بسم الله الرحمن الرحيم فى فرص الفراغ بين الدروس والمحاضرات والإفتاء- وما أقلها- استطعت أن أكتب فصول هذا الكتاب الوجيز! وقد كان لى سابق عهد بخوض موضوعه. والتعرض لقضاياه، إلا أننى هنا كنت أكثر صراحة وأكثر تحديدا. ولاتزيدنى الأيام إلا ثقة فى الخطة التى انتهجتها لخدمة الإسلام وتبليغ رسالته ورد العدوان عن حقائقه النقية. فى أول عهدى بالعمل فى الجزائر وافتتاح جامعتها الإسلامية أحسست أن متاعب الدعوة الإسلامية التى الفتها تتكرر فى المغرب الإسلامى والمشرق الإسلامى على سواء! فأزمة الدعاة الواعين شديدة، وأهل الذكر الجامعون بين القراءة والفقه قلة نادرة، والاستعمار الثقافى والاجتماعى والسياسى يعمل حثيثا على بلوغ أهدافه فى أرض تكاد تكون خلاء من الحراس بل إن الحراس أحيانا يسيئون إلى أنفسهم وأهليهم وأرضهم لأنهم يدركون الأمور على غير وجهها، أو تتملكهم العاطفة التى جعلت الدبة تقتل صاحبها! من أجل ذلك كتبت فصول هذا الكتاب على عجل، ومع أنى نشرت طبعته الأولى فى القاهرة إلا أننى رحبت بإعادة طبعه فى الجزائر، والحق أنها به أولى، لأن المشاعر التى ملكتنى وليدة معاناة لأحوال أمة أنهضها الإسلام من كبوتها، ونصرها على أخبث استعمار فى الأرض، فلما هزمته فى ميدان القتال استدار يحاول ختلها فى ميدان البناء، وصنع المستقبل! وهيهات فالشعب المسلم كان بفطرته يتحسس طريقه إلى مستقبله ! وكان بعقيدته يقصى سماسرة الإلحاد والانحراف الذين يريدون غشه والعبث بمستقبله.. ولكن حاجة الشعوب الإسلامية كلها- لا الشعب الجزائرى وحده- هى إلى دعاة يعرفون الإسلام معرفة صالحة، ويفرقون بين تعاليمه السماوية وما التبس بها من أهواء العامة وشهوات المتسلطين على اختلاف القرون. ولعل ما أجملته هنا أكون قد فصلته فى مواطن أخرى، والله من وراء القصد. محمد الغزالى قسنطينة- الجزائر 1986
ص _004(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة يستطيع الأتقياء أن ينقذوا المدنية الحديثة، وأن يكتشفوا المعايب التى تخدش قدرها... أو تسقط مكانتها! فهل يجديهم هذا الموقف فى جبر كسورهم وإزالة تخففهم؟ إن الفقير يستطيع أن يهجو الغنى وأن يفضح سؤرة الطغيان فى مسلكه! فهل ذلك نافعه؟ وهل ذلك الهجاء يسد جوعته ويستر عورته؟ من أمد بعيد أحسست أننا مصابون من داخلنا، وأن مواريثنا الفكرية لا تنبع من ديننا، بل من تعاليم دخيلة على هذا الدين... ومن أمد بعيد أحسست أن هناك ازورارا عن توجيهات الإسلام الحاسمة فى الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية تمشيا مع أهواء فرد من الأفراد، أو طبيعة جنس من الأجناس، وأن العبادات فقدت روحها، وأصبحت رسوما ميتة، وأن الأخلاق سقطت عن عرشها، وأمسى تعامل الناس وفق غرائزهم، وأن الصراع العالمى ليس بين الإسلام وغيره من أهواء البشر! هو صراع بين تطبيقات غبية للإسلام ومسالك بشرية يقظة جريثة.. إن أهل الكتاب الأقدمين حرفوا الكلام عن مواضعه على نحو ما، ونحن- على امتداد عدة قرون- نغلف الوحى بأهوائنا حتى ضاع بريقه. وأكاد أقول لسكان القارات: إن ما ترون فى شئوننا ليس ما أنزل الله من كتاب ولا ما قدم رسوله من أسوة، إن ما ترون هو عوج أمة نسيت ما لديها ومضت مع هواها.. وقد بلغ من ضراوة الحجب التى رانت على بصائرها أنها تقاوم من يريد العودة بها إلى طريق الله، إنها تتعصب لمواريثها من تقاليد الانحراف والعجز، وتتأبى على عناصر الحق والرشد، التى عرفها سلفها فكانوا الأمة الأولى فى العالم. ص _005(1/2)
وأنا أعرف صدى هذه الصيحة فى نفوس كثيرة! سيقول كثيرون: رجل متدين يريد العودة بنا إلى المسجد! أو يحدثنا عن الروحانيات والدار الآخرة..! وما أنكر صلتى بالمسجد ولا تعلق قلبى به! وما أنكر شعورى بالدار الآخرة، وضرورة الإعداد لها! إن إنكار الحقائق ضرب من السفه، والإيغال فى الأوهام لا خير فيهء.. جذوز ضاربة فى الماضى البعيد والقريب.. وقد سبق لى الكلام فى هذا الموضوع مثنى وثلاث، فى تفصيل طويل. بيد أننى هنا لجأت إلى نهج أكثر إفصاحا، وذلك لأن دعاة إلى الإسلام يحدون شعوبه المثخنة إلى ذات الطريق الذى آذاهم وجر عليهم هزائم هائلة. وقد رأيت أصوات الجهال تعلو، تساندها قوى شريرة، وأصوات المصلحين تخفت لأن أعداء الحق يخشون عواقب صحوة حقيقية للأمة الإسلامية... بل قد يكون من أعداء الإسلام أشخاص يلحون فى الانتماء إليه، والحديث عنه! أى حديث؟ حديث يتناول مشكلات موهومة، ويتجاهل مشكلات قائمة، حديث يزيح الغبار عن الصورة الموجودة، ولا يعيد تشكيل هذه الصورة وفق ما للإسلام من ثقافة ذاتية وسياسية قويمة. إننى أعلن أن ولائى الأولى والأخير للإسلام، كما بلغه نبيه، ونفذه خلفاؤه، لا كما فعله الحاكمون باسمه، أو الجاهلون به، مهما بلغت مزاعمهم. محمد الغزالى القاهرة- 198 ص 5_006(1/3)
أين الخلل...؟ فزعت لما سمعت قائلا يقول: إن ألف مليون صينى قدرت الشيوعية على توحيدهم فى دولة كبرى على تنائى الديار واتساع الأقطار، أما الألف مليون مسلم فيبدو أن الإسلام عاجز عن جمع كلمتهم وحشدهم تحت راية واحدة. ! قلت: ويحك، أبصر ما تقول..! قال: هل ذكرث إلا الواقع؟ فأجبته على عجل: لو كانت الشيوعية تجمع لسدت الفجوة بين الصين وروسيا، أو بين الروس وأوروبا الشرقية التى تعنو (1) لهم راغمة.! قال: هناك أسباب عارضة لهذه الجفوة! قلت: أولى بك أن تلتمس هذه الأعذار للأمة الإسلامية، بدل أن تتهم الإسلام نفسه بالعجز عن لم؟ الشمل وتكوين الوحدة الكبرى..! وعدت إلى نفسى أفكر وأراجع وأتدبر! إن الأمة الإسلامية تعانى صدوعا هائلة، وهى الآن موزعة على أكثر من سبعين قومية، أو سبعين جنسية سياسية بلغة هيئة الأمم ولغة "جوازات السفر" على سواء!! والإسلام سواء كان عقيدة أو شريعة كملة ليسى لها رصيد، وأتباعه ئنال منهم ولاينالون، ويجار عليهم ولا يجيرون! وذئاب الشرق والغرب تغير عليهم فتفترس ما شاءت من القطعان السائبة دون أن يتمغر وجه!!. إن إحراج يهودى واحد فى روسيا يثير عاصفة من الكلام حول حقوق الإنسان، وحول عداوة السامية، أما مقتل المئات والألوف من المسلمين فى إفريقية وآسيا وأوروبا فالخطب يسير! وقد يثار بعض اللغط ثم تنسى المأساة، وأول من ينساها المسلمون أنفسهم... !! ما سر هذا الضياع والشتات؟ ما وراء التفكك والتبلد؟ الحق أن الأسباب كثيرة بين سياسية واجتماعية وثقافية، وأنها بدأت من قديم، ولكن الكيان الحى قد يغالب الجراثيم الوافدة ويهزمها، وقد يصاب بها ويتماسك تحت وطأتها، وربما استطاع العيش زمانا وهو يحس بها ويعالجها بمسكنات موقوتة. بيد أنه سيقع فريستها آخر الأمر، ما دام لم يتناول لها دواء يجلب العافية، ويحسم البلاء..! كان المسلمون من مئتى سنة فقط أشد هيبة وأعز نفرا- مع ما تلاحق عليهم من هزاثم- كانت الأساطيل(1/4)
الأجنبية لا تمر بالبحر الوسيط إلا بعد أن تستأمن من دوله (1) تعنو لهم: أى تخضع وتذل. ص _007
الإسلامية إذ كان المسلمون يفرضون ضرائب على السفن المارة بشواطئهم! وسمعت فى مجلس مؤرخين وساسة- وأنا بالجزائر- أن جورج واشنطن لما انتصر فى حرب الاستقلال واستقرت الأمور للولايات المتحدة، كتب إلى حاكم الجزائر يومئذ ليطمئن على سلامة السفن الأمريكية! مبديا مودته..- وتوجد نسخة بالإنجليزية لهذه الرسائل- كما رفض الجزائريون مهادنة بعض الدول الأوربية، برغم توصية الخلافة العثمانية، وأوقعوا بها- هزائم مذلة...! كان ذلك من قرنين اثنين !! أما اليوم... فالحديث ذو شجون.. والخلافة الإسلامية لم تلق حتفها فى حادثة تصادم، ولم تفقد حياتها عقب اغتيال مفاجىء.. كلا كلا، كان نظام الخلافة يترنح ترنح السكران الفاقد الوعى، وكانت الأدواء الفاتكة تسرح فى جسد الأمة كلها وتهد قواها هذا. ومن ثم فإن السلطان عبد المجيد بعد ما وقع فى قبضة الإنكليزلم يفعلوا به شيئا، كان أتفه من أن يؤاخذ! لقد تركوه لقومه أو لعملائهم الذين زهدوا فى الخلافة وآثروا الارتداد.. إ! وهكذا تلاشت الدولة الإسلامية الكبرى، لقد غرقت فى دوامة من أخطائها قبل أن تنالها سيوف الأعداء..! والبحث عن أسباب الوفاة مطلوب. إن الإسلام ختام الرسالات السماوية، وتاريخ الأولين فى كتابه يحتل أكبر جزء منه، وذلك لتعرف الأمة الأخيرة لماذا هلكت أمم ونجت أخرى؟ ويبدو أن المسلمين يقرأون قصص القرآن للتسلية ويسمعون أنباء الحضارات المدبرة والأمم الهالكة وكأن الكلام لغيرهم!! والغريب أنهم سكنوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهم يؤملون الخير! ووقع منهم ولا يزال يقع اعوجاج خلقى وسياسى يترفع الآخرون عنه، ومع ذلك يحسبون أنفسهم عباد الله الخلصين..! ص _008(1/5)
بعض سنن الله الكونية من القرآن وأريد قبل شرح العلل التى أومأت إليها أن أذكر طائفة من سنن الله الكونية فى بقاء الأمم وهلاكها، فإن القوانين القرآنية فى هذا المجال لها دقة القوانين العلمية، التى تسمح بجرى السفن فى البحار، ودوران الآلات فى المصانع...: 1- فى سورة القصص: شرح مستفيض لعواقب الحكم الفردى والاستبداد السياسى، وشرح آخر لعواقب الطغيان الاقتصادى، والاغترار بالمال العريض، أوجزه المولى تبارك اسمه فى هذه الخلاصة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). فهل أجدت هذه الخلاصة فى محاربة الفرعونية الحاكمة والقانونية الكانزة؟ أم شاعت هذه وتلك فى تاريخنا القريب والبعيد. 2- فى سورة يوسف: وفي أطواء فصول مثيرة من الغربة والشجن والإغرار والظلم، يبرز قانونان جليلان- (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) والآخر(ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) الأول نهج خلقى صارم فى جدوى الاستقامة، والثانى الاستناد إلى الله فى ارتقاب مستقبل أفضل مهما أظلمت الآفاق فى مرأى العين، فهل تتم تنشئة الشباب على هذه القواعد؟ أم التعلق بالقشور هو ديننا؟ 3- بدأت سورة محمد أو سورة القتال بهذه الآية: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) . ألا تلمح فى هذا المطلع الحاسم أن الإلحاد مهما صحبة من علم مشئوم النهاية، وأن الكفار والفتانين مهما بلغ ذكاؤهم لابد أن يحرموا بركات الله ويواجهوا الفشل والدمار، وأن التعويل إنما يكون على الإيمان والإصلاح؟ ص _009(1/6)
4- الرغبة والرهبة أحاسيس مجنونة تلمسها وراء الطمع الجامح والخوف المذل، فهل يعانى من ذلك إنسان أو شعب يفهم قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ). إن اضطراب الأعصاب، ومستشفيات الأمراض النفسية، وحوادث الانتحار تملأ أقطار الغرب لنضوب هذه الروحانية وانطلاق الجماهير وراء الماديات لا تدرى سواها، فكيف حصنا أنفسنا من هذه الأوبئة..؟ 5- تدبر هذه الخلاصات المعتصرة من تجارب التاريخ، ومن حصاد الأمم القائمة والذاهبة وسل نفسك: كم أفدنا نحن المسلمين من تقرير القرآن لها؟ تدبر هذه الحكم القرآنية التى تمثل قوانين كونية صارمة... يقول تعالى فى تقعيد واحد من هذه القوانين: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون). 6- وتأمل القانون الأخر فى قوله تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). 7- وتأمل هذا القانون أيضا: (يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث). 8- وهذا قانون أيضا: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) 9- وقانون آخر يقول: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). ص _010(1/7)
(10) وفى قانون آخر يقول القرآن: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ). إن القوانين العشرة السابقة نموذج لما يكفل الحضارات، ويحصن الأمم، ودراستها حياة ونماء للعقائد والأخلاق، ومهما كان الوزن لفروع الفقه فهذه الأصول أسبق، والعكوف عليها أجدى، ذلك أنها حقائق، والمقابل لها أباطيل، أو أنها معروف، والمقابل لها منكر. أما الاختلاف فى كثير من الأحكام الفقهية فلا يعدو أن يكون وجهات نظر قد تكون متساوية الأجر عند من يصوبون كل اجتهاد، أو متفاوتة الأجر عند من يرون المجتهدين عرضة للخطأ والصواب...!! يقول فقهاء "مثلا": لابد من قراءة فاتحة الكتاب وراء الإمام، ويقول فقهاء آخرون لاتجوز قراءتها!! ليكن هذا أو ذاك، وليختر من يشاء ما شاء، فما يقوم الدين أو ينهدم بأحد المذهبين، إنما يضيع الدين والدنيا معا بذهاب الخشوع واستحكام الأثرة، وإطاعة الهوى، والذهول عن سنن الله الثابتة فى استخلاف الصالحين، وتأديب الجهلة، وإهالة التراب على ما يفعلون. ويسرنى أن أنقل هنا كلاما للشيخ العلامة "محمد رشيد رضا" يؤكد هذه الأقوال: ، لم يقصر المصنفون من المتقدمين والمتأخرين فى شىء من علم الكتاب والسنة، كما قصروا فى بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سنن الله تعالى فى الأمم! والجمع بين النصوص التى وردت فى ذلك، والحث على الاعتبار بها! ولو عنوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام، وقواعد الكلام، لأفادوا الأمة بما يحفظ دينها ودنياها. وهو ما لا يغنى فيه التوسع فى دقائق مسائل النجاسة، والطهارة، والسلم، والإجارة، فإن العلم بسنن الله تعالى فى عباده لا يعلوه إلا العلم بالله تعالى، وصفاته، وأفعاله، بل هو منه.، أو من طرقه ووسائله لما. ص _011(1/8)
وقد فطن لهذا الحكماء من العلماء فقال "أبو حامد الغزالى" فى بيان القدر المحمود من العلوم المطلوبة- من كتاب العلم فى الإحياء-: ، أما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء، فهو العلم بالله تعالى وبصفاته. وأفعاله وسننه فى خلقه، وحكمته فى ترتيب الأخرة على الدنيا! إن هذا العلم مطلوب لذاته "!! ثم فضل (أبو حامد الغزالى" أهل هذا العلم على جميع العلماء من متكلمين وفقهاء! وأيده فى ذلك "العزبن عبد السلام "، إذ استفتى فيه، فأفتى بصحته! وبين "الغزالى" أن هذا العلم هو الذى امتاز به عظماء الصحابة - رضى الله عنهم- وأنه الذى عناه اعبد الله بن مسعود لما قال فى موت عمر بن الخطاب: "مات تسعة أعشار العلم... ". ورواية أبى خيثمة: "إنى لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم! !" أقول: كان عمر رضى الله عنه أبصر الناس بطباخ الشعوب، وأسباب ازدهارها، واندثارها، وكيف تبنى الدول، وتصان، وتنصر، وتؤدى رسالتها... وسياسته فى المال والحكم أمارة وعى عميق بالإسلام وغاياته... لقد بدأ المسلمون رسالتهم العالمية بداية حسنة، فكانوا- أمة ودولة- نموذجا حسنا لتعاليم الإسلام، واستفادوا استفادة صادقة من تاريخ الأمم الأولى. جاء الخليفة الأول وليد شورى حرة وبيعة نزيهة، وباشر منصبه، فقلت نفقته، وهو حاكم يكدح للمسلمين، عن نفقته وهو تاجر يكدح لنفسه! ثم شاء ألا يموت حتى يرد إلى بيت المال كل درهم أخذه منه أجرا على عمل، لتكون ولايته كصلاته، وصيامه، وحجه ابتغاء وجه الله، وترفعا عن ذرة من الدنيا...!! وجاء الخليفة الثانى بعد استطلاع للرأى العام لم يكن منه بد، لم يكن عنه عوض، فإن جيوش المسلمين مشتبكة مع الفرس والروم شرقا وغربا، فيستحيل أن يتم انتخاب... وسار عمر سيرة سابقه عدالة وعفة. وإذا كان المهازيل فى عصور كثيرة يسمنون بعد تولى المناصب، فإن عمر خرج من منصبه عاريا من أعراض الدنيا كلها، وقتله علج حاقد فى بيت الله ، وهو يؤم الركع(1/9)
السجود.. ص _012
وإذا كانت الأقطار المفتوحة تشك صلف الغزاة، فإن عمر أبى إلا أن تعرف الشعوب معنى الحكم الجديد، فما كاد يسمع أن ابن عمرو بن العاص والى مصر أهان أحد الأقباط، حتى استدعى القبطى المظلوم، وأعطاه السوط ليجلد ابن الوالى القرشى المعتدى...! هل يعى تاريخ الفرس والروم، أو تاريخ الإنجليز والفرنسيين مثل هذا الدرس ؟ وجاء الخليفة الثالث وليد شورى من كبار الصحابة، وكان رجلا ذا مال فى الجاهلية والإسلام، عرك أذن خادم له من العبيد. فرأى أنه أوجعه، فأعطى أذنه هو للعبد قائلا: اقتص لنفسك، وخجل الخادم! وألغ عثمان لأنه يخشى يوم الحساب! إن فتنا عمياء أحاطت بهذا الخليفة- وهو من أنبل خلق الله- فطاحت به، وكان من ورائها ائتمار اليهود والمجوس وسذاجة العرب الذين يعرفون معارك النهار ولا يعرفون مؤامرات الظلام، ودسائس المهزومين من وثنيين وكتابيين.. وجاء الخليفة الرابع على بن أبى طالب، وهو رجل أوتى الحكمة والفروسية، وطلب الأخرة، وازدراء الدنيا، بل إن فضائل الإسلام التقت فى إهابه وتمثلت فى جهاده، وقد انتهت دولة الخلافة به، لأن مصابه فيمن حوله كان أشد من مصابه فيمن قاتله...! وتلاحظ على دولة الخلافة هذه الخصائص: أن الخليفة من أكفإ رجال الأمة وأقدرهم على قيادتها. وأن الشورى كانت مرعية، فلا افتيات، ولا استبداد. ولا استعلاء. وأن يد الخليفة فى المال العام كانت مغلولة، فلا يستطيع توسعا، ولا استغلالا أبدا. وأن العمل بالإسلام وله فى الداخل والخارج كان شغله الشاغل،ويمكن القول: إن الدولة فى صدر الإسلا كان الوجه الجميل للرسالة الإلسلامية، وكانت صورة حسنة للأمة الإسلامية... ثم بدأ تحول يجب عرضه بدقة، نشأ عن طبيعة العرب أنفسهم! فالعرب تشيع فيهم العصبية القبلية، ولهم اعتداد منكر بالأنساب والأحساب، ونزعاتهم الفردية طاغية. وقد قمع الإسلام هذه الجاهليات فى سيرتهم، بيد! أن غرائز هذا الجنس القوى لم تلبث أن اقتحمت(1/10)
سياج الكبت، وفرضت نفسها على شعبة ص _013
الحكم فى الإسلام! ثم فرضت نفسها على شعب أخرى اجتماعية، واقتصادية، وخلقية... وهذا التسلل العربى المنحرف المغالب لتعاليم الدين بدأ- لا أقول- على استحياء بل على استخفاء وخبث، فإن الجماهير من العرب وغير العرب كانت أمينة على دينها، حريصة على العيش فى ظلاله، فكيف تستطيع العصبيات الشريرة التنفيس عن ذاتها فى هذا الجو؟ على كل حال لقد بدأت التحرك رافعة علم الدين!! وإنى لأعجب: لماذا يرى عربى ولد فى بطحاء مكة أن لسلالته الحق فى حكم شواطىء الهادى والهندى والأطلسى؟ ألأن أباه عمدة فى الجزيرة العربية والشام والعراق؟ ولماذا يخمل نظام الخلافة على عاتقه هذا العبء الثقيل؟ وماذا كسب الدين نفسه من هذه الذرية من الضعفاء أو الأقوياء (1)؟ لكن بنى أمية، ثم بنى العباس فعلوها، فاستصحبوا نسبهم "العريق " وهم يفرضون أنفسهم حكاما على الأمة، يسوغون وجودهم وحدهم فى مناصب القيادة، بأنهم أقدر من غيرهم على خدمة الإسلام ونشر دعوته!! قد تقول: ما لنا ولهذا التاريخ القديم؟ ولماذا ننبش القبور؟ والجواب أن الأمر ليس أمر فرد ما، أو جنس ما، إنه أمر دين يجب إنصافه.. فإن "الحكم " هو أول ما انحل من عرى الإسلام، وأمست "الدولة ورجالها" فى أغلب الأعصار والأمصار الوجه الدميم للإسلام، لأسباب ينكرها الدين نفسه. ذلك أن الخليفة لم يكن أقدر الناس على القيادة، ولا من أقدرهم، أى أن الكفاءة استبعدت فى الترشيح للمنصب! ثم وهنت أو ماتت أجهزة الشورى، وانفرد بالتصرف عقل واحد يزعم لنفسه الكثير! وانطلقت الأيدى فى المال العام تغرف منه دون حسيب ولا رقيب، وذهبت قناطير منه للخدامين والمداحين، واضطرب العمل بالإسلام فى الداخل والخارج على سواء، بل لم توجد أجهزة رسمية متخصصة للدعوة (1) عندما يكون الخليفة أهلا للخلافة مستوفيا لشروطها مؤديا لحقها.. لا يهمنا أن يكون من أى بلد أو قبيلة لكن عندما يكون غير مؤهل..(1/11)
ئم يفرض لمجرد أنه من بلد معين أو قبيلة معينة.. هنا يكون اعتراض الإسلام. ص _014
فى أنحاء العالم، ففحش الجهل بالإسلام، وحسب الأجانب أن الإسلام دين قتال وحسب! ربما وهم البعض فظن أن هذه العلة العارضة أصابت الإسلام بشلل مبكر! وهذا جهل غليظ، فإن الإسلام ليس حزبا سياسيا قصاراه طلب السلطة! إنه دين يهيمن على النفوس والأفكار، ويسوس الناس أولا بالعقائد والعبادات والتقاليد التى يضعها، والأخلاق التى يربى عليها، والتعاليم التى ينشرها، والشعائر التى يرفعها. والسلطة التنفيذية جزء من منهاجه، وهو لم يفقدها منذ بدأ مسيرته، وإنما استولى عليها من ليس لها بأهل! وبقى عدد هائل من العلماء والمربين والدعاة والموجهين والعمال الأتقياء، والولاة المحتسبين يعملون للإسلام بصدق وحماس، ويوسعون دائرته لتنداح شرقا وغربا، فكان انحلال عروة الحكم آفة تحملها الكيان القوى كما يتحمل الإنسان السوى صداعا اعتراه، أو كما يتحمل الشاب الجلد دوارا ينتقص قواه... وإنما ظهرت المأساة مع مر الزمان وترادف البلاء وشيخوخة الدولة، وضعف أجهزة المناعة، وقدرة الجراثيم الكامنة على الفتك دون وجل... إن المرض العابر سهل الدواء، وقد يزول وينسى، وتذهب أثاره! لكن غلبة النزعات البدوية، والعصبيات العائلية على نظام الخلافة خفف شرورا شرحناها فى أماكن أخرى، لعل من بينها رخص الكفاءة العلمية والخلقية والإدارية فى أسواق التعامل، واعتقاد الكثيرين أن التقدم والتأخر حظوظ عمياء أو أنها من قبيل المنايا التى قال فيها زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ يعفر فيهرم !! وهذا الاعتقاد وحده قاتل للأمم، فكيف لا ينال من رسالة عالمية كالإسلام؟ والأغرب أن ترادف الفساد نضح على الميدان العلمى نفسه، فرأيت "علماء دين " يستخفون بالشورى، ولا يسمحون لها أن تعترض الحاكم إذا ارتأى رأيا.. ويتحدئون فى جراءة أن الشورى غير ملزمة للحاكم الفرد! وهم معذورون فى هذا(1/12)
الخبط! فإن أحد المفسرين شرح قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر). فقال: " ثم امض على الأرشد لا على الشورى " !!. أى أن ما اتجه إليه هو ص _015
الأرشد! وما ارتأته الجماعة هو الأفسد!! وتذكرت وأنا أقرأ هذا اللغو قول فرعون لقومه (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) .... وكان فرعون يرى قتل موسى! لماذا؟ يقول: (أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد). فرعون يخاف من فساد موسى!! هذا هو الرشآد الذى يجب أن يطاع..! ومألوف فى سيرة الحكم الفردى الإغداق على المؤيدين والأتباع، والشح أو الحرمان للمخالفين والمعارضين، والرأى النزيه لا يتماسك فى هذا الجو النكد، ولذلك كان الحق مرا! وربما كلف الحياة نفسها، أما الملق فباب واسع إلى الثراء والرفاهة. وهل ضاع دين الله ودنيا الناس إلا بهذا المنطق الوضيع؟.. ذهب رباط المبادئ وبقى رباط المآرب والمنافع! ذهب الحب والبغض فى الله، وبقى الحب والبغض لدنيا تنال، أو لشخص يلتمس فى جواره الجاه والمال... وذكرت قصة جرير مع عبد الملك بن مروان ، وهو خليفة خطير المكانة، أو هو المؤسس الثانى لدولة بنى أمية، جاءه جرير الشاعر ينشده قصيدته المشهورة التى مطلعها: أتصحو أم فؤادك غير صاح...؟ فقال عبد الملك: بل فؤادك أنت! إن مطلع القصيدة لم يسره...! ولكن الشاعر مضى حتى بلغ هذا البيت: ألستم خير من ركب المطايا؟ وأندى العالمين بطون راح! فطرب عبد الملك طربا شديدا، وقال: بلى نحن كذلك.. خير من ركب المطايا، وأسخى الناس أيادى.. وانفتح بيت المال ليأخذ جرير منه ما يشتهى! وعطايا الخلفاء للمداحين لا نهاية لها، ألهذا أنشئ بيت المال؟! قال لى صديق: ذهب وفد من مصر إلى واشنطن عقب اتفاق "كامب ديفد" وكان ص _016(1/13)
يضم أكثر من مائة شخص، وأقيم لهم حفل طعام فى البيت الأبيض، فكتب صحافى أمريكى يستنكر إقامة حفل لهذا العدد الكبير، وقال: إن دافع الضرائب فى الولايات المتحدة لم يقدم ماله لمثل هذه الأغراض وأسرع البيت الأبيض يعلن أن نفقات الحفل قامت بها إحدى الشركات، ولم تتحملها الدولة...!! إن المال العام لشى كلأ مباحا، يتخوض فيه الحاكمون بغير حق، وصون هذا المال جزء من النزاهة التى تحترم بها الدولة.. وسيرة الخلفاء الراشدين بالغة الدقة فى احترام المال العام، ولأمر ما رفض علماء الإسلام إضفاء صفة الرشد إلا على دولتهم وحدها، ثم ضموا إليها خامسا هو عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه!. إن علماءنا قديما لم يخونوا دينهم، والأئمة الأربعة ومن داناهم قى مكانتهم، وجمهور المربين والدعاة، التزموا هذا النهج، ثم جاء علماء سوء رأوا الجبن أنجى فآثروا الصمت! ثم جاء خلف آخر يرى إرضاء المستبدين من الدين...! الخلافة الراشدة أبوة محبة، ورياسة حانية! ورباط بالأتباع والأعوان على إنجاح رسالة، وحماية دعوة ، أما الخلافة غير الراشدة فالمحور الأول لنشاطها هو امتلاك السلطة وإدامتها! وتجىء الأهداف الأخرى تابعة.... وتأمل فى معاملة القادة الكبار بين هذين المثالين: لما قتل النعمان بن مقرن فى معركة "نهاوند" بعد ما أجهز على المجوسية والكسروية، جاء البريد إلى المدينة يحمل نبأ استشهاده، وكان عمر فى إحدى مراحل الطريق يتشوف للأنباء، فلما سمع الخبر شهق بالبكاء حتى أن عامل البريد فزع لحزنه، وقال لأمير المؤمنين مسليا: ليس هناك غيره من القادة أصيب! فقال عمر: هناك فقراء المهاجرين الذين لا يضيرهم أن يسمع بأسمائهم عمر! ذاك على عهد الخلافة الراشدة! أما فى عهد آخر فإن قادة الفتوح العظام فى المشرق والمغرب لقوا معاملة منكرة! فتل محمد بن القاسم فاتح السند، وأهين وعزل موسى بن نصير فاتح المغرب والأ ندلس، لأسباب لا تشرف نظام الحكم.. ولو أن الخلافة(1/14)
الراشدة باقية، لكان للقادة العظام شأن أخر، بل لمضى الفتح فى طريقه يؤدب الأوروبيين، ويتيامن حيث وصل إلى جنوب فرنسا، وجبال سويسرا ليشق طريقه نحو ص _017
النمسا والبلقان والقسطنطينية فى شرق أوروبا ، وبذلك يعود إلى الشام متمما الرحلة التى بدأت من مصر .. إن الخلفاء الأكاسرة لا يكترثون بذلك ! لقد هاجت القومية العربية بغتة فى دمائهم ، وعادت إليهم حمية الأنساب ، وتقاليد البسوس وداحس والغبراء ، ورجحوا وساوس هذه العروبة الرعناء على وصايا الدين الذى ما كانوا قبله شيئا مذكورا ، وهزموه آخرا بعد ما نصرهم أولا .. وإن تعجب فاعجب لبعض العلماء الذين يريدون أن يسوسوا العالم اليوم لا بمواريث الخلافة الراشدة ! بل بتقاليد البدو ، ومزاج القبائل فى الصحراء ، محرفين الكلم عن مواضعه ، وذاهلين عن فطرة الله فى الأنفس وآياته فى الآفاق . ص _018(1/15)
تسلل آخر فى الميدان الاجتماعى إذا كانت الخلافة الراشدة قد تلاشت أمام تقاليد العرب القديمة وأمسى للشورى مفهوم مائع غامض لا وزن له، فإن هناك هزيمة أخرى لتعاليم الإسلام فى الميدان الاجتماعى ينبغى أن نلقى الأضواء عليها. من بدء الخليقة والنوع البشرى يحيا ويبقى بالزوجين الذكر والأنثى، ولكلا الجنسين خصائصه التى فطره الله عليها، ويمكن القول بأن الذكورة أخشن وأقوى من الأنوثة، وأن الأنوثة أصبر وألين من الذكورة، ولكن كليهما يكمل الآخر، فهذه في تلك، وأواصر النسب إلى آدم واحدة أو هى كما عبر القرآن الكريم:( لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ). ، ولكن ازدراء الأنوثة، واستضعافها، وإنكار حقوقها الطبيعية خلائق مألوفة من زمن بعيد، وبعض المجامع الأوربية كان يتساءل: هل المرأة من الجنس البشرى العادى كالرجل؟ وهل لها روح مثل روحه؟ والقوانين الأوربية على مر التاريخ كانت تكرم الرجل وتنتقص المرأة... وهناك نماذج وحشية لإنكار حق الحياة على المرأة، ففى بعض أرجاء الهند كان الزوج إذا مات وجب أن تموت المرأة معه مهما كانت صحيحة البدن! وليس أغبى من الهنود- فى هذا الحكم- إلا عرب الجاهلية الذين يتشاءمون لمولد الأنثى، وقد يئدونها فتلفظ أنفاسها الواهنة تحت التراب! إن الأب السامى القذر يخاف إذا عاشت البنت أن تجر عليه العار، وما العار عند هذا الخلوق؟ يقول عربى ضائق بالأنثى: والله ما هى بنعم الولد! نصرها بكاء، وبرها سرقة!! يعنى أنها لا تحسن القتال فتنصر عشيرتها، ولا تقدر على الكسب فتبر أهلها من مالها، وإنما تأخذ من مال زوجها لتعطى أهلها إن كانوا فقراء. ص _019(1/16)
ونسأل: من وراء تجهيلها فى فنون الحرب؟ إنه أبوها الكاره لها! ومن وراء تجهيلها فى كسب الرزق؟ الجواب نفسه... إن اليهوديات فى فلسطين المحتلة يزرعن الأرض، ويحملن السلاح، ويقاتلن رجالنا بشراسة.. وقد جاء الإسلام فاحترم الأنوثة، واستبعد كل النظرات السيئة إليها، ورفض أنواع الإهانات التى كانت تلقاها، وعدها جزءا من حقيقة الإنسانية التى جاء لتزكيتها... ووعى المجتمع العربى على عهد السلف الأولين المرأة تتردد على المسجد من الفجر إلى العشاء، وتتعلم الدين كما يتعلم الرجل، وقد تقاتل مع المقاتلين! وقد تداوى الجرحى، وتدفن الموتى، وتأمر وتنهى وتنصح... إلخ. إلا أن التقاليد العربية الجاهلية التى كانت تجتاح الأنوثة قديما، وتجاوز حقوقها المادية والأدبية، عز عليها أن يطفر الإسلام بالمرأة هذه الطفرة، فعادت تسلب ما منح الدين، وتنكر ما أقر، وتعامل المرأة على أساس أنها متعة وحسب! ومن ثم صدر تحريم- من جهات غير معروفة- بألاتصلى امرأة فى مسجد (1) وظل هذا الحظر قرابة اثنى عشر قرنا، ولا يزال إلى الآن يقاوم نصائح المصلحين. وصدر تحريم مثل الأول بألا تنتسب! إلى مدرسة، ولو لمحو الأمية! بله التعليم المتوسط والعالى... ولولا ضغط شديد من أولى النهى ما أمكن تعليم النساء فى عصرنا، ولبقين لا يعقلن شيئا من أنواع العلوم.. وصدرت فتاوى مكذوبة بأن وجه المرأة عورة "ولو من غير فتنة" وصوتها عورة وأخذت الفتوى حكم الأمر اللازم ولشى الرأى الاحتمالى، وقيل إن المرأة إجمالا لا علاقة لها بالنشاط الثقافى والاجتماعى!، أما سائر الأ نشطة المدنية والعسكرية فالوجود النسائى فيها منكر غليظ جملة وتفصيلا...! والحق أن الشريعة الإسلامية فى شئون النساء تخرج من بين فرث ودم، فالجاهلية العربية التى فرضت نفسها مئات السنين مرفوضة، والجاهلية الأوربية الوافدة مرفوضة (1) من الغريب أنهم فى هذه القضية يفضلون كلام بعض الصحابة الذى لا يعدو أن يكون استياء من(1/17)
