مقدمة
... الحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بعظمته وجلاله وكبريائه ، حمداً كثيراً طيباً كما أنعم علينا به من نعم ، ثم الصلاة والسلام على الذي أرسل هادياً للعالمين، ومعلماً للبشرية وقائداً لها إلى الصراط المستقيم ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ...
... فهذا البحث عبارة عن سياحة متعجلة في أمر فقه الواقع ، الهدف منها التنبيه على أهمية هذا الموضوع ابتداءً ، ثم الإشارة إلى معالم المنهج الذي ينبغي أن يكون عليه حال المجتهدين والمفتين والمصلحين في عالمنا المعاصر، والذي نحن في حاجة إلى النظر العميق في واقعه وحاله ، وإدراك الأعراف والعادات التي تنتظم في حياة الناس فيه ، والتأمل في أسباب الأحداث ونتائجها ؛ ليكون ذلك عوناً في الإصلاح والبناء ، وطريقاً للنهوض والارتقاء ، فلا بناء يقوم قوياً من غير أن ينظر الباني في موقع هذا البناء ، وما فيه من مخاطر وعيوب تتجنب ، وما يحتويه من محاسن وفوائد لتستصحب .
... إن فقه الواقع قضية على درجة عظيمة من الأهمية ، لا يمكن أن تحاط بمثل هذه الورقات ، ولا يرجى أن تبرز للأفهام وتستقر بمجرد هذه الكلمات ، وإنما هذا البحث هو بذرة ترمى لتنبت مع غيرها من البذور التي يرميها المختصون في هذا المجال ، فيتكامل النبت مبيناً المنهج السليم في فقه الشرع واستنباط أحكامه على الوجه الذي يرضي رب العزة سبحانه وتعالى .
وأسأل الله تعالى التوفيق والقبول .
المبحث الأول
مفهوم فقه الواقع
إن عبارة "فقه الواقع" قد لا تكون من المصطلحات المتفق على تعريفها بألفاظ محددة ، ومع ذلك فإن دلالة العبارة واضحة لكثير من العلماء والمختصين في مجال معرفة واستنباط الأحكام الشرعية ، وتحديداً في الزمن المعاصر ، ومع ذلك فالعبارة تحتاج في مثل هذا المقام إلى إلقاء بعض الضوء على مفهومها ومعناها .
تعريف الفقه لغة :(1/1)
... الفقه في اللغة الفهم والعلم (1) ، وقد يطلق على معنى أعمق من ذلك ، حيث يُعرّف بأنه حسن الإدراك (2) ، وعلى هذه المعاني يقال : أوتي فلان فقهاً في الدين أي فهماً فيه وعلماً ، قال الله عز وجل : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (3) ، فيتفقهوا في الدين أي ليكونوا علماء به (4) ، وقد دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس فقال : (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) (5) ، ويقال ما فقهت ما تقول أي لم أفهمه ، قال تعالى : ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) (6) .
... ويطلق الفقه أيضاً على الفطنة (7) ، وقد يكون ذلك من باب أن الفطنة من لوازم الفقه وعمق العلم.
تعريف الواقع لغة :
... الواقع من وقع ، ووقع في اللغة تأت بعدد من المعاني منها :
__________
(1) ) انظر المصباح المنير (2/479) ، ولسان العرب (13/522) ، ومختار الصحاح (1/213) ، والمعجم الوسيط (2/698) .
(2) ) انظر المعجم الوسيط (2/698) .
(3) ) التوبة :122 ، وانظر تفسير ابن كثير (2/458) .
(4) ) انظر التفسير الكبير (16/179) ، ولسان العرب (13/522 ) .
(5) ) المستدرك على الصحيحين (3/615) كتاب معرفة الصحابة ، ذكر عبد الله بن عباس ، حديث رقم (6280) ، وصحيح ابن حبان (15/531) كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة ، ذكر وصف الفقه والحكمة اللذين دعا المصطفى صلى الله عليه وسلم لابن عباس بهما ، حديث رقم (7055).
(6) ) هود:91
(7) ) انظر المعجم الوسيط (2/698).(1/2)
- السقوط ، وقع الشيء من يدي أي سقط (1) ، و مواقع الغيث مساقطه (2) .
- الوجوب ، وقع القول عليهم أي وجب (3) .
- الثبوت ، وقع الحق أي ثبت (4) ، ووقع الأمر من فلان موقعاً حسناً أو سيئاً ثبت لديه (5) .
- التأثير ، وقع الكلام في نفسه أثر فيها (6) .
- المناسبة ، يقال : هذه نعل لا تقع على رجلي ، أي لا تناسب رجلي (7) .
- الحصول ، يقال وقع الأمر ، ووقع الربيع أو المطر بالأرض أي حصل (8) .
مفهوم فقه الواقع اصطلاحاً :
... بعد معرفة معنى جزئي هذا المركب في اللغة ، يمكن أن نرسم مفهوماً أو تعريفاً عاماً لهذه العبارة كمصطلح متداول نسبياً في الاستعمال المعاصر، وانطلاقاً من التعريف اللغوي فإن الواضح أن تعريف الفقه لغة هو المراد في تعريف هذا المركب ، إذ المقصود فهم ومعرفة الواقع ، وإن أردنا العمق في التعريف فيمكن القول أن المراد هو عمق الفهم وكمال الإدراك للواقع .
__________
(1) ) انظر لسان العرب (8/402) ، والمعجم الوسيط (2/1050) ، ومختار الصحاح (1/305) .
(2) ) انظر مختار الصحاح (1/305) .
(3) ) انظر القاموس المحيط (1/998 ) ، والمعجم الوسيط (2/1050) .
(4) ) انظر القاموس المحيط (1/998) .
(5) ) انظر المعجم الوسيط (2/1050) .
(6) ) انظر المعجم الوسيط (2/1050) .
(7) ) انظر المعجم الوسيط (2/1050) .
(8) ) انظر تاج العروس (22/367) ، و القاموس المحيط (1/998) ، و المعجم الوسيط (2/1050) .(1/3)
... وأما الواقع لغة فقد تختلف تعريفاته نوعاً ما ، ومع ذلك فإن المتأمل يدرك بعض التقارب بينها ، ولكن تعريف الواقع بأنه "الحاصل" هو الأكثر ملائمة لموضوع هذا البحث ، إذ الواقع هو الحال وما هو حادث وحاصل في الحياة (1) ، ومن هنا كان تعريف الصدق بأنه إخبار الواقع ، يقال: صدق فلان في الحديث إذا أخبر بالواقع (2) ، وعلى هذا النسق فقد أُطلق على أحد المذاهب الفلسفية المذهب الواقعي ؛ وذلك لأنه مذهب يلتزم التصوير الأمين لمظاهر الطبيعة والحياة كما هي، وكذلك عرض الآراء والأحداث والظروف والملابسات ، وفي مجال الأدب هناك مذهب يطلق عليه كذلك المذهب الواقعي ، وهو مذهب يعتمد على الوقائع ويعنى بتصوير أحوال المجتمع (3) .
... ومن هنا يتضح مفهوم فقه الواقع ، حيث يمكن القول بأنه الفهم والإدراك لأحوال المجتمع والحياة ، ومعرفة تفاصيل الأحداث الجارية لمن أراد الوصول للأحكام الشرعية أو الإصلاح في الموضوع المعين .
... وقطعاً فليس المطلوب من تحقق المصطلح معرفة كل الواقع في هذه الحياة، فإن هذا أمر عسير المنال بعيد التحقق ، ولكن المقصود من فهم الواقع هو إدراك تفاصيل الأحوال التي تتعلق بموضوع التشريع أو الإصلاح ، وسيأتي تفصيل أكثر لهذه القضية في المبحث الأخير من هذا البحث .
