربي‘‘(4)،أي هو غيب لا يعلمه إلا هو،وإنّما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به في كتاب مثبت في اللوح المحفوظ،ويجوز أن يكون تمثيلا لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة،ويؤيده قوله:’’في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى‘‘(5)،والضلال أن تخطىء الشيء في مكانه فلم تهتد إليه،والنسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك،وهما محالان على العالم بالذات،ويجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة الله تعالى(6).
__________
(1) تفسير أبي السعود(6/20).
(2) طه:51].
(3) تفسير ابن كثير(3/156).
(4) طه:52].
(5) طه:52].
(6) انظر:تفسير البيضاوي(4/54).(1/302)
و(لقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجواب عبقري بديع،حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها،مع أنّه لم يخرج عمّا كان بصدده من بيان شئونه تعالى،ثمّ تخلص إليه حيث قال بطريق الحكاية عن الله عز وجل:’’الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى‘‘(1)،أي جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذات مهد،وجعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم،وسلك لكم فيها سبلا،أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم،وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها،وأنزل من السماء ماء،فأخرجنا بذلك الماء أزواجا من نبات شتى،وذلك دلالة على كمال القدرة والحكمة،والإيذان بأنّه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن تنقاد لأمره وتذعن لمشيئته الأشياء المختلفة)(2).
الطاغوت يثير الشبهات وموسى عليه السلام يرد عليها ويدحضها
__________
(1) طه:53].
(2) تفسير أبي السعود(6/21)مع بعض التصرف.(1/303)
بعد أن صُدم فرعون بدعوة موسى وهارون عليهما السلام،وتفاجأ بقولهما:’’إنّا رسول رب العالمين،أن أرسل معنا بني إسرائيل‘‘(1)،راح يفتش عن شبهة يدحض بها ما به دمار عرشه وذهاب ملكه وبيان دجله وكذبه،فقال موجها الخطاب لموسى عليه السلام:’’ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين،وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين‘‘(2).قال ذلك على جهة المنّ عليه والإحتقار،أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا،ولبثت فينا من عمرك سنين فمتى كان هذا الذي تدعيه؟ثمّ قرره بقتل القبطي بقوله:وفعلت فعلتك التي فعلت،وبّخه بها معظما إياها بعدما عدد عليه نعمته،أي فِعلَتَك الفظيعة التي تعرف،والتي لا يليق الحديث عنها بألفاظ صريحة،فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأنّ الله أرسلك؟وأنت من الكافرين بالنّعم المعتادين لغمطها،ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعا منه،فعمدت إلى قتل خواصي،أو ممن تكفرهم الآن،فإنّه عليه الصلاة والسلام معصوم من الكفر وكان يعايشهم بالتقية،أو أنّه من الكافرين بآلهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم(3).
تلك هي سياسة الطاغوت حين يعمد إلى إشغال الجماعة المسلمة في معارك جانبية تُبعدها عن هدفها الأساسي الذي من أجله تتحرك وتجاهد،ويحاول عبر مناوراته ومؤامراته وضعها في دائرة الإتهام،لتعطيل قدرتها على إحداث التغيير المنشود.حينئذ يجب على الجماعة الإنتباه واليقظة من الفخ المنصوب على الطريق،بحيث تستطيع أن تتخطاه دون أن يؤثر ذلك على الخط العام الذي تسير الجماعة عليه.وهكذا جمع موسى عليه السلام بين الردّ المُحكم على الشبهة المُثارة وبين التقدّم إلى الأمام.فماذا كان جواب موسى عليه السلام؟
__________
(1) الشعراء:16-17].
(2) الشعراء:18-19].
(3) انظر:تفسير القرطبي(13/95)وتفسير البيضاوي(4/234)وتفسير ابي السعود(6/238)وفتح القدير(4/96).(1/304)
قال موسى عليه السلام مجيبا له(مصدقا له في القتل ومكذبا فيما نسبه إليه من الكفر)(1):’’فعلتها إذا وأنا من الضالين،ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين،وتلك نعمة تمنّها علي أن عبدت بني إسرائيل‘‘(2)،أي فعلتها(قبل أن يُوحى إلي ويُنعم الله علي بالرسالة والنبوه)(3)،أو(من الخاطئين لأنّه لم يتعمد قتله،أو من الذاهلين عمّا يؤول إليه الوكز لأنّه أراد به التأديب،أو النّاسين)(4)من قوله تعالى:’’أن تضل إحداهما‘‘(5).(ففررت منكم إلى ربي لما خفتكم أن تصيبونني بمضرة وتؤاخذوني بما لا استحقه-بجنايتي-من العقاب،فوهب لى ربي حكما أي حكمة أو النبوة،وجعلني من المرسلين)(6).
(رد أولا على ما وبّخه به قدحا في نبوته،ثمّ كَرَّ على ما عد عليه من النّعمة،ولم يصرح برده لأنّه كان صدقا غير قادح في دعواه،بل نبَّه على أنّه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببا عنها،فقال:’’وتلك نعمة تمنّها عليّ أن عبدت بني إسرائيل‘‘(7)، أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهرا،وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم،فإنّه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك)(8).وهكذا يُجيب موسى عليه السلام بفطنة ونباهة دون أن تستفزه كلمات واتهامات فرعون،فلربما يُثار بعض المحاورين فيخرجون بسبب ذلك عن المنطق والمعقول.
__________
(1) تفسير أبي السعود(6/238).
(2) الشعراء:20-22].
(3) تفسير ابن كثير(3/333).وانظر:تفسير الطبري(19/67).
(4) تفسير البيضاوي(4/234).
(5) البقرة:282].
(6) تفسير أبي السعود(6/238).
(7) الشعراء:22].
(8) تفسير البيضاوي(4/234-235).(1/305)
(قال فرعون لما سمع منه عليه الصلاة والسلام جواب ما طعن به فيه من تلك المقالة المتينة،وشاهد تصلبه في أمره وعدم تأثره بما قدمه من الإبراق والإرعاد شرع في الإعتراض على دعواه ورأى أنّه لم يرعو بذلك،فبدأ بالإستفسار عن حقيقة المُرْسِل،’’قال فرعون وما رب العالمين‘‘(1)،حكاية لما وقع في عباراته عليه الصلاة والسلام،أي أيُّ شيء رب العالمين الذي ادعيت أنّك رسوله؟متهكما على القول والقائل،ومنكرا لأن يكون للعالمين رب سواه حسبما يعرب عنه قوله:’’أنا ربكم الأعلى‘‘(2)،وقوله:’’ما علمت لكم من إله غيري‘‘(3)، وينطق به وعيده عند تمام أجوبته عليه الصلاة والسلام)(4).
فأجاب موسى بقوله:’’رب السموات والأرض وما بينهما‘‘(5)،(وهو جواب يُكافئ ذلك التجاهل ويغيظه.إنّه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك-يافرعون- ولا علمك. وقصارى ما ادعاه فرعون أنّه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل.وهو ملك صغير ضئيل،كالذرة والهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما.وكذلك كان جواب موسى-عليه السلام-يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه،وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل،والتفكير فيمن يكون ربه..فهو رب العالمين!)(6)...ثمّ عقب على هذا التوجيه بما حكايته:’’إن كنتم موقنين‘‘(7)،أي(إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره وإنارة دليله)(8).
قال فرعون عند سماع جوابه عليه الصلاة والسلام خوفا من تأثيره في قلوب قومه وإذعانهم له لمن حوله من أشراف قومه:’’ألا تستمعون‘‘(9)،أي جوابه.سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله(10).
__________
(1) الشعراء:23].
(2) النّازعات:24].
(3) القصص:38].
(4) تفسير أبي السعود(6/239).
(5) الشعراء:24].
(6) في ظلال القرآن(6/203).
(7) الشعراء:24].
(8) تفسير أبي السعود(6/239).
(9) الشعراء:25].
(10) انظر:تفسير البيضاوي(4/235)وروح المعاني(19/72).(1/306)
قال موسى تصريحا بما كان مندرجا تحت جوابية السابقين،وحطا لفرعون من ادعاء الربوبية إلى مرتبة المربوبية:’’ربكم ورب آبائكم الأولين‘‘(1)،عدولا إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل(2)،(فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا رب كما يدعيه،والمعنى أنّ هذا الرب الذى أدعوكم إليه هو الذى خلق آباءكم الأولين وخلقكم فكيف تعبدون من هو واحد منكم مخلوق كخلقكم وله آباء قد دُفنوا كآبائكم؟فلم يجبه فرعون عند ذلك بشىء يعتد به بل جاء بما يشكك قومه،ويخيل إليهم أن هذا الذى قاله موسى مما لايقوله العقلاء)(3).
(وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه وأوضاعه،فهو يجبهه بأنّ رب العالمين هو ربه،فما هو إلا واحد من عبيده.لا إله كما يدعي بين قومه!وهو رب قومه،فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم!وهو رب آبائهم الأولين.فالوارثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة.فما كان من قبل إلا الله رب للعالمين!)(4).
حينئذ خاف من تأثر قومه منه،فأراهم أنّ ما قاله عليه الصلاة والسلام مما لا يصدر عن العقلاء صدا لهم عن قبوله،فقال مؤكدا لمقالته الشنعاء بحرفي التأكيد:’’إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‘‘(5)،أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر.قال ذلك ليفتنهم ويصرفهم عن قبول الحق،وسمّاه رسولا بطريق الإستهزاء،وأضافه إلى مخاطبية ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه(6).
__________
(1) الشعراء:26].
(2) روح المعاني(19/72).
(3) فتح القدير(4/97).
(4) في ظلال القرآن(6/203).
(5) الشعراء:27].
(6) انظر:تفسير أبي السعود(6/239)وتفسير البيضاي(4/235)وفتح القدير(4/97).(1/307)
قال موسى تكميلا لجوابه الأول وتفسيرا له وتنبيها على جهلهم وعدم فهمهم:’’رب المشرق والمغرب وما بينهما،إن كنتم تعقلون‘‘(1)،تشهدون كل يوم أنّه يأتي بالشمس من المشرق،ويُحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات،فإن كان لكم عقل علمتم أن لاجواب لكم فوق ذلك،وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة،وتلويح بأنّهم بمعزل من دائرة العقل،وأنّهم المتصفون بما رموه عليه الصلاة والسلام به من الجنون.لايَنَهُم-عليه السلام-أولا ثمّ لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم،وعارضهم بمثل مقالهم(2).
قال اللعين لمّا سمع من موسى عليه الصلاة والسلام تلك المقالات المَبنِيّة على أساس الحكم البالغة،وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تَمشِية أمره،وأنّه ممن لا يُجاري في حلبة المحاورة،ضرب صفحا عن عن المقاولة بالإنصاف،ونأى بجانبه إلى عدوة الجور والإعتساف.فقال مظهرا لما كان يضمره عند السؤال والجواب:’’لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنّك من المسجونين‘‘(3)،عدولا إلى التهديد عن المحاجة بعد الإنقطاع،وهكذا دين المعاند المحجوج،وتلك هي مأساة الطواغيت في كل زمان ومكان(4).
__________
(1) الشعراء:28].
(2) انظر:تفسير البيضاوي(4/236)وتفسير أبي السعود(6/240)وروح المعاني(19/73)
(3) الشعراء:29].
(4) انظر:تفسير أبي السعود(6/240)وتفسير البيضاوي(4/236)وفتح القدير(4/98).(1/308)
إنّنا ومن خلال هذا الحوار الذي أداره موسى عليه السلام وكيفية ردّه على الشبهات والأسئلة التي أثارها فرعون ندرك مدى ما كان يتمتع به موسى من قدرة على الحوار والمناقشة والإقناع بالحجة والدليل والمنطق الواضح السليم.وهذا يعني أنّ من أراد أن يتصدر للدعوة إلى الله-وخصوصا هذه الأيام حيث تثار الشُّبَهُ من الأعداء-لا بدّ له من قدرات ومهارات خاصة بالإضافة إلى سعة العلم والاطلاع وخصوصا على ثقافة العصر ولغته وما يدور فيه من أحداث وأفكار.
إنّ سعة الصدر وغزارة العلم مؤهلات ضرورية لكل من أراد أن يتصدر طاولة الحوار والمناقشة؛ذلك أنّ مناقشة الشبهات والآراء تستلزم مثل هذه المؤهلات.ومن هنا فإنّنا نُؤاخذ كل من يضع نفسه في مقام لا يستطيع القيام بما يمليه عليه ذلك المقام،بل إنّ هناك من يتصدر للدعوة في ظروف معينة ويفشل في إدارة الحوار ويعجز عن الرد،وبالتالي يُظهر الإسلام وكأنّه دين ضعيف،فيسيء من حيث أراد الإحسان،وربما-وللأسف-هناك من يعدُّ الظهور في الحوارات نوعا من الوجاهة ولو كانت على حساب الدين،وهذه طامة كبرى.
كما لا بد-للمتصدر للحوار-أن تتوفر فيه الشجاعة لقول كلمة الحق ،وأن لا يداهن على حساب هذا الدين،طمعا في منصب أو جاه أو مال!وعليه أن لا يُساير الباطل ولو قيد أُنملة.وهناك من يأتي بالعبارات المبهمة يتحاشى بذلك قول الحقيقة الساطعة الواضحة؛فتبقى الأمور ضبابية غير معلومة عند الجماهير الذين يشاهدون ويسمعون،وهي علة يُعاني منها الخطاب الإسلامي،وسبب في تعثر المسير نحو الهدف.
وفي مقابل المبهوتين بالحضارة الغربية والداعين لتطوير الدّين ليواكب-بزعمهم-لغة العصر يأتي المتنطعون،والذين يُظهرون الدّين كما وأنّه زنزانة فكرية متحجرة،ويظنون بهذا أنّهم يُحافظون على الدين ويخدمونه،وهم بذلك يقضُونَ عليه ويخربونه ويُنَفِرُّون النّاس منه،بل إنّ هناك من لو ترك الأمر إليهم لمات هذا الدّين ولفقد قدرته على الحياة.(1/309)
نحن بحاجة إلى إتقان الوسطية وعرضها على النّاس بأسلوب جذّاب،نرد به على الشبهات بلباقة وحنكة ومهارة،ونقنع النّاس بديننا بالتي هي أحسن،وتلك هي الحكمة التي أرادها الله،’’ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا‘‘(1).أي الفقه والفهم والإصابة في القول والفعل(2).
موسى عليه السلام يُجيد ترتيب المباراة مع السحرة
إنّ براعة موسى علية السلام ومهارته وفطنته لتظهر ساطعة في ترتيب المباراة مع السحرة،ذلك أنّ فرعون كذّب وأبى الإيمان والطاعة لعتوه،وادعى أنّ موسى ما جاء إلاّ ليخرجهم من أرضهم بسحره،ولولا عِلمه بالحق الذي جاء به موسى لما خاف منه على ملكه،فإنّ الساحر لا يقدر أن يُخرج ملكا مثله من أرضه(3)،ولكنّه كابر وأكدّ أنّه سيأتي بسحر مثل سحر موسى-بزعمه-ليعارضه به،وقال:’’فلنأتينّك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نُخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى‘‘،أي(مكان عدل بيننا وبينك)(4).وإنّما(فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه الصلاة والسلام للإحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال وإظهار الجلادة،وإراءة أنّه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر)(5).
__________
(1) البقرة:269].
(2) انظر:تفسير الطبري(3/89-90).
(3) انظر:تفسير البيضاوي(4/56).
(4) تفسير الطبري(16/176).
(5) تفسير أبي السعود(6/24).(1/310)
وقبل موسى عليه السلام التّحدي وزاد في توسيع دائرة الحضور مستغلا عنجهية فرعون وغطرسته في التحضير العريض لتلك المباراة الشهيرة،وقال:’’موعدكم يوم الزينة وأن يُحشر النّاس ضحى‘‘(1)،ويوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع النّاس فيه،و(هو يوم عيدهم،وتفرغهم من أعمالهم،وإجتماع جميعهم،ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية،ولهذا قال:وأن يُحشر النّاس أي جميعهم ضحى أي ضحوة من النّهار، ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح،وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج،ولهذا لم يقل ليلا ولكن نهارا ضحى)(2)،وإنّما قال ذلك ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد،ويشيع ذلك في الأقطار(3).
وتظهر صلابة موسى عليه كما تظهر براعته في ردّه على السحرة،حين بدأ مطمئنا إلى الحق الذي معه،وغير مكترث لجموع السحرة المحشودين من المدائن المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة،ومن وراءهم فرعون وملؤه،وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة..لقد تجلى هذا الإطمئان والثبات والصلابة والبراعة في تركه إياهم يبدأون،بل وبالإجابة المختصرة،حين’’قالوا يا موسى إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون أول من ألقى‘‘(4)،فقال موسى:’’بل ألقوا‘‘(5)،إظهارا لعدم المبالاة بسحرهم،وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم وتغيير النظم إلى وجه أبلغ،ولكي يبرزوا ما معهم ويستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر الله سلطانه،فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه(6).
__________
(1) طه:59].
(2) تفسير ابن كثير(3/157).
(3) انظر:تفسير البيضاوي(4/57).
(4) طه:65].
(5) طه:66].
