رمضان.. والصيام * مع غزوة بدر.. لحظة بلحظة! * أبو جهل.. والعناد إلى أخر رمق!! *الجوع والعرى.. عندما يطول أمدهما * شقة العداوة تتسع.. بين المسلمين واليهود. * وجاء.. يوم الفتح الأعظم.. * النبى يخرج مطاردا.. ويعود منتصرا " ! * وهكذا.. دخل أهل مكة فى الإسلام
ص _003
مع غزوة بدر لحظة بلحظة
لقد حفل شهر رمضان المعظم بذكريات كريمة لها أكبر الأثر فى حياة المسلمين من أهمها: يوم الفرقان: يوم غزوة بدر الكبرى ويوم الفتح العظيم. وقد بدأ يوم بدر عندما ترامت الأنباء إلى " يثرب " أن قافلة ضخمة لقريش تهبط من مشارف الشام عائدة إلى مكة.. تحمل لأهلها الثروة الطائلة. ألف بعير موقرة بالأموال، يقودها " أبو سفيان بن حرب " مع رجال لا يزيدون على الثلاثين أو الأربعين! إن الضربة التى تنزل بأهل مكة ـ لو فقدوا هذه الثروة ـ موجعة حقا، وفيها عوض كامل لما لحق بالمسلمين من خسائر فى أثناء هجرتهم الأخيرة، لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فأخرجوا إليها، لعل الله ينفلكموها... لم يعزم الرسول على أحد بالخروج ولم يستحث متخلفا، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، ثم سار بمن أمكنه الخروج. وكان الذين صحبوا الرسول صلى الله عيه وسلم هذه المرة يحسبون أن مضيهم فى هذا الوجه لن يعدو ما ألفوا فى السرايا الماضية، ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام! ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولما سُمح لمسلم أن يبقى فى المدينة لحظة! لذلك فترت الهمم عندما وردت أخبار أخرى بأن القافلة المطلوبة غيرت طريقها. واستطاع قائدها " أبو سفيان " أن ينجو من الخطر المحدق به، بعد أن أرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لحماية أموالهم، ص _004(1/1)
ويستثير حميتهم للخروج فى تعبئة ترد كل هجوم... وغالب النبى صلى الله عليه وسلم هذا الفتور العارض، وحذر صحابته من عقبى العود السريع إلى المدينة أن فاتهم مال مكة وخرج إليهم رجالها! وأصر على ضرورة تعقب المشركين كيف كانوا. وذلك قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) والذين كرهوا لقاء قريش، ما كانوا ليهاهبوا الموت، ولكنهم لم يعرفوا الحكمة فى خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغى لها من عدة وعدد، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خيرا من الإحجام، ومن ثم قرر أن يمضى، فإن الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو. وقد اختفت ـ على عجل ـ مشاعر التردد، وانطلق الجميع خفافا إلى غايتهم. والمسير بإزاء طريق القوافل إلى " بدر " ليس سفرا قاصدا أو نزهة لطيفة. فالمسافة بين " المدينة " و"بدر" تربو على 1 ص كيلو مترا، ولم يكن مع الرسول وصحبه غير سبعين بعيرا يتعقبونها. روى أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير ـ أى يتعاقبون ـ وكان أبو لبابة وعلىّ بن أبى طالب زميلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له : نحن نمشى عنك ـ يظل راكبا ـ فقال :" ما أنتما بأقوى منى، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما" ...!! ص _005(1/2)
وبث المسلمون عيونهم يتعرفون أخبار قريش: أين القافلة؟ وأين الرجال الذين قدموا لحمايتها؟ ... حين أحس أبو سفيان الخطر على قافلته، بعث " ضمضم بن عمرو الغفارى " إلى مكة يستصرخ أهلها حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم. واستطاع " ضمضم " هذا إزعاج البلد قاطبة: فقد وقف على بعيره، بعد أن جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه، يصيح: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبى سفيان، عرض لها محمد وأصحابه، لا يرى أن تدركوها، الغوث الغوث! فتجهز الناس جميعا، فإما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وانطلق سواد مكة وهو يغلى، يمتطى الصعب والذلول. فكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا، معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمة... وولوا وجوههم إلى الشمال، ليدركوا القافلة المارة تجاه يثرب هابطة إليهم. لكن أبا سفيان لم يستنم فى انتظار النجدة المقبلة، بل بذل أقصى ما لديه من حذر ودهاء، لمخاتلة المسلمين والإفلات من قبضتهم، وقد كاد يسقط بالعير جمعاء فى أيديهم وهم يشدون فى مسيرهم نحو بدر، غير أن الحظ أسعفه! يروى أنه لقى مجدى بن عمرو، فسأله: هل أحسست أحدا؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره. إلا أنى رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل. ثم استقيا فى شن لهما. ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مُناخها، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين ثم فتها فإذا فيها النوى. فقال: هذه والله علائف يثرب! وأدرك ص _006(1/3)
أن الرجلين من أصحاب محمد. وأن جيشه هنا قريب! فرجع إلى العير يضرب وجهها عن الطريق، شاردا نحو الساحل، تاركا بدرا إلى يساره.. فنجا. ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة فأرسل إلى قريش يقول: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم. وقد نجاها الله. فارجعوا. . فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم فيه ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، ليتسمع بنا العرب، وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا.. وهذا الذى عالن به أبو جهل، هو ما كان يحاذره الرسول عليه الصلاة والسلام فإن تدعيم مكانة قريش، وامتداد سطوتها فى هذه البقاع ـ بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت ـ يعتبر كارثة للإسلام، ووقفا لنفوذه، وهل كانت السرايا تخرج من المدينة إلا لإعلاء كلمة الله وتوهين كلمة الشرك، وإظهار عبدة الأصنام بمظهر الذى لا يملك نفعا ولاضرا؟ لذلك لم يلتفت الرسول لفرار القافلة، التفاته لضرورة التجوال المسلح فى هذه الأنحاء، إبرازا لهذه المعانى القوية، وتمكينا لصداها فى القلوب. ومضت قريش فى مسيرها، مستجيبة لرأى أبى جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادى بدر، وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضنى إلى العدوة الدنيا. وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر، وهو لا يدرى ما وراء هذا اللقاء الرهيب. وهبط الليل فأرسل النبى صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وسعدا، يتحسسون الأحوال ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يمدانهم بالماء، فأتوا بهما، وسألوهما ص _007(1/4)