بعض المخالفات- على كلام الرسول الواضح الحاسم فى أنه لا يجوز مغ إماء الله مساجد الله (! !). ص _020
هى الأخرى، وبعض المتحدثين فى الإسلام يبغى العودة بالمرأة إلى التقاليد البدوية، أو الأوضاع الجاهلية المزدرية للأنوثة... كما أن بعضا آخر يريد تقليد أوربا فى كل شىء، وأحكام الإسلام أشرف من أن يثرثر بها هؤلاء وأولئك... قدم إلى شاب متدين كتيبا ألفة عالم يدعو للنقاب، يحكم بالفسق على السوافر من النساء، ومددت بصرى إلى السطور الأولى فوجدت الرجل يقول: إن الإسلام حرم الزنا فوجب ستر الوجه سداً للذريعة! قلت: استدلال ساقط، فقد طلب الإسلام كشف الوجه فى الحج والصلوات، فهل كان بذلك يحرض على الفاحشة؟ وروت كتب السنة الصحاح نحو عشرة أحاديت تفيد أن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى الوجوه مكشوفة فما أنكر ذلك، فهل كان يقر المنكر؟ واستثنى القرآن الكريم الزينة الظاهرة مما ينبغى ستره، فأين تكون هذه الزينة يا ترى؟ الحق أن نصوصا صحيحة أهملت عمدا، أو حرف معناها، وقدمت عليها أحاديث موضوعة تحض على جعل النساء أميات، أو أخبار واهية تفيد أن المرأة لا ترى أحدا، ولا يراها أحد، وهى آثار منكرة تخالف مخالفة جلية ما ثبت عن السلف الأولين بطريق التواتر أو الصحة، وقد أخذ المسلمون فى تجهيل النساء، وإهمالهن حتى أصبحن فى العصور الأخيرة من سقط المتاع، وأصبحتا الأ نوثة رمز الهوان، وتفاهة الشأن... كنت يوما أطالع إحدى الصحف، وكان فى صدرها صورة لرئيسة وزراء إنجلترا "تاتشر" فقال لى شاب يرقبنى: أترى هذه الصورة؟ قلت نعم! فاستتلى: أيعجبك هذا؟ قلت: قومها يصفونها بأنها امرأة حديدية! وقد أعجبنى موقفها فى مجلسى العموم وهى تطالب بإعادة عقوبة الإعدام إلى القانون الإنجليزى. صحيح أن المجلس خذلها، بيد أنى أراها أذكى وأبصر للحق من مائتى عضو عارضوها. وانتصروا عليها... إن مسئوليتها عن الأمن أقنعتها بضرورة القصاص، وهى أرشد وأعدل من الرجال الذين(1/18)
قاوموها! وأراد الشاب مقاطعتى، فقلت له: وشىء آخر سرنى منها عندما حاربت انجلترا ص _021
الأرجنتين- وكانت هذه المرأة تقود قومها- رئيت ترتدى السواد باستمرار، كانت ترى كل جندى يقتل من أبناء وطنها أخا، أو ابنا فهى تلبس عليه الحداد، وترفض كل اشارة للسرور والبهجة!! إنها فى نظرى أفضل من حكام فى الشرق لهم شوارب ولحى! قال الشاب: ألا ترى رأسها العارى؟ قلت: أدب إسلامى ينقصها، والإسلام يرى أن الرأس عورة يضرب عليها الخمار، وسواء كانت العورة مغلظة كما يقول الأئمة أو مخففة كما يقول المالكيون، فالشعر ينبغى ستره احتراما لتعاليم الدين. وكل ما أضمه إلى هذا الحكم أن داخل الرأس أهم من خارجه أعنى أن الذكاء أو الغباء والعلم أو الجهل قضايا أخطر من غيرها، ولا تغض! من الأدب المطلوب. لا نريد النمط ولا التقاليد الجاهلية وربما سارع البعض إلى اتهامى بالميل إلى الحياة الغربية، وقبول وضع المرأة فيها! وجوابى أنى أنكر هذه الحياة، بقدر ما أنكر المواريث التى اكت إلينا ترخص الأنوثة، وتجمد إنسانيتها، وتستكثر عليها حقوقا منحها الله إياها.. إن لأوامر الله مكانتها العالية، وإنى لأرفض إعطاء هذه المكانة تقاليد قبلية ما أنزل الله بها من سلطان. إن المسلمين فى الأعصار الأخيرة فتكت بهم أمية طامسة، وكانت بالنساء أفتك! وغابت عنهم هدايات الله فى تفتيق الألباب، وتنمية الفضائل، وكانت عن النساء أبعد! واختفت حقيقة الإنسان وراء تزاويق ومراسم مفتعلة، وكان نصيب النساء بعد هذا الاختفاء أن أمسين أجسادا تلف بالثياب، وتربى وراء الأبواب، فلا علم ولا عمل، ولا رأى ولا نصح، ولا عبادة ولا جهاد. إن الجاهلية القديمة سمحت لنسوة تقيات أن يشاركن فى بيعة العقبة، ما وضعت على أيديهن قيدا! أما المسلمون فى القرون الأخيرة فيستحيل أن تسمح تقاليدهم بذلك! حدث فى حروب الردة أن أسر خالد بن الوليد مجاعة بن مرارة سيد أهل اليمامة، فأوثقه ورمى به عند امرأته(1/19)
أم تميم فى فسطاطها وحفظت المرأة أسيرها فلم ير الأسير منها إلا الشرف والصدق! ص _022
وجال المرتدون جولة هزموا فيها المسلمين، واقتحموا فسطاط خالد، وحمل رجال منهم بالسيف على أم تميم، فألقى الأسير رداءه عليها وقال: أنا لها جار فنعمت الحزة والله ما علمت! دعوها وعليكم بالرجال! ثم عادت الكرة للمسلمين. واستعادوا الفسطاط، وأخذوا يقتلون محتتليه، ووضعوا أيديهم على الأسير ليقتلوه! فقالت أم تميم: أنا له جارة.. فتركوه. كانت للمرأة شخصية، ومكانة فلم يحاول أحد مراجعتها أو تخطئتها، ونحن نعرف حديث: " قد أجزنا من أجرت يا أم هانىء "! أما الأعصار الإسلامية الأخيرة، فبين المرأة وهذه الأخبار بعد المشرقين..! أحيانا تملكنى الحيرة وأنا أوازن بين الجاهلية العربية، والجاهلية الأوربية القديمة أيام الصقالية والإغريق... التماثيل اليونانية والرومانية تنحت مشكوفة السوأة للرجال والنساء عموما على عكس الأدب والحياء الظاهرين فى تماثيل قدماء المصريين! الهة الإغريق منحلة وشاذة. ومجالس الفلاسفة قد يقع فيها الخنا، وقد يرى بعضهم إشاعة النساء..!! أما العرب الأقدمون فأساس خلائقهم التحفظ، وإن وجدت أندية فاجرة فى قرى المؤتفكة. وسمع إفحاش سخيف فى شعر امرئ القيس مثلا.. لندع البحث التاريخى فى طباخ الأم، ولا داعى للربط بين الأمس البعيد واليوم الحاضر ولنذكر ما نقبله وما نأباه فى العلاقات بين الجنسين على ضوء من الدين وحده، ودون اكتراث لطبائع الشعوب، أو مزاجها فى التحليل والتحريم، إننى أشعر بمدى تسفل الغرب عندما تطيح تقاليده بعفة فتيات لم يتجاوزن بضعة عشر عاما من أعمارهن. وأشعر بمدى قسوة الشرق عندما تبقى نسوة أبكارا فى بيوتهن وقد بلغن الستين والسبعين... أى دين يقبل هذه التقاليد أو تلك؟؟ التسول الجنسى فى الغرب محا قواعد الحلال والحرام، فاستبيحت الأعراض طواعية وكرها، وتقاليد الكبت عندنا عسرت الزواج بعلل مفتعلة، وبدأت تجرف(1/20)
الشباب إلى الفاحشة. وناس من المتحدثين باسم الإسلام يحرسون هذه التقاليد، ويزدادون بها تشبثا كلما رأوا مباذل الغرب وفتونه، ناسين أنهم يجرون المسلمين إلى بلاء مبين... ص _023
وأبادر إلى القول بأنى ألتزم التزاما تاما بتعاليم ديننا الحنيف، ويستحيل أن أتجاوز نصا قاطعا. أما النصوص المحتملة، والاجتهادات الأخرى، فقد اقتنعت بأمرين: أولها: إن تراثنا الفقهى بحر لجى، وأن فقهاءنا فعلوا الكثير الجدير بالاحترام فى خدمته ونفع الناس به، ولكن الزعم بأن الصواب حكر على مذهب بعينه، وأن الخطأ حكر على آخر زعم بعيد عن الحق. والثانى: إن من حقنا الموازنة بين الأقوال المروية واختيار ما نراه أرجح دليلا وأجدى على الناس وأصلح لتبليغ الدعوة. ونتيجة لهذا الموقف فقد رفضت المذهب القائل بأن الأعجمى ليس كفئا للعربية (1)، ورأيته لونا من التفرقة العنصرية، والمغالاة فى الاعتداد بالأنساب، ولم أحترم إلا الدين والتقوى والكفاءة الشخصية.. كما رفضت كل إلغاء لإرادة المرأة فى الزواج، ولم أعترض مباشرتها للعقد إذا اقتضى وضعها ذلك! ورفضت الطلاق البدعى وأهدرت آثاره كلها!! وأنكرت القول بأن وجه المرأة وصوتها عورة (2) كما يرجف الجاهلون، وحاربت منعها من التعليم كما حاربت بقسوة إغلاق المساجد فى وجهها، ولا يزال جمهور من أدعياء التدين يفعل ذلك.. وقبلت شهادة المرأة فى جميع القضايا المدنية والجنائية فى حدود النصاب المشروع، ولم أفهم وجها لمنعها من الشهادة فى الحدود والقصاص..!! وأيدت فى ذلك الفقه الظاهرى !! وللمرأة ذات الكفاية العلمية الإدارية والسياسية أن تلى أى منصب ما عدا منصب الخلافة العظمى، وتستشار وتشير، ولرأيها وزنه بقدر ما فيه من حق. ولا يسوغ- لا عقلا ولا نقلا- أن يخلو رجل بامرأة، والاختلاط على الصفة الملألوفة فى أوربا مرفوض، ولكن اختلاطا على النحو الذى كان فى المسجد على عهد السلف لا مانع منه، ويجب أن تحكمه آداب الإسلام فى(1/21)
الاحتشام وغض البصر واتقاء الريبة وانصراف كل امرئ إلى واجباته... (1) أحد المذاهب يرى عدم زواج الأعجمى من المرأة العربية. (2) إلا إذا تيقنت الفتنة. ص _024
وينبغى تعليم النساء قتال الشوارع والبيوت من شقة إلى شقة فإن أعداء الإسلام يحتلون أقطارا كبيرة منه ويهددون أقطارا أخرى، والجهاد- والحالة هذه- فرض عين على كل رجل وامرأة. عندما كنت أزور الجزائر سمعت باسم السيدة فاطمة السومرية التى قادت جيشا من أشجع الشباب، وهزمت عددا من الجنرالات الفرنسيين فى معارك ضارية!! واستغربت لأن اسمها- وإن ذكر باحترام كبير- يطوى على عجل.... قلت: إن الفرنسيين يعدون "جان دارك " قديسة، ويسلكون اسمها بين أكابر القادة! ولا يستحون من إبداء الاحترام العميق لذكراها بينما يعدها الإنكليز الذين حاكموها وأعدموها ساحرة مشعوذة.. قلت لمن يحدثنى من الجزائريين: خلدوا سيرة بطلتكم هذه. ودرسوها للبنات فى المدارس والمعاهد، فالذكرى تنفع المؤمنين... لماذا هذه الغمط؟؟ من المحزن أن ينتقل ازدراء الأنوثة من تقاليد الأعراب والصعاليك فى جاهليتهم الأولى إلى المجتمع الإسلامى، ويظهر هذا الازدراء فى أفكار وأحكام وأخلاق تشيع بين الناس وكأنها تعاليم دين! بل لقد حرف كلم عن موضعه وأولت نصوص، وضغف صحيح وصحح ضعيف، لا لشىء إلا لغمط الأنوثة! وأكاد أجزم بأن سوء التربية فى قرون مضت إلى يوم الناس هذا يرجع إلى جهالة النساء وعجزهن إلا عن الوظائف الحيوانية!. كما أن تطلع قائدات النهضة النسوية إلى الغرب، يعجبن ويقتبسن منه، يرجع إلى العرض المكذوب لتعاليم الإسلام، أوبتعبير أدق إلى عرض عادات وأحكام جاهلية على أنها كتاب الله وسنة رسوله.. إن جمهرة من علماء الدين وضعت صعوبات رهيبة أمام تعليم المرأة فى شتى المراحل، ولم تستسلم إلا كارهة!. وهى الآن تضع ذات الصعوبات أمام تردد المرأة على المسجد! أما بقية المقررات الإسلامية التى ذكرناها آنفا فهم يقاومونها كما(1/22)
يقاومون الكفر!. من عشرين سنة كان القضاء الشرعى فى صر يأمر الشرطة باقتياد المرأة إلى "بيت الطاعة" مادام الرجل قادرا على نفقتها، ضاربا عرض الحائط بكراهية المرأة للزوجية، ومطالبتها بإنهاء هذه العشرة!! وكان أهل الزوجة يهزبونها من بيت إلى بيت ويحتالون ص _025
على إبطال هذا الحكم.. ولغطت الصحافة بهذا التشريع المهدر لحقوق الإنسان ونالت من كرامة الدين نفسه ثم جاء أحد وزراء العدل فأصدر أمرا بعدم تنفيذ هذه الأحكام، وبذلك أنقذ المرأة من قسوة الشريعة عليها..! وكتبت يومئذ مقالا نشرته "الأهرام " بحروف كبيرة شرحت فيه حكم "الخلع " وثبوته بالكتاب والسنة، وقلت: إذا كرهت المرأة البقاء مع زوجها رفعت أمرها للقضاء، وردت ما أخذت من مهر، وحكم القاضى بفسخ العقد القائم أو إيقاع طلقة تنهى النزاع، ولا معنى لاعتقالها وجرها إلى أحضان رجل تبغضه بقوة الشرطة، أو الجيش !! وحبذث ما فعلة وزير العدل، وقلت: إنه طبق الشريعة ولم يخرج عليها كما يزعمون.. إن الذى كان يحدث هو بعض التقاليد البدوية المتسللة إلى فقهنا فى غيبة الوعى الصحيح وقد شعرت بحرج بالغ عندما صدرت من أحد العلماء فتوى بأنه- يحرم على المرأة أن تقود سيارتها! إذ قال لى صحافى أريب: إن الحضارة أمكنت المرأة من غزو الفضاء، ولا يزال الدين يحرم عليها أن تقود سيارة على ظهر الأرض؟! أليس من حق الناس أن يسوء ظنهم بالدين ويقصوه عن شئون الحياة؟ قلت: ما حرم الإسلام على المرأة أن تقود حمارة ولا أن تقود سيارة! وأحسب أن ظروفا محلية أوحت بهذا الحكم! وعلى أية حال فهو كلام إنسان، وليس قول الله ورسوله.. إن الإسلام يقول: (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). ولكن التقاليد عند بعض زاحمت الإسلام على تعاليمه، ونالت منها ونحن نتبع الإسلام وحده، ونرفض سائر التقاليد الأخرى عربية كانت أو غربية.. ص _026(1/23)
ضرورة غربلة المنقول من التراث والحضارة الحديثة نقول: يجب أن تغربل التقاليد الشائعة بيننا غربلة شديدة حتى لا يبقى منها إلا ما كانت له بالشريعة صلة، وعلى قدر قوة هذه الصلة وضعفها يكون استمساكنا بهذه التقاليد أو إهمالنا لها..! إن نجاح التصنيع فى عالمنا العربى لا يتم إلا بعد الإجهاز على التقاليد التى تزدرى الاحتراف وتؤخر أصحابه! ربما كره البدوى أن يخرج من تحت الة وهو معفر الجبين أو مزقت الكف، وربما ظن الشرف فى عمل أنضر! إن هذا الفكر لا وزن له، ولا صلة له بالدين، وكل ما انبنى عليه من أحكام فقهية أو آثار اجتماعية فهو باطل، وخير لنا أن نتوب منه توبة نصوحا.. والتقاليد التى تزدرى الأنوثة، وتميل إلى اتهام المرأة وتجهيلها ومنع ترددها على المسجد واستبعادها من ميدان الأمر والنهى والغض كفاءتها إن أحسنت، ومضاعفة العقوبة عليها إن هفت، تلك كلها عادات من رواسب الجاهلية الأولي، والأخذ بها مضاد لتعالبم الإسلام نضا وروحا قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ). والإسلام ليس غرائز جنس ما، ولا عادات بلد ما، إنه تعاليم نزلت من السماء ولم تنبت من الأرض. وقد لاحظت سلطان البيئة فى بعض الأحكام الفرعية يختلف بين قطر وقطر، قرأت ثلاثة شروح لى "متن خليل " الذى يسود المغرب العربى تقرر هذا الحكم "وانتقاب المرأة أى تغطية وجهها إلى عينيها فى صلاة أو خارجها- والزجل أولى- مالم يكن عادة قوم فلا يكره فى غير الصلاة ويكره فيها مطلقا لأنه من الغلو فى الدين " وكراهية النقاب هنا غير طلبه فى بيئات أخرى...! وأرى أن نتفرس بقوة فى المواريث التى آلت إلينا، وعزائم الدين ليست موضع ريبة، إنما تتفاوت الأنظار فى القضايا الثانوية، ومن حقنا أن ننتقى من أقوال مجتهدينا ما يدعم أمتنا فى هذا العصر، وما(1/24)
يجنبنا مزالق وقع فيها غيرنا، وما يبعد عن الإسلام تهما هو منها براء، إن تجارب عديدة يجب أن نعيها من مسيرتنا التاريخية الطويلة خلال أربعة عشر قرنا، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين... ص _027
والحق أن الإسلام تحمل العنت من الساسة الذين حكموا باسمه ونسوا هداه! ومن المجتمعات التى انتمت إليه ثم قدمت مواريثها وأهواءها على مطالبه ووصاياه. وقد ترنحت الدعوة الإسلامية وهى تشق طريقها إلى أقطار العالم فى العصور المتأخرة- والوسيطة- لأ نها حملت مع تعاليم الإسلام أخلاطا أخرى غريبة على وحى الله! بل إن المسلمين داخل أرضهم ذاتها عانوا من إغفال الشورى وتحكم الفرد، ومن فقدان المال لوظيفته الاجتماعية، وعانوا من تحقير النساء وحبسهن دون علم ولا عبادة ولا تناصح، ثم نشأ عن ذلك هبوط إنسانى عام أزرى بهم، وأسقط على مر الأيام مكانتهم ورسالتهم وقذف بهم فى مؤخرة القافلة البشرية بعد أن فقدوا الصدارة عن جدارة لا عن ظلم.. فلما بدأوا يصحون ويتحركون أخذت عقابيل الماضى تعترضهم.. ومن عجب أن تهفوا الجماهير إلى الشورى، فإذا متعالم تافه يفرغ الشورى من فحواها ليخدم الاستبداد السياسى.. واذا مدع للغيرة يقول: المرأة لا ترى أحدا ولا يراها أحد! كأن عصر النبوة كان يقبل المنكر عندما رص النساء صفوفا فى المسجد، وعندما قبلهن عونا للجيش فى بعض المعارك... إن الإسلام يراد هدمه باسم الإسلام! والقائم بهذه المهمة شيوخ أو شباب لا هم من أهل الذكر ولا هم من أهل الفكر... وفى عماء من مخففات المعاصى السياسية والاجتماعية، وتحت ضغط الهزائم، التى نكست أعلام الإسلام فى أكثر من ميدان، ومع صحوة من مراجعة النفس ومحاسبة الضمير، ومقارنة الأمة العليلة بالأم الغالبة، شرع المصلحون يتكلمون ويتساءلون: ما النظام الإسلامى المنقذ وسط هذا الطوفان.؟!! يقول محرر مجلة الفكر الإسلامى السودانية: " إن القضايا المعاصرة التى تحتاج إلى نظر عميق واجتهاد جديد كثيرة(1/25)
ومتشعبة! إلا أننا يمكن أن نشير إلى أهم هذه القضايا إذ لا يمكن بناء دولة حديثة دون البت فيها بصورة أو بأخرى... من هذه القضايا قضية التغير الاجتماعى- أو الانقلاب الإسلامى كما يسميه ص _028
أبوالأعلى المودودى- كيف يتحقق فى ظل الدول العلمانية القائمة اليوم فى بلاد المسلمين؟ هل يتم عن طريق الثورة الشعبية أو الانقلابات العسكرية؟ أم الإصلاحات القانونية من داخل النظام القائم؟ وهل بعض هذه الطرق يجوز فى أقطار معينة ولا يجوز فى أخرى؟ وما هى النظرة إلى هؤلاء الحكام العلمانيين ومعاونيهم ومن رضى بحكمهم من عامة المسلمين؟ ومن هذه القضايا مشكلة نظام الحكم والإدارة فى ظل دولة إسلامية هل تسمح هذه الدولة بالأحزاب والتجمعات السياسية؟ وهل يمكن أن ينفرد حزب إسلامى واحد بالسلطة أم تمنع جميع الأحزاب؟ كيف يكون شكل النقابات والاتحادات المهنية؟ وما دورها فى ظل نظام إسلامى؟ كيف تمارس الشورى، وكيف تنظم أجهزتها؟ ومن هم أهل الحل والعقد فى الدولة الحديثة؟ كيف يتم اختيار الحاكم وكيف يعزل؟ وما هو وضع الأقليات غير المسلمة؟ وهل يجوز إشراكها فى الأجهزة التشريعية والتنفيذية فى الدولة؟ وهل يجوز إشراك المرأة فى هذه الأجهزة كذلك؟ ما هى علاقات الدولة الخارجية بالدول القائمة فى العالم الإسلامى. والدول المجاورة، والدول الكبرى؟ إلى أى حد تناصر الدول الإسلامية المسلمين والمستضعفين فى بلاد أخرى؟ ". إننا تحدثنا فى هذه القضايا، وتحدث فيها المعنيون بحاضر الإسلام ومستقبله، وكان الحديث مشوبا بالمرارة، يستكشف الحقائق بحذر حينا وبجراءة حينا آخر... والسبب أن الاستسلام للواقع الكئيب لسيطر على فقهنا عدة قرون، فرضى باغتصاب السلطة، وأعطى الحكام المتغلبين صفة شرعية!! ورضى بانحرافات ثقافية واجتماعية أخرى، كما يرضى العليل بصحبة داء عز دواؤه. ويخيل إلى أن انهزام دولة الخلافة الراشدة، ئم انهزام القوى المعارضة كلها فى أعصار وأمصار شتى،(1/26)
ترك فى النفوس عقدة لا تحل... بيد أن الله لا يرضى أن تهمل هداياته على هذا النحو، ثم يترك المفرطين دون عقاب! ص _029
لقد قلنا مرارا: إن سنن الله الكونية تثأر ممن يتجاهلها وتواجهه بعواقب تفريطه! وأمة يستقر فيها اغتصاب الحكم (1) وتعشش فى أجوائها الخرافات والانحرافات، لابد أن تدفع ثمن هذا السلوك المعوج، لن يغنى عنها ادعاؤها للإسلام، لاسيما إذا كان حكام الدول "الكافرة" أعدل، ومعاملاتهم لشعوبهم أجدى وأرحم، !إذا كانت هذه الشعوب أدنى إلى منطق الفطرة فى علاقاتها الداخلية. ونحن- مسلمى العصر الحاضر- نذوق ثمار تفريط قديم! ولكننا ورثنا نظريا الوحى الإلهى مصونا، كما ورثنا رغبات عميقة فى العودة إلى الحق والتوبة إلى الله!! وأرى ونحن نبنى هيكلا جديداً لديننا ودنيانا، أن ندرس الحضارة الجديدة بما لها وما عليها، وأن نستفيد من تجاربها فى دعم مقرراتنا، ولا معنى أبدا لتجاهل الجهود فى الإنسانية التى بذلت فى إبداع هذه الحضارة... كما ينبغى اتقاء سوئها وغرورها، وشرهها، وافتياتها المفضوح على غيرها.. إن لدينا مواريث نفيسة فى تاريخنا الثقافى والسياسى لا يجوز إنكارها، بيد أن هذه النفائس اختفت فى ركام من عهود الانحلال والانحراف، وما أطولها فى ماضينا! والمأساة التى نواجهها الآن أن كاتبين وموجهين يذهبون إلى هذا الماضى ويعودون منه بما يضر ولا ينفع، وربما نقلوا منه أسانيد للاستعمار الداخلى، والخلخلة الاجتماعية التى نعانى منها... إن مصادر الأسوة العلمية والعملية معروفة ومضبوطة فى فقهنا، وقد برز رجال كبار فى تاريخنا العلمى، ما زعم عاقل العصمة لهم، ولا طالبنا باتباعهم فى كل ما قالوا وفعلوا. خذ مثلا " أبا حامد الغزالى " إنه رجل من ألمع رجال التربية والأصول والفقه والفلسفة، وجوانبه المشرقة كثيرة، ونحن نقتبس منه بدائع وروائع... لكن هل نتابعه فى قصوره فى علم الحديث؟ هل نتابعه فى موقفه السلبى من حكام عصره ص _030(1/27)
وهم طراز ردىء؟ هل نتابعه فى غفلته عن طلائع الحملات الصليبية التى أكلت المسلمين يومئذ؟ إن الحسنات تستوقفنا، فنتملاها ونستفيد منها! أما الهنات فنحذرها ونباعد أمتناعنها، وقد أفزعنا أن يظهر فى صحوتنا الإسلامية المعاصرة رجال أغرار، لهم قدرة غريبة على نقل الأخطاء وتبنيها وبعثرتها فى طريق نهضتنا. وقد استيقنت أن زبانية الاستعمار العالمى يستبشرون بهذا الصنف من الموجهين الأغبياء، وربما مكنوا لهم ورحبوا بهم، فليس أسعد لأعدائنا من شعب يغتصب قيادته سارق زعامة، وليس أسعد له من بيت تديره امرأة جهول، وليس أسعد له من متدينين يستريحون لهذه الأوضاع، ويحيون فى ظلها أنصاف بشر، ويركبون الناس فى ذلك على أنه الإسلام... * * * ص _031(1/28)
أثر الأهواء والعصبيات على الدعوة الإسلامية العصبية الأوربية: خصومة غير مشرفة عالمية الإسلام ليست موضع جدال، وقد نهض السلف الأول بواجبه فى نقل الدين من الجزيرة العربية إلى ما وراءها من بر وبحر! وعرفت دولة الإسلام الأولى أنها أمة ذات رسالة كبرى فكرست قواها المادية والأدبية لإبلاغها... وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كانوا امتدادا لنوره وطهره وشجاعته وجهاده، وقد زودهم القرب منه بقدر هائل من الروحانية والتضحية وطلب الآخرة والترفع عن الدنيا ومغانمها، فلما اصطدموا بالضلال الجاثم على صدر الأرض من قرون استطاعوا فل حده، وكسر قيده، وإطلاق الجماهير العانية تعبد ربها كيف تشاء، وما كان إلا أصحاب محمد من يقدر على هذه المهمة الصعبة! سيقول السفهاء من الناس: خرجوا من جزيرتهم مهاجمين، وما كان هذا يجوز! ونقول: من الذين هاجمهم محمد؟ فى حياة محمد نفسه قاتلوا الرومان فى مؤتة وتبوك فمن الذى جاء بالرومان إلى مؤتة وتبوك، وهى بلاد عربية؟ إن الرومان أوربيون احتلوا سورية ومصر وغيرها، وبسطوا سطوتهم على شمالى الحجاز، فكيف يعتبر اجتياحهم لأراضى الأخرين دفاعا، واخراجهم من هذه الأراضى عدوانا؟؟ إن دراسة التاريخ بهذا التبجج ديدن الأوربيين، وهم الآن ماضون مع طبيعتهم فى عد العرب الذين يقاتلون "إسرائيل " إرهابيين مهاجمين معتدين! فإذا قلت لهم: إن هؤلاء العرب هم أصحاب الأرض وسكان مدنها وقراها من قرون سحيقة وإن هؤلاء اليهود طارئون من أيام، قدموا من بولندا وروسيا وانجلترا وأمريكا، ولا حق لهم هنا... قالوا فى تبجح: ولو... أهناك شىء غير القوة يمحو هذا الطاغوت؟ إن القتال الذى أعلنه أصحاب محمد على الرومان والفرس هو أشرف قتال سجله التاريخ، وهو وحده الذى أدب المتكبرين وأنقذ المستضعفين، وليت هذا القتال- ببواعثه ونتائجه- يتكرر فى الدنيا ليحق الحق ويبطل الباطل.. أيعنى ذلك أن القتال وظيفة النبيين والحواريين، أو أنه حرفة(1/29)
أصحاب محمد فى العالمين؟ ص _032
كلا بداهة، فقد شرح الله الغاية من رسالة محمد، فقال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (1) سورة الأنبياء107 وشرح عمل المسلمين بين الناس، أو النظام الذى يقيمونه فقال: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) (2) سورة آل عمران 104 فالدولة الإسلامية تفعل الخير وتدعو إليه، وتعلم الحقيقة وتنشر أدلتها، وتأمر بالمعروف فى الداخل والخارج، وتنهى عن المنكر كذلك، وهى مع السلام ضد العدوان، ومع العدل ضد الطغيان، ومع الإنسانية ضد الحيوانية، وعندما قاتلت كانت محكومة بقول الله (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ). والحروب الأولى فى تاريخنا تمحضت لله ومشت فى سبيله، وفوجئت الشعوب السجينة داخل المصيدة الرومانية بقوم اكتفوا بتقليم أظافر "الاستعمار" القديم، ثم (أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) ، واختفى كبر الرومان، وسلبهم ونهبهم، وارتفع نداء " الله أكبر " فعلم الناس أنهم أحرار، وأن الأرباب السابقين سقطوا...!، فشرعوا يدخلون فى الإسلام أفواجا أفواجا، وإذا شمال إفريقية كله وغرب آسيا وشرقها حتى الهند والصين يتدفقون على الدين الجديد ... إن الفتوح العقلية والروحية كانت آلفا شعاعا، وأقوى اندفاعا من النجاح العسكرى، وما فعله الأصحاب والأتباع اتسم بطابع الخلود، فالأقطار التى حرروها هى كهف الإسلام إلى اليوم، وهى التى تشتبك فى كفاح ثقافى وسياسى مع الاستعمار الجديد، ومع فداحة ما تحملت فهى ترجو الآخرة، وترقب النصر الحاكم. والذى نلحظه أنه مع انصرام عهد الراشدين لم يحسن الحكام الرسميون- فى الأغلب- العمل للدعوة الإسلامية ولم ينموا أجهزتها، أو يلبوا مطالبها، وتركوا للكتل الشعبية أن تقوم هى بهذا العبء كله أو بعضه، وقد يعاونونها أو يهادنونها! أما أن يرسموا السياسة ويتابعوا(1/30)
التنفيذ فلا!! قد يقول قائل: هذا تخن على خلفاء أمية والعباس والعثمانيين، فقد رفعوا راية. (5) أشد ضياء وظهورا ص _033
الدين وقاتلوا تحتها بقوة! وماذا عساهم يفعلون مع أناس عرفوا الإسلام وعقائده (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ). يذبحون عشرات ومئات من المسلمين لو أن واحدا منهم ذبح بقرة هل يجدى مع هؤلاء إلا السيف- ويمضى المعترض فى مساءلتنا قائلا: وهل نسيت موقف أهل الكتاب المشحون بالبغضاء؟ إن كراهيتهم للإسلام ترشح من معين لا يغيض! وجمهرتهم تود لو خسف بنا وخلت الأرض منا. هؤلاء الصليبيون ما إن تمكنوا قديما من دخول "بيت المقدس " حتى ذبحوا سبعين ألف سلم، وحديثا احتموا بالجيش اليهودى، وقتلوا بأفحش الأساليب أربعة آلاف فى مخيمات الفلسطينيين بصبرا وشاتيلا.. ولم تتحرر الجزائر من أرجاسهم إلا بعد أن ضخت بمليون ونصف شهيد كى تستعيد المساجد التى حولها الفرنسيون إلى كنائس، وتستنقذ جيلا من البشر سرقت عقائده ومعالمه جهرة واغتيالا... لقد اشترك "المعمرون " الفرنسيون، ورجالى الجيش، والشرطة فى قتل قريب من أربعين ألف مسلم فى أعقاب الحرب العالمية الثانية فى مدينة "سطيف ". لأن الأهالى نادوا بالاستقلال، وأملوا خيرا فى مواثيق هيئة الأمم ثم جاء دور اليهود ليبيدوا شعبا وينشئوا على أنقاضه دولة لهم تحت سمع المؤسسات العالمية وبصرها وبين موافقتها ومعاونتها. إن القرآن- فى معر التعجيب والإنكار- يتساءل: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) فما اللوم الذى يراد توجيهه لخلفاء ردوا الوحوش عن حماهم، أو كسروا شوكتهم قبل أن يبدأوا العدوان؟ الدعوة قبل القتال والجواب أنى أدرك طباع المخاصمين للإسلام وأن تاريخهم لا يشرف على اختلاف الليل والنهار، ومع ذلك فإنى أوثر التمسك بتعاليم دينى فى أسلوب البلاغ وطريقة الدعوة! لن(1/31)
أسأم من الإطناب فى الشرح والإفاضة فى البيان والاحتيال على الوصول إلى القلب الإنسانى من كل طريق... ص _034
أريد أن يكون علم أعدائى بالإسلام كعلمي أنا به، مصداق قوله: (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون). ، والناس تحجبهم عن الحق ظلمات شتى، قد يعيشون ويموتون فيها، ونحن- المسلمين- مكلفون برفع المصباح حتى يهتدى الحيارى، وأخشى من مساءلة الله لنا: لماذا عاشت. أعلم دون أن تعرفنى وتعرف كتابى؟ ودون أن تبصر سبيلى وتتبع رسولى؟؟ وقد اخترتكم لتقوموا بهذه الوظيفة، وتنهضوا بأعبائها؟؟ إن الدعوة تسبق القتال، والدعوة ليست كلمة عابرة أو خدعة ظاهرة، ئم تنشب الحروب، كلا، إنها بيان وانتظار ومعاناة وأخذ و رد، ونقاش شبه، وبحث قضايا وتقديم عون، وقطع الأعذار أمام الله والناس... قلت لنفسى: أين كانت أجهزة الدعوة لتعرض على المنبوذين فى الهند- وهم عشرات الملايين- حقوق الإنسان فى أطواء كلمة التوحيد؟ إن أولئك المنبوذين كانوا يعدون دفساً، وقد آثرت نبيلة هندوكية أن يموت ابنها غرقا ولا ينقذه أحد المنبوذين، لأن جسد ابنها إذا مسه هذا المنبوذ تلوث أو تنجس، والموت خير من حياته بعد هذا المس..! أين كان الدعاة ليقولوا للهنادك كلمة عمر:، متى استعبدبم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.. "؟ وليقولوا للمنبوذين: إن المؤمن لا ينجس، وان البشر كلهم إخوة كما قال محمد رسول العالمين؟؟ إن تجمد الإسلام فى الهند وإن أرشد ثلث السكان أمر عجب، وليس أعجب منه إلا توقفه فى الصين! وإذا كانت الاشتراكية الماركسية أو الماوية قد وحدت ألف مليون من البشر، لأنها داوت تفاوت الطبقات وأزمات الجوع هناك، فمن كان يعرف هؤلاء أن عمر بن عبد العزيز بحث فى أرض الإسلام الواسعة عن فقير يأخذ الزكاة فلم يجد، فاضطر إلى أن يشترى بها عبيدا ويحررهم وهذا من مصارف الزكاة!! إن الدعاة فى هذه البيئات يعالجون أدواءه! بما يحسم إلآلام، ويرفع(1/32)
قدر الإنسان ويربط الناس بربهم (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). وليست الدعوة وعظا فارغا، وبلاغا غامضا،... ثم يكون القتال كما يتصور البله من علماء الدين... ص _035
