المقدمة :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق الإنسان ، علمه البيان ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأفضل ولد آدم ولا فخر ، قدوة المؤمنين ، وأستاذ الدعاة المخلصين ، وأشهد أنه قد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الله على يديه الغمة ، وتركنا على المحجة البيضاء ، ليلها ونهارها سواء ، لا يزيغ عنها إلا هالك .
فاللهم صلاة وسلاماً دائمين متلازمين عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وأحبابه ، وأتباعه ، ومن تمسك بسنته ، وسار على هديه إلى يوم الدين .
أما بعد !!
فإن المسلم الحق هو من سلم المسلمون من لسانه ويده ، كما أن المهاجر الحق هو : من هجر ما نهى الله تعالى عنه ، وكلما حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الأقوال ، والأفعال ، والاعتقادات !!
وإذا كان المرء المسلم مرهون بإصغريه : قلبه ، ولسانه ، لأن القلب كالبئر ، وإن اللسان كالرشاء (1) ، فإن كان في القلب خير ؛ غرف اللسان خيراً ، وإن كان فيه شر ، أو دخَلٌ (2) ، أو ذبذبة ، غرف اللسان من ذلك بحسبه .
واللسان ستار الإنسان بوجه عام ، الذي يختفي وراءه ، فإذا تكلم أظهر نفسه ، وأعلن على الملأ عنها دون مواراة (3) ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( المرء مخبوء (4) تحت لسانه ، فإذا تكلم ظهر !! )
ورحم الله إنساناً مسلماً خزن من لسانه ، وأمسك الفضل من كلامه ، ولم يطلق للسانه العنان ، يجلد به الناس ، ويلوك (5) سيرتهم بالباطل ، ومن حسب كلامه من عمله ؛ قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه !!
__________
(1) الدلو ، أو المغرفة .
(2) الاضطراب ، أو الشك ، أو عدم اليقين مطلقاً .
(3) المواراة : الاخفاء ، ومنه التورية : إخفاء المعنى الحقيقي وإظهار معان أخرى يحتملها اللفظ المستعمل .
(4) مختفي .
(5) يخوض في أعراضهم .(1/1)
ورحم الله تعالى مسلما رزقه الله تعالى لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وبدناً على البلاء صابراً ، وسلبه لساناً لعَّاناً ، فحَّاشاً عيَّاباً ، نمَّاماً مغتاباً ، سبَّاباً صخاباً آمين.
والوجه مرآة اللسان ، وصورة القلب ، فمهما احترف المنافقون تزيين أقوالهم ، وأتقنوا تزييف أحاديثهم ؛ حتى يحظوا بمصداقية وهمية عند الناس في الدنيا ؛ إلا أن الوجه سرعان ما يفضحهم،ويكشف للمتقين خبث طويتهم (1) ، وسوء نيتهم ، ودخَلَ قلوبهم
ومهما توارى المؤمنون عن أعين الناس ، وحاولوا عدم الظهور أمامهم خوفاً على أنفسهم من المفسدة المحتملة من مخالطتهم ، أو استحيوا منهم تواضعاً لله وحده ، ورجاء تحقيق
__________
(1) الطوية : ما يطويه الإنسان عن غيره ، أي : يخفيه عنهم ، بقصد حسن ، أو بغير قصد حسن .(1/2)
الإخلاص الكامل لله رب العالمين في كل حركاتهم وسكناتهم ، في غدوهم (1) ورواحهم (2) ، في فرحهم وترحهم (3) ، في حلهم (4) وترحالهم (5) ، في ظعنهم (6) وإقامتهم (7) ، في سلمهم (8) وحربهم ، في دعائهم و دعوتهم ، في سرهم وعلانيتهم ، في خَلْوتهم (9) وجَلْوتهم (10)، في الغيب (11) والشهادة (12)، في الانفراد والجماعة ؛ مهما حاولوا ذلك : فإن الوجه يكبر الخير المكنون في نفوسهم ، ويظهر الإيمان الباطن في قلوبهم !! يعرف ذلك المسلم القوي الصلة بالله تعالى .
وقد نشأ عن قراءة الوجه ما يعرف بـ( الفراسة ) وهي : نور يقذفه الله تعالى في قلب من شاء من عباده المؤمنين ، حيث يرى المتفرِّس بنور الله تعالى في وجه المتفرَّس ما لا يراه المرئي من نفسه ، ولا يمكن أن يحوم طائر فكره إليه .
__________
(1) الغدو : حركة البكور ، ويقصد به هنا الخروج من البيت صباحاً ، سعياً وراء الرزق الحلال ، من مصدره الحلال .
(2) الرواح : عكس الغدو .
(3) الترح : الحزن الشديد .
(4) الحِل : ما يحلون فيه أي : المكان الذي ينزلون فيه للراحة أثناء السفر خاصة .
(5) التِرْحال : عملية الرحيل ذاتها ، والمراد : في أثناء السفر .
(6) الظعن : السفر مع الرفقة المأمونة بزاد .
(7) الإقامة : البقاء في المكان مدة طويلة ، يقال له فيها : مقيم .
(8) السِّلم : الإسلام ، والسِّلم : المسالمة والموادعة ، وعدم الحرب .
(9) الخلوة : الانفراد عن الناس ، وعدم مخالطتهم .
(10) الجلوة : الظهور والمخالطة .
(11) كل ما لا يدرك بأحد الحواس الخمسة : اللسان ، العين ، الأنف ، الأذن ، اليد ، فإذا أدرك بواحد من هذه الخمسة ، فليس غيباً .
(12) ما أدرك بواحد من الحواس الخمسة ، وخاصة العين .(1/3)
والفراسة موجودة في الناس من لدن آدم - عليه السلام - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وكلما ازداد العبد قرباً من ربه ، وتوثقت صلته بخالقه ؛ كلما صدقت فراسته ، وتحقق حدسه (1) ، وقلما خاب ظنه ، ونادراً ما يسوء وصفه ، ويبطل حكمه .
والفراسة هي البصيرة ، وهي الحكمة ، وكلاهما يحتاجهما المسلم في حياته كلها ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، والبصيرة سهم الداعية الناجح ، الذي يصيب به شغاف قلب المدعوين من أقرب الطرق ، وبأقل كلفة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
إن لشهر رمضان في نفوس المسلمين , وقلوبهم , مكانة عظمى , بين الشهور , لأسباب كثيرة منها :
" أنه الشهر الوحيد الذي ذكره الله تعالى في كتابه الكريم , فقال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (2).
* وأنه الوعاء الزمني الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن الكريم مجملا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا , ثم أنزله الله تعالى منجماً (3) , حسب الحوادث على مدار ثلاثة و عشرين عاما , هي مدة البعثة النبوية المشرفة .
* وأنه الشهر الذي يحوي أفضل ليلة على الإطلاق , و أكرم ليلة على الله تعالى , و أعظم ليلة باركها الله تعالى لعباده المؤمنين , وهي ليلة القدر , التي قال الله فيها: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } (4).
__________
(1) الحدس : مرادف الفراسة ، ويحمل معنى البصيرة .
(2) البقرة / 185 .
(3) مفرقاً .
(4) سورة القدر .(1/4)
وقال تعالى: { حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3)فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4)أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(5)رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(6)رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(7)لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ } (1).
__________
(1) أوائل سورة الدخان .(1/5)
* وأنه الشهر الذي تضاعف فيه الحسنات و الأجور على الأعمال الصالحات , وعلى سائر الطاعات والقربات , يوضح ذلك حديث سليمان الفارسي - رضي الله عنه - والذي أخرجه ابن خزيّمة في صحيحه , والبيهقي في سننه , وصححه المنذري في الترغيب والترهيب , وفيه يقول سلمان - رضي الله عنه - : " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان فقال : ( أيها الناس !! قد أظلكم شهر عظيم ، شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله تطوعاً ، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن ، من فطَّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء ) . قالوا : ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم !! فقال : ( يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة ، أو شربة ماء ، أو مذقة (1) لبن ، وهو شهر أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، من خفَّف عن مملوكه (2)غفر الله له ، وأعتقه من النار ، واستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم ، وخصلتين لا غنى بكم عنهما (3)، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : فشهادة أن لا إله إلا الله ، وتستغفرونه ، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما : فتسألون الله الجنة ، وتعوذون به من النار، ومن أشبع فيه صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ (4)
__________
(1) المذقة : هي الرشفة ، أو مقدار ما يملأ الفم مرة واحدة .
(2) المملوك : العبد ، ومن في حكمه نحو الأجراء ، والخدم وغير ذلك .
(3) أي لا تستغنون عنهما ، لحاجتكم الشديدة إليهما .
(4) الظمأ : العطش ..(1/6)
حتى يدخل الجنة ) (1) .
ولذا يحرص الناس على إحياء هذا الشهر الفضيل في ليله ونهاره , بسائر أنواع الطاعات , والعديد من القربات , من إطعام الطعام , وتلاوة القرآن , وصلة الأرحام , وقيام الليل بالصلاة والعبادات , وكثرة الصدقات .
" لكن لا يخلو حال المسلمين- إلا القليل منهم - من الوقوع في براثن السلوكيات المرفوضة , التي انزلقوا إليها على حين غرّة , وقد تكون عن قصد وعمد.
ولقد كثرت هذه السلوكيات المرفوضة, حتى أصبحت سبٌة في جبين المسلمين , ووصمة عار في حياة المسؤولين عن التوجيه والإرشاد في ديار الإسلام , وليسألن يوم القيامة عما كانوا يعملون .
ومن هذه السلوكيات المرفوضة في شهر رمضان خاصة ما سنتناوله في هذا البحث بشيء من التفصيل ، على قدر ما يتسع له المقام إن شاء الله تعالى.
وسنقدم إن شاء الله تعالى بين يدي ذلك ببيان مفهوم السلوك ، مع ذكر فلسفة السلوك الإنساني ، وكيفية تحقيق منظومة السلوك الإسلامي في عقد نضيد ، من خلال معرفة مصادر السلوك الإسلامي الرشيد ، وضرورة الرجوع إليها لمعرفة مدى رفض الإسلام للسلوكيات الوافدة على أهله ، وماذا قدم الإسلام بمصدريه للحيلولة دون شيوع مفاسد تلك السلوكيات
المرفوضة في المجتمع ، وصيانة عقيدة المسلمين من عوامل الانفصام بينها وبين سلوك معتقديها ، محاولين النصح لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم ، حسبة لله
__________
(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه : 5 ك /الصوم - 8ب /فضائل شهر رمضان في صحيحه إن صح الخبر - ح /1887 بلفظه ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب بنحوه : 2 /108 - ح /1487 ، عن ابن خزيمة ، وزاد قوله :" رواه من طريق البيهقي ، ورواه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب باختصار عنهما ، وفي أسانيدهم على بن زيد بن جدعان " أي : ضعيف الإسناد بزيد هذا ، وانظر أيضا : الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني لأحمد بن عبد الرحمن البنا : 9 /233 .(1/7)
تعالى ، سائلين الله تعالى أن يتقبله منا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يجعله شاهداً لنا لا علينا يوم نلقاه !!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى :
عبد الله عبد الله السَّحْت
القاهرة الجديدة في :
يوم الأحد
1 ذي الحجة 1423هـ
2 فبراير 2003م
مفهوم السلوك
السلوك : مصدر سلك طريقاً ، سلك المكان يسلكه سلكاً ، وسلوكاً ، وتسلكه غيره ، وفيه ، وأسلكه إياه ، وفيه ، وعليه .
قال الشاعر :
حتى إذا أسلكوهم في قُتائِدِهِ**شَلاَّ كما تطرد الجَمَّالَةُ الشُّرُدا(1)
وقال غيره :
وهم منعوا الطريق وأسلكوهم**على شَمَّاءَ مَهْواها بعيدُ(2)
__________
(1) لسان العرب لابن منظور : ص / 2073 - ط / دار المعارف بمصر .
(2) المصدر السابق ، ونفس الصفحة .(1/8)
وسلك الطريق : مهدها ، ومنه قول الله تعالى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا } (1) ، وسلك المسافر الطريق : سار فيها ، ومنه قول الله تعالى : { لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا } (2) ، وسلكه في الشيء:أدخله فيه ، ومنه قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ } (3) .
أي : فأدخله فيها فتفجر ينابيع . (4)
... والسلوك : سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه ، يقال : فلان حسن السلوك ، أو سيئ السلوك والسلوك في علم النفس: الاستجابة الكلية التي يبديها كائن حي إزاء أي موقف يواجهه (5)
__________
(1) من الآية : 53 من سورة طه ، وللمزيد يراجع تفسيرها في : ( تفسير القرطبي : 16/218 ، والقرطبي : 11 / 209 ، وابن كثير : 3/156 ، والألوسي : 9/301 ، وفتح القدير : 3/523 ، والفتوحات الإلهية : 3/95 ، والظلال : 4/2339 ) وفي غير ذلك من المصادر والمراجع .
(2) الآية : 20 من سورة نوح ، وللمزيد يراجع تفسيرها في : ( الطبرى : 9/120 ، وتفسير الماوردى : 6 / 103 ، والقرطبى : 18/306 ، وابن كثير : 4 /426 ، والألوسى : 29/130 ، وفتح القدير : 5/426 ، والفتوحات الإلهية : 4/412 ، والظلال : 6/3715 ) وفي غير ذلك من المصادر والمراجع .
(3) من الآية 21 من سورة الزمر ، وللمزيد يراجع تفسيرها في : ( الطبرى : 23/247 ، والماوردي: 5 / 121 ، والقرطبي : 15/245 ، وابن كثير : 4/50 ، والألوسي : 23/376 وما بعدها ، وفتح القدير : 4/642 ، والفتوحات الإلهية : 3/596 ، والظلال : 5/3046 ، وما بعدها ) وغير ذلك من المصادر والمراجع .
(4) القاموس القويم : 323 وما بعدها ، مرجع سابق . وللمريد يراجع : مختار الصحاح للرازى : ص 310 ، والمصباح المنير للفيومى : 109 ، والمعجم الوجيز : ص 318 وما بعدها .
(5) المعجم الوجيز : 319 .(1/9)
ويمكن تعريف السلوك بأنه : سلسلة من الاختيارات يقوم بها الفرد من بين استجابات ممكنة عند تَنَقُّلِ الفرد من موقف إلى آخر(1) .
والله أعلم .
مصادر السلوك الإسلامي الرشيد
أولاً : القرآن الكريم
...
القرآن الكريم هو المصدر الأول والأساس الذي يبنى عليه الإسلام : شريعة وعقيدة وأخلاقاً ، ومنه تستمد قواعد الشريعة الغراء ، وأصول العقيدة السمحاء ، وضوابط السلوك القويم ،لقوله تعالى : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (2) ، وقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (3) .
... فكل ما يجب علي المسلم اعتقاده والإيمان به ، فإن أصله في القرآن الكريم ، لأن مسائل العقيدة لا تحتمل الظن ، بل هي قطعية الثبوت ، والقرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي ينطبق علي كل آياته ، وكل كلماته بل وحروفه ذلك ، وكذلك الأحاديث المتواترة ، ولذا فإنه الحق سبحانه وتعالى ضمنه كل ما يحتاجه المسلم في مسائل عقيدته الصحيحة ، مما لا يتطرق إليها شك ، ولا يلحقها ريب ، ولا يخالطها ظن ، ولا يشوبها احتمال ، فحق قول ربنا صدقاً وعدلاً ، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ، ومن أصدق من الله قيلاً ؟!
__________
(1) الأسس العامة للسلوك مع التطبيق في مجالات العمل المختلفة : د / علي أحمد علي ، وآخرين ص 35 ط / مكتبة عين شمس بالقاهرة سنة 1991 م .
(2) من الآية : 38 من سورة الأنعام .
(3) من الآية : 89 من سورة النحل .(1/10)
... إن القرآن الكريم كلام الله تعالى غير مخلوق ، قال بذلك كل علماء الأمة من أهل السنة والجماعة خاصة وقد امتلأ القرآن الكريم ، بالأدلة على إثبات هذه الحقيقة ، من ذلك قول الله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } (1) .وأمر الله هو كلامه وقوله ، فلما أمرهما بالقيام فقامتا لا يهويان ، كان قيامهما بأمره .
وقال تعالى : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (2)فالخلق جميع ما خلق ، داخل فيه ، ولا يجوز لنا أن ننزل الكلام عن حقيقته بغير حجة ولا برهان ، فلما قال : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ } كان هذا في جميع الخلق ، ولما قال : { وَالْأَمْر } ذكر أمراً غير جميع الخلق ، فدل ما وصفنا على أن أمر الله غير مخلوق .
ومما يدل من كتاب الله تعالى على أن كلامه غير مخلوق ، قوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (3) .
فلو كان القرآن الكريم مخلوقاً لوجب أن يكون مقولاً له : { كُنْ } . ولو كان الله تعالى قائلاً للقول : { كُنْ } لكان للقول قولاً ، وهذا يوجب أحد أمرين :
" إما أن يؤول الأمر إلى أن قول الله غير مخلوق .
" أو يكون كل قول واقع بقول لا إلى غاية ، وذلك محال ، وإذا استحال ذلك : صح وثبت أن لله عز وجل قولاً غير مخلوق
__________
(1) من الآية 25 من سورة الروم .
(2) من الآية 54 من سورة الأعراف .
(3) الآية : 40 من سورة النحل .(1/11)
... وقال الله تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } (1) فلو كانت البحار مداداً كتبت لنفدت البحار ، وتكسرت الأقلام ، ولم يلحق الفناء كلمات ربي ، كما لا يلحق الفناء علم الله تعالى ، ومن فني كلامه لحقته الآفات ، وجرى عليه السكوت ، فلما لم يجز ذلك على ربنا عز وجل ؛ صح أنه لم يزل متكلماً .
... وقال الله تعالى مخبراً عن نفسه أنه يقول يوم القيامة : { لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } (2) فلا يرد عليه أحد شيئاً ، فيقول سبحانه لنفسه بنفسه: { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (3) .
فإذا كان الله عز وجل قائلاً مع فناء الأشياء ، إذ لا إنسان ، ولا ملك ، ولا جان ، ولا حي ، ولا شجر ، ولا مدر ، فقد صح أن كلام الله تعالى خارج عن الخلق ، لأنه يوجد ، ولا شيء من المخلوقات موجود .
... وقال الله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (4) والتكليم هو المشافهة بالكلام ، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالاً في غيره ، مخلوقاً في شيء سواه ، كما لا يجوز ذلك في العلم .
... وقال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (5)
__________
(1) الآية : 109 من سورة الكهف .
(2) من الآية : 16 من سورة غافر .
(3) من الآية : 16 من سورة غافر .
(4) من الآية : 164 من سورة النساء .
(5) الآية : 18 من سورة آل عمران .(1/12)
ولابد أن يكون شهد بهذه الشهادة وسمعها من نفسه ، لأنه إن كان سمعها من مخلوق فليست شهادة له ، وإذا كانت شهادة له وقد شهد بها فلا يخلو أن يكون قد شهد بها قبل كون المخلوقات ، أو بعد كون المخلوقات ، فإن كان شهد بها بعد كون المخلوقات فلم تسبق شهادته لنفسه بإلهية الخلق ، وكيف يكون ذلك ؟ لِلَّهِ وهذا يوجب أن التوحيد لم يكن شهد به شاهد قبل الخلق ، ولو استحالت الشهادة بالوحدانية قبل كون الخلق لاستحال إثبات التوحيد ووجوده ، وأن يكون واحداً قبل الخلق ، لأن ما تستحيل الشهادة عليه مستحيل وإن كانت شهادته لنفسه بالتوحيد قبل الخلق فقد بطل أن يكون كلام الله عز وجل مخلوقاً ، لأن كلامه شهادته .
... والأدلة في إثبات ذلك كثيرة ، ولو أحصيناها من كتاب ربنا لطال بنا المقام ، ولخرجنا من حد الوسط والاعتدال إلى حد الشطط والإملال ، فكفى بما ذكرناه شاهداً .
... ثم إن القرآن الكريم معجز في لفظه ، معجز في نظمه ، يتحدى الآخرين أن يأتوا بمثله ، أو أن يأتوا بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله ، أو بآية واحدة ، حتى بالحرف الواحد ، كما في الأحرف المقطعة ، وسجل الله تعالى في كتابه الكريم عجز الجميع أن يفعلوا شيئاً من ذلك فقال تعالى :
{ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (1)
وقال تعالى : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } (2) .
__________
(1) الآية : 88 من سورة الإسراء .
(2) الآية : 34 / الطور .(1/13)
وقال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1) ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(37)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (2) . وقال تعالى : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينََ } (3)
__________
(1) الآيتان : 13 ، 14 / هود .
(2) الآيتان : 37 ، 38 / يونس .
(3) الآيتان : 23 ، 24 من سورة البقرة .(1/14)
... وليس إعجاز لفظه مضاهياً للنثر ، ولا إعجاز نظمه محاكياً للشعر ، فلا هو باللفظ المنثور ، ولا هو بالشعر المنظوم ، بل هو كلام خالق العلوم ، وموجد تصاريف اللغات ، ومنشيء الأسماء والصفات ، فهو باهر الفضل ، عجيب الرصف ، حتى أعجز الخلق قاطبة ، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر ، وقيد الخواطر والفكر ، حتى خرست الشقاشق ، وعدم نطق الناطق ، وحتى لم يجر لسان ، ولم يبن بيان ، ولم يساعد إمكان ، ولم ينقدح لأحد منهم زند ، ولم يمض له حد ، وحتى أسال الوادي عليهم عجزاً ، وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً ، فسبحان من كان كلامه كذلك ، سبحانه وتعالى ، سبحان الله !!
... وعليه !! فإن القرآن الكريم هو المصدر الأول ، والذي عليه المعول في أصول العقيدة الإسلامية الصحيحة وفروعها ،
ولذا فإننا سنحاول جاهدين - إن شاء الله تعالى - أن يكون استدلالنا في كل ما نقول ونكتب من القرآن الكريم في المقام الأول ، والله تعالى يؤيدنا بمدد من عنده ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
ثانياً : السنة المطهرة ...
السُّنَّة في اللغة(1):الطريقة ،محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قول الله تعالى: { وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } (2)
__________
(1) للمزيد يراجع : إرشاد الفحول للشوكاني : ص/33 ، والتعريفات للجرجاني : ص/161 - مصدرين سابقين ، وانظر أيضاً ، لسان العرب لابن منظور : ص/ 2121 - 2127 - ط/دار المعارف بمصر ، والمصباح المنير للفيومي : ص/ 111- ط/ مكتبة لبنان - بيروت سنة 1987م ، والقاموس القويم لإبراهيم أحمد عبد الفتاح : 1/331- ط/ مجمع البحوث الإسلامية سنة 1404هـ/سنة 1983م ، والمعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية المصري : ص/ 325- ط/ وزارة التربية والتعليم سنة 1410هـ/1990م
(2) 38/الأنفال .(1/15)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،من غير أن ينقص من أجورهم شيء ،ومن سنّ في الإسلام سُنَّةً سيئةً فعليه وزرها ،ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) (1) .
وَجْمْعُها : سُنَن ، وسَنَن .
فمن الأول قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } (2)
ومن الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لتَتَّبِعُنَّ سَنَن مَنْ كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ) (3).
__________
(1) صحيح ، أخرجه مسلم ، عن جرير عبد الله - رضي الله عنه - في : 12 ك/الزكاة - 20ب/الحث على الصدقة ولو بشق تمرة- ح/69 - (1017) ، وفي : 47ك/العلم- 6ب/ من سن سنة حسنة أو سيئة- ح/15 - (1017) ، وأخرجه بمعناه أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في : 47ك/ العلم - 6ب/من سن سنة حسنة - ح / 16 - (2674) ، وأخرج حديث أبي هريرة أيضا ابن ماجة في : المقدمة - 14 ب / من/سَنَّ سنة حسنة أو سيئة - /204 وإسناده صحيح .
(2) 26/ النساء.
(3) متفق عليه ، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - حيث أخرجه البخاري في : 60ك/الأنبياء- 50 ب/ ما ذكر عن بني إسرائيل ، وفي: 96/الاعتصام- 14ب/ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وأخرجه مسلم في : 47ك/ العلم - 3ب/ اتباع سنن اليهود والنصارى - ح/6- (669) .(1/16)
والسنة في اصطلاح المحدثين(1) : هي/ " ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول(2) ، أو فعل(3) ،
__________
(1) المُحدِّث : هو العالم بطرق الحديث ، والعارف بأسماء الرواة ، والمتون ، والعلل ، فهو أعلى من المُسْنِد . وللمزيد ، يراجع : الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير تأليف/ أحمد محمد شاكر : 77 : 132- ط3/ دار التراث بمصر سنة 1399/سنة 1979م.وتدريب الراوي للسيوطي : 1/43- 52- ط2/ دار التراث بمصر سنة 1392هـ/1972م ، التوضيح الأبهر للسخاوي : 28- 45- ط/ دار التقوي ببلبيس. مصر ، بلا رقم ولا تاريخ ، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغددادي : 1/116- 676 - ط2/مؤسسة الرسالة - بيروت - سنة 1414هـ/1994م ، قواعد أصول الحديث د/ أحمد عمر هاشم : ص/ 22- ط/ حسَّان سنة 1403هـ/سنة 1983م ، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث : 49- 124- ط/مكتبة المتنبي بمصر ، بلا رقم ولا تاريخ .
(2) مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) وهو حديث متواتر ، روي عن جمع كثير من الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين- منهم أبو هريرة ، وعليّ ، وأنس ، والمغيرة - رضي الله عنهم- وقد أخرج البخاري أحاديثهم في : 3ك/ العلم- 38ب/ إثم من كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي 23ك/الجنائز- 34ب/ ما يكره من النياحة على الميت ، ووافقه مسلم فأخرجها في : المقدمة - 2ب/تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث / 1 ، 2 ، 3 ، 4 .
(3) هو ما نقله الصحابة من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شؤون العبادات ، وغيرها..(1/17)
أو تقرير(1) ، أو صفة خِلْقِيَّةٍ(2) أو خُلُقِيةٍ (3) ، أو سيرة(4) ، سواء قبل البعثة أو بعدها " (5) .
... وفي اصطلاح الأصوليين (6) : ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول ، أو فعل ، أو تقرير(7) .
__________
(1) هو : ما أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأفعال صدرت عن بعض أصحابه ، بسكوت منه ، مع دلالة الرضا ، أو بإظهار استحسان وتأييد ، فمن الأول : حادثة صلاة العصر في بني قريظة ، وهي مشهورة ، ومتفق عليها ، ومن الثاني : حادثة أكل الضب على مائدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي حادثه متواترة .
(2) مثل ما نقل من وصف شَعْره ، وأعضاء جسمه - صلى الله عليه وسلم - .
(3) مثل ما نقل من وصف حلمه ، وشجاعته ، وحيائه وغير ذلك - صلى الله عليه وسلم -
(4) وهو : كل ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتصل به من قبل مولده - عليه السلام - وحتى وفاته ، ويضاف إلى ذلك عهد الخلفاء الراشدين. وكل خبر كان قبل البعثة لا يقتدى به إلا إذا أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك- أو ذكره ، أو دعا إليه ، أما ما كان بعد البعثة فإن الاقتداء به حتم بل فرض عين . كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا .. } ، الأحزاب/21
(5) السنة ومكانتها في التشريع : ص / 47.
(6) هم علماء أصول الفقه ، وأيضاً هم علماء العقيدة ، والله أعلم .
(7) المرجع السابق ، ويراجع : علم أصول الفقه د / عبد الوهاب خلاف : ص/ 36 ، وإرشاد الفحول للشوكاني : ص/ 33 .(1/18)
ويطلق لفظ السنة - عندهم أيضاً - في مقابلة البدعة (1) فيقال : " فلان على سنة " : إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سواء كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولاً ، ويقال : " فلان على بدعة " إذا عمل على خلاف ذلك (2)
ويطلق لفظ السنة أيضاً عندهم على عمل الصحابة ، سواء كانوا متبعين في ذلك دليلاً عندهم ، أو كانوا مجتهدين بشرط الإجماع (3) منهم عليه ، أو من الخلفاء الراشدين ، فإن إجماع الصحابة إجماع للأمة.
__________
(1) البدعة في اللغة : الاختراع علي غير مثال سابق ، وفي الاصطلاح : طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى . أو هي : طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ، أو هي ما أحدث علي خلاف الحق المتلقى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم أو عمل أو حال بنوع شبهة أو استحسان ، وجعل ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً . للمزيد يراجع الإبداع في مضار الابتداع للشيخ / علي محفوظ رحمه الله : صـ25 وما بعدها . ط / دار الاعتصام . بلا رقم ولا تاريخ .
(2) الموافقات للشاطبي : 4/390 .
(3) الإجماع في اصطلاح الأصوليين هو : اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم على حكم شرعي في واقعة : يراجع : علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف : صـ45 ، وإرشاد الفحول للشوكاني :صـ71 ، واعتبر أبو منصور البغدادي إجماع علي بن أبى طالب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم أجمعين - من الصحابة على حكم شرعي في واقعة إجماع للأمة على أقولهم غير مبتدع لا يعتبر خلافه في الفقه . يراجع أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي :صـ311(1/19)
وعمل الخلفاء الراشدين راجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر المصلحي (1)
عندهم ، كما فعلوا في حد الخمر (2) , وجمع المصحف (3) ، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الأحرف السبعة (4)
، وتدوين الدواوين (5) وما أشبه ذلك (6) ، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ، عضُّوا عليها بالنواجذ ....) (7)
__________
(1) يدخل تحت هذا الإطلاق : المصالح المرسلة ، والاستحسان . الموافقات للشاطبى : 4/390 .