(6) انظر:تفسير البيضاوي(4/59)،تفسير ابن كثير(2/428).(1/311)
وفي هذا القدر من الأمثلة كفاية في إظهار ضرورة توفر القدره على التعامل مع المواقف المختلفة والمستجدة وسرعة البديهة وروح المبادرة.فهناك مواقف لا تحتمل التأجيل ممّا يستدعي اتخاذ الموقف السريع والمناسب،وهناك أمور طارئة ومعقدة يخلقها الطاغوت وتبدعها عقليته الخبيثة،وهي بحاجة إلى حكمة في المعالجة.وكلّ ذلك يوُجب مهارات عالية وقدرات كبيرة وتدريب طويل ومعاناة حقيقية في حمل الدعوة،ففقهنا فقه حركة لا فقه أوراق ميّتة.
عبرة
إنّ هناك من يخلق الحدث،وهناك من ليس له دور إلا الردّ على ما يحدث،والفرق واضح بين الفعل وردة الفعل في تسيير الأحداث.من هنا لا يجب علينا ونحن نخوض جهادنا في نشر دعوتنا أن نكون دائما في مربع الرد في التعامل مع الأحداث بل يجب أن نتقدم نحو الأمام لصناعة الحدث،فالطاغوت يريد المعركة في زمان ومكان معينين،ونحن نريدها غير ذلك.هنا تظهر روح المبادرة والإيجابية في الحركة.وخير دليل ما كان في مكة حيث استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلب الإنتباه إلى دعوته،وأن يكون هو المحرك للأحداث رغم قلة العدد والعدة.
وهذا لا يعني أنّنا لا نرد على الأحداث بل يجب أن نردّ وأن نتفاعل مع الواقع،ولكن ينبغي أن يكون ردنا وتفاعلنا تفاعلا وردا إيجابيا حركيا لا ردا جامدا سلبيا.فإذا نحن أتقنا الرد والتفاعل الحركي الكامل نستطيع أن نفوت الفرصة على الأعداء والطواغيت،ومن ثمّ لا نمنحهم قدرة الإنجاز من خلال أعمالهم ومنواراتهم.
المبحث الثالث
مرحلة مواجهة الإبتلاءات والمحن بعد إفلاس الطاغوت في الحجة والبرهان(1/312)
تبدأ مرحلة الإبتلاء عادة بعد أن يشعر الطاغوت بالإفلاس والخطر،فينتقل من الحجة والبيان إلى العصا والسنان،وتلك سنة الظالمين على مدار التاريخ،حيث يكبر عليهم التذكير بآيات الله والدعوة إليه،فلا يعودون يتحملون سماع كلمة الحق،وتضيق بها صدورهم،فقوم نوح قالوا:’’لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين‘‘(1)،ويستنكر أبو إبراهيم دعوة ابنه ويقول:’’أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنّك‘‘(2)،وقوم شعيب قالوا:’’لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا‘‘(3)..وهكذا قالوها:’’لئن لم تنتهوا لنرجمنّكم وليمسنّكم منّا عذاب أليم‘‘(4)؛ذلك أنّ المرور بمرحلة الإبتلاء سنّة من الله لتمحيص الصف المؤمن،ولتنقيته من المنافقين،ولتخليص النّفوس من الأهواء والمصالح الخاصة..فهي مرحلة تهيأة للقيادة وتحمّل الرسالة والأمانة..ومن أجل هذا كانت الوسائل المُحققة لتلك المعاني والقيم،ثمّ لتحقيق الإنجاز والانتصار.يقول تعالى:’’أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ‘‘(5)؛ذلك أنّ التمكين لمن ليس أهلا لتحمل الأمانة والقيادة يُلحق ضررا بسمعة الحق الذي يدعون حمله،وهو ما يُشير إليه قوله تعالى:’’الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوُا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‘‘(6)،وفي ذلك(إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون)(7).
__________
(1) الشعراء:116].
(2) مريم:46].
(3) الأعراف:88].
(4) يس:18].
(5) العنكبوت:2].
(6) الحج:41].
(7) روح المعاني(17/212).(1/313)
لقد فرض فرعون المعركة على موسى حين أضحى نظام فرعون قلقا مضطربا بسبب الإخفاقات المتتالية له ولحزبه،وخصوصا تلك الهزيمة النكراء التي انتهت بها تلك المباراة الشهيرة مع السحرة؛فتوافرت بواعث المعركة وكشف الطاغوت عن حقيقته المجرمة،وأقبلت المحن والإبتلاءات؛فقتل فرعونُ السحرة بعد أن أعلنوا إيمانهم،وأعاد القتل على بني إسرائيل ونشر الرعب في قلوب النّاس..أقبلت المحن،ونحن مصرون على المضي في الطريق،فكيف السبيل لمواجهتها؟هذا ما سنذكره بعد طول نظر بتلك المحنة الكبرى،حيث أرشدنا القرآن الكريم لعدة وسائل لمواجهة تلك المحنة وكل محنة قد تُواجُهنا في المستقبل.
وسائل مواجة الإبتلاءات والمحن
إنّ وجود المحن ليس مبررا للقعود عن القيام بالواجب،ولو كان الأمر كذلك لما أُمرنا بالجهاد في سبيل الله،ولما كان الشهداء والجرحي والأسرى..إنّ الله سبحانه وتعالى حين فرض علينا القيام بتلك المواجهة مع الطاغوت أرشدنا إلى ما به نستطيع خوض غمار تلك الملحمة،وكل من لا يقوم بتلك المهمة والتكليف فهو آثم عند الله،فما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.من هنا تأتي أهمية بيان وسائل مواجهة المحن.
الوسيلة اللأولى:التعبئة الروحية(1/314)
هي فعل كلّ ما من شأنه أن يقرّب العبد من ربه،وتجعله زاهدا في هذه الدنيا وما فيها،مقبلا على ما عند الله فهو خير وأبقى،ولقد أثبتت التجارب قديمها وحديثها أنّ الفئة المؤمنة المتمسكة بحبل الله هي الفئة القادرة على التضحية بالمال والنفس؛فالإنسان بطبعه ينظر إلى ما وراء عمله وجهده،فإذا لم يكن عنده تطلع إلى الآخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين فما الذي يجعله يثبت ويُقدّم التضحيات؟وإذا كان تصوره محدود في هذه الأرض فكيف يستطيع أن يواجه الطاغوت؟فمن المستحيل قطعا أن ننتصر على الطاغوت ونحن تمتلؤ قلوبنا بحب الدنيا والتّعلق بها،ذلك أنّ الله لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه،فكلما(توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق)(1).
إنّها التعبئة القادرة على انتزاع الخوف من الطاغوت،يقول تعالى:’’فلا تخشوا النّاس واخشون‘‘(2)،وهذا نهى لأَتْباعِ الحق عن خشيتهم غير الله(3)،وبها-أيضا-نتخلص من حظ النفس وحظ الشيطان،يقول تعالى:’’فاعبد الله مخلصا له الدين‘‘(4)،أي من الشرك والرياء؛فالإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه(5)،ولن يكون هذا إلاّ بتعبئة روحية مستمرة لا تنقطع أرشد الله-سبحانه-إليها موسى ومن معه من المؤمنين،ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولا:ذكر الله
__________
(1) أبجد العلوم(1/124).
(2) المائدة:45].
(3) انظر:تفسير النسفي(1/284).
(4) الزمر:2].
(5) انظر:تفسير البيضاوي(5/57)وفتح القدير(4/448).(1/315)
بذكر الله تطمئنّ القلوب،وترجع لجميع أقضية الحق،يقول تعالى:’’ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب‘‘(1)،أي تسكن وتستأنس بذكره فتطمئنّ(2)؛فالذكر صفاء القلب وذهاب الظلمة النفسانية وحصول الذوق والشوق(3).وذكر الله سبحانه مطلوب في كل حين،وهو عند الشدائد آكد،فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب:’’لا إله إلا الله العظيم الحليم،لا إله إلا الله رب العرش العظيم،لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم‘‘(4).وكم نحن بحاجة إلى تلك الطمأنينة حين يشتد النّزال مع الطاغوت.
__________
(1) الرعد:28].
(2) انظر:تفسير الطبري(13/145).
(3) انظر:فيض القدير(5/409).
(4) صحيح مسلم،كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار،باب دعاء الكرب(4/2092)رقم(2730).(1/316)
وبالذكر تكون المعية مع الله،ففي الحديث القدسي’’وأنا معه حين يذكرني‘‘(1)،أي(معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة)(2).تلك المعية التي أيقنها موسى عليه السلام حين(لحق فرعون بجمعه-أي جمع موسى-وقرب منهم ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم،وقالوا لموسى:’’إنّا لمدركون‘‘(3)،فردّ عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر)(4)،فكان جوابه عليه السلام لهم:’’كلاّ إنّ معي ربي سيهدين‘‘(5).(فعندما ضاق الأمر اتسع،فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه،فضربه فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم)(6).
إنّه اليقين بوعد الله:’’لا تخافا إنّني معكما أسمع وأرى‘‘(7)،أي(لا تخافا منه فإنّني معكما أسمع كلامكما وكلامه،وأرى مكانكما ومكانه لا يخفى عليّ من أمركم شيء،واعلما أنّ ناصيته بيدي،فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلاّ بإذني وبعد أمري،وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي)(8).
__________
(1) صحيح مسلم،كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار،باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى(4/2067)رقم(2675).
(2) السيوطي:أبو الفضل،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال(849-911هـ)،الديباج على صحيح مسلم،6أجزاء،تحقيق: أبو إسحاق الحويني الأثري،دار ابن عفان،الخبر-السعودية،1416هـ-1996م.(6/44/2675)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الديباج).
(3) الشعراء:61].
(4) تفسير القرطبي(13/106).
(5) الشعراء:62].
(6) تفسير ابن كثير(2/431).
(7) طه:46].
(8) تفسير ابن كثير(3/155).(1/317)
ولهذا أُمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وأُمر كذلك بالوسيلة التي تُعينه على تلك المواجهة الساخنة وما تحمله من مشاق كبيرة،حيث أرشده الله سبحانه وتعالى إلى الإكثار من ذكره،فقال سبحانه:’’ولا تنيا في ذكري‘‘(1)،أي(لا تفترا ولا تقصرا في ذكري،أي بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ،وقيل:المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي،فإن الذكر يقع على جميع العبادات وهو أجلها وأعظمها،وقيل:لا تنسياني حيثما تقلبتما،واستمدا بذكري العون والتأييد،واعلما أنّ أمرا من الأمور لا يَتَأَتى ولا يتسنى إلا بذكري)(2).
__________
(1) طه:42].
(2) تفسير أبي السعود(6/17).وانظر:الدر المنثور(5/579)وتفسير الثعالبي(3/30)وتفسير البيضاوي(4/51)وتفسير النسفي(3/55).(1/318)
و(ينبغي للعبد أن لا يشغله شيء عن ذكر الله،وأن يلتجئ إليه عند الشدائد،ويُقبل عليه بكليّته فارغ البال،واثقا بأنّ لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال)(1)،ولهذا كان التوجيه الرّبانيّ لتعريف أهل الإيمان بالأفعال التي تُرجى لهم باستعمالها عند لقائهم عدوهم النصرة عليهم والظفر بهم’’يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله (2)كثيرا لعلكم تفلحون‘‘(3)،أي أُذكروا الله عند جزع قلوبكم،فإنّ ذكره يُعين على الشدائد،ويثبت القلب على اليقين،وذكر اللسان الموافق للجنان لاتكون إلاّ عن قوة المعرفة واتقاد البصيرة(4).
ثانيا:إقامة الصلاة.
__________
(1) تفسير أبي السعود(4/25)مع بعض التصرف.
(2) للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال:الأول:أُذكروا الله عند جزع قلوبكم،فإنّ ذكره يُعين على الثبات في الشدائد.الثاني:اثبتوا بقلوبكم واذكروه بألسنتكم،فإنّ القلب لايسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان،فأُمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين،ويثبت اللسان على الذكر،ويقول ماقاله أصحاب طالوت:’’ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‘‘،وهذه الحالة لاتكون إلا عن قوة المعرفة واتقاد البصيرة،وهي الشجاعة المحمودة في الناس.الثالث:اذكروا ماعندكم من وعد الله لكم في اتباعه أنفسكم ومثامنته لكم.قلت:والأظهر أنهّ ذكر اللسان الموافق للجنان.ولهذا قالوا:لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا،يقول الله عز وجل:’’ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا‘‘،ولرخص للرجل في الحرب،يقول الله عز وجل:’’إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا‘‘)تفسير القرطبي(8/23-24)مع بعض التصرف.
(3) الأنفال:45].
(4) انظر:تفسير القرطبي(8/23-24)،فتح القدير(2/315).(1/319)
هناك صلة بيِّنة بين الصلاة والذكر،فالصلاة ذكر مخصوص،وقد سمّى الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله:’’فاسعوا إلى ذكر الله‘‘(1)،وفي قوله تعالى:’’وأقم الصلاة لذكري‘‘(2)؛ذلك أنّ الصلاة مفزع كل مؤمن حين الشدائد والمحن والنوازل،يقول تعالى:’’وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيتوا واجعلوا بيتكم قبلة واقيموا الصلاة وبشر المؤمنين‘‘(3)،وذلك(لمّا اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أُمروا بكثرة الصلاة)(4)،وذلك كقوله تعالى:’’يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة‘‘(5).أي(التوسل في الصلاة والإلتجاء إليها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية..حتى تجابوا الى تحصيل المآرب وجبر المصائب)(6).
__________
(1) الجمعة:9].
(2) طه:14].
(3) يونس:87].
(4) تفسير ابن كثير(2/429).
(5) البقرة:153].
(6) تفسير أبي السعود(1/98)مع بعض التصرف.(1/320)
وفي هذا إرشاد لنا إلى الأساس الذي تُبنى عليه الجماعة المسلمة كي تكون مؤهلة للمواجهة،سواء كان الطاغوت متمثلا بفرعون أو بغيره،إذ أنّ المهم هو القدرة على تكلفة المواجهة،و(الصلاة من أكبر العون على الثبات)(1)..ولهذا كان في ديننا صلاة الخوف في ساحة المعركة لأنّها(سلاح من أسلحة المعركة.بل إنّها السلاح!فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح،بما يتناسب مع طبيعة المعركة،وجو المعركة !)(2)؛فذكر الله عند لقاء العدو ومواجهة الطواغيت(يؤدي وظائف شتى:إنّه الإتصال بالقوة التي لا تغلب؛والثقة بالله الذي ينصر أولياءه..وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها،فهي معركة لله،لتقرير ألوهيته في الأرض،وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية؛وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا؛لا للسيطرة،ولا للمغنم،ولا للإستعلاء الشخصي أو القومي..كما أنّه توكيد لهذا الواجب-واجب ذكر الله-في أحرج الساعات وأشد المواقف..وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة؛يحققها هذا التعليم الرباني)(3).
إنّ الصلاة طهرة من الذنوب،وهي نور المؤمنين كما في الحديث’’والصلاة نور‘‘(4)،فالصلاة نور مطلق،فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم،تشرق بها قلوبهم،وتستنير بصائرهم بأنوار المعارف ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها وإقباله إلى الله تعالى بظاهره وباطنه..تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى الصواب،وهي نور تُوضِّح الطريق إلى الآخرة(5)..والصلاة صلة بين العبد وربه،فمن تحقق بالصلة سطعت في قلبه الحقيقة،فلا وهمٌ ولا همٌ ولا حيرة(6).من هنا تبدو قيمة الصلاة..
ثالثا:الدعاء.
__________
(1) تفسير ابن كثير(1/88).
(2) في ظلال القرآن (2/506).
(3) المصدر السابق(4/26).
(4) صحيح مسلم،كتاب الطهارة،باب فضل الوضوء (1/203)رقم(223).
(5) انظر:فيض القدير(4/291).
(6) المصدر السابق(1/389).(1/321)
والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدة،وهو مطلوب من العبد لإظهاره موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل والتذلل له والخضوع(1)،فمن العبد المسألة والدعاء ومن الله الإجابة والعطاء،قال الله تعالى:’’ادعوني أستجب لكم،إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين‘‘(2)،أي إنّ الذين يستكبرون عن دعائي سيدخلون جهنّم أذلاء صاغرين(3)،وهذا من الله جلّ شأنه وعيد شديد،(فهو سبحانه يحب أن يُسأل،وأن يلح عليه،ومن لم يسأله يبغضه،والمبغوض مغضوب عليه،وهذا يدل على أنّ رضاه في مسألته وطاعته،وإذا رضي الرب تعالى فكل خير في رضاه،كما أنّ كل بلاء ومصيبة في غضبه)(4).
والدعاء من أهم السبل التي يعتمدها المؤمن في كل وقت،وتشتد الحاجة إليها عند المصاعب والمصائب،وإنّ أشد الحالات حرجا هي تلك التي يُواجَهُ بها المؤمنون بطاغية من أمثال فرعون،فيلجأون إلى من يسمع شكواهم ويقضي حاجاتهم ويفرج الضيق عنهم،فإنّه لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه وهو القائل في كتابه:’’وقال ربكم ادعوني أستجب لكم(5)‘‘(6).
__________
(1) انظر:تفسير القرطبي(7/225).
(2) غافر:60].
(3) انظر:تفسير الطبري(24/79)وروح المعاني(24/81).
(4) فيض القدير(3/12).
(5) والظاهر أن الإجابة هنا هي باقية على معناها اللغوي،وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي القبول للدعاء أي جعله عبادة متقبلة، فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة،والمراد أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف شاء،فقد يحصل المطلوب قريبا،وقد يحصل بعيدا،وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه،وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه)فتح القدير(1/184-185).