وتلفت غرب الدولة الإسلامية الكبيرة وشمالها، فوقفتنى الحرب المزمنة بين الروم والمسلمين أو بين الفرنجة والعرب... لقد خرج الرومان من الشام بعد هزائمهم الساحقة أمام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، تاركين وراءهم ذكريات سودا بين النصارى الذين يخالفونهم فى الفكر اللاهوتى... وليس للوجود الرومانى بالشام سناد من عقل أو نقل فما صلة دمشق والقدس ببيزنطة أو روما؟ ومن الذى منح القوم حق استيطان هذه البلاد ومزاحمة أهلها عليها؟ الواقع أنها صفاقة أوربية قديمة جديدة، لقد خرج الفرنسيون الصليبيون من الجزائر بعد مذابح طافحة بالوحشية، وهم بعد ما خرجوا منها لا يزالون يحنون إلى العودة إليها، وكذلك كان الروم بعد ترك الشام فإن رغبتهم فى العودة من حيث طردوا ظلت تراودهم، وتجعل القتال موصولا على حدود الدولتين الإسلامية والنصرانية، وكان للمسلمين رباط دائم على تلك الحدود، كما كانت الحرب بين كر وفر فى جزر البحر الأبيض كلها... هل كان هناك بديل عن هذه المأساة الدائمة؟ رأيى: نعم! كان يمكن إقامة علاقات تجارية، ثم علاقات ثقافية، كما كان يمكن استقبال زوار القدس بترحاب له ما بعده، لا سيما أننا ما وضعنا عائقا أمام النصارى الذين يقيمون مراسم دينهم! والحق أن أمتنا ما تنكص عن هذه الخطوة! لكن رجال الدين والسياسة فى أوربا كانت تحركهم ضغائن لا تبرد نارها، فهل كان الموقف الأوربى من وراء عطل أجهزة الدعوة عندنا؟ وعدم انسيابها بين الكارهين للإسلام، الشاتمين لمحمد ودينه بسفاهة منكرة؟ الأمر يحتاج إلى تفصيل. كانت الحكومة فى دولة الخلافة مسئولة عن الدعوة الإسلامية، وكان رجالها يرون أنفسهم قوامين لله، يحاربون المعصية، ويزرعون الطاعات، ويضربون المثل بذواتهم في العبادة(1/33)
الخالصة، كأن فيهم قوله تبارك اسمه: (يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ). والفارق كبير بين حكم يرى نفسه مسئولا عن الدين وحمايته ونشر تعاليمه وبين حكم يتوسل بالدين لمد سلطانه ودعم أركانه. إن الوسيلة قد تترك بعد بلوغ الهدف، أو قد يستبدل بها غيرها إن سد مسدها، أما دولة الخلافة فقد كان الإسلام منهجها وهدفها، وكان الخلفاء يرون أشخاصهم آخر ص _036
ما يكترث به، كانوا ربانيين ينشدون الآخرة، وكانوا علماء يعرفون كيف ينصرون دينهم فى كل ميدان.. والخلفاء الراشدون والأصحاب العظام من حولهم هم الذين جعلوا عالمية الإسلام حقيقة واقعة بعد ما كانت مقرراً نظريا أو بشريات تتلى فى الكتاب الكريم... ولولا دسائس اليهود والمجوس التى نجحت فى قتل عمر وعثمان وعلى لكان للأرض مستقبل آخر، ولانتهى أجل الضلال فى الدنيا، ولكن لله قدراً آخر:( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ). وقد بذل الأمويون والعباسيون والعثمانيون جهودا كبيرة ليقولوا للناس: إنهم يقومون بعبء الخلافة الراشدة، وإنه إذا تغيرت الوجوه فلن تتغير الأعمال.. أكانوا بينهم وبين أنفسهم صادقين؟ ما أشك فى أن فيهم هن أخلص دئه سريرته وأسلم له وجهه وجاهد فى سبيله ما استطاع! ولست دياناً للخلق أبحت فى مصايرهم عند ربهم، وإنما أكتب ما أكتب التماس عبرة. وكيما أجنب الصحوة الإسلامية عثرات قديمة، وهل ندرس التاريخ إلا من أجل ذلك؟ إن موجة الفتح التى أسهم فيها التابعون، مضت لمستقرها فى العهد الأموى ثم توقفت لأمر ما، أما الاهتمام بمستقبل الدعوة فى أرجاء العالم، واكتشاف الأساليب المناسبة لإنجاحها، فقد أخذ يتضاءل من الناحية الرسمية أو يأخذ طرقا مسدودة..! ما السبب؟ أشخاص الخلفاء أنفسهم، والطريقة التى جاءوا بها إلى منصب الخلافة! وسرعان ما تحول معظم نشاط أولئك الخلفاء إلى المحافظة على الحكم فى ذراريهم، و(1/34)
إلى مكافحة الفتوق التى يحدثها الناقمون والمعارضون. ثم جاء العباسيون فقلدوا من سبقهم ، ولم لا؟ والمتأمل فى القيمة الذاتية للأشخاص الذين ولوا أعظم مناصب الدنيا يشعر بالحسرة... إن بعض خلفاء بنى العباس لو بيعوا رقيقا ما جاء أحدهم بثمن طائل ولكن عنجهية العرب فرضتهم على الإسلام ليقودوه بضعة قرون، فماذا حدث؟ قبعوا فى قصورهم، واغتصب السلطة منهم أمراء ووزراء من أجناس أخرى، ولقى أغلبهم مصيره على شروجه. ص _037(1/35)
الدعاة يقومون بدور القيادة لكن الدعوة- بطبيعة الإسلام السيالة- لم تتوقف، لقد انطلق الفقهاء، والمربون، والتجار إلى شرق آسيا وجنوبها، وإلى شاطئ الأطلس الشرقى فى إفريقية وجنوب الصحراء الكبرى، ولم يكن هناك فتانون خطرون بعد انهزام الفرس والرومان وما بقى من أمراء يصدون عن سبيل الله سهل إقناعهم أو اتقاء شرهم... ونشأ وضع عجيب عقب ذلك الانسياح الباهر فقد دخلت أقطار فى دين الله لن تعرف عنها بغداد أو القسطنطينية شيئا، وماذا تعرف هذه أو تلك عن "الفلبين " " والملايو" " و أندونيسيا "؟ إن أجهزة الدعوة المركزية مشلولة فى هذه العواصم! والغريب أن الصليبية العالمية اليقظى لم تقف ساكنة! لقد انتهزت الفرصة، وأغارت على هؤلاء الموحدين، وهى منذ قرون مشتبكة معهم فى حرب حياة أو موت، والعرب ومن حذا حذوهم من الترك لا يسدون لإخوانهم يدا، ولا يدفعون عنهم كيدا... بل إن المسلمين فى القرن الرابع ، وفى ظل الحلافة العباسية المعتلة المختلة تحولوا إلى فرق تتقاتل على السلطة وتتنارع على الإمارة، يكيد بعضهم لبعض، ويلعن بعضهم بعضا، وما زالوا كذلك حتى جرفتهم الحملة الصليبية الأولى، ثم غارات التتار التى أسقطت بغداد، وقتلت خليفتها المسكين...!! لم تستفد الدعوة الإسلامية شيئا يذكر خلال الحكم العباسى، بل إن سوء التطبيق لتعاليم الإسلام نال من قدرتها على الانطلاق البعيد... حكام يتهارشون على الدنيا ويتقاتلون على المنصب، أجهزة الشورى صفر. العدالة الاجتماعية مضطربة، قد تنكب بعض الأقطار بمجاعات فلا تجد الغوث، العلم الدينى انحصر فى فلسفات كلامية لا تمسى القلوب، أو مسائل فقهية ليس لها عند الله وزن. ". ومعروف أن أجناسا شتى دخلت فى دين الله من الهنود، والفرس، والروم، والترك والكرد، والزنوج،... إلخ. وكان المفروض أن تنصهر كلها فى بوتقة الأ خوة الإسلامية، لكن ما دام العرب يشمخون بعرقهم فلماذا تسكت الأجناس الأخرى؟ إن العالم- وراء دار(1/36)
الإسلام- لم ير فى الطريقة التى تحكم دولة الخلافة ما ص _038
يعجب، بل رأى ما ينفر، وقد سقط العباسيون كما سقط من قبلهم الأمويون ليؤكدوا حقيقة علمية وتاريخية ثابتة، وهى أن العرب لا يشد كيانهم إلا الدين! فإذا خرجوا عليه تيقظت فيهم جاهليتهم، فهلكوا.. وقد أعلنت هذه الحقيقة عن ثباتها واطرادها بسقوط الخلافة الأموية فى الأندلس واندحار الدويلات التى تخلفت عنها! الداء هو الداء نهم مسعورإلى السلطة، وتعارك وحشى على الإمارة، وارتداء للدين على جسد أجرب، ومتاجرة بفقه الفروع لا تنطلى على الله، لأن معاقد الدين وقواعد الأخلاق واهية(أتواصوا به بل هم قوم طاغون ). وبعد سقوط الخلافة العباسية بقرن تقريبا، كان جنس آخر قد اعتنق الإسلام واعتز به وأنشأ دولة تجاهد من أجله، اتجهت صوب الأناضول بقوة، وقاتلت الروم ببأس، وما زالت فى حرب مظفرة معهم حتى أخرجتهم عن آخرهم من آسيا وظلت تطاردهم فى شرق أوربا بعد ما استولت على القسطنطينية... تلك دولة الأتراك العثمانيين، التى تسمى سلاطينها بخلفاء الإسلام! ولست كارهاً للترك، ولا ناسيا ما أسدوه للإسلام من أياد، ولا متهما الشعب التركى بما هو منه براء، فهو شعب مؤمن جياش العاطفة شجاع مقدام. لكن الإسلام دين عربى الوحى، كتابه عربى وسنته عربية وثقافته الفقهية والخلقية عربية، وقد رفض الترك أن يتعربوا فكيف يستطيعون مع هذا الرفض قيادة الرسالة والدعوة؟! كان يمكن أن يظلوا كما يريدون، ثم يستعينوا بالعلماء العرب لينشروا الإسلام، وينشئوا أجيالا جديدة عليه، بيد أنهم لم يفعلوا... ولو أرادوا لاستعانوا بمصر وفيها الأزهر، وجعلوا من القدرة العلمية عند المصريين وغيرهم ما يعزز فتوحهم، ويؤسس للإسلام مجتمعات واعية هادية... إنهم لسوء الحظ لم يفعلوا، بل ولى الحكم السلطان سليم الأول، وكان رجلا نزقا سفاحا مضطرب المزاج، فأغار على مصر وخرب مستقبلها بضعة قرون... وبديه أن يعجز الأتراك عن نشر الدعوة(1/37)
خارج أرض الإسلام، بل إنهم داخل أرضه ص _039
لم يكن لهم كبير اهتمام بدور العلم، وكانت النتيجة الكئيبة أن رانت على الأمة الإسلامية كلها ظلمات بعضها فوق بعض! فلما اجتاحها الاستعمار العالمى، الصليبى ئم الشيوعى، كانت الأمة كالغريق الذى يحاول النجاة من الطوفان، والشاطئ أمامه بعيد بعيد... ونسأل نحن- بعد هذه النظرة العاجلة الشاملة- هل استفاد العرب من الماضى وقرروا إخلاص العمل للإسلام، والبعد عن طباعهم القديمة؟ وترك الاعتزاز بالنسب، والتعلق بالسلطان، والشره فى حب الدنيا.. كلا.. إن طنين الضلال القديم ملأ الآذان مرة أخرى، وها نحن أولاء نسمع عن بعث عربى وقومية عربية!! كل ما هنالك من فرق، أن العرب الأول كانوا يرفعون راية الإسلام، أما عرب هذه الأيام العجاف قهم ينكرون الإسلام أو يتنكرون له! إن طنينهم يشبه طنين الذباب فى أماكن القمامة ومجامع الأقذار.. والأمر يحتاج إلى مقادير كبيرة من المطهرات حتى تنجو أمتنا من هذا البلاء... * * * ص _040(1/38)
قصور الحكم وأثره فى الاضطراب العلمى كانت فى دولة الخلافة الراشدة بادية الحرص على سلامة المعرفة التى تصل إلى الجماهير، وقد رأينا على بن أبى طالب يرقب المساجد، ويتسمع إلى ما يلقى بها من دروس، وقد أمر بطرد أعداد من القصاص المتحدثين إلى العامة، واستبقى الحسن البصرى وحده..! إن الميدان الدينى مرتع خصب للمشعوذين والخرافيين، ولا يجوز أن يستخفى أولئك فى لباس الوعظ والفقه ليفسدوا الأفكار، وينحرفوا بالناشئة . وقد كان عمر يقظا إلى حد الغيرة نحو كل ما يمس العقيدة والسلوك، وكان يوصى أمراء الجيوش بجمع الناس على كتاب الله، والإقلال من الأحاديث النبوية. والسبب فى ذلك أمران: أولهما خوفه من رواية الواهيات والترهات. والأخر خوفه من عدم فهم الحديث على وجهه، واختلاف الأنظار مع اختلاف المرويات. وقد رأيت شبابا غضا يتلقى بعض الأحاديث، وهو دون مستواها، ويشغل بها خلافات مخوفة العقبى، وقد يكون الجيش مكلفا بدخول مدينة، أو بلوغ هدف فإذا هؤلاء يحدثون فتنة حول قصر الثوب، أو الصلاة فى النعل، أو الشرب عن قيام فيصاب الإسلام من غبائهم.. لكن الأمرتغيرعلى نحو ما بعد انتهاء الخلافة الراشدة، واستيلاء خلفاء قاصرين على دفة الحكم.. وليس يعنينا الآن التغير الطفيف الذى وقع فى العهد الأموى، ووجد للفور من يقوم بحق الله فى إصلاحه، وإنما يعنينا ما وقع فى أيام الخلافة العباسية بعد أن استقرت الأمور- كما يقال- وبدأ عهد الحضارة..! لقد تدبرت قضية الترجمة التى نقلت إلى لغتنا العربية تراث أم أخرى أهمها اليونان! أكنا- نحن المسلمين- فقراء إلى هذه المعارف المنقولة؟ وأبادرإلى القول بأنى منهوم إلى الاطلاع على كل ما لدى الآخرين من علم، وأنى لا أرخص حكمة جاءت من عدو! ولا أزهد فى حصاد الذكاء البشرى مهما كان موطنه..! أن ذلك لا يعنى تأخير ما لدى، واستقبال الجديد بحفاوة تنسى الأصل.. ص _041(1/39)
إننى أعرف الله عن اتصال، فلدى نبوة وبين يدى وحى! وغيرى يعرف الله عن استدلال، لأنه محروم من العلاقة التى ظفرت بها، واستدلاله تارة يقوم، وتارة يكبو، فكيف أزاحم القديم الأصيل، بدخيل خفيف الوزن؟ يرى أرسطو أن الله خلق العالم، وبعد أن خلقه تركه، وانصرف عنه وانقطع تدبيره له! فهو لا يدرى عنه شيئا. هل هذا اللغو ينقل ويوضع بإزاء قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ). لقد استغربت من شوقى- رحمه الله- أن يستدل على عظمة "التوحيد" الذى جاء به محمد عليه الصلاة والسلام بأنه سبق أن نادى به الفلاسفة اليونان!! بنيت على التوحيد وهوحقيقة نادى بها سقراط والحكماء إن سبق هؤلاء ليس مفخرة! وتأييدهم أو رفضهم لا يقدم ولا يؤخر. لقد كان المطلوب من الخلفاء العباسيين أن يترجموا الإسلام للناس فى كل قطر لا أن يترجموا للمسلمين أفكار وخيالات الأمم الأخرى! إن عالمية الرسالة الخاتمة تفرض على خلفاء محمد- لو كانوا صادقين فى هذه الخلافة- أن يترجموا حقائق الدين وأحكامه السياسية والاجتماعية، ومبادئه الروحية والخلقية، وأن يضعوا جوائز سنية لمن يقوم بهذا الجهد، ويذهب به فى آفاق الأرض ليشرح صدورا وينير عقولا... لكن هؤلاء الخلفاء الورثة لم يكونوا على مستوى المناصب التى ختلوها فكان ما كان... وندع الحديث فى مضار هذه الترجمة على فكرنا الإسلامى النقى، وننظر فى أمر آخر، لا نزال نضار منه إلى اليوم... الإسلام منهاج كامل يوضح العلاقات الاتية: * علاقة المؤمن بربه على أساس من التوحيد المطلق والسمع والطاعة والاستعداد للقائه- سبحانه- بتسام وطيبة. ص _042(1/40)
*علاقة المسلم بالدولة التى تحكمه، كيف يختار الخليفة؟ كيف تتم الشورى؟ ما نظام النصيحة والتواصى بالحق والتعاون على البر والتقوى؟ * علاقة المسلم بالمجتمع- أول خلية فيه الأسرة- كيف يتم بناؤها وتؤدى واجباتها؟ كيف يتعامل المسلم مع الآل والأقارب والجيران، وسائر الناس؟ ما نظام الملابس وحدود الاختلاط؟ كيف نعتاد المسجد؟ كيف نتلقى الدروس فى شتى المراحل؟ * علاقة المسلم بالبيئة والحياة الدنيا: كيف نقوم بأعباء المعايش المتنوعة؟ كيف تورع مواهب الناس على مرافق الحياة؟ كيف نملك الحياة لنسخرها فى إنجاح رسالتنا؟ ما هى الواجبات الموقوتة وغير الموقوتة التى نجاهد فى سبيلها..؟ ومن السهل اقتباس الآيات والأحاديث التى تشرح ذلك كله، وتعزف المسلم أين يضع قدمه، وأين يولى وجهه؟؟ وتقديم هذه الحقائق فى خلاصات علمية مسئولية كل عامل للإسلام فى أى ميدان ثقافى أو سياسى.. ولا يجوز أن يمتد عنصر على حساب عناصر أخرى، فإن النسب فى عناصر الغذاء المعنوى كالنسب فى عناصر الغذاء المادى، لابد من رعايتها.. كما أن إهمال عنصر ما، أو استبعاده مرفوض، فإن شعب الإيمان كالعقاقير التى يتكون منه الدواء لايتم الشفاء إلا بتجميعها كلها.. والذى حدث فى تاريخ ثقافتنا يحتاج إلى نظر ومراجعة، حتى لا تطول شكاتنا من خلل ملحوظ أو نقص قائم. القصور فى المنهح... خطرداهم إن الاستبحار العلمى مضى فى طريقه قبل الوفاء بصورة المنهاج الكامل الذى أشرنا إليه آنفا، وقبل كتابة خلاصات وجيزة له، للتعليم والدعوة فى الداخل والخارج. ونشأ عن ذلك أنك ترى دارسا لعلم الكلام، أو لعلم الفقه، متمكنا من قضايا العلمين المهمين، ولكنه لا يحسن إلا الجدل وتشقيق الفروع!، أما استحضار الخشوع، واستشعار جلال الله فإن نصيبه منهما قليل، ذلك لأنه لم يلق التربية النفسية المكافئة لما نال من معارف أخرى.. ونشأ عن ذلك أن ترى امرءا ماهرا فى الأحاديث وقبولها وردها، بيد أن بصره بالقرآن(1/41)
كليل، وخبرته بما فيه من توجيه وحكمة لا تسر، وقد يكون الأمر بالعكس ص _043
فترى مفسرا يحسن إعراب الجمل، وتقرير بعض الأحكام مع غفلة شديدة عما صح من سنن فى القضايا التى يعالجها.. وقد ترى مطلعا على جملة من علوم الدين، بيد أن إدراكه للبيئة من حوله قاصر، وإدراكه للكون والحياة أشد قصورا، ومن ثم يصدر أحكاما وفتاوى تصيب الدين فى مقاتله. وأعرف أن الحكم الفردى جمد عدة فرائض سياسية، ومالية، وسير الفقه بعيدا عما يمس استقراره، كما أعرف أن بعض البيئات غلبت تقاليدها على تعاليم الدين، كما حدث فى بعض الشئون النسائية.. لكن الإسلام ظل وسوف يظل مضبوط المصادر نقى المنابع، وأن أصحاب الفطر السليمة، والآراء النزيهة قادرون على العودة إليه، والاستمداد منه دون عائق. وأنفى بقوة كل ظن أنى أنتقص رجالنا، فإننى شديد الإعجاب والولاء لأئمة الفقه، والتفسير، والحديث، وقد تابعت وتدبرت الكثير مما كتب فى علوم الكلام والتصوف (1) والأخلاق، ونفعنى الله بما شاء من تراث السلف والخلف، غير أننى وجدت الحقائق هنا وهناك، فلم ألزم مدرسة واحدة، ولم أر لأحد عصمة. وأؤكد ما قلته: إن القراءات غير المتوازنة تخلق فكرا مشوشا، وان الإيغال فى دراسة ما دون قاعدة مشتركة من علوم أخرى لا يعطى ثقافة سليمة. وقد بلوت شيوخا يتكلمون فى الإسلام وقلوبهم وجلة من التعرض لساسة الحكم والمال، بل قرروا- من غير أيمان مغلظة- ألا يمسوا هذه الناحية. وآخرين لا يعرفون ذرة من ضغط التقاليد البشرية على التعاليم السماوية، فهم ينطلقون دعاة إلى الإسلام، والحقيقة المرة أنهم يدعون إلى معالم مجتمعهم البالى، ومواريثهم الهشة، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.. كما بلوت شبابا غرورهم أكبر من تفكيرهم، يستمعون إلى أولئك الشيوخ دون مراجعة. وشعرت بانكشاف العجز العلمى عند هؤلاء جميعا عندما زار الأستاذ "جارودى" القاهرة ودول الخليج، وقابل نفرا من علماء الدين التقليديين.. إن الرجل(1/42)
اعتنق (1) المقصرد التصوف المجاهد العامل النقى من البدع والشوائب، أى الذى لا يزيد عن كونه مجاهدة للنفس وجهادا فى سبيل الله. ص _044
الإسلام بعد ما أحسى إفلاس الحضارة الغربية، واستوحش من خوائها الروحى، وشرودها الفكرى، وبعد ما درس الإسلام دراسة خبير بالأديان والفلسفات، عارف بالحضارات البشرية وأسرار ازدهارها وانهيارها.. وقبل أن أذكر ما لقى فى عالمنا العربى أسوق أجزاء من محاضرة تنبئ عن فكره وأمله، ومعرفته وإخلاصه، ألقاها تحت عنوان "الإسلام وأزمة الغرب ". * قال: "لن أتحدث هنا عن الإسلام بصفة عامة، ولا حتى إسهامه- المجحود- فى الحضارة الإنسانية، وإنما أتحدث عن الإمكانات الجديدة لتوسعه وانتشاره اليوم فى عالمنا الغربى، وعن الأيسباب- المتصلة بروح العقيدة الإسلامية ذاتها- التى أتاحت مثل هذه الإمكانات ! إن الإسلام عند مولده أنقذ العالم من الانحطاط الشامل، فقد كانت الإمبراطوريات التى تسود العالم مفككة منحلة، سواء الفارسية أو الرومانية، أو أرجاء الهند، أو الشمال الأفريقى أو ممالك "الفيزقوط " بأسبانيا... ثم جاء القرآن معلنا بقوة علو الخالق ومجده الذى تفرد به، وبانيا على هذه الوحدانية نوعا جديدا من البشرية المتساوية فى عبوديتها لله سبحانه. وبذلك منح الألوف المؤلفة من الناس، وعيا بمدى الكمال الذى يحرزونه عندما يعرفون ربهم ويرتبطون به.، إن "الربانية " هى الشرف الحقيقى للإنسان، والبعد الذى يجتازه ليؤدى رسالته فى الحياة... والإسلام اليوم قادر على الإسهام بهذا العنصر الغالى لتحصين الإنسانية وحياطة مستقبلها، وحمايتها من المنزلق الذى يوشك أن يبتلعها.. إن المدنية الحديثة قضت على التسامى الروحى، وأيقظت الأئرة الحيوانية، وأقرت نمطا من الحياة يمتاز بجنون التنمية وزيادة الإنتاج ثم تسخير هذه النتائج الكبيرة لخدمة أغراض خسيسة.. وماذا نرى بعد انفراد الحضارة الغربية بقيادة العالم، ومرور خمسة قرون على(1/43)
هيمنتها المطلقة؟ إننا نلخص الجواب فى أرقام ثلاثة: بعد تخصيص 600 مليار دولار سنة 1982 للإنفاق على التسلح أصبح كل ساكن من سكان الأرض تحت تهديد ما يعادل أربعة أطنان من المتفجرات، وفى ص _045
الوقت نفسه تم توزيع الموارد والثروات- وقد تكاثرت جدا بفضل التقدم العلمى- على نحو مثير للعجب، ففى هذه السنة 1982، هلك خمسون مليون نسمة فى العالم الثالث بسبب المجاعة وسوء التغذية. أما صانعو الحضارة فهم متخمون.. ومن الصعب أن نسمى تقدما ذلك المسار التاريخى الذى سلكته الحضارة الغربية. إن كدح البشر منذ ظهروا على وجه الأرض مهدد بالتوقف، بل لقد أصبح ميسورا لقلة من الناس أوتيت تفوقا صناعيا رهيبا أن تمحو كل أثرللحياة.. هناك رغبة عمياء فى زيادة الإنتاج، إنتاج أى شىء دون تساؤل: لمن؟ ولماذا؟ ولعل الواقف وراء دولاب الصناعة لم يرفع نظره إلى السماء يوما، أو يتذكر ربه فى لحظة رشد! وعلى الصعيد السياسى قامت علاقات داخلية وخارجية تتسم بالعنف، ومحور الصراع فيها مأرب الأفراد والطبقات والأم، ونزوع عام إلى الهيمنة وفرض الذات... أما الصعيد الثقافى فيمتاز بفقدان المعنى والغاية، قامت "تقنية" (1) غايتها التقنية لذاتها وعلم يبحث فى العلم لذاته، وفن يخدم الفن وحده، حياة تتحرك دون هدف.. وفى مجال العقيدة اختفى مفهوم التسامى، والاستعلاء على الغرائز الدنيا، الكل أخلد إلى الأرض واتبع هواه، ليس للإنسانية صبغة طهور، ولا اتجاه إلى الله. الربانية أسطورة من آثار ماض سحيق، ولمن شاء أن يمضى هائما على وجهه غير مرتبط بنظام نفسى عتيد! " . يقول (2) الأستاذ رجاء جارودى: "إن الثقافة المدعية المغرورة التى تعتمد عليها هذه الحضارة ترى حينا حصر الحياة فى "الضرورة والصدفة" كما يزعم أحد علماء الأحياء، وترى حينا جعلها عاطفة جوفاء لا طائل تحتها- كما كتب أحد الفلاسفة- وترى حينا نسبتها إلى اللامعقول كما وصف أحد الروائيين، ولعل الإسفاف بلغ (1)(1/44)
القدرة الصناعية المتفوقة، والكلمات شائعة فى البلاد العربية، و-ممكن تعريبها. (2) تركنا الترجمة الحرفية لعدم وفائها بالمعنى، وتصرفنا بما يوضح غرض المحاضر ص _046
منتهاه فيما أفاضت الصحف ردخا من الزمن عن موت الآلة! وموت الإنسان وموت كل شىء كما يردد دعاة العدم والمتنبئون به...!! إننا لا نعرف حضارة أغفلت إغفالا تاما: التساؤل عن معنى الحياة والموت مثلما فعلت الحضارة الأوربية الحالية. والثقافة المادية التى تحتضنها تقوم على أربعة مبادئ زخت بنا- بعد خمسة قرون مجموعة- إلى طريق مسدود، وإذا استمررنا فيه فسينتحر العالم بأسره!.. إن هذه المبادئ الأربعة هى: 1- الفصل بين العلم والحكمة أى الفصل بين الوسائل والغايات يعنى أن هذه الحياة الدنيا غاية فى ذاتها، فليس وراءها حياة أخرى. 2- إخضاع كل حقيقة لمفهومها الخاص ومقدارها المادى مع استبعاد كل إثارة للحب والإيمان والمعانى الروحية. 3- الفردية أو الأنانية التى تجعل امرءا أو جماعة ما المحور والمقياس لكل شىء، وترى النظام الموضوع ليس إلا توازنا مؤقتا بين الأطماع المتنافسة. 4- إنكار التسامى، أو إنكار القدرة على الإفلات من هذه المتاهات المفروضة والاستكانة لتنمية حتمية تقتصر على "الكم " وتستبعد الخلق والحرية والأمل. " " يقول " رجاء جارودى ": " إن الثقافة الأوربية المعاصرة تنبثق من أصل مزدوج ، من التراث اليونانى الرومانى، واليهودى المسيحى، وقد أغفلت عن عمد التراث العربى الإسلامى.. والأوربيون يرمون هذا التراث بنقيصتين: ( ا ) أنه مجرد ناقل لثقافات وأديان قديمة، وربما ضم إلى النقل بعض التفسير والتعليق.. ولكنه ضم إلى ذلك إنكاره للمعتقد المسيحى ورفض قضية التثليث.. (ب) يمثل هذا التراث فترة سلبية منعزلة، ويمكن للمؤرخين أن يدرسوها ليحيطوا بها علما! إذا شاءوا. ومن خلال هذا المنظار الداكن الجائر وصف الأوربيون الإسلام، بأنه لا يمكن أن ص _047(1/45)
يأتى بجديد، وأنه لا يحتوى على شىء حيوى، إنه جزء من تاريخ مضى لا جدوى من التأمل فيه أو ارتقاب خير منه.. " . يقول المحاضر: " إن هذا الاتهام المزدوج يجب أن يحارب، وأن يكشف زيفه، لأنه يمنعنا من فهم الحاضر وبناء المستقبل ". وقبل أن نثبت ردود الأستاذ جارودى على هذه التهم، نذكر طرقا من المشاعر السيئة التى يكنها أحفاد الرومان والفرنجة عموما ضد الإسلام وأمته... إن الإسلام هو الذى قلص نفوذهم وطارد فلولهم شرق البحر الأبيض وجنوبه، وقد مر حين من الدهر كاد البحر الأبيض يكون فيه بحيرة إسلامية. أليس جميلا أن يكون بانى الجامع الأزهر رجلا من صقلية (1)؟ بعد ما فتحها فقيه مالكى مشهور! لقد ظل الرومان بضعة قرون ملوك هذا البحر وحكام شواطئه، ما أخرجهم منها إلا الإسلام، وما رد الحريات إلى شعوبه المأسورة إلا دين الله بعد ما حمله العرب. فلا غرو إذا تنامى حقد الأوربيين عموما على دين غسل الأرض من جبروتهم، وسواهم بغيرهم من عباد الله! وقد شرعوا يتلمسون العيوب للإسلام ويفترون الأكاذيب ليشفوا صدورهم. قالوا: إن القرآن مأخوذ من الكتاب المقدس! وقال أولو الألباب: كيف يؤخذ التوحيد من التثليث؟ والتنزيه من التجسيد؟ وقالوا: الفقه الإسلامى مأخوذ من الفقه الرومانى! وقال أولو الألباب: إن تشريعا يحث على إنظار المعسر والتجاوز عن الذين لا يؤخذ من تشريع يقضى باسترقاق المعسر وقد يأمر بقتله! وشتان بين المسئولية فى الإسلام والمسئولية عند الرومان.. ذاك من ناحية الكيف، أما من ناحية المساحة الاجتماعية فالقول بأن الفقه الإسلامى مستمد من الفقه الرومى كالقول بأن نهر النيل ينبع من بئر حفرها جندى رومانى فى بلاد النوبة ليستقى منها هو وجواده. إن البواعث على إهانة الإسلام وتصغير رسالته وتحقير أمته وإنكار ما تركته فى الدنيا من دوى، وما خلفته فى العالم من رقى لا سناد لها إلا كره أعمى. (1) الذى بنى الأزهر جوهر الصقلى قائد جيوش المعز(1/46)
لدين الله الفاطمى. ص _048
قال الأستاذ رجاء جارودى: فى رده على الاتهامات السابقة التى ألمحنا إليها: "قبل كل شىء ننفى الزعم بأن الفكر الإسلامى، مجرد مترجم، أو ناقل عن الفكر اليونانى، إن هذا قول لا أساس له من الصحة: ا- فالرياضيات اليونانية تعتمد على مفهوم النهائى فى حين أن الرياضيات العربية تعتمد على مفهوم اللانهائى. ب- كان المنطق اليونانى نظريا فى حين أن العلم العربى تجريبى أساسا. بر- كانت الهندسة المعمارية اليونانية "استاتيكية" تعتمد على الخط المستقيم أما هندسة المساجد فإنها على عكس المعبد اليونانى "سمفونية" من المنحنيات بأقواسها وقبابها. د- كانت الفلسفة اليونانية من " برمنيدس " إلى "أرسطو" فلسفة وجود، أما الفلسفة العربية فهى فلسفة الوجود والفعل، ثم هى تعتمد على نبوة أى على الوحى فلها مصدر علمى آخر غير المصادر المادية للمعرفة، التى لا يعرف اليونانيون غيرها. هـ- المأساة اليونانية- بما فيها من شذوذ وعقد- لا يمكن تصورها فى النظرة الإسلامية للحياة، بل إن الأدب العربى يستنكر التصور اليونانى للحياة كما وكيفا. ليسى صحيحا أن العلم العربى علم بدائى إذا قيس بالعلم المعاصر، إن العلم العربى على عكس مفهومنا الوضعى لا يفصل بين العلم والحكمة أى أنه لا يغفل أبدا المعنى والغاية! إن القرآن ترك آثاراً عميقة فى الفكر الإنسانى تجعل المؤمن يرى آيات الله فى كل شىء، تجعله يبصر أمجاد الألوهية فى آفاق الكون، والسنن العامة التى تحكمه، ومن ثم فهو يحتبس عند الظواهر الملحوظة، بل يرى فى كل شىء "إشارة ورمزاً" يعنى إلى ربه بداهة !! فآيات الله فى صحائف الكون تتلاقى مع آيات الله فى صحائف! الوحى تلاقيا يجعل النظرة إلى الكون أسمى، وهذا العقل المؤمن لا يعجز محن تحليل الروابط التى تصل الأشياء بعضها ببعض، والتى تقود إلى القوانين العلمية الشائعة فى الوجود، وإنما يمتاز العلم المتدين بأنه يضفى على هذه القوانين معنى(1/47)
أشرف. ". ومن ثم يقول "رجاء جارودى": " إنها قوانين دنيوية، بالنظر إلى العلاقات التى تسودها بيد أنها دينية رفيعة القدر عندما نلحظ صلتها بالخالق.. إن الغرب نسى الجانب الإلهى فى دراسته للكون والحياة، فماذا كسب من مبدأ "العلم للعلم "؟ لاشىء أمسى التطور الكمى للعلم والحضارة الصناعية هدفا مقصودا ص _049
لذاته، يوشك أن يتحول إلى بلاء على أصحابه، والخاسر فى هذا العلم المتمرد هو الإنسان فى كل مكان! " ويمضى المحاضر العظيم فيقول: "إن نهضة الغرب لم تبدأ فى إيطاليا مع إحياء الثقافة اليونانية الرومانية! بل بدأت فى أسبانيا مع إشعاع العلوم والثقافة العربية الإسلامية! لكن هذه النهضة الغربية لم تأخذ من العلوم العربية الإسلامية سوى منهجها التجريبى و "تقنياتها" وتركت جانبا الإيمان الذى يوجهها نحو الله ويسخرها لخدمة البشر...! " ونقتطف هذا الجزء من محاضرة جارودى- ولما نقتبس ثلثها- لتسمع هذه العبارات: "إننا نشهد اليوم ما كنا نشهده على عهد النبوة، فعندما بدأ الرسول دعوته، كانت هناك دولتان عظيمتان، نالى منهما التدهور، تتجابهان فى عداوة حادة، هما الإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية الساسانية، واليوم نشهد دولتين كبيرتين تتنازعان على تقسيم العالم، وتمثل كل منهم مذهبا يخيل إلينا أنه يعارض الآخر! والحقيقة أنهما نتاج واحد للفلسفة المادية الفرعونية المستكبرة، وأنهما يؤديان إلى ذات الطريق المسدود، ومنتهيان حتما إلى إفلاس البشرية. ويقول: فى هذه الظروف المتميزة بأزمة الغايات أو بانعدام هدف دينى ناضج يربط الإنسانية بالله على نحو مكتمل، يمكن للإسلام أن يقدم للعالم الشىء الذى يفتقر إليه، ويكاد يهلك، لأنه لا يجده، يمكن للإسلام أن يقدم التوحيد، يقدم للحياة معناها النضير، يقدم النور والجمال لعالم يوشك أن يحتويه ليل مظلم بالغ الدماعة.. " ثم يقول جارودى للمسلمين: "إن الوفاء للأجداد لا يتمثل فى الحفاظ على رفاتهم،(1/48)
ولكنه فى العمل على تبليغ الشعلة...!! " رذهب الرجل ليلقى علماء الخليج- وكنت يومئذ فى دولة قطر (1)- وتتبعت أنباءه، وهو بين حل وترحال، وسمعت أحد الناس يقول: إنهم وصفوه بأنه صوفى مبتدع...! (مساكين لا يدرون شيئا..! !). وولى الرجل وجهه شطر القاهرة، وقلت فى نفسى: لن يلقى هناك محمد عبده ، كان ذلك مابين عامى 82، 83 تقريباً. ص _050
لن يلقى هناك حسن البنا ، من سيلقى الرجل هناك؟ بقايا سدنة "مجمع الأديان " الذى أوعزت به الصليبية العالمية ثم دفن فى وادى الراحة بأرض سيناء؟ وأصدر غلام شيوعى كتابا عن ردة "جارودى" فقلت: التقى الدهاة من الكفار بالأغبياء من المؤمنين على مهاجمة رجل عظيم... إن مأساة العلم الدينى لابد من شرحها، فالقدر المطلوب لتكوين عقل مؤمن وضمير طهور من مواريثنا التقليدية لم نحسن تحديده بل لم نحاول تحديده... والاستبحار فى المعرفة الدينية هو عند الكثيرين استكثار من عملة فقدت قيمتها، لأنها حوار مع الموتى مضت عليه قرون!! * * * ص _051(1/49)