ورسول الله قائم يصلى- فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم هذا الخبر، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان ـ لا تزال فى نفوسهم بقايا أمل فى الاستيلاء على القافلة! ـ فضربوهما ضربا موجعا حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبى سفيان! فتركوهما، وركع رسول الله وسجد سجدتيه وسلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما..!، صدقا والله إنهما لقريش، ثم قال للغلامين: أخبرانى عن قريش! قالا: هم وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير! قال ماعدتهم؟ قالا: لا ندرى! قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البخترى بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدى، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وعمرو بن هشام، وأمية بن خلف... الخ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.. وانكشف وجه الجد فى الأمر، إن اللقاء المرتقب سوف يكون مر المذاق. لقد أقبلت قريش تخب فى خيلائها، تريد أن تعمل العمل الذى يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام، لتنفرد ـ بعدها ـ الوثنية بالحكم النافذ... ص _008(1/5)
-ونظر الرسول حوله، فوجد أولئك المؤمنين، بين مهاجر باع فى سبيل الله نفسه وماله. وأنصارى ربط مصيره وحاضره بهذا الدين الذى افتداه وآوى أصحابه. فأحب أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا ـ على ضوئه ـ ما يفعلون. إن المرء قد تفجؤه أحداث عابرة وهو ماض فى طريقه يحتاج فى مواجهتها، لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حاد الانتباه، مرهف الأعصاب، وهذه الامتحانات المباغتة أدق فى الحكم على الناس، وأدل على قيمهم، من الامتحانات التى يعرفون ميعادها، ويتقدمون إليها، واثقين مستعدين. ... المسلمون الذين خرجوا لأمر يسير، ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاق، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلبون ـ على عجل ـ تكاليفه ونتائجه. وثار منطق اليقين القديم فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التى لا محيص عنها لمؤمن. استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس. فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذى بعثك بالحق، لو سرت بنا الى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له. ص _009(1/6)
ثم قال: أشيروا على أيها الناس ـ وإنما يريد الانصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وإنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله أنا برءاء من ذمامك حتى تصل الى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت فى ذمتنا. نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة. فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحق معك. فوالذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره ان تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر فى الحرب، صدقا عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. وفى رواية: لعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذى أحدث الله إليك فامض، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا، كان أحب إلينا مما تركت. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول " سعد " ونشطه ثم قال: سيروا وابشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين. والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم.. تأهب المسلمون لخوض المعركة.. وعسكروا فى أدنى ماء من بدر. فجاء الحباب بن المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ص _010(1/7)
فقال: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة! قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، امض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه، ثم نغور ما وراءه من الآبار، ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأى.. ثم أمر بإنفاذه، فلم يجىء نصف الليل حتى تحولوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء. وقضى المسلمون ليلا هادئ الأنفاس منير الأفاق، غمرت الثقة قلوبهم وأخذوا من الراحة قسطهم، وتساقط عليهم مطر خفيف رطب حولهم الجو وجعل نسائم الصباح تهب عليهم فتنعش صدورهم وتجدد أملهم، وكان الرمل تحت أقدامهم دهسا فتلبد وتماسك، وجعل حركتهم عليه ميسرة " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ". وكان رسول الله علي وسلم يتفقد الرجال، وينظم الصفوف، ويسدى النصائح، ويذكر بالله والدار الآخرة. ثم يعود إلى عريش هيئ له، فيستغرق فى الدعاء الخاشع، ويستغيث أبامداد الرحمن: ووقف أبو بكر إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يكثر الابتهال والتضرع، ويقول فيما يدعو به: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها فى الأرض ". وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: " اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم نصرك " ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه ص _011
وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه ويسوى عليه رداءه ويقول ـ مشفقا عليه من كثرة الابتهال ـ: يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك ص _012
محل(1/8)
أبو جهل.. والعناد إلى آخر رمق !
وتزاحف الجمعان، وبدأ الهجوم من قبل المشركين، إذ هجم الأسود بن عبد الأسد على الحوض الذى بناه المسلمون قائلا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه! فتصدى له حمزة بن عبد المطلب، فضربه ضربة أطارت نصف ساقه، ومع ذلك حبا إلى الحوض يبغى اقتحامه، وتبعه حمزة يقاتله حتى قتله فيه! فبرز من المشركين عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة. فخرج للقائهم فتية من الأنصار، فنادوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، وقيل: إن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه هو الذى استرجع أولئك الأنصار رغبة منه أن تكون عشيرته أول من يواجه العدو فى مثل هذا الموقف. فقال: قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا على فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك فعل على مع خصمه، وأما عبيدة وعتبة، فقد جرح كلاهما الآخر. فكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما، فجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفرشه الرسول قدمه، فوضع خده على قدمه الشريفة وقال: يا رسول الله لو رآنى أبو طالب لعلم أنى أحق بقوله: ونسلمه حتى نُصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل.. ثم أسلم الروح.. ص _013(1/9)