(6) غافر:60].(1/322)
فالواجب على المؤمنين أن يرفعوا مسألتهم إلى ربهم،فهو سبحانه القادر على كشف الضرّ وإجابة المضطر،يقول تعالى:’’أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء‘‘(1).(فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة،وتشتد الخنقة،وتتخاذل القوى،وتتهاوى الأسناد؛وينظر الإنسان حوله فيجد نفسه مجردا من وسائل النُّصرة وأسباب الخلاص.لا قوته،ولا قوة في الأرض تنجده.وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى؛وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى..في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة)(2).يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:’’إنّ الله يقول:أنا ثَمَّ ظنَّ عبدي بي وأنا معه إذا دعاني‘‘(3)،فإذا انقطعت الأسباب توجّه المؤمنون إلى ربّ الأسباب.
إنّ الله سبحانه وتعالى قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه،يقول سبحانه:’’وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‘‘(4).روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،فكنّا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا،فقال النبي صلى الله عليه وسلم:’’يا أيها الناس،أربعوا على أنفسكم،فإنّكم لا تدعون أصم ولا غائبا،إنّه معكم إنّه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده‘‘(5)؛فباب رحمته جلّ شأنه مفتوح لا يغلق أبدا.
__________
(1) النمل:62].
(2) في ظلال القرآن(6/294-295).
(3) صحيح مسلم،كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار،باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى(4/2067)رقم(2675).
(4) البقرة:186].
(5) صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير(3/1091)رقم(2830).وأربعوا(أي ارفقوا)فتح الباري(6/135).(1/323)
والدعاء سنّة الأنبياء والصالحين.وهكذا كان موسى عليه السلام متوجها إلى ربه رافعا مسألته إليه،حيث نجد هذا الدعاء من موسى عليه السلام في كتاب الله مرّة تلو مرّة، ممّا يؤكد لنا أنّ الدعاء جزء مهم من أدوات المواجهة مع فرعون،فعند أول مواجهة مع الظالمين،وبعد أن وكز موسى عليه السلام القبطي فقضى عليه،وتمّت ملاحقته عليه السلام من قبل فرعون وجنوده وأجهزة مخابراته وأصبح في المدينة خائفا يترقب،عند ذلك قال:’’ربّ نجّني من القوم الظالمين‘‘(1)،فهو يطلب الحماية من الله سبحانه وتعالى ،وأن ينجيه منهم،ولقد استجاب الله لدعائه.
ولمّا اقتربت ساعة المواجهة رفع موسى حاجته لمن تُرفع له الحاجات ويقضيها قائلا:’’رب اشرح لي صدري،ويسر لي أمري،واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي،واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي،اشدد به أزري،وأشركه في أمري‘‘(2)،..ولقد أُجيبت دعوته’’قد أوتيت سؤلك يا موسى‘‘(3)،فشرح الله صدره،ويسّر أمره،وقضى سؤله.
وها نحن نرى موسى عليه السلام(يدعو على فرعون وملئه لمّا أبوا قبول الحق،واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا وتكبرا وعتوا،حينئذ قال:’’ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا‘‘(4)،أي من أثاث الدنيا ومتاعها،وأموالا جزيلة كثيرة في هذه الحياة الدنيا،’’ربنا ليضلوا عن سبيلك‘‘(5)،أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم)(6).
__________
(1) القصص:21].
(2) طه:25-32].
(3) طه:36].
(4) يونس:88].
(5) يونس:88].
(6) تفسير ابن كثير(2/430)مع بعض التصرف.(1/324)
بعد هذا يسأل موسى ربه أن يمحق أمواله ويشدد على قلوبهم،’’ربنا اطمس على قلوبهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم،قال قد اجيبت دعوتكما‘‘(1).إنّه عليه السلام يدعو ربّه(لتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء،وأن يطمس اللّه على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها،بحيث لا ينتفع بها أصحابها)(2).
وها هو موسى يتوجه إلى الله بالدعاء حين أحس أن القوم لن يؤمنوا له ولن يستجيبوا لدعوته؛ولن يسالموه أو يعتزلوه.وبدا له إجرامهم أصيلاً عميقاً لا أمل في تخليهم عنه.عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير:’’فدعا ربه أنّ هؤلاء قوم مجرمون‘‘(3)،فاستجاب الله دعاءه فأغرقهم أجمعين.
ومن الشواهد(4) على أهمية الدعاء ما نطق به السحرة حين تعرّضوا لفتنة القتل والصلب،حين قالوا:’’ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين‘‘(5)،فهناك ساعات لا بدّ فيها من معونة الله ومدده،فاستجاب الله لهم فثبّتهم على أبشع صورة قتل في التاريخ.
ونجد الدعاء حاضرا في قلوب الفئة القليلة التي آمنت بموسى عليه السلام حين خافت الفتنة من القوم الظالمين فتوجهت إلى الله بالدعاء،’’ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين،ونجنا برحمتك من القوم الكافرين‘‘(6).إنّهم لجئوا إلى من يجب اللجوء إليه.
__________
(1) يونس:88-89].
(2) في ظلال القرآن(4/470-471).
(3) الدخان:22].
(4) لست هنا بصدد استقصاء كل الأدعية الواردة في هذه المواجهة،وإنّما يكفي ما يدلّ على أنّ الدعاء وسيلة حاضرة فيها.
(5) الأعراف:126].
(6) يونس:85-86].(1/325)
وهنا لا بدّ من تنبيه حيث أنّ بعض المسلمين يُقصِّرون في الدعاء إمّا عن جهل وقلة علم،وإمّا عن عدم ثقة بالإجابة،وهنا تكمن الكارثة.نعم قد تتأخر الإجابة إلى حين يُقدره الله بعلمه ولحكمة يعلمها هو سبحانه،ولذلك تجد كثيرا من النّاس يقولون:قد دعونا على الأعداء فلم يزدادوا إلاّ قوة وعنجهية!والجواب أنّ الإجابة لا تكون كما يهوى النّاس ويتصورون،فقد يكون التأخير لابتلاء الإيمان في الصدور،وقد يكون لتصفية الصف المسلم من المُحبَطين،وقد يكون استدراجا للعدو فيبالغ في الاستكبار والتمرد والغفلة…فلحكمة ما تُؤجل الإجابة،والواجب إذا هو الثقة المطلقة بالإجابة ولو بعد حين،بل ربما يدخر الله إجابتها إلى يوم القيامة في ميزان الحسنات،(فالاستقامة في الدعاء ترك الاستعجال في حصول المقصود،ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا باستقامة السكينة فيه،ولا تكون السكينة إلا بالرضا الحسن لجميع ما يبدوا من الغيب)(1).
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:’’يستجاب لأحدكم ما لم يعجل.يقول:دعوت فلم يستجب لي‘‘(2).وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:’’لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل.قيل يا رسول الله:ما الاستعجال؟قال:يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي،فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء‘‘(3).
الوسيلةالثانية:التوكل على الله،وتفويض الأمر إليه
__________
(1) تفسير القرطبي(8/376).
(2) صحيح البخاري،كتاب الدعوات وقول الله تعالى ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين،باب يستجاب للعبد ما لم يعجل(5/2335)رقم(5981) .
(3) صحيح مسلم،كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار،باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي(4/2096)رقم(2735).(1/326)
(يقال:توكّل بالأمر إذا ضمن القيام به،ووكلت أمري إلى فلان أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه،ووكّل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجزا عن القيام بأمر نفسه)(1)،والتوكل لغة(إظهار العجز والإعتماد على غيرك)(2)،وفي الإصطلاح(الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي الناس)(3).
واختلف العلماء في حقيقة التوكل،(فقالت فرقة:الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين،أمّا قول عامة الفقهاء فهو:أنّ التوكل على الله هو الثقة بالله،والإيقان بأنّ قضاءه ماض،واتباع سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لابد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة،ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم.
ثم المتوكلون حالين:الأول:حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ولا يتعاطاه إلاّ بحكم الأمر.الثاني:حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الإلتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنّه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأذواق الحالية،فلا يزال كذلك إلى أن يُرقِّيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين ويلحقه بدرجات العارفين)(4).
__________
(1) لسان العرب،مادة:وكل(11/734).
(2) مختار الصحاح،مادة:وكل(306).
(3) التعريفات،فصل الواو(1/97).
(4) تفسير القرطبي(4/189-190)مع بعض التصرف.(1/327)
(فالعجب العجب ممّن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق ويقعد على ثنيّات الطرق،ويدع الطريق المستقيم،والمنهج الواضح القويم.ثبت في البخاري عن ابن عباس قال:’’كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون،ويقولون نحن المتوكلون،فإذا قدموا سألوا الناس،فأنزل الله تعالى:وتزودوا فإنّ خير الزاد التقوى‘‘(1)،ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنّهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد،وكانوا المتوكلين حقا)(2).
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتوكل عليه فقال:’’وعلى الله فليتوكل المؤمنون‘‘(3).على وجه الحصر والقصر،أي(فليتوكلوا عليه ولا يتوكلوا على غيره)(4)،وبيّن لنا عاقبة التوكل بقوله تعالى:’’ومن يتوكل على الله فهو حسبه‘‘(5)،(فإن توكلت على الله كفاك وتعجلت الراحة والبركة،وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك،وأمره سبحانه في الوجهين نافذ)(6).
__________
(1) صحيح البخاري،كتاب الحج،باب قول الله تعالى:وتزودوا فإن خير الزاد التقوى(2/554)رقم(1451).
(2) تفسير القرطبي(13/16).
(3) آل عمران:122].
(4) تفسير البيضاوي(2/88).
(5) الطلاق:3].
(6) تفسير الثعالبي(4/311).(1/328)
لقد استجاب الذين آمنوا لأمر ربهم،وقالوا:’’حسبنا الله ونعم الوكيل‘‘(1)،‘‘قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار،وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم’’(2)؛ذلك أنّ التوكل على الله والإلتجاء إليه هو الأصل الذي تبنى عليه كل حركة في الحياة،في الرخاء والشدة سواء.وهكذا كان نبيّ الله وكليمه موسى عليه السلام متوكلا عليه وآمرا للمؤمنين بالتوكل عليه،فها هو-عليه السلام-يناديهم:’’يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين،فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين‘‘(3)،حيث أمرهم بالتوكل على الله،أي(فبه فثقوا ولأمره فسلموا،فإنّه لن يخذل وليه ويسلم من توكل عليه)(4).
(فالتوكل على اللّه دلالة الإيمان ومقتضاه.وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت)(5)،فقالوا:’’على الله توكلنا ربنا لا
تجعلنا فتنة للقوم الظالمين،ونجنا برحمتك من القوم الكافرين‘‘(6)،أي(لا تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك)(7).
__________
(1) آل عمران:173].
(2) صحيح البخاري،كتاب التفسير،باب إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم(4/1662)رقم(4287).
(3) يونس:84-85].
(4) تفسير الطبري(11/151).وانظر:تفسير البيضاوي(3/211).
(5) في ظلال القرآن(4/468).
(6) يونس:85].
(7) تفسير ابن كثير(2/429).(1/329)
فالله سبحانه وتعالى كاف من توكل عليه،يقول تعالى:’’أليس الله بكاف عبده‘‘(1)،وهذا(إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه،كأنّ الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها)(2).وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل كقوله تعالى:’’فاعبده وتوكّل عليه‘‘(3)؛(فإنّه كافيك كل ما تكره،ومعطيك كل ما تحب)(4)،و(في تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار أنّه لا ينفع دونها)(5).
تفويض الأمر إلى الله
ويلحق بالتوكل تفويض الأمر إلى الله،والتفويض لغة:من(فوض إليه الأمر صيره إليه وجعله الحاكم فيه..ويقال:فوّض أمره إليه إذا رده إليه وجعله الحاكم فيه)(6)،فهو ردٌ للأمر إلى الغير لينظر فيه،وعند المفسرين:(رد الأمر إلى الله،والتبرؤ من الحول والقوة)(7)،وهو(رد ما جهلت علمه إلى عالمه،والتفويض مقدمة للرضا والرضا باب الله)(8).
لقد اجتهد مؤمن آل فرعون بالنّصيحة لقومه،ولكنّهم أعرضوا وتولوا،حينئذ قال لهم:’’فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله،إنّ الله بصير بالعباد‘‘(9)، أي(سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه،وتندمون حيث لا ينفعكم الندم)(10)،وأفوض أمي إلى الله،أي(وأسلم أمري إلى الله وأجعله إليه وأتوكل عليه،فإنّه الكافي من توكل عليه)(11)،وقيل: (هذا يدل على أنّهم أرادوا قتله)(12)،أو أنّه تعرّض لتهديد ما،وأرادوا الإيقاع به لمخالفته لهم في الدّين(13).
__________
(1) الزمر:36].
(2) روح المعاني(24/5).
(3) هود:123].
(4) فتح القدير(2/535).
(5) تفسير ابي السعود(4/249).
(6) لسان العرب،مادة:فوض(7/210)مع بعض التصرف.وانظر:مختار الصحاح،مادة:فوض(1/215).
(7) التعاريف(1/195).
(8) حلية الأولياء(10/245).
(9) غافر:44].
(10) تفسير ابن كثير(4/82).
(11) تفسير الطبري(24/70).
(12) تفسير القرطبي(15/318).
(13) انظر:تفسير الواحدي(2/946).(1/330)
إنّنا حين نتوكل على الله نشعر بالقوة والثبات والطمأنينة كما كان حال مؤمن آل فرعون،فرغم الأخطار التي أحاطت به استطاع أن يُسجل هذه الكلمة الخالدة؛ذلك أنّه استجار(بعزيز غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي،حكيم لا يُسوي بين وليه وعدوه)(1)،’’ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز حكيم‘‘(2)،فلا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى حماه،وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره.وكلّ ما سوى الله تعالى عبد مسخر.حاجته مثل حاجتنا فكيف نتوكل عليه(3)؟!ذلك ظنّ الواهمين والمنافقين ومن طُمس على بصيرته.
كما أنّنا ندرك حين توكلنا على الله-ونحن نخوض جهادنا مع الطاغوت-أنّ وراء الأحداث قوة منفردة بالخلق والإختيار،وأنه ليس لها في الكون كله منازع ولا معقب؛فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ومرجعها إليه(4)،’’وربك يخلق ما يشاء ويختار‘‘(5)،فحذار من الاستعجال أو التردد والنكوص مهما غلت التضحيات وارتفع ثمن المواجهة مع الطاغوت،فذلك حال المتشككين العابدين لله على حرف؛’’فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح،وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء‘‘(6).
الوسيلة الثانية:الاستعانة بالله(7)والصبر
__________
(1) تفسير النسفي(2/69).
(2) الأنفال:49].
(3) انظر :إحياء علوم الدين(4/295).
(4) انظر:تفسير ابن كثير(3/398).
(5) القصص:68].
(6) صحيح البخاري،كتاب التفسير،باب ومن النّاس من يعبد الله على حرف(4/1768)رقم(4465).
(7) الاستعانة والتوكل إنما يتعلق بالمستقبل،فأما ما وقع فانما فيه الصبر والتسليم والرضى،كما فى حديث عمار بن ياسر رضى الله عنه مرفوعا إلى النبى:أسألك الرضا بعد القضاء) فتاوى ابن تيمية في التفسير(13/321).(1/331)
ها هم الملأ من قوم فرعون يتناجون بالإثم والعدوان،ويُحيكون المؤامرت ويحرِّضون فرعون،’’وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك‘‘(1)،ويُستثار فرعون ويشعر بالخطر،وكان الجواب منه قاسيا وحازما ومؤلما:’’سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون‘‘(2)،أي في المنزلة والتمكن في الأرض(3)،وهكذا هو الطاغوت قديما وحديثا،وهذه وسائله،فبدأت المحنة واشتدّ التنكيل،وتذمّر مَن وقع عليهم اللإضطهاد،فأرشدهم موسى عليه السلام إلى الطريق،’’وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا‘‘(4)أي،(استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما ينوبكم من أمركم،واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم من فرعون)(5)،حتى يأتي الله بالفرج.
إنّ صمودنا وثباتنا في مواجهة الطاغوت أيا كان بحاجة إلى الوسيلتين معا:
الأولى:الاستعانة بالله.
__________
(1) الأعراف:127].
(2) الأعراف:127].
(3) انظر:تفسير الثعالبي(2/45).
(4) الأعراف:128].
(5) تفسير الطبري(9/27).(1/332)
والاستعانة بالله طلب المعونة منه سبحانه(1)،وهي(طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه)(2)،وفي الحديث’’وإذا استعنت فاستعن بالله،واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك،ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،رفعت الأقلام وجفت الصحف‘‘(3)،وفي الحديث’’واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كان كذا وكذا،ولكن قل قدر الله وما شاء فعل،فإن لو تفتح عمل الشيطان‘‘(4)، فإذا استعنت بالله عز وجل فإنّه تعالى لا يعينك إلاّ بما هو خير لك،فإنّه نعم المعين،ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكَّلَه الله إلى من استعان به فصار مخذولا،(فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر الإستغاثة والإستعانة على الله عز وجل،فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده،فإيّاك والإنتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى)(5).
__________
(1) انظر:تفسير البيضاوي(1/67).
(2) روح المعاني(1/87).