العلم المغشوش يهز الأمة ويخدم الاستعمار الصحوة الإسلامية المعاصرة مهددة من أعداء كثيرين، والغريب أن أخطر خصومها نوع من الفكر الدينى يلبس ثوب السلفية، وهو أبعد الناس عن السلف إنها اذعاء السلفية وليست السلفية الصحيحة!! إن حب السلف دين وكرههم نفاق، إنهم دعائم حضارتنا، ومعالم رسالتنا، من أجل ذلك يجب أن نحسن التأسى بهم، وأن ندفع عنهم كل ما يؤذى سمعتهم. كنت يوما أتحدث فى موضوع غير ذى بال، وفى المجلس رجل موصوف بالسلفية، وجرت على لسانى كلمة موهمة لم أقصد إلى شىء بها! وتلفت فإذا الرجل يحسب فى نفسه مسار فكرى، ويقدر أنى سأتورط فى كذا وكذا، وكشر عن أنيابه واستعد للفتك!! غير أن الحديث انعرج إلى ناحية أخرى، وشعرت بأن الرجل آسف لأ نى أفلمت منه. قلت له: فلان! قال: ما تريد؟ قلت: رأيتك متحفزا للنزال، ثم كفى الله المؤمنين القتال.... قال: نعم، حسبتك ستقول ما لا أوافق عليه... قلت: إنكم تتربصون بالخطأ، لتاكلوا صاحبه، فإذا فاتكم شعرتم بالحزن، ليست هذه يا صاحبى خلائق المؤمنين! إنكم تجمعون جملة من صفات العناد والتحدى والحقد وتلمس العيب للبرآء، وهذا كله مرفوض فى ديننا.. قال: نحن ندافع عن السنن ونحارب المحدثات والناس تأبى إلا الابتداع. وما يرموننا به باطل... قلت: ليت الأمر يكون كذلك، إنكم تهاجمون المذاهب الفقهية، وتخدشون أقدار الأئمة، وتتركون انقسامات عميقة بين الناس باسم السلفية، والعلم الصحيح لا يأخذ هذا المنهج.. قال: نحن نرفض التقليد المذهبى، ونعلم الناس الأخذ المباشر من الكتاب والسنة أتأبى أنت ذلك؟ ص _052(1/50)
قلت: لا يأبى مسلم الارتباط بكتاب ربه وسنة نبيه، وتصوركم أن الفقه المذهبى يستقى من نبع آخر غير الكتاب والسنة غير صحيح.. ومن الممكن للعلماء الراسخين أن يناقشوا بعض القضايا، ويتعرفوا ما جاء فيها من آثار، ويستنبطوا ما يطمئنون إليه من أحكام، وذلك كله فى إطار من الإخاء والحب وإيثار الحق على الخلق.. والفقهاء الأربعة الكبار، نماذج رفيعة لاحترام الكتاب والسنة، ولا يلام مسلم تبع واحدا منهم، كما لا تلامون أنتم فى اتباع الشوكانى أو الألبانى أو الصنعانى... إلخ. قال: ذاك ما نقول! قلت له: لا، إنكم ترون رأيكم- الذى تابعتم فيه أحد الناس- هو الحق وحده، ثم تشنون هجوما على من خالفه بوصفه خارجا على السنة !! كأن السنة وقف عليكم أنتم لا غير! أحب أن تعلموا أن الاجتهاد الفقهى خطؤه وصوابه مأجور، وأن الأمر لا يتحمل عداوة وفرقة! ولو سلمنا أن ما لديكم هو الصواب، فمخالفكم ما خرم ثواب الله! فلماذا تريدون إحراجه، وإخراجه من دائرة السلف، لتبقى حكرا عليكم؟ الرأى عندى أن المأساة (خلقية)، لا علمية، وأولى بكم أن تتواضعوا لله وتصلحوا نيتكم معه، وتتطامنوا لإخوانكم المؤمنين، وتحسنوا الظن بهم.. إذا اقتنعتم برأيى فمن حوا غيركم أن يقتنع بضده، ولا مكان لحرب، ولا ضرب، والخلاف الفقهى لا حرج منه، أما الإثم ففى التعصب المذهبى الضيق! والعالم الإسلامى رحب، والمذهب الذى يضيق بة قطر يتسع له آخر، والذى ينبو عنه عصر تتسع له عصورأخرى.. إن زعيم السلفية الأسبق فى مصر الشيخ حامد الفقى حلف بالله أن أبا حنيفة كافر، ولا يزال رجال ممن سمعوا اليمين الفاجرة أحياء، وقد نددت أنا فى كتاب لى بمحاضرة ألقيت فى حى الزيتون بالقاهرة تحت عنوان "أبو حامد الغزالى الكافر " والمكان الذى قيلت فيه هو مقر السلفية!! والطلبة السلفيون هنا- فى جامعة الأمير عبد القادر بالجزائر- يقولون عن مالك بن أنس: إنه يفضل عمل أهل المدينة على حديث رسول الله، قلت لهم: هذا(1/51)
كذب، إن مالكا! يرى عمل أهل المدينة أدل على سنة رسول الله من حديث واحد قد يحفظ أو ينسى، قد يخطئ أو يصيب!!. ص _053
هذا التفكير المريض المتحامل لا نتيجة له، إلا تمرق الأمة المثخنة بالجراح، والزعم بأنه سلفى لون من الدجل والجراءة… وقد لاحظت ثلاث ثمار مرة لهذا العلم المغشوش، الأولى أن بعض الطلاب الذين لا يحسنون إعراب جملة يقولون عن الأئمة المتبوعين: هم رجال ونحن رجال! قلت: إن الشعب الإنكليزى لا يتناول رئيسته "تاتشر" بهذا الأسلوب السمج! ليت شعرى أين هذا السلوك من قول رسولنا صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يوقر كبيرنا وبرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه لما!! الثانية أن نفزا من العمال والفلاحين فرطوا فى أعمالهم الحرفية، أو الفنية، مكتفين فى إثبات تدينهم بثوب قصير، وروية مشوشة، وحمل عصا حينا، أو ارتداء عمامة ذات ذنب عندما تكون " المشيخة " قد ثبتت لصاحبها..! أما الملاحظة الثالثة، وخطرها شديد فإن عملاء روسيا وأمريكا أيقاظ فى محاربة الإسلام، مهرة فى إطفاء صحوته الجديدة! وهم يجتهدون فى إبراز الجماعات المتطرفة والتغاضى عن نشاطها لأنها وجه دميم للإسلام ودعاية حقيقية ضده، وهدم للوحدة، وتسجيل للفرقة! من أجل ذلك يحاربون الفكر المعتدل، أو الإسلام الصحيح، ويطاردون أتباعه على حين يترك هؤلاء الغلاة يثيرون الشبه، ويشعلون حروبا داخلية تقضى على الإسلام ومستقبله، وذاك سر انتشارهم فى آسيا وإفريقية! إنهم لو نجحوا- قضوا على الإسلام فى مهده بقصورهم العقلى، فليتركوا لتحقيق ذلك!! ونتجاوز حكاية فقه الفروع إلى حكاية أخرى أدهى! كنت أقرر أن أحاديث الأحاد يعمل بها فى الأحكام الشرعية القائمة على العلم الظنى أو الظن الراجح.. فسأل طالب: هل ينبنى على الظن عمل؟ قلت تدبر قوله تعالى:( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ). ص _054(1/52)
إن أحوال الناس ومسالكهم تنبنى غالبا على ما يترجح لديهم من أحكام، وأحاديت الآحاد ثبتت فى الدماء والأموال، والأعراض على هذا الأساس... أما أصول الاعتقاد، وأركان الإيمان فتستمد من نص قطعى الدلالة، قطعى الثبوت، وهذا ما عليه جمهور الأئمة.. قال الطالب- وهو سلفى كما ظهر لى-: حديث الآحاد مصدر للاعتقاد! قلت- محاولا الاختصار-: ليس فى ديننا عقائد تقوم على حديث آحاد! عقائدنا كلها ثاتبة بأدلة قاطعة، ولا داعى للجدال! قال الطالب: عقيدة القدم ثبتت بحديث آحاد! فرددث كلمة الطالب بضيق شديد، وغاظنى منه أن يستأنف كلامه قائلا: وفى راوية أخرى ذكرت كلمة رجل بدل كلمة قدم. قلت: تعنون أن نثبت أن لله رجلا؟ ونعد ذلك من عقائد الإسلام التى نلزم الناس بها؟ قال: نعم، وذاك رأى سلف الأمة..! قلت: ما أجرأكم على الافتراء! إن سلف الأمة ما تدرى شيئا عن هذه الرجل، ولا سمع داع إلى الإسلام يكلف الناس أن يؤمنوا بها.. أصل القضة وتفصيلها ذكره القرطبى على نحو واضح سليم.. قال فى صحيح مسلم والبخارى والترمذى، عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوى (1) بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك، ولا يزال فى الجنة فضل حتى ينشىء الله خلقا فيسكنهم فضل الجنة "لفظ مسلم. وفى رواية أخرى من حديث أبى هريرة: "أما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلن وينزوى بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لهآ خلقا " قال علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم تقدمهم الله إلى النار، وقد سبق فى علمه أنهم من أهل النار، وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم؟ يقال رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد (1) ينزوى بعضها إلى بعض: تنقبض على من فيها، وتشتعل بعذابهم، وتكف عن سؤال: هل من مزيد؟ ص _0 ص(1/53)
قال الشاعر: فمر بنا رخل من الناس وانزوى قبائل من لخم وعكل وحمير إليهيم من الحى اليمانيين أرجل على ابنى نزار بالعداوة أحفل ويبين هذا المعنى ما روى عن ابن مسعود أنه قال: ما فى النار بيت ولاسلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذى قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد، قال الخزنة: قط قط حسبنا! أى اكتفينا اكتفينا، وحينئذ تنزوى جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم؟ ويشهد لهذا التأويل قوله فى نفس الحديث: " ولا يزال فى الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ". وقد زاد (القرطبى) هذا المعنى بيانا فى كتاب الأسماء والصفات من الكتاب الأسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل فى معنى قوله عليه السلام: "حتى يضع الجبار فيها قدمه " أى من سبق فى علمه أنه من أهل النار. فأين القدم التى يمشى عليها فى هذا السياق المبين؟ إن العقائد لا تخترع ولا تفتعل على هذا النحو المضحك! عقيدة رجل لله !! ما هذا ؟ قلت: إن أركان الإيمان تؤخذ من نص قطعى الثبوت أى متواتر، قطعى الدلالة أى لا يحتمل معنى آخر.. وإذا كان الأحناف يرون أن خبر الواحد لا يثبت فريضة فى الفروع العملية، لأن الفرض عندهم يثبت بدليل قطعى لا شبهة فيه، فكيف نتصور نحن إثباته لعقيدة يكفر منكرها؟ ولكن الطالب السلفى قال: إن القرطبى أشعرى المذهب وإنه أحد المفسرين الجانحين إلى التأويل، و،انه يشبه الرازى والغزالى، وإنهم جميعا مبتدعة لا يؤخذ الإسلام منهم... وعلمت أن الغلام مملوء بالجهالة، وأنه- مثل غيره من أدعياء السلفية- لا تصلح الأرض معهم ولا بهم... ص _056(1/54)
الطريق لحل الخلاف فى قضية التأويل: وهنا أجدنى مسوقا إلى الكلام عن التأويل، وتبيان الموقف الصحيح منه... إن العقل الإنسانى فى عصرنا هذا عرف قدره، وعرف أين يمتد وأين ينكمش؟ ففى بحوث المادة انطلق لا يلوى على شىء ! أما فيما وراء المادة، فقد تراجع وأعلن أن هذا ليس ميدانه.. والعقل الإسلامى عرف هذه الحقيقة لكن بعد ما داخ وكاد يهلك! والذين اشتغلوا بالتأويل عندنا سبحوا طويلا فى البحر ثم لما أحسوا الغرق عرجوا على أقرب شاطئ فنجوا بأنفسهم،،! وقد تأملت مليا فى مواقف رجالنا قديما فما شعرت فى قلب أحدهم بسوء، ولا رأيت أن أحدهم يخطر بباله النيل من أمجاد الألوهية، أو الحط من عظمتها! إن جمهرتهم- فى خشوع وأدب- تشترك مع الكون المسبح بحمد ربه، وتشترك مع الركع السجود فى التوبة والخضوع. ربما أسف المعتزلة فى بعض عباراتهم، وربما خدعهم الإعجاب بفكر اليونان حينا، وأنا ما كان أمرهم فإن العقلاء أدانوهم فى تأليبهم السلطة على أحمد بن حنبل، وكان ذلك طاويا لرايتهم إلى الأ بد، فانتهوا بخيرهم وشرهم... أما الأشاعرة فتنزيههم دته واضح، وثناؤهم عليه جميل، وقد اقتصدوا فى التأويل، وسلكوا مسلكا وسطا جعل جماهير المسلمين تنضم إليهم من ألف سنة إلى اليوم. ولك أن تقول: ما قيمة هذا الاقتصاد، ونحن منهيون عن التأويل جملة وتفصيلا؟ ونجيب: إن المتكلمين من سلف وخلف اضطروا إلى التأويل فى بعض جمل من الكتاب الكريم- والسنة كذلك- توفيقا بينها وبين الآيات الأخرى، وتمشيا مع حكم العقل فى إثبات الكمال كله لله تبارك اسمه، ونفى أى إيهام بما لا يليق! تدبر قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ). ص _057(1/55)
المفسرون: المعية هنا معية صفات، لا معية ذات، فهو معنا بعلمه وسمعه وبصره وقدرته وحكمته ورحمته.. إلخ، أما معية الذات فتقتضى الحلول وهو باطل... وعلى ضوء هذا فسروا قوله سبحانه وتعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). وقوله أيضا: (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون). قالوا: نحن أى ملائكتنا... فإذا استحق الأشعرى لوما، لأنه أول آيات ومرويات ابتغاء تنزيه الله تبارك وتعالى فغيره كذلك ملوم ولا معنى لنهش الرجل وحده بالأسلوب المسعور الذى نراه الآن!! هل يعنى ذلك أننا مع الأشعرى فى منهجه؟ الحق أنى مع السلف الأول من صحابة رسول الله، ومع دولة الخلافة الراشدة، التى لم تفتح بابا لهذه البحوث!. وأنظر إلى ابن تيمية والأشعرى على أنهما سواء فى الإيمان الصحيح، والغيرة على الإسلام. وما يأخذ الكاشحون على أبى الحسن ، يؤخذ مثله على ابن تيمية عندما يتوقف فى نفى الجسمية عن الله فلا يثبت ولا ينفى، وهذا خطأ، وكان ينبغى أن يلتزم بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) فيجزم بالنفى! كما يؤخذ عليه أيضا نفيه للمجاز فى القرآن وفى اللغة العربية كلها، إن علماء اللغة وأدباءها وشعراءها يبتسمون من هذا النفى الغريب.. ولكن هذه الهنات لا تنال من قدر إمام شامخ كبير العقل راسخ اليقين شديد البلاء، فى نصرة الإسلام، ورد أعدائه.. وواجبنا فى هذا العصر ألا نجدد العراك بين الموتى، وألا تجتر الخلافات القديمة ص _058(1/56)
لنقطع بها أرحام المؤمنين فى هذه الأيام النحسات التى أحدق فيها أعداء الإسلام حول د اره، يريدون هدمها... إذا كان المثل يقول: " لا تجعل سحب الغد تغطى شمس اليوم " فأولى بنا أن نقول: (لا تجعل كيوم الماضى تغطى شمس الحاضر " !! ماذا يكسبه السلفيون من شتم الأشعرى والرازى والغزالى والقرطبى وبقية علماء المسلمين طول عشرة قرون؟ أليس الأولى بهم أن يدركوا شؤم الخلاف ويجنبوا الأمة بلاءه الأن..؟ كنا فى الجامع الأزهر ونحن طلاب صغار نعرض رأيى السلف والخلف، وندرس مواقف الجانبين، دون حساسيات، وقد ألفت كتابى "عقيدة المسلم " مؤثرا مذهب السلف لاقتناعى بعجز العقل البشرى عن اكتناه الغيبيات... بيد أنى ما فكرت فى تأليف فرقة لشتم الأشعرى وسائر الخلف، وشغل المسلمين بمحاربة الموتى، وإلقاء محاضرة فى تكفير الغزالى باسم السلف !! إن أبا حامد الغزالى غفر الله له موله القلب بحب الله، حاز الكلمات فى مدحه وحمده، واقتياد الناس إليه وتحبيب ذكره إلى نفوسهم! وما يحكم بكفره مسلم! فكيف يفعل ذلك منتسب إلى السلف؟ وأعود إلى قضية التأويل لأسجل بعض مشاعر نفسية وعقلية مرت بخاطرى. لقد كتبت قبل ذلك أن اللغات من وضع البشريعبرون بها عما ألفوا من أشخاص وأشياء وأفكار فى عالمهم المأنوس لهم، وأن هذه اللغات أعجز عن تصوير أمجاد الألوهية، وآفاق الكمال الأعلى، وأن الوحى الإلهى عندما يخاطب الناس فهو يقرب إليهم بألفاظهم ما يناسب أفهاههم... كنت ذات يوم جالسا مستغرقا فى تفكير عميق، فلمحت ذبابة تطير قريبا منى! فتساءلت: أتعرف هذه الذبابة مايدور برأسى؟ بداهة لا. إنها دون ذلك كثيرا كثيرا كثيرا! قلت: إن عباقرة الجنس البشرى، لو تسلسل تفكيرهم يمد بعضه بعضا ليعرفوا طرفا من حقيقة الذات العليا، لكانوا أعجز من هذه الذبابة... إن شأن الألوهية أجل وأسنى!! ص _059(1/57)
وتساءلت: كم أشغل أنا من مساحة أو من حيز على ظهر الأرض؟ أشبار معدودات قى عدة أشبار! وتضاءلت فى نفسى شيئا ما، ثم ازداد تضاؤلى وأنا أقول: إن الأرض كلها تأخذ من مساحة الكون الكبير أقل من الحيز الذى آخذه أنا منها! إنها داخل الملكوت الفخم تشبه الهباءة التى ترتعش فى شعاع من الشمس. لو فنيت هذه الأرض بمن فيها وما فيها، ما نقص الكون شيئا طائلا، ولو فنى الكون كله ما ضار المجد الإلهى شيئا. وتسلل إلى قلبى إحساس بالرهبة، وأنا أتدبر قول ذى الجبروت والعظمة- مهددا من أشركوا به-: (فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ). لا أحد، إن الملائكة والمرسلين ومن دونهم فقراء إلى الله، وهو غنى عن العالمين. وتذكرت أنى أتنفس بلا تفكير، نعم كم شهيقا وكم زفيرا فى كل دقيقة؟ عشرات المرات، والعمر مربوط بهذه الأ نفاس، فلو توقفت فاضت الروح. خمسة مليارات من البشر يتنفسون، وأضعاف أضعاف هؤلاء من الطيور، والزواحف، والدواب الهائمة والسائمة والعائمة. من يهيئ لأولئك كلهم الهواء الصالح لهم؟ قال العلم: يحتاج الأحياء إلى الأوكسجين، ويحتاج النبات إلى الكربون، ويتم تبادل بين النوعين ليأخذ كلاهما ما يبقيه! ترى كيف يتم هذا التبادل؟ وأين؟ وكيف يتبع العلم الإلهى مسار كل زفير وشهيق فى هذا الجو الرحب ليبلغ مداه، ويتم دورته، ويحقق نتيجته؟؟؟ إننا معشر الإنس والجن- لا نعرف إلا القليل عن عالمنا، فكيف يدرك عالم الغيب من يجهل عالم الشهادة؟ وكيف يحاول الغرور البشرى اكتشاف الذات، أو الصفات العليا؟ أحسب أن البطالة النفسية، والتطاول الردىء من وراء الترف العقلى فى علم الكلام. ص _060(1/58)
جماعة يوغلون فى التنزيه إلى حد التجريد، وآخرون يبالغون فى الإثبات إلى حد التجسيد، والقرآن الكريم بعيد عن المسلكين، ونحن لا نقبل إلا منهاجه، ولا نأخذ عقائدنا إلا من توجيهه الحق، ننطلق أو نتوقف وفق ما يريد. واللطيف أن العلم بعد ارتقائه المعاصر، يهدى إلى الله بالأسلوب القرآنى، لا بالفكر السطحى، ولا بالتعمق التائه، وقد تدبرت كتابات علماء الكون والحياة فوجدتهم استدلوا بالملكوت على صاحبه، وعنت وجوههم أمام عظمته، ثم استيقنوا بعد ذلك من عجزهم عن اكتناه ذاته، فتوقفوا مبهورين، ولو وضعت تجاه أعينهم آيات القرآن الكريم لقالوا: (ذلك ما كنا نبغ). هذا ما نريدأن نقول، ولكننا لا نعرف. وتعابيرهم تدل على وحدة الشهود لا وحدة الوجود! فهم عالمون بأن المخلوق غير الخالق، وأن العالم غير مبدعه، غير أنهم يهتفون باسم الله عندما تبرق أمام أعينهم آياته، وتتكشف! الأسرار عن حكمته وقدرته! وهذا الهتاف عودة إلى الخالق، الذى نطقت صناعته بجلالته. قلت لنفسى يوما: ما أثقل هذه الأرض! ما أثقل جبالها وبحارها المحيطة وغير المحيطة، وصحاريها وبراريها... من يحملها فى هذا الفضاء، ويديرها أمام أمها الشمس؟ بل من يحمل الشمس نفسها- وهى عضو فى مجرة هائلة- بين ألفى ألف مجرة تسبح فى جو السماء؟ وهمست شفتاى بالجواب: من؟ إلا الله! ثم قلت: ذاك الخاطر بعض ما جاء فى السنة الشريفة " سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، !رضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته " ورجال العلم الحديث بعداء عن الجدل الفلسفى، والشقشقة اللفظية، فإذا نظر أحدهم إلى سنبلة قمح، أو كوز ذرة، فقال: الله! فلا يعنى إلا الإشارة بقدرة استخرجت من الطين هذا الحب المتراصن النضيد، وأبرزته سطورا سطورا كأنه قصيدة رائقة.. إنه المعنى السهل الذى لخصه الشاعر العربى بقوله: وفى كل شىء له آية تدل على أنه الواحد..! وقد رأيت الإحساس بالله سيطر على بعض الكاتبين والعالمين والمتصوفين، فجاءت عباراتهم(1/59)
تدل على الله، أكثر مما تدل على العالم، وسر هذا الاستغراق الحسى أن الله ص _061
هو وحده مصدر الإيجاد والإمداد، وأن وجود الأحياء عارية ممنوحة لهم من الحى القيوم، وإلا فليس لهم من ذواتهم إلا العدم، وإذا كان فى الأرض والسماء ما يعجب أو يروع، فالفضل لذى الجلال والإكرام لا غير، أجل، فما يكون هذا الغير؟: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). ذاك سر الصرخات المنكرة، التى أرسلها ابن عطاء الله السكندرى فى وجه أنا! لا يرون الله! منهم ملاحدة ينكرون ويطلبون الدليل على وجوده! ومنهم أهل دين لا يحسون أنه منهم قريب مع أن منه دقات قلوبهم ولمحات عيونهم، يقول ابن عطاء الله: كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ وهو الذى أظهر كل شىء... كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ وهو الذى ظهر بكل شىء كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ وهو الذى ظهر فى كل شىء كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ وهو الظاهر قبل وجود كل شىء كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ وهو أظهر من كل شىء... كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ وهو الواحد الذى ليس معه شىء كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ وهو أقرب إليك من كل شىء.. كيف يتصور أن يحجبه شىء؟ ولولاه ما كان جود شىء.. شتان بين من يستدل به، وبين من يستدل عليه! المستدل به عرف الحق لأهله فأثبت الأمر من وجود أصله! والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه؟ ومتى بعد حتى تكون الآثار هى التى توصل إليه؟ فى فجر النهضة العلمية الحديثة فى بلادنا ألف الشيخ محمد عبده "رسالة ص _062(1/60)
التوحيد" اجتهد الرجل فيها أن يعرض علم العقيدة فى ثوب جديد، فابتعد عن الجدل، وأبى أن يلمز واحدا من المتكلمين، وعدهم جميعا إخوة يبحثون عن الحق، ثم شرح القضايا الأصلية فى ديننا شرحآ حسناً، وقدم لها خلاصات نقية.. وتألفت بعد "رسالة التوحيد" كتب فى العقيدة بنت ولم تهدم وجمعت ولم تفرق، وتحاشت الماضى الذى قسمنا فى المجال الثقافى والسياسى فرقا يشقى بها المؤمنون ويسعد بها الكافرون، وأسهمت أنا فى هذا الميدان بكتابى "عقيدة المسلم " الذى ألفته من 35 سنة تقريبا (1)، وأرجو أن ينفع الله به. لكن هواة الشقاق يأبون إلا استحياء الخلاف، وما أغنانا عنه! إن ثقافتنا الإسلامية كلها عندما تعرض الآن ينبغى أن تغربل بدقة، حتى يتساقط التافة فى صمت، ويبقى ما ينفع الناس... ونحمد الله أن بقى كتابه محفوظا، وأن بقيت السنة محروسة بالعلماء الثقات والفقهاء الأمناء. وننصح إخواننا العاملين تحت راية لا السلفية" أن يقدروا شرف هذه الراية، وألا يقلبوا الأعور لأمة تريد النهوض، وأن يتركوا قصة التكفير والتفسيق لعباد الله، فإنهم يهدمون أنفسهم قبل أن يهدموا كيرهم... *** (1) أى حوالى سنة 1950 تقريبأ. ص _063(1/61)
حد أدنى لثقافة المسلم.. لو كان الإسلام فلسفة أخلاقية لأمكن أن ينهض به بعض الوعاظ والمربين! ولو كان نظاما سياسيا فقط، لأمكن أن يقوم به حزب من الأحزاب الراغبة فى الحكم! إنه مجموع الأمرين! والتعريف به والبقاء عليه لا يتم إلا بصياغة علمية شاملة! بيد أن علم الكلام، وعلوم العقيدة إجمالا لم تحسن هذه الصياغة، أو لم تقدم لها خلاصة نقية! فهناك بحث هل العمل شرط أو شطر فى الإيمان؟ أو لا شرط ولا شطر؟ وهناك قول عجيب فى أن الإسلام قد ينفك عن الإيمان! وإنى لأستغرب كيف يذكر قول بأن الإسلام- وهو دين الله- يمكن ألا يكون معه إيمان؟ وهناك قضايا خشيت بها الأذهان، وهى فضول أو ذيول يجب قطعها… مثل: الاستثناء فى الإيمان!.. الحرام رزق!.. المقتول ميت بأجله!.. إنها قضايا تافهة، وكان أولى بالعرض الجيد علاقة المسلم بالله كما وصفها القرآن الكريم، فإن هذه العلاقة تتكون من جملة أخلاق يكون الإيمان صفراً بدونها، ولا أدرى من يهتم بها إذا لم يهتم بها علماء العقيدة؟ إنها تركت للأسف للمؤلفين فى التصوف على أنها مراحل الطريق، أو للمتحدثين فى الوعظ على أنها من مرققات القلوب، ومكانها الأول كما قلنا فى علم التوحيد إذ لا دين مع فقدانها... ا- خشية الله فخشية الله من عناصر الإيمان الأولى، وتدرك ذلك في آيات شتي وثقت الصلة بين الخوف والإيمان. قال تعالى:( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ). ص _064(1/62)
وقد يتعرض المؤمن فى حياته لمخاوف شتى. لكن خوف الناس يتلاشى أمام إجلال الله وإعظام أمره: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ). ولما طلب من اليهود أن يدينوا دين الحق كان أولى ما كلفوا به: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ). وعندما وعد الله المؤمنين بالنصر على الأعداء، ربط وعده بهذه الرهبة الضابطة بسلوكهم فقال: (لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ). وبين أنه على قدر معرفة الله تكون خشيته: (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور). ومع وعد المؤمنين الصالحين بحسن العقبى، أكد أن ذلك لا يتم إلا مع خشية الله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) أين تكون التقوى إذا انتفى الخوف؟ وأين ينبت الضمير الصاحى؟ 3- رجاء الله ونذكر بعد الخوف الرجاء فإن جمهرة الناس تسيرهم مشاعر الرغبة والرهبة، والوعد والوعيد! وقد كان لسيف المعز وذهبه أثرهما فى استقرار دولته.. والرجاء فى الله له معنى أشرف وأذكى، فإن المرء فى هذه الدنيا لا يفلت من غيمة إلا لتحتويه أخرى، ولولا شعاع الرجاء فى قلبه لغاب فى الظلام . وهذا الرجاء ص _065(1/63)
يومض من الإيمان بالغيب، والثقة فيما عند الله، ومن ثم فإن الماديين لا يعرفونه، لأنهم محجوبون بالأسباب الظاهرة، يستمدون أحكامهم من عالم المحسوسات وحسب. وقد كان يعقوب مكذبا لمن حوله ضائقا بهم عندما قالوا له:( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ). وتحقق رجاء يعقوب بعد لأى، وتلك سنة الله في عباده، ولابد من الاستكانة لها فهو القائل: (إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ). والرجاء فى الله يحتاج إلى مهاد من الصالحات: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ). ويحتاج الأفراد والجماعات إلى الرجاء والدعاء فى جهادهم لأنفسهم وجهادهم للناس. فلا شىء أقتل للنفس من فقدان الأمل، وغلبة القنوط، وانكسار الإرادة. وفى القرآن والسنة آيات وحكم تجدد الرجاء وتغرى بالدعاء، وتهزم الآلام والفتن مهما طال حصارها واستحكمت حلقاتها.. وقد تأملت فى قعود القاعدين، واستسلام المقهورين فلم أر له علة إلا عدم الرجاء فى الله! وما ضاع الرجاء إلا مع ضياع اليقين.. 3، 4- الصبر والشكر الصبر والشكر، وهما ركنا الإيمان، بعد أن يتحول من صورة ذهنية إلى واقع عملى! إننا نحب أن نعيش "متفرجين " ننظر إلى ما يعرض لغيرنا فى هذه الدنيا، كما ينظر الأطفال إلى برامج " التلفاز"، حسبهم منها النظر والتسلى. ص _066(1/64)
دين الله ودنيا الناس ليسا كذلك، وإنما اشتباك حقيقى مع السراء والضراء، والخير والشر، واشتباك يجر المرء بعيدا بعيدا عن الشاطئ ليصارع الموج ويواجه الموت، ثم يعود وهو يلهث ما يصدق أنه عاد... إن الله أمر موسى أن يذكر بنى إسرائيل بتاريخهم مع أعدائهم، وما عانوا من بلاء، وما تم لهم من إنقاذ: (وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور). وقصى علينا سبحانه خبر "سبأ" وتنكرهم لنعمة الله، ثم ذكر ما أنزله بهم من جزاء فقال: (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ). ولست أتحدث عن فضيلتى الصبر والشكر المعتادتين بين الناس، إنما أعنى صبرا يحس صاحبه أن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وأن حق العبودية التحمل دون تململ وضجر، فإذا حرم المرء ما يحب، أو كلف ما يكره، نظرإلى ربه فى تسليم، واستقبل قضاءه دون سخط. وكذلك إذا طرقت النعماء بابه، لم يطش لها لبه، أويتملكه الغرور فيحسب أنها جاءت إلى صاحبها الجدير بها.. كلا إن اختبار الناس بالسراء أصعب من اختبارهم بالضراء، والساقطون فى امتحانات الرخاء أضعاف الساقطين فى الميدان الآخر. قال تعالى:( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير). ويلاحظ أن كلمة " صبروا" فى الأية الأخيرة وضعت مكان كلمة "آمنوا"، فقد اطرد فى النظم الإلهى أن يقترن الإيمان بالعمل الصالح دائما، وإنما تغير اللفظ فقط، وإلا فكلمة الصبر التى جاءت هنا هى أثر الإيمان وامتداده... ص _067(1/65)
كما يلاحظ أن إبليس لما أعلن تمرده على ربه أعلن أنه سيصرف الناس عن شكره فهم يأكلون خيره ويعبدون غيره! وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى:( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك). 5- توفير الأسباب المرء يتعلق بما يملك من أسباس، ويرى- بعد وفرتها لديه- أن كل شىء يدعو إلى الطمأنينة، والى ذلك يشير الشأعر مستهزئا بتهديد خصمه له: أيوعدنى والمشرفى مضاجعى؟ ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ وتوفير الأسباب مطلوب، بل الغفلة عنها جريمة ! وقد قال الله سبحانه: (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) والغريب أن المسلمين طالما غفلوا، وطالما ذهبوا بددا إثر ميلة واحدة من أعدائهم المتربصين! ومع تنويهنا بقانون السببية، وقيمة العوامل المادية نريد إيضاح حقيقة مقررة فى الأرض والسماء هى أن الأمور لا تبلغ تمامها إلا بإذنه تعالى، فما ينقطع مقطوع، ولا يتصل موصول ولا ينبت نبات ولا يحيا حى إلا وفق المشيئة العليا. والإنسان قد يملك أسبابا ولكنه لا يملك الأسباب كلها، ولو ملكها كلها فهو لا يملك الأسباب المضادة لها، بل إن تيار الحياة الذى يمد القلب بالنبض، والعقل بالفكر، والأعصاب بالحسى، ليس ملك الإنسان نفسه، بل ملك واهب الحياة الذى له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، والهزيمة والنصر، والتقديم والتأخير... من أجل ذلك يجب التوكل على الله والركون إليه والاعتقاد أن النتائج المرتقبة لكل سعى مرهونة بمشيئته وحده. وتدبر قول الله لنبيه: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون ). ص _068(1/66)
ويتأكد هذا التوكل فى الفترات المرة التى يضعف فيها الحق، وتقل الأسباب المادية معه، وتفحش مع المبطلين. قال تعالى على لسان رسله المستضعفين (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون). والتوكل ركن الإيمان فى حالتى القوة والضعف، فلا القوة- مع التوكل- تغر ولا الضعف يقهر بل يبقى المسلم متزن الأعصاب معتدل الأحكام، عارفا بحدود قوته مع من لا تحد له قدرة، ولا يغلب على أمره أبدا... 6- حب الله وجمهور المسلمين يحسب هذا الحب صفة كمال، أو درجة عليا لبعض العابدين! وهذا غلط شنيع، فإن فقدان هذا الحب فسوق، ويغلب أن ينتهى إلى الكفر البواخ... إن الله يصف المشركين فيقول: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ). وهذا وصف دقيق، فقد رأينا من الكافرين بالله من يفتدى كفره بدمه وماله، ومن يشمئز إذا ذكرت كلمة التوحيد، ومن يقالب جبينه إذا رأى مؤمنا ويود لو خسفت به الأرض! وتأمل فى قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون). ما الذى يوقف هذه المشاعر الحادة؟ ما الذى يرد هذا الحب المكين للباطل؟ يقول الله تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله ). إن العواطف الفاترة والأنفاس الباردة لا تحمى حقا ولا تصون شرفاً لا سيما إذا حشا الباطل جنوده بالأوهام، ودفعهم ببأس شديد إلى اقتحام كل زحام... ص _069(1/67)
