رفع أكف الضراعة
في
جمع كلمة أهل السنة والجماعة
[ الطبعة الثانية ]
الدكتور
محمد محروس المدرس الأعظمي
1421هـ 2000م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ارتضى لنا الإسلام ديناً ، وأتمَّه تشريعاً وتهذيباً ويقيناً(1)، إليه الملجأ في كل آن .. ليحفظنا ويقينا ، نصر نبيه ، وأظهر به دينه .. صدقاً ، وحقاً مبينا ، ووعد المؤمنين بالنصر ، ما إن كان لهم وصف الإيمان قرينا .
يقول المولى : { إنَّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }(2).
ويقول جل وعلا : { .. وكان حقاً علينا نصر المؤمنين }(3).
نصر الصحابة الكرام في المحن بعد غياب نور النبوَّة ، فثبتت بتبصيرهم أقدام بعد أن كادت أن تزل بقوَّة .
وقف – أبو بكر الصديِّق - رضي الله عنه - بعد وفاة المصطفى - عليه السلام - .. وقال :
[ من كان يعبد محمداً ، فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت ] .. بعد ذهول العباقرة الجهابذ ، وانكسار نفوس الصناديد الخناذذ ، فثبتت به – بعد فضل الله – الأمة ، ولا ريب فقد حوى أبو بكر - رضي الله عنه - حوى الفضل رداءً وعِمَّة .
×××××××
ويقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد فتح : العراق ، والشام ، ومصر .. ليُصرَّ على إبقاء الأراضي للدولة ، وإبقاء أهلها عليها ، ففتح بذلك فتوحاً للدين ، دونها فتوح الفاتحين ! .
×××××××
__________
(1) إشارة إلى معالجات الإسلام الثلاث المستوعبة لكلِّ النشاط الإنساني : عقيدة ، وأخلاق ، وأمور عملية [ تشريعية ] بأنواعها المتعددة .. عبادات ، ومعاملات ، ومناكحات ، وعقوبات ، وسياسة المخلوقين ، ومواريث .
(2) غافر / 51 .
(3) الروم / 47 .(1/1)
ويُحاصر المتجرؤون الضَّالون بلا حجة ولا برهان ، خليفة الرسول الأمين في المسلمين ، وظل ربِّ العالمين ، الإمام الشهيد عثمان بن عفَّان ، وهم واقعون تحت تأثير ابن السوداء اليهودي المعروف بـ [ ابن سبأ ](1)، واتَّبعوه فيما لم يأتهم به خبرٌ ولا نبأ .. فكان جوابه - رضي الله عنه - حين طلبوا إليه أن يخلع نفسه : [ والله لا أخلع ثوباً ألبسنيه الله ] .
×××××××
ويقف علي - رضي الله عنه - في صفين ليرد على شبهة الخوارج ، حين قالوا : [ لا حكم إلا لله ] !! .. بقوله : [ كلمة حقٍ أريد بها باطل ] ! ، فخاب هؤلاء في الأواخر والأوائل .. ولم يفوزوا بين الناس بطائل .
×××××××
ووقف الإمام الأعظم ، والمجتهد الأقدم ، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، جوزي عن دين المصطفى خيراً و كوفي ، من دعاة الزيغ والضلال التي كان يموج بهما العراق ، وكانت لأدنى الأسباب فيه الدماء تُراق ، وما تمتع أهلُه بـ : ظلٍ ، ولا نخلٍ ، ولا رقراق .. بل شُغلوا بمقولاتٍ ، وبالسفاسف والجهالات ، فتصدى لهذا كله في كتبه الكلامية : الفقه الأكبر ، والفقه الأبسط ، والعالم والمتعلم ، وفي رسالتيه إلى أبى يوسف والى عثمان البتِّي ، ... وغير ذلك .
__________
(1) يهودي من اليمن ، أظهر إسلامه رياءً وكذباً ، ونادى بـ : الوصاية ، وانحصار الخلافة بعائلة النبيِّ - عليه السلام - ، ودعا لعليٍّ - رضي الله عنه - .. ثم نادى به إلهاً !! ، ودعا الناس إلى خلع سيِّنا عثمان - رضي الله عنه - ، وتمكن من قيادة تلك الفتنة العمياء ، والضلالة السوداء ، التي ما تزال آثارها إلى اليوم باقية .. فلنحذر من [ أبناء السوداء ] – وهم كثرٌ – في أزماننا .(1/2)
وفي [ الفقه الأكبر ] النصر المؤزر ، إذ أصَّل أصول عقيدة أهل الحق والاستقامة ، وأصحاب الشورى في الإمامة ، مفنداً دعاوى غلاة المتصوفة ، ومهاوي ظلالات المعتزلة المخرِّفة ، وترهات الخوارج على كل مألوف ودارج ، ونقض مقولات الروافض ، { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرَّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ( ثم يوم القيامة يُخزيهم ويقول أين شُركآئي الذين كنتم تُشآقُّون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين }(1).