(3) مسند أحمد(1/307)رقم(2804)،سنن الترمذي،كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في صفة أواني الحوض (4/667)رقم(2516)،قال أبو عيسى:’’هذا حديث حسن صحيح‘‘.
(4) صحيح مسلم،كتاب القدر،باب في الأمر بالقوة وترك العجز والإستعانة بالله وتفويض المقادير لله (4/2052)رقم(2664).
(5) روح المعاني(14/160).(1/333)
ولأهمية الاستعانة بالله كان ذكرها في كل صلاة،حين نقرأ مُقرِّين’’وإيّاك نستعين‘‘(1)و(كان تقديم المفعول لقصد الاختصاص،والمعنى نخصك بطلب المعونة،وأطلقت الاستعانة لتتناول كل مستعان فيه)(2)؛ذلك أنّ الإنسان بفطرته يشعر بالضعف ومحدودية القدرات،يقول تعالى:’’وخلق الإنسان ضعيفا‘‘(3)،أي(عاجزا غير قادر على ملك نفسه)(4)،ويضغط هذا الضعف على الإنسان كلما اشتدّ البلاء،حينئذ تستدعي الحاجة طلب العون من الله.
الثانية:الصبر.
و(أصل الصبر-لغة-الحبس وكل من حبس شيئا فقد صبره)(5)،و(الصبر حبس النفس عن الجزع)(6)،وعند المفسرين: (حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها)(7)،أو هو(حبس النفس على مشاق الطاعة والنوائب والمكاره)(8).
__________
(1) الفاتحة:5].
(2) تفسير النسفي(1/8)مع بعض التصرف.
(3) النساء:28].
(4) فتح القدير(1/453).
(5) لسان العرب،مادة:صبر(4/438).
(6) مختار الصحاح،مادة:صبر(1/149).
(7) تفسير النسفي(4/163).وانظر: البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى،(384-458هـ)،كتاب الزهد الكبير،جزء واحد،تحقيق:عامر أحمد حيدر،ط3،مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت،1996م.(342)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(كتاب الزهد الكبير).
(8) فيض القدير(1/485).(1/334)
ولقد أكثر القرآن من ذكر الصبر؛ذلك أنّ المواجهة مع فرعون والتصدي للطاغوت يحتاجان إلى الصبر على ما تحمله هذه المواجهة من آلام جسام،فمقارعة الطواغيت تعني جهادا لا يثبت فيه إلاّ من وهب نفسه لله،وأيقن بوجوب حبس نفسه على ما تكره،وقدرته على دفعها رغم المخاوف والشدائد،فالطاغوت لا يستسلم بسهولة،وسيدافع بشراسة عن منهجه ونظامه،مستعملا كافة ما لديه من وسائل مرعبة،متجاوزا كل القيم والمثل والأخلاق،لا يردعه ضمير ولا يمنعه إيمان،فليس أمامه سوى مصالحه ومكتسباته التي يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وجبروت.من هنا كان على من أراد المواجهة أن يتزود بزاد الصبر،فهي مواجهة ساخنة مكلفة،تحتاج منّا الشهداء والجرحى والسجناء والمعذبين…وكلّ ذلك يتطلب صبرا وتجلدا،يقول صلى الله عليه وسلم:’’واعلم أنّ النّصر مع الصّبر‘‘(1).
والصبر وصية المؤمنين بعضهم لبعض،يقول تعالى:’’وتواصوا بالصبر‘‘(2)،وهو الطريق للإمامة في الدّين والدنيا،يقول تعالى:’’وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون‘‘(3)، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين،والقيادة والريادة في الدنيا،وبه تكون معية الله’’والله مع الصابرين‘‘(4)،إنّه سبحانه معهم ينصرهم ويكلؤهم ويرعاهم حتى يظفروا بما طلبوا.
__________
(1) مسند أحمد(1/307)رقم(2804)،المعجم الكبير(11/123)رقم(11243)،المستدرك على الصحيحين(3/623)رقم(6303)،مسند عبد بن حميد(214)رقم(636).قال العجلوني:(وهو حسن وله شاهد رواه عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه بلفظ يا ابن عباس احتفظ الله يحفظك واحفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وذكره مطولا بسند ضعيف ورواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند أصح رجالا وأقوى)كشف الخفاء(1/366)رقم(993).
(2) العصر:3].
(3) السجدة:24].
(4) الأنفال:66].(1/335)
والصبر نوعان: (نوع على المقدور كالمصائب،ونوع على المشروع،وهذا النوع-أيضا-نوعان:صبر على الأوامر وصبر عن النواهي،فذاك صبر على الإرادة والفعل وهذا صبر عن الإرادة والفعل.فأمّا النوع الأول من الصبر فمشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر،لا يثاب عليه لمجرده إن لم يقترن به إيمان واختيار..يقول تعالى:’’وإن تصبروا وتتقوا‘‘(1)،فالصبر بدون الإيمان والتقوى بمنزلة قوة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى،وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور،وقال تعالى:’’فاصبر إنّ وعد الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون‘‘(2)،فأمره أن يصبر ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم في عدم الصبر،فإنّهم لعدم يقينهم عُدِمَ صبرهم وخفوا واستخفوا قومهم،ولو حصل لهم اليقين والحق لصبروا وما خفوا ولا استخفوا،فمن قلّ يقينه قل صبره،ومن قل صبره خف واستخف،فالموقن الصابر رزين لأنه ذو لب وعقل،ومن لا يقين له ولا صبر عنده خفيف طائش تلعب به الأهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف)(3)،وفي الحديث:’’والصبر ضياء‘‘(4)،والمراد(أنّ الصبر محمودٌ،لا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب)(5)
__________
(1) آل عمران:120].
(2) الروم:60].
(3) ابن القيم الجوزية:أبو عبد الله،محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي،(691ـ 751هـ)،التبيان في أقسام القرآن،جزء واحد،دار الفكر.وسأشير إليه فيما بعد ب:التبيان في أقسام القرآن(1/55).وقالوا: (والصبر على أربع شعب:على الشوق والشفق والزهادة والترقب للموت،فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات،ومن اشفق من النار رجع عن الحرمات،ومن زهد في الدنيا تهاون في المصيبات،ومن ترقب الموت سارع في الخيرات). العدني:محمد بن يحيى بن أبي عمر،(150- 243هـ)،الإيمان،جزء واحد،تحقيق: حمد بن حمدي الجابري الحربي،ط1،الدار السلفية،الكويت،1407هـ.(1/118)،وسأشير إليه لاحقا هكذا(الإيمان للعدني).
(4) صحيح مسلم،كتاب الطهارة،باب فضل الوضوء (1/203)رقم(223).
(5) شرح النووي على صحيح مسلم (3/101).(1/336)
.
الصبر(نور قوي تنكشف به الكربات وتنزاح به غياهب الظلمات،فمن صبر على ما أصابه من مكروه-علما بأنّه من قضاء الله وقدره-هان عليه ذلك،وكفي عنه شره،وادخر له أجره،ومن اضطرب فيه وأكثر الجزع والهلع لم ينفعه تعبه،ولا يدفع سعيه شيئا من قدر الله،بل يتضاعف به همه ويحبط أجره،والعبد بالصبر يخرج عن عهدة التكليف،ويقوى على مخالفة الشيطان والنفس،فيفوز في الدارين فوزا.والضياء النّور القوي،والإضاءة فرط الإنارة)(1).
والصبر الذي يكون لله وفي سبيل الله ثوابه غير مقدر،يقول تعالى:’’إنّما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب‘‘(2)،وكفى بهذا الأجر غير المقدر حافزا لمواجة الطاغوت وتحمّل أذاه،فلنصبر صبرا جميلا لاجزع فيه ولا شكوى،بل نبث همنا وكربنا إلى الله وحده.
السحرة آية من آيات الصبر والثبات
__________
(1) فيض القدير(4/291).
(2) الزمر:10].(1/337)
كانوا في أول النّهار سحرة وفي آخره شهداء برره.فها هم يرفعون أكف الضراعة إلى الله،لمّا أراد فرعون ردّهم عن دينهم وتهددهم بالقتل وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق،الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان،(فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل،وقالوا:’’لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات‘‘(1)،أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين،ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم،المبتدي خلقنا من الطين،فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت.’’فاقض ما أنت قاض‘‘(2)،أي افعل ما شئت وما وصلت إليه يدك،إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا،أي إنّما لك تسلط في هذه الدار،وهي دار الزوال،ونحن قد رغبنا في دار القرار،’’إنّا آمنّا بربنا ليغفر لنا خطايانا‘‘(3)، أي ماكان منّا من الآثام خصوصا ما أكرهتنا عليه من السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه… والله خير أي لنا منك إن أطيع،وأبقى أي منك عذابا إن عُصي..والظاهر أنّ فرعون لعنه الله صمم على قتلهم وصلبهم وفعله بهم رحمة لهم من الله)(4).
__________
(1) طه:72].
(2) طه:72].
(3) طه:73].
(4) تفسير ابن كثير(3/160)مع بعض التصرف.(1/338)
وهنا تظهر أهمية الاعتقاد بيوم آخر كأساس في الصمود والتضحية والثبات والصبر،حين تحققوا أنّهم إلى الله راجعون،وأنّ عذابه أشد من عذاب فرعون،ونكاله على ما يدعوهم إليه اليوم وما أكرههم عليه من السحر أعظم من نكاله،فليصبروا اليوم على عذابه ليخلصوا من عذاب الله(1)،ولهذا قالوا:’’إنّا إلى ربنا منقلبون‘‘(2)،ثمّ هم بعد ذلك عالمون بطبيعة المعركة،’’وما تنقم منّا إلاّ أن آمنّا بآيات ربنا لما جائتنا‘‘(3). أي(وما تنكر وتعيب منا إلا أن آمنّا بآيات ربنا،وهو خير الأعمال وأصل المفاخر..ثمّ أعرضوا عن مخاطبته إظهارا لما في قلوبهم من العزيمة،وقالوا:’’ربنا أفرغ علينا صبرا‘‘)(4).
إنّهم موقنون بالمدد من الله،فما يعلم جنود ربك إلاّهو،وما إنزال الصبر إلاّ واحدا من جنود لا عدّ لها ولا حصر.إنّهم يُقبلون على الموت قائلين:’’ربنا أفرغ علينا صبرا‘‘(5)،أي عمّنا بالصبر على دينك والثبات عليه(6).’’وتوفنا مسلمين‘‘(7)،أي(ثابتين على الإسلام)(8)،وتلك هي الغاية التي يسعى إليها كل المؤمنين.
إنّه العزم الكبير والصبر الجميل،والكلمات الفاصلات التي نُواجه بها الطواغيت،’’فاقض ما أنت قاض،إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا‘‘(9)،وبها نواجه حبل المشنقة وضيق الزنزانة..دون خوف أو وجل أو تردد،فمرارة الصبر أصبحت حلوة في قلوب العارفين.
__________
(1) انظر:المصدر السابق(2/239).
(2) الأعراف:126].
(3) الأعراف:126].
(4) تفسير أبي السعود(3/262)مع بعض التصرف.
(5) الأعراف:126].
(6) انظر:تفسير ابن كثير(2/239).
(7) الأعراف:126].
(8) تفسير البيضاوي(3/49).
(9) طه:72].(1/339)
لا ضير عليهم،نقولها لفظا بالأفواه وهم قالوها معلقين على الخشب:لا ضير،أي(لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا،فإنّما عذابك ساعة فنصبر لها وقد لقينا الله مؤمنين،وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوة إيمانهم)(1)..(إنّها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان.القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل بالطغيان.القلب الذي يرجوا الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير:’’قالوا لا ضير إنّا إلى ربنا منقلبون إنّا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنّا أول المؤمنين‘‘(2)..يا لروعة الإيمان إذا يشرق في الضمائر.وإذ يفيض على الأرواح.وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس)(3)،وهكذا ربّى القرآن النّفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق،وهكذا يُربّي كلَّ صاحب عقيدة يواجه الطغيان والظلم.إنّه يُقدّم لنا النماذج العظيمة والدروس البليغة،فالطريق إلى تلك القمم يمرّ عبر بوّابة الصبر والمصابرة،ولن يتمّ الصعود بالأمنية العاجزة الذليلة.
امرأة فرعون مثال في الصبر أمام الطاغوت
لقد(جعل الله حال امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعه والتمسك بالدين والصبر في الشدة)(4)،يقول تعالى:’’وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابني لي عندك بيتا في الجنّة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين‘‘(5)؛ذلك(أنّ الاستعاذة بالله والإلتجاء اليه ومسألة الخلاص عند المحن والنوازل والصبر عليها من سير الصالحين)(6).
إنّها المرأة القدوة والنموذج والمثال.لقد اجتمعت فيها عدة عوامل رفعتها إلى هذا النموذج الإنساني الرفيع:
__________
(1) تفسير القرطبي(13/99).
(2) الشعراء:50-51].
(3) في ظلال القرآن(6/210).
(4) فتح القدير(5/256).
(5) التحريم:11].
(6) تفسير النسفي(4/261)مع بعض التصرف.(1/340)
فهي امرأة،والمعلوم أنّ النّساء أقل قدرة على المواجهة من الرجال،ومع ذلك استطاعت أن تجتاز المحنة وتقابل الموت بقوة واقتدار،وفي(هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة،أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون)(1)،فما هو قول الضعفاء والعاجزين الذين يُخفون عجزهم تحت معاذير واهية؟
وهي-أيضا-تعيش حياة مترفة منعمة،ممّا يجعل الإنتقال إلى النقيض أمرا في غاية الصعوبة على النّفس،ومع ذلك قبلت تلك النّقلة البعيدة،وتحولت من سعة القصور والحياة المترفة إلى المواجهة وتحمّل العذاب بأقصى صوره دمويَّة،وفي هذا درس للمترفين الذين عبدوا شهواتهم ونزواتهم،وخافوا على رؤوس أموالهم،وتذرعوا بمصالحهم فقعدوا عن القيام بواجبهم،وهو درس لأؤلئك الذين يقبلون بالفتات ويخنعون ويستسلمون!
ثمّ هي تعيش في ظلّ أعتى شخصية،ولكنّها تحررت وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم(2).لقد(انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة لله وتوكلا عليه وخوفا منه فنجاها الله وأكرمها،ولم تضرها تلك الصلة الظاهرة بأخبث عبيد الله)(3)،وفي هذا نسف لكل المبررات الواهية التي تُضخّم من شأن الطاغية وقوته وجبروته.
وهي لم تسأل الله أن يُنجّيها من نفس فرعون الخبيثة فقط،بل ومن عمله وكفره وعبادته غير الله تعالى وتعذيبه للنّاس وقتلهم بغير ذنب،وإلى غير ذلك من القبائح التي يرتكبها ذلك الأحمق(4)؛ذلك أنّها حملت قضية ورسالة،وكفى بهذا رفعا لقدر المرأة في المفهوم القرآني.
__________
(1) تفسير القرطبي(18/203).
(2) انظر:فتح القدير(5/256).
(3) البرهان في علوم القرآن(1/416)مع بعض التصرف.
(4) انظر:روح المعاني(18/163).(1/341)
إنّ امرأة فرعون مثال يُراد منه حَثُّ المؤمنين على الصبر في الشدة،وأن بإمكانهم-لو أرادوا-أن يتغلَّبوا على الظروف والأوضاع المحيطة بهم مهما كانت هذه الأوضاع صعبة وعسيرة،فليست هي بأصعب من تلك الظروف التي واجهتها امرأة منفردة،ولكنّهم بحاجة إلى الصبر والمصابرة كي يقفوا أمام فراعنة العصر،فنحن بحاجة إلى مواقف ولسنا بحاجة إلى كلمات مُنَمَّقَةٍ وخطابات مزخرفة،فتلك إجابة نظرية لا فائدة منها،ونحن نُريد إجابة عملية يرضى عنها الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا المقام لا بدّ من التأكيد على حقيقة أنّ الإيمان باليوم الآخر من أهم العوامل في الثبات والصبر،وهذا ما يُرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول امرأة فرعون:’’رب ابن لي عندك بيتا في الجنّة‘‘(1)؛ذلك أنّ الإنسان يشعر حين يصبر ويُضحي أنّ هناك أجر ينتظره عند الله في مقابل هذا الصبر.
وبالصبر تمت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل
__________
(1) التحريم:11].(1/342)
فتمّ عليهم بصبرهم فضله ونعمه،وجعلهم أئمة دعاة إلى الخير،وولاة وملوكا،وجعلهم الوارثين لملك فرعون،ومكّن لهم في الأرض بعدما كانوا مستضعفين مقهورين مستعبدين،وأرى فرعون وقومه منهم ما كانوا يحذرون،وذلك أنهم أُخبروا أنّ هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل،فكانوا على وجل منهم فأراهم الله ما كانوا يحذرون،ودمّر الله ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون(1)،يقول تعالى:’’وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون‘‘(2)،أي(ومضت عليهم واتصلت بالإنجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين)(3)،وهو قوله تعالى:’’ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرهون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون‘‘(4)،وذلك بسبب صبرهم على الشدائد.وبصبرهم على أذى فرعون،وعلى ما أمرهم الله به بعد أن آمنوا.
وفي هذا حثٌ ودليل على أنّ من قابلوا البلاء بالصبر فلهم من الله العاقبة الحسنى،فيُسبغ عليهم نعمه،ويصبحون في الأرض أئمة وقادة.أمّا إذا قعد النّاس وتقاصرت هممهم ونفذ صبرهم فإنّهم يصيرون بتقاعسهم وعدم صبرهم إلى ذيل القافلة.
