سرعة البديهة
في التراث
الدكتور / محمد محروس المدرس
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى الآل وهم من أمته كلُّ تقيٍّ ، وعلى صحابته وهم أفضل صحابة لأفضل نبيٍّ ، وعلى الداعين بدعوته إلى يوم القيامة .
وبعد ~~
فإنَّ الكلام فيما نحن بصدده ، يلزمنا تحديد مفهوم عنوان البحث .. فنقول :
فالسرعة هي : العجلة . [ القاموس الوسيط ـ 1 / 427 ] .
والمسارعة إلى شئ : هي المبادرة إليه في أول أوقات إمكانه .
والسرعة : نقيض البطؤ . [ مجمع البحرين ومطلع النيِّرين لإبن طريح النجفي ] .
وأستطيع أن أقول في .. السرعة ـ اصطلاحاً ـ : تخطِّي الفعل لعنصر الزمن ، بحيث يأخذ منه اقلَّ مما في حالة العادة . فمن المعلوم أنَّ لكل فعلٍ زمن يستهلكه ، وهما لا ينفكان قط ، والمعتاد بين الناس لما يستهلكه فعلٌ ما من وقتٍ .. هو الحالة الاعتيادية ، فإن تمكن شخصٌ من اختصار المدة المعتادة .. فتلك هي السرعة .
××××××
أما .. بدَهَه .. بدْهاً .. وبداهةً ، فتعني : فَجَأهُ .
ويقال .. بدهه بكذا : بدأه به .
وبادهه .. مبادهةً .. وبِداهاً : بدهه .
وبدَّه : أجاد وأحسن القول على البديهة .
وتباده القوم الخُطب والأشعار : قالها بعضهم لبعضٍ بداهةً .
و البداهة : أول كلِّ شئٍ .
والبدهة : ما يَفجأ من الأمر .
والبداهة ـ عند المناطقة ـ : قضايا مسلَّمة لوضوحها في الذهن ، والبديهيّة ما يجده الإنسان في نفسه من غير إعمال فكرٍ ، ولا علمٍ بالسبب .
والبديهيَّة ـ عندهم ـ : قضية اعترف بها ، ولا يُحتاج في تأييدها إلى قضايا أبسط منها .
والبديهة : البداهة .
والبديهة : الابتداء .
والبديهة : سداد الرأي عند المفاجأة .
والمِبْدَه : السريع البديهة ، الحاضر الجواب . [ المرجع السابق ـ 1 / 44 ] .
والبداهة ـ اصطلاحاً ـ : هي المعرفة الحاصلة ابتداءً في النفس لا يسبب الفكر ، كالواحد نصف الاثنين .
والبداهة ـ في المعرفة ـ : كالبديع في العقل .(1/1)
والبديهي : أخصُّ من الضروري ، لأنه ما لا يتوقف حصوله على نظر وكسب ، سواءً احتاج لشئ آخر من نحو[ حدس ] أو [ تجربة ] ، أو لا كتصور الحرارة والبرودة ، والتصديق بأنَّ النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان . والأوليات هي .. البديهيَّات بعينها ، سميَّت بها لأن الذهن يلحق محمول القضيَّة بموضوعها أولاً ، لا بتوسط شئٍ آخر ، فذاك المتوسط هو المحمول أولاً . [ كليَّات أبي البقاء الكفوي الحنفي ـ مادة البداهة ] .
والمسلَّمات ، والبديهيات ، والأوليات .. يكوِّن أحدها [ المقدِّمة الكبرى ] في القياس المنطقي ، لكونها مقبولة من الطرفين .
××××××
مما تقدم نستطيع أن نصل إلى تعريفٍ إسمي لمركب [ سرعة البديهة ] .. فنقول هي :
المبادرة في الإجابة ـ من غير استعداد ـ فيما حقَّه التفكر والتأخير ، مع تمام التوفيق في إصابة المأمول .
فالتسرع مذمومٌ .. لأنه يؤدي إلى التفوِّه بما يكون وبالاً على صاحبه ، ولذلك امتدحوا [ التأني ] ، فقالوا : [ من تأنَّى نال ما تمنَّى ] !! ، وقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
[ ليت لي عنقاً كعنق العير ] ، مشيراً - رضي الله عنه - إلى عدم السرعة في الإجابة.
ولكنَّ بعض المواقف تستدعي : المسارعة ، والمبادرة ، وهذه المسارعة لا تتسنى لكلِّ أحد بحيث تكون .. جواباً مسكتاً ، أو جواباً مصيباً ، أو يقتضيه المقام بحيثُ يكون التأخير سبباً للتُهمة والمؤاخذة ـ كما في حضرة الحكام في أمرٍ يعنيهم ـ .