لقد وصف الله الرجال الذين يصلحون لدينه بأنهم قوم: (يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ). والواقع أن علم العقيدة عندنا لما اتسم بالجدل، وأضفت عليه فلسفة اليونان، الأخذ والرد والبحث والنظر، تحول إلى علم جاف عقيم، وأمسى قدرة عقل على الاستدلال، لا قدرة قلب على تذوق حلاوة الإيمان، ويجب أن نعود إلى قواعدنا الأولى... 7- ذكر الله ربما ابتسم بعض الناس، ونحن نذكر هذا الركن الجليل، وقال: نزعة صوفية. والواقع أن عصرنا هذا أفقر العصور إلى معرفة هذا الركن، وإنه يكاد يهلك جفافا لنسيان الله، وركضه وراء مأربه.. إن الناس فى عصرنا لا يعرفون إلا أنفسهم؟ ولذلك لا يذكرون غيرها!. والإنسان الأوربى- قائد هذه الحضارة- يصحو من رقاده، وينظر إلى كلبه مبتسما، ويرمى إليه طعامه ثم يذهب إلى عمله باحثا عن طعامه هو، ما رفع عينه إلى السماء! ما حيى ربه بكلمة، ما الفرق بينه وبين كلبه؟ لا فرق إلا أن هذا حيوان أعجم، وهذا حيوان ناطق، امتاز بعقل أذكى فهو يسخر ذكاءه فى متعة أكبر وسيادة أظهر.. ثم لا شىء وقد يموت بعدئذ حتف أنفه، أو فى حرب عدوانية شنها على غيره بطرا ورئاء الناس، أو فى حرب دفاعية يخوضها لتأمين ضروراته ومرفهاته وحسب! هذه إنسانية الحضارة الغالبة! ودعك من أديان تعيش فى كنفها، ربما تساعدها على شرودها؟ لأنها لا تدرى عن الله الحق شيئا. ذكر الله تجديد أو توكيد لمعرفته الأولى، بعد الإيمان به، ألا ترى التلميذ يقرأ كتابه ثم يعود إلى قراءته مثنى وثلاث ليبقى عارفا بما فيه. والإنسان فى هذه الدنيا محتاج إلى مذكر دائم لتستديم معرفته لربه، وإلا نسى، وطال عليه النسيان فجهل.. ص _070(1/68)
وقد يكون الذكر "جهاز صيانة " يصلح ما تعطل ويجدد ما بلى حتى لا تتعطل الوظيفة الأصلية، ويفقد ما لدينا قيمته، وذاك سر قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون). وقوله (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا). ومعنى الذكر المطلوب واضح فهو عملية عقلية روحية تعيد الانتباه، وتجلو الصدأ وترد لليقين قوته وأثره! وليس هو ما يتجمع فى حلقاته الهمل، لهم بغام منكر! هذا رقص يحسنه الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا... 8- التوبة التوبة خلق لا ينفك عنه مؤمن. وقد تحدث علماء الكلام فى هذا الموضوع تحت عنوان فاعل الكبيرة! وكان لابد من الحديث عنه فى دين عنوانه الإسلام أى الخضوع لله وتنفيذ أمره! إلا أن الحديث اصطبغ بطابع الجدل والتراشق بالألفاظ والتهم، فضر أكثر مما نفع. وانقسم المسلمون الأوائل فيه إلى فرق شتى: فهناك الخوارج: وهم بدو لا خبرة لهم بأغوار النفوس وليس لديهم فقه ينسقون به أنواع الأدلة، ولا يدرون شيئا عن آثار الظروف والملابسات فى تصرفات الإنسان، وهؤلاء يحكمون بكفر فاعل الكبيرة. وهناك المعتزلة: الذين ذهبوا إلى رأى عجب، وهو القول بمنزلة بين المنزلتين، فالعاصى عندهم ليس بمؤمن ولا كافر! ليس بكافر لأنه يعرف الله، وليس بمؤمن لأنه عصاه. وهناك المرجئة: وهم قوم لم يعطوا السلوك كبير قيمة، فالمؤمن لا يفقد إيمانه بترك واجب أو بفعل محرم، ولو بقى على ذلك حتى بلغ أجله، وهو مذهب استرخاء وفوضى وإن شاع للأسف بين العوام... والجمهور على أن من لم يتب من ذنبه فأمره مفوض إلى ربه ما دام قد مات على التوحيد، إلا إذا استباح حراما أو جحد فريضة فهو بذلك ينسلخ عن الإيمان. ص _071(1/69)
وما نحب أن نضيف هنا جديدا، ولعلنا استوفينا هذا البحث فى كتابنا " عقيدة المسلم " غيرأننا نرفض الاعتراف بما يقع الآن فى العالم الإسلامى من فتن مظلمة. فهناك أناس انضموا للشيوعية، وانسلخوا فعلا عن الإسلام، وهم- ثقافيا وسياسيا- مع الشرق الشيوعى. وهناك أناس تنكروا فعلا لدينهم، وانضموا إلى الجبهة الصليبية، يعاونونها على وأد الإسلام وقتل شرائعه.. وهؤلاء وأولئك إذا هلكوا على تلك الأحوال ماتوا على غير ديننا، ولا يغنيهم شيئا أن يدفنوا في مقابر المسلمين: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ). تلك الأخلاق الثمانية التى أحصيناها آنفا هى عناصر حقيقية للإيمان وهى- بعد معرفة الله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا- التى تحدد علاقة المؤمن بربه، ولنترك المباحث التى أضافها البعض إلى علم العقيدة فهى أقرب إلى اللغو منها إلى الجد. وثم أمر يتصل بكيان أمتنا وإن شغلنا عنه بما هو دونه، وأعنى به الأخلاق الزكية! خصوصا الأخلاق التى عد النبى- صلى الله عليه وسلم - تركها نفاقا... إن أمتنا شغلت نفسها بفروع الفقه وصوره الجزئية أكثر مما شغلت نفسها بالتربية الأخلاقية، وهذا خلل هر بناءها الروحى والاجتماعى، وأوجد أجيالا من المتنطعين لا يحسنون معاشا ولا معادا. الحكمة*.. والضبط الاجتماعى وننتقل الأن إلى جانب آخر من حياتنا الاجتماعية. لقد وردت كلمة الحكمة فى القرآن الكريم عشر مرات، وجاء الأمر بتعليمها مع القرآن نفسه في أربعة مواضع، منها قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). * لكى يفهم معنى الحكمة لابد من التدبر فى النصوص القرأنية الواردة حتى يتضح معناها من خلال النسق القرآنى. ص _072(1/70)
وظاهر أن تعاليم الكتاب والحكمة أحد عناصر ثلاث هى التى تكون رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم -، وغاياتها الرئيسية. واقتران الحكمة بالكتاب جعل البعض يتوهم أن المراد بها السنة الشريفة!. ودون أى مساس بمكانة السنة نرى أن هذا اللهم بعيد. فللحكمة معنى آخر نأخذه من مواضع الكلمة فى السياقات الأخرى... جاءت كلمة الحكمة فى سورة الإسراء بعد هذه التوجيهات:( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا * ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها * ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ). وجاءت الكلمة فى سورة لقمان: (ولقد آتينا لقمان الحكمة ) ثم شرع لقمان يفصل حكمته في وصاياه لابنه مبتدئا بغرض التوحيد، واحترام الأبوين إلى أن قال: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور * واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) وجاءت كلمة الحكمة عند استعراض آلاء الله على نبيه داود فى سورة (ص): (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) والحكمة هنا تتوسط عظمة الملك، وعظمة البيان، ويزداد معناها وضوحا عندما نضم إليها ما جاء فى سورة البقرة بعد انتصار داود على أعدائه: (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء). ص _073(1/71)
ويظهر أن الحكمة من خصائص النبوات التى تسوس الناس، وتنفى ملكاتهم النفسية، وتنظم صفوفهم فى طاعة الله بشتى التوجيهات، وذلك ما تشير إليه سورة النساء عند تقريع اليهود: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ). أى آن الحكمة وإن عنت الآداب والسير الرفيعة فهى تعنى كذلك الشرائع التى تشد أوصال المجتمع وتحرس كيانه. وقد ذكر الله سبحانه فى سورة آل عمران أنه أنعم بالحكمة على عيسى بن مريم: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل). إن هذه الحكمة رحبة الدلالة، ولكنها تضم أول ما تضم التوجيهات والتقاليد التى تتماسك بها الجماعة، كما يتماسك الجسم بجهاز عصبى ذكى سريع.. وأحسب أن الحكمة هى المعنى الباطن لكلمة الميزان، وأن الميزان هو الجانب العملى لكلمة الحكمة، وقد وردت كلمة الميزان فى مواضع من الكتاب العزيز، منها (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب ). وقوله (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). والمعنى الذى لا محيص عنه أن المجتمع لابد أن يتوازن بالعدل، وأن يترابط بالحكمة، وأنه لا مكان فى بناء المجتمعات للعبث والفوضى والجور، وإشباع الجياع إلى العلو والظهور، وإرضاء الراغبين فى الاكتناز والتكاثر... ولا مكان فى مجتمع مؤمن لسيادة الجهل، وإقرار الفساد، والحيف على الضعاف إذ لا يسمح بهذا "ميزان " ولا تسمح به "حكمة". ص _074(1/72)
التخطيط الصحيح لبناء الأمة إن الله يوصى الجماعة الإسلامية أن تتعاون على البر والتقوى، وأن تتواصى بالحق وبالصبر، وكان المفروض فى مجتمع حكيم متزن أن تفشو فيه الأجهزة التى تيسر الزواج لتمنع الزنا، والتى تجمع الزكاة لتحارب الفقر، والتى تتعهد الأوقات لتقيم الصلوات، والتى تقيم المدارس لتنشر العلم، والتى تؤسس المطابع لتنشر الكتاب... إلخ. غير أن هذه الأجهزة تكونت تلقائيا فى عصور متقطعة، أو تكون ما يؤدى رسالتها، ثم بقى الإسلام فى "وصاية" الأفراد لأن الحكومات كانت فى واد آخر.. فكيف تتوطد "الحكمة" لما أو يعتدل لا الميزان لما فى هذا الجو النكد؟ إن الأخلاق كالزرع الذى يحتاج فى نمائه ونضجه إلى متابعة ورعاية. والتقاليد التى تمسك الأمة وتمنع ميزانها أن يجور أو يغش تحتاج هى الأخرى إلى عقل ناقد وضمير حارس. وقد رأيت الأخلاق والتقاليد عندنا تحيا وحدها، أو تبقى فى ضمان أفراد طيبين! أى أن الأمر يخضع للمصادفات العارضة لا للسياسات المرسومة. وقد نتج عن ذلك- مع ما أصاب الإسلام أخيرا من هزائم- أن صار الكثيرون يحيون بلا هدف، ويتجمعون ويتفرقون بلا رباط ولا وعى... ولا انتماء. ويستحيل أن يقوم للإسلام مجتمع بعد هذا التفكيك الشائن، بل هذا طريق التلاشى والفناء. والتخطيط الصحيح لإعادة بناء الأمة (إقامة الميزان) الذى أنزله الله مع كتابه يحق الحق، ويبطل الباطل، ويحترم تقاليد الشرف، ويرسى دعائم الأ خلاق.. قال لى صديق: إن فلانا قضى على مستقبله! قلت: كيف؟ قال: ضبط فى موقف شجاعة!! أما فلان فهو فاشل من زمن طويل لأنه يأبى أن يكون إمعة..!! و.. قلت: أمسك عليك لسانك، إن الإيمان الحق لا يصيب أحدا بالإفلاس! وما يذهب العرف بين الله والناس. ص _075(1/73)
وإنما تنتحر الأمم! بتمردها على الوحى الإلهى، ورفضها تعلم حكمته ونصب ميزانه. وأرى إشعار العامة والخاصة بأنهم لا يعرفون الإسلام إذا لم يعرفوا هذه الحقائق..! إن علوم الدين ليست كلاما نظريا فى العقائد، ولا سردا تافها لأشكال الطاعات، وأحكام الفروع الفقهية! إذا فسد القلب فسد كل شىء، وإذا انفصل المجتمع عن العقل المؤمن هلك وبقى من علم الدين شىء، لابد للمسلم أن يأخذ نصيبه منه، هو علم الدنيا..! إننى أفهم أن يدخل الغزاة البيض مجاهل إفريقية، فيسمون أنفسهم معمرين! لقد وجدوا قوما لا يكادون يفقهون قولا، فسرقوا منهم أرضهم، ونفطهم، وذهبهم، وحازوه لأ نفسهم! وألقوا جمهرتهم بفتات الموائد، وبعض اللعب التى صنعتها المدنية الحديثة، ولا ننسى أنهم ألهوهم كذلك بصحائف من الكتاب المقدس ، على أن يكون ولاؤهم للجنس الغازى..! لكن لم أفهم، ولن أفهم أبدا، لماذا يدخل الغزاة البيض إلى أرض الإسلام معمرين؟ لماذا ينجحون فى إخصاب الأرض الجدبة حيث يفشل مسلم- أو بتعبير أصح- مدع للإسلام؟ ولماذا يتضاعف إنتاج الأرض فى أيديهم ويقل فى أيدينا أو يتجمد؟ لماذا يستخرجون الكنوز من بطن الأرض، ولا نحسن نحن استغلال ما استخفى وما استعلن من ثرواتها؟ إذا كان بعض الناس يقدم للمحاكمة على جرائم ارتكبها، فإن هناك أمما يجب أن تحاكم على تفريطها الشائن فيما لديها، خصوصا الأمة التى قال لها ربها: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ). ص _076(1/74)
والإسلام طلب من أتباعه تجويد علوم الدنيا لأمور ثلاثة: أولها : أن تعمير الأرض جزء من رسالة الإنسان على ظهرها، جزء من العبادة التى خلق من أجلها، جزء من الكدح الذى يصون به نفسه وأهله وشرفه.. والثانى: أن الله لم يخلق الإنسان ليشقى، ويجوع ويعرى، بل خلقه مكرما يحمله ما فى البر والبحر، وأحل له الطيبات، ويسر له الزينة والجمال، بما فوقه من نجوم وبما بين يديه من زرع وضرع.. وقد شرحنا ذلك بإفاضة فى أماكن أخرى من كتبنا فلا نزيد هنا شيئا.. لكن الأمر الثالث هو الذى لا نسأم من تكراره، فإن الجهاد المكتوب على المؤمنين لحماية الدين لا يمكن أن يتم ولا أن ينجح بعيدا عن التفوق المدنى والحضارى. والأمة الإسلامية كى تكون على مستوى دينها، وكى تنجح فى المحافظة عليه، وكى تستطيع إفهامه للآخرين، لابد أن تكون راسخة القدمين فى شئون الحياة كلها، بل يجب أن تكون سباقة فى شتى الميادين، مسموعة الكلمة فى آفاق العلم برا وبحرا وجوا.. ومن حق الأمم الكبرى- وهى أمم تحتقر الأمية العلمية والصناعية- أن تنظر إلى دعاوى المسلمين وأفكارهم وقيمهم بريبة أو بسخرية ما دام المسلمون نماذج رديئة للتخفف الإنسانى.. وفى ظنى أن لهذه العلة سببين: أحدهما ثانوى وهو تغلب طبائع البدو على تعاليم الإسلام، فإن البدو يكرهون الحرف، ويزدرون الصناع، وينظرون إلى الفلاحين نظرة نابية، إنهم يأكلون من كج أيمانهم، ومع ذلك يترفعون عليهم!! وقد كانوا قديما يشترون السيوف من الهند وما جاورها ليستعينوا بها على الغزو والسطو ولا يكلفون أنفسهم صناعتها، ولا يزال أعداد من الأعراب يرون الحدادة والنجارة مهانة، ويأبون بشمم أن يقوم أحدهم من تحت سيارة يصلحها أو جرار يكشف سبب عطله.. وكنا ندرس ونحن طلاب أن لفظ " آل " لا يضاف إلا إلى الأشراف، فلا يقال: آل الحجام ولا آل الإسكاف إ! ولا ربب أن لهذه البداوة الغبية أثرا ملحوظا فى دنيا العرب إلى اليوم. ص _077(1/75)
أما السبب المهم فى التخلف الحضارى فهو شيوع التدين المزيف، ووقوع الثقافة الدينية إجمالا بين طوائف من ذوى المعادن الرخيصة أو العقول المعتلة... ويغلب على هؤلاء التأثر بالزهد الهندى أو النصرانى، والرغبة عن الدنيا، وعصيان نداء الفطرة، والغرام بالمبتدعات، واتهام النزعات العقلية... وكان العرب على عهد الرسالة يرون أنفسهم أرجح من الروم واليهود عقلا، وأقوى خلقا، وأقدر على أعباء الحياة وخدمة المثل العليا. وذكر القرآن الكريم رأى العرب فى أنفسهم (وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الأولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون ). وعلى أية حال فإن العرب كانوا أصلح لنزول الرسالة فيهم، وما كانوا قط أعجز إنسانية من الروم والفرس، ولا كان هذا التخلف السحيق بينهم وبين غيرهم من الناس.. وقد حملوا الإسلام باقتدار، وأحسنوا تبليغه إلى الدولتين الكبيرتين فى عهد الخلافة الراشدة، فلما اشتبكوا فى قتال مع عدوهم كان تنامى حماسهم وتساند إخائهم مكملا لقلة العدد، ولم يكن السيف دون السيف ولا الخيل دون الخيل.. وجرب الفرس سلاحا لا تعرفه العرب هو الفيلة، ولكن سرعان ما احتال المسلمون على الإيقاع بها ففرت مذعورة ترمى من فوق ظهرها.. أما اليوم فلا تستطيع الموازنة بين التقدم المدنى والعسكرى عندنا... وعند غيرنا! إن كل علم يطوى مسافة هذا التخلف هو من أركان الدين، وفرائض العبادات العينية والكفائية. وهو أولى من نوافل العبادة ومسائل الخلاف التى برع فيها الفارغون واشتغل بها المتنطعون ! ص _078(1/76)
مرتبة أخرى من المعرفة الدينية ما قررناه فى الفصل السابق كان عن النصاب الأدنى للمعرفة الدينية التى يحصلها المسلم العادى، بيد أن الأمة الإسلامية لها شأن آخر، ذلك أنها تحمل رسالة عالمية تشمل الزمان كله والمكان كله... فالمسلمون مكلفون بهداية الفكر الإنسانى، والقلب الإنسانى والواقع الإنسانى فى كل موقع من دنيا الناس، وهل يستطيع ذلك جاهل بقضايا الفكر والقلب والواقع؟ وهل ينجح فى ذلك كافل عن سنن الله فى الأنفس والآفاق، محجوب عن الأسرار والقوى التى أودعها الله بين يديه ومن خلفه؟ إن عالمية الرسالة تكلف أمتنا كثيرا كثيرا، وقد نهض الصحابة والتابعون بهذا العبء، فكانوا امتدادا لإشعاع النبوة الخاتمة، ثم أخذ الرجال الكبار يقفون شيئا فشيئا حتى كادت الأمة تصاب بالعقم... وتعاركت البيوتات العربية على الجاه والمال، والإمارة والوزارة، حتى استخفت حقائق ما كان يجوزأن تستخفى! ولنتساءل أولا: ما القوى التى اعترضت الإسلام أول ظهوره؟ وماذا عرض لها على اختلاف الليل والنهار؟ وماذا كان موقف المسلمين منها على ما جذ لها من أحوال؟ إن الوثنية العربية تلاشت فى أرجاء الجزيرة على عهد النبى نفسه، وعادت لها صحوة الموت بعد انتقاله- صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ولكن أصحابه وخلفاءه أخمدوا أنفاسها إلى الأبد! والمجوسية الفارسية فرقت شر ممزق، وبادت الكسروية وعم الإسلام هذه الربوع، فتلاشت المجوسية كما تلاشت الوثنية العربية من قبل... وقضى المسلمون على المستعمرات اليهودية داخل الجزيرة بعدما يئسوا من محاسنتها، لكن اليهود- وهم قلة ماكرة ماهرة- استأنفوا حرب الظلام بعدما خسروا الحرب المكشوفة، واستطاعوا بمؤامراتهم قتل الخلفاء الثلاثة عمر وعثمان وعلى.. ص _079(1/77)
ولا أدرى لماذا لم يعلق مؤرخونا على الأحداث والفتن التى ذهبت بالرجال الثلاثة، ويظهروا دور اليهود فى استثارة الدهماء، وإشعال المعارك، وإبطال جهود المصلحين؟ على أن اليهود عادوا مرة أخرى بعد أربعة عشر قرنا يصيحون: يالثارات خيبر، ويتحدثون عن أرض الميعاد التى كتبت لهم! والغريب أن العرب كانوا قد نسوا استخلاف الله لهم فى الأرض، والحق الإلهى لهم فى فلسطين فشرعوا يجاوبون اليهود بأنهم أبناء كنعان أخى عدنان وقحطان، وأن جنسهم آصل، وأنهم أحق بهذه الأرض! ألا لعنة الله على الظالمين!! وبقى الصراع الذى لم تخبأ ناره يوما! الصراع بين الصليبية والإسلام! ويبدو أن هذا الصراع باق إلى آخر الدهر! ولنا كلمة عاجلة قبل الخوض فيه: إن الإسلام يكرم المسيح وأمه، ويقطع دابر من يخدش شرفهما أو يتناولهما بما لا يليق. ومع حزم الإسلام فى تجريد التوحيد من أى لبس، وتوكيده عبودية الخلائق كلها لفه، فقد قرر أن يعيش فى كنفه القائلون بالثالوث وبسط حمايته عليهم، وصان كنائسهم وشعائرهم، فما سر العداوة الهائلة التى يكنها الصليبيون للإسلام؟ السر سياسى لا دينى، فإن الروم كانوا دولة النصرانية الكبرى قبل ظهور الإسلام، والرومان دور من أدوار الصراع الأزلى بين الشرق والغرب، وقد استطاعوا قبل اعتناقهم للنصرانية أن يبسطوا نفوذهم على أقاليم فيحاء، ثم رأى قسطنطين أن يشد أعصاب الدولة بالدين الجديد فيجعل النصرانية دين الدولة. ترى أتنصر الروم أم ترومت النصرانية؟ إن وصايا المسيح التى لا تزال مكتوبة " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر… إلخ " فهل أفاد الرومان من هذا الكلام حرفا؟ أم بقوا جنسا باطشا ظلوما يستهلك الشعوب ويسطو على كل ما تملك؟ الحق أن الانتماء إلى المسيح كان غطاء لوحشية مخيفة، وأن الانتماء إلى المسيح شرف دونه الأوربيون قديما وحديثا.. إن القوم كانوا مستعمرين غلاظ الأكباد مقبوحى السيرة، ولا يزالون كذلك... والروم قديما،(1/78)
والفرنجة حديثا، وأجناس أخرى تدعى " المسيحية "، أولئك كلهم ص _080
يكرهون الإسلام، لأ نه الدين الذى رد هجومهم ووقف طمعهم. فالمسلمون العرب طفروا الشمال الإفريقى وآسيا الصغرى من الاستعمار الرومانى القديم بعد أن ظل نحو ستة قرون! والمسلمون الترك تعقبوا الأوربيين فى أقطارهم الأولى حتى بلغوا أسوار "فيينا" عاصمة "النمسا"، ومكثوا يقاتلون الأوربيين نحو خمسة قرون... من أجل ذلك لا تنتهى ضغائن الأوربيين على محمد ودينه، بل هم يفقدون اعتدالهم الفكرى، والنزاهة النفسية عندما يتحدثون عن الإسلام.. وما ذنبنا نحن بإزاء هذا العوج؟ ذنبنا الحقيقى أننا لم نكن أوفياء لرسالتنا، ولا جادين فى تعزف العقبات التى تعترضها، ولا طباخ الأجناس التى تقاومها... " هل درس آباؤنا العلاقات بين البابوات والأباطرة؟ هل درسوا اختلاف الكنائس شرقيها وغربيها، وتابعوا هذا الاختلاف بعد ظهور "مارتن لوثر" (1) وانشقاق أتباعه؟ . هل درسوا التيارات الفكرية ونزعات الإصلاح الدينى والمدنى هناك؟ . هل يعلمون شيئا عن عصر الإحياء، والنقلة الرائعة التى قفزت بها أوربا من أوج إلى أوج؟ . هل درسوا السمات الجديدة للفكر الفلسفى الحديث؟ . هل درسوا النشاط التبشيرى بعد كشف الأمريكتين، وكيف انساحت الكثلكة فى أمريكا الجنوبية والبروتستانتية فى أمريكا الشمالية، وفى إستراليا؟ هل لفت انتباههم توغل الدب الروسى فى آسيا مكتسحا دار الإسلام، وحاملا الخراب والكفر إلى المدائن والقرى؟ هل عرفوا لماذا قتل الإنجليز مليكهم مؤمنين حقوقهم الدستورية؟ ولماذا قامت الثورة الفرنسية بعدئذ معلنة ما يسمى حقوق الإنسان، وإن كان الفرنسيون أكذب أهل الأرض فى الاعتراف لغيرهم بهذه الحقوق؟ إن الدراسات الكونية والطبيعية نقلت العالم من عهد البارود إلى البخار إلى الكهرباء إلى الذرة إلى عصر الفضاء، والمسلمون صرعى، ثقافات مسمومة، وسياسات قوامها الجبروت لا تهب حق الحياة والكلام إلا لمن(1/79)
يحرق بين يديها البخور... (1) مارتن لوثر.. هو مؤسس العقيدة البروتستانتية "الطائفة الإنجيلية . ص _081
أهذه أمة تحمل رسالة عالمية؟ إن الذى يبتغى إصلاح الأفكار والمشاعر لا بد أن يدرس الفكر فى كل قطر، وأن يستبطن أحوال الناس على أمل تزكيتها والتسامى بها. وما نستحى من اتهام أمتنا بالتفريط إلى حد الخيانة فى خدمة دينها ولغتها وتراثها ويومها وغدها! إننا لم نكن نعرف أنفسنا فكيف نعرف غيرنا؟ وكنا قد نسينا ديننا! فبم نذكر الآخرين؟ وفاقد الشىء لا يعطيه.. إن الشريف حسين فى الحرب العالمية الأولى صدق وعد الإنكليز له أن يكون ملك العرب، ناسيا أن الإنكليز وعدوا مصر بالجلاء عنها سبعين مرة، وما وفوا لها بوعد... لقد كنا فى العلوم المنقولة والمعقولة أصفارا، وكان تاريخنا الطويل صحراء لا معالم لها. ولو كنا على مستوى الإسلام لكان لنا باع طويل فى كل فن، ولزاحمنا بالمناكب فى كل الكشوف المادية والأدبية والعلمية التى هديت إليها الفطرة بعد سياحات يسيرة أو شاقة. والغريب أن ناسا من جلدتنا لا يزالون باسم الدين يريدون استبقاء قيود التخلف والضياع.. إن ذلك يؤكد الحاجة إلى علماء بحور، بحور فى جميع المعارف الإنسانية، لا فارق بين معقول ومنقول، ولا بين ماديات وأدبيات، ولا بين غيبيات ومحسوسات. ووظيفة أولئك العلماء هى أولا: تخريج ذوى الأنصبة المحدودة التى أشرنا إليها فى الفصل السابق، والتى تمثل المستوى الأدنى لرجل الشارع كما يقولون، أو للمسلم العادى. ثانيا: النظر فى أساليب الدعوة العالمية وطرق شرح الإسلام خارج أرضه، ورد الشبهات التى مرد أعداؤه على ترديدها، وتوارثوا الشغب بها على الرسالة الخاتمة. ويؤلمنا أن هناك أزمة مخيفة فى علماء الدين واللغة، وأن بقاياهم تنقرض دون عوض ظاهر. ص _082(1/80)
وقد كان أولئك العلماء كثرة فى العصور المتقدمة، وما ضارهم أن الحكومات تنكرت لهم، بل كان ذلك فى نظر الجماهير شرفهم الباذخ، ثم بدأوا يقفون كما وكيفا. ثم جاء عصر المتأخرين من الفقهاء، وكانوا دون من سبقهم وعيا وذكاء، يغلب عليهم الضيق والاستيعاب اللفظى. وأخيرا جاء دورأنصاف العلماء، وهم قوم لهم فى كتب الدين قراءات مبتورة، لا تميز غثا من سمين، ولا تعرف أصلا من دخيل، وقد اقتحموا أبواب الدعوة والفتوى وأحدثوا فوضى شديدة... هذا مفسر للقرآن يقول: إن آية (لا إكراه في الدين ). منسوخة..!! ويمضى فى عماه لينسخ عشرات ومئات من آيات القرآن الكريم كلها محكمة..! وهذا متحدث فى السنة يقول: إن حديتا! أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " على ظاهره، وهو جاهل، ولم يقل أحد من العلماء إن هذا الحديث على ظاهره، بل قالوا: هذا عموم أريد به خصوص، وكلمة الناس تعنى قوما معينين شرحتهم أوائل سورة براءة.. وهذا متحدث فى العقيدة يقول: إن وصف الله بأنه واجب الوجود بدعة! قلت له كلمة واجب الوجود ليست من أسماء الله الحسنى فهذه الأسماء توقيفية من الشارع. لكن وصف الله بها فيه ملحظ جميل، إن القمر جسم مظلم، ونوره بالليل هو من انعكاس ضوء الشمس على سطحه، كذلك الكائنات كلها لا وجود لها من ذاتها، وإنما وجودها من ذات الله الذى منحها الحياة والبقاء، فهو مصدر إيجادها وإمدادها، وله وحده الوجود من ذاته.. قال: هذا كلام الفلاسفة، وهو بدعة وكل بدعة ضلالة، قلت له: لا تسو بين عدو وصديق، هناك فلاسفة ملاحدة، وهناك من عرفوا الله..! لكن هذا المتكلم يستبيح دمك إذا مضيت فى مناقشته! أى بلاء يقع فيه العلم الدينى إذا كان رجال التفسير والحديث والعقيدة من هذا النوع الهابط. ص _083(1/81)
لذلك قلت: إننا فقراء إلى علماء من طراز رفيع، والقحط الثقافى الذى حل بتاريخنا من عدة قرون أتاح للاستعمار أن يصنع بنا الدواهى! لقد دق أبوابنا، والجهل العام آخذ بخناقنا، فى علوم الدين وفى علوم الدنيا على سواء.. نعم جاء أحفاد الرومان وأبناء الصليبيين هذه المرة، وتفوقهم كاسح فى علوم كثيرة، ولم تقدر الحماسة العاجزة على صد تيارهم، فوقف ماريشال "اللنبى" فى مدينة القدس، يقول: اليوم انتهت الحروب الصليبية! ووقف القائد الفرنسى فى دمشق أمام قبر صلاح الدين يقول فى تبجح: ها.... قد عدنا يا صلاح الدين...! وما صلح به أمر المسلمين أولا هو العلم الصحيح والحكم الراشد، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.. وقد نتج عن قصورنا العلمى ما مكن الغزو الثقافى من مهاجمة عقائدنا وشرائعنا بطرق مختلفة نعالجها فيما يلى... *** ص _084(1/82)
جيل يذهب ضحية العجزوالغدر بين يدى كتاب مدرسى مقرر على طلاب الثانوية العامة فى دولة إسلامية عريقة، وثابت على غلاف الكتاب أنه لجميع الشعب التى تريد نيل "البكالوريا". طالعت فى هذا الكتاب الموضوع الذى يهمنى ويهم كل مسلم، موضوع " الإيمان بالله واليوم الآخر" وشعرت بغصة والمؤلف ينقض أسس هذا الإيمان. ويجعل منه حكاية أسطورية من مخلفات ماض قليل الوعى...! وتساءلت: هل تضليل الألوف من أبنائنا على هذا النحو جريمة فردية؟ أعنى: هل هذا المؤلف ملحد يريد نشر فكره لرغبة خاصة لديه وحده؟ أم أنه يخدم جهات تريد تخريج نشء خرب القلب، جامح الهوى، فتقرر هذا الكتاب على كل شاب يريد الالتحاق بالجامعة ليطمئن الاستعمار الثقافى بشفيه الشيوعى والصليبى على مستقبله فى بلادنا؟ أضحكنى زعم المؤلف أن الإيمان بالآخرة تصدع لما اكتشف "كوبرنيكى" أن الشمس لا الأرض مركز الكون! وأن الأمر على خلاف ما تعتقد الكنيسة! قلت: ما صلة الآخرة بهذا الكشف الفلكى؟ ولماذا ييأس الناس من عودتهم إلى الله، لأن الأرض هى التى تدور حول الشمس لا العكس؟ هذا الربط العلمى العظيم يشبه القول بأن أنف أبى الهول تحطم لأن ملكة إنجلترا أنجبت ولدا ذكرا!! إن الكنيسة تخطئ وتصيب، وهى فى زعمها أن الشمس تدور حول الأرض لم تعتمد على وحى سماوى، بل كانت تتبع رأى "أرسطو"، وقد خالف "أرسطو" فى هذا الزعم "أريستا خوس الساموسى" مؤكدا أن الأرض هى التى تدور حول الشمس... فليختلف فلاسفة اليونان وكهنة "الكنائس "، فى هذا الأمر ما شاءوا، ما علاقة ذلك بجعل اليوم الآخر خرافة؟ لكن هذا هو الفكر العلمى عند أهل الإلحاد. ومضى المؤلف يقول: إن قضية الآخرة انهارت بعد ظهور نظرية التطور، وثبوت أن ص _085(1/83)
الإنسان من سلالة القرود! وهو يرى أنه أشرف للإنسان أن يكون من سلالة الحيوانات، فهو خير له من أن يكون من أبناء القتلة..! ولنذكر عبارات المؤلف الفيلسوف بنصها- قبل التعليق على أوهامه التى يحسبها علما (!) يقول: فى العصور الوسطى نظرت الكنيسة إلى الإلة على أنه أشبه ما يكون بسيد يرى الخدم الذين يعملون فى أرضه، وهو حر فى أن يطلب منهم مغادرة الأرض ساعة يشاء، وأن يطلب منهم "الحساب " كذلك. الله خلق الإنسان وميزه عن باقى الخلوقات، وسخر له جميع ما فى الكون، وهو الذى يحدد نهايته عندما يريد. إلا أن هذا الموقف تعرض لصعوبات، بسبب بعض الاكتشافات العلمية (!). أ- إن اكتشاف كروية الأرض، ودورانها حول الشمس مع كواكب أخرى من طرف (غاليليو) ومن قبله (كوبر نيك) أضعف من موقف الكنيسة التى كانت ترى أن الأرض ثابتة. وهى مركز الكون. وأن الإنسان كائن ممتاز، سخرت له جميع الكائنات الأخرى! عندما قال (غاليليو) بدوران الأرض، اعتبرت الكنيسة هذا الموقف منافيا للذين، بل خطرا عليه، لأنه يفقد الإنسان الامتياز الذى منحه الله إياه، ولم تتردد الكنيسة فى الحكم على (غاليليو) بالموت. ب- الصعوبة الثانية التى تعرض لها الموقف الدينى، كانت على يد (دارون) الذى جاء بنظرية التطور. ولقد وصلت نظرية التطور إلى النتيجة الآتية: وهى أن لا فرق بين الإنسان والحيوان إلا من حيث الدرجة لا من حيث النوع: ويجب أن نقبل أن يكون أجدادنا قردة! بل إن (دارون) يدعو إلى الافتخار بهؤلاء الأجداد لأن الانتساب للحيوان- كما يقول (دارون)- أفضل من الانتساب إلى الإنسان الذى يقتل أخاه الإنسان بدون مسوغ. إذن لم تغد الإنسان فى نظر (دارون) كائنا ممتازا، بل أصبح مجرد كائن يحتل رتبة متقدمة فى سلم التطور. وهذا يتنافى بوضوح مع الدين الذى يرى أن الله ميز- منذ بدء الخليقة- بين الإنسان وبين الكائنات الأخرى. ص _086(1/84)