الوسيلة الرابعة:الاستقامة وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون
__________
(1) انظر:تفسير القرطبي(13/249).
(2) الأعراف:137].
(3) تفسير البيضاوي(3/54).
(4) القصص:5-6].(1/343)
من وسائل مواجهة الطاغوت الإستقامة وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون،وهما أمران من الله سبحانه وتعالى في بضع آية يشكلان معا يشكلان جزءا من منهج المجابهة المتكامل مع فرعون،ودلّ على هذا قوله تعالى:’’قال قد أُجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعانّ(1)سبيل الذين لا يعلمون‘‘(2).(إنّه أمر من الله تعالى لموسى وهارون بالإستقامة والثبات على أمرهما من دعاء فرعون وقومه إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنّه أجابهما فيه)(3).
__________
(1) قرأ ابن عامر ولا تتبعان بتخفيف النون،المعنى فاستقيما وأنتما لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وهو الذي يسميه بعض أهل العربية الحال،والمعنى:فاستقيما غير متبعين سبيل الذين لا يعلمون.وقرأ الباقون بالتشديد ولا تتبعان بالتشديد موضع تتبعان جزم إلا أن النون ا لشديدة دخلت للنهي مؤكدة وكسرت لسكونها،وسكون النون التي قبلها واختير له الكسر لأنها بعد الألف وهي تشبه نون الاثنين)حجة القراءات(1/336).
(2) يونس:89].
(3) تفسير الطبري(11/161-162)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير البيضاوي(3/213)وتفسير ابي السعود(4/172)وتفسير الواحدي(1/507).(1/344)
إنّ الأمر الأول يتمثل بالإستقامة،ويعني(الإعتدال،يقال:استقام له الأمر،وقوله تعالى:’’فاستقيموا إليه‘‘(1)،أي في التوجه إليه دون الآلهة،وقام الشيء واستقام اعتدل واستوى،وقوله تعالى:’’إنّ الذين قالوا ربنا الله ثمّ استقاموا‘‘(2)،أي عملوا بطاعته ولزموا سنة نبيه)(3)؛(فالإستقامة والإطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج:استقامة النفس وطمأنينة القلب.استقامة المشاعر والخوالج،فلا تتأرجح ولا تضطرب ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات.وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة.واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار.وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات؛وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك)(4).
ولمّا كانت الإستقامة أصلا وأساسا لنجاح الدعوات وانتصار المنهج الحق أمر الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:’’فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنّه بما تعملون بصير‘‘(5).،أي(فاستقم أنت يا محمد على أمر ربك والدين الذي ابتعثك به،والدعاء إليه كما أمرك ربك،ومن تاب معك أي ومن رجع معك إلى طاعة الله،والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره،ولا تطغوا يقول ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه إنه بما تعملون بصير)(6).
__________
(1) فصلت:6].
(2) فصلت:30].
(3) لسان العرب،مادة :قوم(12/499).وانظر:مختار الصحاح،مادة:قوم(232).
(4) في ظلال القرآن(7/235).
(5) هود:112].
(6) تفسير الطبري(12/126).وانظر:تفسير ابي السعود(4/244)وتفسير الواحدي(1/535)وتفسير البغوي(2/404).(1/345)
إنّه أمر عظيم(أحس-عليه الصلاة والسلام-برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه:’’شيبتني هود‘‘(1).فالاستقامة:الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف.وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة،والتدبر الدائم،والتحري الدائم لحدود الطريق،وضبط الإنفعالات البشرية التي تميل الإتجاه قليلا أو كثيرا..ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.)(2).
لقد تكرر الأمر بالإستقامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال تعالى:’’واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم‘‘(3)،أي(واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى ولا تتبع أهواءهم الباطلة)(4)،وهو أمر ثقيل لأنّ المطلوب هو التزام جميع الطاعات والتكاليف،وعدم اتباع الهوى لأنّ اتباع الهوى يُضلُّ عن سبيل الله.
إنّ استقامة الداعية على المنهج الذي يدعو إليه وثباته وعدم تردده يعكس مدى إيمانه بما يدعو إليه،وهو شرط-أي إيمانه بما يدعو إليه-لا بدّ منه لنجاح دعوته،إذ كيف يمكن له أن يدعو إلى أمر هو لايلتزم به ولا يستقيم عليه؟!وبالتالي لا تتجاوب الجماهير مع دعوة لا تظهر آثارها على صاحبها.وفي المقابل فإنّ الإستقامة على المنهج رغم صروف الأيّام وتقلبات الزمن يُدخل في قلوب النّاس حقيقة مفادها:إنّ استمراره وثباته واستقامته تعني أنّه أدرك الحق والحقيقة معا.
__________
(1) سنن الترمذي،كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،باب ومن سورة الواقعة(5/402)رقم(3297)قال أبو عيسى:هذا حديث حسن غريب.المستدرك على الصحيحين،كتاب التفسير،تفسير سورة هود(2/374)رقم(3314)، مسند أبي يعلى(1/102)رقم(107)،المعجم الكبير(6/148)رقم(5804).قال الهيثمي: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)،مجمع الزوائد،كتاب التفسير،باب سورة هود(7/37)،
(2) في ظلال القرآن(4/630).
(3) الشورى:15].
(4) تفسير البيضاوي(5/125).وانظر:تفسير ابن كثير(4/110).(1/346)
وهذا ما نفهمه من قوله تعالى:’’إنّ الذين قالوا ربنا الله ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون‘‘(1).أي إنّ الذين قالوا ربنا الله(اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته ثم استقاموا،أي ثبتوا على الإقرار ومقتضياته،على أنّ ‘ثم’ للتراخي في الزمان أو في الرتبة،فإنّ الإستقامة لها الشأن كله،وما روى عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم في معناها من الثبات على الإيمان،وإخلاص العمل،وأداء الفرائض بيان لجزئياتها،تتنزل عليهم الملائكة من جهته تعالى،يمدونهم فيما يعن لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم،ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام)(2)،ويؤكّد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلّم:’’قل آمنت بالله ثمّ استقم‘‘(3)،(فالإستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده…ولا يطيقها إلاّ الأكابر لأنّها الخروج عن المعهودات،ومفارقة الرسوم والعادات،والقيام بين يدى الله تعالى على حقيقة الصدق)(4).
إنّ الاستقامة تجلب الخير الكثير،يقول تعالى:’’وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا‘‘(5)،أي(لو استقاموا على الطريقة طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين لأسقيناهم ماء كثيرا)(6).
__________
(1) فصلت:30].
(2) تفسير أبي السعود(8/13).وانظر:تفسير البيضاوي(5/179)وتفسير الطبري(24/116)وتفسير الواحدي(2/955)وتفسير البغوي(4/114).
(3) صحيح مسلم،كتاب الإيمان،باب جامع أوصاف الإسلام(1/65)رقم(38).
(4) شرح النّووي على صحيح مسلم(2/9)مع بعض التصرف.
(5) الجن:16].
(6) تفسير القرطبي(19/18).وانظر:تفسير ابن كثير(4/432)وتفسير الطبري(29/114).(1/347)
أمّا الأمر الثاني فيتمثل بعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون الحق ولا يهتدون إلى حقيقة،فهم في ريبهم يترددون،وعلى المصير قلقون،فمن لم يجعل الله نورا فما له من نور،ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.يقول تعالى:’’ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون‘‘(1)،أي(ولا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي،فإنّ وعدي لا خالف له،وإنّ وعيدي نازل بفرعون وعذابي واقع به وبقومه)(2)؛فالإستعجال دليل ضعف وقصر نفس،ويؤدي إلى التساقط على الطريق وعدم إكمال المشوار إلى غايته.
إنّ الإستقامة على المنهج وعدم اتباع سبيل الذين لا يعلمون ركن أساسي في الإنتصار على الطاغوت،فالتفريط كالإفراط يُطيل المسافة ويُكثر من التضحيات،وإنّ أقصر الطرق وأقلها كلفة هي الطريق التي أرشد الله موسى إليها بالإستقامة وعدم المداهنة مع الطاغوت.يقول الله تعالى:’’ودّوا لو تُدهن فيدهنون‘‘(3).أي ودُّوا لو تلين في دينك فيلينون في دينهم؛ذلك أنّ المداهنة مصانعة ومجاملة وممايلة ومقاربة في الكلام على حساب الحقيقة في هذا الدين،وهذه أمنية الكافرين أن يُداهن أصحاب الحق في الدين(4).إنّها مساومة للوصول إلى الحلّ الوسط!بل ونقول:إنّ الملاينة في الدين من قبل بعض المسلمين أدت إلى تفرقة صفهم ووقوع الخلافات فيما بينهم.فهي تجلب الضرر مرتين:مرة بإطماع العدو في التنازل تلو التنازل،ومرة في زعزعة وحدة المسلمين.
الوسيلة الخامسة:الاستعاذة بالله
__________
(1) يونس:89].
(2) تفسير الطبري(11/161-162)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير البيضاوي(3/213)وتفسير أبي السعود(4/172)وتفسير الواحدي(1/507)وتفسير البغوي(2/366)وفتح القدير(2/469).
(3) القلم:9].
(4) انظر:تفسير الطبري(29/21)وتفسير القرطبي(18/231).(1/348)
الاستعاذة اللجوء،و(استعذت به أي لجأت إليه)(1)،واستعاذ بالله أي لاذ به ولجأ إليه واعتصم به،فمعنى الاستعاذة هو الإلتجاء إلى الله تعالى والاعتصام به(2)؛ذلك أنّ اللجوء إلى الله تعبير عن حقيقة ضعف الانسان،فهو لا يستطيع فعل كل شيء،أو تحمّل كل شيء،فإذا تحركت عناصر الضعف فيه لجأ إلى الله يستمد منه القوة.
فالاستعاذة طلب للحماية من الشرور والفتن،وليس هناك شرٌ أعظم من شر الطواغيت،وما يُنشؤونه من المحن لفتنة الذين آمنوا.ولهذا كانت الاستعاذة حاضرة في المواجهة بين موسى عليه السلام وفرعون؛ذلك أنّ فرعون لم يدخر جهدا في محاربة موسى وملاحقته بشتى صنوف الأذى،ثمّ أطلق العنان لزبانيته وجنوده كي يصبوا العذاب فوق رؤوس المخالفين صباً،وبلغ الطغيان مداه حين هدد فرعون بقتل موسى عليه السلام،مُبديا عدم اكتراثه بربه،’’وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه‘‘(3)،وتكفي هذه الكلمات من فرعون للدلالة على ما يخفيه من حقد وكره وعداوة لموسى عليه السلام،كما تدل على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه(4).
هنا-ومن أرض المعركة التي يخوضها المستضعفون-تبرز الاستعاذة كوسيلة من وسائل المواجهة مع فرعون،ويلتجأ الموصول بالله موسى عليه السلام إلى من بيده مقاليد السماوات،’’وقال موسى إنّي عذت بربي وربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب‘‘(5)،أي استجرت بالله وعذت به من شر فرعون وشر أمثاله من المتكبرين المجرمين الذين لا يؤمنون بيوم الحساب(6).
__________
(1) لسان العرب،مادة:عوذ(3/498).
(2) انظر:فيض القدير(1/408).
(3) غافر:26].
(4) انظر:تفسير النسفي(4/71).
(5) غافر:27].
(6) انظر:تفسير ابن كثير(4/78)وتفسير القرطبي(15/305)وتفسير الطبري(24/57).(1/349)
وبيّن عليه السلام في استعاذته(أنّ السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله،وخصَّ اسم الرب لأنّ المطلوب هو الحفظ والتربية،وإضافته إليه وإليهم حثا لهم على موافقته.ولم يسم فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة،ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول)(1)،و(خصّ موسى صلوات الله وسلامه عليه الاستعاذة بالله ممن لا يؤمن بيوم الحساب،لأنّ من لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا ولا للعقاب على الإساءة وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا،ولذلك كانت استجارته من هذا الصنف من الناس خاصة)(2)؛(فما يتكبر متكبر وهو يؤمن بيوم الحساب،وهو يتصور موقفه يومئذ حاسراً خاشعاً خاضعاً ذليلاً،مجرداً من كل قوة،ما له من حميم ولا شفيع يطاع)(3).
وهكذا يلتزم موسى الاستعاذة كلما ضاقت به الأمور وادلهمت الخطوب،يستعيذ بالله من شرورهم وسيئات أعملهم،يقول تعالى حكاية لقول موسى:’’وإنّي عذت بربي وربكم أن ترجمون‘‘(4)،فهو يتحصن بربه ويعوذ به أن يسطوا عليه أو أن يرجموه.فإن استعصوا على الإيمان فهو يطلب منهم إعتزاله وأن لا يعترضوا عليه وأن يَدَعُوا الأمر بينه وبينهم مسالمة إلى أن يقضي الله بينهم(5)،وذلك منه عليه السلام منتهى العدل والمسالمة،ولكنّه الطاغوت لا يقبل حلا سوى الاستسلام التام من أهل الحق.
__________
(1) تفسير البيضاوي(5/90)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير أبي السعود(7/274).
(2) تفسير الطبري(24/57).
(3) في ظلال القرآن(7/178)مع بعض التصرف.
(4) الدخان:20].
(5) انظر:تفسير ابن كثير(4/142).(1/350)
ليس في قلوب الطواغيت غير الكبر والاستكبار عن الحق والتعظم،ممّا يحملهم على التكذيب،والطمع في أن يغلبوا أهل الحق،وما هم ببالغي ذلك..فلنلتجأ إلى الله من شرهم وكيدهم وبغيهم،فهوالسميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية(1).يقول تعالى:’’إنّ الذين يجادلون بآيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلاّ كبر ما هم بباليغه فاستعذ بالله إنّه هو السميع البصير‘‘(2).و(ليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم،بل الحق هو المرفوع،وقولهم وقصدهم هو الموضوع،فاستعذ بالله من حال مثل هؤلاء)(3).
إنّ مواجهة الطواغيت تحمل الكثير من المخاطر والمنعطفات،وذلك حين يقلّ النّصير ويتكالب الأعداء..فربّما زيّن الشيطان لبعض ضعاف النّفوس المهادنة ونصف الحل!وربّما تُسوّل النّفس بمثل ذلك حين اشتداد المواجهة وازدياد التضحيات…وتلك هي وساوس الشيطان لثني المؤمنين عن مواصلة المشوار،فإذا حدث هذا فعليك بالاستعاذة،يقول تعالى:’’وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه سميع عليم‘‘(4)،أي فاستجر بالله والتجيء من تلك الوسوسة لأنّها تبعث على الشر،فهو السميع لكل ما يسمع والعليم بكل ما يعلم،ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ به(5).
الوسيلة السادسة:سريّة الإيمان والإنتماء.
حين لا يستطيع أهل الحق ممارسة إيمانهم علانية بسبب الضغط الهائل عليهم،والذي لا يستطيعون له دفعا،بحيث لو كُشف أمرهم لتعرضوا لفتن خطيرة تزيد عن الضرر النّاجم من كتم إيمانهم،حينئذ لا بدّ من التّخفي،كما كان الأمر في بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر:فتح القدير(4/497).
(2) غافر:56].
(3) تفسير ابن كثير(4/85).
(4) الأعراف:200].
(5) انظر:فتح القدير(4/516).(1/351)
لقد كان فرعون مجرما سفّاكا للدماء ممّا أدخل الخوف والرعب في قلوب الجماهير،يقول تعالى:’’فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم‘‘(1)؛ذلك أنّ الطاغوت يعتمد على التخويف والقهر.ومن هنا كان وحي الله لموسى عليه السلام ولأخيه بالتخفي والحيطة والحذر،يقول تعالى:’’وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة‘‘(2)،أي(صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا،وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر،واتخاذ المساجد في البيوت)(3).
ولم يكن مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه إلاّ بسبب بطش فرعون وخوفا على نفسه(4)،وذلك ما نفهمه من قوله تعالى:’’وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يكن كاذبا فعليه كذبه وإن يكن صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم‘‘(5). أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط،فقال:وإن يك كاذبا فعليه كذبه لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله،وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم،فلا أقل من أن يصيبكم بعضه(6).فهو حذر في انتقاء كلماته لئلا ينكشف أمره.
__________
(1) يونس:83].
(2) يونس:87].
(3) تفسير القرطبي(8/371).وانظر:تفسير ابن كثير(2/430)،تفسير الطبري(11/155)،فتح القدير(2/467).
(4) انظر:تفسير الطبري(24/57).
(5) غافر:28].
(6) انظر:تفسير البيضاوي(5/91)وتفسير ابي السعود(7/274).(1/352)
إنّ التّخفي والكتمان والسِّريَّة قد تكون لجميع أفراد الجماعة بما فيهم رسولهم،كما كان الحال في بدء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم،وقد تكون السِّريّة للجماعة المؤمنة عدا الرسول،وقد يُباح الأمر فيقوم بعض أفراد الجماعة بالإعلان عن إيمانهم عزيمة منهم.وقد تكون الدعوة سراً لبعض الوقت ثمّ يُعلن عنها.وقد تكون سريّة في بعض النّشاطات دون غيرها،فهناك نشاطات بالكلمة بعضها يُنشر وبعضها لا يُنشر.وقد تكون هناك أسرار عسكرية تنظيمية محضة لا يعرفها إلاّ أولو الأمر منّا..والذي يحدد كلّ هذا هو الواقع الحركي للجماعة في مواجهتها مع الطاغوت،وحجم الضغط المُمارس على الجماعة،ومدى قدرة الجماعة الذاتية في تلك المرحلة،وغيرها من الملابسات والظروف التي تُقدر بقدرها من قبل قيادة الجماعة..