المبحث الثاني
الشريعة الإسلامية والواقع
الأدلة القرآنية والسنية على مراعاة الواقع :
... لقد تضافرت الأدلة القرآنية والسنية على تأكيد اعتبار الشريعة الإسلامية للواقع والحال عند بيان الإسلام وتشريع الأحكام ، ومن الأمثلة على ذلك الآتي :
__________
(1) ) انظر المعجم الوسيط (2/1050) .
(2) ) انظر المعجم الوسيط (1/510) .
(3) ) انظر المعجم الوسيط (2/1050) .(1/4)
- قول الله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (1) ، حيث كان من اعتراض الكفار على القرآن الكريم أنه نزل مفرقاً وليس جملة واحدة ، فبين الله تعالى بعضاً من حكمته في ذلك بقوله : (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) ، وقد ذكر بعض العلماء حكماً لنزول القرآن منجماً تدل على رحمة الله بعباده ومراعاته لحالهم وواقعهم ، ومن ذلك الآتي:
- أنه سبحانه وتعالى أراد أن ييسر حفظ القرآن الكريم على هذه الأمة التي كانت تعم فيها الأمية ، وتقل فيها أدوات الكتابة وندرة الكاتبين ، ولو نزل القرآن الكريم جملة واحدة لعجز الناس عن حفظه ، فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقاً ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره .
- ثم إن الله تعالى أراد أن ييسر فهم القرآن الكريم لعباده ليكونوا أسرع امتثالاً لأوامره ونواهيه ، وحال الإنسان وضعف عقله لا يمكِّنه من فهم واستيعاب كتاب مثل القرآن الكريم جملة واحدة وفي مدة وجيزة .
__________
(1) ) الفرقان:32(1/5)
- ومن حكمة الله تعالى كذلك أنه أراد أن يأخذ هذه الأمة إلى ترك باطلها وعقائدها الفاسدة شيئاً فشيئاً ، وأن يعتادوا ويتلزموا أوامر الإسلام درجة درجة ، فالله تعالى هو ربهم الذي خلقهم وهو أعلم بضعف حالهم ونوع طبعهم، الذي يصعب معه انتقالهم من حياة ألفوها واعتادوها إلى حياة أخرى مختلفة تماماً بصورة فجائية ، ومن هنا كان نزول القرآن الكريم وشرائعه مفرقاً (1) ؛ حيث بدأ القرآن الكريم أولاً بتزكية أرواحهم وتذكيرهم بيوم الحساب ، ثم بعد أن تهيئوا نزلت الأحكام مفرقة ليكون ذلك أدعى للامتثال والطاعة ، ولقد عبَّرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هذا بقولها : ( ..إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً ) (2) .
- ومن الأدلة على مراعاة الشريعة الإسلامية للحال والواقع أن الله تعالى لم يأمر المؤمنين بالقتال إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة ؛ يقول الإمام القرطبي مبيناً ذلك : ( ...ولا خلاف في أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (3) ، وقوله:(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (4) ، وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (5) ، وقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (6) ، وما كان مثله مما نزل بمكة ، فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) (7) ) (8) .
__________
(1) ) انظر مناهل العرفان في علوم القرآن (1/41) .
(2) ) صحيح البخاري (4/1910) ، كتاب فضائل القرآن ، باب تأليف القرآن .
(3) ) المؤمنون:96
(4) ) المائدة: من الآية13
(5) ) المزمل:10
(6) ) الغاشية:22
(7) ) البقرة:190
(8) ) تفسير القرطبي (2/347) .(1/6)
... وذلك لأن واقع المسلمين في ذلك الوقت لم يكن يمكنهم من الجهاد؛ فقد كانوا قلة في العدد ، ولم يكن لهم من الرجال والعتاد والسلاح ما يواجهون به قوة الكفر في مكة يومئذٍ ، ولكن عندما هاجر المسلمون إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة ومنعة وأنصار، فرض القتال ؛ لتغير الحال الذي كانوا عليه في مكة ، فمن ضعف انتقلوا إلى قوة ، ومن قلة إلى كثرة وأنصار ، فكان الواقع مناسباً لأمر القتال ، يقول ابن كثير: ( كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النصب ، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليتشفوا من أعدائهم ، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة ، منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض ، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال ، فلهذا لم يؤمروا بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار) (1) .
- ومن الأمثلة كذلك على مراعاة الشريعة الإسلامية لحال المكلفين وواقعهم أن الله تعالى شرع كثيراً من الأحكام الاستثنائية التي أطلق عليها علماء الأصول الرخص ، وهي أحكام طارئة يستلزمها حال المكلف ، حيث تعرف بأنها : ( ما شرع تخفيفاً لحكم مع اعتبار دليله قائم الحكم ، لعذر خوف تلف النفس أو العضو) (2) ، وقيل في تعريفها أيضاً : (هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر هو المشقة والحرج ) (3) ، وعلى هذا فإن الرخصة هي حكم شرعه الله تعالى في حالات خاصة تستدعي التخفيف لما فيها من مشقة أو حرج أو ضيق أو تلف ، مع قيام الحكم الأصلي معمول به عند زوال العذر أو الظرف المعين .
__________
(1) ) تفسير ابن كثير (1/526) .
(2) ) التقرير والتحبير (2/195) .
(3) ) التمهيد للأسنوي (1/71) .(1/7)
... وأمثلة الرخص الشرعية كثيرة لمن أراد أن يتقصاها، ولكن بعضها يوضح المراد في هذا المقام ، فمنها :
- إباحة أكل لحم الميتة للمضطر ، يقول تعالى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1) ، فمن دخل في حال اضطر معها لأكل الميتة فلا إثم عليه (2) .
- جواز صلاة الخوف عند ملاقاة العدو أو عند احتدام القتال ، فقد قال تعالى في ذلك : ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (3) ، وهذه الصلاة ذات كيفية مخصوصة شرعت في حال القتال مع العدو وبينتها كتب الفقه (4) .
__________
(1) ) البقرة:173 .
(2) ) انظر تفسير القرطبي (2/216 وما بعدها ) .
(3) ) النساء:102.
(4) ) انظر على سبيل المثال : المهذب (1/105) ، ومغني المحتاج (1/301) ، بداية المجتهد (1/87) .(1/8)
- جواز قصر الصلاة الرباعية في السفر ، ومن أدلة ذلك قول الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (1) ، ومن حِكَم هذا التخفيف أن السفر مظنة المشقة والعنت والحرج ، فأراد الله تعالى أن يخفف عن عباده في هذه الحال رحمة وفضلا منه (2) .
- الفطر في رمضان للمسافر أو المريض أو الذي لا يستطيع الصيام ، حيث قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (3) ، وقد فصل الفقهاء في أحكام هذه الآية استنباطاً منها وغيرها من النصوص (4) .
__________
(1) ) النساء:101.
(2) ) انظر المغني (2/47) ، والمجموع (4/276) ، المدونة الكبرى (1/118) .
(3) ) البقرة:183 – 184.
(4) ) انظر على سبيل المثال : المجموع (6/255) ، وحاشية الدسوقي (1/535) .(1/9)
- وأما أمثلة مراعاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للحال والواقع ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين ، باباً شرقياً وباباً غربياً ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة ) (1) ، وفي هذا الحديث دليل واضح على مراعاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحال قريش الذين كان إسلامهم قريباً ، مما قد يجعل في نقض الكعبة وإرجاعها على قواعد إبراهيم عليه السلام فتنة لهم ؛ لِمَا كان يعتقدونه من فضل الكعبة المشرفة ويرون تغييرها عظيماً ، فترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك (2) .