وقد أنار [ لأهل الظواهر ] مغاني المعاني بالنور الباهر ، وسفَّه آراء [ جهم ] وإرجائه ، حتى ضاق عليه الفضا بأرجائه ، ولهذا ناصبه كل هؤلاء العدا ، وكثر فيهم التخبط - إلى اليوم - والعوا .
××××××××
وفي ذات الحين كان في [ طيْبة ] الطيِّبة الإمام مالك ، وهو لزمام الحق وناصية الصواب مالك ، أخرج من مجلسه المبتدعة ، وأنكر على المجسِّمة المشنِّعة ، وقال مقولته التي ذهبت مضرب الأمثال بين كلِّ محتاط وورع : [ الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلاَّ مبتدع ] .
×××××××
ثم قام أبو عبد الله الإمام أحمد بن حنبل الشيباني معتمداً الطريق المحمدي النوراني ، صامداً بوجه الإبتداع في الدين ، والقول فيه من غير تحرٍ أو بيانٍ مبين ، فصَمَد وصبَر في المحنة ، ولسنا نرجو له إلاَّ الغرفات في الجنة ، فثبَّت الله به أقداما كادت أن تزل ، ولولاه – بعد الله - لدخل من دخل في شرك المهانة والذل ، فهو حقاً إمام الهدى وإمام أهل السنة ، وبطل الثبات في المحنة .
__________
(1) النحل / 26 – 27 .(1/3)
ثم ثبَّت الله بعده بالإمام السنِّي الأثرى .. أبى الحسن الأشعري ، أمماً وأجيالاً على العقيدة الصحيحة للأُمة ، وأجهز على محتَضِر مذهب مجوس هذه الأمة ، بتحوُّله من عقيدة المعتزلة(1)، التي أضحت بعده منعزلة ، إلى عقيدة المسلمين المؤيَّدة بالنصوص المنَزَّلة ، لا بعقول من يحسُن بهم بيع الخُضر والبُقول ، فميادين العقيدة الحقَّة مصونةٌ بفرسان لا يترجلون عن ظهور الخيول ، ولا يضعون عن أنفسهم لامَّة(2)الحرب ، ولا يصابون بالخَوَر إو الذهول .
×××××××
ثم انتحل [ الروافض ] في زمن البويهيين مقولات أولئك الأموات ، و لكن بعداً لهم و هيهات ، إن [ يرجِع ] أولئك من الأجداث .. هيهات .
ثم نرى وقد انقضَّ على هؤلاء وأولئك شيخ الإسلام ، وسيف أهل السنة الصمصام ، [ بمنهاجه ] القويم من غير منَّة ، وله الحق كل الحق حين سماه بـ [ منهاج السنة ](3).
__________
(1) المعتزلة : مذهب اعتقادي ، نشأ بالبصرة حين [ اعتزل ] أحد تلامذة التابعيَِّ الجليل الحسن البصري .. وهو المسمَّى [ واصل بن عطاء ] ، وأحدث مقولاتٍ في المسلمين ، حتى إذا ما تركها أصحابها ، تصدَّى لها [ الروافض ] يالتصديق ، وجعلوها دينا !! ، وأرادوا تعزيز مقزلاتهم بها .. ولكن هيهات هيهات ، أن يُفلحوا وعلماء الحقِّ يفضحون لهم كلَّ افتئات .. والحمد لله .
(2) لامَّة الحرب : عدَّتُها التي يلبسها المقاتل .
(3) كان الملك [ خدابندة ] – من نسل هولاكو – قد أسلم فانتحل مذهب أهل السنَّة والجماعة ، وعرض له تطليق امرأته التي يُحبُّها حبَّاً جماً –وكان الطلاق بالثلاث - ، فاستفتى العلماء فلم يُفتهِ أحد .. فجاء [ المطهَّر الحُلي ] من الحلة ، فسأله : هل يشهد على طلاقك شاهدان ؟ ! ، فقال له الملك : ومن أين يأتي الشاهدان وأنا في خاصَّة حرمي ؟!! .