(2) حيث كان تعزير الشارب على عهده - صلى الله عليه وسلم - وكذا في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر غير محدد عدد الجلدات التي يعزر بها ، فحدد باتفاق الصحابة في آخر عهد عمر رضى الله عنه بثمانين جلدة ، فاستقر سنة مؤكدة من ذلك الوقت والله أعلم
(3) جمع المصحف باتفاق الصحابة في عهد أبى بكر رضى الله عنه ، وكتب المصحف باتفاق الصحابة أيضاً في عهد عثمان رضى الله عنه
(4) هي لهجات العرب المعتبرة ، فجمعهم عثمان رضى الله عنه علي لهجة قريش حتى يحسم الخلاف والنزاع في القراءة وكيفيتها .
(5) أي الذي حصل في عهد عمر رضى الله عنه لكتابة أسماء الجيوش ، والعرفاء ، وآلات الحرب ، وأموال بيت المال ، ومصارفها ونحو ذلك .
(6) يراجع : الموافقات : 4/390 وما بعدها ، وكذلك السنة ومكانتها في التشريع : صـ48 .
(7) من حديث العرباض بن سارية رضى الله عنه ، أخرجه أبو داود في : 39 ك/ السنة-5ب / لزوم السنة- ح/4583 ، والترمذي في : 39ك/ العلم 16ب / الأخذ بالسنة واجتناب البدع - ح / 2676 ، وابن ماجة في : المقدمة 6ب /اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ح/42،43،44/. ، وذكره النووي في : الأربعين برقم /28 وشرحها ابن رجب في جامع العلوم والحكم . فليراجعه من شاء . صـ257-267 .(1/20)
وهي في اصطلاح الفقهاء : الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض وجوب (1) أو هي / ما يرجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحاً ليس معه المنع من النقيض (2) .
وقيل : هي في العبادات : النوافل ، وفي الأدلة : ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير القرآن ، من قول ، أو فعل ، أو تقرير . (3) وهي تقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة (4)
__________
(1) التعريفات للجرجانى : ص 161 .
(2) إرشاد الفحول للشوكانى : ص 33 .
(3) إرشاد الفحول للشوكانى : ص 33 .
(4) السنة ومكانها في التشريع : ص 48 . والأحكام الخمسة هي : الفرض ، والواجب ، والمندوب ، والمكروه ، والمحرم والله أعلم .(1/21)
... هذا وقد أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول ، أو فعل أو تقرير ، وكان مقصوداً به التشريع والاقتداء ، ونقل إلينا بسند (1) صحيح يفيد القطع (2) أو الظن الراجح (3)بصدقه : يكون حجة على المسلمين ، ومصدراً تشريعياً يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين واعتقادهم ، أي أن الأحكام الواردة في السنة تكون مع الأحكام الواردة في القرآن الكريم قانوناً واجب الاتباع (4) .
__________
(1) السند : هو الطريق الموصلة إلى المتن ، والمتن هو ما انتهي إليه السند ، أو هو ألفاظ الحديث التي تتقوم بها المعانى والإسناد : هو الإخبار عن طريق المتن ، أو هو رفع الحديث إلى قائله ، والسند ، والاسناد : متقاربان في الغاية إذ الهدف من كل منهما : اعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليهما . للمزيد يراجع : قواعد أصول الحديث د / أحمد عمر هاشم ص 21 وما بعدها .
(2) القطع هو اليقين الجازم بصحته وثبوته وهو ما يعرف : " بقطعي الثبوت " مثل القرآن الكريم ، والأحاديث المتواترة لفظاً ومعنى ، أما " القطعي الدلالة " فهو دلالة النص علي المعنى المتبادر فمهمة منه ، المقصود من سياقه ، سواء كان مقصوداً أصلاً أو مقصوداً تبعاً ، وهذا يشترك فيه القرآن الكريم ، والأحاديث المتواترة ، وأحاديث الآحاد الصحيحة والحسنة فقط في العقيدة أما في الشريعة فيمكن أن يضاف إليها الضعيف ولكن بشروط مقررة في كتب مصطلح الحديث وأصول الفقه ، فليراجعها من شاء في مظانها والله أعلم .
(3) الظن : هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ، ويستعمل في اليقين والشك . وقيل : الظن : أحد طرفي الشك بصفة الرجحان .
(4) علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف : ص / 37 .(1/22)
لقوله تعالى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } (1) وقوله تعالى : { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2) وقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (3) وقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ } (4) ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (5) وقوله تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (6) وقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (7)
__________
(1) آل عمران : آية / 32 .
(2) النساء : آية 80 .
(3) النساء : آية 59 .
(4) النساء : آية 83 .
(5) الأحزاب : آية 36 .
(6) النساء : آية 65 .
(7) الحشر : آية 7 .(1/23)
وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (1)وقوله تعالى : { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (2) وقوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (3).
والحكمة هي السنة في هذه الآية (4) .
والأدلة علي حجية السنة كثيرة ، وفيما ذكرناه كفاية وهداية ، وتوجيه لنبيه ، وحجة لفقيه ، وكبت لسفيه ، وغيظ لمنكريه ورافضيه ،،
هذا وقد حوت السنة من جوامع الكلم ، وجواهر الحكم ، وكنوز المعرفة ، وأسرار الدين ، وحقائق الوجود ، ومكارم الأخلاق ، وروائع التشريع ، وخوالد التوجيه ، ودقائق التربية ، وشوامخ المواقف ، وآيات البلاغة : ثروة بالغة ، طائلة هائلة ، لا تنفد على كثرة الإنفاق ، ولا تبلى جدتها بكر الغداة ، ومرَّ العشي !!
هذان هما المصدران الأساسيان لكل الإسلام : عقيدة ، وشريعة ، وسلوكاً وأخلاقاً ، ومعاملات ، وغير ذلك .
وإن الأخذ منهما معاً ، والتحاكم إليهما معاً ، والاستنباط منهما معاً ، شعار المسلم الحق ، وسمت المسلم الصادق ، ولا يكمل إيمان المسلم ما لم يعتقد ذلك ، بل ربما خرج من الإسلام إن اعتقد الاستغناء بواحد منهما عن الآخر ، فالسنة تشرح القرآن ، وتقيد مطلقه ، وتخصص عامَّه ، وتفصل مجمله ، وتؤكد أحكامه ، وتنشئ أحكاماً جديدة ، غير ما جاء فيه ، وكلها واجب الاتباع ، كما سبق أن أوضحنا .
والله تعالى أعلم .
__________
(1) النحل : آية 44 .
(2) النحل : آية 64 .
(3) آل عمران : آية 164 .
(4) الرسالة للإمام الشافعي : ص /78 .(1/24)
فلسفة السلوك الإنساني ، وكيفية تحقيق منظومة السلوك السوي
الخلق صفة نفسية قلبية ، و السلوك صفة عملية تقوم بها الجوارح كلها من رأس ، وأذن وعين ، وأنف ، ولسان ، ويد ، ورجل ، وبطن ، وفرج .
فالرأس مثلاً مناط كسب المعارف ، ويعاونه الأذن ، والعين ، والأنف ، واللسان ، والرجل .
والبطن مناط كسب المطعم والمشرب ، ويعينه : اليد ، والرجل ، والعين ، والأذن ، والفم .
والفرج مناط تصريف ما في البطن والرأس معاً .
ولأن الرأس يحوي المخ الذي به مادة العقل ، كان زكاة الرأس بالعلم النافع لا بالعلم الضار ، ولن يكتسب علماً نافعاً ما لم يروض أذنه على : أن تسمع الصالح من الكلام ، والطيب من الأقوال ، وعلى أن لا تسمع الخبيث من الكلام ، ولا الفاسد من الأقوال ، فينطبع على الطيب فيقبله ، وعلى الخبيث فيرفضه ويهجره .
ولن يكتسب علماً نافعاً ما لم يروض عينه على : بصر الحلال من كون الله تعالى ، ونظر تلك الآيات ابتغاء تدبرها ، والتفكر فيها ، وكيف يمكن تطويعها لزيادة الإيمان وترسيخه في النفوس ، ثم القيام بلفت أنظار الآخرين إلى روعة وجمال تلك الآيات .
ثم يروض عينه على : أن تغض الطرف عن كل الحرام أو المشتبهات في كون الله الفسيح .
فيأتي من الحلال ما يزيده : طمأنينة ، وسكينة ، ووقاراً.
ويكسبه : اقتصاداً ، وحلماً ، وأناة .
ويهبه : مراقبة ، ومحاسبة ، ومجاهدة ، وخوفاً ، ورجاء.
ويمنحه : تفكراً ، وتدبراً ، ويقظة وبصيرة وفراسة .
ويمن عليه بالعزة ، والهمة ، والشجاعة ، والمروءة ، والعفة ، والفتوة ، والغيرة ، والاستقامة .
ويصب عليه ورعاً ، وزهداً ، وقناعة ، ورضا ، وتوكلاً ، وثقة ، وتواضعاً ، وسلاماً ، وأماناً .
ويهديه ، الصبر ، والصدق ، والعفاف ، والتقوى ، والغنى ، والكرم ، والكرامة ، والرحمة ، والرأفة .(1/25)
ويلزمه الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر ، والتقوى ، والمواساة ، والعفو ، والرفق ، والتوبة ، والندم ، والحياء ، والبشاشة ، والإنصاف ، والعدل ، والشكر ، والوفاء ، والجود ، والسخاء ، والأمانة ، والتيسير ، والالتزام بالكتاب والسنة .
ويترك الحرام والشبيه به مما يجنبه : الجهل ، والضعف ، والنزق ، والحمق ، والشطط ، والسرف ، والتسرع ، والطيش ، والسفه .
ويمنعه : الظلم ، والغلظة ، والجحود ، والخيانة ، والسرقة ، والخداع ، والعبوس ، والأثرة ، والبخل ، والحرص ، والحسد .
ويحول بينه وبين : الفخر ، والخيلاء ، والعجب ، والكبر ، والتيه ، والمراء ، والرياء ، والنفاق ، والشقاق ، وسوء الأخلاق ، والمعاندة ، والمغالطة ، والمكابرة ، والغرور .
ويسد عليه طرق : الكذب ، والمدح ، والمجون ، والمداهنة ، والاحتيال ، والمكر ، والاحتكار ، والغيبة ، والنميمة ، والسخرية ، والهوى ، والكيد ، واللهو ، واللعن ، واللغو والغفلة ، والجبن ، والذلة ، والديوثية ، والتذبذب ، والبجاحة ، والأمل ، والملل ، والنسيب ، والإمعان في الشبع ، والإمعان في الجنس ، وإدمان
الخمر ، والمخدرات ، وحب الدنيا ، وكراهية الموت ، والتنطع ، والابتداع .
ولن يكتسب الرأس علماً نافعاً ما لم يروض أنفه على : شم ما يجوز شرعاً ، وما يحل ورعاً .
ويمنعه ما لا يجوز ولا يحل ، فينعش بذلك قلبه ، ويثير همته ، ويستثير أحاسيسه الصادقة ، وينفر عدوه ، ويكبت قرينه ، ويخسأ شيطانه .
ولن يكتسب الرأس علماً نافعاً ما لم يروض لسانه على : قول الحق وتحريه ، ونطق الصدق وتوريه ، ويحبسه عن : الكذب ، والمراء ، والجدال ، والرفث ، والفسوق ، والزور ، والبهتان ، والإفك ، والغيبة ، والنميمة ، والسب ، واللعن ، والقذف ، والحلف ، والنذر ، والمدح ، والمعاندة ، واللجج في الخصومة ، والسخرية ، والازدراء ، والتهكم ، وقول ما لا يعنيه ، والمن ، والأذى .(1/26)
ولن يكتسب الرأس علماً نافعاً ما لم يروض يده على : فعل الخير ، وإتيان المعروف ، والإحجام عن الشر ، والمنكر.
فيروضها على البذل ، والعطاء ، والجود ، السخاء ، والكرم ، والأمانة ، والرحمة ، والرأفة ، والدعاء ، والتعاون ، والمواساة ، والعفو ، والرفق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والعطف ، والوفاء ، والقصد ، والاقتصاد .
ويمنعها من : الظلم ، والخيانة ، والسرقة ، والبطش ، والبخل ، والحرص ، والطمع ، والسرف ، والتقتير .
ولن يكتسب الرأس علماً نافعاً ما لم يروض رجله على : السعي إلى الخير ، والمكرمات ، وتحصيل النوافع الصالحات ، واكتساب المحاسن والفضائل ، واجتلاب المعالي الجلائل ، وإحراز النفائس من صالح الخصائص ، وتحقيق السيادة والريادة في الدين والدنيا معاً .
فليسع بهما مجاهداً في سبيل الله ، أمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر ، وليخط بهما في سكينة ووقار إلى حيث الجماعة الأولى في المسجد .
وليمش بهما ثابت الجأش ، ساكن الفؤاد ، واثق الصلة بالله ، متوكلاً على الله ، راضياً بقضاء الله وقدره ، في حلوه ومره ، متواضعا لله ، متواضعاً لعباد الله الصالحين ، مسلماً عليهم ، باذلاً الأمن والأمان لهم ، شجاعاً في الدفاع عنهم ، ذا مروءة في رد غيبتهم ، عفيفاً عن طرق الحرام ، يعف فرجه ، ويكف لسانه ، غيوراً على حرمات المسلمين ، عزيزاً بالله ، ذا همة وفتوة ، ونجدة ونخوة ، واستقامة .
ولا ينقل رجله إلا بنية صالحة ، وقصد كريم ، وعزم شريف ، حتى يحقق بخطاه عددهن حسنات ، ومثلهن في عددهن تمح بهن الخطايا ، وتحط عنه الأوزار ، فيستفيد ثواباً ، ويدفع عن نفسه عقاباً .(1/27)
ويروض رجله على عدم السعي إلى المنكرات ، والخنا ، ولا إلى اللهو والهوى ، ولا إلى اللغو والبدعة ، ولا إلى الذلة والديوثية ، ليس بفخور ولا مختال ، ولا مغرور ولا محتال ، ولا يتيه كبراً ، ولا معجباً بنفسه ، ولا مكابر أو متكبراً ، ولا جاهلًا متجبراً ، ولا طاغياً ماكراً ، ولا مخادعاً خائناً ، عند ذلك يمكنه أن يكتسب برجله علماً نافعاً .
والله أعلم .
ولن يحفظ بطنه ما لم يحصن فرجه بالحلال ، ويطيب مطعمه ومشربه ، ورعاً ، وزهداً ، وقناعة ، ورضاً ، وبالصبر : يتحقق مراده ، وبالصدق : يصل وداده ، وبالاستقامة : يزين شبابه ، وبالاقتصاد : يعظ أصحابه وبالسكينة والوقار : يُهاب
جنابه ، وبالخوف والرجاء : ييسر الله حسابه ، وبالمراقبة واستمرائها ، وبالمجاهدة واستعذابها ، وبالمحاسبة واغتنامها : يسهل عليه قياد نفسه ، واقتياد هواه ، وقطع أسباب الأمل في دنياه ، وبتفكره وتدبره في غده : يقطع عنه ملل يومه ، وبيقظته وحذره من عدوه : يحجب عن نفسه الغضب وأوضاره ، والجهل وأضراره ، والطيش وأهواله ، والسفة وإخلاله ، وببصيرته : يجنب نفسه الظلم وعاقبته الوخيمة ، والحمق ونهايته الأليمة ، والسرف وخاتمته المليمة ، والشطط ومآله إلى بوار ، والتسرع ومصيره إلى دمار ، وبفراسته : يطلق ديوثته ، ويبين شهوته ، ويجافي إدمان الذلة والعار ، والجبن وشد الزنار ، بل ينظر في دينه ما يصلح دنياه ، ويأخذ من الدنيا ما يوصله إلى النجاة ، ويدخله الفردوس الأعلى في أخراه ، فيحفظ بطنه ويحصن فرجه بتقوى الله ، ورضا مولاه .
... وبكل ما سبق ، أو بكل جملة على حدة ، استبان لنا أن السلوك والأخلاق وجهان لعملة واحدة ، لا انفكاك لأحدهما عن الآخر ، ولا يعرف أحدهما إلا بالآخر .
والآن نبدأ معاً في إيضاح تلك السلوكيات المرفوضة في شهر رمضان ، وفي العيدين ، وأوجه الرفض الإسلامي لها ، وما البديل الإسلامي الصحيح من السلوكيات القويمة لتلك السلوكيات المرفوضة .(1/28)
والله أسأل أن يرزقك الفهم الدقيق لما أريد أن أوصله إليك ، كما أساله سبحانه أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
- 1 -
الإسراف في إعداد مائدة الإفطار
يأتي شهر رمضان حاملا معه أريج الجنة ، وعبق التاريخ ، مسدياً للأمة أجمل آيات الفضائل ، وباعثاً في الأمة أروع أفانين البطولة والفداء ، وناهضاً بها نحو العلا ، وزارعاً فيها جذور البذل والعطاء ، وراعياً غراس الجنة في كل مواطن الإسلام ، وربوعه ، ودياره .
إنه شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، وشهر الطاعات والقربات ، شهر الجود والكرم ، شهر الفيوضات الربانية ، والمنح الإلهية ، شهر التجلي الأعظم على الأمة الإسلامية في كل المجالات الدنيوية والأخروية !!
إنه المدرسة العظمى ، والجامعة الكبرى ، والمعهد العالي الذي يتخرج فيه الأبطال ، وينتج منه خبراء الطاقة والحيوية ، ويصدر عنه علماء الاقتصاد والاجتماع والنفس ، وعباقرة الطب والحكمة ، وأساطين الهندسة والفلك ، وقادة الرجال ، وزعماء الرأي والفكر ، في كل المجالات .
إنه بحق جامعة متكاملة ، قاعدتها : الإيمان ، وأساسها : الصبر ، وعمادها : التقوى ، وذروة سنامها : جهاد النفس في ذات الله تعالى ، مكتوب على بابها : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر !!
إن شهر رمضان شهر يتعلم فيه الناس أروع دروس الاقتصاد المنزلي ، وأقوى فنون التنظيم الاجتماعي والصحي ، وأذكى طرق المحافظة على المال والوقت ، وأسهل الطرق وأعدلها نحو تحقيق الجسم السليم والعقل السليم ، الخاليان من كل شوائب الفكر الضال ، وعلائق السلوك السيء ، وبوائق
الأمراض النفسية ، والعصبية ، والبدنية ، والاجتماعية ، وغيرها(1/29)
ولا يمكن تحقيق ذلك كله إلا لمن جاءه رمضان وهو مهيأ نفسياً وذاتياً لاستقباله ، محاولاً الاستفادة من كل ما في رمضان من دروس وعبر، ولا يمكن أن يتحقق شيء من ذلك للأصناف الآتية الذين يستعدون لرمضان برصد الميزانيات المالية الكبرى لمواجهة الصوم ، والإعداد للموائد الفاخرة التي يتداعون إليها ، ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار والنور !!
ولنأخذ المثال الآتي ليوضح المقال ، وهو من واقع الحياة :
تعمد ربة البيت إلى الإسراف في إعداد المائدة , والتفنن في تشكيلها , وتهيئتها , بما يتخم البطون , ويهمد العقول , ويخمل الأبدان , ويذهب بالأموال في غير وجهها , مما يضر باقتصاديات الأمة كلها , لو أنها فعلت مثل الذي تفعله ربة البيت تلك .
فإن رمضان لم يوجد في الأمة من أجل الطعام الشراب , المتفنن فيه , ولكن من أجل التعوّد على الرضا بالقليل , واعتياد الزهد في الدنيا , وترويض النفس على حبسها عن شهواتها , وفطمها عن شرورها , وحجبها عن غيها , ومنعها من إشرافها .
فيا ربات البيوت !! اقتصدن , كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه ,وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ,فإن كان لا محالة فثلث لطعامه , وثلث لشرابه ، وثلث للنفس) (1) .
ويا نساء المسلمين لِلَّهِ ادّخِرْن بعض ضرورياتكن في شهر رمضان,وابعثن به إلى أخواتكن,وإخوانكن في فلسطين , اللاتي لا يجدن ما يسترن به عوراتهن .
__________
(1) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد , وقال الترمذي: حديث حسن .(1/30)
ويا كل المسلمين !! اعملوا على مقاطعة كل منتجات اليهود وشركائهم , وأتباعهم , من الأطعمة والأشربة ، وعليكم بالبديل الوطنى فإن فيه الخير الكثير , وتقربوا بهذه المقاطعة إلى الله في شهر رمضان عسى الله أن يتقبل منكم,وينصر إخوانكم المجاهدين في فلسطين,ويعيد المسجد الأقصى إلى رحاب المسلمين , لننعم فيه جميعاً بشرف الصلاة في رحابه في سكينة, وأمن , وأمان .
إن امتلاء البطون عقب الامتناع عن الطعام والشراب فترة من نصف الليل والنهار معاً , لهو ضياع لأثر هذا الخلاء , الذي فيه الصحة , وفيه السعادة , وفى الحديث : ( جوعوا تصحوا ) .
إن امتلاء البطن يفسد العقل , فحافظوا على عقولكم , وأبدانكم لأنها أمانة ستسألون عنها يوم القيامة , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيما أبلاه , وعن عمره فيما أفناه , وعن علمه ماذا عمل فيه , وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه )، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف , وفى كلٍ خير , احرص على ما ينفعك , واستعن بالله ولا تعجز ) (1) .
وإلى لقاء آخر . والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته .
- 2 -
تأخير الفطر وتعجيل السَُّحور
دأب كثير من الناس في عصرنا على تأخير الفطر , حتى بعد سماع الأذان , وقد تعددت التعليلات التي يبدونها , لتبرير فعلهم هذا , من ذلك ما يأتي : أن يقول بعضهم : " أنا أعلم وقت المغرب على التحديد , وأنا أتحرى لديني , ولأن أؤخر الفطر عن موعده , خير لي من أن أقع في وقت الحرج , فأفطر قبل الموعد ".
ومنهم من يقول: " لا أفطر حتى أسمع المؤذن ينتهي من أذانه ، زيادة في التحري " .
ومنهم من يقول: " لا أفطر حتى أسمع المؤذن ينطق بالشهادتين , فأتشهد معه , ثم أفطر " .
__________
(1) رواه مسلم وابن ماجة .(1/31)
ومنهم من يحرص على صلاة المغرب في وقتها في المسجد , ولا يحب أن يفطر من التمر المهدى للمسجد , أو أن يفطر على الماء بحجة أن ثواب صومه سيأخذه صاحب التمر , أو صاحب الماء , وبالتالي فهو يريد أن يحرز الثواب كاملاً , فينتظر حتى يعود إلى بيته فيفطر في بيته !!
ومنهم من يرفض أن يناوله أخيه تمرة , أو يأتيه بكوب من الماء , ونحو ذلك بحجة أن من يناوله شيئاً ليفطر عليه سيأخذ من أجره !! وهكذا ....
تعددت التعليلات , وتنوعت التبريرات ، وكلها تصب في دائرة الغلو في الدين ، والله تعالى يقول : { لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } (1),وقال الهادي البشير - صلى الله عليه وسلم - : ( إياكم والغلوّ ,فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثاً.
ثم إن هذه السلوكيات مرفوضة في دين الله تعالى , وإن كان ظاهرها الخير , لكن الحق أحق أن يتبع , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ) (2) ، وفي الحديث القدسي ، يقول رب العزة تبارك وتعالى : ( أحب عبادي إليَّ : أعجلهم فطراً ) (3) ، فأحب عباد الله تعالى إلى الله تعالى : من عجلوا الفطر ، ولم يؤخروه لأي سبب من الأسباب ، بل عليهم أن يتبعوا أي وسيلة صحيحة أقرها علماء الإسلام في عصرنا ، ومن ذلك الحسابات الفلكية , كما في التقاويم الشهرية , أو الإمساكيات المنتشرة , والتي أقرتها هيئة المساحة , أو الأذان الصادر من إذاعة القرآن الكريم فهو أضبط من غيره من الإذاعات الأخرى , لتخصص الإذاعة في ذلك !!
__________
(1) النساء/171 .
(2) متفق عليه .
(3) رواه الترمذي .(1/32)
فعلى التقاويم : يلزمك الفطر بمجرد أن تدق ساعتك حسب وقت الإفطار في التقويم المعتمد , وإن لم يكن معك تقويم أو إمساكية فاعتبر بأذان الإذاعة , وإلا فبأذان المسجد الذي يجاورك , وإلا فبسؤال الجيران إن لم تتمكن من شيء مما سبق , وإلا فاعتبر غروب الشمس , فإذا تأكدت من غروبها فأفطر !!
ولا تنسى أن تدعو لنفسك بالخير عند أول لقمة , أو عند الفطر مباشرة , كما لا تنسى أن تدعو لإخوانك في فلسطين , وفى كل مكان أن ينصرهم الله , وأن يفرج كربهم , ويكشف غمهم , وأن يعجل لهم بالفرج , وأن يوحد صفوف المسلمين , فإن الدعاء في هذا الموطن مجاب , فاحرص عليه جيداً أكثر من حرصك على الشرب والطعام , وأخلص لله في الدعاء , لعل الله أن يتقبل منك الدعاء .
وإن قوماً أغرتهم صحتهم , وقوة أبدانهم , فتعمدوا عدم السحور , أو عجلوه بحجة الخوف من عدم القيام قبيل الفجر لتناول السحور في وقته , لأنهم يسهرون , ثم هم يريدون الذهاب
مبكرين إلى العمل , أو إلى الدراسة , أو نحو ذلك , فيخطئون في أمور:
أولها: السَّهر خاصة إن كان في غير طاعة , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) (1) .
وثانيها: التكاسل عن صلاة الفجر في وقتها , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أثقل صلاة على المنافقين : صلاة الفجر, وصلاة العشاء ) .
وثالثها : تعجيل السحور, وحق البدن الطعام حتى لا يرهق على الزمن الكثير, ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور ) .
و رابعها : أن عدم السحور أصلاً نزع للبركة من بدن الصائم , ونزع للبركة من حياة الصائم كلها , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( تسحروا فإن في السحور بركة ) .
فاللهم ارزقنا بركتك باتباع سنة نبيك , وخذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك . آمين .
وإلى لقاء آخر .
__________
(1) متفق عليه .(1/33)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 3 -
تأخير صلاة المغرب من أجل الإفطار
اعتاد كثير من الصائمين , على اختلاف مشاربهم , وتنوع ثقافتهم , أن يؤخروا صلاة المغرب عن ميقاتها , بحجة تعجيل الفطر , وبحجة كراهة الصلاة بحضرة الطعام , وكذا بحجة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا وضع العَشاء , وأقيمت العِشاءُ , فابدأوا بالعشاء ) , ونحو ذلك من حجج . وإذا نظرت في سلوكيات هؤلاء تجدها لا تخرج عن الصور الآتية :
الصورة الأولى : عند الدعوة إلى الإفطار في البيت , أو في جهة العمل , أو في الفندق الذي ليس به مسجد , ونحو ذلك .
الصورة الثانية : عند الإفطار في موائد الرحمن المنتشرة في الشوارع والعمارات .
الصورة الثالثة : عند الإفطار في المطاعم والمحال التي تبيع الطعام .
الصورة الرابعة: عند الإفطار في البيت منفرداً , أو مع الأسرة , وكذا في الحدائق ونحوها , ولنا وقفات عند كل صورة .
ففي الصورة الأولى : صورة التجمع على الإفطار في البيت , حيث يتحرج صاحب البيت أن يأخذ ضيوفه إلى المسجد حتى لا يقال عنه ما يقال ، أو يتعمد ذلك , حتى يظهر مدى حفاوته بضيوفه , وأنه يقوم على رعايتهم , وخدمتهم , ولا يفارقهم لحظة , ونحو ذلك !!(1/34)
أما إذا كانت الدعوة إلى الإفطار في جهة العمل التي يعمل بها الموظف , كما اعتادت بعض المصالح الحكومية , أو الشركات , أو المصانع الخاصة أن تقيم يوماً , أو يومين , أو أكثر , لموظفيها يتعاونون فيما بينهم من أجل إتمام حفل الإفطار الخاص بهم , وليتعارفوا , ونحو ذلك , وسواء كان ذلك على نفقة جهة العمل , أو على نفقة الموظفين , فإن السلوك المرفوض هو تأخير صلاة المغرب عن ميقاتها , أما إذا كانت الدعوة من جهة العمل في فندق ليس فيه مسجدٌ أصلاً , أو في نادٍ كبير , أو في مركز شباب نسى القائمون على أمره أن يبنوا فيه مسجداً للصلاة , فهذا مما يندى له الجبين , ويغلي منه الوتين , خاصة إذا كان الفندق لا يعرف أهله القبلة , وكذا في النادى ، أو مركز الشباب , فمثل هذه الأماكن لا ينبغي ارتيادها , خاصة عند الإفطار في شهر رمضان , لأنه وقت إجابة الدعاء , فكيف يرجى الإجابة لدعاء في مكان يبارَزُ الله تعالى فيه بالمعصية على هذا النحو ؟ .
أما في الصورة الثانية : حيث يتجمع الفقراء والمحتاجون , والأغنياء , وأصحاب البطون الواسعة , والقلوب المتشبعة من حب الدنيا وكراهية الموت , والنفوس المريضة , الذين لا يصومون نهاراً , ولا يقيمون ليلاً , بل يعاكسون البنات في نهار رمضان , دون وازع من دين وخلق , فكيف يرجى من هؤلاء أن يتركوا الغنيمة الباردة , والطعام الشهي المقدم في هذه الموائد التي انتشرت في المجتمع خاصة في القاهرة الكبرى , والمدن الكبرى على مستوى الدولة , بل امتدت لتصل إلى القرى أيضاً , وكأنها من سنن رمضان , فكيف يترك هؤلاء الطعام ويذهبون لصلاة المغرب في جماعة المسجد الأولى ؟ ولا يؤخرونها عن وقتها ؟ .