- ومن الأمثلة أيضاً على مراعاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للواقع ، أنه وفي بداية الدعوة بمكة المكرمة لم يأمر المسلمين بتحطيم الأصنام التي توجد حول الكعبة ، ومع أنه - صلى الله عليه وسلم - جاء ليغير هذا الواقع، ولكنه لم يفعل ذلك ، لأنه كان يمكن أن يترتب عليه في ذلك الوقت ما هو أكبر منه ، فقد يثير هذا الفعل أئمة الكفر ويطلبون الثأر لآلهتهم وقد يقومون بقتل المسلمين انتقاماً، والذين لم تكن لهم في ذلك الوقت قوة ولا منعة .
ولكن عندما جاء الوقت المناسب وتغير الحال ، وكان ذلك عند فتح مكة ، حطم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه جميع الأصنام التي كانت حول الكعبة ، لأن الواقع الذي كان موجوداً في بداية الدعوة قد تغير (3) .
علماء الإسلام ومعرفة الواقع :
__________
(1) ) صحيح مسلم (2/969) ، كتاب الحج ، باب نقض الكعبة وبنائها .
(2) ) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (9/89) .
(3) ) انظر في كسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأصنام عند فتح مكة: السيرة النبوية (5/80) .(1/10)
لقد سار نهج علماء الإسلام على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية في مراعاة الواقع والحال ، فكانوا بداية مطلعين على أحوال مجتمعاتهم وأمتهم ، متابعين للأحداث الجارية والقضايا الحادثة ، مدركين لعواقب الأمور ونتائج المشكلات التي تحدث ، والأمثلة على ذلك لا تحصى ، وعلى سبيل المثال المُوَضِّح فقط نذكر الأمثلة الآتية :
- يقول الإمام ابن القيم حاكياً عن شيخ الإسلام ابن تيمية : ( سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول : مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه ذلك وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم) (1) . هذه القصة تؤكد الفرق الواضح بين الفقيه المدرك والعالم بالواقع والحال ، وبين السطحي الذي يأخذ الأمر دون تفحص ولا عمق نظر ، فلقد أراد أصحاب ابن تيمية رحمه الله أن يغيروا هذا المنكر دون نظر لما يترتب عليه من نتائج وعواقب ، ولكن الإمام ابن تيمية نظر إلى الأمر من جانب آخر ، فهم فيه الواقع والحال ، ووازن فيه بين المصالح والمفاسد ، فاتخذ رأيه بناء على ذلك .
__________
(1) ) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/5) .(1/11)
... ولقد تحدث الإمام ابن القيم رحمه الله عن أهمية معرفة الواقع والحال والموازنة بين المصالح والمفاسد عند النهي عن المنكر ، حيث قال : (فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وابغض إلي الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله) (1) ، ومن هنا فإن الفقيه عليه أن ينظر إلى مآلات المسألة ، بعد أن يقوم بدراسة الواقع والحال جيداً ، ويقرأ في النتائج المتوقعة ، ويوازن بين المصالح والمفاسد فيها ؛ ويؤكد الإمام ابن القيم ذلك فيقول : ( فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج ، كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة ، إلا إذا نقلتهم إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله ؛ كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك ، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع أو مكاء وتصدية ، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة فهو المراد ، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك ، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك ، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها ، وخفت عليه من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر ، فدعه وكتبه الأولى ، وهذا باب واسع) (2) .
__________
(1) ) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (3/4) .
(2) ) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/5) .(1/12)
- ومن الأمثلة التي تؤكد اهتمام الأئمة المجتهدين بضرورة معرفة حال الناس والاحتكاك بهم لإدراك ما هم فيه ، وصية الأمام أبي حنيفة لتلميذه يوسف بن خالد السمني ، حيث قال له – وكان يوسف بن خالد ذاهباً إلى البصرة - : ( إذا دخلت البصرة استقبلك الناس وزاروك، وعرفوا حقك ، فأنزل كل رجل منزلته ، وأكرم أهل الشرف ، وعظم أهل العلم ، ووقر الشيوخ ، ولاطف الأحداث وتقرب من العامة ، ودار الفجار ، واصحب الأخيار ، ولا تتهاون بسلطان ولا تحقرن أحداً) (1) ، ولا شك في أن الإمام أبا حنيفة يريد أن يكون تلميذه يوسف من الملاصقين للناس ، والعارفين بهمومهم وقضاياهم ، والمتابعين لما يدور فيما بينهم، وكل ذلك عون للفهم الكامل لمقاصد الشريعة الإسلامية ، وما رمت إليه من أحكام .
... وهكذا كان الأمام أبو حنيفة نفسه ، ملماً بواقع الناس وحالهم ، فقد قيل عنه: ( كان أبو حنيفة يناظر أصحابه في المقاييس فينتصفون منه ويعارضونه ، حتى إذا قال استحسن لم يلحقه أحد منهم ، لكثرة ما يورد في الاستحسان من مسائل فيذعنون جميعاً ويسلمون له ) (2) ؛ وعلق الإمام أبو زهرة على ذلك بقوله : ( وما ذاك إلا لإدراكه لدقيق المسائل ، وصلتها بالناس ومعاملاتهم وأغراضهم ، فإن استحسن فإنما يأخذ مادته من دراسته لأحوالهم مع دراسات أصول الشرع الشريف ومصادره) (3) .
__________
(1) ) تاريخ المذاهب الإسلامية محمد أبو زهرة ص 358 .
(2) ) أبو حنيفة حياته وعمره وفقهه وآراؤه الفقهية ، محمد أبو زهرة ، ص 75 .
(3) ) المصدر السابق ص 75.(1/13)
- ونستشهد في هذا المقام كذلك بقول الدكتور يوسف القرضاوي الذي يؤكد ما ذُكر سابقاً من أهمية معرفة الواقع والحال ، حيث يقول : ( فقه الأوراق هذا إن صحت التسمية ليس فقهاً وليس اجتهاداً حقيقياً ، الفقه الحق والاجتهاد الحق هو الذي ينطلق من معايشة الناس ومعرفة ما هم فيه ، والفقيه الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع ) (1) .
القواعد الفقهية وارتباطها بالواقع :
... إن القواعد الفقهية والتي استنبطها العلماء من استقراء الشريعة الإسلامية ونصوصها والأحكام التي تدل عليها ، تؤكد اعتبار وأهمية معرفة الواقع ؛ فإن هذه القواعد يرتبط تطبيقها بمعرفة الواقع والحال ، ومن الأمثلة على ذلك الآتي :
? قاعدة : ( تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ) :
... ومعنى هذه القاعدة أن الإمام - وهو الحاكم أو كل من تولى أمراً من الأمور العامة - لا بد من أن يتصرف في إدارة أمور الناس وترتيب شؤونهم بناءً على المنفعة والمصلحة ، ولا شك أن كل مصلحة حقيقة للأمة معتبرة في الشريعة الإسلامية ، لأن الشريعة الإسلامية جاءت لرعاية مصالح الناس في دنياهم وأخراهم (2) ، ومن هنا فإن على الحاكم أو من هو دونه من موظفي الدولة أن يتعمق بالنظر في أحوال الناس وحياتهم حتى يدرك المصالح ويسعى لتحقيقها ، ويدرك المفاسد والأضرار فيسعى لإزالتها (3) .
? قاعدة : (الأصل بقاء ما كان على ما كان) :
__________
(1) ) فقه الدعوة ملامح وآفاق ، عمر عبيد حسنة (2/188) .