واستشاط الكفار غضبا للبداية السيئة التى صادفتهم، فأمطروا المسلمين وابلا من سهامهم، ثم حمى الوطيس وتهاوت السيوف، وتصايح المسلمون: أحد.. أحد وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسروا هجمات المشركين. وهم مرابطون فى مواقعهم.. وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل، ولا تحملوا عليهم حتى تُوذنوا. فلما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم وألحقوا بهم خسائر جسيمة، والنبى فى عريشه يدعو الله ويرقب بطولة رجاله وجلدهم . قال ابن إسحاق. " خفق النبى عليه الصلاة والسلام خفقة فى العريش ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع .! لقد انعقد الغبار فوق رءوس المقاتلين، وهم بين كر وفر. جند الحق يستبسلون لنصرة الرحمن. وجند الباطل قد ملكهم الغرور فأغراهم أن يغالبوا القدر . فلا عجب إذا نزلت ملائكة الخير تنفث فى قلوب المسلمين روح اليقين، وتحضهم على الثبات والإقدام . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى الناس فحرضهم قائلا. ! والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة . إن التأميل فى الآخرة هو بضاعة الأنبياء.. وهل لأصحاب العقائد وفداة الحق من راحة إلا هناك؟.. وعمل هذا التحريض عمله فى القلوب المؤمنة . روى أحمد أن المشركين لما دنوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه. قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض. فقال عمير بن الحمام الأنصارى : ص _014(1/10)
يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض !؟ قال : نعم . قال : بخ بخ قال رسول الله : وما يحملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها! قال: فإنك من أهلها." فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه، إنها حياة طويلة. فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد والصبر فى الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد فمازال حتى قتل..! ووهت صفوف المشركين تحت مطارق هذا الإيمان الزاهد فى متاع الحياة الدنيا.. وراعهم محمد عليه الصلاة والسلام، وقد نزل بنفسه إلى الميدان يقاتل أشد القتال، ومعه أصحابه يشتدون نحو عدوهم لا يبالون شيئا، فانكسرت قريش وأخذها الفزع!. وصاح النبى عليه الصلاة والسلام- وهو يرى كبرياء الكفر تمرغ فى التراب ـ " شاهت الوجوه.. ". فانهزمت قريش.. وذلك قول الله فى كتابه: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب * ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) ص _015(1/11)
وحاول " أبو جهل " أن يقف سيل الهزيمة النازل بقوامه، فأقبل يصرخ بهم، وغشاوة الغرور لا تزال ضاربة علي عينيه، لا واللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم فى الجبال.. خذوهم أخذا!. وماذا تفعل صيحات الطيش بإزاء الحقائق المكتسحة؟ لكن أبا جهل ـ والحق يقال ـ كان تمثالا للعناد إلى آخر رمق. والطمس المنسوج على بصيرته جزء من كيانه لا ينفك عنه أبدا، لذلك أقبل يقاتل فى شراسة وغضب وهو يقول: ما تنقم الحرب الشموس منى؟ بازل عامين حديث سنى! لمثل هذا ولدتنى أمى وأحاطت به فلول المشركين يقولون: أبا الحكم لا يخلص إليه، فكان بينهم وسط غابة ملتفة بيد أن هذه الغابة لم تلبث أن تهاوت جذعا جذعا، أمام حماس المؤمنين الذين اشتد بأسهم، وأغرتهم بشائر الفوز. وساد هتافهم الموقعة وهم يقولون : أحد أحد. قال عبد الرحمن بن عوف: إنى لفى الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأنى لم آمن بمكانهما، إذ قال لى أحدهما سرا من صاحبه: يا عم، أرنى أبا جهل، فقلت: يا ابن أخى ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه!! وقال لى الآخر سرا من صاحبه مثله. قال: فما سرنى أننى بين رجلين مكانهما. ص _016(1/12)
فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء، ويظهر أنهما تركاه بين الحياة والموت، وقد استشهد البطلان فى هذه الواقعة، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصرعهما يدعو لهما ويذكر صنيعهما. أما أبو جهل فقد سقط مكانه يلفظ أنفاسه، وتفرق المشركون بعده بددا، وتركوا سيقانهم للريح، تبعثرهم فى فجاج الصحراء، كما تبعثر كثيبا من الرمل المنهار. ومر عبد الله بن مسعود بالقتلى فوجد أبا جهل فيهم، لا يزال به رمق، فجثم على صدره يبغى الاجهاز عليه، وتحرك " أبو جهل" يسأل لمن الدائرة؟ قال عبد الله: لله ورسوله ثم استتلى عبد الله: هل اخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا اخزانى؟ هل أعمد من رجل قتله قومه؟ وتفرس فى عبد الله ثم قال له: ألست رويعينا بمكة؟ فجعل عبد الله يهوى عليه بسيفه حتى خمد. ولقى مثل هذا المصير الفاجع سبعون صنديدا من رءوس الكفر بمكة، دارت عليهم كؤوس الردى فتجرعوها صاغرين وسقط فى الأسر سبعون كذلك. وفر بقية التسعمائة والخمسين يروون لمن خلفهم أن الظلم مرتعه وخيم، وان البطر يجر فى أعقابه الخزى والعار. ... وفتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الارض والسماء، ان هذا الظفر المتاح رد عليهم الحياة والأمل والكرامة وخلصهم من أغلال ثقال " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون " وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلا، استأثرت ص _017(1/13)
بهم رحمة الله، يذهبوا الى عليين. ثبت عن أنس بن مالك، أن حارثه بن سراقة، قتل يوم بدر، وكان فى النظارة، أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله، أخبرنى عن حارثة؟ فإن كان فى الجنة صبرت، وإلا فليرين الله ما أصنع ـ تعنى من النياحة ـ وكانت لم تحرم بعد!! فقال لها الرسول: ويحك أهبلت؟ إنها جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى... " فإن كان هذا جزاء النظارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض الى المنايا الغمرات الصعاب؟... فى هذه المعركة التقى الآباء والابناء، والإخوة. خالفت بينهم المبادئ، ففصلت بينهم السيوف. وفى عصرنا هذا قاتل الشيوعيون مواطنيهم، ومزقوا أغلى الاواصر الانسانية فى سبيل ما يعتنقون. فلا عجب إذا رأيت الابن المؤمن يغاضب أباه الملحد، ويخاصمه فى ذات الله. والقتال الذى دار بـ "بدر" سجل صورا من هذا النوع الحاد. كان أبو بكر مع رسول الله، وكان ابنه عبد الرحمن يقاتله مع أبى جهل. وكان عتبة بن ربيعه أول من بارز المسلمين. وكان ولده أبو حذيفة من خيار أصحاب النبى. فلما سحبت جثة عتبة لترمى فى القليب، نظر الرسول إلى أبى حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه! فقال له: يا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شىء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه ولكنى كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك الى الإسلام. فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذى كنت أرجو له، أحزننى ذلك! فدعا له رسول الله بخير. وقال له خيرا. ص _018(1/14)