وهكذا يتسع ميدان المواجهة مع الطاغوت ليشمل ما هو فوق الأرض وما هو تحت الأرض،تحقيقا لمعنى الحديث الشريف’’الحرب خَدْعة‘‘(1)،كي نفاجىء الطواغيت بما لم يستعدوا له..مع التأكيد على أنّ السريّة في الدعوة في أي مرحلة من مراحلها ما هي إلاّ وسيلة وليست بغاية،إذ أنّ الحق من طبيعته أن يسعى لتعريف نفسه ودعوة الجماهير إليه،وذلك معنى تبليغ الحق للنّاس.
__________
(1) صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب الحرب خدعة(3/1102)رقم(2864).وصحيح مسلم،كتاب الجهاد والسير،باب جواز الخداع في الحرب(3/1361)رقم(1739).(1/353)
إنّ لنا في كيفية قتل كعب بن الأشرف اليهودي عبرة،حيث استعمل المسلمون حيلا وخدعا متعددة للوصول إليه وقتله.قال محمد بن سلمة رضي الله عنه-وهو أحد الذين شاركوا في قتله: (يا رسول الله أنا أقتله.قال:فافعل إن قدرت على ذلك،فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه،فذكر ذلك لرسول الله فدعاه فقال له:لم تركت الطعام والشراب؟قال يا رسول الله:قلت قولا لا أدري أفي به أم لا.قال:إنما عليك الجهد.قال يا رسول الله:إنه لا بد لنا من أن نقول.قال:قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك)(1)،ثمّ ما كان من خدعة في طريقة قتله،فانظر كيف يناور محمد بن سلمة في الكلام مع كعب بن الأشرف:’’أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين.فقال:ارهنوني نساءكم.قالوا:كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب.قال:فارهنوني أبناءكم.قالوا:كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا،ولكنّا نرهنك اللأمة-يعني السلاح-فوعده أن يأتيه فقتلوه،ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه‘‘(2).
يظهر لنا ومن خلال تلك الأحداث أنّ هناك هامشا للمناورة كبير،ومن هنا يجب علينا استعمال كافة التدابير الأمنية والقواعد السريّة في المواجهة المعاصرة مع الطاغوت،ولا بدّ من استعمال التكنولوجيا الحديثة،ويجب دراسة واقع المعركة واستعمال السواتر الأمنية المناسبة والمعقدة التي يصعب كشفها،كما لابد من إعطاء خصوصية للساحات والظروف المختلفة،ويجب استغلال الثغرات الأمنية عند الخصم والاستفادة منها،والبحث الدائم عن نقاط الضعف لدى العدو،ويترتب على ذلك ازدياد في القدرة على توجيه الضربات القاتلة للعدو.ويتطلب ذلك جهدا ومثابرة وصبرا من قبل جماعة المسلمين،والعمل الدائم على تنشأة الكوادر الأمنية المسلحة بالعلم والإيمان.
__________
(1) تاريخ الطبري(2/53).وانظر:البداية والنهاية(4/5).
(2) صحيح البخاري،كتاب الرهن،باب رهن السلاح(2/887)رقم(2375).(1/354)
مبدأ التقية وسريّة الإيمان
من المناسب في هذا المقام أن نشير إشارة موجزة إلى مبدأ التَّقِيَّة،وهي(أن يقي نفسه من اللائمة أو من العقوبة بما يُظهِر وإن كان على خلاف ما يضمر)(1)،وذلك لشدة ارتباطه بمسألة التَّخفي وكتمان الإيمان،ولأنّه من المواضيع المُلحة في هذا الزمان حيث يُنكَّل بالمسلمين عموما وبالمجاهدين على وجه الخصوص،وهم يُواجهون الطواغيت التي لا ترحم أبدا.يقول تعالى:’’لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير‘‘(2).أي(من خاف في بعض البلدان والأوقات من شر الأعداء فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته)(3)،وذلك معنى قوله تعالى:’’إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‘‘(4)؛فمن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مُكرهاً لما ناله من ضرب وأذى،أو خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه،وقلبه يأبى ما يقول فهو مباح له(5)،ولكن(من أتى الكفر على اختيار واستحباب فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)(6).روى البخاري عن أبي الدرداء أنَّه قال:’’إنّا لنكشر(7) في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم‘‘(8)،وفي هذا دليل على جواز مخالفة الظاهر الباطن في بعض الأحوال.
__________
(1) المغرب،مادة:وقي(2/367).
(2) آل عمران:28].
(3) تفسير ابن كثير(1/358)مع بعض التصرف.وانظر:تفسير النسفي(1/149).
(4) النحل:106].
(5) انظر:تفسير ابن كثير(2/588)وتفسير أبي السعود(5/143).
(6) تفسير الطبري(14/182).
(7) 1369(الكَشْرُ بدو الأسنان عند التبسم.ويقال:في غير ضحك كشر عن أسنانه إذا أبداها)العين،باب الكاف والشين والراء(5/291).
(8) صحيح البخاري،كتاب الأدب،باب المداراة مع الناس(5/2271)أخرجه البخاري في المعلقات.(1/355)
لقد كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين،أي وهم مستضعفون لأنّه لا يلجأ القوي المنيع للتقية أبدا،وهي-أي التقية-أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان.ولا تُقية في القتل أي قتل مسلم محرم الدم،ولا يأتي مأثما،وهي جائزة للمسلم إلى يوم القيامة في كل مرحلة يكون فيها مستضعفا أو مغلوبا على أمره،وللمؤمن إذا كان قائما بين الكفار أن يداريهم باللسان إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان،والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم،ومن أكره على الكفر فله أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر من باب العزيمة،وإلاّ فإنّه يجوز له ذلك(1).
فالتقية لا تُباح ولا تجوز إلاّ بشروط وظروف مخصوصة كما ذكر ذلك الفقهاء والعلماء،وليس هنا تفصيل تلك المسألة ولكن أحببت الإشارة إليها لأنّها ممّا يمُس واقع المسلمين،فبالإضافة لما ذكره الأولون تجوز التقية للمجاهدين الذين يخشون على أنفسهم من الانكشاف،كما وتجوز التقية أيضا للمخابرات المسلمة وأجهزة الأمن الخاصة بالمجاهدين وكلّ ما يجلب نفعا ويدرؤ مفسدة عن المسلمين في هذا العصر جازت التقية فيه.والله أعلم.
نظرة تحليلية عامة على كيفية مواجهة فرعون
من خلال النّظر في كيفية مواجهة فرعون،والوسائل التي استعملت في تلك المواجهة نستطيع الخروج بعدة نتائج أهمها ما يلي:
النتيجة الأولى:إنّ جميع هذه الوسائل تندرج في مفهوم جهاد الدفع وليس جهاد الطلب،بل جهاد الصبر والمصابرة والثبات،والسقف الأعلى لتلك الوسائل هو الكلمة للوصول إلى حالة الإنسلاخ عن الطاغوت والتحرر منه،وهذا يعني القضاء على سبب من أسباب ظهور شخصية فرعون،فلو انفض النّاس عن الطواغيت لما كان لهم شأن يُذكر،فليس الطاغوت في نهاية الأمر سوى فرد لا يملك غير قدرات محدودة.
__________
(1) انظر:تفسير القرطبي(4/57)وتفسير الطبري(3/228).(1/356)
النتيجة الثانية:إنّها وسائل تعتمد في جوهرها على الشخصية الصلبة والصابرة،وذلك لعدم تكافؤ القوى؛فالفئة المؤمنة لا تمتلك القدرة ولا الأدوات التي بها تمنع الأذى عن نفسها،فليس أمامها إلاّ الصبر والتّحمل وما قد يُتاح لها من هامش التَّخفي.وهذا ظاهر في شخصية موسى وهارون،ومن دونهم في الصبر كالسحرة،وظاهر أيضا في أسلوب التكتم والسريّة الذي أشرنا إليه في مواضعه.
وذلك ما حدث للأوائل من أمتنا وسادة دعوتنا من الصحابة الأحباب حين واجهوا المحن العظام بصبر تنوء عن حمله الجبال،حتى بلغ الأمر بهم أن شَكُوا لرسول الله أوضاعهم.روى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة،ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة،،فقلت:يا رسول الله ألا تدعو الله،فقعد وهو محمر وجهه،فقال:’’لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه،ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه،وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه‘‘(1).
__________
(1) صحيح البخاري،كتاب فضائل الصحابة،باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة(3/1398)رقم(3639).(1/357)
النتيجة الثالثة:إنّ هذه الوسائل متناسبة مع الهدف الذي يسعى إليه موسى عليه السلام،وهذا يعني أنّ الوسائل المستعملة في القضاء على الطاغوت وإنهاء النظام الظالم لإحلال الحق مكانه سوف تتعدى تلك الوسائل الدفاعية إلى الوسائل الهجومية كمرحلة مُتقدمة في المواجهة،ولن تبقى في مستوى الدفاع فحسب.مع ملاحظة أنّنا في مرحلة دفاعية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي،فنحن مثلا نطلب من رأس الاستكبار العالمي أمريكيا أن تكُفَّ يدها عنّا،وتدعنا وشأننا،ونطلب من الأنظمة المتحكمة فينا أن تدعنا وشأننا فلا تُضيّق علينا ولا تمنعنا الحقوق الأساسية للبشر..باختصار مرحلتنا بعمومها تعني الدفاع عن النّفس كما هو حاصل في فلسطين أيضاً.(1/358)
النتيجة الرابعة:إنّ التزام الوسائل الشرعية أثناء حركتنا للتحرر من الطاغوت أو التّخلص منه يُحقق أغراضا أخرى غير التخلص من الظلم والطغيان؛ذلك أنّ هدف البعث الإسلامي لم يكن محصورا بتلك النتيجة المباشرة،بل يتعدى تلك النتيجة إلى تحقيق المشروع الإسلامي المتكامل،ومن هنا ندرك معنى أنّ الله تعبدنا بالوسائل كما تعبدنا بالغايات،وندرك أيضا أنّ أي تفريط منّا بتلك الوسائل يعني عدم انجاز ذلك المشروع الإسلامي المُعتمد على بناء الأمة فكرا وسلوكا وأخلاق،وهذا لن يتحقق إذا ما سلك المسلمون مسالك الجاهلية في التغيير؛ذلك أنّ وسائل الجاهلية منفلتة من القيم والأخلاق،فلا يجوز لنا أن نتخذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة،(ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا.فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم.ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات،إنّما يعني نفسه بأداء الواجبات،تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء.أما الغايات فموكولة لله،يأتي بها وفق قدره الذي يريده.ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله،وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله)(1)؛ذلك أنّ الإنجاز المادي ليس غاية لحركتنا بل إفراز لتلك الحركة.
النتيجة الخامسة:إنّ فترة الإعداد مهما كانت ناجحة في تهيئة الأشخاص للدخول في مرحلة التنفيذ والمباشرة في الدعوة فإنّها لا تُغني عن المهارات والقدرات الخاصة في مواجهة المواقف المُستجدة،فبعض المواقف يحتاج إلى نباهة وفطنة وسعة علم واطلاع..وبعضها يحتاج إلى سعة صدر وحلم ورفق..وبعضها يحتاج إلى حزم وجزم وعدم التردد والحيرة..وبعضها بحاجة إلى قدرة على المناورة والمداورة..وهنا يبرز دور القيادة في توزيع الأدوار واختيار الكفاءات.
__________
(1) في ظلال القرآن(7/592).(1/359)
النتيجة السادسة:تتمثل في أن لا تتفاجأ الجماعة ببعض العثرات،فتلك سنّة الدعوات،سواء كانت عثرات فردية أو جماعية،فالكمال لله،والخطأ من ابن آدم وارد.قد نُخطىء في التعجيل أو في التأجيل،أو بحجم الرد شدةً أو تهاونا لأسباب تفرضها ساحة المواجهة مع الطواغيت.ومن يتحرك يُخطىء،ومن هنا قلنا أنّ فقهنا فقه حركة لا فقه أوراق.
النتيجة السابعة: إنّ المطلوب هو الإعداد قدر المستطاع والأخذ بالأسباب طاعة لله لا الإعداد المساوي لقوة الطواغيت،فعلى المستضعفين أن لا يحتقروا أنفسهم أو قدراتهم أمام الطاغوت،وهذا ما نفهمه من قوله تعالى:’’وأعدوا لهم ما استطعتم‘‘(1)،أي(ما أطقتم أن تعدوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم)(2).
الخاتمة
لم يكن القرآن ليذكر شخصية فرعون كلّ هذا الذكر باعتبارها شخصية تاريخية لن تعود إلى الوجود مرّة أخرى،بل إنّ هذا الحديث الواسع عن شخصية فرعون ليؤكد أنّها شخصية تتكرر ولكن بأشكال مختلفة وجوهر واحد؛فقد تتكرر شخصية الطاغوت فرعون بشخصية كفرعون ومن حوله أبواق تردد أقواله وتُسبح له!وقد تتكرر في جماعة تنهج في مجموعها نهج فرعون،وقد تكون الدّولة برمتها تنهج نهجه،فتكون الشخصية الإعتبارية للدّولة حينذاك هي شخصية فرعون،بمعنى أنّ وجود فرعون الطاغوت يتحقق كلما طُبق منهجه.
__________
(1) الأنفال:60].
(2) تفسير الطبري(10/29).(1/360)
وعلى أي شكل تكرر فرعون تبقى وسائل الرد بخطوطها الأساسية لا تتغير،وإن حدث تغيير فإنّما هو بالفروع’التكتيك‘.فجوهر المواجهة يتمثل في جماعة مؤمنة صابرة مصابرة تأخذ على عاتقها دفع الثمن بأعلى مستوياته من التضحية،لتكون مثالا للآخرين في الثبات والتصدي.وأي قفز عن هذه الحقيقة في مواجهة الطاغوت يعني إطالة مرحلة الاستعباد والخضوع والخنوع.لابدّ من فئة مؤمنة تدفع الثمن الأول وتكون رأس الحربة التي تطعن الطاغوت،وتتحمّل العبء الأكبر،وحين نجد من يقتحم العقبة نكون قد خطونا الخطوة الأولى على طريق النّصر أو الشهادة.إنّ لنا في قصة فرعون دروسا وفوائد جمة،نُجملها فيما يلي:
أولا:البعد الغيبي في الأحداث حقيقة نوقن بها ولا تُلغي واجب الأخذ بالأسباب
إنّ أول مظهر يتجلى فيه البعد الغيبي في قصة فرعون هو الربط بين الأحداث وسلوك النّاس مع ربهم،فليس هناك حدث إلاّ وهو مرتبط بطبيعة علاقة النّاس مع الله،فالعقوبات التي أنزلها الله على فرعون وآله وقومه ما هي إلاّ انعكاس لتلك العلاقة،يقول تعالى:’’فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين‘‘(1)،فكل مأساة تُصيب البشر فبما كسبت أيديهم ويعفوا عن كثير،يقول تعالى:’’وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير‘‘(2)،(أيُّ مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات فبما كسبت أيديكم أي معاصيكم التي اكتسبتموها)(3)؛ذلك أنّ العقوبة دليل على سوء علاقة المُعاقب مع الله،وهي في ذات الوقت تحذير للمذنب كي يعود إلى الله ويراجع نفسه.
__________
(1) الأعراف:136].
(2) الشورى:30].
(3) روح المعاني(25/40).وهذا مخصوص بالمذنبين(فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعرضه للأجر العظيم بالصبر عليه)تفسير البيضاوي(5/131).(1/361)
نعم.إذا أراد الله شيئا لم يمنعه شيء،وإذا أراد الله شيئا هيأ له السبب؛ذلك هو الدرس العظيم المُستفاد من قصة فرعون مع المستضعفين،وهو المعنى المُراد من قوله تعالى:’’ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض‘‘(1)،فليس المُراد هو رفع الظلم عنهم بل جعلهم أئمة؛لأنّ انتصارهم الساحق المبين رغم اختلال موازين القوى الكبير لصالح فرعون يؤكد للنّاس أنّ إرادة الله هي النافذة،ليس في المعركة مع الطواغيت فحسب بل في كلِّ حركة الحياة،وكلّ حركة في الوجود،وذلك هو معنى قوله تعالى:’’ثمّ جئت على قدر يا موسى‘‘(2)،وبُعث موسى عليه السلام إلى فرعون ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده..وسارت الأقدار كما شاء الله لها أن تسير..ثمّ ما كان من أمر هلاك فرعون وجنده.هناك بعد آخر للمعركة مع الطاغوت يغفل عنه كثير من النّاس،فنحن ستار لقدر لا نعلمه،ولكنّنا نؤمن به ونعلم أنّه الحق،فما من غائبة في السماوات ولا في الأرض إلاّ في كتاب من قبل أن يبرأها الله،وهو عليه جلّ شأنه يسير.
ومع كلّ هذه الحقيقة المطلقة فإنّ الأخذ بالأسباب طاعة واجبة،ولكنّها ليست هي الفاعلة،وإنّما الفاعل الحقيقي في كل شيء هو الله،ومن قال بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالف سنة الأنبياء،كما أنّ الطمأنينة إلى تلك الأسباب والإلتفات إليها بالقلوب انتكاسة خطيرة؛فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا بل السبب والنتيجة فعل الله تعالى،والكل منه وبمشيئته(3).فلا بدّ إذا من هذا وذاك دون إفراط أو تفريط،فكما كان البعد الغيبي ظاهرا في قصة المواجهة مع فرعون كان الأخذ بالأسباب حاضرا في كل مراحلها.