(2) ) انظر الموافقات (2/305) .
(3) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/309) ، و الأشباه والنظائر (1/121) ، و الدر المنثور (1/309) .(1/14)
... ومعنى هذه القاعدة أنه إذا لم يعرف في وقت الخصومة أو الحكم حال الشيء ، وليس هناك دليل يحكم بمقتضاه ، وكان لذلك الشيء حالة سابقة معهودة، فإن الأصل في ذلك أن يحكم ببقائه واستمراره على تلك الحالة المعهودة التي كان عليها حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك ، وعلى ذلك فإن القاضي أو الحاكم لابد له من التأكد من الواقع والحال التي كان عليها هذا الأمر ، والتأكد من عدم وجود دليل على خلاف هذا الحال الذي كان موجودا (1) .
? قاعدة : (المشقة تجلب التيسير) :
... إن الحرج والضيق والمشقة مرفوع في الشريعة الإسلامية ، والمقصود هنا ما كان من ذلك خارجاً عن المعتاد ، وأما المشقة المعتادة التي لا تنفك عنها أعمال الناس غالباً ، أو المشقة لا تنفك عنها بعض التكاليف الشرعية مثل الجهاد وتطبيق الحدود على الجناة فإنها ليست داخلة ولا مقصودة في هذه القاعدة .
وعلى هذا فإن معنى القاعدة أنه إذا حدثت مشقة غير معتادة ، استلزم ذلك النظر في جلب التيسير والتخفيف ، ما لم يكن ذلك مصادماً لنصوص الشرع (2) ؛ ولا يتيسر النظر في تطبيق هذه القاعدة إلا لمن أدرك بمعايشته أو معرفته أو علمه بنوع المشقة الحادثة ومدى تحققها وتأثيرها واعتياد الناس عليها .
? قاعدة : (لا ضرر ولا ضرار) :
... ومعنى هذه القاعدة أنه لا يجوز لأحد أن يحدث ضرراً ولو كان ذلك على وجه المقابلة ، بمعنى أن يحدث ضرراً في مقابل ضرر أُحْدِث به (3) ؛ وعلى هذا فإن كل مكلف عليه أن يدرك ويعلم ما يمكن أن يحدث الضرر ليبتعد عنه .
? قاعدة : (الضرر يزال) :
__________
(1) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/87) .
(2) ) انظر الأشباه والنظائر (1/76) ، وشرح القواعد الفقهية (1/157) .
(3) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/165) .(1/15)
... ومعنى هذه القاعدة أن الضرر ممنوع إحداثه كما دلت على ذلك القاعدة السابقة ، ولكن إذا وقع فإنه تجب إزالته شرعاً (1) ، ومعلوم أن من لا يعرف ما هو الضرر الواقع ولا مدى تأثيره فإنه لن يتمكن من إزالته . ...
? قاعدة : (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) :
... ومعنى هذه القاعدة أنه إذا كان هناك تعارض بين ضرر خاص وضرر عام؛ يدفع الضرر العام ، وذلك لأن الضرر العام أشد وأعم من الضرر الخاص (2) ، وهناك قواعد من فروع قاعدة الضرر يزال تدخل في هذا المعنى ، منها قاعدة : (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) (3) ، وقاعدة : (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما) (4) ، وكل هذه القواعد ترتكز على مبدأ الموازنة بين الأضرار ، وما هو الأشد فيها وما هو الأخف؟ ، وما مدى تعارض هذه الأضرار بحيث لا يمكن تجنب وقوع أحدها؟، وما هي احتمالات أن تدفع هذه الأضرار بدون وقوع أحدها ؟ ، وكل ذلك لا يتمكن منه إلا من كان له عميق نظر وفاحص رؤية في الواقع ، وبُعْد نظر في قراءة النتائج والمآلات .
? قاعدة : (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) :
... وهذه القاعدة معناها أنه إذا تعارضت مصلحة ومفسدة ، وكان لا بد من أن تقع إحداهما ، يجب عند ذلك الاهتمام بدفع المفسدة وترك المصلحة ، لأن الأدلة دلت على أن اعتناء الشريعة بالمنهيات أشد (5) . وعلى هذا فإن الفقيه أو الحاكم عليه أن يدرك المصلحة والمفسدة ، ثم يتأمل في التعارض الكامل بينهما؛ بمعنى أنه إذا تحققت المصلحة فإن المفسدة لا بد أن تقع معها، وكل ذلك قطعاً لا يتمكن منه إلا من توافر فيه الإلمام بحال الحياة وواقع الناس .
المبحث الثالث
العرف وأدلة الأحكام
__________
(1) ) انظر الأشباه والنظائر (1/83) ، و شرح القواعد الفقهية (1/179) .
(2) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/197) .
(3) ) انظر المصدر السابق (1/199) .
(4) ) انظر المصدر السابق (1/201) .
(5) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/205) .(1/16)
تعريف عام بمصادر الأحكام الشرعية :
... مصادر الأحكام الشرعية في الأساس هي القرآن الكريم والسنة النبوية ، ثم من بعد ذلك تأت أدلة أخرى تستنبط وتعرف بها الأحكام الشرعية دل عليها القرآن الكريم والسنة النبوية ، وبعض هذه الأدلة اتفق عليها جمهور العلماء هي الإجماع والقياس ، وهناك أدلة اختلف فيها العلماء منها الاستحسان والمصلحة المرسلة وقول الصحابي وغيرها، وإن كان خلافهم في بعض الأحيان يكون لفظياً أو شكلياً وليس جوهرياً .
... ويهتم علماء الأصول بدراسة هذه الأدلة الإجمالية من حيث حجيتها ودلالتها على الأحكام وغير ذلك مما يتعلق بكونها دليلاً على الحكم الشرعي (1) .
العرف مصدراً للأحكام :
... من الأدلة التي اعتبرها علماء الأصول مصدراً للأحكام الشرعية العرف ، ويطلق عليه أيضاً العادة ، وتُعَرَّف العادة بأنها : ( الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم والمعاودة إليه مرة بعد أخرى ) (2) ، وعلى هذا فإن العرف أو العادة هي ما جرى عليه العمل أو ألفه الناس أو اعتادوه في مجتمع أو بلد أو أمة .
__________
(1) ) انظر المصنفات الأصولية ، وعلى سبيل المثال أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص 21 وما بعدها .
(2) ) شرح القواعد الفقهية (1/219) .(1/17)
... ويستشهد علماء الأصول على اعتبار العادة أو العرف بحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال فيه : ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ) (1) ، وقد نص علماء الأصول على اعتبار العادة مصدراً للأحكام الشرعية ، وحجة من حججه فيما لا نص فيه (2) - بشروط سيأتي ذكرها – ووضعوا قاعدة فقهية تؤكد اعتبار العرف في الشريعة الإسلامية ، وعبروا عنها بقولهم : ( العادة محكمة) (3) ، أي معتبرة شرعاً وتجعل دليلاً لإثبات الحكم الشرعي ، كما فرعوا منها قواعد أخرى تؤكد بعض معانيها ، منها: (المعروف بين التجار كالمشروط بينهم) (4) ، أي أنه إذا جرى الاستعمال والتعارف بينهم على شيء غير مصادم ومعارض للنصوص قضي وحكم به ، وإن لم يُصرح به عند وقوع البيع أو المعاملة (5) ، و( المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ) (6) ، وهذه القاعدة في معنى سابقتها وإن كانت أعم منها ، حيث تشمل جميع المعاملات بين الناس .