ولعلَّ من أبلغ ما قيل في وصف سرعة البديهة ، ما تكلم به الإمام العلم العيلم ، مفخرة العراق في الآفاق ، السيِّد الموسوي الحسيني أبو الثناء محمود شهاب الدين الآلوسي البغدادي الحنفي عامله الله بلطفه الجليِّ والخفيِّ ، إذ قال عن نفسه ـ وهو صادقٌ ـ :
[ فما استودعت ذاكرتي شيئاً فخانتني ، ولا استنجدت بها يوماً فخذلتني ] !! ، فعدم الخذلان هو .. سرعة البديهة .
××××××(1/2)
وهذا الذي نحن بصدده ـ لا شك ـ يدخل في بحوث الأمور الخارقة للعادة ، لكونها لا تتسنى لكل أحد .. فهي من المستثنيات ، وهي خروجٌ عن العادة ، فتكون من مباحث [ الخارقية ] ، وسآتي في بحثي هذا على جملة من : الردود ، أو الإجابات السريعة ، مما يدخل في باب [ سرعة البديهة ] القبول أمرها ، الممدوح شأنها ، وما أوردته لا يستوفي ما ورد عن السابقين ، بل هو أنموذج لما يمكن أن يعدَّ جمعاً جيداً في سرعة البديهة في التراث .. وإليكها :
1. ما مورد في سورة يوسف عند اتِّهام زوجة العزيز له بمراودتها عن نفسه ، فكأن
الجواب الذي يدُّل على منتهى التوفيق في سرعة البديهة ، والذي جاء على لسان من شهد متطوعاً من أهلها .. قال تعالى :
{ واستبقا الباب وقدَّت قميصه من دُبُرٍ وألفيا سيَّدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاَّ أن يُسجن أو عذاب عظيم * قال هي راودتني عن نفسي وشهِد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصُهُ قُدَّ من قُبُلٍ فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قدَّ من دُبُرٍ قال إنَّه من كيدكن إنَّ كيدكنَّّ عظيم } يوسف / 25 ـ 28 .
2. ما ورد على لسان سيِّدنا موسى ، جواباً لسؤالٍ من ربِّه له .. إذ ورد في القرآن الكريم توثيقاً لهذه المحاورة المتضمنة لسرعة بديهة موسى ، قال تعالى :
{ وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولآء على أثري وعجلت إليك ربِّي لترضى } طه / 83 ـ 84 .
3. ما ورد على لسان سيِّدنا عيسى ، جواباً لسؤال من ربِّه له .. إذ ورد في القرآن الكريم توثيقاً لتلك المحاورة المتضمنة لسرعة بديهة عيسى ، قال تعالى :
{ وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتَّخذوني وأمِّي إلهين من دمن الله قال
سبحانك ما يكون لي ما ليس لي بحقٍّ إن كنت قلتُه فقد علمتهُ تعلم ما نفسي ولا أعلم ما في(1/3)
نفسي ولا أعلم ما نفسك إنَّك أنت علاَّم القلوب * ما قلت لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله
ربِّي وربِّكم وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلمَّا توفَّيتني كنت أنت الرقيبَ عليهم وأنت
على كلِّ شئٍ شهيد } المائدة / 116 ـ 117 .
4. بعد فتح مكة المكرمة في عام الفتح ، أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي سفيان - رضي الله عنه - مكانة خاصة ، إذ جعل دخول داره أماناً لداخله كداخل الكعبة المشرفة ، وعفا عن كثير ممن آذوه في مكة ، وقد أسلموا وحسن إسلامهم ـ ، فتجاوز عن : وحشيٍّ قاتل عمه حمزة ، وعن هند بنت عتبة .. وغيرهما . ثم قدم عليه الرجال فبايعوه ، ثم دخلت عليه النساء يبايعنه ـ وكانت على رأسهن هند بنت عتبة ـ .. فبايعنه على :
ألاَّ يُشركن بالله شيئاً ، ولا يسرقن ، ولا يزنين ، ولا يقتلن أولادهنّ ، ولا يأتين ببهتان يفترينَّه بين أيديهن وأرجلهن ، ولا يعصين الرسول في معروف ..
فلما وصل صلى الله عليه إلى قوله : .. ولا تأتين ببهتان تفترينَّه ..الخ .. قالت هند بنت عتبة مبتدرةً القول : أو تزني الحرة يا رسول الله ؟ ! .
فسكت رسول الله .. !! .