وأمر رسول الله بقتلى المشركين فطرحوا فى القليب . وروى أنه قال عند مرآهم "بئس عشيرة النبى كنتم لنبيكم، كذبتمونى وصدقنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس، وقاتلتمونى ونصرنى الناس " فلما ووريت وأهيل التراب على رفاتهم. انصرف الناس وهم يشعرون أن أئمة الكفر قد استراح الدين والدنيا من شرورهم. إلا ان النبى استعاد ماضيه الطويل فى جهاد أولئك القوم. كم عالج مغاليقهم وحاول هدايتهم؟ وكم ناشدهم الله وخوفهم عصيانه وتلا عليهم قرآنه؟ وهم - على طول التذكير - يتبجحون وبالله وآياته ورسوله يستهزئون فخرج النبى فى جوف الليل حتى بلغ القليب المنطوى على أهله. وسمعه الصحابة يقول : " يا أهل القليب يا عتبة بن ربيعة، يا شبية يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقا؟ فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادى قوما جيفوا؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم! ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونى " كانت وقعة بدر فى السابع عشر من رمضان لسنتين من الهجرة. وقد أقام رسول الله صلى عليه وسلم ببدر ثلاثا، ثم قفل عائدا الى المدينة، يسوق أمامه الأسرى والغنائم! ورأى قبل دخولهم أن يعجل البشرى إلى المسلمين المقيمين فيها، الذين لا يدرون مما حدث شيئا. فأرسل " عبد الله بن رواحة " و " زيد بن حارثة " بشيرين يؤذنان الناس بالنصر العظيم. قال " أسامة بن زيد " فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله! وكان زوجها عثمان بن عفان قد احتبس عندها يمرضها بأمره وضرب رسول الله له بسهمه وأجره فى بدر. ص _019(1/15)
الجوع والعرى.. عندما يطول أحدهما
برغم ما سجله التاريخ من تجمل ومواساة بين الأنصار والمهاجرين، فإن متاعب العيلة ومشكلات الفقر تفشت خلال المجتمع الجديد، إن سترها التعفف حينا، أبرزتها الحاجة حينا آخر، والأزمات التى تصاحب تكوين دولة من العدم وسط أمم تكيد لها وتتربص بها الدوائر، يجب ان تتوقع وأن توطن النفوس على احتمالها، وألا تكون حدة الشعور بها سببا فى ضعف السيرة وعجز الهمة... وقد آخذ الله المسلمين ـ قبل معركة بدر وبعدها ـ بأمور بدرت منهم، يجب لهم أن يتنزهوا عنها، مهما بلغ من شدة الدوافع والمبررات لارتكابها. فهم يوم خرجوا من يثرب لملاقاة مشركى مكة، تعلقت امانيهم بإحراز العير وما تحمل من ذخائر ونفائس.. حقا إنهم اخرجوا من ديارهم وأموالهم، وضحوا فى سبيل الله بأنفسهم وأولادهم.. فليمضوا فى طريق الفداء- الى الرحلة الأخيرة، ومهما عضهم الفقر بنابه، فليكن التنكيل بالكافرين أرجح فى ميزانهم من الاستيلاء على الغنيمة. (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) ص _020(1/16)
ومن هذا القبيل تسابقهم بعد النصر الى حيازة الغنائم ومحاولة كل فريق الاستئثار بها. عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبى فشهدت معه بدرا فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة فى آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم الى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا فى طلب العدو: لستم أحق بها منا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه. وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل الله "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " فقسمها رسول الله بين المسلمين. هذا التنازع المؤسف إثر البأساء الشاملة التى لحقت بالمهاجرين والأنصار على السواء، وقد نظر رسول الله إلى مظاهر هذا البؤس على أصحابه وهم خارجون الى بدر، فرثى لحالهم، وتألم لما بهم، وسأل الله ان يكشف كرباتهم. فعن عبد الله بن عمرو قال: خرج رسول الله يوم " بدر " فى ثلثمائة وخمسة عشر رجلا من أصحابه، فلما انتهى إليها قال: اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم" ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل او حملين واكتسوا وشبعوا! إن الجوع والعرى عندما يطول أمدهما يتركان فى النفوس ندوبا سيئة، ويدفعان الأفكار فى مجرى ضيق كالح، على أن ص _021(1/17)
هذه الأزمات إن أحرجت العامة وأهاجتهم إلى طلب الغذاء والكساء لأنفسهم وذراريهم بحرص ومجاهرة، فإن المؤمنين الكبار ينبغى أن يتماسكوا، وأن يكتموا أحاسيس الفاقة الملحة فلا يتنازعوا على شىء..! وذلك الأدب هو ما أخذ الله به المسلمين، وافتتح به السورة التى تحدثت عن القتال فى بدر.. ذلك أن الخاصة من الرجال هم قدوة غيرهم، فإذا ساءت أخلاقهم للضوائق العارضة واضطرب مسلكهم فسيكون سواد الشعب إلى مزالق الفوضى أسرع... وقد رأينا " الألمان " فى الحرب العالمية الأولى و" الانجليز " فى الحرب العالمية الثانية شدد عليهم الحصار حتى هزلت الأجسام، واصفرت الوجوه، وما صابرت الجماهير هذه المجاعات إلا وراء قادتها المصابرين المتجملين. ومما حاسب الله عليه المسلمين حسابا شديدا موقفهم بإزاء الأسرى، فإن الرغبة فى استبقائهم للانتفاع من ثرواتهم غلبت الآراء الأخرى بضرورة الاقتصاص من مآثمهم السابقة، حتى يكونوا نكالا لما بين ايديهم وما خلفهم وموعظة للمتقين... استشار رسول الله صلى عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان! وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ ص _022(1/18)
قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان- قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل بن أبى طالب، فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست فى قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم... فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت الى النبى عليه الصلاة والسلام وأبى بكر وهما يبكيان! فقلت : يا رسول الله اخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وان لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. للذى عرض على اصحابك من أخذهم الفداء !! قد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة -. وأنزل الله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) إن الوقوع فى الأسر لا يعنى صدور عفو عام عن الجرائم التى اقترفها الأسرى أيام حريتهم، وهؤلاء الطغمة من كبراء مكة، لهم ماض شنيع فى إيذاء الله ورسوله، وقد أبطرتهم منازلهم، فساقوا عامة مكة إلى حرب، ما كان لها من داع، فكنيف يتركون بعد أن استمكنت الأيدى من خناقهم؟ أذلك لأن لهم ثروة يفتدون بها؟ ما كان يليق أن ينظر ص _023(1/19)