__________
(1) ) المستدرك على الصحيحين (3/83) حديث رقم (4465) ، ومسند أحمد بن حنبل (1/379) حديث رقم (3600) ، والحديث موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه ، واعتبره بعض العلماء في حكم المرفوع لأنه ليس من قبيل ما يقال بالرأي ، انظر شرح القواعد الفقهية (1/219) .
(2) ) انظر قواعد الفقه (1/578) ، و شرح القواعد الفقهية (1/219) ، و الموافقات (2/286) ، والأشباه والنظائر (1/90) .
(3) ) انظر المدخل (1/298) ، و حاشية العطار على جمع الجوامع (2/399) ، و الأشباه والنظائر (1/90).
(4) ) انظر قواعد الفقه (1/125) .
(5) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/239) .
(6) ) انظر المصدر السابق (1/237) .(1/18)
... ولقد بُني على العرف ورُجع إليه في الكثير من الأحكام الشرعية ، ومن ذلك سن الحيض والبلوغ والإنزال ، وأقل الحيض والنفاس والطهر وغالبها وأكثرها ، وضابط القلة والكثرة في الأفعال المنافية للصلاة ، والنجاسات المعفو عن قليلها ، وطول الزمان وقصره في موالاة الوضوء ، والبناء على الصلاة في الجمع ، والإيجاب والقبول ، والسلام ورده، والتأخير المانع من الرد بالعيب ، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إقامة له مقام الإذن اللفظي ، وفي إحراز المال المسروق ، وفي عمل الصناع ، وفي وزن أو كيل ما جهل حاله في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع ، وفي إرسال المواشي نهاراً وحفظها ليلاً ، والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ ، وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان ولم يجر بينهما شرط فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط ، وفي ألفاظ الواقف والموصي وفي الأيمان ، وغير ذلك (1) .
شروط اعتبار العرف :
... إن العرف أو العادة التي جرت بين الناس معتبرة في بناء الأحكام الشرعية عليها بشروط أهمها :
- أن لا تخالف العادة أو العرف نصاً من نصوص الشريعة الإسلامية أو مقصداً من مقاصدها أو قاعدة من قواعدها (2) .
- أن تكون العادة مطردة وغالبة أو شائعة ، ولا يؤثر على العموم أو الاطراد تخلف العادة أو العرف في بعض الأفراد أو في بعض الأوقات (3) .
- أن يكون العرف الذي يُراد بناء الحكم عليه معروفاً سابقاً ، ولا يعتبر العرف أو العادة التي طرأت بعد القضية أو الأمر الذي يراد الحكم فيه (4) .
الواقع و العرف :
__________
(1) ) انظر الأشباه والنظائر (1/90) .
(2) ) انظر قواعد الفقه (1/578) .
(3) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/235) .
(4) ) انظر المصدر السابق (1/220) .(1/19)
... العرف كما تقدم هو عبارة عن أمر من الأمور التي اعتاد عليها أهل جهة معينة وتعارفوا عليها في مجتمعهم أو بلدهم ، وأما الواقع – كما تقدم أيضاً - فهو الأحداث الجارية في المجتمع أو البلد أو العالم ، وعلى هذا فإن الواقع قد يكون عادة تعارف عليها الناس لفترات مقدرة من الزمن ، وقد يكون الواقع حدثاً طارئاً ليس بمتعارف عليه ولا معتاد ، وقد يكون الواقع علماً أو فهماً أو حكماً أو غير ذلك من الأمور الحادثة والواقعة بين الناس ؛ وعليه يمكن القول أن الواقع أعم من العادة أو العرف ، بل العادة أو العرف جزء من الواقع وأحد مكوناته .
... وإذا وضح اعتبار الشريعة الإسلامية للعرف أو العادة مصدراً للحكم الشرعي ؛ فإن ذلك يعني اهتمام الشرع بأحد مكونات الواقع ورفعه لرتبة الحجية في أحكام الشريعة الإسلامية ، مما يؤكد بوجه من الوجوه مراعاة الشريعة لواقع حياة الناس وما يدور فيها .
المبحث الرابع
فقه الواقع والفتوى
تعريف الفتوى :
... الفتوى اسم من أفتى العالم إذا بيَّن الحكم ، و أفتاه في الأمر أبانه له، وأفتيته في مسألته إذا أجبته عنها ، ويقال أفتاه في المسألة يفتيه إذا أجابه ، و أفتى المفتي إذا أحدث حكماً، واستفتاه سأله رأيه في مسألة (1) .
وقيل إن الفتيا بيان المشكل من الأحكام الشرعية ، إذ أصلها من الفتي ، وهو الشاب الحدث الذي شب وقوي ، وكأن الفقيه عندما يفتي يقوي المسألة ببيانه وإيضاحه لما أشكل (2) .
__________
(1) ) انظر التوقيف على مهمات التعاريف (1/550) ، و المعجم الوسيط (2/673) ، و لسان العرب (15/147) ، والمصباح المنير (2/462) .
(2) ) انظر لسان العرب (15/148) ، و المعجم الوسيط (2/673) .(1/20)
... وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (1) ، أي فاسألهم (2) ، وقال تعالى أيضاً: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ .. الآية ) (3) أي يسألونك يا محمد أن تفتيهم في الكلالة (4) .
وعلى هذا فإن الفتوى هي بيان حكم الله تعالى للسائل عنها ، والمفتي هو المخبر عن حكم الله تعالى .
شروط الفتوى :
إن مقام الفتوى مقام عظيم ، كبير الموقع في الدين ، لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وقد وصف بعض العلماء الفتوى أنها توقيع عن رب العالمين جل وعلا (5) ، ويريدون بذلك أن المفتي يبلغ عن رب العزة سبحانه وتعالى وعن نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
ولما كان الأمر كذلك وضع العلماء الشروط التي تؤهل لهذا المنصب الرفيع ، حتى لا يتسور الفتوى من ليس من أهلها ، وحتى يكون توافر هذه الشروط فيمن تصدى للإفتاء مؤشر اطمئنان للذين يريدون أن يعرفوا حكم الله تعالى في أمور دنياهم وأخراهم بأن الذي يريدون سؤاله مؤهل لبيان هذه الأحكام .
ولقد وضع العلماء شروطاً لا بد أن تتوافر فيمن تصدى للإفتاء ، ويمكن أن نجملها - إذ المقام ليس مقام تفصيل فيها - في الآتي :
? العقل والبلوغ .
? العلم بالقرآن الكريم وعلومه من ناسخ ومنسوخ وأسباب نزول وغيرها .
? العلم بالأحاديث ، وخاصة أحاديث الأحكام منها ، وقد وضع البعض لها عدداً ، ولكن الضابط أن يكون ما يعرفه أكثر مما يجهله .
? الإلمام باللغة العربية على وجه يعرف به معاني الكلام ، ولا يشترط أن يكون متعمقاً في غرائب اللغة كعلمائها .
__________
(1) ) الصافات:11
(2) ) انظر لسان العرب (15/148) .
(3) ) النساء: من الآية176.
(4) ) انظر تفسير الطبري (6/40) .
(5) ) انظر آداب الفتوى (1/13) ، و إعلام الموقعين (1/10) .(1/21)
? العلم بأصول الفقه وأبوابه ، ليكون متمكناً من الوصول للأحكام الشرعية .
? العلم بمواقع الإجماع ، حتى لا يفتي بخلافه .
? أن يكون واسع المدارك فقيه النفس ، وهذه غريزة لا تتعلق بالاكتساب (1) .
... وهذه الشروط يذكرها علماء الأصول أيضاً في شروط المجتهد ، وهو الذي يستقل باستنباط الأحكام الشرعية دون الاعتماد على مذهب غيره ، وعلى هذا يمكن القول إجمالاً إن المفتي هو من توافرت فيه أهلية الاجتهاد ، وهذا ما نص عليه علماء أصول الفقه (2) .