ج- إن علم الاجتماع وهو أحدث العلوم التى استقلت عن الفلسفة، يؤكد لنا حقيقة موضوعية وهو أن الإنسان وليد البيئة وأن جميع ما يأخذ به من أفكار ومعتقدات ليست نهائية ومطلقة؟ لأنها تختلف من مجتمع لآخر، ومن عصر لأخر. فما قد تعتقده جماعة، قد ترفضه جماعة أخرى. د- وهناك صعوبة أخرى واجهها الموقف الدينى بعد اكتشاف التحليل النفسى. إن التحليل النفسى يؤكد لنا أن أفكارنا ومعتقداتنا ليست مطلقة. بل هى نتيجة لعوامل خفية، أو لا شعورية . فإذا لجأ البعض إلى التدين، فما ذلك إلا ليعبروا عن رغبات مكبوتة، وكان يمكن لهم أن يلجأوا إلى وسيلة أخرى للتعبير عن هذه الرغبات، فالتمسك بالدين ليس إلا مظهرا خاضعا لعوامل لا شعورية، ويرى (فرويد) أن هذه العوامل تكون فى الغالب عوامل جنسية. هذه أقوال متناثرة جمعت على استكراه لتخلق صعوبات عقلية أمام الإيمان باليوم الآخر، أو اللقاء المحتوم مع الإله الذى خلقنا أول مرة. وقد حاولت عبثا أن أفهم منها ما يريد المؤلف فعجزت، خذ مثلا كلامه عن علم النفس: إن "فرويد" يرى الغريزة الجنسية الأساس الفذ للسلوك البشرى أجمع! وقد رأت باحثة أخرى أن غريزة الأكل أولى بهذه الصفة فهى التى تستهلك أعمار البشر! وترهق أعصابهم بمطالبها، ورأى باحث ثالث أن غريزة "الشعور الإيجابى بالذات " من وراء الكفاح الرهيب على ظهر الأرض.. ثم تخطى علم النفس نظرية الغرائز "لمكدوجل "، وتحدث عن دعائم أخرى للسلوك الإنسانى، لا نشرحها هنا.. والذى ألحظه أن الناس متفاوتو الطباع، وأن هناك من يهيم بالنساء، ومن يهيم بحب المال وطلب الثراء، ومن يضحى بكل شىء طلبا للظهور والرياء!! وقد عرض على "الأفغانى" الزواج فأبى، وعاش "ابن تيمية " أعزب، وكذلك كان "أبو مسلم الخراسانى"، وكل من هؤلاء كان له شأن يغنيه! وقد تكون الغريزة الجنسية شديدة الوطأة، لكن عرامها أو هزالها لا علاقة له بعقيدة "المصير" أو البعث والجزاء، كما يزعم هذا المؤلف.. ص(1/85)
_087
وننتقل إلى علم الاجتماع والباحثين فيه، ومنهم التائه والراشد، والبصير والضرير ، هل إذا قال أحد هؤلاء: إن الدين ظاهرة اجتماعية، فإن كلمته تصبح حكما فصلا ليس بالهزل؟ إن الدين حقيقة عقلية، وخلقية، وعلاقة قائمة بين الناس ورب الناس. عن أى دين يتحدث هذا المؤلف، أو ينقل عن المتحدثين؟ عن عبادة الأحجار أو عبادة الأبقار، أو عن تصور الألوهية وفق شائعات غامضة وأقوال متناقضة كبعض الأديان السماوية التى حرفها بعض من يدينون بها؟ إن التحقيق العلمى لا يعنى المؤلف، إن ما يشآ انتباهه، هو وصف المتدينين بأنه ينفسون عن رغبات جنسية!. سبحان الله، هل الذين أجهزوا على الاستعمار الرومانى والفارسى قديما كانوا صرعى كبت جنسى؟ ما أحوج العالم اليوم إلى هذا الكبت! الالحاد مرض نخلص إلى قضية التطور كما يشرحها "دارون "! يرى الشيخ "نديم الجسر" فى كتابه الجليل "قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن " أن "دارون " مؤمن بالله وأن نشاطه الفكرى يدور حول: هل صدر العالم عن الله بصورته المعاصرة؟ أم أنه صدر عنه فى صورة أدنى، ثم صعد فى سلم الارتقاء إلى ما نراه الآن؟؟ ولم يقدم "دارون " إجابة حاسمة فى الموضوع الذى عالجه، لأن هناك حلقات مفقودة تجعل نظرية النشوء والارتقاء محاولة مبتورة، زد على ذلك أن تلامذته الأقربين نقضوا الكثير من مقدماته، مما جعل الفكر الداروينى ينحسر ويتراجع! فبأى منطق علمى يسوق المؤلف لشباب الثانوية العامة فكر دارون على أنه حقيقة علمية مؤكدة، وأنه يفهم من هذا الفكر أن الإنسان تراب فقط، والتراب ينتهى ويتلاشى فلا بعث ولا جزاء. فى أى معمل كيماوى أو مرصد فلكى ثبت أن الروح خرافة، وأن النفس الإنسانية بخصائصها العالية غرض عابر، أو وهم لابقاء له. ؟ ص _088(1/86)
لا ريب أن الإنسان خلق من تربة هذه الأرض كما قال تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ). ونحن نشهد نبات الأرض يتحول فى جسومنا إلى لحم ودم، فمن يحوله كذلك؟ من يحوله إلى خلايا ذات وظائف مذهلة؟ كيف يتصورأن الروح هى الأخرى حفنة تراب، وأن الشعور والفكر والعاطفة والذاكرة والخيال بعض الطين المنتشر فى أرضنا؟ إن لدى بعض الناس جنونا فى إرسال كلمات موغلة فى الكذب، قال لى أحدهم: إن العلم بدأ يخلق الأطفال فى الأنابيب! قلت: كيف؟ إن الطبيب يجىء بحيوان منوى- لم يخلقه يقينا- ويضمة إلى بويضة من الأنثى- لم يخلقها يقينا-، ويضع ذلك فى مخبار لمدة عشر ساعات، أو أكثر قليلا ، ثم يغرسه بعد ذلك فى الرحم، ليبقى فى جسم المرأة تسعة شهور، هى مراحل الحمل المعتاد حيث يصنع أحسن الخالقين الجنين، وتتم بعدئذ الولادة المعتادة! ما الذى خلقه العلم؟! إن الكفر كالجنون فنون..! وهذه قصة ملحد آخر دخل المجلس وهو يقول: أنا عائد بعد ما درست للطلاب أن المادة لا تفنى ولا تستحدث قلت له: إننى سمعت هذا الكلام وأنا طالب، وأحسب أنه الأن قد ظهر زيفه! قال: كلا، هذا هو العلم! قلت: إذا كنت أنا وأنت قديمين فأين كنا من مائة عام؟ ما أظننا إلا حادثين بالميلاد قال: مادتنا قديمة، لعلنا كنا ترابا فى مكان ما من الأرض، وقطرات ماء فى مكان ما من البحار أو الأنهار، أما ميلادنا فليس إلا تغيرا فى صورة الموجود! قلت: وأرواحنا وخصائصنا الفكرية والعاطفية، إننى أحس بأنها محدثة يقينا! قال: الأفكار والمشاعر ليست إلا تفاعلات مادية لا قيمة لها... والروح خرافة! قلت: فلأصدق جدلا أن ما حدث هو تحولات فى مادة قديمة، وليس إيجادا من عدم، لكن من المحول؟ ص _089(1/87)
من الذى حول التراب الحقير إلى بصل وجرجير، ثم إلى قردة وحمير، ثم إلى هذا الإنسان الخطير؟ إن هذا التحويل يحتاج إلى مؤهلات رفيعة القدر! قال: ماذا تعنى؟ قلت: على جانب وجهى أذنان بهما أجهزة استقبال معقدة، وفى الوجه عينان بهما أجهزة تصوير، وتحميض وانعكاس واعتدال، وهذا المخ الغريب! إنه "كمبيوتر" أو حاسب، يهيمن بأسلوب ساحر على شبكة أعصاب، تضبط الجسد كله.. وهذه المضخة الماصة الكابسة فى القلب، تدفع الدم وتستقبله بانتظام، ثم ألا ترى هذه الكلى؟ إنها إذا تعطلت ذهبنا إلى جهاز كبير يعالج الفشل الكلوى بعناء! من صنع هذا كله؟ قال: الطبيعة ذكية! قلت ما أشبهك بشخص وقف أمام قصر منيف ثم أخذ يقول: هذه نافذة ذكية لأنها اختارت مكانا يستقبل الضوء، وهذه شرفة عبقرية، لأنها اختارت مكانا يستقبل الهواء، وهذا سقف فنان، لأ نه اختار ارتفاعا يسمح بدخول السكان.. وهكذا ورع صفات المهندس المنشئ على الخشب والرخام والزجاج.. إلخ. اسمع أيها الرفيق، إن حمار الحكيم أذكى منه، لقد ألقى الحكيم على طلابه درسا مثلك، فرووا أن حماره أنشد هذين البيتين: قال حمارالحكيم يوما لوأنصف الدهركنت أركب فإننى جاهل بسيط وصاحبى جهله مركب إن الظن بأن الإلحاد فرط معرفة، أو زيادة ذكاء- كما يتوهم المغفلون- لا أساس له، إن الإلحاد مرض نفسى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ). ص _090(1/88)
وزنادقة العرب حين يرددون ما يقوله العلمانيون، أو الماديون، يقومون بنوع خبيث من التدليس فى النقل والعرض، فقد تابعت كلام بعض الضائقين بالدين، والكافرين برجاله، فوجدت لهم عذرا!! هذا رجل ذكى نشأ فى جنوب آسيا، أو شرقها حيث يعبد "بوذا" أو "براهما"، فعاف فكره أن ينحنى لصنم، أو يبتسم لبقرة، ولو كانت ضاحكة، وأعلن أنه بعيد عن الدين، وكافر بالإله المعهود بينهم! فهل ينقل كلامه على أنه تمرد على الدين كله، وكفران برب العالمين..؟ وإذا كان رجال الكنيسة فى العصور الوسطى، قد رأوا أن الأرض ثابتة، وهى مركز الكون وأن الشمس تدور حولها، وإذا كانوا قد ابتدعوا من قبل ومن بعد أساطير فى العقيدة والسلوك، فهل الرافضون لهذه الكهانات كفار بعيسى وإنجيله والوحى ومنزله والدين وربه؟؟ إنهم أقرب إلى الفطرة من رجال الدين أنفسهم، والكفر بالطاغوت ذريعة إلى الإيمان بالله، ونحن- المسلمين- أعرف الناس بعيسى، وبما آتاه الله من حكمة (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون * إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ). وقد تدبرت كلمات لى، أنشتين " تحدث فيها عن إيمانه بالله، وعن إعجابه العميق بصنعه، وعن استشراف فؤاده لعظمته وهو يشهد آثار إبداعه وحكمته، فأحسست أن هذا العالم الذكى مؤمن بالله الحق. وأحسست أنه يدور- وهو لا يدرى- حول الآيات القرآنية فى وصف الله تبارك اسمه: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير). ص _091(1/89)
والرجل أذكى من أن يخلط بين الكون ومكونه، والخلوق وخالقه، بيد أنه رفض بقوة الإيمان بإله من النوع الذى يعرض رسمه فى معابد الغرب، إله مثقل بصفات العجز أو الغفلة، ومن ئم فهو يعتزل هذا الإله، وينأى عنه! ولذلك كان التدليس المفضوح أن ينقل مؤلف الفلسفة للثانوية العامة عن "أنشتين " أنه كافر بالله، أو ما يفيد إنكاره لوجوده! قال: " عندما نتساءل: هل الإله موجود أو! غير موجود؟ فإن جوابنا على السؤال يرتبط بالمعنى الذى نعطيه لكلمة إله، وهذا ما أكده "أنشتين " عندما سأله أحد الصحافيين ذات مرة: هل تؤمن بوجود الإله؟ فأجاب: حذد لى أولا ماذا تعنى بكلمة إله، وبعد ذلك سأقول لك إذا كنت أومن بوجود الإله أو لا أومن به. والجدل الذى ينشأ عادة بين من يقول بوجود الإله وبين من ينفى هذا الوجود ينتهى إلى جدل "بيزنطى" لأن كلا منهما يعطى مفهوما خاصا لكلمة إله. لذلك فإن الإجماع على وجود الإله ليس دليلا كافيا، على أن الإله موجود فعلا. فالإجماع قد يكون إجماعا ظاهريا. وقد عرف الفكر البشرى إجماعا على خطأ، وهو أن الأرض ثابتة. وهى مركز الكون، فالإجماع على القول بثبوت الأرض لم يمنع أن الارض كانت تدور حتى عندما كان هناك إجماع على غير ذلك ". بهذا التدليس فى النقل، والكذب فى التعليق يتناول المؤلف "الحقيقة العظمى" فى الفكر البشرى، ثم يطوخ بها فى مهاوى الخرافة دونما اكتراث.. ثم يمضى فى تخير أقوال تخدم غرضه، وتوهن ما لايعجبه من آراء! وظاهر من السياق كله، أن الغاية المنشودة تضليل الشباب المسلم، وإفهامه أن الدين وهم، وأن الإلحاد هو منطق العلم، واتجاه العقلاء.. مسكين هذا الشباب الذى لا راعى له.. قد يكون من العقل الكفربألهة اخترعها الخرافيون، وقد يكون من العقل ازدراء الآراء التى يرسلها الكهنة دون سناد أو برهان، فهل من العقل إنكار الإله الحق بديع السموات والأرض، الذى أحسن كل شىء خلقه، وأحكم كل ما أوجد من الذرة إلى المجرة؟ ص(1/90)
_092
إن محاولة انتزاع شعرة من جلد إصبع فى القدم، تجعل المخ يرسل صيحات ألم متتابعة ويبعث على حشد أسباب الدفاع، فهل المصادفات الموهومة هى التى خلقت هذا الجهاز العصبى الرهيب؟ إن للاحتمالات قانونا ينفى نفيا قاطعا كل دعوى بأن شيئا ما تخفق بطريق المصادفة. ثم إن قانون العلة يحكم أفكارنا كلها، فلماذا نرفض أن يقع شىء ما دون سبب أو دون فاعل؟! فإذا اتصل الأمر بخلق السموات والأرض جاء من يزعم أن هذا الوجود تم بلا فاصل ولا سبب؟: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون * قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون). والغريب أن مؤلف الفلسفة لطلاب البكالوريا بجميع فروعها " يقول إن هذا البرهان يصطدم بصعوبة كبرى عرفت باسم، مشكلة الشر" لماذا وجد الشر؟ كيف يمكن أن نعتقد بوجود إله قادر، وخير، ونعتقد فى الوقت نفسه بوجود الشر؟ لماذا لا يزيل الشر؟! إن هذه الأسئلة الطفولية ذكرتنى بقصة طريفة، فقد وضعت اختبارا لأحد الصفوف الدراسية، ويبدو أن أحد الطلاب لم يكن مستعدا فخرج يقول: لو كان الأستاذ رجلا صالحا كما يزعمون ما وضع هذه الأسئلة الصعبة! إن الطالب البليد أنكر صفة الصلاح فقط، ولو كان فيلسوفا على النحو الذى رأينا لأنكر وجودى كله!! الله يقول عن ذاته وعن عمله: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) ص _093(1/91)
ويقول (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ). فهل نقول له: ما دمت تختبرنا فسننكر وجودك؟!! أهذه هى الصعوبة الكبرى التى تصطدم بها أدلة الوجود على إله قادر حكيم؟ تلك- ونقولها ضجرين- هى عبقرية الإلحاد الذى يغزو بلادنا ويشارك فى توجيهه الشرق الشيوعى والغرب الصليبى على سواء... مسئولية المسلمين تجاه الالحاد الواقع أننا- نحن المسلمين- المسئولون الأوائل عن ظهور هذا الإلحاد فى بلاده، وعن مصاب الإنسانية عامة به ثم عن اكتوائنا بناره بعد ذلك...! فلولا تقاعسنا عن أداء رسالتنا الكبرى، ما كانت المعركة بين العلم والدين، وما استفحل خطر الإلحاد على هذا النحو المزعج، وما استشرت المذاهب المادية وفتكت بالجماهير كما نرى... كان لدينا ما يقنع العقل المتطلع المستكشف، وكان لدينا ما يشبع الطبيعة البشرية المتشوفة إلى الرضا، وكان لدينا ما يوفر الكرامة الفردية والاجتماعية لإنسان نفخ الله فيه من روحه، فهو يبغض الهوان والإهانة.. لكننا جهلنا، أو تجاهلنا ومضينا فى طريق آخر، أحيينا فيه مساوئ أهل الكتاب السابقين. إن الله يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) والمهمة واضحة، فغاية الرسالة استنقاذ الناس من ظلمات الفوضى والجهالة والفساد والاستبداد إلى آفاق أزكى وأسمى.. والرسول لا يحيا للدهر كله، وإنما تقوم أمته بعمله بعد موته، ولذلك يقول الله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ). أى أن مهمة الأمة إعلان حرب على الظلام حيث كان، بالعلم يحارب الجهل، وبالعدل يحارب الظلم، وبالنظام تحارب الفوضى، وهكذ ا... ص _094(1/92)
لكن أمتنا- عفا الله عنها- اعتراها إغماء، ولا أقول موت، فلم تؤد الوظيفة المنوطة بها، وذهلت عن عالمية الرسالة التى كلفت بأدائها ، وحسبت أن الإسلام نظام داخلى لها وحدها فقبعت وراء حدودها، تحيا وفق ما يتاح لها من حياة، وتمزق أردية الإسلام التى لفتها الأقدار بها لتوارى سوءاتها، وما زالت كذلك حتى وثب خصومها عليها، ليلغوا أولا شريعتها، ثم لينقضوا بنيان العقيدة التى تقوم عليها.. أين خلفاء محمد، لا أقول ليخرجوا العالم من الظلام إلى النور، بل ليخرجوا أمتهم من الظلام إلى النور! إن الإلحاد يتحدى، وله الحق، فقد خلا الجو له، والعلم الدينى والتطبيق الدينى غير مؤهلين للنصر بما يحملان من جراثيم الضعف والعجز... إن المذ اهب المادية تستغل أخطاء الفكر الدينى فى إحراز انتصارات كبيرة وتستهوى الناس بما تقدم من حلول سريعة لمشكلاتهم على حين يتصف المتدينون بالتعقيد، وضعف الإحساس بمعاناة الناس. والقرآن الكريم يصف البشرية المصابة بهذا التدين وصفا يجعلها أنزل رتبة من الذين لم يتدينوا أصلا: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ). البغى، وقسوة القلب، إيثار الشكل، وتجاهل الأركان، وغير ذلك من الأ مراض النفسية هون من قيمة الدين وأثره.. وعندما يخدم المتدينون الاستبداد السياسى وبجحدون قاعدة الشورى، فإن الباب سوف ينفتح لديمقراطية تسوى بين الطاهر والعاهر. وعندما يعيشون فى كنف ذوى الثراء، ولا يبالون من أين يكسبون، ولا فيم ينفقون، ولا يتساءلون عن الحق المعلوم، أخرج أم لم يخرج، فإن الباب ينفتح لماركسية تكفر بالله، وبالإنسان معا.. ص _095(1/93)
وعندما ينظرون ببلادة إلى الغريزة الجنسية، ولا يسارعون إلى توفير مهادها الحلال ثم تتضافر جهودهم لحماية الأسرة، فإن الحرام سيكون الجواب الحتم! إن المتدينين من قديم- ولا يزالون إلى الأن- يتعثرون فى قضايا خلقية، واجتماعية، وسياسية كثيرة، بل إن تصوراتهم الثقافية موضع دهشة.. فيوجد من يؤلف ضد دوران الأرض حول الشمس، ويؤيد موقف الكنيسة فى العصور الوسطى، ويدعى مع ذلك أنه سلفى! ويوجد من يأمر التلامذة بتخريق صور الأحياء فى كتبهم، لأن التصوير محرم، وبوجد من يهاجم كون الأمة مصدر السلطة، وبوجد من يحسب إقام الصلاة مغنيا عن تعلم الصناعات، ويوجد من يعيش هع أعداء الإسلام فى القرن الرابع، يهاجمهم وينال منهم، ولا يدرى شيئا عن أعداء الإسلام فى هذا القرن! ألا يمهد هذا كله لإلحاد مدمر؟؟ بعد عشرين سنة من بدء الوحى حذر الله الأمة الإسلامية أن تسرى إليها أمراض أهل الكتاب، فيعتل إيمانهم ومسلكهم كما اعتل إيمان اليهود والنصارى من قبل، قال سبحانه: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) وأمراض التدين المنحرف تتشابه على مر العصور، جرثومتها الأولى، جفات الشعور، وضيق التفكير، وقسوة القلب، والانسلاخ العام من الفطرة، والتعلق الشديد بالمراسم، والصلف بمعرفة الحق، والميل إلى سوء الظن ومعاملة انحطئين بجبروت. وتلك كلها آفات ينكرها الدين، ولايعد أصحابها على شىء مهما بلغت عبا د اتهم...! وقد ذكرنا كيف بدأ الانحراف فى تاريخنا بانفصال الحكم عن العلم، وحدوث فجوة أو جفوة بين الحكام والعلماء... إلا أن انفصالا آخر وقع فى ميدان العلم ص _096(1/94)
نفسه، بين رجال الشريعة ورجال التربية، انتهى بجعل الأخلاق علما نظريا أو أدبا ثانويا! وجعل العبادات والمعاملات، عادات موروثة، وتقاليد متبعة! وبذلك تقطعت الصلات بين الأمة والدولة، ثم بين الأمة بعضها مع البعض الآخر، وابتعد الجميع عن روح الإسلام. والامم لا تقوم بهذا التآكل فى روابطها الأولى، بله أن تؤدى رسالة عظيمة... وأتعرض هنا لقضية واحدة: هل الدين قاس على المخطئين، يبيت لهم العقاب ويتربص بهم الدوائر، ويسعى للخلاص منهم؟؟ أم له موقف أحنى وأرعى بغية تألفهم واستصلاحهم؟ إن عيسى بن مريم لم يكن يشجع الزناة حين جاءوا له بامرأة عاثرة كى يرجمها فقال:، من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم لرجمها.. " إنه كان أولا يستبشع سيرة نفر من علماء اليهود يشتهون أن يروا الخطئ مطروحا للعقاب مفضوحا بين الناس، إنهم- بهذه الشهوة- ليسوا أفضل من الزانية. وكان ثانيا يريد إعطاء العاثر فرصة يستعيد فيها رشده، ويصلح نفسه، فمهمة الدين إذا رأى عاثرا أن يعينه على النهوض، لا أن يتقدم للإجهاز عليه. وعيسى فى هذا شبيه بمحمد- عليهم جميعا السلام- الذى كان يلفن المقر بالزنا كلمات الرجوع والنجاة من الموت.. ولسنا بتاتا نلغى وظائف الشرطة والقضاة، أو نهون من شرائع الحدود والقصاص.. فالقانون الخلقى باق، والقانون الجنائى باق، وكلاهما له نطاقه الذى يعمل فيه، وكلاهما ضرورة اجتماعية... إننا نريد أن ننفى عن الدين تهمة القسوة، متذكرين مع ذلك قول الشاعر: فقسا ليزدجرواومن يك راحما فليقس أحياناعلى من يرحم والناس معادن، وللمعدن الواحد أحوال يصفو فيها ويكدر، وسنة صاحب الرسالة الخالدة أن الإمام يخطئ فى العفو خير من أن يخطن فى العقاب... ص _097(1/95)
ولينظر المسلم معى فى هذه الآثار: جاء فى الصحيح عن أبى أمامة- رضى الله عنه- وكان من أهل الصفة- قال: بينما أنا قاعد مع رسول الله فى المسجد جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إنى أصبت حدأ فأقمه على، فسكت عنه رسول الله، ثم قال: يارسول الله إنى أصبت حدأ فأقمه على، قالها الرجل ثلاث مرات، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف تبعه الرجل! قال أبو أمامة: فاتبعته أنظر ما يرد عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إنى أصبت حدا فأقمه على، فقال له: ألست حين خرجت من بيتك قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى! قال: وشهدت الصلاة؟ قال: نعم! قال: إن الله قد غفر لك حدك… وروى عن أبى الدرداء أنه أتى له بامرأة سرقت- ليحقق معها ويعاقبها- فقال لها أبو الدرداء: سرقت؟ قولى: لا..! وهو تلقين غريب! ولكنه يشيرإلى طبيعة الدين فى درء الحدود والتنفيس عن الخاطئين. وقرأت أن مرتدا سيق إلى المأمون لينال عقوبته، فرأى المأمون أن يحاوره، قال له: كلامك معى لا يضرك وقد ينفعك، ومن الخير أن تزداد بصيرة فى أمرك، فربما بقيت على ما أنت عليه بعد هذا الحوار، وربما تكشف لك ما يرجعك إلى ما كنت فيه، والحازم لا يضيع فرصة عرضت. وإليك نصى الحوار كله نثبته لما فيه من فائدة: " يروى أن المأمون أتى بمرتد عن الإسلام إلى النصرانية فقال له: أخبرنا عن الشىء الذى أوحشك عن ديننا بعد أنسك واستيحاشك مما كنت عليه، فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به. وإن أخطأك الشفاء ونبا بك عن دائك الدواء كنت قد أعذرت، ولم ترجع على نفسك بلائمة. فإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، وترجع أنت فى نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصر فى اجتهادك، ولم تفرط فى الدخول فى باب الحزم. قال المرتد: أوحشنى ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم. قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف فى الأذان والإقامة، وتكبير الجنائز والتشهد، وصلاة الأعياد وتكبير التشريق، ووجوه القراءات،(1/96)
ووجوه الفتيا، ص _098
وهذا ليس باختلاف، إنما هو تخيير وسعة وتخفيف من المحنة. فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يخطئ. ومن أذن مثنى وأقام فرادى لم يخطىء. ولا يتعايرون ولا يتعاتبون بذلك. والأختلاف الآخر: كنحو اختلافنا فى تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذى أوحشك هذا حتى أنكرت له هذا الكتاب، فقد ينبغى أن يكون اللفظ لجميع التوراة والإنجيل متفقا على تأويله كما يكون متفقا على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلاف فى شىء من التأويلات، وينبغى لك ألا ترجع إلأ إلى لغة لا اختلاف فى تأويلها من لفظها، ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه ورثة رسله لا تحتاج إلى تفسيرلفعل، ولكنا لم نر شيئا من أمر الدين والدنيا وقع على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت المحنة والبلوى، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله أمر الدنيا. فقال المرتد: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وأن المسيح عبد الله، وأنك أمير المؤمنين حقا. ". لو كانت للمسلمين خلافة راشدة تتعاون فى ظلها الكفايات العلمية والتشريعية والتربوية، ما وجد الإلحاد الدينى أو السياسى أو الاقتصادى مسربا يدلف منه إلينا ولا إلى غيرنا... لكن الأمر اغتصبه من لا يستحقه فوقعت فتن تدع الحليم حيران. لما أفضت الخلافة إلى بنى العباس، وملك الأمر عبد الله السفاح جاءه السيد الحميرى ينشد هذه الأبيات: دونكموها يا بنى هاشم فجددوا ميراثها الطامسا دونكموها فالبسوا تاجها لا تغدموا منكم لها لابسا خلافة الله وسلطانه ومنبركان لكم دارسا قد ساسها قبلكم ساسة لم يتركوا رطباولا يابسا لو خيرالمنبرفرسانه ما اختارإلا منكم فارسا ص _099(1/97)
والملك لوشورفى ساسة ما اختارإلا منكم سائسا لم يبق عبد الله بالشام من آل أبى العاص امرءا عاطسا فلست من أن تملكوها إلى مهبط عيسى، منكم آيسا. قال الرواة: فأمر الخليفة له بمائة ألف درهم، وقال له سل حوائجك! فقال الحميرى: ترضى عن " سليمان بن حبيب " وتوليه الأهواز! فأمر الخليفة بجعل " سليمان " أميرا على الأهواز.. هكذا- باسم الإسلام- نهب مال الأمة، ونيلت مناصبها الكبرى، وتمنى الشاعر أن تظل الخلافة فى عائلة العباس إلى نزول عيسى بن مريم... وقد خيب الله الأمل! وزالت الخلافة المذكورة بعد ما عانى الإسلام منها البلاء الشديد... والمهم أن بعض المتحدثين فى الإسلام لا يدرى شيئا عن اختيار الخليفة، ومراقبته، ولا عن أسلوب الشورى ومن يستشارون ولا عن المال العام وكيف ينفق... وكل ما يعرفه أن يهاجم الديمقراطية مثلا باسم الإسلام المظلوم... إن شباب الجيل المعاصر يعانى من فتنة مزدوجة، فالحضارة الحديثة تعرض عليه مذاهب براقة تخفى السم فى الدسم! والمحسوبون على الإسلام يعرضون علية أفكارا ممجوجة، ويطلبون منه أن يستسلم إليها، لأ نها من الله ورسوله، وهم كذبة! الرواد الجدد يقولون له: نريد حكومة تخضع للأمة إن أحسنت استبقتها، وإن أساءت استبعدتها ولا كرامة، لابد للحكومة أن تستشيرنا وتخضع لما نريد. والمتحدثون الإسلاميون يقولون له: الشورى لا تلزم حاكما، وله أن يمضى وفق ما يرى غيرآبه لتوجيه المستشارين! إن الكلام الأول أشبه بما كان عليه الأمر أيام الخلافة الراشدة! أما كلام الإسلاميين فهو امتداد لمنطق الخلافة غير الراشدة التى ابتلى المسلمون بها دهرا... وعندما ينهزم المنطق الإسلامى المزعوم، ويبدأ حكم الشعب تتغير مقررات، وتنتقض مسلمات! والسبب؟؟ غباء متحدثينا وعرضهم باسم الإسلام كلاما يأباه الإسلام. ص _100(1/98)
وقل مثلى هذا فى قضايا المال، والعلم والمرأة. والحرب، والحرية... إلخ. إذا كان أولو النهى يشكون من المظالم التى تقع باسم الحرية، والسرقات التى تقع باسم الاشتراكية فكم نشكو نحن من الجهالات والسخافات التى تقع باسم الدين!! والسنة النبوية مهرب رحب لمريدى العبث، وناشرى الفوضى..! فهناك أحاديثا موضوعة مرت، وأحاديث ضعيفة قويت، وأحاديتا صحيحة حرفت عن موضعها، وسيقت فى غير محلها..! وإذا كنا أحيانا نسمع شكوى من الإسراف فى استعمال الدواء، وقدرة الجمهور على شرائه وسوء التصرف فيه، فإن الشكوى نفسها يمكن توكيدها بالنسبة إلى أحاديث كثيرة تقع بين أصابع الدهماء فيخوضون فيها ببلاهة ويسيئون أكثر مما يحسنون ولم الدهماء وحدهم؟ لقد سمعت عالما يخطب فيورد فى ذكرى المعراج حديث "دنا الجبار فتدلى "..!! فبادرت أقول له: إن الذى نزل بالوحى هو جبريل لا غير، أسمعت؟ قال: إنني نقلت رواية البخارى! قلت له: القرآن قاطع فيما أذكوه لك: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين) والذى رآه محمد عليه الصلاة والسلام هو جبريل كما تجات فى سورة أخرى: (إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين). قال: ورواية البخارى؟ قلت صححها تلميذه مسلم بأدب العلماء، فقال إن الحديث رواه شريك عن أنس بن مالك فزاد ونقص وقدم وأخر أى أن السياق غير مضبوط، ولا يعمل به!! وقد ظهر ناس يتسمون أهل الحديث لا يعلمون عن القرآن شيئا، وبضاعتهم فى فقه السنة مزجاة، فيهم شتة من فكر الظاهرية، ومزاج الخوارج، وفيهم جمود يغظونه بدعوى الاتباع، وفيهم جراءة على أئمة الفقه الكبار، وفيهم اعتداد بأنفسهم ص _101(1/99)
وكأنهم المتكلمون باسم الله ورسوله! وفيهم سوء ظن بالآخرين واشتهاء للنيل منهم والوقيعة فيهم... وقد كثر هؤلاء فى هذه الايام العجاف، ولولا علمى بأن الجاهل عدو نفسه لقلت: إن الاستعمار هو الذى يحركهم، وينطقهم، وينشئ لهم جماعات فى أقطار متباعدة، لأنهم مهرة فى تقطيع وحدة الأمة! قديما كان العمل بالنصوص صبغة المجتمع كله، وكانت نسبة الجامعين للقرآن الكريم لا تعدو 10% فى عصر الصحابة نفسه، أما العارفون للأحاديث فنسبتهم أقل. وما يحتاج المسلم فى حياته إلا إلى بضع عشرات من أحاديث الآحاد.. إن ما تواتر من العقائد والعبادات والأخلاق هو قوام الإسلام وحياة الأمة، وما زاد يحتاج إليه متخصصون فى أعمال أخرى، ولا يجوز أن يزاحم الأركان بله أن يطغى عليها. " وقد لاحظت- وأنا فى الجزائر- أن الفرض الأول فى النشاط العام هو إعادة اللغة العربية إلى المكانة التى أزلها عنها الاستعمار الفرنسى، فقد ظل- عليه اللعنة- قرنا وثلث قرن يحمل على اللغة العربية حتى اضمحلت وكادت تزول من لغة التخاطب فى الشارع الجزائرى. وكان لابد من جهاد زراعى تنجو به الأمة من أى حصار اقتصادى يجعلها تركع من أجل الرغيف!.. وكان لا بد من جهاد إدارى يمنع قتل مصالح الجماهير فى أدراج المكاتب، أو بين أصابع الملتاثين من الموظفين الكسالى.. وكان لا بد من جهاد اجتماعى يقتلع العوائد الفرنسية، ويبنى العلاقات بين الجنسين على العفاف. وكان وكان.. فى زحام هذه الواجبات تنظر إلى شباب ينتسب إلى السنة النبوية يقاتل لغايات ص _102(1/100)
أخرى! يقول: الأعراس فيها غناء وموسيقى، والعرس الإسلامى يقوم على تلاوة القرآن...!! قلت من أفتى بهذا؟ ولما كان مذهب مالك شائعا فى البلاد، والمصلون يسدلون أيديهم وهم وقوف فقد شنوا حربا على السدل، وقالوا يجب القبض. قلت: من أفتى بهذا؟ وحدث فى مدينتين بينهما مئات الأميال أن سئلت عن حديث أن موسى فقأ عين عزرائيل لما جاء لقبض روحه! لقد استغربت هذا التوافق، وقلت: أهو توارد خواطر أم تنفيذ مخطط؟؟ وعجبت أن يتقهقر الجهاد العلمى والإدارى والاجتماعى من بؤرة الشعور إلى حافية الشعورإلى شبه الشعور وأن يحل محله لغط قى أحكام دينية ثانوية! ونهرت الخائضين فى هذا اللغو.. وقلت فى إيجاز: جنبوا أعراسكم المجون والتكشف واسمعوا غناء أو موسيقى إن شئتم. أما وضع اليدين فى الصلاة فهيئة تستحب فقط، ومن تركها عامدا أو ناسيا فلا سهوعليه. وأما الحديث فما حاجتكم إلية؟ لا يفيد عقيدة ولا يكفف بعمل! وما يسألكم الله عنه يوم القيامة! وإنى أرفض ربط مستقبل الإسلام وأمته تارة بحديث سقوط الذباب فى الإناء، وتارة بحديث خلع عين ملك الموت. هذه أحاديث تبحث وفق المقررات الأصولية فى دلالتى السند والمتن، فقد يصح الحديث سندا ويرفض متنا، لعلة قادحة، وقد رفض الأئمة الأربعة حديث رضاع الكبار مع صحته، فدعوا هذه القضايا والتفتوا لدينكم..! إن الغاية من أنواع الطاعات تزكية النفس، ورفع مستواها المادى والأدبى برؤية المجد الإلهى، وقيام الله سبحانه وتعالى على خلقه! والإسلام هو النهج المضىء الفذ المقرر لهذه الحقائق، ويؤسفنى أن بعض الناس يزيغون عنه من حيث لا يشعرون!! ص _103(1/101)