فأفتاه بعدم وقوع الطلاق !! ، رغم إخباره هو عن فعله ، [ والإقرار سيِّد الأدلة ] . ثم تحوَّل ذلك الملك إلى مذهب الرفض !! ، فألف له المذكور كتاباً أسماه [ مفتاح الكرامة ]! .. وأسماه العلماء [ مفتاح الندامة ] ، وقد تصدَّى له شيخ الإسلام الإمام الهمام [ بن تيمية ] المعاصر له ، فألف كتابه الشهير الذي نصر به الحق ، وأظهر به مذهب أهل السنَّة .. المسمى [ منهاج السنَّة ] ، واختصره تلميذه الإمام الذهبي بكتابه المسمى [ المنتقى من منهاج الاعتدال ] .. وحريٌّ بكلِّ مسلمٍ أن يرجع إلى ذلك الكتاب المستطاب ، وإن فاته فإلى مختصره المُهاب .(1/4)
×××××××
إن مقولات أولئك الأبعاد – تالله – مردودة منقوضة ، وعقيدة الأمة المسلمة المسلَّمة .. مصانة محفوظة ، { إنّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون }(1).. وهل الذكر إلاَّ : تشريع ، وأخلاق ، وتبيان لما يعتقدون !.
إذن هم في ميدان : الحِجاج .. والنِزال .. والطعان ، ليس لهم : حُجَّة .. ولا دليل .. ولا بيان ، فتراهم يتوقَّون المواجهة و[ يتَّقون ] ، ويا ليتهم لربهم يتَّقون ، لكنهم في الدس .. هم كأصحاب الرَّس ، ولهم في : تقطيع الأقوال .. وبتر المقال .. بل وإصدار طبعات كاملات من الكتب الأمَّهات ، لأجل تحريف رأيٍّ .. أو نسبة شين ، باع طويل لا يطال لأنَّهم هم أهل الكذب والمين !!.
لقد خسر هؤلاء - كعادتهم - الحروب ، فلجأوا إلى تغيير الأسلوب ، فانتحل [ قبيل ](2)منهم – في أزماننا – حبَّ السلف !! ، وما أُصدِّق قولاً لأحدهم ولو أقسم أو حلف ، وتزيَّوْا بزي البعض من مخلصي الشباب المسلمين ، وارتادوا مساجد الموحدين ، و[ رفعوا ](3)ووضعوا ، وأظهروا وأضمروا ، { بل الذين كفروا في تكذيب ( والله من ورائهم محيط ( بل هو قرأن مجيد ( في لوح محفوظ }(4).
×××××××
__________
(1) الحجر / 9 .
(2) فيه إشارة إلى قوله تعالى – عن إبليس _ : { يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنَّة ينزع عنهما لباساهما ليُريهما سوْءاتهما إنَّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنَّا جعانا الشياطين أولياء للمؤمنين } الأعراف / 27 .
(3) فيه تورية عن : الرفع والوضع في الدين ، والرفع في الصلاة متشبيهين ببعض أحبابنا .
(4) البروج / 19 _ 22 .(1/5)
لقد جرَّ أولئك [ الأبعاد ](1)البعض ممن لم يقف على مواقف أسلافنا من العلماء ، إلى الانتقاص منهم انتقاما لأنفسهم ، لما تركه الأسلاف من أثر في تطويق عقائدهم ، وفضح إبرامهم وعَقْدِهم ... ولو شئت لسمَّيْت لك وأفصحت ، وأبنت وأظهرت ، فليس الكلام مبني – فقط – على الدراية ، بل على : مشاهدة ، وتواتر ، رواية .
لقد اتخذ هؤلاء من بعض المدن العراقية .. موطناً لتدريب أُناسٍ على كيفية التحدث بلهجة أبنائنا في المساجد ، وأحبابنا من محبِّي رموز الأمة الأفذاذ الأمجاد ، ثم يُلقون بينهم الشُبه ، ويُثيرون عويصات المسائل ، ثم يجعلون بينهم وبين أهل الحق من أهل العلم كل حائل ، فهذا : حكومي ..! ، وهذا صوفي ..! ، وذاك منغلق ..! ، والآخر مفرِّق .. ! ، والخامس .. والسادس .. وهكذا !! .
ثم لا ترى أحداً يستدل – في مجموع تهمه ـ بآية ولا بحديث .. بل ليس لأحدهم في اتِّهاماته إلاَّ الرأي الحادس ! ، وليسس بالرأي الفاحص !.. فهم ينكرون الرأي ويجعلونه تطاولاً على النصوص ، وعزوفاً عن المنصوص !! ، وحين تكون المسألة لهم ، تراهم يستعينون بأرذل الرأي .. وليس أحسنه !! .