أهمية معرفة المفتي للواقع :
... إن المفتي – وبعد توافر الشروط المذكورة – لا يستكمل تمام التمكن من الإفتاء إلا بتوافر شرط أساس ، يتوقف عليه الوصول للحكم ، وهو إدراك ومعرفة الواقع والحال ، فلن يصل المفتي أو المجتهد إلى حكم مسألة إذا لم يكن يدرك حقيقتها وحدودها وأثرها ، وغير ذلك مما يتعلق بها من قضايا ومسائل جوهرية تؤثر في الحكم عليها بميزان الشرع الحنيف ، ولقد عبَّر الأصوليون عن ذلك بقولهم : ( الحكم على الشيء فرع تصوره ) (3) ، ومعنى ذلك أن الحكم فرع عن معرفة الشيء واكتمال ملامحه الذهنية في عقل المفتي أو المجتهد .
__________
(1) ) انظر هذه الشروط في مصنفات علم الأصول ، و على سبيل المثال انظر : ، كشف الأسرار (4/22) , والبرهان في أصول الفقه (2/869) ، وإعلام الموقعين (1/46) ، والورقات (1/29) ، والمنخول (1/462) ، و المحصول (6/97) ، وصفة الفتوى (1/4).
(2) ) انظر الإبهاج (1/8) ، و البرهان في أصول الفقه (2/869) ، و الإحكام للآمدي (4/227) .
(3) ) انظر التقرير والتحبير (2/300) ، والإبهاج (1/172) ، وحاشية العطار على جمع الجوامع (1/295).(1/22)
... ومن أحسن العبارات التي تؤكد أهمية إدراك المفتي للواقع بعد إلمامه بعلوم الشريعة وما يتصل بها ، قول ابن القيم : ( ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم ، أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات ، حتى يحيط به علماً ، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر) (1) ، ثم ساق ابن القيم أمثلة تؤكد هذا المعنى فقال: ( ...فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه ، وكما توصل سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عين الأم ، وكما توصل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته: لتخرجن الكتاب أو لنجردنك ، إلى استخراج الكتاب منها ... ) (2) ، ثم قال : ( ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا) (3) .
... إن إدراك الواقع يُمَكِّن المفتي من استخدام القواعد الأصولية والفقيهة ليصل إلى الحكم الشرعي في المسألة المعينة ، ومن الأمثلة على ذلك الآتي :
__________
(1) ) إعلام الموقعين (1/87) .
(2) ) المصدر السابق (1/88) .
(3) ) المصدر السابق (1/88) .(1/23)
? جاءت الشريعة الإسلامية لرعاية مصالح الناس في الدنيا والأخرى ، وهذا ما ثبت باستقراء النصوص ، حيث وجد العلماء أن الشارع الكريم قصد مصالح العباد فيما شرعه من أحكام (1) ، وعلى هذا فقد اعتبرت المصلحة المرسلة – أي التي لا يشهد لها دليل من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء - أحد الأدلة لإثبات الحكم الشرعي، وبالرغم من حكاية الخلاف في اعتبار المصلحة المرسلة ، حيث أثبتها مالك والشافعي في قول قديم ، ومنعها الحنفية وغيرهم منهم أكثر الشافعية ومتأخرو الحنابلة لعدم ما يشهد لها بالاعتبار ، إلا أنه عند التحقيق وجُد أن العمل بالمصلحة متحقق في جميع المذاهب ؛ وذلك لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار من الشرع ، وهذا بعينه هو المصلحة المرسلة (2) .
... ومما يؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقديم شاهد بالاعتبار ، نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير ، وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير ، وكذلك ترك الخلافة شورى ، واتخاذ عمر رضي الله عنه للسجن ، وتدوينه الدواوين ، وفعل عثمان رضي الله عنه في تجديد أذان في الجمعة بالسوق وهو الأذان الأول ، وغير ذلك الكثير الذي فعله الصحابة رضوان الله عليهم لمطلق المصلحة (3) .
__________
(1) ) الموافقات (2/305) .
(2) ) انظر التقرير والتحبير (3/381) .
(3) ) انظر المصدر السابق (3/381) .(1/24)
... وإذا كانت المصلحة المرسلة على هذه الدرجة من الأهمية في ميزان الشرع الإسلامي ، فإن المفتي والمجتهد لا بد له من إلمام بالواقع ، ليدرك ما فيه من مصالح حقيقة تعتبر شرعاً ، لأن المصلحة المعتبرة ليست هي ما يظهر من أول النظر تحقق نفع فيها ، ولكن هي ما توافرت فيها شروط (1) تدرك بعمق تأمل ، وكمال بحث ، وتمام معرفة بواقعها وحالها .
? يعتبر القياس أحد أدلة الأحكام عند جمهور الأصوليين ، وهو مبني على أربعة أركان هي : الأصل والحكم والعلة والفرع (2) ، فالأصل هو المحل الذي جاء في شأنه حكم الشرع ، والحكم هو ما دل عليه النص أو الدليل ، والعلة هي مناط الحكم، أي ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه (3) ، مثل الإسكار علة في تحريم الخمر ، وأما الفرع فهو المحل أو الأمر الذي يراد الوصول إلى حكمه قياساً على الأصل ، وعندئذ يتوجب لإكمال عملية القياس معرفة الفرع معرفة تامة تمكن من التحقق من وجود العلة أو عدمها ، فإذا كانت العلة موجودة ألحق الفرع بالأصل في الحكم ، ولا شك أن المفتي إذا لم يكن مدركاً لواقع الحال لهذا الأمر ، لن يستطيع أن يتحقق من وجود العلة في الفرع ، وبالتالي لا يستطيع إجراء علمية القياس .
? إن الكثير من القواعد الفقهية التي مرَّ ذكرها تحتاج إلى إدراك المفتي للواقع والحال إدراكاً تاماً ، حتى يتمكن من تطبيق هذه القواعد على الأمور المستجدة ، فمثلاً لن يتمكن من الموازنة بين المصالح والمفاسد ، أو يعرف أي المفسدتين أكثر ضرراً ، وأبعد تأثيراً ، إذا لم يكن عميقاً في معرفة هذه الحالة التي يراد الوصول لحكم فيها .
__________
(1) ) ومن شروط المصلحة أن تكون مصحلة حقيقة وليست وهمية ، وعامة وليست خاصة ، وأن لا يعارض التشريع لها نصاً شرعياً ، انظر أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص 86 .
(2) ) انظر المستصفى (1/280) ، وشرح التلويح على التوضيح (2/113) .
(3) ) انظر المستصفى (1/281) .(1/25)
? من القواعد الفقهية التي لها صلة وثيقة بهذا البحث ، قاعدة : ( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ) (1) ، والقاعدة واضحة في معناها ، فإن الفتوى يمكن أن تتغير وتختلف بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات ، والمقصود هنا هو الأحكام التي بنيت على العرف والعادة ، فإذا تغيرت هذه العادة أو العرف تغير الحكم تبعاً لذلك ، ومن الأمثلة على ذلك أن بعض الفقهاء كان يفتي بأن الغاصب - أي السارق عنوة – إذا صبغ الثوب المغصوب بالسواد اعتبر ذلك عيباً ، لأن العرف كان كذلك فيه ، ولما تغير العرف واعتبر السواد ليس بعيب تغيرت الفتوى تبعاً لذلك ، وغير ذلك الكثير من الأمثلة للذي يريد تتبعها (2) .