وفى الصورة الثالثة : حيث تزدحم المطاعم قبيل الإفطار في نهار رمضان بالرواد , ويخشى كل منهم أن يترك مكانه فلا يجده إن هو ذهب فصلى ثم أفطر ؟ .(1/35)
وفى الصورة الرابعة : حيث الكثيرون يتكاسلون , منفردين عن الصلاة , ويخشون الذهاب إلى المسجد ويتركون أسرهم فهذا عيب عندهم , أو مدعاة لتكيل له الزوجة الجاهلة السباب , أو يبكى الصغار عندما يوضع الطعام ولا يصبرون , ونحو ذلك , فيجبن عند ذلك , ويترك المضي إلى المسجد لصلاة المغرب في جماعته الأولى .
وكذلك من خرج بنفسه أو بأسرته إلى حديقة من الحدائق , أو ملهى من الملاهي , فهل مثل هذا يمكن أن يظن فيه أنه يفكر في الصلاة أصلاً ؟
وهل يظن فيمن ذهب لتناول الإفطار على سطح باخرة نيلية أو نحوها أن يفكر في الصلاة في مثل هذا الوقت ؟ الله أعلم .
والفيصل في هذه الصور كلها : ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي عطية قال : " دخلت أنا و مسروق على عائشة- رضي الله عنها- فقلنا: يا أم المؤمنين!! رجلان من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلاهما لا يألو عن الخير, أحدهما: يُعَجِّل المغرب والإفطار, والآخر يؤخر المغرب والإفطار؟ فقالت: من يعجل المغرب والإفطار؟ قلنا: عبد الله- يعني : ابن مسعود- قالت : كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع !! " .
وللجمع بين تعجيل المغرب والإفطار, يفطر الصائم على التمر, أو الرطب , أو اللبن , وإلا فعلى الماء , ثم يصلي المغرب في جماعة المسجد الأولى , ثم يأكل بعد ذلك ما شاء , وهذا أصلح للمعدة , وأصلح للبدن كله ، بشهادة كبار الأطباء .
فأفطروا وادعوا لإخوانكم في فلسطين , وصلوا وادعوا لإخوانكم في كل مكان , و لا تنسونا من صالح دعائكم .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 4 -
الإفطار على غير السنة(1/36)
انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة ملفتة للنظر, وسلوك سيئ من الصائمين الذين يحرصون عليها كل الحرص , وكأنها من لوازم الرفاهية , أو من توابع المدنية , أو من ضروريات الحضارة المعاصرة , وهذه الظاهرة هي الإفطار على ما يعرف بـ( قمر الدين ) , أو ( الخشاف ) , أو ( العرقسوس ) , أو نحو ذلك .
ومنهم من يفطر على دخان ( السيجارة ) , فبدلاً من أن يأكل ما يفيده في بدنه , أو يشرب ما يصلح نفسه , ويقيم صلبه , إذا به يبدأ صومه بسيجارة , وينهيه بسيجارة , ويبدأ إفطاره بسيجارة , وينهيه بسيجارة , وهكذا يحاول أن يعوض ما حُرِمَه من سجائر في نهار رمضان !! كأن الصوم جاء ليعذب أمثاله , وينكل بهم , وكأن الصوم ثقيل على نفسه ثقل الجبل , فهذا وأضرابه خبيث النفس , مريض القلب , سقيم الفكر , مضطرب العقل , عليل البدن , زائف الشخصية ,حريٌ به أن يذهب إلي مصحة نفسية تعالج من إدمان الدخان , لأن الدخان هو البوابة الرئيسية للدخول إلى عالم المخدرات , فمن دخن الشيشة أو الجوزة يوشك أن يدخن السيجارة , ومن دخن السيجارة يوشك أن يدخن البانجو , أو الحشيش , أو الأفيون , ومن فعل ذلك قاده إلى الهيروين , أو الكوكايين , بل إلى عقاقير الهلوسة , والجنون .
وإن العيادات التي تعنى بعلاج المدمنين للدخان أو المخدرات , لتجد من شهر رمضان فرصة عظيمة لتقوية جانب الخوف والمراقبة لله عند المريض , فكل مدخن لا يكتسب من نهار رمضان فرصة عظمى للإقلاع عن التدخين , فلن يفلح إذاً أبداً , إلا أن يشاء الله تعالى شيئاً آخر .(1/37)
فإلى المدخنين و أمثالهم يقول الله تعالى : { وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (1) , ويقول الله تعالى: { .. وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(30)إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } (2) , وقال تعالى : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا(25)وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } (3).
واعلموا معشر المدخنين , إن كنتم تزعمون أنكم تحبون الله تعالى , وتؤمنون به , فإن من لوازم حب الله تعالى أن تحبوا رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن من لوازم الإيمان بالله تعالى : طاعة الله ، وطاعة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - , وقد قال الله : { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (4) , ويقول أيضاً : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ
__________
(1) البقرة / 195 .
(2) النساء / 29-31 .
(3) الإسراء / 25-27 .
(4) النساء / 80 .(1/38)
فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا(66)وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا(67)وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } (1) .
ومن طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ( أنه نهى عن كل مسكرٍ ومفتِّر ) , والمسكر : ما يذهب العقل , والمفتر : ما يضعف البدن .
ولاشك أن الدخان يضعف البدن , فانتهوا خيراً لكم , وتوبوا إلى ربكم يصلح لكم أعمالكم , ويغفر لكم ذنوبكم , ويبدل لكم سيئاتكم حسنات , وما ذلك على الله بعزيز.
وإلى عموم المسلمين نهديهم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإفطار , حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات , فإن لم يكن رطب أفطر على التمر , وإلا فعلى اللبن , فإن لم يجد فعلى الماء فإنه طهور , فعن سلمان بن عامر الضبي- رضي الله عنه- , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة , فإن لم يجد تمراً فالماء , فإنه طهور ) , وعن أنس- رضي الله عنه- قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلى على رطباتٍ , فإن لم تكن رطبات فتمرات , فإن لم تكن حسا حسوات من ماء " .
واعلموا أن قمر الإسلام هو السُّنَّة , وأن شمسه القرآن , فلا تستبدلوا السنة بهواكم ، والتزموا سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، ينير لكم قمر دينكم ، وتضيء لكم شمسه ، فتهتدوا .
__________
(1) النساء / 66 - 70 .(1/39)
والقصد القصد في الإنفاق ، وإياكم والدَّين ، فإنه هم بالليل ، وذل بالنهار ، وإياكم والبِطنة ، فإنها مذهبة للفطنة ، وعليكم بالتوسط في كل أموركم ، لأن خير الأمور الوسط .
ولا تنسوا أن تدعوا لإخوانكم في فلسطين وفى كل مكان , والله معكم , ولن يتركم أعمالكم .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 5 -
عدم الدعاء والاستغفار والذكر بوجه عام عند الإفطار
ينسى الكثيرون من الصائمين عند الإفطار الدعاء , والاستغفار , ولا يذكرون إلا الطعام , وكيف يلتهمونه , ويطفئون ألم الجوع والعطش , ويفوِّتون على أنفسهم فرصة ذهبية لإجابة الدعاء , وتحقيق الرجاء , وللصائم خاصة في شهر رمضان , فرصتان ذهبيتان يجيب الله تعالى فيها دعاءه , ويحقق له رجاءه , ويعطيه ما يتمنى , وهما عند فطره كل يوم بعد غروب الشمس , وفى آخر يوم من رمضان , فضلاً عن الأوقات الأخرى , التي يشارك فيها غيره طوال اليوم .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن للصائم عند فطره لدعوة ما تُرَدّ ) , وكان عبد الله بن عمرو يقول عند فطره : " اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كُلَّ شيء أن تغفر لي ذنوبي " (1) , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث لا تُرَدُّ دعوتهم : الصائم حين يفطر , والإمام العادل , ودعوة المظلوم , يرفعها الله فوق الغمام , وتُفْتَحُ لها أبواب السماء , ويقول الرب: وعِزَتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين ) (2) , وفي رواية البزار : ( ثلاثٌ حقٌّ على الله أن لا يَرُدَّ لهم دعوة : الصائم حتى يفطر , والمظلوم حتى ينتصر , والمسافر حتى يرجع ) .
__________
(1) رواه البيهقي .
(2) رواه الترمذي,واللفظ له,وقال:حسن,ورواه ابن ماجة,وأحمد,وابن خزيمة,وابن حبان(1/40)
فهذه الفرصة التي لا تعوض عند الصائم كيف يتغافل الصائم عنها , ألسنا في حاجة إلى دعوة لا ترد , ونحن في حالنا هذا ؟
قال ابن القيم رحمه الله : " وكان - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي , وكان فطره على رطبات , فإن لم يجدها فعلى تمراتٍ , فإن لم يجدها فعلى حسوات من ماء , ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان يقول عند فطره : ( اللهم لك صُمْتُ , وعلى رزقك أفطرتُ , فتقبَّلْ مِنّا إنك أنت السميع العليم ) , ولا يثبت , لكن ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند فطره : ( ذهب الظمأ , وابتلَّت العروق , وثبت الأجرُ إن شاء الله ) "(1) , وكان يقول : ( الحمد لله الذي أعانني فصُمْتُ , ورزقني فأفطرتُ ) (2) , وإذا أفطر عند قوم , دعا لهم فقال : ( أفطر عندك الصائمون , وأكل طعامكم الأبرار , وصلَّتْ عليكم الملائكة ) (3) , وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا أكل أحدكم طعاماً , فَلْيَقُلْ : اللهم بارك لنا فيه , وأبدلنا خيراً منه , وإذا شرب لبناً فليقل : اللهم بارك لنا فيه , وزدنا مِنْه , فإنه ليس شيءٌ يجزئُ من الطعام والشراب إلا اللبن ) (4) .
ولا تأكل أيها الصائم أي شيء إلا بيمينك , ولا تشرب أي شيء إلا بيمينك , لأن الشيطان هو الذي يأكل ويشرب بشماله , فلا تتشبّه به , لأن من تشبّه بقوم حشر معهم , ولا ترفع شيئاً من الطعام إلى فيك حتى تُسمّي , وتذكر اسم الله تعالى , طلباً للبركة , ودفعاً للشيطان أن يأكل معك , فقل : بسم الله الرحمن الرحيم , في أول الطعام , وفى أول الشراب , فإنْ نسيت , فقل متى ذكرت ذلك أثناء الطعام أو الشراب " بسم الله أوله وآخره "
__________
(1) رواه أبو داود,والنسائي,والحاكم,والدارقطني,وابن السني .
(2) رواه ابن السني .
(3) رواه أبو داود,والنسائي,وأحمد,والبيهقي,وابن السني,والدارمي .
(4) رواه أبو داود,والترمذي,والنسائي,وابن السِّنِّي .(1/41)
, وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة- رضي الله عنه- : ( يا بُنَيَّ!! سَمِّ اللهَ , وكُلْ بيمينك , وكل مما يليك ) (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله , فإن نسي أن يذكر الله تعالى في أوله , فليقل : بسم الله أَوَّلَهُ وآخِرَهُ ) (2) .
ولا تأكل أيها الصائم شيئاً حتى تدعو لنفسك بالخير , وتدعو لأهلك كذلك , واحذر أن تدعو على ولدك , أو تدعو على أحد من المسلمين الصائمين , في هذا الوقت , وإن كان لابد من الدعاء على أحدٍ فادع على اليهود , وأتباعهم , ومن ناصرهم , ومن دعا إلى فكرهم , وادع على الظالمين عامة , وعلى الكافرين عامة , وعلى المشركين , والمنافقين , المرجفين , والمعوِّقين , والمثبطين , وغيرهم .
وادع لإخوانك المسلمين في كل مكان , أن يوحِّد الله صفوفهم , وأن يؤلِّف بين قلوبهم . وأن يكشف كربهم , وأن يفرِّج غمَّهم , ويذهب همَّهم , ويكبت عدوهم , وينصرهم عليهم , في كل يوم عند فطرك , واحرص على ذلك أكثر من حرصك على الطعام والشراب , لأن الدعاء سلاحنا في معركتنا الحالية , فلا تهمله أبداً , واعلم أن الله يحب المُلحِّين في الدعاء , فألحّ في دعائك , وتأكد من الإجابة , وإياك أن تشك في إمكانية ذلك , وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (3),وقال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (4) .
__________
(1) رواه البخاري و مسلم,وأبو داود,والترمذي,وابن ماجة .
(2) رواه أبو داود,والترمذي,وأحمد,والدارمي,والحاكم .
(3) البقرة / 186 .
(4) غافر / 60 .(1/42)
واستغفر الله تعالى في كل حين , فإن الله غفور رحيم .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 6 -
الاقتراض من أجل الإنفاق في رمضان
أصبح أمراً مألوفاً أن ترى بعض الناس يقترضون بغرض مواجهة الأعباء المادية , والمالية التي افترضوها على أنفسهم في شهر رمضان , وما أنزل الله تعالى بها من سلطان , وقد رأينا الكثيرين يدخلون في جمعيات بين الأفراد بعضهم البعض , ويصل الأمر ببعضهم إلى أن يرتب موعد استحقاقه للجمعية في أول شهر رمضان , أو قبله بقليل , حتى يستطيع أن ينفق على نفسه , وعلى بيته بسخاء في شهر رمضان , لأنه يعتقد أن شهر رمضان هو شهر الجود والكرم , وهو شهر البذل والعطاء , وهو شهر المواساة , وهو شهر التوسعة وزيادة الأرزاق , ونحو ذلك.
وهذه اعتقادات صحيحة , لكن المقترض لا يفهم أن الجود الكرم يكون لغير أهل البيت , وإلا فكيف أوصف بالجود , وأنا حريص على التهام الدنيا كلها في شهر رمضان ؟ أو كيف أوصف بالكرم وأنا أتباهى أمام الآخرين أنني أفطرت مع الأسرة في الفندق الفلاني , أو المطعم السياحي العلاني , مع أنه كان يمكن أن أفطر على القليل الحلال في البيت , ثم أدخر قيمة هذا الطعام الذي ابتلعته في الفندق , أو في المطعم السياحي , أو في الدار الفلانية , حتى أستطيع شراء كتاب إسلامي أعرف منه ما يلزمني من أمور ديني , أو شراء اسطوانة (CD) عليها برامج إسلامية هادفة تفيدني في ديني ودنياي , أو شراء بعض الشرائط المسجل عليها القرآن الكريم بأصوات كبار القراء لسماعهم وتقليدهم في التلاوة , أو الشرائط المسجل عليها الخطب , والمواعظ التي لابد منها .
كان من الممكن فعل ذلك كله لو ابتعدت عن الإفطار في مثل هذه الأماكن , وادخرت بقيمتها ما ينفعني في ديني , وفى حياتي , لكنني قدمت حب الدنيا في صورة الكرم , فأي سلوك أسوأ من ذلك ؟ يقترض ويتباهى بإنفاقه مما اقترض على ملأ من الناس , دون حياء , أو خجل .(1/43)
وقديماً قالوا: " الدَّينُ هَمٌّ بالليل , وذُلٌّ بالنهار "
وأسوأ من هذا السفيه من يقترض لشهر رمضان , وفى نيته عدم سداد هذا الدين لصاحبه , أو مماطلته , وقد قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلقه الله ) (1) .
وأسوأ منهما من اقترض من أي مؤسسة ربوية بفائدة ربوية لمواجهة نفقات رمضان , فهو ملعون بسلوكه المرفوض هذا ، ما لم يتب إلى الله تعالى توبة نصوحا , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا ) , وعن جابر- رضي الله عنه- قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : آكل الربا , ومُوكِلَهُ , وكاتبه , وشاهديه , وقال : هم سواء " (2) .
وأسوأ من الثلاثة من يسطون بالاقتراض من البنوك ثم هم يهربون بما اقترضوا , خاصة إن تزامن ذلك مع شهر رمضان , أو مع أيام الحج , قال تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3) .
وأمثال هؤلاء الهاربين محاربون لله , ولرسوله , وللمؤمنين , مفسدون في الأرض , مهلكون للحرث والنسل ,
__________
(1) رواه البخاري .
(2) رواه مسلم , والبخاري بنحوه من حديث أبي جحيفة .
(3) المائدة / 33 , 34 .(1/44)
لأنهم استحلوا الربا وهو حرام , واستحلوا أموال الناس وهي حرام , وخرّبوا اقتصاد البلاد , فمن أعظم منهم إفساداً ؟ , وقد توعدهم الله تعالى ومن سهلوا لهم ذلك بقوله : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (1) .
وأي حرب أهلك أو أشدّ مما نعيشه الآن ؟
فاتقوا الله يا أولى الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكراً , لا تدمروا أنفسكم بالديون , ولا تبيعوا أنفسكم لأعدائكم بالاقتراض , فلا تطلبوا من أحد شيئاً , واطلبوا من الله وحده , واسألوه وحده , واستعينوا به وحده , وارضوا بما قسم الله لكم تسودوا , وتقودوا , وازهدوا في الدنيا يحبكم الله , وازهدوا فيما عند الناس يحبكم الناس , ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار.
وتذكروا أن إخوانكم في فلسطين وفي العراق , وفي غيرهما يحتاجون إلى كل مليم تنفقونه في غير موضعه , فاتقوا الله , وتذكروا إخوانكم هناك , وأرسلوا إليهم الطعام والثياب والدواء , والمال , وادعوا لهم أن ينصرهم الله في حربهم لليهود , وأن يحرر المسجد الأقصى الأسير .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 7 -
موائد الرحمن
من اللافت للنظر , أن القاهرة خاصة , والمدن الكبرى على مستوى الجمهورية عامة تتبارى فيما بينها لإظهار كرمها السخي , واحتفائها الوفي بالوافدين إليها في شهر رمضان , حيث تقام السرادقات الفخمة , والتي تشغل العمارات التي لم ينته أصحابها من إكمالها , أو الشوارع , أو ساحات المساجد , أو الميادين العامة , أو دور المناسبات في المساجد أو الأحياء , أو نحو ذلك ,كل منها يحرص على تقديم الوجبات الساخنة للصائمين ولغير الصائمين , وليس في ذلك شيء بشرط إخلاص النية لله تعالى , والبعد عن الرياء , أو الفخر , أو العجب , أو المن , أو الأذى .
لكن تأتي السلوكيات السيئة في هذه الموائد من الصور الآتية :
(
__________
(1) البقرة / 279 .(1/45)
1) بعض أصحاب هذه الموائد يصر على تعليق لافتة على مدخل المائدة مكتوب عليها : " المائدة لا تقبل التبرعات " , ثم يقوم أصحابها بعمل الآتي :
أولاً : يرصدون واحداً من محترفي المساومات , ومحترفي الخداع والتغرير , الذي يوهم الأغنياء السذج الآخرين الذين ينبهرون بحسن تنظيم المائدة , وفخامة إعدادها , ورقي المكان التي أقيمت فيه , وأبهة روادها ونحو ذلك , يومهم هذا المحترف أنه يعرف صاحب المائدة , ويستطيع أن يتوسط لهم عنده حتى يقبل مشاركتهم له في المائدة , وقد يقنعهم بأن يأخذ منهم الأموال بدون إيصالات استلام , على أن يوصلها لصاحب المائدة لتنفق في المائدة , ولكنه يستولى عليها لحسابه الخاص , وقد يعرف بذلك صاحب المائدة , ولا يفعل شيئاً , بل ربما اقتسم
معه هذه الغنيمة حتى أصبحت بعض هذه الموائد وسيلة للثراء السريع في شهر رمضان .
ثانياً : يصر كثير من أصحاب هذه الموائد على دعوة مأموري الضرائب إلى موائدهم ليحصوا بأنفسهم عدد الرواد يومياً , وعدد العمال والطباخين وغيرهم , ويحصون قيمة ما أنفق في هذه المائدة , بما في ذلك ما يعطى لمأمور الضرائب على سبيل ( الإكرامية ) نقصد الرشوة , حتى يستطيع أن يقنع نفسه بتسوية أموال هذه المائدة , وخصمها من قيمة الضرائب المستحقة عليه , فيضيع بذلك حق الدولة التي ائتمنته على التحصيل , لكن كما قيل في المثل الشعبي : " عند البطون تغيب العقول " ويكون بذلك حاميها حراميها . وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(2) مخلفات هذه الموائد , والتي تصل إلى آلاف الأطنان من الأطعمة الصالحة للتناول , ولكن يكون مصيرها الشوارع , أو صناديق القمامة , وهم بذلك قد أساءوا إلى أنفسهم , وإلى مجتمعاتهم من زوايا متعددة , على النحو الآتي :
أولها : تلوث البيئة .
ثانيها : انتشار الذباب والبعوض والناموس , وغيرها من الفئران ، و الحيوانات الضارة ، والتي تكثر عند أكوام القمامة .(1/46)
ثالثها : العدوى المنتقلة من هذه الحشرات إلى رواد المائدة , وإلى المارة في الشوارع التي تقام فيها هذه الموائد .
رابعها: تعمد إتلاف المال بهذه الصورة المفزعة يوجب الحجر الشرعي على أصحابها ، لأنهم بذلك سفهاء وليسوا عقلاء , لأن الله لا يحب المسرفين , وقد قال الله تعالى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } (1) , ويقول - صلى الله عليه وسلم - : ( خير الأمور أوسطها ) (2) , وقال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } (3), وسيسألون عن ذلك يوم القيامة , كما قال تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } (4) .
(3) الاستعانة بالبلطجية , وقطاع الطرق , ونحوهم , في حراسة وتنظيم بعض الموائد , وأكثر هؤلاء يسبون الدين , ويفطرون في نهار رمضان عمداً , جهاراً , بغير عذر شرعي , ولا يصلون , فيكون ذلك تولية للكافرين على المؤمنين , وقد قال الله تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (5).
وقال تعالى : { بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(138)الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } (6).
(
__________
(1) الإسراء / 29 .
(2) رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد .
(3) الفرقان / 67 .
(4) الصافات / 24 .
(5) النساء / 141 .
(6) النساء / 138 , 139 .(1/47)
4) أكثر هذه الموائد تقدم الطعام لروادها قبل المغرب , مما يضطر معها الرواد إلى التواجد داخل الموائد قبل المغرب , ولا يستطيعون الصلاة في ميقاتها بسبب الطعام , بل إن بعض هذه الموائد بمساعدة البلطجية تمنع الرواد من دخول المائدة إن تأخروا عن الحضور قبل المغرب بزمن كاف على الأقل بربع ساعة , وقد يصل إلى نصف ساعة , كأنها تتعمد ذلك حتى تعوِّد روّادها على التكاسل عن الصلاة في ميقاتها في المسجد , وإنا لله وإنا إليه راجعون .
(5) الراقصات , والممثلات تبارين مع تجار المخدرات في إقامة هذه الموائد , وكأنهن يردن أن ينسى الناس عوراتهن , وإفسادهن ويتذكرون فقط موائدهن , وقد قال الله تعالى : { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ
يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ... ) (2) .
فاتقوا الله عباد الله , وابعثوا بقيمة هذه الموائد إلى إخوانكم في فلسطين وفي الشيشان , أفضل لكم عند الله , والله يخلف علينا وعليكم خيراً .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 8 -
ربط الصوم بالصلاة
__________
(1) المائدة / 100 .
(2) رواه مسلم .(1/48)
اعتدنا أن نرى المساجد وهى تغص بالمصلين , والركع السجود , في شهر رمضان , فإذا أدبر الشهر خلت المساجد من المصلين إلا نادراً , وانصرف الركع السجود إلى التجارة , وإلى اللهو , وانصرف القائمون والمجتهدون , والمعتكفون , إلى دنياهم , كأن رب رمضان غير رب بقية الشهور , تعالى الله عما يعتقده الظالمون علواً كبيراً , وكأن من فرض الصلاة لم يفرضها إلا في شهر رمضان فقط , وهكذا أصبح الدين حكراً على تأويلات المبطلين , وأمسى الدين طوعاً لسفاهات متفقهة العصر , ممن لا يحسنون لغة القرآن , ولا يفقهون قواعد البيان , ولا همة لهم إلا القيل والقال , ولا ذكر لهم إلا في الأمثال , فأحلوها محل القرآن والسنة , فمن قائل: " ربنا بيقول: اسعى يا عبد , وأنا اسعى معاك " تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً , يستحل بذلك التملّص من الصلاة في المسجد , وتسمع آخر يقول: " ربنا بيقول : اللي يعوزه بيتك يحرم على الجامع " - كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً-
وهم يستحلون بذلك عدم الذهاب إلى المساجد لأن بيوتهم أحوج إليهم , وهكذا قام فلاسفة العصر من المعتوهين , والشوهى بضرب الدين وأهله معاً في آن واحد , وفى غيبة علمائه الذين تركوا الساحة لهؤلاء المفسدين ينفثون سمومهم , حتى بات المجتمع في خواء ديني رهيب , وإذا سألت بعض الركع السجود في شهر رمضان : لماذا تحرص على الصلاة في شهر رمضان في المسجد ؟ قال لك : لأن ثواب الصلاة في المسجد في جماعة في شهر رمضان عظيم جداً , على الأقل بسبعين صلاة !!
و إذا سألته : لماذا لا تداوم على الصلاة في المسجد , مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة الرجل في المسجد تضعَّف على صلاته في بيته وفى سوقه بضعاً وعشرين درجة....) ؟(1/49)
قال الفيلسوف : لأنني لا أحتاج إلى مثل هذا !! فقد صليت شهر رمضان كله في جماعة , وشهر رمضان بسبعين شهر , وإذا كانت السنة اثنى عشر شهراً , أكون قد صليت السنة كلها ومعها خمس سنوات أخرى!! وبالتالي يكفيني الصلاة في شهر رمضان فقط , ثم إن الصلاة صلاة القلب , وما دام قلبك عامراً بالإيمان فلا تخف !! والحمد لله قلبي عامر بالإيمان !!
وتسأل أحدهم : لماذا تدخل المسجد في رمضان لتصلي , ولا تدخله في وقت آخر ؟ بل ربما لا أراك تصلى أصلاً في غير شهر رمضان..لماذا ؟
قال لك : لأن الصيام لا يصح إلا بالصلاة , وأنا أريد أن أصوم حتى لا يعيرني أحد من أصدقائي , أو من جيراني ، ونحوهم .
وبعد !! فإن حُفّاظ الأمثال اعتقاداً وتنفيذاً على نحو ما سبق قال الله تعالى فيهم وفى أمثالهم : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1) .
لقد ألزم الله تعالى نبيه وأمته باتباع شريعته , وتطبيق شرعه , وعدم اتباع أهواء الجهلة والمبطلين , فقال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(18)إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (2) .
__________
(1) الشورى / 21 .
(2) الجاثية / 18, 19 .(1/50)
أما بالنسبة لفلاسفة العصر فإن الله تعالى يقول فيهم وفى أمثالهم: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } (1) , ويقول سبحانه : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(122)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ(124)فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } (2), وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (3)
__________
(1) الأنعام / 119 .
(2) الأنعام / 121-125 .
(3) البقرة / 208 ..(1/51)
, وقال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } (1) , ويقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيُحْتَطب , ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها , ثم آمر رجلاً فيؤم الناس , ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأُحَرِّق عليهم بيوتهم ) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة , فمن ترك الصلاة كفر )
فيا عباد الله !! توبوا إلى الله توبة نصوحاً , وحافظوا على الصلوات في رمضان , وفى كل أيام عمركم , وادعوا للمسلمين في سجودكم عسى الله أن ينصرنا ويثبت أقدامنا .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 9 -
ربط الصيام بالزكاة والصدقات
شاع بين كثير من رجالات المجتمع أن الزكاة إذا خرجت في شهر رمضان فإن في ذلك خير كثير للمجتمع عامة , وللفقراء خاصة , وحتى يستطيعوا أن يستمتعوا برمضان دون منغصات السعي والكدّ فيه لجلب الرزق المطلوب لهم في شهر رمضان , ولذا يحرص الكثير من هؤلاء أن يخرج زكاة أمواله في هذا الشهر الفضيل في صور كثيرة نحاول أن نذكر بعضها هنا :
" الصورة الأولى : أن يخرجها نقوداً , ويسلك في مصارفها الأنواع الآتية :
(
__________
(1) البقرة / 85 , 86 .(1/52)
1) الأقارب الذين يقلون في مستواهم الاجتماعي عن مستواه هو , فمثلاً يعطي لأخته لأن زوجها لا يقدر على دفع مصروفات وأجور المدرسين في الدروس الخصوصية , أو يعطي لأخيه لأن ابنه يتعلم في الخارج ، ويحتاج إلى نفقات كثيرة ، ولا يستطيع الأب أن يوفي بالتزاماته المادية نحو ابنه , أو بنته , وهكذا .
(2) الأقارب الذين لا يستحقون الزكاة أصلاً , فواحد يعطي زكاته لابنته المتزوجة , بحجة أن زوجها سجين , أو أن زوجها فاشل , أو أن زوجها عاطل عن العمل , أو مريض ونحو ذلك .
وآخر يعطي زكاته لابنه ليساعده في جهاز ابنته , وآخر يعطي زكاته لأمه لأن زوجها فقير , أو يفعل مثل ذلك مع أبيه .
(3) المتسولون الذين يكثرون في شهر رمضان خاصة أمام المساجد الكبرى , أو المساجد المشهورة بسخاء لجان زكاتها , ونحوهم .
(4) البوابون وحراس العمارات الذين لا يصلون إلا في شهر رمضان , وهم قادرون على الكسب , وكسبهم يكفي نفقاتهم .