ثانيا:سنّة أخذ الله للظالمين،وقوله تعالى:’’فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين‘‘(4).
__________
(1) القصص:5-6].
(2) طه:40].
(3) انظر:تفسير القرطبي(4/189).
(4) الزخرف:56].(1/362)
إنّ قدر الله لا يُستعجل فلكل أجل كتاب،ولنا بما حدث لفرعون وقومه عِبَر،حين سلب الله منهم ما خولهم ،وانتقم منهم فأغرقهم،وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم..بسبب ظلمهم واستكبارهم وطغيانهم وعصيانهم وجرائمهم…يقول تعالى:’’إنّ ربك لبالمرصاد‘‘(1)،لا يفوته شيء من أعمال العباد،فمرجع الخلق إلى حكمه وإليه مصيرهم(2).فهل حذر الناس من التهاون في أمر الله؟أين انتفاش فرعون وسطوته حين أدركه الغرق،وأحس ببأس الله؟لقد أعلن الإستسلام في ساعة لا ينفع بها إيمان.
__________
(1) الفجر:14].
(2) انظر:تفسير البغوي(4/484).(1/363)
ولمّا أغضبوا الله بالإفراط بالعناد والمعصية كانت سنّة الله التي مضت(1)،فهو يمهل ولا يُهمل.يقول تعالى:’’فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين،فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين‘‘(2)،أي جعلناهم متقدمين في الهلاك ليتعظ ويعتبر بهم من بعدهم من الطواغيت إلى يوم القيامة(3).لقد(ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملئ الأعين والنفوس في هذه الأرض،ذهبوا فلم ييأس على ذهابهم أحد،ولم تشعر بهم سماء ولا أرض،ولم يُنظروا أو يُؤجلوا عندما حل الميعاد:’’فما بكت عليهم السماء والأرض(4)وما كانوا منظرين‘‘(5)،وهو تعبير يلقي ظلال الهوان،كما يلقي ظلال الجفاء..فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء.ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء)(6).
__________
(1) انظر:تفسير البيضاوي(5/149).
(2) الزخرف:55-56].
(3) انظر:تفسير الثعالبي(4/130).
(4) يراد بعدم البكاء عدم الاكتراث بهلاكهم ولا الاعتداد بوجودهم وقد كثر في التعظيم لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض بكته الريح ونحو ذلك وفي التفسير شواهد كثيرة من شعر العرب عليه ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوية والأرضية وسائر الجمادات شعورا لائقا بحالها لم يحتج إلى اعتبار المجاز وأثبت بكاء حقيقيا لها بحسب ما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو نحوه أو أثبته لها بحسب ذلك أيضا) الألوسي: أبو المعالي،محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين،(1273-1342هـ)،ما دل عليه القرآن مما يضد الهيئة القويمة،جزء واحد،ط2،المكتب الإسلامي،بيروت،1971م.(1/129).
(5) الدخان:29].
(6) في ظلال القرآن(7/368).(1/364)
إنّ في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لعبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم،ومع هذا ما آمن أكثر الناس(1).يقول تعالى:’’إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين‘‘(2)،لذلك لم تنفعهم تلك المواعظ البليغة؛فلم يتنبه لها أكثر الأولين،كما لم يتنبه لها أكثر الآخرين،يقول تعالى:’’فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإنّ كثيرا من النّاس عن آياتنا لغافلون‘‘(3)؛فهذا التطاول والتفاخر والاستعلاء من قبل الطواغيت وأعوانهم في مشارق الأرض ومغاربها لدليل واضح على غفلتهم وعدم انتفاعهم بما حدث لفرعون وغيره من الطغاة والبغاة.
ثالثا:الفتنة والاختبار،وقوله تعالى:’’وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‘‘(4).
تلك هي الحكمة من وجود فرعون وأمثاله من الطواغيت،وذلك هو قضاء الله وقدره في خلقه وله الحكمة البالغة،فالحياة دار بلاء وامتحان واختبار حيث(أراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر)(5)،وعلى هذا الأساس نفهم الحياة الدنيا،فهي صراع بين الحق والباطل،ومن أسقط تلك الحقيقة من تصوره للحياة فقد أخطأ الفهم الصحيح وضل.
__________
(1) تفسير ابن كثير(3/338).
(2) الشعراء:67].
(3) يونس:92].
(4) الفرقان:20].
(5) تفسير القرطبي(13/18).(1/365)
إنّ فرعون لعنه الله وأمثاله امتحان من الله للبشرية،’’ولوشاء الله لآمن من في الأرض كلهم جميعا‘‘(1)،ولكنّه سبحانه جعل الإيمان اختيارا،وألهم النّفس فجورها وتقواها’’قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها‘‘(2).(ولا يهمنا أن نستقصي أصول هذه النّزعات السيئة من النّاحية التاريخية،لنعرف أهي طارئة على فطرة الإنسان،أم مخلوقة معها،وإنّما يهمنا أن هذه وتلك موجودتان في الإنسان،تتنازعان قِيادَه،ومصيره معلق بالنّاحية التي يستسلم لها)(3)،ومن خلال هذا الفهم نستطيع أن نفهم أحد أهم المحركات الإنسانية على مدار التاريخ.
وقد يتذرع العصاة والفجرة بالقدر،يقول تعالى:’’سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء‘‘(4)،فهذه دعواهم،ولقد أجاب القرآن عليها،’’كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا،قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا،إن تتّبعون إلاّ الظنّ وإن أنتم إلاّ تخرصون‘‘(5)، أي(هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره والمقصود من هذا التبكيت لهم لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ويقوم به البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم وأنهم إنما يتبعون الظنون أي ما يتبعون إلا الظن الذى هو محل الخطأ ومكان الجهل وإن أنتم إلا تخرصون أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص)(6)،فنحن لم نُكلّف بمعرفة قدر الله،فلننشغل بما كُلفنا به من أوامر ونواه معلومة متيقنة،وندع ما لم نُكلف به.
__________
(1) يونس:99].
(2) الشمس:9-10].
(3) محمد الغزالي،خلق المسلم،ط3،دار الدعوة،الأسكندرية،1411هـ-1990م.(27).
(4) الأنعام:148].
(5) الأنعام:148].
(6) فتح القدير(2/175).(1/366)
إنّ الحجة والبرهان لا تُؤدي إلى الإيمان حتما،فبعض النّاس يسير مع البرهان وبعضهم لا يسير معه.فكل النّاس شاهدوا تلك المباراة الشهيرة مع السحرة،وشاهدوا سجود السحرة وإيمانهم الصريح الثابت الواضح،ومع ذلك شاهدنا فرعون يقود جيشا منهم يُلاحق به موسى ومن معه.إذاً هناك مانع يمنع النّاس من الإيمان..إنّه مرض في قلوبهم.قد يكون الهوى والمصلحة،أو المجاملة والمداهنة ومراعاة العرف والعادة،أو الحقد والحسد…ولكن لن يكون ضعف الدليل أو عدمه سببا بعد أن أُقيمت الحجة وسطع البرهان.بل(لأنّ على قلبه وسمعه و بصره موانع تصد عن الفهم والقبول،وهكذا حال من غلب عليه هواه)(1)،وهذه حقيقة على حملة الدعوة إلى الله أن يتنبهوا لها،يقول تعالى:’’ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله ولكنّ أكثرهم يجهلون‘‘(2)؛ذلك أنّ المانع عن الإيمان سبب آخر لا يتعلق بضعف الدليل أو قوته.
رابعا:لا أثر للقاعدين على رصيف الحياة
هناك صنف من النّاس يتعلقون بالضعف الموهوم،فهم في جهد دائم للبحث عن علاّقة يعلقون عليها ضعفهم،يقول تعالى:’’إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض،قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها،فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا‘‘(3).هؤلاء القاعدون على رصيف الحياة أصفار لا قيمة لهم،لقد ظلموا الحق الذي من أجله خُلقوا،وظلموا الرسالة التي أُنيطت بهم حين قعدوا،فبماذا يُجيبون وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم!
__________
(1) فتاوى ابن تيمية(16/585).
(2) الأنعام:111].
(3) النّساء:97].(1/367)
’ليس باليد حيلة‘،تلك هي حجة الأغلبية الصامتة هذه الأيام وشعار القاعدين!إنّها الحجة الباهتة التي تُخفي وراءها الخوف من الموت.إنّه الهروب من المواجهة والقيام بالواجب ودفع الثمن هو الذي أقعد الكثيرين!ولسان حالهم يقول كما قال الأذلاء الأرقاء:’’فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون‘‘(1).ومن النّاس من يجلس مستريحا يعلل نفسه بالكذب والإدعاء الباطل قائلا:لا بدّ من التريث..ويبقى التريث شعارا أبديا لا بدّ منه.إنّه الستار الذي يُخفي به هؤلاء ضعف إيمانهم وعجزهم وكساحهم..فهم الذين قالوا:’’رَبَّنَا لِمَ كتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيب‘‘(2)،وهذا لا يصدر ممَّن(يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة..إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه ولا انشرح بالإسلام جنانه)(3).
وربما كان القعود بسبب وسوسة شيطانية مفادها أنّ ضريبة العزِّ باهظة الثمن!والحقيقة غير ذلك،(فحين كان بنو اسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة.فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلاّ ذلا واستكانة وخوفا.فأمّا حين استعلن الإيمان،في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب وهم مرفوعوا الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج ودون تحرج،ودون اتقاء للتعذيب.فأمّا عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة،وإعلان النّصر الذي تمّ قبل ذلك في الأرواح والقلوب)(4).
__________
(1) المائدة:24].
(2) النّساء:77].
(3) تفسير القرطبي(5/281)مع بعض التصرف.
(4) في ظلال القرآن(5/487).(1/368)
وكم نحن بحاجة لتدبر هذه العبرة،فما ندفعه من أموالنا وأرواحنا مستذلين خانعين أضعاف ما يمكن أن ندفعه في طريق العزّة والإنتصار،فلماذا هذا التردد والحيرة في وقت تُنهب ثرواتنا وتُداس مقدساتنا بل ويُستهزؤ بديننا…ومرّة أُخرى يُعلق النّاس عجزهم وتخاذلهم على القدر!وما علموا أنّ الشرط يسبق جوابه’’إن تنصروا الله ينصركم‘‘(1)،فنحن ندفع ضريبة الجبن والخور لا ضريبة الجهاد والصبر.من هنا نعلم متى نرتقب النّصر من عند الله،’’إنّ الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيُّروا ما بأنفسهم‘‘(2)،نترقبه-إذن-حين نستعد لبذل الثمن في سبيل العزة في سبيل الله.
إنّ قلة التضحية في النّفس والمال،وقلة عدد المستعدين لهذه التضحية قَلَّلَ فرصة الإنتصار وأجَّلها،فهذا التقاعس سبب أكيد في إطالة أمد الظلم والاستعباد،وفي المقابل كان الإستعداد للتضحية وبذل المال والنّفس سببا في الانتصار على الطواغيت فيما مضى من الزمان،وهذا يعني أنّنا بحاجة لمواجهة مع الذات وعدم تبرئتها أو تلمس الأعذار لها.
أيّها المتقاعسون الخائرون المتثاقلون:ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟!أين هي المحاولات للتخلص من الرق لتبرئة الذمة أمام الله،فإن لم تغز فلا أقل أن تحدث نفسك بالغزو،يقول صلى الله عليه وسلم’’من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق‘‘(3).إنّه العجز والضعف والحرص على حطام الدنيا حملهم على الخنوع والاستسلام!’’فأولئك مأواهم جهنم،وساءت مصيرًا‘‘(4).ذلك لأنّنا أمّة جهاد وتمرد على الظلم،ولأنّنا حملة السلاح نخوض معركة الحق إلى يوم القيامة،فمن قعد فليس منّا،فهو إلى جهنّم وبئس المصير.
__________
(1) محمد:7].
(2) الرعد:11].
(3) صحيح مسلم،كتاب الإمارة،باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو(3/1517)رقم(1910).
(4) النّساء:97].(1/369)
إنّ القاعدين على رصيف الحياة لا أثر لهم ولا أثر لإيمانهم.فوجودهم وعدمه سواء،وذلك مناقض لحكمة الخلق،فنحن لم نُخلق عبثا،ولم نوجد للأكل والشرب وقضاء الحاجة وإشباع الغريزة!فمن قعد على الرصيف فقد تخلى عن وظيفته في هذه الحياة.
إنّ الإيجابية في هذا الدين تعني أن يظهر أثر حيٌّ للإيمان في واقع الحياة،وإنّ القاعدين لا يصنعون التاريخ ولا يديرون دفة الحياة؛ذلك أنّ الحق لا يعمل بالفراغ،فلا بدّ أن يتمثل بمجموعة من النّاس،تقبل دفع الثمن في سبيله،ولو كانت عدالة المطلب تكفي لتحقيقه لما كانت التضحيات بالمال والنّفس.ومن عكس المسألة عاش في أمنية الشيطان؛وذلك هو الإنسان السلبي(الذي يجنح في الغالب إلى الإنكماش والسلبية،ويؤثر العيش في خذلان وانطوائية وكسل ليظل دائما مع العاجزين والخالفين والمتخاذلين)(1).
إنّ المعركة مع فرعون ليس فيها حياد،فالساكت فيها مُتنازل عن حقه ظالم للحق الذي أدركه.قد لا ننتصر عن قريب،ولكن لن يضيع الحق ما دام في الساحة من يحمله.وفي المقابل لن ننتصر أبدا ونحن قاعدون!
وختاما فهذا ثمرة جهد متواصل من محب لخدمة كتاب الله،وقد بذلت أقصى ما أستطيع لإخراج هذا البحث في أحسن صورة،فإن أصبت فبتوفيق من الله،وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان،وأسأل الله أن ينفع بهذا البحث المسلمين،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر
مسرد الآيات
مسرد الأحاديث
ملخص الرسالة باللغة الإنجليزية
المصادر
الأتابكي: أبو المحاسن،جمال الدين يوسف بن تغرى بردى،(813- 874هـ)،النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة،16جزء،المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر،مصر.
__________
(1) أمير عبد العزيز،الإنسان في الإسلام،ط1،دار الفرقان،مؤسسة الرسالة،عمان،وبيروت،1404هـ-1984م(153).(1/370)
ابن الأثير:محمد بن محمد بن عبد الواحد الشيباني،(ت630هـ)، الكامل في التاريخ ،10أجزاء،تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي،ط2،دار الكتب العلمية،بيروت،1415هـ – 1995م.
الأزدي: معمر بن راشد،(ت151)،الجامع،جزءان،تحقيق: حبيب الأعظمي (منشور كملحق بكتاب المصنف للصنعاني ج10)،ط2،المكتب الإسلامي،بيروت،1403.
ابن إسحاق:محمد بن يسار،(85-151هـ)،سيرة إبن إسحاق المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي،جزءان،تحقيق: محمد حميدالله،معهد الدراسات والأبحاث للتعريب.
الأصبهاني:أبو نعيم،أحمد بن عبد الله،(ت430هـ)،حلية الأولياء وطبقات الأصفياء،10أجزاء،ط4،دار الكتاب العربي،بيروت،1405هـ.
الألوسي: أبو المعالي،محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين،(1273-1342هـ)،روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني،30جزءا، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الألوسي: أبو المعالي،محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين،(1273-1342هـ)،ما دل عليه القرآن مما يضد الهيئة القويمة،جزء واحد،ط2،المكتب الإسلامي،بيروت،1971م.
أمير عبد العزيز،الإنسان في الإسلام،جزء واحد،ط1،دار الفرقان،مؤسسة الرسالة،عمان،وبيروت،1404هـ-1984م.
الباقلاّني:أبو بكر،محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم،إعجاز القرآن،جزء واحد،تحقيق:عماد الدّين أحمد حيدر،ط3،مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت،لبنان،1416هـ-1995م.
البخاري: أبو عبدالله، محمد بن إسماعيل الجعفي،(194- 256هـ)، الجامع الصحيح المختصر،6أجزاء،تحقيق: مصطفى ديب البغا، ط3، دار ابن كثير،اليمامة، بيروت، 1407هـ،1987م.
البخاري: أبو عبدالله، محمد بن إسماعيل الجعفي،(194- 256هـ)، التاريخ الكبير،8أجزاء،تحقيق: هاشم الندوي،دار الفكر.
البغوي: أبو محمد،الحسين بن مسعود الفراء،(ت 516)، معالم التنزيل،4أجزاء،تحقيق: خالد العك - مروان سوار،ط2، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ – 1987م.(1/371)
البهوتي: منصور بن يونس بن إدريس، كشاف القناع عن متن الإقناع،6أجزاء،تحقيق:هلال مصيلحي مصطفى هلال،دار الفكر،بيروت،1402.
البيضاوي: (ت 791)، تفسير البيضاوي،5أجزاء،تحقيق: عبد القادر عرفات العشا حسونة، دار الفكر، بيروت، 1416هـ – 1996م.
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى،(384-458هـ)،الإعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث،جزء واحد،تحقيق: أحمد عصام الكاتب،ط1،دار الآفاق الجديدة،بيروت،1401هـ.