المؤمنون إلى هذه الأعراض التافهة متناسين ما فرط من أولئك الكفار فى جنب الله. إنهم مجرمو حرب ـ بالاصطلاح الحديث ـ لا أسرى حرب، وقد ندد القرآن بخيانتهم لقومهم بعد كفرهم بنعمة الله عليهم فقال: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار) وهناك نصوص توصى برعاية الأسرى وإطعامهم وتشرع القوانين الرحيمة فى معاملتهم، وهذه تنطبق على جماهير الأسرى من الأتباع والعامة. أما الذين تاجروا بالحروب لإشباع مطامعهم الخاصة فيجب استئصال شأفتهم، وذلك هو الإثخان فى الأرض. ان الحياة كما تتقدم بالرجال الأخيار، فإنها تتأخر بالعناصر الخبيثة، وإذا كان من حق الشجرة لكى تنمو أن تقلم، فمن حق الحياة لكى تصلح، أن تنقى من السفهاء والعتاة والآثمين، ولن يقوم عوض أبدا عن هذا الحق، ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب، وقد أسمع الله نبيه وصحابته هذا الدرس، حتى اذا وعوه وتدبروه عفا عنهم ثم أباح لهم ـ من رحمته بهم ـ الانتفاع بما أخذوا من فداء فقال: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم " ص _024(1/20)
شقة العداوة تتسع بين المسلمين واليهود
شُده العرب قاطبة للنصر الحاسم الذى ناله المسلمون فى بدر ، بل إن أهل مكة استنكروا الخبر أول ما جاءهم ، وحسبوه هذيان مجنون ، فلما استبان صدقه ، صُعق نفر منهم فهلك لتوه ، وماج بعضهم فى بعض من هول المصاب لا يدرى ما يفعل ... وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها ، استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع آذانهم من بشريات الفوز ، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع عن نصرهم محض اختلاق وظلوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرنين فى الأصفاد ، فسقط فى أيديهم. وقد اختلفت مسالك الأحزاب بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذى مكن للإسلام وأهله ، وجعل سلطانهم مهيبا فى المدينة وما حولها ، ومد نفوذهم على طرق القوافل فى شمال الجزيرة ، فيصبح لا يمر بها أحد إلا بإذنهم . فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم ، يداوون جراحهم ، ويستعيدون قواهم ويستعدون لنيل ثأرهم ، ويعلنون أن يوم الانتقام قريب ، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرها للإسلام ، ونقمة على محمد وصحبه ، واضطهادا لمن يدخل فى دينه ، فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفى به أو يعيش ذليلا مستضعفا. ذلك فى مكة، حيث كانت الدولة للكفر . أما فى المدينة حيث المسلمون كثرة مكينة ظاهرة ، فقد اتخذت العداوة للإسلام طريق الدس والنفاق والمخاتلة ، ص _025(1/21)
فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهرا، وقلوبهم تغلى حقدا وكفرا، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبى. روى أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب - كما أمرهم الله تعالى - ويصبرون على الأذى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره فكان النبى صلى الله عليه وسلم يتأول فى العفو ما أمره الله به - حتى أذن فيهم - . فلما غزا بدرا وقتل فيها من قتل من صناديد قريش، وقفل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه منصورين غانمين معهم أساراهم، قال "عبد الله بن أبى " ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه (أى استمر فلا مطمع فى ازالته) فبايعوا رسول الله صلى عليه وسلم على الإسلام فأسلموا.. على أن هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار فى الوقت الذى عالن فريق أخر من اليهود بسخطهم على محمد، وألمهم للهزيمة التى أصابت قريشا فى "بدر " بل إن كعب بن الأشرف من رجالات يهود ـ أرسل القصائد فى رثاء قتلاهم والمطالبة بثأرهم. وقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابى. ثم حاول اليهود أن يحقروا من النصر الذى حظى به الإسلام بما مهد للأحداث العنيفة التى وقعت بعد، ودفع اليهود ثمنها من دمهم أفرادا وجماعات... أما البدو ص _026(1/22)
الضاربون حول المدينة، وعلى طرق القوافل، فهم قوم همل لا يهمهم شىء من قضايا الكفر والإيمان، إنما يهمهم اكتساب القوت من أى وجه، والحصول عليه ولو عن طريق السلب والنهب. وتاريخهم الحديث مع قوافل الحجاج شاهد صدق على أنهم لا يرعون حرمة ولا يخشون إلا القوة. ولولا بطش السعوديين بهم ما أمن طريق الحج قط! وقد سبق لهم استياق نعم المدينة، وما ورثوه من جاهلية طامسة، جعل قلوبهم مع مشركى الجزيرة، وقد ذعروا لانتصار المسلمين فى بدر، وأخذت جموعهم تحتشد، تبغى انتهاز فرصة للإغارة على المدينة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهض إلى جموعهم فشتتها، ولم يلق فى إرهابهم متاعب ذات بال. ص _027
وجاء يوم الفتح الأعظم
شغل المسلمون بعد عهد الحديبية بنشر الدعوة وعرض تعاليم الإسلام على كل ذى عقل وكان وفاؤهم لقريش أمرا مقررا فيما أحبوا وفيما كرهوا. ورأى الناس من ذلك الآيات البينات... لكن قريشا ظلت على جمودها القديم فى إدارة سياستها، غير واعية للأحداث الخطيرة التى غيرت مجرى الأحوال فى الجزيرة العربية، وتوشك أن تغيره فى العالم كله. وقد جرها فقدان هذا الوعى إلى حماقة كبيرة أصبح بعدها عهد الحديبية لغوا. وذلك أنها ـ مع حلفائها من بنى بكر ـ هاجموا خزاعة وهى مع المسلمين فى حلف واحد وقاتلوهم فأصابوا منهم رجالا. وانحازت خزاعة إلى الحرم، إذ لم تكن متأهبة لحرب، فتبعهم بنو بكر يقتلونهم، وقريش تمدهم بالسلاح وتعينهم على البغى.. وأحس نفر من بنى بكر أنهم دخلوا الحرم ـ حيث لا يجوز قتال ـ فقالوا لرئيسهم نوفل بن معاوية: إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال نوفل: لا إله اليوم يا بنى بكر... أصيبوا ثأركم. !! وفزعت خزاعة لما حل بها، فبعثت إلى رسول الله " عمرو بن سالم " يقص عليه نبأها. فلما قدم المدينة، وقف على النبى صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى المسجد بين ظهرانى الناس يقول: ص _028(1/23)