(5) عمال القمامة والنظافة , مع أن بعضهم يفرض على المحال التجارية ونحوها مالاً معلوماً يتقاضاه منهم أسبوعياً أو شهرياً حسب الأحوال .
(6) المنادون في مواقف السيارات ونحوهم .
(7) العمال في الشركات التي يملكها المزكي , ويعتبرها حوافز لهم في شهر رمضان .
وهناك أنواع أخرى كثيرة أغفلناها خوف الإطالة .
" الصورة الثانية : أن يستبدلها بملابس , أو بأقمشة , أو بتجهيز بعض الشنط التي تحوى زيتاً , وسكراً , و( مكرونة ) , و( عدساً ) , وتمراً , و( قمر الدين ) - المشمش المجفف - , وزبيباً , وربما ( شايا ً) , ولبناً , ونحو ذلك من المأكولات , بما يساوى قيمة الزكاة الواجبة عليه , وهؤلاء إما يدفعونها إلى بعض اللجان الغير المتخصصة ليوزعونها على من يعرفونه في صورة زكاة الفطر أو يتولون توزيعها بأنفسهم .(1/53)
" الصورة الثالثة : أن يخرجها لتنفق في مائدة لإفطار الصائمين في بعض الأماكن الأشد فقراً, أو قد ينشيء مائدة في أرقى أحياء القاهرة ،كـ( الزمالك ) , و ( جاردن سيتي ) , و ( الدقي ) , و( المهندسين ) , و( روكسي ) ونحوهم .
" وهذه الصور كلها مرفوضة , لأن الله تعالى حدد مصارف الزكاة , والصدقات فقال سبحانه : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (1) , فحصر مصارفها في هذه الأصناف الثمانية , واستثنى العلماء من ذلكم :
" الأبوين , وإن علوا .
" والأبناء والبنات وإن سفلوا .
" وآل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إن وجدوا - .
" وكل بني هاشم وبني المطلب - إن وجدوا - .
" وكل قادر على الكسب ، فإن عجز عن توفير العمل الذي يتكسب منه الحلال الضروري ، يعطى على قدر ما يمكّنه من الكسب , أو على قدر الكفاية ، حسب أوسط أهل البلد يساراً وإنفاقاً ، وهكذا .
ثم إن حصر إخراج الزكاة في شهر رمضان فقط , إضرار بالمجتمع كله طيلة العام بعده , والإسلام حكيم إذ جعل الزكاة موزعة على مدار السنة كلها , فقال تعالى في شأن زكاة الزروع والثمار : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } (2) , ويوم الحصاد في الزروع والثمار دائر على مدار السنة كلها .
__________
(1) التوبة / 60 .
(2) الأنعام / 141 .(1/54)
وفى سائر أنواع الزكوات الأخرى , اشترط مرور سنة هجرية كاملة من حين امتلاك نصاب شرعي معلوم , وفى التجارات من حين بدء التجارة , وفى الشركات من حين بدء العمل بعد العقد المتفق عليه بين الشركاء , وكذلك في المصانع , إلا زكاة الركاز , وهو كل دفن جاهلي وجد في أرض الإسلام فيزكى حين وجدانه مباشرة دون انتظار الحول لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } (1) , ويدخل في حكمه مناجم الذهب والفضة , والحديد , والمعادن وما شابه ذلك , وكذلك حقول البترول والغاز , وما شابه ذلك .
ففي الزروع والثمار : العشر , أو ثلاثة أرباع العشر , أو نصفه , على حسب الأحوال .
وفى الأموال والتجارات ونحوها : ربع العشر.
وفى الأنعام والمواشي حسب الأحوال .
وفى الركاز ونحوه : الخمس .
وهكذا تكون الزكاة على مدار العام لتغطي حاجات المجتمع كله في كل الأحوال !! وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 10 -
امتناع الحائض والنفساء وأصحاب الأعذار عن الطعام والشراب في نهار رمضان على خلاف السنة
لا شك أن الحيض قدر الله تعالى المحض الذي كتبه على بنات آدم , فبه يعرف بلوغ المرأة سن الزواج , وأنها أصبحت صالحة للإنجاب , والنفاس ما ينزل عقب الولادة أو معها , والحيض والنفاس دليلان على صحة المرأة لا على مرضها .
فالحيض هو الدم الخارج من قُبُل المرأة حال صِحَّتها ، من غير سبب ولادة ، ولا افتضاض لغشاء بكارة , ولونه أسود , وقد يكون أحمر , وقد يكون غير ذلك .
وأقله يوم وليلة , وأكثره خمسة عشر يوماً بلياليهن .
أما النفاس فأقله دفقة أو بثقة , وأكثره أربعون يوماً بلياليهن .
__________
(1) البقرة / 267 .(1/55)
لكل امرأة حالتها الخاصة بها في الحيض وفى النفاس !!
وفى أثناء حيض المرأة أو نفاسها يحرم عليها ما يأتي :
" الصوم مطلقاً .
" ويحرم عليها الصلاة مطلقاً .
" ويحرم عليها الطواف .
" ويحرم عليها مسَّ المصحف , أو القراءة فيه , أو القراءة من حفظها لآيات الكتاب العزيز , لكن لا بأس أن تستمع إليه من غيرها .
ثم بعد انقضاء عدتها , وطهارتها من الحيض أو النفاس تقضي الصوم من رمضان , وكذلك تقضي الطواف ، ولا تقضي الصلاة.
الكثيرات من الجاهلات من النساء المسلمات يَعْمدْن في شهر رمضان إلى الامتناع عن الطعام والشراب في نهار رمضان وهن حُيَّضٌ , اعتقاداً منهن أن ذلك من التقوى , ومن الورع , ثم إن المتفلسفات منهن يعمدن قبيل المغرب إلى عُودٍ , أو إلى بعض الأرز , أو نحوه فتضعه في فيها على مضضٍ , وتوَدّ أن لو أنها لم تفعل ذلك حتى تفطر مع الصائمين , خاصة مع الأولاد , ومع زوجها , حتى لا تكون بمعزل عنهم !!
وهذا إن دلّ فإنما يدل على سفاهة العقل , وعدم الفقه , واتباع الهوى .
فإن الله عز وجل هو الذي شرع الفطر للحائض و النفساء على لسان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- . فعن أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى , أو في فطرٍ , إلى المصلَّى , فَمَرَّ على النساء , فقال : ( يا معشر النساء تصدقن , فإني أُرِيتُكنَّ أكثر أهل النار ) , فقلن : وبِمَ يا رسول الله ؟ قال : ( تُكْثِرنَ اللعنَ , وتكْفُرْن العشير , ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أَذْهَبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازِم من إحداكُنَّ ) , قلن : وما نقصان ديننا , وعقلنا , يا رسول الله ؟ قال : ( أليس شهادة المرأةِ مثلُ نصف شهادة الرجل ؟ ) قلن : بلى !! , قال : ( فذلك من نقصان عقلها !! أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ ؟ ) , قلن : بلى !! قال : ( فذلك من نقصان دينها !! )(1).
__________
(1) متفق عليه .(1/56)
وعن حِمْنَةَ بنت جحشٍ- رضي الله عنها- قالت : " كنت أَسْتَحاضُ حيضةً كثيرة شديدة , فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - استفتيه , فقال : ( إنما هي ركضة من الشيطان , فَتَحيَّضي ستة أيام , أو سبعة أيام , ثم اغتسلي , فإذا اسْتَنْقَأْتِ فصلي أربعة وعشرين , أو ثلاثة وعشرين , وصومي , وصلِّي , فإن ذلك يُجْزِئُكِ , وكذلك فافعلي كل شهرٍ , كما تحيض النساء ,... ) (1) .
وعن مُعَاذَةَ قالت : " سألتُ عائشةَ - رضي الله عنها- فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضى الصلاة ؟ قالت : كان يُصيبنا ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم , ولا نؤمر بقضاء الصلاة "(2).
وإن كثيراً من منكري السنة في عصرنا زينوا للسفيهات في عصرنا الصوم في رمضان , فأطَعْنَهم .
وإن الكثيرين من أدعياء العلم حاولوا أن يستغلوا محدثات الحياة الدنيا , ومخترعاتها فقالوا : بجواز أن تأخذ المرأة أدوية معينة تعمل على تأجيل دورة المرأة الشهرية في شهر رمضان،حتى تستطيع أن تصوم شهر رمضان ، دون أن تفطر في أيام حيضتها,لأن الأدوية ستمنع الدم من النزول في موعده !!
وهذه كلها سلوكيات مرفوضة .
فمنكري السنة ملعونون , إن لم يتوبوا , فالله تعالى هو القائل : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (3) ,وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (4) .
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي,وصححه الترمذي,وحسَّنه البخاري .
(2) رواه الجماعة .
(3) النساء / 65 .
(4) الأحزاب / 36 .(1/57)
وأما مبيحوا تأجيل العادة الشهرية في رمضان حتى تتمكن المرأة من الصيام؛ فنقول لهم ما قال الله تعالى لأمثالهم : { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (1) .
ونقول للمغيرات خلق الله , والغير قابلات شرع الله , والمتبعات للمضلين : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (2) .
واتقين الله , فإن الله يحب أن تؤتى رُخَصَهُ كما يحب أن تجتنب محارمه , هدانا الله وإياكن سواء السبيل .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 11 -
قيام رمضان على غير هدي النبوة
إن القيام في رمضان تطوع عظيم ، وقربة عظمى ، يعرف بها ليل الصائم الخمص البطن ، من الصائم الممتلئ البطن !!
فمن أفطر على القليل الحلال استطاع القيام بهمة ونشاط ، ومن أفطر على الكثير من الحلال ثبطه ذلك عن القيام ، وأقعده عن قيام الليل بالطاعة ، فما بالكم بمن يفطر على غير الحلال ، قَلَّ أو كثُر ؟!
إنه بلا شك لن يفكر في القيام أصلاً ، بل ربما أفطر قبل موعد فطره ، بل ربما لم يصم أصلا ، حتى يحتاج إلى الفطر ، وهذا في قمة السفاهة إن ظن أن الله لا يعلم ذلك عنه ، بل ربما كان في قمة الكفر إن اعتقد أن رمضان لم يفرض الله تعالى صيامه ، ولم يسن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قيامه .
ثم إن في عصرنا ظهرت على السطح فئة كالغيم يحول دون نور القمر ، يوشك أن ينقشع فيبزغ القمر بنوره ، كحاله ليلة تمامه !!
هذه الفئة حاولت التلبيس على الناس أمر دينهم ، وابتدعوا في سنة القيام في رمضان أموراً ما أنزل الله بها من سلطان ، ومن ذلك ما يأتي :
__________
(1) الأنعام / 148 , 149 .
(2) النحل / 43 , الأنبياء / 7 .(1/58)
أولها : تأخير صلاة العشاء عمداً في رمضان ، إلى ما بعد التاسعة مساء ، وقد يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا العشاء في الساعة الحادية عشرة مساء ، أي بعد موعد الوجوب بأكثر من خمس ساعات !! وإذا سألتهم عن سبب هذا التأخير ؟! قالوا : " حتى يأتي الأحباب والمريدون من كل المحافظات !! " .
وهذا سلوك مرفوض شرعاً وعقلاً ، لأن الله تعالى قال : { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } (1)
وقال تعالى : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13)إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } (2) ، ومعنى ذلك - والله أعلم بمراده - أن الصلاة محددة أوقاتها ، معلومة مواقيتها الشرعية ، فلا يجوز تقديمها ولا تأخيرها عن وقتها إلا بسبب شرعي ، ومن فعل غير ذلك عمداً دون عذر فصلاته باطلة إن صلاها قبل ميقاتها ، وإن أخرها عن وقتها دون عذر شرعي فهو منافق معلوم النفاق !لِلَّهِ كما قال الله تعالى في شأن المنافقين : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } (3) ، وقال تعالى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } (4) ،
__________
(1) من الآية : 103 / النساء .
(2) الآيتان : 13 ، 14 / طه .
(3) الآيتان :142 ، 143 / النساء .
(4) الآية : 54 / التوبة .(1/59)
فعد الله تعالى تكاسلهم عن أداء الصلوات في مواقيتها نفاقاً وخداعاً ، وهذا واضح جلي ، ومعلوم مفهوم .
ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هَمَّ أن يحرق على المتكاسلين عن الصلاة في مواقيتها في الجماعة الأولى في المسجد بيوتهم ، وأن يحرقهم فيها ، جزاء وفاقاً على تخلفهم وتكاسلهم ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - عدل عن ذلك لأنه تذكر أن النار لا يعذب بها إلا رب النار سبحانه وتعالى ، لكن يبقى حكم الصلاة في الجماعة الأولى في المسجد ، وفي ميقاتها الأول الذي حدده لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمين الوحي جبريل عليه السلام ، عن رب العزة سبحانه وتعالى ، وأنه فرض عين ، كما قال بذلك العلماء المشهود لهم بالكفاية والدراية .
ثانيها : هذه الفئة بعينها ، وغيرها ممن حذى حذوها يخففون صلاة العشاء تخفيفاً خلافاً لعادتهم في أدائها في غير رمضان !! وإذا سألتهم لم خالفتم عادتكم في التطويل في أداء هذه الفريضة ؟! قالوا: حتى نترك الفرصة لأداء صلاة القيام بحرية ونشاط !!
وإذا قلت لهم : إنكم تؤخرون صلاة القيام فما الداعي للتخفيف بهذه الصورة الغير المألوفة منكم ؟! قالوا : إنها السنة !!
وإذا قلت لهم : إن السنة في أداء الفريضة لابد من الالتزام بها في رمضان وفي غير رمضان ، لأن من سنها أعلم بها منا ، فهو القائل - صلى الله عليه وسلم - : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ومعلوم أن : الاتباع خير من الابتداع !! والثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - تطويل الفجر ، وتقصير الظهر ، وتطويل العصر ، وتقصير المغرب ، وتطويل العشاء ، فما تفعلونه في غير رمضان يوافق هدي النبوة في صلاة العشاء ، فلم خالفتموه في رمضان ؟! قالوا : هذه أمور خلافية !! ولا يجوز الإنكار في الأمور الخلافية !!(1/60)
فإذا قلت لهم : أتطيلون الصلاة طيلة العام فإذا جاء شهر التشمير عن ساعد الجد في العبادات والطاعات تكاسلتم ؟!! فأي منطق هذا ؟ لِلَّهِ قالوا : نحن نعوض ذلك في القيام !!
وهذا سلوك مرفوض لا يقره الدين الحنيف لأتباعه ، لأن الدين الحق يصنع من أتباعه قمم الثبات على المبادئ الصحيحة ، والالتزام بها في كل حين ، وينأى بهم عن التقلب ، والاضطراب ، والهوى ، ويحصنهم من نوازع السفه والطيش والحمق ، ويدعوهم إلى الأخذ بمعالي الأمور ، وترك سفسافها ، ودعا بالمحافظة على الأوراد ، وعدم تضييعها ، وما لا يدرك جله لا يترك كله ، ومعلوم أن أحب الأعمال إلى الله تعالى : أدومها وإن قل ذلك العمل ، فالعبرة بالإخلاص ، والمداومة مع حسن الاتباع
والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل الأحوال ، على قدر الاستطاعة،والله الحكيم العليم قال في الحديث القدسي : ( ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه ) ، وهذا صحابي كريم سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ماذا فرض الله عليه ؟ فأجابه المعلم القدوة ، والهادي البشير بفرائض الإسلام ، وفي كل مرة يقول للرجل : ( إلا أن تطَّوَّعَ ) ويجيب الرجل صراحة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملأ من الصحابة الكرام : " والله !! لا أزيد على هذا ولا أنقص ، ولا أتطوع " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - معقباً على صراحة الرجل : ( أفلح إن صدق !! ) وفي رواية قال : ( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ) .
لأن النوافل كلها لا تجزئ عن فريضة واحدة ، ولا تشفع النوافل كلها لصاحبها إن أهمل فريضة واحد ، إذ لا يعقل بحال من الأحوال أن يتكاسل المسلم عن الفريضة إلى حد الاستخفاف بها ، وعدم مساواتها بالنافلة في درجة الاهتمام ، والاستعداد النفسي والبدني ، كما يفعل أمثال هؤلاء .(1/61)
ثالثها : ثم إن هذه الفئة بعينها ، ومن يحذوا حذوها يتعمدون القيام في كل ليلة من رمضان بأكثر من جزأين - أربعة أحزاب - من كتاب الله تعالى ، بل ربما تباهى بعضهم أنه صلى في مسجد كذا ، الذي يختم القرآن كل أسبوع ، وآخر يقول : إنني أصلي في المسجد الفلاني الذي يختمون فيه القرآن الكريم كل أربع ليال !! حتى وصل أمر التباهي في الصلاة بهذه الفئة أن قال أحد الداعين إلى فكرها ومنهجها : " نحن نختم القرآن كل ثلاث ليال!! حيث نصلي العشاء في التاسعة مساء !! - أي : بعد موعد الوجوب بثلاث ساعات على الأقل - ثم نختم الصلاة ، ثم ندخل في صلاة القيام ، ونستريح بين كل ركعتين خمس دقائق ، وبعد الركعة الرابعة نستريح نصف ساعة ، حتى ننتهي من الصلاة قريباً من الساعة الثالثة ، ثم نتسحر ، ثم نصلي الفجر !! نفعل ذلك في الليالي العشر الأخيرة ، أما فيما يسبقها من ليال ، فإننا نبدأ صلاة القيام عقب صلاة العشاء في الحادية عشرة مساء - أي : بعد موعد وجوب صلاة العشاء بخمس ساعات على الأقل - " .
وأترك لك أخي القارئ الكريم الحكم على هذا السلوك المرفوض .(1/62)
واعلم أخي الكريم !! أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صام تسع رمضانات ، وختم القرآن الكريم كله مرة واحدة فقط في كل شهر من الأشهر الثمانية الأولى ، وختمه مرتين فقط في السنة التاسعة ، وهي عام 10 هـ ، وذلك فيما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، من أن جبريل عليه السلام كان يدارسه ما نزل من القرآن الكريم في كل عام مرة في شهر رمضان ، وفي العام الأخير من حياته - صلى الله عليه وسلم - دارسه جبريل عليه السلام القرآن مرتين ، ولنستمع إلى الإمام ابن القيم - رحمه الله - وهو يحكي هديه - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل عامة ، فيقول : " وكان - صلى الله عليه وسلم - يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، وقام بآية يرددها حتى الصباح ، وقد اختلف الناس أيهما أفضل : الترتيل وقلة القراءة ، أو السرعة مع كثرة القراءة ؟!! على قولين : فذهب ابن مسعود ، وابن عباس - رضي الله عنهما - وغيرهما ، إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراء مع كثرتها ، واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة : فهمه وتدبره ، والفقه فيه ، والعمل به ، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه ، كما قال بعض السلف : { نزل القرآن ليعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملاً } ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به ، والعاملون بما فيه ، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب ، وأما من حفظه ولم يفهمه ، ولم يعمل به فليس من أهله ،وإن أقام حروفه إقامة السهم !!
قالوا : ولأن الإيمان أفضل الأعمال ، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان ، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر فيفعلها البر والفاجر ، والمؤمن والمنافق !! كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ) .
والناس في هذا أربع طبقات :
الأولى : أهل القرآن والإيمان : وهم أفضل الناس .(1/63)
والثانية : من عُدِم القرآن والإيمان !!
والثالثة : من أوتي قرآناً ولم يؤت إيماناً .
والرابعة : من أوتي إيمانا ولم يؤت قرآنا .
قالوا : فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن فكذلك من أوتي تدبراً وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر ، قالوا : وهذا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، وقام بآية حتى الصباح !! ... وفي صحيح البخاري : عن قتادة قال : { سألت أنساً عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : كان يمد مداً !! } وقال شعبة : { قلت لابن عباس : إني رجل سريع القراءة وربما قرأت القراءة في ليلة مرة أو مرتين !! فقال ابن عباس : لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل !! فإن كنت فاعلاً ولابد !! فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ، ويعيها قلبك !! } وقال إبراهيم : { قرأ علقمة على ابن مسعود - وكان حسن الصوت - فقال : رتل فداك أبي وأمي !! فإنه زين القرآن } وقال ابن مسعود : { لا تهذوا (1) القرآن هذَّ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل (2) ، وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة !! } ... " (3) .
قلت : هذا إذا صلى لنفسه ، فما بالكم إذا صلى لغيره ؟!
رابعها : ولكثرة القراءة ، وطول القيام يتفلت النشطاء منهم من القيام ، خاصة في الركعة الأولى من كل ركعتين ، ويتعمدون الجلوس خلف الصف ، والتحدث معا بصوت عال ، فيشغلون المصلين الذين لازموا الإمام ، ولم يبرحوا أماكنهم ، بل ربما انصرف هؤلاء النشطاء إلى الطعام والشراب يضيعون به الوقت حتى ينتهي الإمام من القراءة في الركعة الأولى ، فإذا ركع هرولوا إلى الصلاة ، بلا سكينة ولا وقار !!
__________
(1) الهذ : سرعة القراءة بغير تدبر .
(2) الدقل : الرطب الرديء ، ونثره تساقطه بشدة على حين غرة .
(3) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم : 1 / 122 وما بعدها .(1/64)
ُثم إن الإمام في كثير من الأحيان يدركه التعب ، ويتثاقل في القراءة من شدة الإعياء ، ولا يخرجه ذلك من الصلاة ، أو تخفيفها ، ولربما استعجم القرآن عليه ، فلا يدري ماذا قرأ ، ولا يدري من خلفه فيما وقف ، وهكذا تمر الأوقات تلو الأوقات وهم على هذا الحال ، وحسبنا والله ونعم الوكيل !!
قال - صلى الله عليه وسلم - :(إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم (1) القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضطجع !! ) (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه ) (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، ويصوم يوماً ويفطر يوماً ) (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء ) (5) .
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأفعال والنيات ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها ، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 12 -
التراخي عن أداء الأعمال المكلف بها الإنسان بحجة الصيام
__________
(1) استعجم : التبس .
(2) رواه مسلم .
(3) متفق عليه .
(4) متفق عليه .
(5) رواه البخاري .(1/65)
مِن الناس مَن إذا دخل عليه شهر رمضان , وهو مسند إليه أعمال قد تكون ضرورية جداً , وقد تكون عامة , ومهمة جداً , وقد تكون خاصة تتوقف حياة صاحبها عليها , أو على الأقل : إثبات حقه في شيء ما , أو نحو ذلك ، من هؤلاء الناس من يعتبر شهر رمضان فرصة للراحة والتراخي , والتكاسل عن أداء المهام المكلف بها بحجة الصيام , وأن الصيام يغير مزاجه , لأنه لم يفطر, أو لأنه لم يتسحَّر , أو أنه يريد أن يدخّن ولا يستطيع التدخين , أو نحو ذلك , وبدراسة أحوال هؤلاء وجد من أسباب ذلك ما يأتي :
(1) السَّهر المتواصل أمام التلفاز حتى الساعات المتأخرة من الليل , أو حتى قبيل الفجر , ينتقل من قناة إلى أخرى , ومن الفيلم إلى المسلسل , أو من الفوازير إلى البرامج , أو من النشرة إلى المباريات , إلى المسرحيات , إلى غير ذلك مما يشحنه التلفاز خاصة في شهر رمضان لجمهور المشاهدين , كأنه يدعوهم إلى السهر , ويعرفهم مواطن الكذب والخداع , ويعلمهم وسائل التراخي والتكاسل , ويأخذ بأيديهم إلى حيث الإهمال والعبث بمقدرات الأمة ,.....إلخ .
(2) قضاء الليل بطوله , أو أكثره في السَّمر , إما مع الأصدقاء , أمام السينما , أو في المسرح , وإما مع الأسرة في النادي , أو في الحدائق , وإما مع الأصحاب في لعب الكرة في الشارع , وإمّا مع زملاء السوء في الجلوس على المقاهي لتدخين الشيشة أو الجوزة , أو للعب (الكتشينة)- الأوراق , أو للعب النرد-(الطاولة) , أو غيرها حتى يأتي وقت السحور , فيذهبون ليأكلوا وقد غلبهم الأرق , وركبهم الشيطان , فينامون , وقد بال الشيطان في آذانهم , فلا يسمعون للفجر أذاناً , ولا للديكة صياحاً , ولا ينعمون بالبكور الذي توزع فيه الأرزاق , ويصبحون خبيثي النفس , كسالى , ولا يذكرون الله إلا قليلاً , ونسوا الله فأنساهم أنفسهم !!
(3) تعمُّد عدم السحور , أو تعجيله , والجوع الشديد يشتت الفكر , ويصيب بالضجر و النفور .
((1/66)
4) تعمّد الإسراف في تناول الإفطار , وفي تناول السحور , وملء البطون ينيم الجفون , ويصيب بالتُخمة المفضية إلى الكسل والتراخي .
(5) حب الدنيا المفضي إلى كراهية الموت , ومن حب الدنيا : حب عدم التعب فيها , بل التلذذ بها إلى أقصى حد , حتى ولو بالتلذذ بتعطيل مصالح العباد , والبلاد , وحسبنا الله نعم الوكيل .
وهذه كلها سلوكيات مرفوضة في شهر رمضان خاصة , وفي غير شهر رمضان عامة , ولأن ليل رمضان خاصة , وليل المؤمن عامة يعرف بقيامه , وتهجده , ودعائه , واستغفاره , وتلاوة القرآن الكريم , ومذاكرة العلم الضروري الذي يفيده في دينه , ودنياه , قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1)قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2)نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3)أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا(4)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(5)إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(6)إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا } (1) , أي : أن قيام الليل معين على العمل في النهار ولو كان شاقاً ، قال الله تعالى: {
أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78)وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79)وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا(80)وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } (2)
__________
(1) المزمّل / 1-7 .
(2) الإسراء / 78-82 .(1/67)
أي : أن قيام الليل يكون طريق الرفعة في الدنيا , والفوز في الآخرة , كما أنه طريق التوفيق والسداد والعون في الدنيا , وطريق النصر والسيادة , ودفع الملل والتراخي عن الأعمال الصالحة في الدنيا , لأن فيه الشفاء , لأنه وعاء نزول القرآن الكريم جملة , الذي فيه شفاء للناس , ولذا حرص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حرصهم على الموت في سبيل الله , مقبلين غير مدبرين , فكانوا أتقياء محسنين , لأخذهم ما آتاهم ربهم غير مقصرين , فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة , وقال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16)كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (1) .
,وكانوا كما قال القائل : " رهبان بالليل , أُسُودٌ بالنهار " .
وفى التابعين لهم بإحسان الكثيرون الذين كانوا يصلون الفجر بوضوء العشاء , دون أن يقعدهم ذلك عن طلب الرزق الحلال , أو التراخي في أداء الأعمال التي كلفوا بها في رمضان أو غيره , حتى أن امرأة حبيب البصري كانت توقظه بالليل وتقول له : " قم يا حبيب !! ذهب الليل , وبين أيدينا طريق بعيد , وزادنا قليل , وقوافل الصالحين قد سارت قُدَّامنا , ونحن قد بقينا !! "
فاللهم اجعلنا وأهلينا من هؤلاء , آمين .
ولا تنسوا أن تدعوا لإخوانكم في فلسطين , وفى كل مكان خاصة في الثلث الأخير من الليل فإن الدعاء مستجاب فيه .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 13 -
افتعال المشاجرات لأتفه الأسباب (1)
__________
(1) الذاريات / 15- 18 .(1/68)
من العجب العجاب في بلادنا أن ترى الناس يضيقون ذرعاً ببعضهم البعض , في نهار شهر رمضان , ولئن سألتهم عن سر ذلك ليقولن : إنا صائمون !! والصوم غير مألوف لي , وبالتالي تجدني عصبياً , أثور كثيراً بسبب وبغير سبب , ولئن قلت له : لماذا لم تدرب نفسك على الصوم قبل رمضان , وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يدربون أنفسهم لاستقبال رمضان ستة أشهر قبله , ثم هم يتزودون من رمضان بشحنة إيمانية , وآثار ربانية مُرْضية تكفيهم لستة أشهر بعده , فتكون حياتهم كلها إعداد واستعداد ؟ , قال لك : " إنني أصوم رمضان بالكاد (بالعافية) , وأنت تريد أن أصوم قبله بستة أشهر , وبعده ستة أشهر , أنا لا أستطيع ذلك أبداً " فإن قلت له : لم أقصد ذلك الذي فهمت من استعدادهم- رضي الله عنهم- لشهر رمضان , فإن منهم من كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر عربي , وهي أيام الثالث عشر , والرابع عشر , والخامس عشر , المعروفة بأيام البيض , ومنهم من كان يصوم ثمانية أيام من كل شهر , بمعنى يومين في الأسبوع : الاثنين والخميس , ومنهم من كان يصوم أكثر من ذلك لأنه من السنة ألا تخلي شهراً عن الصوم , لأن الصوم يدرب الإنسان على حفظ لسانه , وفرجه , وصيانة بصره وسمعه عما حرم الله تعالى , ثم هو يدرب الإنسان على حسن الخلق , وضبط السلوك , وتهذيب الفكر , ويدربه على السخاء , والجود , والكرم , والإيثار , والصبر , وتحمل الأذى , و عدم مقابلة السيئة بالسيئة , ولكن بالتي هي أحسن , قال لك : " هذه أحلام وردية , ما ذنبي حينما أركب الأتوبيس , وأجده مزدحماً جداً , وهذا يتكىء بكوعه على كتفي , وذاك يضغط بحذائه على(1/69)
حذائي ورجلي , وتلك تحاول أن تصرف بصري إليها بفتنتها المثيرة , وعطرها الفواح , وأنا بشر , من لحم ودم , وأخرى تقف من خلفي تحيطني بجسمها كله , ولا تستطيع منها فكاكاً إلا بالسب , أو باللعن , أأتركها حتى أفطر بسببها , وهذه مشاهد متكررة يومياً في رمضان , وغير رمضان , لذا نحن نصوم رمضان بالكاد " , فإن قلت له : استعمل السيارات الأجرة , قال لك : " ومن أين لي بالأجرة ؟ أأنفق راتبي في المواصلات , ولا أجد ما أنفقه على نفسي , أو على أسرتي ؟ أم ماذا أفعل ؟ ".