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى،(384-458هـ)، سنن البيهقي الكبرى،10أجزاء،تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414هـ – 1994م.
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى،(384-458هـ)،شعب الإيمان،8أجزاء،تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1410هـ.
البيهقي:أبو بكر،أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى،(384-458هـ)،كتاب الزهد الكبير،جزء واحد،تحقيق:عامر أحمد حيدر،ط3،مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت،1996م.
الترمذي:أبو عيسى،محمد بن عيسى السلمي،(209-279هـ)، الجامع الصحيح سنن الترمذي،5أجزاء،تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الترمذي: أبو عبدالله الحكيم،محمد بن علي بن الحسن،نوادر الأصول في أحاديث الرسول،4أجزاء،تحقيق:عبد الرحمن عميرة،ط1، دار الجيل،بيروت،1992م.
التميمي :أبو بكر، أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي،(245- 324هـ)، كتاب السبعة في القراءات،جزء واحد،تحقيق: شوقي ضيف،ط2، دار المعارف، القاهرة، 1400هـ.
ابن تيمية:أبو العباس،أحمد بن عبد الحليم الحراني،(661-728هـ)،دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية،6أجزاء،تحقيق: محمد السيد الجليند،ط2،مؤسسة علوم القرآن،دمشق،1404هـ.(1/372)
ابن تيمية:أبو العباس،أحمد بن عبد الحليم الحراني،(661-728هـ)،كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير،17جزء،تحقيق: عبد الرحمن محمد قاسم النجدي،مكتبة ابن تيمية.
الثعالبي: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف،الجواهر الحسان في تفسير القرآن،4أجزاء،مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت.
الثوري:أبو عبد الله،سفيان بن سعيد بن مسروق،(ت 161هـ)،تفسير سفيان الثوري،جزء واحد،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1403هـ.
الجصاص:أبو بكر، أحمد بن علي الرازي،(305-370هـ)،أحكام القرآن،5أجزاء،تحقيق: محمد الصادق قمحاوي،دار إحياء التراث العربي،بيروت،1405هـ.
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(508 –597هـ)،تذكرة الأريب في تفسير الغريب،جزء واحد،المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ.
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(508 –597هـ)، زاد المسير في علم التفسير،9أجزاء،ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ.
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(508- 597هـ)،صفوة الصفوة،4أجزاء،تحقيق: محمود فاخوري ومحمد رواس قلعه جي،ط2،دار المعرفة،بيروت،1399هـ - 1979م.
ابن الجوزي:أبو الفرج،عبد الرحمن بن علي بن محمد،(508 –597هـ)،المنتظم في تاريخ الملوك والأمم،12جزء،تحقيق: محمد و مصطفى عبد القادر عطا،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1412هـ – 1992م.
الحاكم: أبو عبدالله، محمد بن عبدالله النيسابوري،(321-405هـ)، المستدرك على الصحيحين،4أجزاء،تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ – 1990م.
ابن حجر:أبو الفضل، أحمد بن علي العسقلاني.(773-852هـ)،فتح الباري شرح صحيح البخاري،13جزء،تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي , محب الدين الخطيب،دار المعرفة،بيروت،1379هـ.
الحلبي:علي بن برهان الدين،(975-1044م)،السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون،3أجزاء،دار المعرفة،بيروت،1400هـ.(1/373)
الحموي: أبو عبد الله ،ياقوت بن عبد الله.(ت626)، معجم البلدان،5أجزاء، دار الفكر، بيروت.
ابن حنبل:أبو عبد الله، أحمد الشيباني.(164- 241هـ)،مسند الإمام أحمد بن حنبل،6أجزاء،مؤسسة قرطبة،مصر.
ابن حيان: أبو محمد،عبد الله بن محمد بن جعفر الأصبهاني،(274- 369هـ)،العظمة،5أجزاء،تحقيق: رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري،ط1،دار العاصمة،الرياض،1408هـ.
الخالدي:صلاح عبد الفتّاح.البيان في إعجاز القرآن،جزء واحد،ط3،دار عمّار للنشر والتوزيع،ألأردن،عمّان،سوق البتراء،قرب الجامع الحسيني،1413هـ-1992م.
ابن خالويه: أبو عبد الله ،الحسين بن أحمد.( 314- 370هـ)، الحجة في القراءات السبع،جزء واحد،تحقيق: عبد العال سالم مكرم ،ط4، دار الشروق، بيروت، 1401هـ.
الرازي:محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر،(ت721)، مختار الصحاح،جزء واحد،تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415هـ – 1995م.
ابن رجب:أبو الفرج،عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي،(736-795هـ)،التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار،جزء واحد،ط1،مكتبة دار البيان،دمشق،1399هـ.
الروياني:أبو بكر،محمد بن هارون،(ت307هـ)،مسند الروياني،جزءان،تحقيق: أيمن علي أبو يماني،ط2،مؤسسة قرطبة،القاهرة،1416هـ.
الزرقاني:محمد بن عبد الباقي بن يوسف،(ت1122هـ)،شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك،4أجزاء،ط:1،دار الكتب العلمية،بيروت،1411هـ.
الزرقاني: محمد بن عبدالعظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن،جزءان،ط1، دار الفكر، بيروت، مكتب البحوث والدراسات ، 1996م.
الزركشي: أبو عبد الله،محمد بن بهادر بن عبد الله،( 745- 794هـ)، البرهان في علوم القرآن،4أجزاء،تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، 1391هـ.
زكريا:أبو يحيى الأنصاري،فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن،جزء واحد،تحقيق:محمد علي الصابوني،ط1،عالم الكتب،بيروت،1405هـ ـ1985م.(1/374)
الزمخشري:أبو القاسم،محمود بن عمر بن محمد،(467-538هـ)،الفائق في غريب الحديث،4أجزاء،تحقيق: علي محمد البجاوي -محمد أبو الفضل إبراهيم،ط2،دار المعرفة،لبنان.
الزمخشري:أبو القاسم،محمود بن عمر بن محمد،(467-538هـ)،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل،4أجزاء،تحقيق:محمد عبد السلام شاهين،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،1415هـ،1995م.
ابن زنجلة: أبو زرعة،عبد الرحمن بن محمد. حجة القراءات،جزء واحد،تحقيق: سعيد الأفغاني،ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 – 1982.
السبكي:علي بن عبد الكافي،(ت756)،الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي،جزءان،ط1، دار الكتب العلمية،بيروت،1404هـ.
أبو السعود:محمد بن محمد العمادي،(ت951)، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم،9أجزاء، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
سيد قطب،في ظلال القرآن،8أجزاء،ط5،دار إحياء التراث العربي،بيروت،لبنان،1386هـ-1967م.
السيوطي:أبو الفضل،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال(849-911هـ)،وجلال الدين محمد بن أحمد،تفسير الجلالين،جزء واحد،ط1، دار الحديث، القاهرة.
السيوطي:أبو بكر،جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال،(ت911هـ)، الدر المنثور،8أجزاء، دار الفكر، بيروت، 1993م.
السيوطي:أبو الفضل،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال(849-911هـ)،الديباج على صحيح مسلم،6أجزاء،تحقيق: أبو إسحاق الحويني الأثري،دار ابن عفان،الخبر-السعودية،1416هـ-1996م.
السيوطي:أبو الفضل،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن الكمال(849-911هـ)،كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب،جزء واحد،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت،1985م.
الشوكاني:محمد بن علي بن محمد،(1173- 1250هـ)، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير،5أجزاء، دار الفكر، بيروت.(1/375)
الصنعاني :عبد الرزاق بن همام،(126- 211هـ)، تفسير القرآن،جزءان،تحقيق: مصطفى مسلم محمد،ط1، مكتبة الرشد، الرياض، 1410هـ.
الصنعاني:محمد بن إسماعيل الأمير،(773-852هـ)،سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام،4أجزاء،تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي،ط4،دار إحياء التراث العربي،بيروت،1379هـ.
الطبراني:أبو القاسم،سليمان بن أحمد بن أيوب،(260- 360هـ)،المعجم الأوسط،10أجزاء،تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد،عبد المحسن بن إبراهيم الحسين،دار الحرمين،القاهرة،1415هـ.
الطبراني:أبو القاسم،سليمان بن أحمد بن أيوب،(260- 360هـ)،المعجم الكبير،20جزءا،تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي،ط2،مكتبة العلوم والحكم،الموصل،1404 – 1983م.
الطبري:أبو جعفر،محمد بن جرير بن يزيد بن خالد،(224-310هـ)، تاريخ الأمم والملوك،5أجزاء،ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ.
الطبري:أبو جعفر،محمد بن جرير بن يزيد بن خالد،(224-310هـ)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن،30جزءا، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
الطبري:أبو جعفر،أحمد بن عبد الله بن محمد،(615-694هـ)،الرياض النضرة في مناقب العشرة،جزءان،تحقيق: عيسى عبد الله محمد مانع الحميري،ط1،دار الغرب الإسلامي،بيروت،1996.
الطيالسي: أبو داود،سليمان بن داود الفارسي البصري،(ت204هـ)،مسند أبي داود الطيالسي،جزء واحد،دار المعرفة،بيروت.
عباس:فضل حسن،القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته،جزء واحد،ط1،دار الفرقان،عمان،الأردن،1987م.
العجلوني،إسماعيل بن محمد الجراحي،(ت1162)،كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة النّاس،تحقيق: أحمد القلاش،جزءان،ط4،مؤسسة الرسالة،بيروت،1405هـ.
العدني:محمد بن يحيى بن أبي عمر،(150- 243هـ)،الإيمان،جزء واحد،تحقيق: حمد بن حمدي الجابري الحربي،ط1،الدار السلفية،الكويت،1407هـ.(1/376)
العكربي:أبو البقاء، محب الدين عبدالله بن أبي عبدالله الحسين بن أبي البقاء،(538- 616هـ)، التبيان في إعراب القرآن،جزءان،تحقيق:علي محمد البجاوى، إحياء الكتب العربية.
العكري:عبد الحي بن أحمد الدمشقي،(1032- 1089هـ)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب،4أجزاء،دار الكتب العلمية،بيروت.
الغزالي:أبو حامد،محمد بن محمد،(ت505هـ)،إحياء علوم الدّين،5أجزاء،مكتبة مصر،دار مصر للطباعة،1998م.
الغزالي:محمد،خلق المسلم،ط3،دار الدعوة،الإسكندرية،1411هـ-1990م.
الغزالي:محمد،الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية،ط2،دار نهضة مصر،مصر،2000م.
الغزالي:محمد،في موكب الإيمان،ط1،دار نهضة مصر،مصر،1997م.
الغزي :محمد بن محمد بن محمد، إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن،جزءان،تحقيق: خليل محمد العربي، ط1، الفاروق الحديثة، القاهرة، 1415هـ.
الفراهيدي:أبو عبد الرحمن،الخليل بن أحمد،(100-175هـ)،كتاب العين،5أجزاء،تحقيق: مهدي المخزومي،وإبراهيم السامرائي،دار ومكتبة الهلال.
الفيروزآبادي:محمد بن يعقوب،(ت817هـ)،القاموس المحيط،جزء واحد.
الفيومي:أحمد بن محمد بن علي المقري،(ت:770هـ)،المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي،جزءان،المكتبة العلمية،بيروت.
القرطبي: أبو عبد الله ، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح،(ت671)،الجامع لأحكام القرآن،20جزءا ،تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني ،ط2، دار الشعب، القاهرة، 1372هـ.
القنوجي:صديق بن حسن،(1248- 1307هـ)،أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم،3أجزاء،تحقيق: عبد الجبار زكار،دار الكتب العلمية،بيروت،1978م.
القيسي:أبو محمد،مكي بن أبي طالب،(355-437هـ)، مشكل إعراب القرآن،جزءان،تحقيق: حاتم صالح الضامن،ط2،مؤسسة الرسالة،بيروت،1405هـ.
ابن القيم الجوزية:أبو عبد الله،محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي،(691ـ 751هـ)،التبيان في أقسام القرآن،جزء واحد،دار الفكر.(1/377)
ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي،(701-774هـ)، البداية والنهاية،14جزء،مكتبة المعارف،بيروت.
ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي،(701-774هـ)، تفسير القرآن العظيم،4أجزاء، دار الفكر،بيروت، 1401هـ.
ابن كثير:أبو الفداء،إسماعيل بن عمر الدمشقي،(701-774هـ)،الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم،جزء واحد،تحقيق: محمد العيد الخطراوي،محيي الدين مستو،ط1،مؤسسة علوم القرآن،دار القلم،بيروت،1399هـ.
الكرماني:محمود بن حمزة بن نصر، أسرار التكرار في القرآن،جزء واحد،تحقيق: عبد القادر احمد عطا ،ط2، دار الاعتصام، القاهرة، 1396هـ.
الكلاعي:أبو الربيع،سليمان بن موسى الأندلسي،(565-634هـ)،الإكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء،4أجزاء،تحقيق: محمد كمال الدين عز الدين علي،ط1،عالم الكتب،بيروت،1997م.
الكيالي:عبد الوهاب،موسوعة السياسة،6أجزاء،ط1،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،1983.
ابن ماجه:أبو عبد الله،محمد بن يزيد القزويني،(207 -275هـ)،سنن ابن ماجه،جزءان،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر،بيروت.
الماوردي:أبو الحسن،علي بن محمد بن حبيب،(370-429هـ)،أعلام النبوة،جزء واحد،تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي،ط1،دار الكتاب العربي،بيروت،1987م.
المحاسبي:أبو عبد الله،الحارث بن أسد بن عبد الله،(165-243هـ)،فهم القرآن ومعانيه،جزء واحد،تحقيق: حسين القوتلي،ط2،دار الكندي،دار الفكر،بيروت،1398هـ.
محمد قطب،واقعنا المعاصر،ط1،مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر،المملكة العربية السعودية،1407هـ،1986م.
المروزي:أبو عبد الله،محمد بن نصر بن الحجاج،(202-294هـ)،تعظيم قدر الصلاة،جزءان،تحقيق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي،ط1،مكتبة الدار،المدينة المنورة،1406م.(1/378)
مسلم: أبو الحسين، بن الحجاج القشيري النيسابوري.( 206- 261هـ) صحيح مسلم،5أجزاء،تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
المصري:شهاب الدين أحمد بن محمد الهائم،(853-915هـ)،التبيان في تفسير غريب القرآن ،جزء واحد،تحقيق: فتحي أنور الدابولي،ط1،دار الصحابة للتراث بطنطا،القاهرة،1992م.
ابن المطرز:أبو الفتح،ناصر الدين بن عبد السيد بن علي،(538-610هـ)،المغرب في ترتيب المعرب،جزءان،تحقيق: محمود فاخوري وعبدالحميد مختار،ط2،مكتبة أسامة بن زيد،حلب،1979م.
المقدسي:مطهر بن طاهر،(ت507هـ)،البدء والتاريخ،6أجزاء،مكتبة الثقافة الدينية،القاهرة.
المناوي:محمد عبد الرؤوف،(952-1031)هـ،التوقيف على مهمات التعاريف،جزء:واحد، تحقيق:محمد رضوان الداية،ط:1،دار الفكر المعاصر،دار الفكر،بيروت،دمشق،1410هـ.
المناوي:محمد عبد الرؤوف،(952-1031)هـ،فيض القدير شرح الجامع الصغير،6أجزاء،ط:1،المكتبة التجارية الكبرى،مصر،1356هـ.
ابن منظور:محمد بن مكرم الأفريقي المصري،(630- 711هـ)، لسان العرب،15جزء،ط1، دار صادر، بيروت.
النحاس:أبو جعفر،(ت338)، معاني القرآن الكريم،6أجزاء،تحقيق: محمد علي الصابوني،ط1، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1409هـ.
النسفي:أبو البركات،عبد الله بن أحمد بن محمود، تفسير النسفي،4 أجزاء.
النفراوي: أحمد بن غنيم بن سالم المالكي،(ت1125)،الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني،جزءان،،دار الفكر،بيروت،1415.
النّووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري،(631- 676هـ)،تحرير ألفاظ التنبيه (لغة الفقه)،جزء واحد،تحقيق:عبد الغني الدقر،ط1،دار القلم،دمشق،1408هـ.
النّووي:أبو زكريا،يحيى بن شرف بن مري،(631- 676هـ)،صحيح مسلم بشرح النووي،18جزء،ط2،دار إحياء التراث العربي،بيروت،1392هـ.(1/379)
ابن هشام:أبو محمد،عبد الملك بن أيوب الحميري المعافري،(ت213هـ)،السيرة النبوية لابن هشام،6أجزاء،تحقيق: طه عبد الرءوف سعد،ط1،دار الجيل،بيروت،1411هـ.
الهيثمي:علي بن أبي بكر،(ت807هـ)،مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،10أجزاء،دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي،،القاهرة،بيروت،1407هـ.
الواحدي:أبو الحسن،علي بن أحمد،(ت468)، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز،جزءان،تجقيق: صفوان عدنان داوودي ،ط1، دار القلم , الدار الشامية، دمشق , بيروت، 1415هـ.
ياسين:محمد نعيم،الإيمان أركانه حقيقته نواقضه،ط3،الطابعون،جمعية عمال المطابع التعاونية،عمّان،1402هـ-1982م.
اليعقوبي:أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر العباسي،تاريخ اليعقوبي،جزءان،دار صادر،بيروت.(1/380)