يا رب إنى ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كت ولدا وكنا والدا ثُمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدو يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا فى فيلق كالبحر يجرى مُزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لى فى كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هُجدا وقتلونا ركعا وسجدا فقال له رسول الله: نصرت يا عمرو بن سالم. وأحست قريش ـ بعد فوات الأوان ـ خطأها، فخرج أبو سفيان إلى المدينة يصلح ما أفسده قومه، ويحاول أن يعيد للعقد المهدر حرمته! وبلغ المدينة فذهب إلى ابنته أم حبيبة، وأراد أن يجلس على الفراش، فطوته دونه، فقال: يا بنية ما أدرى، أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟. فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس! قال: والله فقد أصابك بعدى شر! ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه، فلم يرد عليه شيئا. واستشفع أبو سفيان بأبى بكر ليحدث النبى فى هذا الشأن فرفض. فتركه إلى عمر، فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. فتركهما إلى على فرد عليه: والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، ثم نصحه أن يعود من ص _029(1/24)
حيث جاء... فقفل أبو سفيان إلى قومه يخبرهم بمالقى من صدود وأمر النبى صلى الله عليه وسلم الناس أن يتجهزوا، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وأوصاهم بالجد والبدار. وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها! واستمع المسلمون لأمر نبيهم، فمضوا يعبئون قواهم للقاء المنتظر، وهم مدركون أن الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت * * * ووقع فى هذه الفترة الدقيقة حادث مستغرب، فإن رجلا من أهل السابقة فى جهاد المشركين تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه أن محمدا سائر إليهم بجيشه...!! وقد رأيت أن المسلمين حراص على إخفاء خطة الغزو، أليس مما يقرب نجاحهم ويخفف خسائرهم، ولعله يدفع قريش إلى التسليم دون أن تسفك الدماء عبثا؟؟ وما معنى الكتابة اليهم إلا التحريض على حرب الله ورسوله، والاستكثار من أسباب المقاومة؟ عن على بن أبى طالب: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة "خاخ " فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فاذا نحن بالظعينة. فقلنا: أخرجى الكتاب. فقالت: ما معى! فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب!! فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فيه "من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله " فقال: يا حاطب ما هذا ؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل علىَّ إنى كنت امرأ ص _030(1/25)
ملصقا فى قريش - كنت حليفا لها ولم أكن من صميمها - وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات - يحمون بها أهليهم وأموالهم. فأحببت إذا فاتنى ذلك من النسب فيهم، إن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن دينى ولارضا بالكفر بعد الإسلام... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم! فقال عمر: يا رسول الله دعنى أضرب عنق هذا المنافق! فقال: إنه قد شهد بدرا. وما يدريك؟.. لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم…؟ ونزل قول الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) إن حاطبا خرج عن جادة الصواب بهذا العمل. وما كان له أن يواد المشركين وهم الذين تبجحوا بالكفران وتظاهروا على العدوان وصنعوا بالمسلمين ما " حاطب " أعلم به من غيره. لكن الإنسان الكبير تعرض له فترات يصغر فيها، والله أبر بعباده من أن يؤاخذهم بسورات الضعف التى تعرو نورهم فيخبو، وسعيهم فيكبو ص _031(1/26)
وقد استكشف النبى صلى الله عليه وسلم خبيئة حاطب، فعرف إنه لم يكذبه فى اعتذاره، إنهم مقبلون على معركة كبيرة قد ينهزمون فيها، فتقوم العصبيات القديمة بحماية الأقارب الشاردين؛ ويبقى حاطب لا حمى له، فليتخذ تلك اليد عند قريش، حيطة للمستقبل. ذاك ما فكر فيه حاطب، وهو خطأ، فإن المشركين لم يذكروا فى عداوة الإسلام رحما ولا أهلا، وما ينبغى ت ولو دارت علينا الدوائر ـ أن نبقى لهم ودا، وقد خاصمناهم فى ذات الله، وأخذ علينا العهد إن نبذل فى حربهم أنفسنا وأموالنا... ولو جاز اتخاذ يد عندهم فكيف يُتوسل لذلك بعمل يعد خيانة كبيرة فادحة، الإضرار بالإسلام وأهله؟ على أن حاطبا شفع له ماضيه الكريم، فجبرت عثرته، وأمر النبى صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يُذكر الرجل بأفضل ما فيه، وبهذا التقدير السمح علمنا الإسلام ألا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حينا بعد أن أصابوا طويلا. ص _032(1/27)
النبى يخرج مطاردا.. ويعود منتصرا
سرى القلق فى ربوع مكة عقب أوبة أبى سفيان، ورأى العباس بن عبد المطلب أن يسلم هو وعياله وأن يهجروا مكة إلى المدينة، فقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الطريق مقبلا بجيشه على مكة، وخرج كذلك أبو سفيان بن الحارث ، بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبى أمية، فلقيا النبى صلى الله عليه وسلم بالأبواء ـ وهما ابن عمه وابن عمته ـ وكانا من أشد الناس إيذاء له بمكة، فأعرض عنهما لما ذكر من مساءتهما. لكن على بن أبى طالب أشار على ابن عمه أبى سفيان بوسيلة يترضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له: ائته من قبل وجهه وقل له ما قاله إخوة يوسف (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جوابا، ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) وأنشده أبو سفيان أبياتا جاء فيها: لعمرك إنى حين أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لكا لمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أوانى، حين أهدى فأهتدى هدانى هاد، غير نفسى، ودلنى على الله من طردته كل مطرد ص _033(1/28)
فضرب الرسول على صدره وهو يقول له : أنت طردتنى كل مطرد. وسار الجيش يطوى الوهاد والنجاد مسرعا إلى مكة، حتى بلغ " مر الظهران " قريبا منها فى العشاء، فنزل الجيش، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران فى معسكر يضم عشرة آلاف حتى أضاء منها الوادى، وأهل مكة فى عماية من أمرهم لا يدرون عن القضاء النازل بهم شيئا،. وعز على العباس أن تجتاح مكة فى أعقاب قتال تتفانى فيه ولا يغنيها فتيلا. فخرج يبحث عن وسيلة تقنع قريشا بمسالمة النبى صلى الله عليه وسلم وتدخلها فى أمانه. وصادف ذلك أن ثلاثة من كبراء مكة خرجوا يتعرفون الأخبار، ويتسمعون ما يقال، فلما اقتربوا من الوادى راعهم ما به. قال أبو سفيان زعيم مكة: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا!! فقال بديل بن ورقاء: هذه ـ والله ـ خزاعة حمشتها الحرب! فرد أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها... وكان المسلمون على خطتهم المرسومة يبثون العيون حولهم حتى يأخذوا قريشا على غرة فلا ترى من التسليم بدا، فعثرت خيالتهم على رجال قريش أولئك ومعهم حكيم بن حزام فأخذتهم، وعادت بهم مسرعة إلى رسول الله ولحق العباس وهو يعلن أنه فى جواره فلما دخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم حادثهم عامة الليل، فانشرحت صدورهم بالإسلام، وإن كان أبو سفيان قد تأخر إسلامه حتى طلع الصبح... ثم سألوه الأمان لقريش، فقال رسول الله : من دخل دار ص _034(1/29)