نقول له : كن من عباد الرحمن الذين وصفهم الله تعالى في سورة الفرقان بصفات كثيرة , ومنها : { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } (1) .
ومنها: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } (2) .
ومنها : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } (3) .
أو كن من المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بقوله : {
أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(54)وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ
__________
(1) الفرقان / 63 .
(2) الفرقان / 67 .
(3) الفرقان / 72 .(1/70)
} (1) , وهذا اختبار لك من ربك لينظر كيف تتصرف , هل ستقاوم بأدب الإسلام , أم سترتد إلى الجاهلية العمياء ؟ قال تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } (2) , وقال تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (3) ,
فاصبر يا أخي صبراً جميلاً , واهجر أمثال هذه الأماكن هجراً جميلاً , على قدر استطاعتك , واستغفر الله تعالى من تقصيرك , واستعن بالله تعالى على عجزك عنه , وأخلص لله تعالى في رجائك ودعائك يجبك الله تعالى , كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (4), وقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (5), وقال تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَ إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (6) .
ثم إن من يضبط نفسه عند اشتداد الفتنة , وقمة الإثارة , فهذا هو الصبر الممدوح في قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (7) .
__________
(1) القصص / 54 , 55 .
(2) الفرقان / 20 .
(3) الإسراء / 36 .
(4) البقرة / 186 .
(5) غافر / 60 .
(6) النمل / 62 .
(7) الزمر / 10 .(1/71)
ورمضان شهر الصبر , فإن لم تصبر في هذا الشهر الفضيل , فمتى تصبر ؟ يقول لك الهادي لبشير - صلى الله عليه وسلم - : ( اتق الله حيثما كنت , وأتبع السيئة الحسنة تمحها , وخالق الناس بخلق حسن ) (1) .
وهناك أصناف أخرى من مفتعلي المشاجرات في نهار رمضان بحجة الصيام لنا معهم لقاء آخر .
فاللهم ارزقنا الصبر على بلائك , والرضا بقضائك , والنصر على أعدائك ، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة , ولا فتنة مضلة , يا رب العالمين .
آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 14 -
افتعال المشاجرات لأتفه الأسباب (2)
رأينا في المقالة السابقة : سلوك مفتعلي المشاجرات في الأتوبيسات لأتفه الأسباب , والعلاج الإسلامي , والحل الديني لمثيرات النفوس والأعصاب في وسائل المواصلات , وفي هذه المقالة - إن شاء الله تعالى- نحاول كشف باقي أسباب افتعال المشاجرات في نهار رمضان عند الأصناف الأخرى ، مع تقديم الحل الإسلامي الرشيد , والعلاج الديني المفيد في مثل هذه الحالات الآتية :
(1) عند البيع والشراء :
وقد وجد من أسباب افتعال المشاجرات عندئذ ما يأتي :
" بسبب الاختلاف في ثمن السلعة .
" وكذلك بسبب الاختلاف حول جودتها .
" وحول تقليبها واختبارها .
" وحول قبض السلعة وتسليم ثمنها .
" وحول إعادة السلعة إن وُجِدَ بها عيبٌ .
" أو إن وجدها أغلى ثمناً عن مثيلاتها بكثير أو نحو ذلك .
__________
(1) رواه الترمذي,وأحمد,والحاكم,والبيهقي,وإسناده حسن .(1/72)
والرسول الحكيم - صلى الله عليه وسلم - يفْصِلُ في ذلك كله بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا , فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما , وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ) (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة , فالقول ما يقول ربُّ السلعة , أو يتتاركان) (2) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال أموال قوم ودماءهم , لكن البينة على المدعي , واليمين على من أنكر ) (3) .
وننصح المتبايعين معاً بقول الرسول الهادي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تحاسدوا , ولا تناجشوا , ولا تباغضوا , ولا تدابروا , ولا يبع بعضكم على بيع بعض , وكونوا عباد الله إخواناً , المسلم أخو المسلم , لا يظلمه , ولا يخذله , ولا يكذبه , ولا يحقره , التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم , كل المسلم على المسلم حرام , دمه , وماله , وعرضه ) (4) .والنجش في البيع : أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها , إما لنفع البائع لزيادة الثمن له , أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( رحم الله عبداً سمحاً إذا باع , سمحاً إذا اشترى , سمحاً إذا قضى , سمحاً إذا اقتضى ) (5) .
( 2 ) عند مشاهدة مباريات كرة القدم , أو الذهاب إليها , أو الرجوع منها .
وقد وجد من أسباب افتعال المشاجرات عندئذ ما يأتي :
" أنصار الفريق صاحب الأرض يحاولون عرقلة وصول أنصار الفريق الضيف , حتى لا يشجعوا فريقهم , فتحدث المشاجرات حينئذ ، وقد تحدث إصابات بالغة في الجانبين .
__________
(1) متفق عليه .
(2) رواه الخمسة وصححه الحاكم .
(3) حديث حسن رواه البيهقي,وغيره هكذا,وبعضه في الصحيحين .
(4) رواه مسلم .
(5) رواه البخاري وابن ماجة .(1/73)
" أنصار الفريق صاحب الأرض يحاولون تمزيق لافتات ودعاية أنصار الفريق الضيف.
" بعض الصحفيين المتعصبين لأحد الفريقين يثيرون أنصاره بمقالاته المثيرة للأعصاب ضد الفريق الآخر وأنصاره , فيعتدون عليهم عند مرورهم أمامهم في الشارع , أو عند دخول الاستاد , أو الملعب , وقد يعتدون عليهم أثناء اللعب , وبعد اللعب , وهكذا تتحول المباراة- وقد تكون ودية- إلى معركة , والسبب في نشوبها مقالات هذا الصحفي الشيطان .
" بعض بلطجية أنصار الفريقين يثيرون أنصار كل فريق أثناء المباراة ضد الآخر , فيهتفون بأحط الألفاظ , وأبذأ الكلمات ضد الحكام , أو ضد اللاعبين , أو ضد الإداريين , أو ضد الجمهور والمشاهدين , وقد يتعدى أثر تلك الهتافات البذيئة إلى رواد المقاهي فيتشاجرون أيضاً , أو إلى الزوجين في البيت فيتشاجران كذلك , أو إلى المارة في الشوارع فيتشاجرون , وقد تقام المعارك الضارية التي تذهب فيها الأرواح ، كل ذلك تعصباً , دون أن يكون لهم في ذلك ناقة ولا جمل .
" وأكثر ما يثير الفريقين وأنصارهما عند خشونة اللعب , وعند احتساب الأخطاء من الحكام ضد اللاعب , وخاصة إن تسبب احتساب الخطأ في اعتبار ضربة الجزاء , أو طرد اللاعب , أو إنذاره , ونحو ذلك .
" كما يثار الفريقان وأنصارهما عند عدم احتساب تلك الأخطاء , خاصة إن تسبب عن ذلك إحراز هدف أو التأثير في قوة أحد الفريقين , أو عدم احتساب الوقت الإضافي , ونحو ذلك .
ويؤدي كل ذلك إلى المشاجرات التي يندى لها الجبين , وإنا لله وإنا إليه راجعون .
" إذا فاز الفريق الضيف على الفريق صاحب الأرض فالويل له من أنصار صاحب الأرض , ولن يخرج من الملعب إلا في حراسة الشرطة , وقد يتعدى عليه في حضور الشرطة التي لا تستطيع كبح ثورة الجماهير الغاضبة , خاصة إذا كانت المباراة مصيرية , أو نهائية كما يقولون .(1/74)
وهذه كلها سلوكيات مرفوضة في رمضان , و في غير رمضان , لأن الصحة والفراغ مخدوع فيهما كثير من الناس
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) (1) , واللعب النظيف , وغير النظيف مرفوض في الإسلام خاصة في عصرنا , ونحن نرى الصهاينة يحتلون الأرض , وينتهكون العرض , ويغتصبون الأموال , ويهدمون الديار , ويجرفون الأراضي , ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ في فلسطين , وينشرون الفساد في كل مكان , فإن كان لا محالة من اللعب فلا بأس بالفروسية والرماية والسباحة , وأعمال الجندية كلها بغرض الاستعداد لمعركتنا الفاصلة معهم إن شاء الله .
وإلى لقاء آخر
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 15 -
افتعال المشاجرات لأتفه الأسباب (3)
مازلنا مع دراسة أسباب افتعال المشاجرات في رمضان عند أصناف الصائمين , مع تقديم الحل الإسلامي الرشيد , وتلك الأحوال .
ثالثاً : في المساجد : حيث يثير كثير من الجهلة , وأنصاف المتعلمين , ومحبي السيطرة , واستعباد الآخرين : المشاكل الكثيرة , والتي تؤدي حتماً إلى رفع الصوت في المسجد , بل إلى المشاجرات , وقد لوحظ أن المشاجرات التي تحدث في المسجد مرتبطة بثلاثة أمور لابد منها في المسجد , ولا يتخلف مسجد عنها : وهي : الأذان والإقامة , والصلاة , والخطبة , ودروس العلم التي تقام في المسجد , وقد تأتى من أمور أخرى لا توجد إلا في بعض المساجد من أمثال : لجان الزكاة , ومجالس الإدارات , والأنشطة المقامة في تلك المساجد مثل : تحفيظ القرآن الكريم , وكفالة الأيتام , وفصول التقوية , وفصول محو الأمية , ورعاية المسنين والمرضى , والعيادات , والصيدليات , وغير ذلك من مجالات الأنشطة المختلفة , والتي تكون في بعض المساجد وليس كلها.
__________
(1) متفق عليه .(1/75)
أما من حيث الأذان والإقامة والصلاة , فإن الخلافات تقع حينما يكون المؤذن المعين لذلك لا يحسن الأذان حسب قواعد الشرع , أو أن صوته ليس عذباً أو نحو ذلك .
والحل: أن يؤذن ذو الصوت الحسن , والجهير لما في ذلك من تأثير في نفوس وقلوب السامعين , مما ينشطهم ويحفزهم لحضور الجماعة الأولى , أما المؤذن المعين فإن
حضوره الأذان , وإذنه لمن هو أندى منه صوتاً يعفيه من المساءلة الشرعية , وأجره حلال , والله أعلم , حتى لا تحدث فتنة .
وأما من حيث الاعتراض على المؤذن لمجرد الاعتراض فهذا أمر مرفوض شرعاً وعقلاً , وقانوناً , فليحذر الذين يثيرون المشاجرات في المساجد لمجرد الهوى , فإن العاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبدٌ ) , والمؤذن المعين أمير الأذان في مسجده , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أوصيكم بتقوى الله , والسمع والطاعة , وإن تأمَّر عليكم عبدٌ , فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً , فعليكم بسنتي , وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي , عضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل بدعة ضلالة )(1) .
__________
(1) حديث حسن صحيح,رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم .(1/76)
أما من حيث الصلاة : فإن الإمام الراتب أحق بالصلاة من غيره على كل حال , ما لم يكن يحسن تلاوة القرآن الكريم , خاصة الفاتحة , وسورة من كتاب الله تعالى , فإن كان كذلك لا تصح إمامته , ولكن على الناس أن يسلكوا المسلك الشرعي في إنكار المنكر دون إحداث فتنة , فللإمام الراتب مسؤولون يمكن الرجوع إليهم في هذا الشأن , فإن غيروه كان بها , وإلا فإن هجره أولى من المشاجرة معه , أما إذا كان افتعال المشاجرة معه لأنه يرتّل القرآن ترتيلاً , فهذا من باب قول الله تعالى : { أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى(11)أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى(12)أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13)أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى(14)كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاَ بِالنَّاصِيَةِ(15)نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)فَلْيَدْعُ نَادِيَه(17)سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18)كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } (1) .
أو لأنه يطيل الصلاة , نظر , فإن كانت إطالته عن غير المألوف شرعاً , نصح بالحسنى , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الدين النصيحة ) قلنا : لمن ؟ قال : ( لله , ولرسوله ولكتابه , ولأئمة المسلمين , وعامتهم ) (2) , وروعي معه أدب الإسلام في النصيحة , كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من نصح أخاه في السر فقد زانه , ومن نصحه في العلن فقد شانه ) .
وقديماً قالوا : "النصيحة في الملأ فضيحة" , فكيف بمن يتشاجر معه فور الصلاة , بل من الناس من يقطع الصلاة أصلاً ثم يقف ويسب الإمام أثناء الصلاة , ويشوش على المصلين , وكل هذه أمور شيطانية يستدرج بها الشيطان أولياءه ليصدوا عن سبيل الله بغير علم .
__________
(1) أواخر سورة العلق .
(2) متفق عليه .(1/77)
أما إن كانت إطالته أمر يتفق عليه أغلب رواد المسجد , الدائمون منهم , فإن من يخرج عن هذه الكثرة , ويحاول أن يثير بينهم النزاع والشقاق , وسوء الأخلاق , فهذا شيطان لابد من إخراجه من المسجد على الفور , وهذه مهمة أهل الحل والعقد في المسجد , وإن نصح هذا الشيطان بالحسنى كان أولى , وإن صبر الناس عليه كان أولى وأولى , قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ(33)وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (1) .
ربنا اجعلنا للمتقين إماماً , آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 16 -
الخطبة على خلاف منهاج النبوة
__________
(1) فصلت / 33-36 .(1/78)
الخطباء أنواع كثيرة , فمن حيث زمن الخطبة : منهم من يطيل الخطبة إلى حد لا يطاق , ويخرج عن مألوف الشرع الحنيف , ومنهم من يقتصرها قصراً مخلاً , ومنهم من يسير وسطاً بين هؤلاء , وهؤلاء , وهم الكثيرون بفضل الله تعالى , أما من حيث الموضوعية , فمنهم من يعالج قضايا مجتمعه , ويقتصرها على الجوانب السياسية البحتة , ومنهم من يعالج قضايا مجتمعه ويقتصرها على الجوانب الاجتماعية المختلفة , ومنهم من يعالجها من كافة جوانبها السياسية , والاجتماعية , والثقافية , والفكرية , وغير ذلك , ومنهم من يعرض عن ذلك , ويجعلها وعظية في المقام الأول والأخير , دون التعرض من قريب أو من بعيد لقضايا مجتمعه , وكأنه يعيش في كوكب آخر , ومنهم ذو اللسان العليم , والفكر الصائب , واللغة السليمة , والأدلة الموضوعية من القرآن , والسنة , والآثار , والشعر , والقصة , والمثل ونحو ذلك , ومنهم العَيِيِّ الذي لا يحسن قولاً , ولا يروق سمتاً , ومنهم الناشيء المبتديء , ومنهم المخضرم , ومنهم الوسط بين ذلك .
والفيصل بين كل هؤلاء جميعاًً هو هدي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - القائل : ( وأوتيت جوامع الكلم ) (1) , والقائل : ( من مئنة فقه الرجل : قصر الخطبة وطول الصلاة ) (2) , أي : أن علامة فقه الرجل ليس بكثرة كلامه في الخطبة , إنما يعرف فقهه من طول صلاته , وجوامع الكلم , يعني الكلام القليل ذو المعاني الكثيرة , وعن العرباص بن سارية- رضي الله عنه- قال : " وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة , وجلت منها القلوب , وذرفت منها الدموع , فقلنا يا رسول الله !! لعلها موعظة مودِّع فأوصنا , قال : ( أوصيكم بتقوى الله... ) إلخ الحديث (3) .
والبلاغة مراعاة الكلام لمقتضى الحال .
__________
(1) متفق عليه .
(2) حديث حسن .
(3) رواه مسلم .(1/79)
وعن جابر- رضي الله عنه- قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه , وعلا صوته , واشتد غضبه , كأنه منذر جيش , يقول صبَّحكم ومسَّاكم ... " (1) .
وهذا هديه - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة , كما ذكره الإمام ابن القيم , في كتابه : زاد المعاد في هدي خير العباد , فقال رحمه الله : " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس , ثم قال : ( السلام عليكم ) , فإذا استوى عليه , واستقبل الناس , أخذ المؤذن في الأذان فقط , ولم يقل شيئاً قبله , ولا بعده , قال الشعبي : وكان أبو بكر وعمر يفعلانه , فإذا أخذ في الخطبة لم يرفع أحد صوته البتة , لا مؤذن , ولا غيره , وكان كثيراً ما يخطب بالقرآن , وكان مدار خطبه على : حمد الله , والثناء عليه بآلائه , وأوصاف كماله , ومحامده , وتعليم قواعد الإسلام , وذكر الجنة والنار , والمعاد , والأمر بتقوى الله , وتبيين موارد غضبه , ومواقع رضاه , وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين , ومصالحهم , ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله , ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة , ويذكر فيها نفسه باسمه العَلَم , وكان إذا عرض له في خطبته عارض اشتغل به ثم رجع إلى خطبته , وكان يخطب قائماً , وكان يقصر خطبته أحياناً , ويطيلها أحياناً , بحسب حاجة الناس , وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة , وكان يخطب للنساء على حدة في الأعياد , ويحرضهن على الصدقة , والله أعلم " .
__________
(1) رواه مسلم وابن ماجة وغيرهم .(1/80)
ذكرنا ذلك ليتعلم خطباؤنا الذين يسيئون إلى مستمعيهم , وليحذر مثيروا الفتن , ومفتعلوا المشاجرات في المساجد أثناء الخطبة , أو بعدها , تحت أي مسمى , فإن المساجد لم تبن لهذا , بل بنيت لما قاله الحق تبارك وتعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (1) , وقال سبحانه وتعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(36)رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37)لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (2) .
وشهر رمضان فرصة ثرية للخطباء الذين يطيلون خطبهم أن يدربوا أنفسهم على تقصيرها بحيث لا تتجاوز النصف ساعة على الأكثر , وفى كل الأحوال , ولو كانت خمسة وعشرين دقيقة كانت أفضل , ولو كانت ثلث ساعة كانت أجمل وأحسن وأعظم , كما أنه فرصة لأصحاب الأعصاب الثورية , أن يدربوا أنفسهم على ضبط النفس , وكبت جماحها , وشغلها بما هو أنفع لها , حتى لا تشغلكم بما يضركم , ويضرها , قال الإمام الشافعي رحمه الله : " صاحبت الزاهدين فلم أستفد منهم إلا حرفين : الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك , ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل " , وإنه فرصة لتلاوة القرآن , وتعلمه , وتدبره , وتطبيقه .
فللدعاة أقول : اصبروا , وادفعوا بالتي هي أحسن , وخالقوا الناس بخلق حسن , ويسّروا ولا تعسِّروا , وبشروا ولا تنفروا , وقولوا للناس قولاً ليِّناً لعلهم يتذكرون الله فيتقونه .
__________
(1) الجن / 18 .
(2) النور / 36-38 .(1/81)
وإلى الناس أجمعين : اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً . ولا تنسوا جميعاً أن تدعوا لإخوانكم في فلسطين وفي كل مكان أن ينصرهم الله على عدوهم وأن يثبت أقدامهم , ويوحد صفوفهم .
- 17 -
كثرة الكلام بلا حاجة , والضحك بلا سبب
أصبح بادياً لكل ذي عينين أن الثرثرة شعار الناس اليوم , وأن من لا يحسن الثرثرة قالوا عنه : " قفل " , أو قالوا عنه : " غبي " أو أي شيء آخر , أما هم فعند أنفسهم هم الأذكياء , والمتفتحون , الذين يستطيعون تلوين الكلام , ومجاراة الآخرين بكل لون , دون حياء , أو خجل , فهم أبنا " نكتة " , وهم مرحون خفيفوا الظل , لأن الدنيا عندهم هي الساعة التي يعيشونها , فلم يكدرونها على أنفسهم , إنهم يحاولون أن ينسوا همومهم في المزاح , ويتناسون مشاكلهم في " المقالب " التي يدبرونها لبعضهم البعض , وهكذا أصبح الكلام بلا داعٍ شرعي سمت الناس , وديدنهم , وأن الضحك بلا سبب شرعي , هو بضاعة المعاصرين , وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وإذا كانوا قديماً قالوا:" إن الضحك بلا سبب قلة أدب " ،فإن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن العبد ليقول الكلمة , لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوي بها أبْعَدَ ما بين السماء والأرض , وإن الرجل ليزِلُّ عن لسانه أشدَّ مما يزلّ عن قدمه ) (1) , وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أَلاَ هَلْ عسى رَجُلٌ منكم أن يتكلم بالكلمة يضحك بها القوم , فَيَسْقُطُ بها أبْعَدَ مِن السماء , ألاَ هَلْ عسى رجل منكم يتكلم بالكلمة يُضْحِكُ بها أصَحابَهُ , فَيَسْخَطُ الله بها عليه , لا يرضى عنه حتى يدخله النار ) (2) .
__________
(1) رواه البيهقي .
(2) رواه أبو الشيخ بإسناد حسن .(1/82)
ومع ذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَمْزَحُ , ولكن لا يقول إلاّ حقاً , وكان يضحك , ولكن كان جل ضحكه التبسُّم , وكان نهاية
ضحكه أن تبدو نواجذه , أي قواطع أسنانه الأمامية , وليس فيه رفع صوت , ولا قهقهة , ونحوها , ولا ضرب الأرض برجل من الضحك , ولا ضرب رأسه , ولا فتح فاه مثلما يفعله خفيفوا الظل اليوم , ولم يرقص طرباً من شدة الضحك كما يفعله قليلوا العقل اليوم , ولا نحو ذلك , بل كان يَضْحكُ مما يُضْحَكُ منه , وهو مما يُتَعَجَّبُ من مثله , ويستغرب وقوعه , ويستندر , أي يقع على وجه الندرة , وعلى غير العادة , لا أن يستدعى الضحك من المضحكين , وأشباههم , لأن كثرة الضحك تميت القلب , وإن أَبْعَدَ الناس من الله تعالى القلبُ القاسي , وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله , فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب , وإن أبْعدَ الناس من الله تعالى القلب القاسي ) (1) .
وأما هؤلاء الفسّاق الذين لا يجدون مادة يضحكون بها أمثالهم سوى آيات القرآن الكريم , أو أحاديث الهادي البشير - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء كفرة فَجَرة , قال الله تعالى فيهم وفي أمثالهم إلى يوم الدين : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } (2) .
__________
(1) رواه البيهقي والترمذي,واللفظ له , وقال : حسن غريب .
(2) التوبة / 65 , 66 .(1/83)
وأما من يتخذ المؤمنين والمؤمنات مادة للضحك أو السخرية , فمجرمٌ معلوم الإجرام , وقد توعده الله تعالى بالعقاب الأليم في الدنيا والآخرة , فعن بلال بن الحارث المُزَني- رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله , ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه , وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله , ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يَكتب الله تعالى له بها سَخَطَهُ إلى يوم يلقاه ) (1).
ثم إن من كَثُر كلامه كَثُر خطؤه , ومن كثر خطؤه كثرت ذنوبه , ومن كثرت ذنوبه , كانت النار أولى به , وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه , مقبلاً على شأنه , حافظاً للسانه , ومن حَسِب كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه , ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) (2) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( كل كلام ابن آدم عليه لا له , إلا : أمرٌ بمعروف , أو نهيٌ عن منكرِ , أو ذكرُ الله ) (3) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - أفصح العالمين , وأعذبهم كلاماً , وكان إذا تكلَّم تكلم بكلام مفصَّل , مبين , يَعُدُّه العادّ , ولا يَسْرِد الحديث كسرد المتفيهقين , والمتشدقين , والثرثارين في عصرنا , ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه , وإذا كره الشيء عُرِفَ في وجهه , ولم يكن فاحشاً , ولا متفحشاً , ولا بذيئاً , ولا صخاباً , ولا عَيَّاباً , وكان طويل السكوت كثير الصمت - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) رواه مالك,والترمذي,وقال حديث حسن صحيح,والنسائي,وابن ماجة,وابن حِبَّان في صحيحه,والحاكم,وقال صحيح الإسناد .
(2) صحيح رواه الترمذي .
(3) رواه الترمذي,وابن ماجة,وابن أبي الدنيا .(1/84)
فاللهم فقهنا في ديننا , وبصّرنا بزماننا , واحفظ ألسنتنا , واهدنا سبل نبيِّنا,وانصرنا على أعدائنا , واكتب لنا صلاة آمنة مطمئنة في مسجدك الأقصى , واكتب لنا حجاً وعمرة يبدأن من المسجد الأقصى , اللهم آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله بركاته .
- 18 -
الغيبة والنميمة بين النساء خاصة والناس عامة
نظراً لعدم الحاجة إلى تدبير الطعام معظم النهار في رمضان , ونظراً للتراخي الذي يبديه البعض عن أداء الأعمال المكلفون بأدائها في نهار رمضان خاصة بحجة الصيام , فإن الكثيرين من الناس يعقدون فيما بينهم مجالس اللغو , والغيبة , والنميمة , والثرثرة , والمكايات , وغير ذلك من ضروب الكلام السيّء , والتي يتحمل الوزر الأكبر منها : النساء خاصة , لشيوع حدوث ذلك منهم , حتى قيل : " إن النساء إذا اجتمعن زئرن " , أي : تجرأن على الرجال , ولم يسْتَحِنَّ منهم , ورفعن أصواتهن بحضرتهم , فكيف إذا اجتمعن وحدهن , وليس بينهن رقيب عليهن , أو قيِّمٌ ذو سلطان عليهن ؟ .
إن الغيبة هي : ذكرك أخاك بما يكرهه من نفسه في غيبته , والنميمة : ذكرك أخباره كلها- ما يحبها وما يكرهها- دون أن يأذن لك في شيء من ذلك , والبهتان : ذكرك إياه بما ليس فيه , في غيبته , بمعنى إلصاق العيب به , فإن تعلق هذا العيب بالعورات والمحرمات فهو الإفك , وإن اختص بالرمي بالزنا فهو الإفك المبين , وقد يكون ذلك في محضر من المقذوف , فيكون بهتاناً وإثماً مبيناً .(1/85)
فإن اقتصر على الإشارات دون اللفظات , فإن كان بمؤخرة العين مع حركة الرأس نحو المستهزأ به فهو : الغمز , وإن كان بالعين كلها مع قطوب الوجه فهو : الهمز , وإن كان بالشفتين مع حركة الفكين بما يوحي بالكلام أو الأكل فهو : اللمز , وإن كان بالعين والشفتين معاً مع إظهار الاستهزاء على صفحات الوجه فهو : النبز , وإن كان مع كل ذلك اقترن به , أو بأحدها حركة اليدين بما يوحي بالسخرية الشديدة فهو : التهكّم .
وهذه كلها سلوكيات مرفوضة من المسلم ومن المسلمة على السواء , وإن كان حدوث ذلك من النساء أكثر , فإن تزامن ذلك مع نهار رمضان أفسد ذلك الصيام , وجعله كأن لم يكن , دون وجوب الإعادة على من حدث ذلك منه , لكن الإفساد متعلق بعدم استحقاق أي ثواب على صومه ذلك , ويكون قد أتعب نفسه فقط , ولم يكن حظه من صومه إلا الجوع والعطش .(1/86)
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(11)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } (1) , وقال الله تعالى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79)اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (2) , وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30)وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31)وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ(32)وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ(33)فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35)هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (3)
__________
(1) الحجرات / 11 , 12 .
(2) التوبة / 79 , 80 .
(3) المطففين / 29- 36 ..(1/87)
, وقال تعالى: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ(1)الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ(2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3)كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ(5)نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6)الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ(7)إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ(8)فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } (1) .
__________
(1) سورة الهمزة .(1/88)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أتدرون ما الغيبة؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم !! قال : ( ذكرك أخاك بما يكره ) . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ , وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ ) (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أيُّما رجلٍ أشاع على رجلٍ مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يُذِيبَهُ يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال !!) (2) ، وعن انس - رضي الله عنه - قال : " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس بصوم يوم , وقال : ( لا يفطرن أحدكم حتى آذن له ) , فصام الناس , حتى أمسوا , فجعل الرجل يجيء , فيقول : يا رسول الله !! إني ظللت صائماً فَأْذَنْ لي فَأُفْطِرَ , فيأذن له , والرَّجُلُ , والرَّجُلُ , حتى جاء رجلٌ فقال : " يا رسول الله !! فتاتان من أهْلِكَ ظلَّتا صائمتين , وإنهما تستحيان أن تأتياك فأْذَنْ لهما فليُفطِرا !! فأعرض عنه , ثم عاوده , فأعرض عنه , ثم عاوده , فأعرض عنه , ثم عاوده , فأعرض عنه , فقال : ( إنهما لم تصوما , وكيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس , اذهب فَمُرْهُما إن كانتا صائمتين فَلْيَسْتَقِيئا !! ) فرجع إليهما , فأخبرهما , فاستقاءتا , فقاءت كل واحدة : علقة من دمٍ , فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره , فقال : ( والذي نفسي بيده !! لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار !! ) (3) , وفي رواية أحمد : ( إن هاتين صامتا عما أحلَّ الله لهما , وأفطرتا على ما حَرَّم الله عليهما , جلست إحداهما إلى الأخرى , فجعلتا تأكلان من لحوم الناس ) .
__________
(1) رواه مسلم,وأبو داود,والترمذي,والنسائي .
(2) رواه الطبراني بإسناد جيد .