5. وحينما ولِّي أمير المؤمنين الإمام عثمان بن عفان ذو النورين ، أمر المسلمين باتِّفاق أصحاب اللشورى الستة الذين أوكل إليهم الأمور أمير المؤمنين سيّدُنا الفاروق عمر بن الخطاب ، قام خطيباً ـ كما هي العادة ـ فارتُّج عليه ، فسكت برهةً .. ثم قال :
[ أنتم أحوج ما تكونون إلى خليفةٍ فعَّال منكم لخليفةٍ قوَّال ] ثم نزل .. فكانت أبلغ خطبة ولايةٍ خطبها خليفة إذبان توليته !! .
6. أما ورد على لسان ذلك الصبيِّ الأعرابي ، الذي قدم مع قومه على سيِّدنا معاوية بن أبي سفيان ( رضي الله عنهما ) ، وذلك بعد [ عام الجماعة ] الذي تنازل فيه سيُّدنا الحسن - رضي الله عنه - له فيه عن الخلافة ، فأخذ بعده يُخاطب بإمرة المؤمنين .(1/4)
جاء ذلك الصبيِّ مع وفدٍ من قومه إثر تأثير انحباس المطر عنهم في البادية ، لثلاث سنوات متتاليات ، فتقدم الصبيِّ ليتكلم عنهم !! ..
فقال معاوية - رضي الله عنه - : أليس في القوم من هو أسنُّ منك ؟ .
قال الصبيِّ : لو كان الأمر بالسن لكان بعض من في مجلسك أحقُّ بالخلافة منك ، وإنَّما المرء بأصغريه .. قلبِه ، ولسانِه ! .
فقال معاوية : ويحك .. تكلم ! .
قال الصبيِّ : يا أمير المؤمنين .. أتتنا سنةٌ أذابت الشحم ، وأتتنا سنةٌ أذهبت اللحم ، وأتتنا سنةٌ دقت العظم !! ، وبيدكم فضول أموالٍ ، فإن كانت لنا .. فما أحوجنا اليوم إليها ، وإن كانت لكم .. فمن أحقُّ ببرِّ أمير المؤمنين منَّا ؟ ، وإن كانت لله .. فنحن عياله !! .
قال الخليفة - رضي الله عنه - : أُعطوهم ما يكفيهم ، وأكرموهم ، ومييروهم .. وأخرجوأ هذا الصبيَّ عن الشام إلى أهله من ساعته ، فلو بقي لألَّب أهل الشام عليَّ !! .
7. ما ورد عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي جوزي عن دين المصطفى خيراً وكوفي ، حين دخل الخوارج مسجد الكوفة ـ وهو يومئذٍ يعجُّ بالحلقات ـ وهم شاهري السيوف ، فوقفوا على رأسه ـ وهم لا يقصدون غيره ـ لوطئته عليهم في إيراد الدلائل عليهم ، وقد فرَّ من في المسجد .. فهم يستحلون دماء المخالفين !! ، لكنهم لا يفعلون ذلك إلاَّ بعد إقامة الحجة ـ وهذا من محاسنهم ـ ، فقالوا للإمام نريد أن نسألك ..
قال الإمام : سلوا ما بدا لكم .
قالوا : جنازةٌ بباب المسجد قد غصَّ صاحبها بشربة خمرٍ فمات ، أ فتصلي عليه ؟ ؟ ! ، ومن المعلوم أنَّهم يُكفِّرون مرتكب الكبيرة من الأفعال ، أي التي ورد نصٌ بالنهي عنها ، فلو قال أصلِّي عليه ـ وهو مذهبه ـ قتلوه .. إذ سيكفرونه هو حينئذٍ !! ، ولو قال لا أصلِّي عليه ـ موافقاً إيَّاهم ـ عدَّ ذلك من مثله مثلبةٌ لمناقضة نفسه ، وهو إمامٌ مبوع !! .
فسألهم هو : من أيِّ دينٍ هو ؟ ، أمجوسيٌّ هو ؟ .(1/5)
قالوا : لا . قال : أيهوديٌ هو ؟ . قالوا : لا . قال : أنصرانيٌ هو ؟ . قالوا : لا .
فسألهم : من أيِّ دين هو ؟ ؟ .
قالوا : مسلم !! .
حينئذٍ قال الإمام - رضي الله عنه - : حكمتم !! .
فأغمدوا سيوفهم وهم يتميزون غيضاً !! .
أكتفي بهذا لضيق المقام ، وسيتكفل البحث بإيراد أمثلةٍ أخرى إن شاء الله ..
والحمد لله ربِّ العالمين ~~
الدكتور / محمد محروس المدرس الأعظمي
الأعظمية ـ ليلة 24 جمادى الأولى 1421 هـ الموافق 24 آب 2000 م(1/6)