لقد ساكنى طالب جامعى عن قوله تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ). فقلت له المعنى واضح، العالم كله سوف يتلاشى، وينتهى وجوده، فأمانى الخلود سراب خادع، وللبشر بعد هذا الهلاك العام صحوة يواجهون فيها ما قدموا لأنفسهم عندما كانوا يختبرون على ظهر الأرض، على نحو ما، قال الشاعر: لادارللمرءبعد الموت يسكنها إلا التى كان قبل الموت يبنيها..! واستطردت أقول للطالب: وجه الله هو الباقى، وهو ما ينبغى أن نقصده بأعمالنا دون تعويل على غرض آخر من مال، أو جاه، أو طلب ولاء، أو ابتغاء مكانة، كما قال تبارك اسمه: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ). وفوجئت بالطالب يقول لى: ما عن هذا أسأل! أنا أسأل عن تفسير كلمة "الوجه "، فنظرت للطالب بغضب بلغ حد المقت، ولكنى كظمت غيظى، وأجبته ببرود: سؤال لا معنى له، إن لغات البشر كلها أعجز وأقل من أن تصف الجلال الإلهى، ونحن مكلفون أن نؤمن بالله وأسمائه الحسنى، دون تقعر فيما يستحيل إدراكه، إن الله ليس كمثله كشىء، إن الذبابة التى تطن حولى لا تدرى ولا تستطيع أن تدرى شيئا عما يدور فى رأسى، وما أخطه بقلمى، كذلك أنا وغيرى بالنسبة إلى الذات العليا، بل نحن أدنى وأضأل... يا بنى: لا تؤذوا الإسلام باسم الإسلام ! مروا على هذه الآيات وأشباهها كما يمر العلماء بالضوء، ينتفعون به ولا يعرفون كنهه مهما حاولوا. إن الانشغال بهذه البحوث لون من البطالة المقنعة واستحياء المعارك القديمة هو تجديد لمعارك الهزيمة! وشغل للمسلمين بما يضرهم وبفيد عدوهم! إن الأيات المحكمات هن أم الكتاب، فما الذى يصرفكم عن فقهها والعمل بها، والدخول فى متاهات لا معنى لها؟ أرجو ألا أسمع هذا السؤال أبدا. ص _104(1/102)
إنهم يتعصبون ضدناه.فهل نتوإخى؟!! تداعت الخواطر فى نفسى، وأنا أنظر إلى تمثال الإمبراطور "قسطنطين " فى مدينة "قسنطينة" أى فى بلد يحمل اسم الإسكندر اليونانى، وها أنذا أعمل فى بلد يحمل اسم القيصر الرومانى. وقد كان فى الإمكان أن يظل الوجوفى الأوربى فى بلادنا دهرا لولا أن الإسلام طفر القارتين القديمتين آسيا وإفريقيا من الجنس الزاحف، ورده من حيث جاء.. ومع ذلك فقد بقيت الأسماء القديمة لها دلالتها ولها إيحاؤها! إننا لم نفكر فى تغييرها ولكن الأوربيين لم يحاولوا تغيير أنفسهم والتوبة من مظالمهم، كأنهم يرون أن الأرض كلها كلأ مباح لهم، وأن أهلها كانوا عبيد الأجداد فليبقوا عبيد الأحفاد..!! إن هذا الإصرار ازداد حدة بعد أن اعتنق الروم النصرانية، وبدل أن يغيروا طباعهم مع التعاليم الجديدة، لبسوا جلد الحمل الوديم على حقيقة ذئب مفترس، وهيهات أن تنطلى الخدعة، فإن الأنياب الحادة والعواء الرهيب فضحا طبيعة الوحش المختفى! وأيقن الناس أن الروم لم يتنصروا وإنما ترؤمت النصرانية! وأن الأوربيين إجمالا يريدون الاستمرار فى سياسة الاغتصاب، والاجتياح، وأنهم ما آمنوا قط بحكاية "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر" بل على العكس لقد انطلقوا يلطمون الوجوه عن يمين ويسار، فمن غضب لنفسه قطعوا عنقه! باسم الله!.. وتمضى المغالطة إلى آخر الشوط، فالرومان يقاتلون المسلمين فى " مؤتة "، يستنفرونهم إلى "تبوك "، أى يقاتلون العرب فى أرضهم وفوق ترابهم، ثم يقولون: الإسلام دين عنف، ونحن إنما ندافع عن حقنا! أى حق؟ وكان الفرنسيون من ثلاثيين سنة يقاتلون الجزائريين فى هدنهم وقراهم، فإذا زجرهم ناصح قالوا له: صه! هذه شئوننا الداخلية! لماذا تدخل أنفك فيما لا يعنيك؟ الجزائر جزء من التراب الفرنساوى!! ماذا نقول؟ إن الاستعمار لن يدع ص _105(1/103)
صفاقته ولا وقاحته إلى آخر الدهر حتى نرغمه نحن على تركها، بالمنطق الذى لا يفهم غيره..!! عجيب أن ينسى المظلوم، وأن يذكر الظالم! عجيب أن يتشاغل صاحب الحق بلا شىء، وأن يفرغ صاحب الباطل لسلبه كل شىء! إننى أنظر إلى الأحزاب الخاصمة للإسلام من وثنيين وكتابيين فأجد عداوتها تزيد ولا تنقص، وأجد الخطط المرسومة لمحوه ومحو أمته تنفذ بدهاء وخبث! وفى الوقت الذى نتجافى فيه ونتشاكس، يتساند هؤلاء ضدنا ويتصالحون على تمويتنا...! اليهود الذين وثبوا على فلسطين يعلنون بغضاءهم لحمد وكتابه، ورفضهم لنبوته وأمته! ويرون أنهم أولى بالأرض والسماء صنه ومن أتباعه! والغاية من إقامة " إسرائيل " محو عقيدة وجنس، وإثبات عقيدة أخرى وجنس آخر، الغاية محو تاريخ ظل خمسة عشر قرنا، ووصل تاريخ جديد بقبائل العبرانيين الأولى بعد رمى الإسلام وأمته فى البحر... وفى سبيل هذه الغاية الرهيبة يشد الصليبيون أزر المعتدين، ويمدونهم بسيل من المال لا ينقطع، وأنواع من التأييد السياسى والعسكرى لا تنتهى! إن اليد اليهودية لا تصفق وحدها، وإنما تعاونها اليد الصليبية، ومفروض أن تلتقى اليدان على عنق الإسلام لتصهره، وتورده الحتوف! ئرى أتسكت الشيوعية الكارهة للإسلام وتقف بعيدا؟ كلا، إنها تشارك فى الاعتراف بإسرائيل، وترى الفرصة سانحة كى تضم أرضا إسلامية أخرى إلى أرض الاتحاد السوفيتى التى تكون أغلبها من دار الإسلام المستباحة.. وهكذا أقبلت أفواج الذئاب من كل ناحية لتعيث فسادا فى قطيع لا راعى له.. إن الإسلام يمر بأسوأ محنة عرضت له خلال تاريخه كله، وليس أعجب من تجمع أعدائه عليه إلا ذهول أتباعه، واحتباسهم فى مآربهم، أو انشغالهم بقضايا لا تسمن ولا تغنى سن جوع.... إننى أفهم حقد الملاحدة على الإسلام، لأن الإسلام يشغل الناس بربهم، ويجعل الحياة والممات له، وأفهم أن يحقد عباد الأصنام والأ بقار على الإسلام، لأن أولئك لا تفكيرلهم ولا ضمير.. ص _106(1/104)
أما هذه الضغائن المتوارثة بين أهل الكتاب على الإسلام وأمته، فداء عياء، وظاهر أن بغى الكتابيين أنكى من جهل الأميين، وأن أهواء المتعلمين- إذا فسدوا- أغلظ وأشنع من مكايد السذج... حين أرمق المجازر التى تجتاح أبناءنا، والحرائق التى تلتهم دورهم، وأرى الموارنة والصهاينة يتسابقون فى تكثير ضحاياها، وكأنما يحققون أمانيهم فى الدنيا، أقول إن هؤلاء وأولئك نسوا المثل القائل: " أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما " إنهم يعتقدون أن هزيمة المسلمين اليوم هى القاضية، وأنه لن يبقى منهم من يؤسف على ما حدث له أو لآبائه... إ! لا بأس، يجب أن ندفع ضريبة التخفف والفرقة والضعف، وإن فدح الثمن!. والغيب لله، فما ندرى أيكون الغد قصاصا لنا، أم امتدادا لمحنتنا؟؟ على أنه من الخسة أن تترك المآسى النازلة بنا دون نكير ودون تذكير!، وجمع هذه المآسى خلال قرون الضعف يحتاج إلى كتب مطولة، فهل نؤدى واجبنا؟ أمس القريب كنت فى مدينة "خنشلة" الواقعة فى أحضان جبال "الأوراس " بالجزائر قال لى صديق: ألا تزور قبور الشهداء؟ قلت: هذا حق، هيا بنا، وفى الطريق أشار إلى خندق مردوم ثم همس: كان العمال يحفرون هنا فوجدوا بقايا آدمية! وتتابع الحفر والتنقيب، فإذا هياكل عظمية لألف شهيد احتوتهم هذه المقبرة الجماعية، ومع عظام الموتى وجدت السلاسل التى تربطهم والقيود الحديدية التى كانت فى معاصمهم!! إن القتلة حشدوهم هنا ثم حصدوهم بالمدافع الرشاشة ثم أهالوا عليهم التراب ليذهبوا مع الأمس الدابر! وهاجنى الغيظ وأنا أنظر إلى المكان كله، وأرى أنقاض الشباب الغص، والرجولات الباسلة، ومصارع الجباه الشريفة، والقلوب المؤمنة بيد الأوغاد من صليبيى العصر الحديث! وضحكت بجنون، وأنا أقول: لقد تركوا السلاسل والقيود لأ نهم صنعوا الكثير الكثير منها للأحرار والموحدين! ص _107(1/105)
ومددت الطرف فإذا صديقى يقولى: إن الحكومة نقلت الرفات إلى هذه القبور التى ترى! وبنت متحفا يضم الوثائق لمقتل جزء واحد من ألف ألف وخمسمائة كف شهيد قدمتهم الجزائر لتحريرأرضها من فرنسا ابنة الكنيسة البكر كما يسمونها فى أوربا.. ولتستعيد المساجد التى حولها الفرنسيون إلى كنائس حتى تنطلق منها أصوات التكبير والتوحيد كما كانت منذ شيدت.. ونظرت إلى القبور الجديدة، فخيل إلى أنها سطور منسقة ممتدة لأبيات قصيدة حزينة توحى بالأسى والبكاء. غير أن إيمانى عاودنى على عجل، إن الشهداء أحياء، وأرواحهم ترد أنهار الجنة وتأوى إلى قناديل معلقة تحت العرش، ولو عرض عليهم أن يعودوا إلى دنيانا هذه لرفضوا، ولو كانوا على ثراها ملوكا!! لا مكان للحزن، يجب أن أتجلد وأن أتعلم، وأن يعرف قومى فداحة ما يدفعون ثمنا لتفريطهم وضعفهم، إن ما وقع فى المغرب العربى صورة لما يقع من أيام فى الشرق الأوسط ، وجنوب آسيا حتى الفلبين.. إن العالم الإسلامى يضرب ببأس، والجلادون طامعون قى إخماد أنفاسه ولذلك لا تدركهم رحمة.. وتذكرت ما نشرته جريدة الراية القطرية عن بعض أسرار صبرا وشاتيلا" أن أحد رجالى الكتائب أدرك شابا فلسطينيا يافعا، وكان ساقطا على الأرض فى فوضى المذبحة، فأخذ يتواثب فوق جثمانه بحذائيه الثقيلين حتى أزهق روحه! لم هذا الحقد كله؟ لم هذه الوحشية كلها؟ يبدوأن الجبان إذا أمن على حياته فعل كل شىء.. قال لى صاحبى: أمحزون أنت لما يصيب المسلمين من كوارث فى أرجاء العالم؟ قلت: ولم لا؟ إن الطعنة التى تصيب أحدهم فى الفلبين أتأوه لها فى القاهرة! فكيف إذا اشتعلت النار فى دار الجار؟ قال: أتعلم ما يفلسف به رجال الدين هذه المآسى؟ يقولون: إننا نرد الصاع صاعين، لما فعله السيف الإسلامى قديما بمعارضيه! ص _108(1/106)
قلت: كذبوا والله، لقد كان الإسلام فى عنفوان قوته رحيما، وكما قال "غوستاف لوبون ": إن العالم لم يعرف فاتحا أرحم من العرب! ولو شاء لأباد طوائف كبيرة وصغيرة، وحاشاه أن يفعل، فما تلك خطته ولا تلك سيرته! ولو فعل لسكت التاريخ مستكينا كما سكت لإبادة المسلمين فى الأندلس، ولإبادتهم فى الشطر الشرقى للاتحاد السوفيتى، حيث تذوب الأمة الإسلامية فى آسيا الشيوعية! إن المسلمين كانوا وما زالوا أرق أهل الأرض، ولا يزالون كذلك مابقوا فى كل صلاة يرددون هذه العبارة النبيلة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين! يا صاح، إن رجال الدين هؤلاء يسترون فشلهم فى ترشيد الحضارة الحديثة بإعانة الاستعمار العالمى على ضرب الإسلام. إن السيف الإسلامى المزعوم اختفى من عدة قرون، وانفرد دا أهل الكتاب " بالمدينة الحديثة تحاورهم ويحاورونها فماذا حدث؟ أبعد الدين عن ميدان الحكم، ئم أبعد عن ميدان المال، ثم أبعد عن الآداس والفنون، تم أبجد عن العلوم الإنسانية، والعلاقات الجنسية، والتقاليد الاجتماعية! إنه- بفضل ما لدى القوم- أبعد عن الحياة كلها ولم يبق له وجود إلا فى أيام العطلة، أو فى المناسبات العامة. وليته بعد هذا الإحباط استكان، لقد تقدم فى ابتسامة صفراء إلى الحكومات الاستعمارية يعرض عليها مساعداته الحميدة! فكان وراء حملات الفتنة والتدويخ التى تتعرض لها شعوب شتى من بينها، أو فى مقدمتها الشعوب الإسلامية! إننا ننصح الكهنة الذين يمالئون الصهيونية، ويؤيدون المظالم أن يتراجعوا قبل أن يطول ندمهم، إنهم يهدمون ولا يبنون، وبدل أن يجتهدوا فى إبقاء دينهم بأوربا ومنع الحضارة الحديثة من محو آخر أثر له حولوا جهدهم كله إلى حرب الإسلام، وتضليل أهله..! جريا مع المثل الغربى، على وعلى أعدائى لما. بيد أن العرب- قبل كل إنسان- مسئولون عما يقع الآن للإسلام من أحزان! إن تفرقهم الشائن أيام الحملة الصليبية الأولى هو الذى فتح الطريق إلى القدس(1/107)
وجعل ص _109
الجثث أكواما فى البلد المحروب، وهم اليوم يكررون الخطأ القديم، بل ضموا إليه تقطيع الصفوف وتوهين العقيدة، وتهوين الأخلاق وعربدة الشهوات.. ومع أننى عربى إلا أنى أشعر بالخجل للمواقف التى وقفها العرب من إخوانهم وسط آسيا وشرقها وجنوبها... وبدت آخر الأمر فى مشكلة أفغانستان، إن الدول العربية الضالعة مع روسيا تنكرت لها بل تجاهلتها فى وضاعة عجيبة، والدول الباقية قدمت مساعدات تافهة، لأ تبلغ أبدا مستوى المعركة بين الكفر والإيمان. إن العرب أنانيون لا يهتمون إلا بأنفسهم وقضاياهم، وتأخيرهم الأخوة الإسلامية عن الجنسية العربية سيجر عليهم العار والنار فى الدنيا والآخرة. ألقى الأستاذ، أحمد بهجت " نورا على المعركة الأفغانية فى الركن العامر الذى يملأه فى صفحة الأهرام فقال: لقد تحدث المجاهد الأفغانى عبد رب الرسول سياف رئيس الاتحاد الإسلامى لتحرير أفغانستان عن أهمية المعركة التى تدور الآن بين المجاهدين الأفغان وقوات الحكومة العميلة التى تسندها الدبابات الروسية. قال: إننا أمام معركة خطيرة تعنى خسارتها خسارة الإسلام فى أفغانستان وفى باكستان نفسها. قال بالنص: لأ لو انتهى هذا الجهاد "لاسمح الله " بفشل المجاهدين فإن باكستان تموت خلال أسبوع. إن الدب الروسى سوف يضغط من الغرب والفيل الهندى سوف يضغط من الشرق، وسوف تختفى باكستان. ". شرح المجاهد حقيقة أبعاد المعركة فقال: " إن أمريكا لا تريد بقاء روسيا فى أفغانستان، ولكنها كذلك لا تحتمل قيام حكم إسلامى فى أفغانستان، وعندما اتضح أن المعركة الدائرة أخذت تسفر عن قيام حكم إسلامى، بدأوا جميعا يتداركون الوضع، وبدأ التنسيق فى البحث عن بديل آخر كير مسلم، وبدأت كتابة سيناريو جديد، وبرز اسم "ظاهر شاه " والمطلوب فى السيناريو الجديد إجهاض الثورة الإسلامية أساسا، ومن الأمور التى تثير الأسف أن المسلمين لا يدركون خطووة المعركة ولا يعرفون أبعادها، وبالتالى(1/108)
فإنهم لا يتفاعلون معها كما يجب . سئل عبد رب الرسول سياف: هل غياب القضية الأفغانية إعلاميا هو السر فى عدم التفاعل معها؟ فقال: " أنا لا ألقى الذنب على غيبة الإعلام الأفغانى عن الساحة العربية والإسلامية، ولكنى القيه على غيبة الإعلام العربى الإسلامى عن ص _110
ساحات الجهاد... "، وتساءل المجاهد: " لماذا لا يوجد صحفى مسلم يأتى إلينا ويعرض علينا أن نوصله إلى جبهات القتال ليشهد فجر الإسلام من جديد. إن غزوات المسلمين الأوائل تعيد نفسها فى أفغانستان، وليس هناك مسلم واحد يسجل هذه الأحداث! إن الصحفى فى بلادنا الإسلامية يرحل بكاميراته آلاف الأميال ليتابع لاعب كرة يسجل هدفا.. ألا يستطيع هؤلاء الصحفيون تسجيل تدمير عشر دبابات بأيدى مجاهد مؤمن يقف بين رصاص كالمطر.. أذكر أننى قلت للصحفيين بالرياض كيف تعتبرون أنفسكم صحفيين مسلمين بينما أنتم عالة على أعدائنا فى أخذ أخبار أمتكم الإسلامية؟ قال لى بعضهم: والله أنتم ما تخبروننا عن أوضاعكم وأحوالكم، وهذا الكلام يشبة من يبعث خطابا إلى مريض فى المستشفى يسأله لماذا لا يخبره عن أحواله. أيهما يذهب إلى الأخر السليم يعود المريض أو المريض هو الذى ينبغى عليه أن ينهض من فراشه ويذهب إلى السليم و!خبره عن أحواله! لماذا لا تأتون إلينا؟ إذا لم تستطيعوا الوقوف معنا فى خنادق القتال، فلا أفل من تسجيل موقفنا نحن فى الخنادق.. " أليس عارا أن نقرأ فى صحفنا الإسلامية خبرا عن إسقاط طائرة بأيدى المجاهدين وتحت الخبر تكتب وكالة فرانس برس أو رويتر"؟!! أين اليقظة العربية؟ أيت الاكتراث العربى؟ إن الأخوة الإسلامية مهزومة فى هذه القضية الكبيرة! وانهزامها ليس جديدا، فقد سبقته خيانات جسيمة فى أحوال مشابهة والواقع أن دحرجة الإسلام سياسيا وثقافيا. تمخضت عن ارتداد ملحوظ فى إعلان بعض الأحزاب عن "علمانيتها" وفى رفض حكومات شتى للانتماء الاسلا مى.. ولولا الوجل من علامات الحياة التى ينتفض(1/109)
بها الكيان الإسلامى بين الحين والحين لأعلنت بعض الحكومات العربية انسلاخها عن الإسلام جملة وتفصيلا.. ص _111
ماذا كسبوا من هذا النفاق؟ كان الحاج "محمد أمين الحسينى" مفتى فلسطين الأكبر يقود مقاومة إسلامية باسلة ضد اليهود والإنكليز، نعم كان الوجه الإسلامى سافرا ضد الوجه اليهودى المكشوف المتبجح! كانت صيحة "الله أكبر" تقود المقاومة، وتنشق بها حناجر المجاهدين الذين ينشدون خير الدنيا والآخرة.. إن هذه الصيحة هى التى لم يعرف غيرها ثوار الجزائر فى مقاتلتهم للاحتلال الفرنسى الحقود، وقد فدحت التضحيات ولكنها حققت النصر، ودحر الله الصليبية الجديدة، ولم يكن لجند الإسلام سلاح يوم بدأت المعركة! إلا ما يأخدونه من أيدى أعدائهم،. ثم رأى "عرب الشرق الأوسط "- وبئسما رأوا- أن يدعوا التكبير، وأن ينحازوا بعيدا عن الإسلام، وأعلنت جبهة التحرير أنها سوف تقيم يوم تنتصر دولة علمانية! وتتابعت الخسائر! وتتابعت الانسحابات! وأطبقت على الجماهير المسكينة حيرة بالغة. الاسلام.. و فلسطين لقد شعرت بقلق حقيقى على مستقبل فلسطين! قد تقول: هل جد جديد؟ وأجيب: كلا وليس أسوأ مما وقع! مبعث قلقى أنى رأيت الشعور الدينى عند اليهودى يقوى، وعند قومى يخفأ، وأن يوم السبت يزداد قداسة على حين تتهاوى شعائر الإسلام فى أقطار شتى، وأن القوم يتحدثون عن حدودهم التوراتية ونحن لا نعرف آفاقنا القرآنية! وأن اليهودى يلبس قلنسوة صلاته فى أى عاصمة، ويمضى فى شموخ إلى معبده بينما يتخفف أكثرنا من عبء الصلاة المكتوبة، وأن التراث عندهم أصالة وعندنا رجعية! إسرائيل عندهم دين، وفلسطين عندنا عروبة! ومعركة تدور على هذه الأسس تثير الفزع فى ضمير المسلم.. إن أمريكا تؤيد اليهود لأسباب دينية، وقد كان لورد بلفور نصرانيا متحمسا، ومؤمنا بتعاليم العهد القديم عندما أعطى اليهود حق احتلال فلسطين.. والدول العظمى- وبينها روسيا- التى قالت: خلقت إسرائيل لتبقى، إنما(1/110)
تتحرك بضغائن ضد العروبة والإسلام... وقد تصدر هيئة الأمم فى هذه الأيام قرارا جديدا بتأييد حق العرب فى فلسطين، أو بتعبير أصرح حق إقامة دولة لهم على جزء من أرضها.. وسيكون القرار كعشرات ص _112
غيره حبرا على ورق، ولن يعود الحق إلى نصابه إلا فى حالة واحدة، أن يعرف العرب الطبيعة الدينية لقضيتهم ومعركتهم ومصيرهم فيردوا على العدوان اليهودى بدفاع إسلامى. إن راية "العلمانية" لن تكسب خيرا، فهل نرجع إلى الإسلام عقيدة وجهادا، لا سياسة وشعارا؟ لعل أول ما كسبه العرب من تجاهل الإسلام هذا التفرق الشائن الذى سر أعداءهم وأرخص مكانتهم العالمية. إن الإسلام الضمان الوحيد للوجود العربى فى هذه الدنيا، قبل أن يضمن لهم فى الآخرة جنة عرضها السموات والأرض.. والعرب عندما يزهدون فى الإسلام فسوف يعودون قبائل متحاقدة لا تزن عند الله ولا عند الناس جناح بعوضة..! ليس أمام العرب إلا توبة سياسية واجتماعية، يعرفون بها رسالتهم، ويبصرون غايتهم، ويسترجعون مجدهم ويكبتون عدوهم... إن العرب يبلغون 15% من مجموع الأمة الإسلامية، إلا أنهم كما قلت فى بعض كتبى "دماغ الإسلام وقلبه " إذ الإسلام دين عربى الثقافة والقيادة. ونجاح الاستعمار فى فرض الارتداد عليهم هزيمة بعيدة الأماد رهيبة الآثار! ونحن موقنون بأن جماهير العرب أوفياء لدينهم حتى الموت، وأن المراد فرض الإلحاد عليهم بالسلاح! وتمكين سلطات مغتصبة من خذلان الإسلام فى كل ميدان، وجعل العمل له تهمة! وجعل العمل ضده باب القبول والترفى ! والجهد الآن قائم على تجريد العروبة من الإسلام، وتجريد كل قومية أخرى من الانتماء الإسلامى، وما درى أولئك الغادرون أنهم يحفرون للعرب- بهذا المسلك- مقبرة تواريهم إلى آخر الدهر... وقد لاحظت فى ركن قصى من النشاط الأدبى أن الطلاب لا يحفظون قصائد تتحدث عن أمجاد الإسلام، ولا عن أيام الله فى تاريخ العرب.. حتى لو كلفوا بحفظ قصيدة للمتنبى تصف حروب يسيف(1/111)
الدولة مع الروم فإن ص _113
واضعى المقرر يتحاشون ذكر الأبيات التى تشير إلى الإسلام.. ففى قصيدة أبى الطيب المتنبى: على قدرأهل العزم تأتى العزائم وتأتى على قدرالكرم المكارم يحذف عن عمد قول أبى الطيب لسيف الدولة: ولست مليكاهازما لنظيره ولكنه الإسلام للشرك هازم! وتنفيذا لهذه السياسة طويت قصائد جياشة بالصدق واليقين لشوقى وحافظ ومحرم وغيرهم، وقد رأيت أن أستنقذ من أصابع الضياع قصيدة الشاعر محمود غنيم التى يناشد فيها العرب أن يصحوا، ويستثير فى ضمائرهم نجدة الإسلام، قال نضر الله وجهه فى قصيدته: "وقفة على طلل ". ما لى وللنجم يزعانى وأرعاة أمسى كلانا يعاث الغمض جفتاة لى فيك يا ليل آهات أرذدها أواة لو آخدت المحزون أواه لا تحسبنى محبا يشتكى وصبا أهون بما فى سبيل الحب القاه إنى تذكرت- والذكرى مؤرقة مجدا تليدا بأيدينا أضغناة آنى اتجهت إلى الإسلام فى بلد تجدة كالطيرمقصوصا جناحاة ويح العروبة كان الكون مسرحها فأصبحت تتوارى فى زواياه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه كم بالعراقوكم بالهند ذو شجن شكا فرددت الاهرام شكواه بنى العمومة ان القرح مسكممو ومسنا نحن فى الآلام أشباه يا أهل يثرب أدمت مقلتى يد بدريه تسأل المصرى جدواه (1) الدين والضاد من مغناكم انبعثا فطبقا الشرق أقصاه وأدناه لسنا نمد دين ابن عدنان سوى فلق شق الوجود وليلالجهل يغشاه (1) من نصف قرن حلت بالمدينة المنورة مجاعة، فأسرعت السفن المصرية محملة بالقمح الى نجدة البلد الطيب.. والشاعريرىدلك بعض ما يجب ! ص _114(1/112)
سل الحضارة ماضيها وحاضرها هل كان يتصل العهدان لولاه هى الحنيفة عين الله تكلؤها فكلما حاولوا تشويهها شاهوا هل تطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الاجداث احياه من وحد العرب حتى كان واترهم اذا رأى ولد الموتور أخاه وكيف كانوا يدا فى الحرب واحدة من خاضها باع دنياه بأخراه وكيف ساس رعاة الابل مملكة ما ساسها قيصر من قبل او شاه وكيف كانوا لهم علم وفلسفة وكيف كانت لهم سفن وأمواه سنوا المساواة لا عرب ولا عجم مالامرىء شرف الا بتقواه وقررت مبدأ الشورى حكومتهم فليس للفرد فيها ما تمناه ورحب الناس بالاسلام حين رأوا ان السلام والعدل مغزاه يا من رأى عمرا تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقا من بأسه وملوك الروم تخشاه سل المعالى عنا اننا عرب شعارنا المجد يهوانا ونهواه هل العروبة لفظ ان نطقت به فالشرق والضاد والاسلام معناه استرشد الغرب بالماضى فأرشده ونحن كان لنا ماض نسيناه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا؟ فإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح : أين المجد والجاه؟ وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه وطف ببغداد وابحث فى مقابرهاعن امرءا من العباس تلقاه هذى معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيبا فاغرا فاه انى لأشعر اذ اغشى معالمهم كأننى راعب يغشى مصلاه الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوما وأخطأ دمع العين مجراه اين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تحراه ص _115(1/113)
ملك كملك بنى التاميز ما غربت شمس عليه ولا برق تخطاه ماض يعيش على انقاضه امما ونستمد القوى من وحى ذكراه لا دردر امرىء يطرى أوائله فخرا ويطرف ان ساءلته ما هو ؟ ما بال شمل بنى قحطان منصدعا رباه أدرك بنى قحطان رباه عهد الخلافة فى البسفورقد درست اثاره طيب الرحمن مثواه عرش عتيد على الاتراك نعرضه ما بالنا نجد الاتراك تأباه ألم يروا كيف فداه معاوية وكيف راح على من ضحاياه غال ابن بنت رسول الله ثم عدا على ابن بنت ابى بكر فأرداه لما ابتغى يدها السفاح أمهرها نهرا من الدم فوق الارض اجراه ما للخلافة ذنب عند شانئها قد الظلم السيف من خانته كفاه الحكم يسلس باسم الدين جامحه ومن يرمه بحد السيف أعياه يا رب مولى له الاعناق خاضعة وراهب الدير باسم الدين سنه الله انى لاعتبر الاسلام جامعة للشرف لا محض دين سنه الله ارواحنا تتلاقى فيه خافقة كالنحل اذ يتلاقى فى خلاياه دستوره الوحى والمختار عاهلة والمسلمون وان شتوا رعايه لاهم قد أصبحت اهواؤنا شيعا فامنن علينا براع أنت ترضاه راع بعيد الى الاسلام سيرته يرعى بنيه وعين الله ترعاه هذا الأدب الحانى على الإسلام المشيد بأمجاده يجب أن يدرج فى أكفانه. الأدب الذى يرد للعرب رشدهم، ويبصرهم برسالتهم، ويحدوهم إلى أدائها لا يجوز أن يحيا! الأدب المطلوب هو أدب التسالى والمجون. أدب الضياع والإدمان. الموضوع الأثير الجذاب هو الجنس، الجريمة، الضحك، الدعاية للمجتمعات الأوربية والأمريكية، كل ما يفصلنا عن ماضينا الإسلامى، وتاريخنا العريق. ص _116(1/114)
فهل الأمر كذلك وراء حدودنا؟ إننى أسوق هذه النماذج المنوعة ليعلم التائهون أين هم فى دنيا الناس! كتب الأستاذ "عبده مباشر" فى الأهرام هذه الكلمة: "خلال زيارتى لأوربا، أتيحت لى فرصة مشاهدة فيلم لأ الصقر" الذى يلعب دور البطولة فيه الممثل العالمى الإيطالى المولد "فرانكو نيرو" والفيلم من إنتاج يوغسلافى وتدور أحدائه أثناء وقوع الصرب (4) فى دائرة الإمبراطورية العثمانية. الصرب الآن إحدى أهم الجمهوريات التى تتكون منها دولة يوغسلافيا (1). والفيلم من البداية للنهاية لا هدف له إلا تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وقصته ببساطة تصور هجوما قام به جنود أتراك إحدى القرى الصربية بعد أن خرج عدد من الرجال للصيد من بينهم البطل ستراهينا "فرانكو نيرو" ويقتحم الجنود بيت ستراهينا ويستولون على زوجته الحسناء، وبعد عودة ستراهينا يحاول استرداد زوجته بأى طريقة. ويواصل بذل المحاولات والجهد حتى يوفق.. ومشهد البداية يمثل خروج البطل ممتطيا صهوة جواده مع عدد من الأصدقاء فى رحلة صيد ومعه صقره المدرب على اقتناص الفريسة. وبعد أن يغادر هذا العدد من الرجال القرية يبدأ الجنود الأتراك المسلمون فى الهجوم عليها وقتل الشيوخ والأطفال واغتصاب النساء والاستيلاء عليهن بما فى ذلك زوجة البطل الغائب التى ترتدى ثيابا بيضاء، وطوال فترة الهجوم والقتال نسمع كلمات وجملا عربية من بينها "الله أكبر"- "يا الله ". وكأن الخرج ينقل للمشاهد من البداية أن الفضائل والنبل والطهارة من نصيب الصرب، فالفروسية والصيد من الفضائل والأعمال النبيلة والزى الأبيض رمز للطهارة.. أما الرذاثل فهى من نصيب الأتراك المسلمين الذين يهاجمون قرية بعد أن غاب حماتها، ويقتلون الشيوخ والنساء ويستولون على عدد من النساء ويغتصبون عددا آخر.. ثم ينتقل الخرج ليصور لنا مشهدا للجنود الأتراك مع قائدهم الذى يسمى "على" فالقائد يجلس ليدخن الحشيش، أما الباقون فإما أنهم يدخنون مثله(1/115)
أو يتسولون منه الحشيش.. وللحصول على قطعة من الحشيش لا بأس من التوسل والرجاء والركوع. ، (1) ومن المعروف أن الصرب قد انفصلت عن يوكلافيا وأجرت مذابح رهيبة فى مسلمى البوسنة والهرسك انتقاما من الإسلام والمسلمين.. الا أن المقالة والكتاب قد! درا قبل هذه الأحداث. ص _117
وهكذا ببساطة يصبح كل المسلمين القادة والجنود والناس قتلة ومغتصبى نساء بل وحشاشين بلا كرامة. ويواصل الفيلم رحلته، حيث يضطر القائد إلى قتل رفيقى طريقه غدرا، وهو ذاهب للقاء ستراهينا.. ومشهد القتل لا يعطى انطباعا واضحا بالغدر فقط بل يكرس ارتباط الغدر بالخلق الإسلامى، فالقائد القاتل، يقتل وهو يقول دا أشهد أن لا إله إلا الله " "الله أكبر" ويغمد سيفه فى الضحية الأولى.. ثم ينتقل ليغمد سيفه فى الضحية الثانية وهو يواصل نفس القول ثم يمسح الدماء من سيفه وهو سعيد مرددا نفس القول، والمخرج يربط عمدا بين القتل والغدر، وبين الشهادة والتكبير، حتى ينطبع فى ذهن المشاهد هذا الارتباط، مثلما ارتبط هجوم الأتراك المسلمين على القرية يقتلون أهلها وهم يرددون "الله أكبر"... ". ويقينا فإن هذا الفيلم ليس العمل الوحيد، ولن يكون الأخير فى سلسلة الأعمال التى تستهدف تشويه صورة الإسلام والمسلمين. وأمام هذه الحملة التى لم تتوقف يبقى السؤال.. وما العمل؟ " هذا دور "الفن " فى ضرب الإسلام، وهاك مثلا من دور "الدبلوماسية" فى الهجوم على أرضه، واستباحة جماهير المؤمنين فوقها، أنقله من العدد الخاص الذى أصدرته مجلة "روز اليوسف " احتفالا بمروو ثلاثين سنة على حرب التحرير.. وقد بدأ الكلام بوصف مسلمى الجزائر فى مذكرات كتبها بيده "وليام شالر" القنصل العام الأمريكى فى الجزائر بين عامى سنة 6 181، سنة 1824. والوصف ناضح بأن المسلمين قى هذا البلد نماذج حسنة للطيبة وحسن الخلق والبعد عن العدوان. وندع الحديث للقنصل الأمريكى... يقول القنصل: "إن المعلومات التى وصلت إلينا منذ(1/116)
العصور الغابرة تتهم سكان هذا البلد بعدم الاستقرار والخداع، وهذا الاتهام قد يوجد ما يبرره فى الوقت الحاضر، ولكن هؤلاء السكان أبعد ما يكونون عن البربرية التى يصف بها البعض الجزائريين، فإن فى سلوكهم لياقة ومجاملة، وأنا قد وجدتهم فى المعاملات اليومية- دائما- مهذبين ومتمدنين وإنسانيين، وأنا لم أكتشف فيهم حتى أعراض التعصب الدينى، أو الكره للأشخاص الذين يدينون بدين آخر غير دينهم..، ص _118