(3) رواه الطيالسي,وابن أبى الدنيا,والبيهقي,وأحمد .(1/89)
فاتقوا الله أيها الناس , واحفظوا ألسنتكم , وغضوا أبصاركم , واحفظوا فروجكم , وغضوا سمعكم , وكفوا عن إيذاء الناس وتتبع عوراتهم , فإن من تتبع عورة أحدٍ , تتبع الله عورته حتى يفضحه في قعر بيته .
اللهم عافنا في أسماعنا وأبصارنا وأبداننا . آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 19 -
تعمّد الإفطار في نهار رمضان بلا عذر شرعي
من الظواهر الفاضحة , والتي يندى لها الجبين , في مجتمعات المسلمين أن ترى ذوي أجسام البغال وأحلام العصافير , الذين يعيشون في الأرض فساداً على مرأى ومسمع من الآخرين دون نكير , أن ترى قوماً أمثال الحوائط الصلبة , أو الأعمدة الخرسانية , وهم يجلسون على المقاهي , أو يرتادون المطاعم في وضح النهار في شهر رمضان , بل يأكلون ويشربون في عرض الشارع , بل وفى وسائل المواصلات العامة يدخنون , ويقومون بإيذاء المسلمين في نهار رمضان , وكذلك يتعرضون للنساء والفتيات في الشوارع والحارات , وأمام مدارسهم , دون حياء , أو ضمير , أو أخلاق , وعلى مرأى ومسمع من الجميع , وإذا أنكر عليهم أحدٌ ضربوه , وربما بالسنج , والمطاوي , أو بالموسى , أو بغير ذلك . وحسبنا الله ونعم الوكيل .
إن هذه الظاهرة الخطيرة قد تفشت في قطاع كبير من المجتمع بين الشباب خاصة , وعند الكثيرين من الكبار , رجالاً ونساء , دون عذر شرعي.
والأعذار الشرعية المبيحة للفطر في نهار رمضان هي :
" الحيض والنفاس بالنسبة للنساء خاصة , بل يحرم عليهن الصيام مدة الحيض , ومدة النفاس حتى يطهرن , حتى ولو كن قادرات على الصيام , فلا يجوز لهن الصيام بحال .
" وكذلك : المرأة المرضع والمرأة الحامل , يجوز لهما الإفطار , ويجوز لهما الصيام , والإفطار أولى لهما رحمة بالرضيع , وخوفاً على الجنين.(1/90)
" والمريض الذي لا يرجى برؤه - أي الذي لا أمل في شفائه , إلا أن يشاء الله - وكذلك المريض الذي يرجى برؤه , فكلاهما يفطر , اضطراراً لعذر المرض .
" وكذلك المسافر مسافة فوق الثمانين كيلوا متراً , له أن يصوم , وله أن يفطر , بشرط أن يكون سفره في طاعة الله تعالى , فإن كان في معصيته فلا يجوز له الفطر , وإن كان مضطراً فلا يحل له ما للمضطر جزاء معصيته .
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (1) .
ثم إن من جاز له الفطر من الأصناف السابقة لا يجوز له المجاهرة بفطره أمام الآخرين , بل عليه التخفي عند الإفطار , حتى يقطع الظنون الكاذبة نحوه , وكذلك حتى لا يقف موقف الشبهة , وقد قال عليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- : " ملعون من وقف موقف شبهة " , فإنه بإفطاره جهرة أمام الناس الصائمين فإنهم سيقعون فيه , وربما أنكر أحدهم عليه بيده وهو لا يدرى عذره , وقديماً قالوا : " إذا ابتليتم فاستتروا " .
__________
(1) البقرة / 183- 185 .(1/91)
أما هؤلاء المجاهرين بفطرهم عمداً , دون عذر شرعي من نحو : عمال المخابز , وسائقي السيارات والأتوبيسات , والعاملين في قطاع البناء والتشييد , والحرفيين , وتلاميذ المدارس,وطلاب الجامعات,وكذلك المعلمين والمعلمات
ونحوهم , دون عذر شرعي مما سبق , فإنهم إن لم يتوبوا إلى الله تعالى من ذلك , ويقلعوا عن هذه الكبيرة الشنعاء , فإنهم كفار حلال الدم , كما قال رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - : ( عُرى الإسلام , وقواعد الدين ثلاثةٌ , عليهن أُسِّسَ الإسلام , من ترك واحدة منهن فهو بها كافرٌ حلال الدم : شهادة أن لا إله إلا الله , والصلاة المكتوبة , وصوم رمضان ) (1) , وفى رواية : ( من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر , ولا يُقّْبَلُ منه صَرْفٌ , ولا عَدْلٌ , وقدْ حَلَّ دمُهُ وماله ).
وليعلم الناس أن من أفطر شيئاً من رمضان من غير عذر , دون مجاهرة , ودون إصرار , ولكن تساهلاً وغفلة فإنه ينطبق عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من أفطر يوماً من رمضان من غير رُخْصةٍ ولا مرض , لم يقضه صومُ الدهرِ كُلِّه , وإنْ صَامَهُ ) (2) .
فاللهم فقهنا في ديننا , وعلّمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علَّمتنا , وزدنا علماً وفهماً , اللهم خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك , وحَبِّبْ إلينا الإيمان , وزيِّنه في قلوبنا , وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان , واجعلنا من الراشدين .
آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 20 -
سوء الأخلاق بحجة الصيام
إن الخلق الحسن شعار الإسلام في تعامله بين أتباعه , وفى تعامل أتباعه مع غير المسلمين , قال تعالى : {
__________
(1) رواه أبو يعلى بإسناد حسن ..
(2) ذكره البخاري تعليقاً,ورواه الترمذي موصلاً,واللفظ له , وأبو داود,والنسائي,وابن ماجة,وابن خزيمة في صحيحه, والبيهقي في سننه.(1/92)
} (1) , ويقول - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) (2) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من أَحَبِّكم إليَّ , وأقربكم مِنّي مجلساً يوم القيامة : أحسنكم أخلاقاً , وإن من أبغضكم إليَّ , وأبعدكم منّي يوم القيامة : الثرثارون , والمتشدقون , والمتفيهقون ) قالوا: يا رسول الله!! فما المتفيهقون؟ قال : ( المتكبرون ) (3) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( اتق الله حيثما كنت , وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق
الناس بخلق حسن ) (4) .
وقد شرعت العبادات في الإسلام لتثبيت الإيمان في النفوس , ولتطهير القلوب من أدرانها , ولتعويد الإنسان على التمسك بمحاسن الأخلاق , وبحميد الخصال , وبجميل العادات , والآيات القرآنية , والأحاديث النبوية التي قررت هذه الحقائق كثيرة , حتى قال البعض عن القرآن الكريم : إنه كتاب الأخلاق , وتشريع فقط , وهذا اعتقاد باطل , وقول جانَبَهُ , وصاحِبَهُ الصواب !!
ففي شأن الصلاة , وأثرها في تهذيب أخلاق أهلها , يقول الله تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } (5) .
__________
(1) أواخر سورة النحل .
(2) رواه مالك بلاغاً,وإسناده حسن,ورواه أحمد,وصححه الحاكم,ووافقه الذهبي,وغيرهم
(3) رواه الترمذي,وأحمد,وابن حِبَّان,وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح .
(4) حديث حسن صحيح,رواه الترمذي وغيره .
(5) العنكبوت / 45 .(1/93)
وفى الحديث القدسي , يقول الله تعالى : ( إنما أتَقَبَّل الصلاة ممن توضع بها لعظمتي , ولم يستطل بها على خلقي , ولم يبت مصرًّا على معصيتي , وقطع النهار في ذكري , ورحم المسكين , وابن السبيل , والأرملة , ورحم المصاب ) (1) .
وفى شأن الزكاة , يقول الله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (2) .
ويقول - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من فعلهنَّ فقد طَعِم الإيمان : مَنْ عَبَدَ اللهَ وحده , وعلم أن لا إله إلا الله , وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه , رافدة عليه كل عام , ولم يعط الهرمة , ولا الدَّرِنة , ولا المريضة , ولا الشَّرَط اللئيمة , ولكن من وسط أموالكم,فإن الله لم يسألكم خَيْرَهُ,ولم يأمركم بشَرِّه) (3) .
__________
(1) رواه البزار,وفى إسناده : عبد الله بن واقد, لم يكن بالحافظ, و وثّقه أحمد, وبقية رجاله ثقات.
(2) التوبة / 103 .
(3) صحيح,رواه أبو داود .(1/94)
وفى شأن الحج , يقول الله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ(197)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ(198)ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(199)فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ(200)وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201)أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202)وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ َ } (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - :( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) (2) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) قيل : وما بِرُّه ؟
قال : ( إطعام الطعام , وطيب الكلام ) (3) .
__________
(1) البقرة / 197- 203 .
(2) متفق عليه .
(3) إسناده حسن,رواه أحمد,والطبراني في الأوسط .(1/95)
أما في الصوم فالآيات والأحاديث كثيرة .
إن الصائم الذي لا يحسن خلقه في نهار رمضان , وفى ليله , ليس بصائم , ولا يعرف أثراً للصوم في نفسه , قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1) , والتقوى : الخوف من الجليل , والعمل بالتنزيل , والرضا بالقليل , والاستعداد ليوم الرحيل , كما قال بذلك علي بن أبى طالب- رضي الله عنه .
وهي : أن يراك الله حيث أمرك , وان يفتقدك حيث نهاك .
ولن يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به البأس !!
إن الصائم المنفلت اللسان , القوَّال للزور , والشاهد بالبهتان , والذي لا يتورع عن ألفاظ الخنا , والكذب والمراء , واللغو , والرفث , والصخب , والسبّ , والشتم , ونحو ذلك , ليس بصائم , ولم يعش رمضان , ولم يحياه في نفسه وجوارحه , بل صامه ببطنه , وأفطره بلسانه وجنانه , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) (2) .
وفى الطبراني : ( من لم يدع الخنا والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه
وشرابه ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس الصيام من الأكل والشرب , وإنما الصيام من اللغو والرفث , فإن سابَّكَ أحدٌ , أو جَهِلَ عليك فقل : إني صائم , إني صائم ) (3).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع , ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السَّهَر ) (4) .
__________
(1) البقرة / 183 .
(2) رواه البخاري,وأبو داود,والترمذي,والنسائي.
(3) رواه ابن خزيمة,وابن حبان,والحاكم,وقال : صحيح على شرط مسلم.
(4) رواه النسائي,وابن خزيمة,وابن ماجة,واللفظ له .(1/96)
فاحذر يا أخي !! أن تكون أحد هؤلاء , واستغفر لذنبك , فإن الله غفور رحيم , وتب إلى الله تعالى سريعاً , ولا تؤجل إلى الغد , فإنك لا تدرى متى أجلك , هدانا الله وإياك سواء السبيل , ولا تنسى إخوانك في فلسطين وليكن لهم من دعائك نصيب , ومن إحسانك نصيب .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 21 -
فرقعة الصواريخ والبارود(1/97)
من السلوكيات السيئة , والتي تعوِّد الأطفال على الإرهاب , وتروع الآمنين : قيام أولياء الأمور بشراء البارود لأطفالهم لإطلاقه في شهر رمضان قبيل الإفطار , وعند الأذان , وفى الليل , وأثناء القيام , وتهجد المعتكفين , مما يقض مضاجع النائمين , ويزيح الكرى عن جفون الناعسين , ويقلق مذاكرة الطلاب والطالبات , ويشتت أذهانهم , ويصرف عنهم وعيهم وانتباههم , ويزيد من ألم المرضى في المستشفيات , ويضاعف من إحداث الفوضى في الشوارع والحارات , والهرج المفضي إلى سوء العاقبة , قال الله تعالى محذراً لنا من النهاية على مثل هذه الحال : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4)فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5)فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6)فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(7)وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(8)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ } (1) , وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ(97)أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98)أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } (2).
__________
(1) الأعراف / 4-9 .
(2) الأعراف / 96-99 .(1/98)
إن أولياء الأمور الذين يشترون , أو يسمحون لأطفالهم بالشراء لهذه الصواريخ لهم مسؤولون أمام الله تعالى عن هذه التصرفات , ولن تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن مالهِ من أين اكتسبه , وفيما أنفقه .
وليعلم أولياء الأمور أن أموالهم أمانة استخلفهم الله عليها لينظر كيف يفعلون فيما وسِّد إليهم , فإنْ خانوا الله ورسوله , والذين آمنوا فإن الله لا يحب الخائنين , ولا يهديهم إلى صراطه المستقيم , وإن أصلحوا وأحسنوا في أموالهم وأهليهم , فأولئك لهم الخيرات , وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون , إن شاء الله تعالى .(1/99)
وكم من مهازل , ومعارك قامت بسبب هذه الصواريخ الشيطانية التي يعبث بها هؤلاء الصِّبية , بمساعدة أولياء أمورهم , وقد حذَّر الله تعالى عباده من ذلك فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(14)إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15)فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (1) , حيث حذر الله تعالى عباده من الانسياق وراء رغبات الأولاد , وليس كل مرغوب للأطفال مجاب من الرجال , فإن الطفل قاصر الإدراك عن مغبة الأشياء التي يرغب فيها , ويغره بريقها , كحاطب ليل لا يفرق بين الحبل والأفعى , ولا بين العصا والثعبان , فيأتيه حتفه من حيث يريد حياته , ولذلك قال الله تعالى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } (2) , فحصر حقوق السفهاء من الصغار عامة , والأيتام خاصة في أموالهم الخاصة في الأكل والشرب واللبس بما اعتاده الناس من حولهم , مع النصح والمتابعة من ولي الأمر لمولاه , ولا يمكّنه من المال بحال حتى يبلغ رشده الذي يعرف به الحق من الباطل , والطيب من الخبيث , والنافع من الضار , ويميز بين ذلك , ويُجَرَّب في حسن الاختيار من عدمه , فإن تأكد من ذلك مكَّنه بحسب الحاجات الأساسية , حتى يصير رجلاً كامل الأهلية , عندئذ , فهو غير مسؤول عن سوء تصرفه .
__________
(1) التغابن / 14-16 .
(2) النساء / 5 .(1/100)
فإن أساء الأب التنشئة الوالدية الإسلامية لأولاده فهو مسؤول عن كل تصرفاتهم حتى بعد موته , لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً , ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن يُنْقص من أوزارهم شيئاً ) (1) .
وما أجمل الوالد الذي يعلّم ابنه أخلاق الإسلام في حسن رعاية حقوق الجيران , وحسن مراعاة المشاعر عند الآخرين , وحسن المحافظة على البيئة من أي تلوث سمعي , أو بصري , أو غير ذلك , فإن من ينشىء ولده على الصلاح نفعه في الدنيا والآخرة , ومن ينشىء ولده على غير ذلك أضير به في الدنيا وعوقب به في الآخرة .
فاجعلوا عباد الله أبناءكم يدعون لكم بعد موتكم فيستجاب لهم , ولا تجعلوهم يدعون عليكم فيستجاب لهم أيضاً , واستعينوا بالله عليهم , وادعوا الله لهم بالهداية والتوفيق .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 22 -
اشتغال المعتكف بما لا يعنيه في اعتكافه
يبدأ في اليوم العشرين من رمضان ، وعند غروب الشمس دخول المعتكفين إلى معتكفهم , في المساجد الكبرى , وفى الجوامع , الكل يتسابقون لنيل رضوان الله تعالى , ويحدوهم الأمل في الظفر بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر , ومتشوقون إلى النظر إلى وجه الله الكريم في الفردوس الأعلى من الجنة , والاستمتاع بالحور العين , وأنهار الجنة , ونعيمها , وفى الجنة مالا عين رأت , ولا أذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر .
__________
(1) متفق عليه .(1/101)
والاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان سُنَّةٌ مؤكدة , وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان من الرمضانات التسع التي قضاها في المدينة المنورة : عشرة أيام , فلما كان العام الذي قبض فيه - صلى الله عليه وسلم - , اعتكف - صلى الله عليه وسلم - عشرين يوماً (1) .
إن المعتكفين في عصرنا قد خرجوا عن المألوف في الاعتكاف , واشتغلوا بما لا يعنيهم , وتكلموا بما يزريهم , وخاضوا فيما ليس لهم به علم .
" فمنهم المجادلون في دين الله تعالى بغير علم .
" ومنهم المراءون الذين يطلبون الشهرة بين الناس .
" ومنهم اللصوص الذين يتربصون الفرص , ويتحينون غفلة الآخرين , أو انشغالهم بالعبادة ليسرقوا أمتعتهم .
" ومنهم الخارجون على القانون الذين يلتمسون الأمن والأمان في ساحات الاعتكاف , وما هم بمعتكفين .
" ومنهم الهاربون من زوجاتهم وأهليهم .
" ومنهم المتسولون .
" ومنهم , ومنهم , ومنهم ...
أصناف كثيرة من المعتكفين في عصرنا , ضاع في زحامهم المخلصون , الذين خرجوا إلى المعتكف , لم يخرجهم إلا الاعتكاف حسبة لله تعالى , والتزموا بآداب الإسلام في الاعتكاف
__________
(1) رواه البخاري,وأبو داود,وابن ماجة .(1/102)
فالمعتكفون المجادلون لا حظ لهم في اعتكافهم إلا التعب , والسهر , والجوع والعطش , وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( المراء في القرآن كفرٌ ) (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( كفى بك إثما أن لا تزال مخاصماً ) (2) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ ) (3) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ضَلَّ قومٌ بعد هُدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) ,ثم قرأ: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا } (4).
والمعتكفون المراءون قد عبدوا الناس من دون الله , وسيفضحهم الله تعالى إن عاجلاً , وإن آجلاً على رؤوس الأشهاد , ولا حول ولا قوَّة إلا بالله , وقال تعالى في صفات المنافقين الذين أعد لهم الدرك الأسفل من النار وبئس المصير : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } (5).
وقال الله تعالى في الحديث القدسي : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك , من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري , تركته وشِرْكَهُ ) (6) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سمَّعَ سمَّعَ الله به , ومن يُرَائي يرائي الله به ) (7) .
__________
(1) رواه أبو داود,وابن حبان,والطبراني,وإسناده حسن .
(2) رواه الترمذي,وقال غريب .
(3) رواه البخاري ومسلم,والترمذي,والنسائي .
(4) رواه الترمذي,وابن ماجة,وابن أبي الدنيا,وقال الترمذي : حسن صحيح .
(5) النساء / 142 .
(6) رواه مسلم .
(7) متفق عليه .(1/103)
أما اللصوص الغادرون بالآمنين , المتربصون بالمعتكفين المخلصين أو الغافلين نومهم , أو تهجدهم , فإن الله تعالى لهم بالمرصاد , ولن يفلتوا منه أبداً , ما لم يتوبوا , ويعيدوا ما خطفوه إلى أصحابه , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة , يقال : هذه غَدْرةُ فلان ) (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً , ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها : إذا اؤتمن خان , وإذا حدَّث كذب , وإذا عاهد غدر , وإذا خاصم فجر ) (2) .
وأما الهاربون من زوجاتهم وأهليهم , فإن كان فراراً إلى الله , وإيثاراً لقربه عن قربهن , وتقديماً لمحبته على محبتهن , فهو المحمود المثاب عليه , بل إن فاعله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله , حيث من بينهم : ( ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ) (3) .
وأما إن كان هروبهم منهن من أجل الهروب فلا , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( كل عمل ابن آدم له , الحسنة بعشر أمثالها , إلى سبعمائة ضِعْفٍ , قال الله : إلا الصوم , فإنه لي , وأنا أجزي به , يدع الطعام من أجلي , ويدع الشراب من أجلي , ويدع لذَّته من أجلي , ويدع زوجته من أجلي , ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك , وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر,وفرحة حين يلقى ربه ) (4) .
فيا معشر المعتكفين !!
" أخلصوا لله في عملكم , واعلموا أن الله مطّلع على قلوبكم , فأروا الله من أنفسكم خيراً !!
" لا تتخذوا الخيام في معتكفكم إلا عند طعامكم .
" واحفظوا المساجد من بصاقكم , ومخاطكم , فإن ذلك إثم كبيرٌ .
" ولا تخرجوا من المعتكف إلا لحاجة شرعية ضرورية.
" واخرجوا منه إلى المصلى يوم العيد , ولا بأس أن تخرجوا منه بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان .
__________
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(4) رواه ابن خزيمة .(1/104)
" واشتغلوا بتلاوة القرآن الكريم , ومدارسة العلم الشرعي , وخاصة الفقه , لأنه الخير الكثير , وهو الحكمة التي ينشدها الحكماء , فالوقت معكم وحاولوا الفوز بها .
" قوموا الليل , أو ثلثه , أو نصفه , أو ثلثه الأخير , وتهجدوا .
" وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة .
" ولا تنسوا إخوانكم المسلمين في فلسطين , وفى كل مكان وليكن لهم من خالص دعائكم , وصالح أقوالكم النصيب الأوفى .
" ولا تنسونا من صالح دعائكم , هدانا الله إياكم سواء السبيل .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 23 -
تلاوة القرآن الكريم مع عدم مراعاة أحكام التلاوة
يأتي شهر رمضان , ويقضى الناس معظم نهارهم في تلاوة القرآن الكريم , ويكاد يكون ليل رمضان عند كثير من الناس لا يقضى إلا في تلاوة القرآن الكريم , الرجال والنساء , البنون والبنات على سواء , وكل هذه أمور بفضل الله تعالى حسنة , ومبشرة بالخير , ومؤهلة إلى السعادة في الدنيا , والفوز في الآخرة , ولكن يعكّر صفو هذه السعادة , ويحول دون تحقيق الفوز المنشود في دار الخلود أن الكثيرين ممن يقرأون كتاب الله تعالى لا يتأدبون معه بآداب التلاوة التي يجب عليهم مراعاتها , كما أن الكثيرين منهم لا يراعون أحكام التلاوة , وكأنهم يقرأون جريدة , أو يقرأون كتاباً عادياً !!(1/105)
وهذا سلوك مرفوض , بل يُحذَّر فاعله , لأن فيه امتهاناً لكتاب الله تعالى , وسوء أدب معه , فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أميُّ لا يقرأ ولا يكتب , قال الله تعالى له : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (1) , فلا حجة لأحد بعده - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن بغير متابعة , أو يتلوه دون مراعاة أحكام التلاوة , التي قال الله تعالى لرسوله , وأمته من بعده : { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } (2) , وهذا أمر للوجوب والفرضية العينية على كل من يريد تلاوة القرآن الكريم , وأن من لا يلتزم بذلك يأثم إثماً كبيراً , كما قال بذلك العلماء , من أمثال ابن الجزري رحمه الله , فقد قال في مقدمته المنظومة في أحكام تلاوة الكتاب العزيز : "
والأخذ بالتجويد ،حتم لازم ... من لم يُجوِّدالقرآن آثم
لأنه به الإله أنزلا ... وهكذا منه إلينا وصلا
وهو أيضاً حلية التلاوة ... وزينة الأداء والقراءة
وهو إعطاء الحروف حقها ... من صفة لها ومستحقها
وردُّ كُلّ واحد لأصله ... واللفظ في نظيره كمثله
مُكَمَّلاً مِن غير ما تَكَلٌّف ... باللطف في النطق بلا تعسف
وليس بينه وبين تَرْكه ... إلا رياضة امريء بفكه "
__________
(1) القيامة / 16-19 .
(2) المزمل / 4 .(1/106)
وهذا الذي ذكره ابن الجزري- رحمه الله تعالى- تبع فيه كثيرا قبله , ولم يكن بدعاً من القول , فقد قال بذلك الخليل بن أحمد , وعاصم بن أبى النجود الكوفي , وابن كثير القارىء , والفراء , والزجاج , وغيرهم , ثم إنه عين سمت المؤمن الحق الذي به يميز الإيمان من الكفر , وأن من لم يلتزم بأحكام التلاوة عمداً فهو كافر , لأنه من باب تحريف الكلم عن مواضعه , قال الله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ } (1) ,وحق التلاوة الذي هو عنوان الإيمان , وضده الكفر هو تلاوة كتاب الله العزيز كما أنزله الله تعالى,وتدبر آياته والتفكر فيها, كما قال الله تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (2) , وقال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (3) .
أما آداب التلاوة , فهي التي ينال القارىء الملتزم بها الثواب من عند الله تعالى وهى باختصار :
أ- الطهارة الحسية بالوضوء , أو بالغسل من الجنابة , أو الحيض , أو النفاس , فإن تلاوته عبادة محضة تفتقر إلى الطهارة الحسية الكاملة , كما قال الله تعالى : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (4) , قَسَمٌ من الله عظيم , على قداسة وطهارة كتابه العزيز , وأن ذلك يستلزم أن يقابل بالمثل , فلا يُمَسّ إلا على طهارة , وبالتالي لا يقرأ إلا على طهارة , وهذا شرط عام في التلاوة .
__________
(1) البقرة / 121 .
(2) النساء / 82 .
(3) محمد / 24 .
(4) الواقعة / 75-80 .(1/107)
ب- الطهارة المعنوية من الرياء , والسمعة , والعجب , والكبر , والفخر , والنفاق , والمنّ , والأذى , وسوء الأخلاق , والشقاق , ونحو ذلك من محبطات الأجر في الدنيا والآخرة , وهو ما يعنى وجوب الإخلاص التام لله تعالى على القارىء الذي يريد الثواب في الآخرة , قال الله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( قال الله عز وجل : أنا أغنى الشركاء عن الشرك , من عمل لي عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ) (2).
ج- تحسين الصوت بالتلاوة , مع التغني به , بما لا يخرج عن الأوجه التي ذكرها العلماء لمراتب القراءة , وهي : التحقيق , والترتيل , والتدوير , والحدْر , ولا بأس لمن يقرأ لنفسه في نفسه أن يسرع لأكثر من ذلك , قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس مِنَّا من لم يتغن بالقرآن ) (3) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيٍّ حَسَن الصوت يتغنى بالقرآن يجْهرُ به ) (4) .
أما اللحن فيه فإن كان تعمداً ففاعله كافر , وإن كان عن سوء تعلُّمٍ , أو عن غير تلق عن شيخ ثقة , فيأثم فاعله بالتقصير في التعلم , أما ما يقع على سبيل التعْتَعَةِ في التلاوة بعد التلقي أو أثنائها فليس من هذا القبيل .
فاللهم علِّمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علَّمتنا , وزدنا علماً.
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 24 -
المقاهي
__________
(1) النساء / 114 .
(2) حسن صحيح,رواه ابن حبان,وغيره .
(3) صحيح , رواه البخاري .
(4) صحيح , رواه البخاري وغيره .(1/108)
مما يلفت الانتباه , ويُحيِّرُ العقول : كثرة المقاهي , التي تقدم السموم لروادها في نهار رمضان وليله , وكأنهم يعيشون في صحراء , جرداء , لا زرع فيها ولا ماء , ولا حياة لبشر فيها يراهم فينكر عليهم , أو يروه فيستحوا منه , قد وضعت ضمائر أصحابها في ثلاجة , وشُدَّ على قلوبهم فلا يفقهون حديثاً , ولا يعرفون رقيباً , لأن نواطير(1) مصر قد نامت عن ثعالبها(2) , فأفسدت الثعالب وفرَّخت (3) , وتوالدت فانتشرت كالسم الزعاف(4) يقذفه الآكل إلى فيه (5) من غير علم بما فيه , فلا يزال يزدرده ويقاسيه , والسُّمُّ لا يترك آكله حتى يرديه (6) , أو كالداء العضال(7) الذي يستحيل على النُّطْسِ (8) كُنههُ(9) , أو وصف دواء يقلعه(10) , أو رقية تدفعه , فلا يترك الداءُ مُبْتَلاهُ , حتى يواريه التراب(11) , ويفقده الأصحاب , ويثكله(12) الأهل والأحباب .
لا تعجبوا للظلم يغشى أمة
فتبوء منه بفادح الأثقال
ظلمُ الرَّعية عقوبة جهلها
ألم المريض عقوبة الإهمال
إن أصحاب المقاهي مع روادها يصدق فيهم قول الشاعر :
كبهيمة عمياءَ قاد زمامها
أعمى على عوج الطريق الجائر
__________
(1) النواطير : جمع ناطور ، وهو الحارس الأمين .
(2) الثعلب حيوان معروف بالمكر الشديد وصولاً إلى الإفساد الشديد .
(3) التفريخ : التوالد .
(4) هو السم الشديد السمية ، القاتل .
(5) فمه .
(6) يهلكه .
(7) المرض المتمكن من المريض .
(8) الأطباء
(9) معرفة تشخيصه .
(10) ينهون به سيطرته على البدن .
(11) كناية عن موته وهلاكه .
(12) يفقدونه إلى الأبد .(1/109)
وإن أمة تسارع في افتتاح المقاهي في شوارعها , وميادينها , وحاراتها , وزقاقها , في مدنها وقراها , في عواصمها ومراكزها في أي وقت وفى أي مكان لهي أمة لاهية , بال الشيطان في رؤوسها , وفرَّخ الجهل في عقولها , إنها أمة هَمَل , لا وزن لها ولا قيمة , ولا يُشار إليها , ولا تُستشار , بل هي تُدار بلا شعار .
وإن أمة تشكو قلة الموارد , وكثرة السكان ثم هي تُزيد من نسبة العَطَلةِ , وتشيع روح الخمول والكسل عند الأفواه الجائعة , والأجساد العارية , والرؤوس الفارغة لهي أمة تؤسس لذهابها , وتؤصِّل لخرابها , وتؤذن بزوالها , وتعلن بأفولها وإدبارها .