... وعلى هذا فإن تطبيق هذه القاعدة يحتاج من المفتي أو المجتهد إلى معرفة جيدة بأعراف الناس وعاداتهم ، وما تغير منها وما هو على حاله ، وكل ذلك ليتمكن من الفتوى بناءً على أصول الشرع وقواعده ومقاصده .
المبحث الخامس
شبهات حول مراعاة الواقع
مراعاة الواقع وثبات الأحكام الشرعية :
__________
(1) ) انظر شرح القواعد الفقهية (1/227) ، وقواعد الفقه (1/113) .
(2) ) انظر على سبيل المثال شرح القواعد الفقهية (1/227) .(1/26)
... قد يظن البعض أن تلك المباحث التي سبق عرضها عبارة عن تمييع لأصول الشرع الإسلامي وتضييع لأحكامه باعتبارها تتجه للتأكيد على أهمية مراعاة واقع متغير ، تنتجه العقول البشرية الناقصة ، وتتحكم فيه نزوات من الغرائز الإنسانية التائهة ؛ ولكن الحال ليس كذلك ، فإن مراعاة الشريعة لواقع الناس وحالهم ، أو تغير بعض الأحكام بتغير العرف والحال ، ليست متروكة لكلٍ يغير ما يشاء ويترك ما يشاء ، وإنما تغيّر الحكم أو ثبوته إنما يكون تبعاً لقواعد الشرع وأصوله ، وبناء على قواعد الأصول التي تستنبط بوساطتها الأحكام الشرعية ، ووفقا لمنهج علماء الشريعة الذي اتفقوا عليه وساروا على نهجه ، متبعين بذلك سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى ذلك فإن الشريعة ليست في هوى الواقع تسير معه حيث ما سار .
ثم إنه من المهم هنا التأكيد أن هناك أصولاً وأحكاماً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، ولا تتأثر بواقع و حال المكلف ، مثل قضايا الإيمان والاعتقاد وأصول الأخلاق ، إذ أنها تناسب كل الأحوال وكل العصور بدون استثناء ، وهي ثابتة إلى قيام الساعة.(1/27)
ولعل من أجمل العبارات في أمر مراعاة الشرع للواقع وتغير الفتوى؛ قول ابن القيم في مقدمة فصل عنون له بتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد : ( هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة ، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة ، وإن أدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها) (1) .
بين مراعاة الواقع وتغييره :
... ومن الأمور التي يمكن أن تكون مثار حديث في هذا المقام ، قضية العلاقة بين مراعاة الواقع وتغييره ، وما هو المقصود في نهاية المطاف من مراعاة الواقع؟ وهل مراعاة الواقع تعني ترك الانحراف والإفساد دون محاولة تغييره ؟ .
... لا أحسب أن الإجابة هنا تحتاج إلى كثير جهد في نظمها وإيضاحها ، فإن ما تقدم من بيان في المباحث المتقدمة عن كيفية مراعاة الشريعة للواقع والحال ، وما يتعلق بذلك كافٍ في هذا المقام ، ولكن إن كان من ملخص لذلك فإن المقصود هو أن الواقع إن كان عرفاً أو عادة ، أو كان حدثاً طارئاً ، أو أمراً عابراً ، لابد للفقيه من تأملٍ فيه قبل إصدار الأحكام ، ناظراً وفاحصاً للمصالح والمفاسد ، معتمداً على قواعد الشرع في استنباط الأحكام ، متأملاً في النتائج والمآلات ، متوقعاً تحقق مقاصد الشرع من الحكم الذي توصل إليه ، ولا تعارض لذلك مع وجوب درء المفاسد المشتمل عليها الواقع .
__________
(1) ) إعلام الموقعين (3/3) .(1/28)
وإن كان من جملة تبين العلاقة بين مراعاة الواقع وتغييره ، فيقال : إن مراعاة الواقع هي جزء من المنهج الذي يُسلك للتغيير ، ولا تعارض بينهما أو مقابلة تنفي وجود أحدهما بحدوث الآخر .
إدراك تفاصيل الواقع المعاصر بين الإمكان والتعذر :
... إذا كان إدراك الواقع والإحاطة به على هذه الدرجة من الأهمية ، وإذا كانت مكانته ذات قدر في الوصول للحكم الشرعي المحقق للمصالح والمقاصد الشرعية ، فكيف للمفتي أو المجتهد أن يتمكن من الإحاطة بواقع هذا العالم ؛ الذي كثرت فيه الحوادث والمستجدات ، والأعراف والعادات ، والتي يصعب معها حتى للمختص في جانب منها أن يحيط بجميع أطراف هذا التخصص؟ .
... إن المقصود بإدراك الواقع ليس هو إحاطة المفتي أو المجتهد بكل أمر جارٍ في المجتمعات ، وعلمه بكل كبير أو صغير ينتظم في عادات وأعراف الناس ، وإلمامه بكل العلوم والمعارف والمعاملات التي في عصره ، وإنما المقصود أن المفتي إذا سئل عن أمر ، أو أراد أن يصل إلى حكم في مسألة من المسائل ، عليه أن يدرس حال وواقع هذه المسألة جيداً قبل إصدار حكمه ، وعليه أن يتأمل في نتائج فتواه المتوقعة ، وأن يوازن بين المصالح والمفاسد الشرعية المترتبة على تلك الفتوى ، مستصحباً في ذلك قواعد الأصول والفقه – كما تقدم – ليصل في نهاية الأمر إلى الحكم الشرعي في هذه المسألة .
...
...
خاتمة
... إن أهم النتائج التي يمكن تخليصها في هذه الخاتمة الآتي :
أولاً : إن الله تعالى - وهو خالق العباد والمعاد – قد جعل من سننه في إنزال شرعه مراعاة واقع الناس وحالهم عند تشريع الأحكام ؛ رحمة ورأفة بهم ، وسوقاً لهم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم بما يلائم ضعف طباعهم التي خلقهم عليها ؛ وعلى هذا ينبغي للمصلح والمفتي أن يتأمل في هذا المنهج الرباني ، مقتدياً بما بينه الرسول الكريم صلوات الله وتسليماته عليه في التطبيق والإصلاح .(1/29)
ثانياً : ... لقد سار علماء سلفنا الصالح على هذا النهج ، مخالطين للناس ، عارفين بما يدور بينهم من عادات أو أمور طارئة ، مستصحبين هذه المعرفة في الوصول للأحكام الشرعية ، مراعين لأعراف الناس وعاداتهم التي لا نص فيها ولا تعارض أحكام الشريعة ولا مقاصدها في استنباط الأحكام الشرعية .
ثالثاً : إن مراعاة الواقع والعلم والمعرفة به ليست هي التسليم به والانجراف مع تياره الذي قد يكون فيه المخاطر والمهددات على الأمم والمجتمعات ، ولكن العلم بالواقع هو السبيل لمعرفة المصالح لتصيدها ، وهو الطريق للتنبه للمفاسد لدرئها، كما هو السبيل وتمام المنهج للمجتهد والمفتي لتطبيق القواعد الأصولية والفقهية ؛ وصولاً للأحكام الشرعية للحوادث والمستجدات المعاصرة .
رابعاً : ليس من واجب المفتين ولا غيرهم من العلماء والمصلحين ، الإحاطة بكل ما يدور في هذا العالم الواسع ، على وجه يدركون به تفاصيل الأمور التي لا تعنيهم ، أو القضايا التي لا يحتاجون إلى معرفة مختلف جوانبها ، أو التي لا أثر لها فيما هم بصدد الحكم عليه شرعاً ، وإنما المطلوب التعمق وإدراك تفاصيل القضايا أو الأمور التي يراد الوصول لحكم فيها ، أو معرفة أثرها على المجتمع صلاحاً أو فساداً ، أو غير ذلك مما له صلة باستنباط الأحكام الشرعية أو تطبيقها .