أبى سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. وإنما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان هذه الميزة إرضاء لعاطفة الفخر فى نفسه، وقد أرضاه بما لا يضر أحدا ولا يكلف جهدا ولا عليه أن يتحبب إلى نفس بمثل هذا الثمن الميسور، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور بعيدا عن الحرب والضرب، فضم إلى ذلك المسلك مع أبى سفيان أن أوصى العباس باحتجازه فى مضيق الوادى حتى يستعرض القوى الزاحفة كلها فلا تبقى فى نفسه أثارة لمقاومة، وهو سيد مكة المتبوع، قال العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادى حيث أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: سليم! فيقول: مالى ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة! فيقول: مالى ولمزينة حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألنى عنها، فإذا أخبرته قال: مالى ولبنى فلان؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال : سبحان الله! يا عباس من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولاطاقة! والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما!. قال العباس : يا أبا سفيان، إنها النبوة! قال: فنعم إذن. ص _035(1/30)
ودخل أبو سفيان مكة مبهورا مذعورا، وهو يحس أن من ورائه إعصارا إذا انطلق اجتاح ما أمامه، فما يقف دونه شىء، ورأى أهل مكة الجيش الفاتح يقبل من بعيد رويدا رويدا، فاجتمعوا على سادتهم ينتظرون الأوامر بالقتال، فإذا بصوت أبى سفيان ينطلق عاليا واضحا: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن! وشدهت امرأته هند بنت عتبة وهى تسمع من زوجها هذا الكلام، فوثبت إليه وأخذت بشاربه تلويه وصاحت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش ـ أى هذا الزق المنتفخ ـ قبحت من طليعة قوم ! ولم يكترث أبو سفيان لسباب امرأته فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لاقبل لكم به! فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله! وما تغنى عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وأصبحت "أم القرى" وقد قيد الرعب حركاتها، واسترخت تجاه القدر المنساق إليها. فاختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، أو اجتمعوا فى المسجد الحرام يرقبون مصيرهم وهم واجمون. على حين كان الجيش الزاحف يتقدم، ورسول الله على ناقته، تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله، لقد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجم حتى كاد عثنونه يمس واسطة الرحل، إن الموكب الفخم المهيب الذى ينساب به حثيثا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذى يحف به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شىء أمن، إن هذا ص _036(1/31)
الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول، كيف خرج مطاردا؟ وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا...؟ وأى كرامة عظمى حفه الله بها فى هذا الصباح الميمون؟ وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء، ويبدو أن هناك عواطف أخرى كانت تجيش فى بعض الصدور. فإن " سعد بن عبادة" زعيم الأوس، ذكر ما فعل أهل مكة، وما فرطوا فى جنب الله، ثم شعر بزمام القوة فى يده فصاح : اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا. وبلغت هذه الكلمة مسامع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة. اليوم يوم أعز الله فيه قريشا، وأمر أن ينزع اللواء من سعد ويدفع إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة فى الناس. وسار رسول الله فدخل مكة من أعلاها. وأمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم فدخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الأخرى. ودخل " خالد بن الوليد" من أسفل مكة. وكان هناك نفر من قريش، غاظهم هذا التسليم، فتجمعوا عند " الخندمة" يقودهم " عكرمة بن أبى جهل" و" سهيل بن عمرو" و "صفوان بن أمية" ، إلا أن الحقيقة الكبيرة صدمت غرورهم فبددته، فإن خالدا حصدهم حصدا حتى لاذ القوم بالفرار. ومن طريف ما وقع أن حماس بن خالد من قبيلة بنى بكر، كان قد أعد سلاحا لمقاتلة المسلمين. وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: لماذا تعد ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه. وقالت امرأته له يوما: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وصحبه ص _037(1/32)
شىء! فقال: إنى والله لأرجو أن أخدمك بعضهم... ثم قال: إن يقبلوا اليوم فمالى علة هذا سلاح كامل وألة وذو غرارين سريع السلة فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئا من قتال مع رجال عكرمة. ثم أحس بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد. فخرج منهزما حتى بلغ بيته فقال لامرأته: أغلقى على الباب..! فقالت المرأة لفارسها المعلم: فأين ما كنت تقول؟. فقال- يعتذر- لها: إنك لو شهدت يوم الخندمة اذا فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤتمة واستقبلتهم بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمة لم تنطقى باللوم أدق كلمة!! وسكنت مكة. واستسلم سادتها وأتباعها. وعلت كلمة الله فى جنباتها. ثم نهض رسول الله إلى البيت العتيق فطوف به وأخذ يكسر الأصنام المصفوفة حوله. ويضربها بقوسه ظهرا لبطن، فتقع على الأرض مهشمة متناثرة. كانت هذه الحجارة- قبل ساعة- آلهة مقدسة. وهىـ الآن ـ جص وتراب وأنقاض، يهدمها نبى التوحيد وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) ص _038(1/33)