بماذا تعود المقاهي على الأمة ؟ هل تدرب روادها على تقوى الله , ومراقبته ؟ أم تُعِدُّهم لحراسة الدين وسياسة الدنيا ؟ أم تُعَلِّمُهُم فنون الدفاع عن الأمة في ماضيها , وحاضرها , ومستقبلها ؟ وهل تزودهم بالحصانة والتحصين ضد التيارات الفكرية الهدامة , والمذاهب الإرهابية المخربة للعقول والديار ؟
إنها كما هو مشاهد ، ومما هو معلوم من خلال الواقع المحسوس لا تخرِّج شيئاً من ذلك , ولا تثمر خيراً أبداً , ولا تنتج إلا المجاهرين بالفطر في رمضان , ولا تقدم للمجتمع إلا الخارجين على تعاليم الدين الحنيف , وتعاليم الدستور , وأعراف الأمة المسلمة الراشدة , وعاداتها الأصيلة , وأخلاقها الكريمة .
إن الدخان وهو حرام شرعاً , بلا خلاف في ذلك بين آحاد علماء الأمة , ومؤسساتها , وهيئاتها , ومجامعها , كما أن المجاهرة بالفطر في نهار رمضان جريمة كبرى يجب سن القوانين والتشريعات المناسبة لردع فاعليها , وصيانة المجتمع من شرورهم ومفاسدهم .(1/110)
والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن مما أردك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت !! ) (1) , وليس معناه حرية الفعل والسلوك لغير المستحي , ولكن معناه : أن من ليس عنده حياء يعصمه من الزلل , ويحمله على مراقبة الله تعالى , وعلى عدم التقصير في حق كل ذي حق , فإنه يحمله على فعل القبيح , ويسلك به مسالك الغي والضلالة .
وقد مَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجلٍ يعظ أخاه في الحياء , كأنه يريد أن يقول له : إن الحياء قد أضرَّ بك , فلا تستحي !! , فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير ) (2) , وفي رواية : ( إن الحياء خير كله ) (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :( استحيوا من الله حق الحياء ) قالوا : إنا لنفعل ذلك يا رسول الله !! قال :( ليس ذلك , ولكن الحياء من الله حق الحياء أن تحفظ البطن وما حوى , والرأس وما وعى , وأن تذكر الموت والبلى, ومن فعل ذلك ترك زينة الحياة الدنيا , فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء !! ) (4) .
إن فتح المقاهي جريمة, وإدارتها في نهار رمضان أشدّ جرماً .
فيا عباد الله !! اتقوا الله , واستحيوا من الله أن تبارزوه بالمعاصي نهاراً جهاراً , وتوبوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً عسى ربكم أن يغفر لكم ذنوبكم , ويكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار , ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر , وذلك هو الفوز العظيم .
- 25 -
الإسراف في الزينات والأنوار
__________
(1) حديث حسن .
(2) متفق عليه .
(3) رواه البخاري ، ومسلم .
(4) رواه الترمذي ، وغيره .(1/111)
أصبح من المألوف , وبات من العادات الراسخة في أذهان الكثيرين , أن شهر رمضان يميز عن غيره من الشهور بكثرة أنواره في الشوارع , وفى المحال العامة , والخاصة, حتى أن الأطفال سابقوا الكبار في ذلك ابتهاجاً وفرحاً بقدوم هذا الشهر الفضيل , وامتدت سلاسل الأنوار تحزم (وتحيط بالمساجد) من كل جوانبها , وترتفع إلى عنان السماء من المآذن , وتقطع الشوارع سابحة في الهواء الفسيح , تارة بالفوانيس مختلفة الأشكال والأحجام , وتارة بالمصابيح المختلفة الأشكال والألوان والأحجام !!
وهذه عادة غريبة ومتطورة مع الأيام وسلوك مرفوض في شهر رمضان , وفى غير شهر رمضان , فإن الإسراف مذموم بوجه عام , وفى كل الأحوال , قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31)قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32)قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (1) فأمر الله تعالى عباده بأخذ الزينة المؤهلة للوقوف بين يديه سبحانه , من ملابس طاهرة , وطهارة الأعضاء بالاستنجاء والوضوء , أو الغسل , ثم المكان الطاهر وهي أرض الله تعالى كلها , إلا موضع المقبرة , وموضع الحمام , ومَبارِك الإبل , ومواضع القاذورات ,
__________
(1) الأعراف / 31 - 33 .(1/112)
والنجاسات , ونحوها , وفيما عدا ذلك فكل أرض الله تعالى طاهرة , وصالحة للصلاة , كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( وجُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وتربتها طهوراً) (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( الطهور شطر الإيمان..) (2) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( استقيموا ولن تُحْصَوا , واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة , ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) (3), وذلك لأن الوضوء سلاحه ضد الشيطان ، والنفس ، والهوى ، في كل الأحوال , وهو زينته في الدنيا في كل الأحوال , ومع ذلك نهاه الله تعالى عن الإسراف في الوضوء للصلاة , أو لغيرها , ونهاه عن الإسراف في طعامه وشرابه , وسائر أحوال حياته كلها ، لأن الله تعالى لا يحب المسرفين , في كل الأحوال.
وليست الأنوار التي تعلق في الشوارع , أو في الميادين العامة , أو على أبواب المحال العامة أو الخاصة , أو على جدران المساجد أو على المآذن , من الزينة المأمور بها شرعاً , ولم يدع الإسلام إليها , إنما نور المساجد الصلاة , كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (.. والصلاة نور ) (4) , ونور الشوارع بكثرة الخطى فيها إلى المساجد , وأن يكون الماشي فيها قلبه معلَّقا بالمساجد , وأن يغض بصره عما حرَّم الله عليه , وأن يكف لسانه عن إيذاء خلق الله تعالى , كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده , والمهاجر مَنْ هجر ما نهى الله عنه ) (5) .
__________
(1) متفق عليه .
(2) رواه مسلم .
(3) رواه ابن ماجة ، والحاكم ، وابن حبان .
(4) رواه مسلم .
(5) رواه الترمذي .(1/113)
ويصور الله تعالى حال ومصير هؤلاء الذين نوَّروا شوارعهم ومساجدهم بطاعة الله تعالى , وإقامة شرعه فيها واقعاً ملموساً في كل جنبات حياتهم , وحال ومصير من أظلموها بمعصيتهم لله تعالى فيها , وأكلهم أموالهم بينهم بالباطل , وغير ذلك , وحاولوا استعاضة إفسادهم ذلك بتلك الأنوار الدنيوية التي ابتدعوها من عند أنفسهم , ولم ترد في كتاب الله تعالى , ولا في سُنّة نبيه ومصطفاه ، محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - , قال تعالى : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ(13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(14)فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } (1)
__________
(1) الحديد / 12 - 15 ..(1/114)
, ثم يوضح الحق سبحانه أن اتخاذ أمثال هذه الزينات إنما هو خلق أبناء الدنيا , وعُبَّادها , فقال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (1) , ويربط الحق سبحانه بين إنارة المساجد والشوارع والدنيا كلها بطاعته واتباع أوامره , وتلمس مرضاته بفعل ما أمر به , واجتناب ما نهى عنه , وبين نوره الحقيقي الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه , فبعد أن ضرب المثل لنوره سبحانه بالمشكاة والنبراس ..
__________
(1) الحديد / 20 .(1/115)
قال سبحانه : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37)لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (1) , ثم يقول سبحانه : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } .
ونور الله تعالى لا يُهدى لعاص أبداً , والإسراف عصيان , فتوبوا عباد الله عن هذا السلوك السيئ , والقصد القصد , وخير الأمور الوسط .
اللهم أسبغ علينا نورك وبركتك بطاعتك , ولا تسلبناهما بمعصية غيرنا لك , وقد نصحناهم , فاقبل عذرنا , آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 26 -
العمل على خلاف السنة في صدقة الفطر
__________
(1) النور / 35 - 38 .(1/116)
تهاون الكثيرون من المسلمين في عصرنا في فقه زكاة الفطر , وظنوا أن تسميتها صدقة , فإنما تعنى التطوع , لأن الصدقات مبنية على التطوع , فمن شاء أدّاها , ونال الثواب , ومن لم يشأ أن يؤدها فلا عقاب عليه , وقد أخطأوا الفهم , وخاب ظنّهم , فإن العلم لا يعرف هكذا بالعقل فقط , فإنما نصوص الشرع هي الحاكمة على العقول والأفهام , وصدقة الفطر فرض على كل مسلم ومسلمة ذكرٍ , وأنثى , صغير وكبير , حُرٍّ وعبدٍ , غنيٍّ وفقير , فهي فرض عين على كل المسلمين والمسلمات , فعن ابن عباس- رضي الله عنه- قال : " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر , طُهرَةً للصائم من اللغو والرفث , وطعمةً للمساكين , فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة , ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات "(1) , أي صلاة العيد.
قال الخطابي : " قوله : فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر , فيه بيان : أن صدقة الفطر فرض واجب , كافتراض الزكاة الواجبة في الأموال , وفيه بيان : أن ما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما فرض الله تعالى , لأن طاعته صادرة عن طاعة الله تعالى.
وقد قال بفرضية زكاة الفطر , ووجوبها : عامة أهل العلم , وقد عُلِّلَت بأنها : طهرة للصائم من اللغو والرفث , في واجبة على كل صائم غني ذي جِدّةٍ , أو فقير يجدها فضلاً عن قوت يومه , إذ كان وجوبها لعلة التطهير , وكل الصائمين محتاجون إليها , فإذا اشتركوا في العلة , اشتركوا في الوجوب " .
__________
(1) رواه أبو داود ، وابن ماجة ، والحاكم ، وقال : صحيح على شرط البخاري .(1/117)
ولقد سَمّى الله تعالى في كتابه الكريم الزكاة : صدقة , فقال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (1), أي : خذ من أموالهم زكاة واجبة عليهم , وقال تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (2) , أي : إنما مصارف الزكوات الواجبة محصورة في هؤلاء الأصناف الثمانية , الواردة في الآية .
ثم إن الكثيرين منهم يخرجونها نقوداً , ولا بأس في ذلك للضرورة , لكن السُنّة الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدعوا إلى إخراجها من غالب قوت أهل البلد , أي : تخرج طعاماً.
فعن أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : " كنا نعطيها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام , أو صاعاً من تمرٍ , أو صاعاً من شعيرٍ أو صاعاً من زبيب " (3) , وفي رواية : " أو صاعاً من أَقْطٍ " , قال أبو سعيد : " فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي : لا أخرج إلا صاعاً أبداً (4) .
والصاع يساوي ربع الكيلة المصرية , والكيلة يختلف وزنها من طعام إلى طعام ، فيسأل التجار الأمناء عن تلك الأوزان , وتخرج الكيلة عن أربعة من المسلمين , يستوي في ذلك الصغير والكبير , والذكر والأنثى , والحر والعبد , ومن يلزم الناس نفقاتهم , كالزوجة , والأبناء , والخدم .
والجنود زكاتهم تجب على الدولة .
__________
(1) التوبة / 103 .
(2) التوبة / 60 .
(3) متفق عليه .
(4) رواه أبو داود .(1/118)
وإن الكثيرين يخرجون صدقاتهم فيضعونها في أيدي غير المستحقين , وقد يضعونها في بناء المساجد , أو يضعونها في أيدي المتسولين , أو يضعونها في موائد إفطار الصائمين , وقد يضن بها البعض عن المقيمين في مدينتهم , أو قريتهم , ويخرجونها إلى من سواهم , وقد يكون من بين جيرانه من هو أحوج إليها من غيره فيعطيها للأبعد مع وجود صلة القرابة بينه وبين الأبْعَد , وكل هذه سلوكيات مرفوضة , لأن صدقة الفطر لا تعطى إلا للفقراء والمساكين .
والفقير هو / من لا يجد قوت يومه .
والمسكين هو / من يجد بعض قوت يومه , ويحتاج إلى البعض الآخر .
كما أن الفقير القريب خير من الفقير البعيد , والفقير المسلم خير من غيره , قال تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } (1) .
والجيران ثلاثة : جارٌ له ثلاثة حقوق , وهو الجار المسلم الذي بيني وبينه صلة قرابة , فله حق القرابة , وحق الجوار , وحق الإسلام .
وجارٌ له حقان : وهو الجار المسلم عامة , فله حق الجوار , وحق الإسلام.
وجار له حق واحد , وهو الجار الكافر , فله حق الجوار فقط , فلا تستبدل ثلاثة باثنين , ولا تستبدل اثنين بواحد أبداً .
كما أن الصدقة على ذوى القربى صدقة وصلة , والصدقة على الغريب صدقة فقط .
ولا تنقل صدقة الفطر من بلد إلى بلد إلا إذا تعذر وجود المستحقين لها في بلد المتصدق , والأولى بصدقة الفطر في عصرنا أن ترسل إلى المسلمين في فلسطين وفى مواقع الحروب , فإنهم أولى , لندرة وجود الفقراء والمساكين شرعاً في بلادنا .
__________
(1) النساء / 36 .(1/119)
فاللهم فقهنا في ديننا , وعلمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علمتنا , وزدنا علماً .
آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 27 -
السلوكيات المرفوضة في ليلة السابع والعشرين
مما لاشك فيه : أن ليلة القدر خير من ألف شهر , وأنها في شهر رمضان , خير أشهر السنة على الإطلاق , وأنها في العشر الأواخر منه , وأنها غير محدَّدة في ليلة بعينها لا تتخلف عنها , وأن الله تعالى أخفاها عن عباده حتى يجتهدوا في تحريها , فربما صادفت في بعض السنوات الليالي الوترية , وربما كانت في الليالي الشفعية- الزوجية- , وربما كانت على هذا النحو في النصف الأخير من رمضان , وربما كانت في الشهر كله , وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولاً , أوردها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري .(1/120)
وقد حدَّد العلماء لها بعض العلامات التي تتميز بها عن سائر الليالي , ومن ذلك : أن الريح فيها ساكنة , وأنها ليست حارة ولا باردة , بل هي أعدل وألطف ليلة في هذا العام , ولا يسمع فيها صوت الكلب , ولا صوت الحمار , ولا صوت الغراب , لأن الثلاثة لا يصيحون إلا لرؤية شيطان , والشياطين ممنوعة فيها من أي شيء , ولكن يكثر سماع صوت الدِّيَكة , لأنهم يصيحون لرؤية الخير , ورؤية الملائكة , والملائكة أكثر ما ينزلون إلى الأرض فيها , كما قال الله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4)سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } (1) , كما أنها يقل فيها الأصوات العالية , ولا نزاع , ولا خلاف فيها , يشعر الناس جميعاً فيها بالأمن التام , والسكينة و الهدوء النفسي أكثر من غيرها , مع أنها في آخر الشهر إلا أن القمر يظهر فيها أجمل ما يكون , وأكمل ما يكون , لا يحول بينه سحاب , والسماء فيها صافية .
إلى غير ذلك من العلامات التي ميَّز بها العلماء هذه الليلة عن سائر الليالي , ثم إن صبيحتها تكون فيه الشمس طالعة لا شعاع لها , أي ترى , ويرى ضوؤها غير منتشر , ليست بالحارة , ولكنها أجمل وألطف ما يكون في هذا العام , والسماء زرقاء , بلقاء صافية .
__________
(1) سورة القدر .(1/121)
بهذا يمكننا معرفة ليلة القدر , أما ما يفعله الكثيرون من اعتبار ليلة القدر ثابتة لا تتغير في كل الأزمنة والأمكنة , فلا دليل عندهم بذلك , وقد تضافرت الأدلة وتظاهرت على أنها في العشر الأواخر من رمضان كلها , وإن ميزت بعض هذه الأدلة , وخصت الليالي الوتر (الفردية) فإن البعض الآخر قد عمتها في العشر كلها , والأولى بنا أن نتحراها في العشر كلها , فإن إتعاب النفس في العشر الأواخر كلها للظفر بها خير من إراحتها طول الشهر , ثم إجهادها في ليلة بعينها , دون تحقق العلامات السابقة فيها , وبذلك نفوِّت على أنفسنا فرصة الظفر بها فلا ننال خيرها , ولا بركتها , ولا سلامها وأمنها , ولا إجابة الدعاء فيها , وقبول التوبة فيها , وهذه كلها كنوز , لا يحرمها إلا الشقي , فاحرصوا على تحريها في العشر الأواخر كلها , ولا تنسونا من
صالح دعائكم فيها .
إن الكثيرين من الناس قد سلكوا مسالك مرفوضة في تلك الليلة , ويسلكون في ليلة السابع والعشرين بعينها سلوكيات مرفوضة ومن ذلك :
تجمعهم في أماكن بعينها , ومساجد بعينها في تلك الليلة , اعتقاداً منهم بشرعية ذلك , وهذا خلاف السنة , التي نهت عن شدّ الرحال إلى أي جهة بغرض التعبُّد لله تعالى إلا إلى ثلاثة مساجد بعينها فقط , وهي , المسجد الحرام , والمسجد الأقصى , والمسجد النبوي الشريف , وفيما عدا ذلك فالمساجد كلها واحدة , والأرض كلها مسجد , إلا المقبرة , والحمَّام , والمزبلة , ومعاطن الإبل , وقارعة الطريق , وأماكن النجاسات , بوجه عام
قال - صلى الله عليه وسلم - :( لا تُصَلّوا إلى القبور,ولا تجلسوا عليها) (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تُشدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد , المسجد الحرام , ومسجدي هذا , والمسجد الأقصى ) (2) .
__________
(1) رواه مسلم .
(2) متفق عليه .(1/122)
وأيضاً انشغالهم في الليلة بطلب الدنيا عن الآخرة , فمنهم من يدعو لنفسه بالغنى , أو بكثرة الرزق , أو بالولد , أو بنحو ذلك , ويتناسى أن يدعو لنفسه بالمغفرة , والعفو والصفح عنه من رب العالمين , وأن ينصر الله المسلمين , ويوحّد صفوفهم , ويجمع شملهم , ويؤلف بين قلوبهم , فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت : قلت : يا رسول الله !! أرأَيتَ إِنْ علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدرِ , ما أقول فيها ؟ قال : ( قولي : اللهم إنك عفو تحبُّ العفو فاعف عني ) (1) .
فيا عباد الله !! اتقوا الله , ولتنظر نفسٌ ما قَدَّمت لغدٍ , واعلموا أن ما عند الله خيرٌ وأبقى , فآثروا الآخرة , وألحّو في طلبها عسى أن تنالوها , قال تعالى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20)سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (2)
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 28 -
ظاهرة التسول في شهر رمضان
__________
(1) رواه الخمسة ، غبر أبي داود ، وصححه الترمذي والحاكم .
(2) الحديد / 20 ، 21 .(1/123)
ينشط المتسولون في شهر رمضان , فلا تجد مسجداً إلا وأمام بابه متسول , أو متسولة , والميادين العامة , والمساجد الكبرى خاصة , ومن الغريب أنك تجد الشباب القوي البنيان وهم يتسولون , وكذلك الفتيات المراهقات وهن يتسولن , ويرددن عبارات سخيفة , مفادها أنهن مستحقات للزكاة , وأنهن يحتجن إلى صدقة الفطر , وقد يكن من خارج البلد اللاتي يتسولن فيها , وكذلك الرجال , والشباب يفعلون مثل فعلهن , بل أصبح التسول في عصرنا حرفة يقوم على تعليمها والتدريب عليها فريق من خبراء التسول , كما يقوم هذا الفريق بالتعاون مع عصابات الشوارع والميادين بتوفير الحماية للجيوش المدربة من المتسولين و المتسولات , وإعطاء كل واحد , وواحدة ما يفيد استحقاقه التسول في الشارع الفلاني , أو أمام المسجد الفلاني , أو خارج المستشفى العلاني , وهكذا أصبحت البلد إقطاعيات للمتسولين والمتسولات وخاصة في شهر رمضان .
إن التسول لا يجوز في المجتمع المسلم القائم على قاعدة التكافل والتراحم , والتعاطف والمودة بين أفراده , لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
إن المسكين الحق هو الذي عناه الله تعالى بقوله : { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } (1)
__________
(1) البقرة / 273 .(1/124)
فهو يستتر من الناس , ولا يلحف في مسألتهم , ولا يحب أن يشكو فقره وعجزه , وحاجته وفاقته إلا إلى الله تعالى , لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سألت فاسأل الله , وإذا استعنت فاستعن بالله .. ) , وقال الله تعالى في أم الكتاب : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (1) , وقال تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } (2).
لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين , وهو الذي أوجب على نفسه- من غير موجب من أحد سواه , رحمة بعباده وخلقه أجمعين- أن يرزق خلقه كلهم بمحض قدره وجوده وفضله , فقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (3) .
ويضمن الله تعالى لعباده أن يوصل لكل واحد منهم رزقه حيث كان , دون أن يعتدي عليه أحد فيسلبه إياه , قال تعالى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } (4) , وقال تعالى : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } (5) , وقال تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ } (6) , وقال تعالى: { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (7) ، والآيات في هذا الشأن كثيرة .
__________
(1) الفاتحة / 5 .
(2) الأنفال / 9 .
(3) هود / 6 .
(4) الملك / 21 .
(5) الذاريات / 22 ، 23 .
(6) سبأ / 24 .
(7) فاطر / 2 .(1/125)
ومع ضمان الله تعالى لهم الرزق إلا أنه سبحانه طلب منهم السعي لتحصيله من مصادره المشروعة , التي شرعها لهم في كتابه الكريم , وحذرهم من المصادر غير المشروعة , وتوعدهم بذلك , فقال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (1) , وقال تعالى : { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (2) , وقال تعالى : { ياَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (3) .
والتسول صيد للمتسول يختبره الله تعالى به , فمن جاءه شيء من عند المخلوقين بقدر الله تعالى دون طلب , أو تطلع , أو تمنٍّ , وأخذه فإن الله تعالى يبارك له فيه , ومن أخذه بعد طلب , أو حديث نفس , أو رغبة فلن يبارك الله تعالى له فيه , ويأتي من أخذه يوم القيامة وقد تساقط لحمه من شدة الحياء والخجل الذي يصيبه من أمارات هذا التسوَّل على وجهه , وآثار الفضيحة بادية عليه .
__________
(1) الملك / 15 .
(2) النساء / 100 .
(3) المائدة / 94 .(1/126)
ولا تَحل المسألة إلا لأحد الأصناف الثمانية الذين تجب لهم الزكاة ما لم يأخذوها ,أو ما لم يتمكنوا من حقهم في الزكاة ,أو لم يجدوا من يعطيهم , ومضى عليهم ثلاثة أيام لا يجدون طعاماً ولا شراباً, ويشهد على كل منهم أربعة مسلمين عدول أنهم يستحقون الزكاة , فإذا لم يعطوا من بيت المال حلَّت لهم المسألة ويأخذ كل منهم مما يأتيه عن طريق المسألة ما يسدُّ رمقه , ولا يتمادى في المسألة حتى تصير حرفة .
لأن الضرورات تبيح المحظورات , وأن كل ضرورة تقدر بقدرها .
والأصناف الثمانية هم على النحو الآتي :
[الفقراء] : والفقير هو كل من لا يجد شيئاً من قوت يومه الضروري .
[والمساكين] : والمسكين هو كل من يجد بعض قوت يومه الضروري , ويعجز عن توفير البعض الآخر ,وهو ضروري أيضاً .
[والعاملين عليها] : لهم أن يأخذوا إن كانوا فقراء أو مساكين أو يتامى كحق لهم , ولهم أن يأخذوها إن كانوا أغنياء كأجرة , والاستعفاف خير لهم لو كانوا يعلمون قال تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } (1)
[والمؤلفة قلوبهم] : وهم كل من دخل في الإسلام حديثاً , تدفع لهم الزكاة تأليفاً لقلوبهم , وتسكيناً لنفوسهم.
[وفى الرقاب] : في تحرير العبيد والإماء .
[والغارمين] : وهم الذين غرموا أموالاً ليحقنوا دماء غيرهم كالديات ونحوها , أو لفض المنازعات والشجار الحاصل بينهم , تحت أي مسمى , أو من غلبته الديون , ولا يستطيع سدادها فإنهم يعطون من الزكاة من باب التعاون على البر والتقوى , ومن باب التكافل والتراحم الواجب على المسلمين نحو بعضهم البعض .
[وفى سبيل الله] : وهو ميدان فسيح يشمل كل القربات والطاعات التي يحتاجها المجتمع المسلم فيما عدا بناء المساجد , لما لها في نفوس المسلمين أثر يدفعهم إلى الوقف عليها , أو الإنفاق عليها بعيداً عن الزكاة .
[
__________
(1) النساء / 6 .(1/127)
وابن السبيل] : وهو كل من انقطع عن ماله بغربة , أو حبس وسجن , أو سفر , بشرط أن يكون سفراً مباحاً , فإن كان مكروهاً أو محرَّماً فلا يجوز أن يتصدق عليه , فضلاً عن إعطائه من الزكاة .
وكل متسوِّل يحرم نفسه الزكاة بادعائه المسكنة , والفقر , لأن المسكين الحق لا يلحف في المسألة , ولا يكذب , ويستعف حتى يغنيه الله من فضله , ويؤثر سؤال الله تعالى على سؤال الناس , ويدمن إنزال حاجته بالله تعالى لا بالناس , ويؤمن بأن ما
أصابه من شر أو ضر لم يكن ليصيبه لولا قدر الله , وأن ما فاته من خير ورزق لم يكن ليناله لولا قدر الله , وأن الأمة جميعاً لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بما كتب الله عليه , ولو اجتمعوا على أن يضروه , لم يضروه إلا بما قدَّر الله عليه , فليس تسوله يجلب له رزقاً , وليس امتناعه عن التسوُّل يؤخر عنه الرزق , ولكن كل ذلك بمقدار لا يعلمه إلا الله , قال تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } (1).
فليحذر المتسولون أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
وليحذر من يساعدونهم على ذلك ممن يعطونهم أموالهم , وقد قال الله محذراً لهم : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } (2) , والمتسول سفيه فلا تعطيه مالك , وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه , وعن شبابه فيما أبلاه , وعن علمه ماذا عمل فيه , وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ) (3) .
اللهم فقهنا في ديننا , اللهم علمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علمتنا , وزدنا علماً , اللهم نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى . آمين .
__________
(1) الحجر / 21 .
(2) النساء / 5 .
(3) رواه الترمذي ، وغيره .(1/128)
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 29 -
ربط شهر رمضان بالكعك والبسكويت والمِكسَّرات
لا شك أن الطعام بكافة أنواعه حلال , ما لم يرد النص بتحريمه , لأن الأصل في المطعومات الحِلّ , ما لم يَرد النص الصريح بالتحريم , قال الله تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (1) ,وقال تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (2) , لكن هذا الحِلّ لا يعنى التمادي فيه , ولكن كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه , فإن كان لا محالة , فثلث لطعامه , وثلث لشرابه , وثلث للنفَس) , وقد يكون هذا الثلث المسموح بملئه من الحلال , إن وضعت فيه لقمة واحدة بغير نية صحيحة , يعاقب واضعها على ذلك , ولو كانت هذه اللقمة بنية التقوّي على معصية الله عز وجل , أوالتقوّي على الإشراك به سبحانه , فإن صاحبها في ذلك يبوء بالنار , وبئس المصير , لأنه سيُسأل عن عدم شكره لله عز وجل على رزق الله الذي سخره له , ومكنه منه , وإن ملء هذا الثلث المسموح بملئه من طعام حلال , دون نية صالحة , أو للعادة , كمن جاع فأكل , أو عطش فشرب , فإن مثله كمثل الحيوان , الذي يأكل للجوع , ويشرب للعطش , ومن هنا جاءت السفسطة القائلة:هل نأكل لنعيش , أم نعيش لنأكل ؟!
__________
(1) آل عمران / 93 .
(2) الأعراف / 32 .(1/129)
ونقول لهم : إن المؤمن يعيش لله , ويأكل لله , أكله عبادة , وعيشه عبادة , وشربه عبادة , ونومه عبادة , وكلامه عبادة , وسكوته عبادة , وحركته عبادة , وسكونه عبادة , فهو في كل أحواله يتقلب بين عبادات , ويصدق ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عجباً لأمر المؤمن !! , إن أمره كله خير , وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن , إن أصابته ضراء , صبر , كان خيراً له , وإن أصابته سراء , شكر , كان خيراً له ) .
فالمؤمن إذا أكل , يأكل حلالاً , ليتقوّى به على طاعة الله عز وجل , وغير المؤمن يأكل الطعام , حتى ولو كان حلالاً , فإنه يعاقب عليه , قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ } (1) .
إذاً..
التمادي في الحلال مع عدم الشكر , وبالٌ على الإنسان , فليحرص المسلم على أن يأكل ما يفيده , في دينه وبدنه , على القدر المسموح به شرعاً .
ولقد شاع في عصرنا : إذا جاء شهر رمضان , وخاصة في العشر الأواخر منه , تبارت النساء في عمل ما يعرف (بالكعك والبسكويت) , وهما نوعان من الطعام الشعبي , الذي تجيده نسوة الريف والحضر , على السواء , تتعدد أشكاله , وألوانه , حسب ذوق , وخبرة , الصانعة !!
والكعك والبسكويت , حلال لا شك في ذلك , لأنه لا نص فيه بالحرمة , ولكن ارتباطه بشهر رمضان , يدخل تحت دائرة الإمعان في الشبع , وشدة التمسك بالدنيا , والحرص عليها , وعدم ترك فرصة للاستغناء عنها , حتى في شهر رمضان , حتى وإن كان في العشر الأواخر منه , ومعلوم لكل ذي عقل , أن شهر رمضان مدرسة , يتدرب فيه المسلمون على فنون الزهد , وأنواع المجاهدات النفسية , وفطمها عن شهواتها , فليس كل مرغوب مطلوب , ولا كل ما تشتهيه الأنفس تدركه , في شهر رمضان خاصة !!