ولله الحمد والمنة
قائمة المصادر والمراجع
أولاً : القرآن الكريم .
ثانياً :
1. الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي - لعلي ابن عبد الكافي السبكي - دار الكتب العلمية - بيروت – الطبعة الأولى : 1404هـ - تحقيق جماعة من العلماء .
2. أبو حنيفة حياته وعمره وفقهه وآراؤه الفقهية ، لمحمد أبو زهرة ، طبعة دار الفكر العربي .
3. الإحكام في أصول الأحكام- لعلي بن محمد الآمدي - دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الأولى: 1404هـ - تحقيق د. سيد الجميلي .(1/30)
4. آداب الفتوى والمفتي والمستفتي- ليحيى بن شرف النووي- دار الفكر - دمشق - الطبعة: الأولى: 1408 هـ - تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي.
5. الأشباه والنظائر - لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي - دار الكتب العلمية - بيروت – الطبعة الأولى : 1403هـ .
6. أصول الفقه - لعبد الوهاب خلاف – دار القلم للطباعة والنشر –الكويت – الطبعة العشرون : 1406هـ ، 1986م .
7. إعلام الموقعين عن رب العالمين - لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي - دار الجيل - بيروت – طبعة : 1973م - تحقيق طه عبد الرؤوف سعد.
8. بداية المجتهد ونهاية المقتصد - لمحمد بن أحمد بن محمد بن رشد - دار الفكر – بيروت .
9. البرهان في أصول الفقه - لعبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني - دارالوفاء - المنصورة - مصر – الطبعة الرابعة : 1418هـ - تحقيق د.عبد العظيم محمود الديب .
10. تاج العروس لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي – دار الهداية – تحقيق مجموعة من المحققين.
11. تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة - طبعة دار الفكر العربي .
12. تفسير القرآن العظيم - لإسماعيل بن عمر بن كثير - طبعة عالم الكتب - بيروت .
13. التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب - لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي - دار الكتب العلمية - بيروت – الطبعة الأولى : 1421هـ ، 2000م.
14. التقرير والتحرير في علم الأصول - لابن أمير الحاج - دار الفكر - بيروت – طبعة : 1417هـ ، 1996م.
15. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول - لعبد الرحيم بن الحسن الأسنوي - مؤسسة الرسالة – بيروت - الطبعة: الأولى: 1400هـ - تحقيق: د. محمد حسن هيتو.
16. التوقيف على مهمات التعاريف - لمحمد عبد الرؤوف المناوي- دار الفكر - بيروت - دمشق - الطبعة الأولى : 1410هـ - تحقيق: د. محمد رضوان .
17. جامع البيان عن تأويل آي القرآن - لمحمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري - دار الفكر - بيروت – طبعة : 1405هـ .(1/31)
18. الجامع الصحيح - لمحمد بن إسماعيل البخاري - دار ابن كثير - بيروت - الطبعة الثالثة : 1407هـ ، 1987م - تحقيق: د. مصطفى ديب البغا.
19. الجامع لأحكام القرآن - لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي- الطبعة الثانية .
20. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - لمحمد عرفه الدسوقي- دار الفكر – بيروت-تحقيق: محمد عليش .
21. حاشية العطار على جمع الجوامع - لحسن العطار- دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى: 1420هـ ، 1999م .
22. الدر المنثور - لعبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي- دار الفكر - بيروت – طبعة : 1993م .
23. السيرة النبوية - لعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد - دار الجيل - بيروت – الطبعة الأولى : 1411هـ - تحقيق طه عبد الرءوف سعد.
24. شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه - لعبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي - دار الكتب العلمية - بيروت - طبعة : 1416هـ ، 1996م - تحقيق: زكريا عميرات .
25. شرح القواعد الفقهية - لأحمد بن الشيخ محمد الزرقا- دار القلم - دمشق – الطبعة الثانية : 1409هـ ، 1989م - صححه وعلق عليه مصطفى أحمد الزرقا .
26. شرح النووي على صحيح مسلم - ليحيى بن شرف النووي- دار إحياء التراث العربي - بيروت - الطبعة الثانية : 1392هـ .
27. صحيح ابن حبان لمحمد بن حبان بن أحمد - مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية : 1414هـ ،1993م - تحقيق شعيب الأرنؤوط .
28. صحيح مسلم - لمسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري – دار إحياء التراث العربي – بيروت – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي .
29. صفة الفتوى والمفتي والمستفتي - لأحمد بن حمدان النمري الحراني - المكتب الإسلامي - بيروت – الطبعة الثالثة : 1397هـ - تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني .
30. فقه الدعوة ملامح وآفاق ، عمر عبيد حسنة ، كتاب الأمة .(1/32)
31. القاموس المحيط - لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي – مؤسسة الرسالة – بيروت .
32. قواعد الفقه - لمحمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الصدف ببلشرز - كراتشي - الطبعة الأولى : 1407هـ ، 1986م .
33. كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري - دار الكتب العلمية - بيروت – طبعة : 1418هـ ، 1997م – تحقيق عبد الله محمود محمد عمر.
34. لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور – دار صادر- بيروت - الطبعة الأولى .
35. المجموع - ليحيى بن شرف النووي - دار الفكر - بيروت – طبعة: 1997م.
36. المحصول في علم الأصول - لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض – الطبعة الأولى : 1400هـ - تحقيق طه جابر فياض العلواني .
37. مختار الصحاح - لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي- مكتبة لبنان - بيروت - طبعة جديدة : 1415هـ ، 1995م - تحقيق: محمود خاطر .
38. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل - لعبد القادر بن بدران الدمشقي- مؤسسة الرسالة - بيروت – الطبعة الثانية :1401هـ - تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي .
39. المدونة الكبرى - للإمام مالك بن أنس- دار صادر – بيروت .
40. المستدرك على الصحيحين - لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى : 1411هـ ، 1990م- تحقيق مصطفى عبد القادر عطا .
41. المستصفى في علم الأصول - لمحمد بن محمد الغزالي - دار الكتب العلمية - بيروت – الطبعة الأولى : 1413 هـ - تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي.
42. مسند الإمام أحمد بن حنبل - لأحمد بن حنبل الشيباني- مؤسسة قرطبة – مصر.
43. المصباح المنير - لأحمد بن محمد بن علي الفيومي – المكتبة العلمية – بيروت .
44. المعجم الوسيط - لإبراهيم مصطفى وأحمد الزيات و حامد عبد القادر و محمد النجار - دار الدعوة – تحقيق مجمع اللغة العربية .(1/33)
45. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج - لمحمد الخطيب الشربيني- دار الفكر – بيروت .
46. مناهل العرفان في علوم القرآن - لمحمد عبد العظيم الزرقاني- دار الفكر - لبنان – الطبعة الأولى : 1416هـ ، 1996م.
47. المنخول في تعليقات الأصول - لمحمد بن محمد بن محمد الغزالي أبو حامد - دار الفكر - دمشق – الطبعة الثانية : 1400هـ - تحقيق د. محمد حسن هيتو .
48. المهذب في فقه الإمام الشافعي - لإبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي - دار الفكر – بيروت .
49. الموافقات في أصول الفقه - لإبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي - دار المعرفة – بيروت - تحقيق عبد الله دراز .
50. الورقات - لعبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني - تحقيق: د. عبد اللطيف محمد العبد .(1/34)