إنهم يدينون بالإسلام ويقومون بكل مواظبة وإخلاص بالواجبات التى يفرضها عليهم دينهم، ولكن بدون مباهاة أو تصنع، ولا يضمرون عداوة للأشخاص الذين يسلكون طريقا آخر للحصول على رضا الله... " المدهش أن هذا القنصل بقى على حقده القديم، فلم يفكر فى إصلاح نفسه بعد أن شاهد ما شاهد من سماحة المسلمين واعتدالهم! إن المواريث الكامنة فيه كانت أعمق شرا، ومن ثم فقد درس أنجح الخطط لاحتلال الجزائر بعد أن تفقد حصونها، وعرف نقط الضعف والقوة فيها... ترى كيف قدر على ذلك، ومن الذى يسر له هذه الفرص؟ يظهر أن المسلمين كانوا يحسبون شعب الولايات المتحدة بريئا من العلل التاريخية الأولى، وأن ظفره بحريته بعد حرب ضروس مع انجلترا سيجعله كارها للاستبداد والعدوان! وكان المسلمون سذجا فى هذا الظن! فقد جدد الأمريكان تاريخ الرومان حذوك النعل بالنعل، ولم يتركوا خطة لضرب العرب والمسلمين إلا سلكوها... فلنذكر الوثيقة التى كتبها ممثل الولايات المتحدة فى الجزائر لإرشاد الهاجمين من وراء البحار على أخطر الطرق وأجداها. قال: ".. كان نزول الجنود فى جميع الحملات العسكرية التى شنت على مدينة الجزائر من البحر، يتم فى الجانب الشرقى من الخليج، وهذه بالتأكيد غلطة لا تغتفر، وتعود إلى جهل بشاطىء البلد وطبوغرافيته، حيث إن جميع وسائل الدفاع قد تركزت فى هذه المنطقة... ومن الواضح أن جيشنا يمكنه النزول فى خليج "سيدى فرج الجميل " دون أن يجد! عقبات تذكر، ومن هناك(1/117)
يمكنه فى مرحلة واحدة أن يصل إلى الهضاب التى تسيطر على موقع قصر الإمبراطور، وعندئذ سوف لا يجد عائقا فى طريقه نحو هذا الحصن والاستيلاء عليه بالقوة، إما بتسلق أسواره أو بنسفها بالألغام "!! يكشف "شالر" المزيد من هذه المعلومات الخطيرة ويقول: "متى سيطر الجيش على هذا الحصن وثبت مدفعية قوية فى الهضاب التى تشرف عليه، سيطر على الموقف.. ص _119
وإنزال قوات فى " سيدى فرج " لابد أن يرافقه ظهور قوات بحرية فى وسط الخليج للتمويه على العدو وعقب ذلك تستسلم المدينة أو تؤخذ عنوة.. "!! وهذا بالضبط ما فعلته قوات الاحتلال الفرنسية.. وهكذا يكشف التاريخ أن الولايات المتحدة الأمريكية وكانت دولة ناشئة فى ذلك الحين هى أول من قدم مساعدة "حيوية" لفرنسا فى احتلالها.. للتراب الوطنى "الجزائرى ". ص _120(1/118)
أحوال اليوم وآمال الغد مع اضمحلال الدولة الإسلامية خلال القرون الأخيرة انفرد التبشير الصليبى بقارة أفريقية، ورسم سياسة دقيقة للاستحواذ عليها.. كان الإسلام، الدين السماوى الأول فى هذه القارة، وكان يكتسب بثبات أرضا جديدة من الوثنية السائدة، فلما دخل الأوربيون قرروا لفورهم تغيير هذا الوضع، والطريف أنهم عدوا أنفسهم مكتشفين لبقاع شتى كان العرب قد عرفوها من قبل، فالبحيرات العظمى التى ينبع منها النيل كانت معروفة للجغرافيين العرب.. غير أن المستعمرين الجدد لما وصلوا إليها خلعوا عليها أسماءهم فإذا نحن أمام بحيرة "فيكتوريا " وبحيرة "ألبرت ".. إلخ، وهذه البحيرات تدرس بأسمائها الجديدة فى البلاد العربية لطلاب المراحل الدنيا والعليا..! واقتسم الأوربيون القارة الغفل وشرعوا فى تنفيذ برامجهم الاستعمارية والتبشيرية، ورأوا- تمشيا مع اتجاه العصر- أن يحولوا المستعمرات إلى دول حديثة فأنشأوا عشرات من الحكومات المستقلة (!) وراعوا فى تكوينها تقطيع الأواصر الإسلامية، وتشتيت أجزائها، وجعل السلطة بأيدى خريجى المدارس التبشيرية وحدهم، وجعل الكثرة المسلمة تذل وتقل على مر الأيام.. بل لقد وضعت خطة عامة لتقويض الإسلام فى إفريقيا كلها مع نهاية القرن العشرين!! ولكن الأمور جرت على نحو آخر، فإن قرى كاملة، وقبائل بأسرها أخذت تعتنق الإسلام، وتهجر وثنيتها الأولى... وكنت فى مجلس يضم عددا من رؤساء الجامعات العربية قرأوا ما نشرته جريدة "الموند" الباريسية تعليقا على هذه الانتكاسة التبشيرية! قالت الجريدة فى غيظ: "كيف يقع هذا؟ وكيف يلقى الإسلام هذا القبول؟ ثم تتجه إلى الزنوج الذين أسلموا موبخة لهم على إسلامهم قائلة: أنسى هؤلاء ما فعله المسلمون الأولون بأبائهم؟ كانوا يخطفونهم ويبيعونهم عبيذا؟ فكيف يدخلون فى هذا الدين؟ ". ص _121(1/119)
ونحن لا نستغرب من الجريدة الفرنسية أن تتهمنا نحن المسلمين بما كان يفعله الأوربيون فى إفريقيا خلال القرون الوسطى، لقد ظلوا خمسمائة عام يختطفون السود من غرب إفريقيا، ويشرفون على تجارة عالمية للرقيق مفعمة بالمآس، إن الجريدة التى صدرت فى أواخر يناير سنة 1985 تذكرنا بالمثل القديم: "رمتنا بدائها وانسلت! " ترى أيدرى المسلمون ما يقع؟ إن بقاء الإسلام ونماءه فى بقاع كثيرة لا يعودان إلى نشاط الأتباع ويقظتهم… بل يرجع ذلك إلى سلامة عقائده، ويسر تعاليمه، وتلاقيه مع فطرة الله فى الأنفس والآفاق، ولكن غيابنا نحن المسلمين عن معترك المذاهب والاتجاهات العالمية له آثار سيئة، إن نجونا منها اليوم فلن ننجو فى الغد، وحسابنا عند الله عسير. أمامى الآن معلومات قليلة عن جمهورية "رواندا" التى هى واحدة من بضع وخمسين دولة أنشأها فى أفريقية الاستعمار الجديد.. عدد السكان نحو ربع المليون! فى سنة 1900 لم يكن بها نصارى، وحسب الإحصاء المعلن يبلغ عدد النصارى فيها الأن 50% من تعداد السكان، على حين يبلغ المسلمون- كما يقال- 7% والباقى وثنيون. وأنا شديد الريبة فى هذه الإحصاءات، لأنى لمست تزويرها فى أقطار كثيرة، واستيقنت أن عدد المسلمين أكبر وعدد غيرهم أقل، ولا يغنينى ذلك الآن، وإنما الذى استوقفنى أن ثلث المبعوثين للتعلم فى الخارج ظفر بهم الاتحاد السوفيتى، والباقون موزعون على إيطاليا وكندا وسويسرا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وزائير والسنغال... إلخ. وهذه النسب تفسر لنا لماذا تحوكت دول شتى غداة استقلالها إلى الشيوعية، ولماذا ترتبط دول أخرى بالغرب، وتفتح أحضانها لدعاياته وفلسفاته، ولماذا تبقى اللغة العربية فى عزلة، ويبقى الكتاب العربى قليل القراء.. والإسلام هناك محروم من جملة وسائل الإعلام، وبديهى أن تكون علاقة المسلمين فى "رواندا" شبه معزولة عن العالم الإسلامى، وقد استوقفنى أمر آخر ذو بال، أن المسلمين هناك يعانون من(1/120)
خلافات وانقسامات شديدة! واستنتجت أن الخلاف بين الصوفية والسلفية أو بين السلفية والمذهبية ومن يدرى؟ لعل الاشتباك مع الجهمية والأشاعرة. قال الراوى: وقد افتتح أخيرا ناد تبشيرى فى ضاحية تسكنها أغلبية مسلمة ص _122
وأطلق على النادى اسم "نادى رفيقى"! قلت فى نفسى: لعل الذين افتتحوه طامعون فى أن يصلحوا ذات بيننا!! ما أفقرنا إلى الوعى... مستقبل الإسلام رهين- بعد مشيئة الله- بجهود أبنائه لا بإرادة أعدائه... على جبهتهم وحدها يكون الفصل فى هذا النزاع الطويل، وتتحدد وجهة الإنسانية... المسلمون ما انهزموا قط، ولن ينهزموا أبدا إلا لخلل فى صفوفهم هم... وقد أراد الله أن يكون العرب رءوسا بالإسلام، قادة برسالته، فإذا عاودهم الحنين إلى جاهليتهم، وآثروا الانتماء إلى قوميتهم، فنحن ننذرهم، بقول الحق: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا). إن الأجناس التى دخلت فى الإسلام نجدت العرب فى فلسطين، وحررت بيت المقدس يوم غرق العرب فى خلافاتهم وأحاطت بهم مأربهم وخطاياهم ومكنوا الصليبيين الأوائل من اجتياح البلاد والعباد وأجروا مذابح تقشعر منها الجلود... ويبدو أن العرب يقترفون ذات الأخطاء فى هذه الأيام، ويذكرون قوميتهم وينسون عقيدتهم وستجعلهم الأقدار أحاديث إن لم يسرعوا بالمتاب... وكلمة أخرى نقولها للعرب والمسلمين: ما هذه الجهالة الفاحشة بشئون الكون والحياة؟ وكيف تخدمون دينكم وأنتم صرعى تخفف علمى مذهل؟؟ إن اللص إذا كان عارفا بأسرار البيت، ومرافقه، ومداخله، ومخارجه، وغرفاته، وسراديبه فهو أولى به من رب البيت الذى يعيش فيه دون أن يدرى شيئاً من ذلك كله... إن الله أسكنكم هذه الأرض كما أسكن غيركم فكيف يسخر غيركم قواها، ويهيمن على مداها وأنتم فى أماكنكم لا تصنعون شيئا؟ ماذا يشغلكم؟ التسبيح والتحميد؟ الله يعلم أنكم عن طاعته مصروفون! إن هذا الطمس عقوبة إلهية على تناولى الدين قشورا لا حقائق،(1/121)
وعلى تحريف الكلم عن مواضعه، لقد أسقطتم الأخلاوا عن عرشها فأعيدوها إلى مكانتها، وتعلموا التمام لا النقص، والجمال لا التشويه! إن الإنسانية انضباط لا فوضى، والإسلام حكمة ونظام لا أهواء جامحة.. ص _123
يقال للدأبة حين لا يربطها حبل، ولا يقفها قيد، إنها سائبة، أو حبلها على غاربها، فهى تنطلق كيف تشاء! فماذا يقال للجماعة حين لا تربطها كلمة، ولا تضبطها عقيدة، ولا تقفها حدود من أخلاق أو تقاليد؟ إن الشاكين من هذا الوضع سموا ذلك تسيبا! والسيب أو التسيب كلمات عربية صحيحة، ولكنها ليست معالم عربية، ولا عرفا موروثا، وعندما نزنها بموازين الدين نجد كتابنا يعدها من معالم الفسوق والعصيان. وتدبر قوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ). إن الجملة الأخيرة تدل على أن الأمر الفرط، أو الوضع السائب، أو المجتمع المحلول يجىء ثمرة غفلة القلب، واتباع الهوى، سواء أكان ذلك فى أحوال النفس أم فى أخلاق الجماعة! والحق أن الأمة الإسلامية أبعد الأمم عن هذا الانفراط فى عقدها، أو التسيب فى شئونها، أو الفوضى قى علاقاتها، لو أنها وفية لدينها، وقائمة على نهجه.. ويبدأ ذلك كله باحترام الكلمة، وإحاطتها بنطاق من الجد والصراحة، وفى الحديث الشريف، إذا حدثك الرجل بالحديث ثم التفت فهى أمانة"! وفى الحديث أيضأ "المجالس بالأمانة " ويقول الله سبحانه فى وصف المؤمنين: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ). إن المجتمع المؤمن متماسك بعزائم الرشد، متعارف على حدود الله. وحقوق الناس، وربما استهان البعض بكلمة لغو، أو تورط فى عمل ردىء، بيد أن هذا العوج لا يطول أمده، أو تتسع دائرته، لأن الإسلام الصحيح يرفض بشدة تسيب القطيع. ترى هل الموظف الذى يقول لصاحب الحاجة: تعال غدا، فإذا جاء الغد كرر التسويف مثنى وثلاث بأعذار شتى، أتظن ذلك امرءا يعرف قيمة الكلمة أو قيمة الوقت أو قيمة الوظيفة التى يشغلها؟ أم هو امرؤ(1/122)
سائب. عندما اقترحت بنت شعيب على أبيها أن يستأجر موسى ليدير أعماله قالت فى تعليل اقتراحها: (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) ص _124
يجمع بين القدرتين العلمية والخلقية. أما يوسف الصديق فقد اكتفى بذكر خبرته ومهارته فقال: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ). وكأنه ترك لماضيه الطاهر أن يشهد له بالاستقامة والشرف... ونحب أن نفرق بين نوعين من مراتب الإحسان والعظمة النفسية، هناك رجل راشد يعرف الصواب ويستمسك به، وهناك رجل يضم إلى ذلك تدريب الناس على الحق واقتيادهم به، إنه راشد مرشد، هناك رجل صالح يتقى الله ويحرص على أداء حقوقه، وهناك رجل يضم إلى ذلك غرس أعواد التقوى فى الجتمع ورعايتها حتى تزهر وتثمر، إنه صالح مصلح. الصنف الثانى أعظم درجة من الصنف الأول، ولأمر ما جعل الله الإمام العادل أى الحاكم الأمين أول من يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.. إن الإدارة الناجحة النزيهة هى سيدة الأعمال الصالحة، لأنها تمكين للخير فى الأرض، ونقل له من عزلة الصوامع إلى ضجيج الحياة ومحضرك المعايش، إنها صلاح يتعذى صاحبه إلى غيره، ويتحول به الحق من فكر إلى واقع... والحضارة الحديثة من أنجح الحضارات فى فن الإدارة فهى تضع الخطط وترقب التطبيق وتسد الثغرات، وتتعرف الأخطاء، وتحصى الوقت، وتجند المواهب، ولا تترك شيئا للمصادفات، أما نحن العرب والمسلمين، فأصحاب علل شتى فى فن الإدارة، ولا أدرك لماذا فهمنا الصلاح على أنه العبادات المحضة؟ هذا تفكير منكر للعموم الشامل الذى قال الله فيه: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات ). و(فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). إن العمل الصالح واسع الدائرة إلى حد يشمل كل شيئا فى الحياة تباشره باسم الله، فالمفكر بعلمه، والطبيب بسماعته، والمدير أمام ملفاته، والمهندس أمام أجهزته، والزارع المنحنى على أرضه يستثمرها، والصانع العاكف على الاته يحركها،(1/123)
أولئك جميعا فى صلاة ما دامت قلوبهم مع الله، وجهدهم لأمة ترقب إنتاجهم وتنجح بنجاحهم. ص _125
الوحدة الإسلامية طريق طويل لكنه ضرورة حياة.... أرى فى صدر حديثى أن أنصف الانتماء الإسلامى الذى أحرجته الليالى وألحقت به هزائم شتى! إن هذا الانتماء حقيقة شريفة القدر ممتدة الأثر، موصولة بأعظم تراث فى الوجود. فالقرآن هو الوحى كله من أزل الدنيا إلى أبدها، وكل ما خالفه مبتوت الصلة بالسماء. ومحمد هو الإنسان الأولى شرف سيرة وصدق بلاغ! وهو أعلى قمة فى تاريخ الأحياء. والإسلام هو المنهج الذى توارث النبيون الدعوة إليه واقتياد البشر فيه، فكيف يكون الانتماء إليه خفيض الصوت أو ذليل الجانب أو موضع الإهمال؟ وكيف تتقدمه أو ترجح عليه دعوات وطنية أو نزعات عرقية؟ إن الاستماع إلى هذه الدعوات والنزعات قطع أوصال المسلمين، وجعل الأمة الواحدة أئما متناكرة ومكن ذئاب الاستعمار العالمى من الانفراد بكل أمة والإجهاز عليها ماديا وروحيا. وما نستعيد مكانتنا ونصون رسالتنا إلا إذا صححنا انتماءنا، وأصغينا إلى قوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ). إن اليهودى فى أية قارة يرفع عقيدته بانتمائه الأثير لدينه، ويقول دون حذر أو خجل: أنا يهودى! حتى طوائف السيخ فى هذه الأيام رأوا أن يكون لهم انتماؤهم الخاص بهم. فهل الانتماء الإسلامى وحده هو الذى يقال فى خفوت؟ ويرسل فى وجل؟ لماذا يعامل الحق بهذه الخسة؟ وكيف نرضى الدنية فى ديننا؟ ص _126(1/124)
إن العمل للوحدة الإسلامية شرف باذخ، ومجد شامخ، ويجب على العرب قبل غيرهم من الأجناس التى تكون الأمة الإسلامية الكبرى، أن يدركوا هذه الحقيقة وأن يربطوا ولاءهم بدينهم لا بجنسيتهم، وأن يستضيئوا فى نهضتهم بشرائع الإسلام وشعائره، لا بالفضلات التى يلتقطونها من موائد الغرب أو الشرق! وليعلموا أن أعداءهم قد بيتوا النيات على الخلاص منهم، وأن التهام فلسطين تمهيد لما وراءه، وأن المؤسسات الدولية أعجز من أن تنصفنا لو أرادت، فكيف وهى لا تلقى لنا بالا؟ لقد آن الأوان لنصحح انتماءنا ومسيرتنا..! على أن هذا التصحيح لا يجوز أن يكون إثارة عاطفية عشواء، بل ينبغى أن ندرس بأناة الأسباب التى جعلتنا فى العالم الثالث أو الرابع بعد أن كنا وحدنا العالم الأول دهرا طويلا.. إنها أسباب كثيرة، ثقافية واجتماعية وسياسية! وسأتناول هنا الجانب الثقافى لأن البعض يغفل عن خطورته. ورأيى أن الثقافة التى الت إلينا فى القرون الأخيرة كانت ضحلة آسنة لا فى مجال المعرفة الدينية وحدها، بل فى مجال الأداء الأدبى كذلك، وأن هذه الثقافة كانت أعجز من أن تصنع أمة تنهض برسالتها، وتخدم كتاب ربها وسنة نبيها. كانت ثقافتنا فى العصور الأولى تصنع أجيالا عارمة، قادرة على المحو والإثبات، تحترم الحقائق وتعشق الفضائل، تضع خريطة الدنيا أمام عينيها، وتنظر إليها كما ينظر لاعب الشطرنج فى رقعته ينقل أحجارها كيف يشاء! لقد كان أبو الطيب يعرف المجد فيقول: ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وكان أبو تمام يصف أغراض الشعر فى عصره فيقول: ولولا خلال سنها الشعر ما درى بغاة العلا، من أين تؤتى المكارم ثم أخذ الأدب شعراً ونثرا يهبط حتى أمسى وصفاً لشمعة أو نصحا غثا لتلميذ كسول. ص _127(1/125)
وكذلك هبط العلم الدينى وتقوقع رجاله فى تخصصاتهم الدينية لا يمدون أنوفهم وراءها. فعالم التجويد يعيش فى عالم من الغنن والمدود، والفقيه فى العبادات يحيا فى ميدان من الأغسال والطهارات... وهكذا.. وقد كتب، الكسيس كاريل " فى كتابه "الإنسان ذلك المجهول " يعيب الغارقين فى تخصصاتهم الطبية، ويؤكد أن العلم بالإنسان لا يتم عن هذا الطريق. ونقول نحن؟ إن العلم بالدين كله لا يتم عن طريوا تجارة التجزئة، وأن الصورة الكاملة للإسلام إنما تتم على النحو السلفى الأول، وأن العقل الإسلامى المعاصر يجب أن يرتفع إلى مستوى الشمول فى القرآن الكريم حتى يستطيع إعادة بناء الأمة الواحدة التى لا تحد رقعتها على سطح الأرض خطوط الطول والعرض.. فى القرآن المكى يقول الله تباركت أسماؤه (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ). ويقول: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ). وعرف المسلمون بالبداهة أن أمة العقيدة لا يحصرها مكان، وأن إخوان العقيدة لا يحدهم جنس، وأن المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه، وأن المسلم إذا استبيح دمه على شاطئ المحيط الهادى فى الفلبين يجب أن يتحرك له أخوه على شاطىء الأطلسى فى المغرب والسنغال ونيجيريا، وأن المسلمين كما قال نبيهم تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.. لكن يبدو أن التقوقع العقلى والنفسى ضرب صفحا عن هذه المعانى البينات، فإذا الأمة الكبرى يغار عليها من ها هنا، وها هنا، وتنتقص أطرافها. والاتجاه الآن ماض إلى قلبها ولا يزال النيام يغطون! ص _128(1/126)
إن عالمية الإسلام ليست فى سعة الدائرة التى يعمل فيها فقط، وإنما هى فى طبيعة توجيهاته وصياغة آياته، فالكتاب والسنة يخاطبان الإنسان حيث كان، دون انحصار فى زمان أو مكان، إنهما ارتباط بالفطرة، وحوار مع العقل البشرى تحت أى سماء وإلى آخر الدهر. ومن ثم ففهم الإسلام أو تدريسه على أنه نهضة عربية أو يقظة محلية أكذوبة كبرى! وكذلك تناوله من زاوية خاصة، وعدم الوصول بمعانيه إلى أبعادها الأبدية العامة..! وهناك ظروف أو بينات تترك طابعها على العقل العادى، فالفلاح فى قريته أو العامل فى مصنعه، ينظر إلى الدنيا، وإلى المسافات بين أقطارها نظرة ضيقة. أما سائق أو قائد الطيارة فإن نظرته إلى المسافات أرحب، وجراءته على طيها أسرع، لأنه يأكف التنقل والانطلاق والثقافة الإسلامية الأولى كانت تصنع عقولا من الطراز الطيار، أما هذه الثقافة فى أيامها الأخيرة فهى تصنع عقولا تحسن الاعتكاف والانزواء.. ونشأ عن ذلك أن الاستعمار العالمى لما بدأ زحفه فى آسيا- شرقا وجنوبا وشمالا- وبدأ زحفه فى أفريقية من كل ناحية كان الإحساس بالألم يمر بكيان سرى فيه الحذر، وتفاوت فيه الحس. ولا يزال ناس من أهل العلم- كما يوصفون- لا يعلمون شيئا عن دولة فطانى فى "تايلاند" مثلا، ولا يعلمون شيئا عن جماهير كثيفة من المسلمين تعيش فى عشرات الدول الإفريقية ضائعة الهوية كاسفة البال قليلة الرجاء! لماذا؟ لأن العقلية التى تشرح الأخوة الإسلامية، أو الولاء الإسلامى، أو عبادة الله الواحد فى العالم الكبير الذى تعيش فيه ليست عقلية الطيار" التى أشرنا إليها، وإنما هى عقلية فلا محدود الوعى! ما كان سلفة، كذلك، كان الأعرابى الساذج يعترض الرسول- صلى الله عليه وسلم - وهو على ص _129(1/127)
ناقته يطلب منه أن يعلمه الإسلام ويمسك بزمام الناقة حتى يسمع،، ويحدثه الرسول الملهم بما عنده، فيصنع منه إنسانا جديدا عامر القلب بأمجاد الألوهية وأضواء الوحدانية، والرغبة الهائلة فى تطويم الكون كله لمراد الله، فلا ترى هذا الأعرابى بعد ذلك إلا قذيفة تدك عروش المستبدين فى فارس، أو الرومان، وتراه هو وإخوانه ينطلقون شرفا صوب المحيط الهادى وغربا صوب الأطلسى لهم جؤار بتسبيح الله وتحميده، وتلاوة الكتاب الذى أخرجهم من الظلمات إلى النور... إننا بحاجة إلى ثقافة تصنع نفوسنا على هذا النحو، إنها الثقافة التى صنعت أمتنا أولا والتى تنقذها أخيرا. أعرف أن هناك من يقول: هذا صوت متعصب شاذ يرجع بالعالم إلى حقبة من الزمان نقة منها! وأسارع إلى القول بأنى لست شاذا إذ أرسل هذه الصيحة فقد أرسلها من قبلى "مستر ريجان " عندما رشح نفسه رئيسئا للولايات المتحدة فى المرة الأولى وفى المرة الثانية، والرجل نصرانى متعصب لدينه، وهو يحترم الكنيسة ويوقر تعاليمها ويدعو إلى جعل التعليم الدينى جزءا من مناهج الدراسة فى المراحل الأولى.. وقد أنذر فى ترشيحه الأول بأنه على استعداد لشن حرب صليبية لترجيح كفة المبادئ التى يعتنقها.. أما فى حملته الانتخابية الثانية فهو يكرر نفسه بقوة. نشرت الأهرام للأستاذ أحمد بهاء الدين (8/9/1984) تقريرا نقتطف! منه هذه العبارات "... لكن "رونالد ريجان " يخوض حملته الانتخابية الآن فى أمريكا رافعا الإنجيل، قائلا بالحرف الواحد- كما سمعته من التليفزيون: إن فى هذ ا الكتاب حل مشاكل البشرية... إ! ويستتلى مستر، ريجان " معلقا على مبدأ فصل الدين عن الدولة قائلأ: "إنه آن الأوان لإلغاء هذا الفصل واعادة الدين إلى الدولة ". وسواء عادت الدولة فى أوربا وأمريكا إلى الدين رسميا أو لم تعلن هذه العودة، فهى تأخذ بها فى مظاهرة إسرائيل ضد العرس، وخذلان كل بادرة لظهور الإسلام، أو وحدة شعوبه، أو إحياء شرائعه، وهى(1/128)
توخى لسماسرتها فى الشرق الإسلامى كى يضربوا الإسلام وحده! أى أن الوحدة اليهودية حلال، والوحدة النصرانية حلال، أما الحرام فهو الوحدة ا لاسلامية! ! ص _130
هذه حصيلة من الأنباء التى تجمعت لدى خلال أيام معدودات أسوقها مجردة ليرى القارئ المسلم فيها رأيه. قى صحيفة كويتية عنوان كبير على ثلاثة أعمدة يقول: "ريجان يلجأ إلى آيات من الإنجيل للدفاع عن النفقات الحربية! طالما مساعدة الكونجرس لتغيير مجرى التاريخ ". وقبلها بأسبوع سمعت من صوت أميركا خبر ذهاب كاهن يهودى إلى البيت الابيض ليبارك الرئيس فى فترة رياسته الجديدة! وتجاوزت ذلك كله وأنا أقول: لا جديد أو لا عجب!. بيد أنى توقفت عند نبأ آخر خلاصته: أن إسرائيل تريد تهجير المسلمين من جنوب لبنان، واحلال الموارنة مكانهم حتى تطمئن إلى استقرار الأمن على حدودها الشمالية، فإن مواقف الكتائبيين فى دعم اليهود وكره العرب واضحة! وهززت رأسى وقلت: لا جديد أو لا عجب. وفاجأنى خبر آخر، أن الحكومة الشيوعية فى الحبشة تحرم الثائرين عليها من الغوث العالمى لمنكوبى الجفاف وتطاردهم إلى حيث يهلكون! ولما كان جمهور الثوار من المسلمين، فقد أحسست الألم لما يلقاه هؤلاء البائسون من شتات وضياع ثم قلت: لا جديد أو لا عجب! سمعت خبرأ آخر أفزعنى وآذانى، أن نحو مائتى مسلم فى بلغاريا قتلوا وهم يقاومون أوامر صدرت بتحريم الختان، وتحريم الذبح فى عيد الأضحى، وتغيير الأسماء ذات الدلالة الإسلامية إلى أسماء أخرى! إن الجرح الجديد حرك الجراح القديمة، فصحت: أما تنتهى هذه الآلام التى يتعرض لها إخوان العقيدة فى كل مكان؟ وانتظرت أن أقرأ تعقيبا، أو تعليقا على ما حدث فإذا الصمت الجبان، أو الجهل المتبلد يسيطران على ألسنة وأقلام كثيرة! إن الانتماء الإسلامى وحده أمسى رجعية عند بعض الساسة! ذلك على حين يتحرك الإعلام العالمى كله إذا أحرج يهودى فى روسيا، ويشتد الهياج لإهدار حقوق الإنسان! ترى من(1/129)
ألوم؟ هل أمتنا الإسلامية نائمة؟ أم مغمى عليها؟ إن خصومها يعربدون دون وجل! فليس هناك ما يخاف. ص _131
وبعد هذه الحقائق العارية يقول السفهاء من الناس عنا: إننا متعصبون، لأننا نحصن ألف مليون مسلم من الذوبان والضياع. والفقه الذى يرشح أصحابه لخدمة الوحدة الإسلامية يحتاج إلى إضافات واجتهادات جديدة يستحيل أن تعجز عنها أصول الفقه عندنا. إننا بلغنا الآن أكثر من ألف مليون نسمة، وهذا العالم الإسلامى الرحب الموار تلابسه أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية بالغة التعقيد، وهو يحتاج إلى فقه إدارى ودستورى ودولى حسن التقدير لمعاش المسلمين ومعادهم على سواء، ذكى الصلة بالعوالم غير الإسلامية التى تشاركنا الحياة على ظهر الأرض.. وقد تحدث العلماء القدامى فى السياسة الشرعية، والتراتيب الإدارية، بيد أن حديثهم كان قليلا، ويبدو أنهم أوجزوا حتى لا يصطدموا بالساسة، ويتعرضوا للمحن. ومع إيجازهم فقد وقفوا عند حاجات عصرهم، وقد مضت قرون طويلة وهذا الضرب من ثقافتنا الإسلامية لا يعدو وحاجات المسلمين حتى القرن السابع الهجرى، فهل ينشط الفقهاء المسلمون ليجعلوا التشريعات الإدارية والدستورية والدولية مناسبة لمطالع القرن الخامس عشر الذى احتفلنا بمقدمه من بضع سنين؟ إن الألف مليون مسلم يتعرضون لامتحانات عالمية قاسية، بعضهم يدور فى فلك "الكومنولث " البريطانى، وبعضهم يذوب فى فلك الاتحاد السوفيتى (1)، وبعضهم يلهث ليلتحق بالسوق الأوربية المشتركة، وبعضهم يؤثر القومية الإفريقية! لعل هذه القومية الأفريقية أعرق وأسمى من الجامعة الإسلامية! وهذه دول أخرى تنقله من غرب أوربا... والفقه الإسلامى واقف طوعا أو كرها فى مكانه العتيق لا يقدم البدائل المطلوبة، وإذا كان بعض الساسة القاصرين يعترض هذا النمو الثقافى الحتم فهل ننتظر حتى تطوينا ردة العلمانية الحديثة؟ (1) وقد تفتت الاتحاد السوفيتى وأصبح "كومنولث " وبقت روسيا وما زال لها(1/130)
أتباعها.. وتسعى جاهدة لمحو الدويلات الإسلامية من جوارها. ص _132
وهناك قضية تثار أمام الوحدة الإسلامية، تبدو للوهلة الأولى كأنها مشكلة، وبعد التأمل الجاد تتكشف عن مهزلة أى مهزلة، أعنى قضية الأقليات التى افتعلها الاستعمار افتعالا يشف عن مكره السيئ بالإسلام وأمته. وهاكم نماذج لما يقع، توجد فى السودان الجنوبى قلة نصرانية من آثار التبشير الذى انفرد بالمنطقة عشرات السنين، هذه القلة تبلغ 15% من سكان الجنوب، ومع أن معهم مسلمين يبلغون هذه النسبة فإن الخطط الاستعمارى يريد إنشاء دولة مسيحية هناك، ترغم المسلمين المساوين لهم على الارتداد أو الفرار، وتنفرد ببقية الوثنيين، وتتعاون مع الصليبية العالمية على بلوغ أهدافها فى تنصير القارة القديمة.. وقد أخبرنى أحد موظفى الرى المصريين أنه عند إجراء إحصاء هناك أثبت طلبة أحد مكاتب تحفيظ القرآن الكريم على أنهم نصارى، وأضيفت عليهم أسماء أجنبية.،.! ولقد عرى الرئيس !جعفر النميرى! نفسه المؤامرة على جنوب السودان فى كلمته لأعضاء المؤتمر الإسلامى الأول.. قال الرئيس النميرى: " ستسألون على وجه اليقين عن مشكلة الجنوب، ستسمعون كذبا كثيرا وافتراء وأساطير ينسجونها حول الجنوب، الجنوب الذى زرعه الاستعمار قنابل وفت انفجارها وحدد آثار الانفجار وحسب بدقة نتائجه. وأستأذنكم لأحدثكم عن الجنوب قبل مائة عام وأكثر، كيف كان موقع القلب من السودان الموحد فى قمة الثورة المهدية الإسلامية، وأنفل لكم هذه الفقرة من صفحة 163 من كتابى،النهج الإسلامى لماذا؟ ". الجنوب: عذاب التاريخ وهو يتراجع، وما أقسى تراجع التاريخ المهدى العظيم يقاتل البغى يطارد الاستعمار يشعل ثورة السودان القومية العظمى. بحر الغزال تسانده، بحر الغزال تبايعه. الدينكا والنوير تطرد لبتون قائد الحامية، وتستقبل قائد المهدى كرم الله شيخ محمد كركساوى ليرفع راية المهدية رمز وحدة السودان فوق ربوع بحر الغزال. سفاين(1/131)
المهدية تتقدم إلى مديرية خط الاستواء. قبائل المديرية تتقدمها تحكم الحصار حول الحاميات. تتساقط وتستسلم لينسحب دكتور أمين حاكم المديرية ولرفع عمر صالح مبعوث المهدى راية الوحدة القومية لتستظل بها مديرية خط الاستواء. ص _133
جاء الاستعمار أيها الإخوة والسودان بلد واحد وشعب واحد، الإسلام دينه، والوحدة شعاره، والاتفاق ديدنه لا عدو له إلا الاستعمار، ولا هدف له إلا القضاء عليه، فبدأ المستعمرفى تخطيط جريمته الكبرى ضد الإنسانية. فرض على أبناء الجنوب تغيير أسمائهم إلى أسماء كنسية. يوسف أصبح جوزبف وجمعة أصبح قاما وشول ودينق وماجوك وماكيج وأوان، أضافوا إليها أو غيروها إلى وليم وجون وبيتر. طمسوا معالم الجنوب الأصلية. لم يكتفوا بمحاولة فصله من الشمال بل انتزعوه من ذاتيته الفطرية الطيبة. وفى عام 1922 بدأ الاستعمار فى تخطيط سياسة الجنوب التى استمرت حتى 1946 فأقفلوا الجنوب فى وجه ابن الشمال الشقيق، وسارت عملية تنصير الجنوب واشعال الفتنة فيه سيرا حثيثا لينفجر اللغم فى سنة 19 ص ". - هذا ما حدث فى السودان، وما عزاه الرئيس النميرى نفسه!! وفى لبنان يريد الموارنة وهم أقل من خمس السكان إقامة دولة مارونية ذات طابع مسيحى يخضع لها سائر الطوائف وجمهرتهم من المسلمين، والمفاوضات تجرى لكى يقنعوا بنصف السلطة ولكنهم يرفضون! وقد شاع تزوير الإحصاءات فى أقطار كثيرة يبدو النصارى أضعاف عددهم من الناحية المادية، وأضعاف ذلك من الناحية الثقافية، وبذلك يتم دفن المسلمين فى استرسالهم الغافل، ثم يقال لكل يقظة إسلامية: إن الجماهير الكثيفة من النصارى، تأبى الإسلام وشريعته ووحدته!! والذين يأبون ذلك نفر لا يزيدون عن 6% من تعداد السكان فى أكبر البلاد العربية، فكيف بغيرها؟؟ إنه أمر يدعو للحيرة، ولكنهم قالوا: إن القانون لا يحمى المغفلين! ومن خيرى على أكلك بجوع حين ألقاك. ومن أمثلة العرب الأقدمين، استنوق الجمل! وإن البغاث(1/132)
بأرضنا يستنسر!! وقد لاحظنا أن المعاهدات الثقافية تعقد فى هذا العصر لدعم المبادئ والآداب واللغات الأجنبية. ص _134
وتكاد القارة الأفريقية تكون مقمسومة بين الدول الناطقة بالفرنسية، والناطقة با لانجليزية... فما وضع اللغة العربية فى قارة أغلب سكانها مسلمون؟ إن لغة الوحى هى الدعامة الكبرى للوحدة الإسلامية، مع موت هذه اللغة سيموت التعليم والتفاهم والرباط الأدبى المشترك، وستنشأ أجيال منكرة لتراثها وتقاليدها، بل لعباداتها وشعائرها... ومن أجل ذلك يجب أن نقاتل دون اللغة العربية، وألا نأذن أبدا بدحرجتها لتكون لغة ثانية، ثم ثالثة ثم لغة ميتة... يتم بعدها تكفين الكتاب والسنة...!! إن الناس من حولنا يتجمعون على عقائدهم ويتنادون بشعاراتها... وإذا سمحنا لأسباب الفرقة أن تنال منا، فلا مستقبل لنا، لأننا لن نكون... ***(1/133)