ثم أمر بالكعبة ففتحت، فرأى الصور تملؤها، وفيها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام! فقال ـ ساخطا على المشركين ـ: قاتلهم الله. والله ما استقسما بها قط. ومحا ذلك كله. حتى إذا طهر المسجد من الأوثان أقبل على قريش وهم صفوف صفوف، يرقبون قضاءه فيهم. فأمسك بعضادتى الباب ـ باب الكعبة ـ وهم تحته، فقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم! قال: فإنى أقول لكم ما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا أنتم الطلقاء. وعندما كان رسول الله بالمسجد يجهز على الوثنية فى عاصمتها الكبرى، اقترب منه " فضالة بن عمير" يريد أن يجد له فرصة ليقتله. فنظر إليه النبى نظرة عرف بها طويته إلا أنه فى غمرة النصر الذى أكرمه الله به، لم يجد فى نفسه على الرجل، بل استدعاه ثم سأله: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شىء! كنت أذكر الله!! فضحك النبى ثم قال: استغفر الله. وتلطف معه الرسول، فوضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدرى حتى ما من خلق الله شىء أحب إلى منه. وكانت لفضالة فى جاهليته هنات، فمر ـ وهو راجع إلى أهله ـ بامرأة لها معه شأن، فلما رأته قالت: هلم إلى الحديث. فانبعث يقول: ص _039
قالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا يأبى عليك الله والإسلام لو ما رأيت محمدا وقبيله بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بينا والشرك يغشى وجهه الإظلام ص _040(1/34)
وهكذا.. دخل أهل مكة فى الإسلام
وصعد بلال فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم فى حلم، إن هذه الكلمات تقصف فى الجو فتقذف بالرعب فى أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين. الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. هذه الصيحات المؤكدة تذكر الناس بالغاية الأولى من محياهم، وبالمرجع الحق بعد مماتهم، فكم ضللت البشر غايات صغيرة أركضتهم على ظهر الأرض ركض الوحوش فى البرارى، واجتذبت انتباههم كله، فاستغرقوا فى السعى وراء الحطام.! وامتلكت عواطفهم كلها، فالحزن يقتلهم للحرمان، والقرح يقتلهم بالامتلاء، ولم يسفه المرء نفسه بالغيبوبة فى هذه التوافه؟ إن صوت الحق يستخرجه من وراء هذه الحجب المتراكمة، ليلقى فى روعه ما كان ينساه، وهو تكبير سيد الوجود ورب العالمين، سيده ومولاه... أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله لقد سقط الشركاء جميعا، طالما ضرع الناس للوهم، واعتزوا بالهباء، وأملوا الخير فيمن لا يملك لنفسه نفعا، وانتظروا النجدة ممن لا يدفع عن نفسه عدوان ذبابة، ولم الخبط فى هذه المتاهات؟ إن كان المغفلون يشركون مع الله بعض خلائقه، أو يؤلهونها دونه، فالمسلمون لا يعرفون إلا الله ربا، ولا يرون غيره موئلا. ص _041(1/35)
والتوحيد المحض، هو المنهج العتيد للغاية التى استهدفوها. ولكن من الأسوة؟ من الإمام فى هذه السبيل، من الطليعة الهادية المؤنسة؟ إن المؤذن يستتلى ليذكر الجواب: أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. سيرة هذا الرجل النبيل هى المثل الكامل لكل إنسان يبغى الحياة الصحيحة، إن محمدا إنسان، يرسم بسنته الفاضلة السلوك الفريد لمن اعتنق الحق وعاش له. وهو يهيب بكل ذى عقل أن يقبل على الخير، وأن ينشط إلى مرضاة ولى أمره وولى نعمته، فيحث الناس أولا على أداء عبادة ميسورة رقيقة. حى على الصلاة، حى على الصلاة. هذه الصلوات هى لحظات التأمل فى ضجيج الدنيا. هى لحظات المآب كلما انحرف الإنسان عن الجادة. هى لحظات الخضوع لله كلما هاج بالمرء النزق، وطغت على فكره الأثرة فنظر إلى ما حوله، وكأنه إله صغير. هى لحظات الاستمداد والإلهام. وما أفقر الإنسان ـ برغم غروره ـ إلى من يلهمه الرشد فلا يستحمق، ويمده بالقوة فلا يعجز ويستكين... ثم يحث الناس ـ أخيرا ـ على تجنب الخيبة فى شئونهم كلها. والخيبة إنما تكون فى الجهد الضائع سدى، فى العمل الباطل لأنه خطأ، سواء كان الخطأ فى الأداء، أو فى المقصد.... وهو يحذر من هذه الخيبة عندما يدعو: حى على الفلاخ، حى على الفلاح. ويوم يخرج العمل من الإنسان، وهو صحيح فى صورته ونيته، فقد أفلح، ولو كان من أعمال الدنيا البحتة، ألم يعلم ص _042(1/36)
الله نبيه أن كل شئون حياته، بعد نسكه وصلاته خالصة لله؟ ! " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " ولا سبيل إلى ذلك الا بإصغار ما عدا الله من غايات، والتزام توحيده أبدا، ومن ثم يعود إلى تقرير الغاية والمنهج، مرة أخرى. الله أكبر الله أكبر... لا إله إلا الله... إن كلمات الأذان تمثل العناوين البارزة لرسالة كبيرة فى الإصلاح، ولذلك جاء فى السنن الثابتة أن المسلم عندما يسمعها يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته، إنك لا تخلف الميعاد. * * * وفى يوم الفتح قد ترجع بنا الذكريات إلى رجال لم يشهدوا هذا النصر المبين، ولم يسمعوا صوت بلال يرن فوق ظهر الكعبة بشعار التوحيد، ولم يروا الأصنام مكبوبة على وجوهها مسواة بالرغام، ولم يروا عبادها الأقدمين وقد ألقوا السلم واتجهوا إلى الإسلام. إنهم قتلوا أو ماتوا إبان المعركة الطويلة، التى نشبت بين الإيمان والكفر. ولكن النصر الذى يجنى الأحياء ثماره اليوم لهم فيه نصيب كبير، وجزاؤهم عليه مكفول عند من لا يظلم مثقال ذرة. ص _043(1/37)
إنه ليس من الضرورى أن يشهد كل جندى النتائج الأخيرة للكفاح بين الحق والباطل، فقد يخترمه الأجل فى المراحل الأولى منه، وقد يصرع فى هزيمة عارضة ـ كما وقع لسيد الشهداء "حمزة" ومن معه. والقرآن الكريم ينبه أصحاب الحق إلى أن المعول فى الحساب الكامل على الدار الآخرة، لا على الدار الدنيا، فهناك الجزاء الأوفى للمؤمنين والكافرين جميعا. " فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون " ودخل رسول الله مكة فى رمضان، وظل بها سائر الشهر يقصر، ويفطر أكثر من خمسة عشر يوما، وكان قد خرج من المدينة صائما ثم أفطر هو وصحبه فى الطريق. فلما استقر الأمر، شرع يبايع الناس على الإسلام، فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء، فتمت البيعة على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا. * * * وهكذا دخل أهل مكة فى الإسلام، وإن كان بعضهم بقى على ريبته وجاهليته يتعلق بالأصنام ويستقسم بالأزلام، وأولئك تركوا للأيام تشفى جهلهم، وتحيى ما مات من قلوبهم وألبابهم. ومادامت الدولة التى تحمى الوثنية وتقاتل دونها قد ذهبت، فسوف تتلاشى هذه الخرافة من تلقاء نفسها. إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة، ولقد أفلحت خطة المسلمين فى تعمية الأخبار على قريش حتى بوغتوا فى عقر ص _044
دارهم، فلم يجدوا مناصا من الاستسلام، فما استطاعوا الجلاء ولا استجلاب الأمداد، وفتح العرب جميعا أعينهم فإذا هم أمام الأمر الواقع، حتى خيل إليهم أن النصر معقود بألوية الإسلام فما ينفك عنها!(1/38)