__________
(1) محمد / 12 .(1/130)
إن المؤمن يَخزن من نفسه , وينهنهها , ويهدهدها , ويكفكفها عن غيِّها , حتى لا تأخذه إلى التهلكة , كما قال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) , وقال - صلى الله عليه وسلم - : (.. والعاجز من أتبع نفسه هواها , وتمنى على الله ) .
وإن البسكويت والكعك , أو ما هو نحوهما , فضلاً عن كونه سَرَف , وتفاخر , وتكاثر , وعدم إخلاص , فإنه يرضي الشيطان , ويقهر أولياء الرحمن من المؤمنين الزاهدين , الذين لا يتنعمون في هذه الحياة الدنيا , فيكون ذلك دعوة لهم , وإغرائهم , إلى ترك زهادتهم , والخروج عن طبيعتهم , التي يتقربون بها إلى الله عز وجل , إلى مجاراة , ومحاكاة الذين تمادوا في الحلال , في غير وقت التمادي في الحلال .
إن شهر رمضان ليس للطعام والشراب والتفنن فيهما , لكنه للصيام , والقيام , وتلاوة القرآن , وصلة الأرحام , وجهاد النفس , والهوى , والشيطان , والدنيا , وجنود هذه الأربعة .
فيا معشر النساء- اللاتي شغلن أنفسهن , بتضييع الوقت , وميزانية البيت , بل ويصل إلى حد الاقتراض , وإرهاق الزوج , والتأثير على دخل الأسرة , بالسلب لا بالإيجاب , من أجل أن تتفاخر إحداكن , أمام أختها , أو صاحبتها , أو جارتها , أنها صنعت كذا وكذا من الكعك والبسكويت , وغير ذلك- اتقين الله , واعلمن أن أخواتكن من نساء العراق , ونساء فلسطين , والشيشان , وكشمير , لا يجدن الطعام الضروري , وأنتن تتبارين في التفريط , والإفراط , والتبذير , والإسراف , في غير الضرورة , إننا ننصحكن , أن تحتسبن ثمن هذا البسكويت والكعك لله , وتقدمنه طواعية لله , وأرسلنه إلى أخواتكن في العراق , وفى فلسطين , فإنهن في أمسّ الحاجة إلى كل مليم ,
__________
(1) يوسف / 53 .(1/131)
تصرفنه في غير موضعه , وستُسألن يوم القمامة عما كنتن تعملن , واعلمن أن الله سبحانه وتعالى سوف يقبل منكن هذه الصدقة , ويُنميها لكم , أكثر من تنمية بنوك الأرض كلها مجتمعة , وتأكدن من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( اتق النار , ولو بشق تمرة ) , وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول للنساء في كل عيد : ( يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار ) , فلتحاول كل منكن- ونحن معها- أن تنقذ نفسها من النار !!
هدانا الله وإياكن سواء السبيل , ورزقنا وإياكن القناعة التي تدخلنا الجنّة , وتبعدنا عن النار .
آمين .
وإلى لقاء آخر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
- 30 -
سلوكيات مرفوضة في وداع شهر رمضان
يذهب الناس في وداع شهر رمضان مذاهب شتى , على النحو الآتي :
" منهم من يقرع على النحاس , ويطبّل عليه كما في القرى , والعزب , والكفور , والنجوع , وأحياناً يفعله فُسَّاق المدن , وينظمه أرباب الهوى , وعبدة الآثام والفجور , ومحترفي الإجرام , وأصحاب السوابق الإجرامية , وذلك بأن يأتوا في آخر يوم من رمضان , وعند غروب الشمس فيفعلون ذلك , أو يأمرون أطفالهم بفعل ذلك , ويعلمونهم كلمات يقولونها عند القرع على النحاس , وتختلف هذه الكلمات من بلد إلى آخر حسب عقلية أهلها , زاعمين أن ذلك يطرد الشياطين التي هاجت في هذا الوقت لخروجها من السجن , وخلاصها من السلاسل والقيود التي كانت مقيدة بها في شهر الصوم . وإنا لله وإنا إليه راجعون !!
" ومنهم من يخص آخر يوم من قيام رمضان بما يعرف (بالتوحيش) عندهم لقولهم : " لا أوحش الله منك يا شهر رمضان , لا أوحش الله منك يا شهر القيام..." إلى آخر جهالاتهم
" ومنهم من يسمي آخر جمعة في رمضان بالجمعة اليتيمة , لأنها لا أخت لها بعدها في هذا الشهر , وهذه تسمية شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان , ولكن كانوا على سنن آبائهم وأجدادهم سائرين.(1/132)
" ومنهم من يخص نهار هذه الجمعة الأخيرة بزيارة القبور , ووضع الزهور , أو سعف النخيل , أو نحو ذلك عليها .
" ومنهم من يجعل إفطاره في آخر يوم من رمضان في القبور , فيصطحب أسرته ويأكلون ويشربون عند القبور .
وهذه كلها سلوكيات مرفوضة , رفضها الإسلام , وحارب أهلها !!
فالذين يعتقدون أن طرد الشيطان بالطبل والمزمار , أو بالقرع بالنحاس , أو نحو ذلك , هم والذين يعتقدون أن شفاء المرضى بالموسيقى سواء في عقولهم , فما كان شفاء أمة الإسلام فيما حُرِّم عليها , والموسيقى والمعازف تجلب الشياطين , لا تطردهم , لأن الشياطين يحبون الضوضاء , ويحبون الصخب , ويحبون المزابل والقاذورات , ويحبون الظلام والجهل , لأن ذلك كله يتناسب مع طبيعتهم , وما جبلوا عليه من سفهٍ وطيش , وتَمرُّدٍ على النظام والهدوء , والسكينة , بل العبث والإفساد شعارهم , وارتكاب الفواحش خلقهم , وإتيان المنكرات دينهم , فلا تكونوا أولياء لهم , وكونوا أولياء لله , قال تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (1) , فإذا كنتم أولياء لله فلا تخافوا الشيطان , ولا تخافوا أولياء الشيطان , فإن كيد الشيطان وأوليائه أجمعين كان ضعيفاً ، ولا تخافوا إلا الله تعالى , والله يعصمكم منهم مادمتم معه في كل حين , تتقونه , وترجونه , وتذكرونه , قال الله تعالى: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (2) .
__________
(1) آل عمران / 175 .
(2) يونس / 62 - 65 .(1/133)
إن بينكم كتاب الله تعالى فاقرأوه , واحفظوه , وتدبروه , فلن تستطيع مردة الجن والشياطين أن يقربوكم , فضلاً عن إضراركم , ما دمتم على ذلك الحال من القراءة ، والتدبر ، والعمل بمقتضاهما ، قال الله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا(45)وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا(46)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(47)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } (1) .
__________
(1) الإسراء / 45-48 .(1/134)
فتلاوة القرآن وحده وقاية وعصمة لقارئه , ومستمعيه أيضاً على السواء , ولزيادة العصمة والوقاية : استعيذوا بالله من الشيطان الرجيم عند بداية التلاوة , وعند الاستماع , وعند نزغ الشيطان , أو وسوسته , أو همزه , ولمزه , أو نفثه , ونفخه , أو تخييلاته , فسرعان ما ينقشع , ويزول أثره , لأن كيده أضعف ما يكون , قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } (1) ,وقال تعالى : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (2), وقال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } (3)
واعلموا أن التوديع للشهر يكون بتذكره , واستحضار فيوضاته وبركاته من خلال المداومة على العمل الصالح وإن قَلَّ كَمَّاً , فالصوم , والقيام , والتلاوة , والصدقات , وضبط النفس , وحسن الخلق , والصدق , والذكر , والتهجد , وغير ذلك لماذا نقطعها ؟
إن رب رمضان هو رب بقية العام , فبالنية الصالحة تكونون في رمضان عامكم كله , واجعلوا منه نبراساً يضيء لكم بقية العام !!
ولا تنسوا إخوانكم في فلسطين , وفى كل مكان , ادعوا لهم في صلواتكم , وعند فطركم ، وفى كل أحوالكم , ولا تنسونا من صالح دعائكم , ونستودعكم الله أمانتكم وخواتيم أعمالكم , والله معكم ولن يضيع إيمانكم وأعمالكم .
وإلى لقاء آخر في شهر رمضان .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
السلوكيات المرفوضة في العيدين
__________
(1) الأعراف / 201 .
(2) فصلت / 36 .
(3) النحل / 98 - 100 .(1/135)
للناس في هذين اليومين سلوكيات مرفوضة كثيرة , حاولنا رصدها في الصور الآتية :
أ- عدم الإكثار من التكبير منذ غروب شمس آخر يوم من شهر رمضان، وإن كبَّروا فبخلاف السُّنّة , والمشروع في التكبير في عيد الفطر أن المسلمين منذ غروب شمس آخر يوم من رمضان , يقولون : " الله أكبر الله أكبر الله أكبر , لا إله إلا الله والله أكبر , الله أكبر ولله الحمد " , وليست الزيادة عن ذلك واردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أي طريق صحيح , أو حسن يعتدُّ به , ويستمر هذا التكبير حتى تنقضي صلاة عيد الفطر على خيرٍ إن شاء الله ، وفي عيد الأضحى : يبدأ التكبير من عصر يوم عرفة ، ويستمر حتى عصر آخر أيام التشريق الثلاثة .
والتكبير شعيرة من شعائر الفرح اللازم في هذين اليومين ، وليس أدل على فرح المؤمن من تكبيره لله تعالى. والله تعالى يقول في شأن التكبير في عيد الفطر : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (1) .
وفي شأن التكبير في عيد الأضحى ، يقول الله تعالى : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ } (2) .
ب- عدم الإفطار في يوم عيد الفطر قبل الخروج إلى المُصَلَّى , لتعوُّدهم على الصوم في مثل هذا الوقت طيلة شهر رمضان , والسنة قطع هذه العادة , حتى وإن كنا لا نرغب في
__________
(1) البقرة / 185 .
(2) الحج / 37 .(1/136)
الطعام , لأن الخير كل الخير في الاتباع , وإن بدا شاقاً على النفس , فعن أنس - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات "(1) , وعن بُرَيدة- رضي الله عنه- قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم , ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي "(2) .
ج- تكاسل كثير من الشباب والرجال عن الذهاب إلى صلاة العيد في المصلّى :
" إما لأنهم نائمون لسهرهم طول الليل في الكلام والثرثرة , ونحو ذلك .
" وإما لاعتقادهم خطأ التجمع في مثل هذه الصورة .
" وإما لاستحيائهم من الناس أن يوجدوا بينهم .
وهذه سلوكيات مرفوضة , لأن صلاة العيدين في المصلى من سنن الهدى التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس عامة ، وإلى المسلمين خاصة ، فمن التزم هديه فهو من المسلمين حقاً ، ومن لا فلا !! قال الله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (3) .
د- عدم خروج النساء والفتيات , والصغيرات والكبيرات إلى المصلى لنفس أسباب تهاون الشباب والرجال , أو لاعتقاد البعض منهن , أو من أولياء أمورهن أن صلاة العيد غير واجبة عليهن , وهذه سلوكيات مرفوضة , لقول أم عطية- رضي الله عنها- : " أُمِرْنا أن نخرج العواتق والحُيَّض في العيدين يشهدْن الخير ودعوة المسلمين , ويعتزل الحُيَّضُ المصلى "(4).
ه- وإن خرجت النسوة والفتيات فمنهن المتبرجات والسافرات , ومنهن المتعطرات , ومنهن المقلدات الرجال في ملابسهم وشعورهم وغير ذلك !!
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) رواه أحمد ، والترمذي ، وصححه ابن حبان .
(3) النساء / 115 .
(4) متفق عليه .(1/137)
وهذه صور تُلْعَنُ بها الفاعلات منهن ذلك , وكذا من رضي ذلك من آبائهن , وأمهاتهن , وإخوانهن , ومن شاهدهن ولم ينكر عليهن , قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } (1) , وقال تعالى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } (2) .
و- مصافحة الرجال النساء من غير المحارم لهن , وما مسَّت يدُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة لا تحل له أبداً .
ز- التهنئة على خلاف السنة , كقول البعض: " كل سنة وأنت طيب" ونحو ذلك , والسنة في التهنئة للرجال : المصافحة عند اللقاء , وعند القدوم من السفر المعانقة فقط(3) , وأما النساء فليس لهن فيما بينهن إلا المصافحة فقط, ويجوز أن يقال: " تُقُبِّلَ مِنّا ومِنْك"(4).
ح- زيارة المقابر يوم العيد , وهذه من البدع الإضافية في دين الله تعالى , وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) (5) , أي : مردود عليه وزره , ووزر من عمل به يوم القيامة , من غير أن يُنْقص من أوزارهم شيء .
__________
(1) الأحزاب / 59 .
(2) الأحزاب / 33 .
(3) رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح .
(4) قال ابن حجر : إسناده صحيح .
(5) متفق عليه .(1/138)
ط- اللهو والمرح على خلاف السنة !! نعم !! العيد فرحة !! ولكن بأمر الله تعالى , فقد قال الله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (1) , ففرحتنا تكون باتباع أوامر الله تعالى , وذكره , كما قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } (2) .
وفرحتنا تكون بالدعاء أن يتقبل الله منا الصيام ، والقيام ، وسائر الطاعات في شهر رمضان , ونسأله أن يبلّغنا رمضان .
وفرحتنا تكون بأداء بالصلوات وإعطاء الصدقات ، وإخراج الزكوات , والإحرام بالحج والعمرة .
فرحتنا تكون بنصرة المسلمين في كل مكان قال الله تعالى : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } (3)
إن فرحتنا تتم بتحرير فلسطين , وطرد أحفاد القردة والخنازير من كل شبر من الأرض المباركة , وعودة المسجد الأقصى شامخاً عزيزاً إلى رحاب المسلمين , وإلى أن يتم ذلك فكيف نطعم طعم اللهو , والأبرياء يتساقطون صباح مساء ؟!
فاللهم عوداً حميداً إلى دينك , ونصراً أكيداً على أعدائنا !! آمين .
وفي الختام : تُقُبِّل منا ومنكم صالح الأعمال .
وإلى لقاء في الجنة مع الشهداء !!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
ماذا بعد رمضان ؟
__________
(1) يونس / 58.
(2) الرعد / 28 ، 29 .
(3) الروم/ 4 ، 5 .(1/139)
أقبل الشهر الكريم بالبشر والترحاب ، وأهل بالخيرات والثواب ، وأحل علينا بالأمن والأمان ، والسلامة والإسلام ، وعاش بيننا بالجود والكرم ، وأفاض علينا ببواعث النعم ، وحجب عنا دواعي النقم ، وأقبل علينا شهر رمضان وقد اعتدنا فيه القيام ، وتلاوة القرآن الكريم ، والصيام ، والإحسان ، وإطعام الطعام ، وإفشاء السلام ، والتهجد بالليل والآخرين نيام.
? أتانا رمضان وقد تهيأنا له بالصبر على الحلال ، والصبر عن الحرام ، فتركنا الحلال حسبة لله تعالى ، وامتنعنا عن الحرام قربة إلى الله تعالى ، فأقلعنا عن الكذب ، وجانبنا الكذابين ، وودعنا الجدال والمراء وأهله ، وهجرنا الفحشاء والمنكر وأهلهما ، وأقصينا البذاءة وأهلها ، وخاصمنا المزاح بالباطل وأهله ، لقد صنا أعيننا عن التطلع إلى عورات الآخرين ، وعن التطلع إلى ما في أيديهم ، بل القناعة التامة بما قسم الله لنا ، والرضا التام بما قدره الله علينا ولنا .
? وحفظنا أفواهنا عن الدخان والتدخين ، وبطوننا عن الامتلاء بالحلال فضلاً ؛ عن مقارفة الحرام ، أو التفكير في نيله أصلاً ، وحفظنا أنفسنا بطاعة الله تعالى من الشيطان وأهله ، ونزهنا أيدينا عن ملامسة ما لا يحل لنا ، وطهرنا أرجلنا وأبداننا مادياً ومعنوياً ، حتى نقف خاشعين بين يدي الله تعالى في الصلوات الخمس ، وفي الجمعات ، وفي القيام ، والاعتكاف ، والتهجد ، تنافسنا في الظفر بنيل الخيرات والفيوضات ، وتسابقنا في الارتقاء إلى أعلى الجنات ، بتخليص النفس من علائق الهوى ، وعوائق الدنيا ، وبوائق الشيطان ، وهمزه ونفخه ونفثه .
? الآن ... وبعد أن أدبر رمضان ، كالنسيم الذي داعب جفوننا لحظات ، أو كالعطر الفواح الذي غازل أنوفنا برهات ، فما أروعها مداعبة لِلَّهِ وما أعفها مغازلة لِلَّهِ فهل نتذكر فيم كنا ؟ وإلام صرنا ؟ وماذا بعد رمضان ؟
?(1/140)
إن المسلم في رمضان هو المسلم في غير رمضان ، لأن الله تعالى هو رب رمضان ، وهو رب غيره من الشهور ، والمسلم يعبد الله وحده لا شريك له ؛ قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60)وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } (1) ، وقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (2) .
? فحري بمن اعتاد القيام في رمضان أن يتشبث بعادته تلك ، ولو بركعتين فقط يركعهما بعد كل صلاة عشاء ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أحب الأعمال إلى الله القليل الدائم ) (3) .
? وحري بمن اعتاد الصيام في رمضان ألا يخلي شهراً قط عن الصيام ، فليصم أحد عشر يوماً ( الأيام البيض ، والاثنين والخميس من كل أسبوع ) وإلا فثمان ( الاثنين والخميس من كل أسبوع ) وإلا فثلاث ( الأيام البيض : 13، 14، 15 من الشهر العربي ) أو أي ثلاثة أيام من الشهر ، فكل ذلك سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليبدأ بصيام ستة أيام من شوال ، سواء مفرقة أم متوالية ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله) (4) .
? وحري بمن استطاع أن يقاوم شهوة نفسه ، ويمتنع عن التدخين في أكثر من ثلثي كل يوم من رمضان ، أن يقاوم نفسه في الثلث الباقي ، ويمتنع عن ذلك الحرام ، حسبة لله تعالى وخشية منه ، والله يقويه ويعينه على ذلك إن أحسن النية ، وأكد العزم .
?
__________
(1) يس / 60 ، 61 .
(2) البينة / 5 .
(3) رواه البخاري .
(4) متفق عليه .(1/141)
وحري بمن اعتاد الصدقة في رمضان أن يظل نبع خيراته فياضاً ، ونهر عطائه مورودا ، وبحر جوده لا ينضب ، فإن الصدقة تطفئ غضب الله تعالى كما تطفئ الماء النار ، وهي برهان صدق المتصدق ، وثقته في الله تعالى ، وتوكله عليه ، وإيثاره مرضاة الله على مدح المخلوقين وثنائهم .
? وحري بمن اعتاد الصلاة في الجماعة الأولى في المسجد أن يحافظ على ذلك طيلة حياته ، لقوله تعالى : { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } (1) ، حتى لا يكون من هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } (2) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - ( صلاة الرجل في المسجد تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بضعاً وعشرين درجة ، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة ، لا تنهزه إلا الصلاة ، لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة ، حتى يدخل المسجد ، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما انتظر الصلاة ....) (3) .
? فهنيئا لمن كان رمضانه مثل غيره من الشهور ، وتعساً تعساً لذاك الرمضاني الذي لا ينشط إلا في رمضان ، فإذا أدبر رمضان أدبر بقلبه وقالبه عن الطاعة فيصرف الله قلبه عن المداومة عليها ، وملأ قلبه غفلة وشغلا ولهوا .
اللهم بلغنا رمضان ، واجعله شافعاً لنا عندك يوم نلقاك فيه ، يا رب العالمين .
آمين .
ما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم بعد رمضان !!
__________
(1) النساء / 103 .
(2) النساء / 142 .
(3) رواه البخاري وغيره .(1/142)
إن المسلم الحق هو : من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً ، وهو من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فلا يؤذي أحداً بلسانه ، والإيذاء باللسان يتعدد ويتفرع على النحو الآتي :
" فتارة بالكذب عليهم وخداعهم .
" وتارة بالمدح الكاذب الذي يغري الممدوحين بالعجب ، ويثير في نفوسهم دواعي الكبر والفخر ، ويؤصِّل في قلوبهم داء البطر (1) والأشر (2) .
" وتارة يكون الإيذاء باللسان من خلال الغيبة والنميمة. ؛ والغيبة .. ذكرك أخاك بما يكره في حال غيبته عن مجلس الكلام ، حتى وإن كنت صادقاً في قولك عنه ، أما إن كنت كاذباً في حديثك عنه في حال غيبته فهو البهتان ، فإن ارتبط ذلك الكذب بالفاحشة كان إفكاً .
__________
(1) البطر : عدم الاعتراف بالحق لصاحب الحق .
(2) الأشر : ادعاء كسب الأشياء إلى نفسه ، وأنه القادر على كسب ما اكتسب ، وهو الغرور في أقصى درجاته .(1/143)
والثلاثة مذمومة ، ممقوتة قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } (1) ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (2)وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (3) ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه !! لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته حتى يفضحه في قعر بيته) .
__________
(1) الحجرات / 12 .
(2) النساء / 112 .
(3) النور / 11 .(1/144)
" وتارة يكون الإيذاء باللسان عن طريق السب والقذف ، ولقد نهى القرآن الكريم عن سب الآخرين حتى وإن كانوا غير مسلمين ، لأن ذلك داع إلى سب الله تعالى ، فقال تعالى : { ںwur (#q™7ف،n@ ڑْïد%©!$# tbqممô‰tƒ `دB بbrكٹ "!$# (#q™7ف،uٹsù ©!$# #Jrô‰tم خژِچtَخ/ 5Où=دو y7د9؛xx. $¨Yƒy- بe@ن3د9 >p¨Bé& َOكgn=uHxه NèO 4'n<خ) Nحkحh5u' َOكgمèإ_َگ£D Oكgم¥خm7t^مsù $yJخ/ (#qçR%x. tbqè=yJ÷ètƒ اتةرب } (1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه !! ) قالوا : يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال : ( يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ! ويسب أمه ؛ فيسب أمه !! ) (2) ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } (3) ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25)الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } (4) .
__________
(1) الأنعام / 108 .
(2) متفق عليه .
(3) - الأحزاب / 58 .
(4) - النور / 23 - 26 .(1/145)
" وتارة يكون الإيذاء باللسان عن طريق التحريض ، والحث على إيذاء الآخرين ، والمسلم الحق من يصون لسانه عن الخنا (1) ، والكذب ، والفجور ، واللعن (2).. وغير ذلك ، ومعلوم أن من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم والعقاب مثل آثام من تبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شئ.
" أما الإيذاء باليد : فيتنوع ويتعدد أكثر من تنوع وتعدد الإيذاء باللسان ،
فعلى المسلم الحق أن يصون يده عن السرقة ، والخيانة، والغلول(3) ، والبطش ، والضرب في غير حق ، ويصون نفسه عن الظلم ، والإعانة عليه ، ومصافحة من لا يحل له مصافحته ، وكذلك في الإشارة بها سخرية ، أو لمزاً للآخرين .
كما يصون المسلم رجله عن المشي إلى المنكر، أو السعي إلى الشر والإثم ، بل يحرص كل الحرص أن يكون ساعياً بهما في طاعة الله تعالى ، إلى الجماعة الأولى في المسجد ، وإلى الإصلاح بين المتخاصمين ، وإلى عيادة المرضى ، وإلى زيارة الأقارب ، وصلة الأرحام ، وإلى الجهاد في سبيل الله تعالى ، وإلى طلب العلم النافع في الدين والدنيا والآخرة .... وإلى غير ذلك من الطاعات والقربات .
" كما يصون المسلم سمعه عن سيء الأقوال ، ورديء الأصوات وأنكرها، بل يحرص كل الحرص أن يروض سمعه على سماع آيات الذكر الحكيم ، وسماع العلم النافع من خلال الوسائل المتاحة له .
" كما يصون المسلم بطنه وفرجه عن الحرام والشبهات ، حتى يبلغ درجة التقوى ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين ؛ حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس)(4).
__________
(1) - الخنا : الفحش .
(2) - لا يجوز لعن إنسان بعينه مطلقاً ، إلا أن يكون بصفة العموم ، كما لا يجوز لعن الحيوان ، أو غيره .
(3) السرقة من الأموال العامة قبل قسمتها ، ومعرفة الأنصبة لكل مستحق.
(4) - رواه ابن ماجة ، وغيره ، وإسناده صحيح .(1/146)
اللهم اجعلنا للمتقين إماماً ، اللهم تقبل منا الصيام والقيام ، وشفع فينا الصيام والقرآن ، وصالح الأعمال ، اللهم انصر المسلمين في فلسطين ، وائذن بعودة المسجد الأقصى إلى رحاب المسلمين ، وارزقنا فيه صلاة آمنة مطمئنة قبل الممات ، ونسألك حجاً وعمرة يبدآن من المسجد الأقصى ، اللهم وحد صفوف المسلمين ، وألف بين قلوبهم ، واجمع كلمة حكامهم على الحق والدين ، اللهم أوزعهم لنصرة دينك يا حي يا قيوم .
اللهم انصر المسلمين في العراق على الأمريكان وحلفائهم الملاعين ، اللهم أمدهم بمدد من عندك ، وارزقهم قائداً صالحاً يقودهم إلى النصر والتمكين ، وكبت الأعداء المجرمين ، يا قوي يا متين .
اللهم تقبل دعاءنا ، وحقق رجاءنا ، آمين ، آمين .
وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى
عبد الله عبد الله عبد الله السَّحْت
من علماء الأزهر الشريف
صحيفة المصادر والمراجع
م ... المصدر والمرجع ... اسم المؤلف
1 ... القرآن الكريم ... كتاب الله تعالى رب العالمين ، الذي أنزله على خاتم الأنبياء والمرسلين إلى الناس أجمعين .
2 ... صحيح البخاري ... الإمام البخاري
3 ... صحيح مسلم ... الإمام مسلم
4 ... سنن أبي داود ... الإمام أبو داود
5 ... جامع الترمذي ... الإمام الترمذي
6 ... سنن النسائي ... الإمام النسائي
7 ... سنن ابن ماجه ... الإمام ابن ماجه
8 ... مسند أحمد ... الإمام أحمد بن حنبل
9 ... موطأ مالك ... الإمام مالك بن أنس
10 ... المصنف ... الإمام ابن أبي شيبة
11 ... المصنف ... الإمام عبد الرزاق
12 ... الترغيب والترهيب ... الإمام المنذري
13 ... زاد المعاد في هدي خير العباد ... الإمام ابن قيم الجوزية
14 ... الإبداع في مضار الابتداع ... الشيخ / علي محفوظ
15 ... المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ... الأستاذ / محمد فؤاد عبد الباقي
الفهرست
م ... المحتوى ... الصفحة
1 ... المقدمة ... 1
2 ... مفهوم السلوك ... 8
3 ... مصادر السلوك الإسلامي الرشيد : ... 10
أولا : القرآن الكريم . ... 10
ثانياً : السنة المطهرة . ... 15(1/147)
4 ... فلسفة السلوك الإنساني ، وكيفية تحقيق منظومة السلوك السوي . ... 22
5 ... السلوكيات المرفوضة في شهر رمضان : ... 28
1) الإسراف في إعداد مائدة الإفطار . ... 28
2) تأخير الفطر ، وتعجيل السحور . ... 31
3) تأخير صلاة المغرب من أجل الإفطار . ... 34
4) الإفطار على غير السنة . ... 37
5) عدم الدعاء والاستغفار ، وعدم الذكر بوجه عام عند الإفطار . ... 40
6) الاقتراض من أجل الإنفاق في رمضان . ... 43
7) موائد الرحمن . ... 46
8) ربط الصوم بالصلاة . ... 50
9) ربط الصيام بالزكاة والصدقات . ... 53
10) امتناع الحائض والنفساء ، وأصحاب الأعذار عن الطعام والشراب في نهار رمضان على خلاف السنة. ... 57
11) قيام رمضان على غير هدي النبوة . ... 62
12) التراخي عن الأعمال المكلف بها الإنسان بحجة الصيام . ... 68
13) افتعال المشاجرات لأتفه الأسباب ( 1 ) ... 72
14) افتعال المشاجرات لأتفه الأسباب ( 2 ) ... 75
15) افتعال المشاجرات لأتفه الأسباب ( 3 ) ... 80
16) الخطبة على خلاف منهاج النبوة . ... 83
17) كثرة الكلام بلا حاجة ، والضحك بلا سبب . ... 86
18) الغيبة والنميمة بين النساء خاصة ، والناس عامة . ... 89
19) تعمد الإفطار في نهار رمضان بلا عذر شرعي ... 92
20) سوء الأخلاق بحجة الصيام . ... 96
21) فرقعة الصواريخ والبارود . ... 100
22) اشتغال المعتكف بما لا يعنيه في اعتكافه ... 103
23) تلاوة القرآن الكريم، مع عدم مراعاة أحكام التلاوة . ... 107
24) المقاهي . ... 111
25) الإسراف في الزينات والأنوار . ... 114
26) العمل على خلاف السنة في صدقة الفطر ... 118
27) السلوكيات المرفوضة في ليلة السابع والعشرين ... 122
28) ظاهرة التسول في شهر رمضان . ... 125
29) ربط شهر رمضان بالكعك والبسكويت . ... 130
30) سلوكيات مرفوضة في وداع شهر رمضان ... 134
6 ... السلوكيات المرفوضة في العيدين ... 138
7 ... ماذا بعد رمضان ؟! ... 142
8 ... ما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم بعد ... 145
رمضان
9 ... صحيفة المصادر والمراجع ... 148
9 ... الفهرست ... 150(1/148)