حتى إذا أسقطوا علماء الأمة ، ومراجعها في كل ملمَّة ، وأبعدوهم من حساب هؤلاء الأبناء ، ألقوا إليهم بمختلف الأنباء ، وخلا لهم الجو ، ولقنوهم بعض مسائل الزيغ والعتوِّ ، مقطعين من النصوص الأوصال !! ، داعين إلى : قطع الألفة .. والمحبة .. والوصال ، مع كل من يُظن به : التوجيه والتسديد.. أو فضح الزيف بالرأي السديد .
بل نراهم يلقنونهم وجوب اتِّهامِ العلماء بكل وصف دنيء ، والتفوُّه بحقهم بكل لفظ بذيء ، ويُنسونَهم قول المصطفى ، نبي الوئام والصفا : { ليس المسلم بلعان ، ولاطعان ، ولا فاحش ، ولا بذيء }.
×××××××
__________
(1) جمع [ بعيد ] ، وفيها تورية .. فالبعيد عنك ما ليس له قربٌ بك ، والبعيد .. وصفٌ لمن ليس له القبول عندك لفعله السئ .. وكلا الوصفين منطبقان على أولئك .(1/6)
جاءني – يوماً - من يقول : [ كيف تُكفِّرون من يسب الأصحاب ، أو يتهم عائشة - رضي الله عنه - بزنىً ، وهذا أبو حنيفة .. يقول : [ لا نكفر أحداً من أهل القبلة ] ؟! .
قلت : بل قطعتم كلمة واحدة فقط ، وهي .. [ بذنبٍ ] !! توضع بعد القبلة ، وقوله هذا ردٌّ على الخوارج المكفرِّين لمرتكبي الكبيرة ..أي : الذنب !! ، فهو لا يكفرُّ بالمعصية ، ويُكفِّر بالجحود ، ويكفِّر بتنكُّب الإجماع .. أو النصوص .
ثم قلت : فلا تجعلوا ما قال – من غيرِ تحرٍ ولا استدلال - لمصلحة الروافض ، فسَّابهم - رضي الله عنهم - .. ومتَّهمُها - رضي الله عنه - .. مخالف لقطعي النصوص ، وصريح المنصوص ، بل عند الأحناف لا تقبل له توبة ، لتعلق حقهم - رضي الله عنهم - الشخصي بذلك ، فلا بد من حد الردة لعدم قدرتهم على الإثبات ، ولعدم تنازل المطعونين لأنهم أموات ... فبُهت ذلك المغفل !! .
×××××××
وبالمقابل .. نجد من أولئك [ المندسين ] من انخرط في سلك بعض الطرق الصوفية ، وبالغ وغالى ، وتبرا ووالى ، وأظهر من أمره فيهم ، ما لم يُعهد من صادقيهم ، وتردد وعاود ، على تكاياهم وندد ، بالمخالفين الذين اتَّهمهم .. وأغلظ عليهم .. بل بالغ وشدَّد !!.
×××××××(1/7)
فيا لله من هذه الفتنة [ الباطنية الجديدة ] التي يُحسنها قومٌ ، وينخدع بها آخرون مؤمنون ، و [ الفاجر خبٌّ لئيم ] .. { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخِر وما هم بمؤمنين ( يُخادعون اللهَ والذين آمنوا وما يخدعون إلاَّ أنفسهم وما يشعرون ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ( وإذا قيل لا تفسدوا في الأرض قالوا إنَّما نحن مصلحون ( ألا إنَّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أ نؤمن كما آمن السفهاء ألا إنَّهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزئون ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ، أولئك الذين اشتروا الظلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين }(1).
لقد أضحى أحبابنا يتراشقون بالاتهامات ، ويغلظون في العبارات ، وقد أُنسوا أدب الإسلام في السخط والرضا ، والصبر ولو على نار الغضى ، وأضحى هذا لا يصلي خلف هذا !! ، وذاك لا يدخل مسجد أولئك !! ، ونسوا أنهم .. [ أهل السنة والجماعة ] ، وأن .. [ الفرقة عذاب ] ، وأمسوا مثل أولئك الذين تعددت في [ المغارب ] جماعاتهم !! ، وكانوا مثل من تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، ممن انقسموا إلى : فرق .. ونحلٍ : [ أصولية ] و [ أخبارية ] !! .
ولقد انقسم أصوليُّوهم – بعد هذا – إلى عدد كل عالم متبوع عندهم ، فكان العلم فيهم مفرِّقاً !! ، وينبغي أن يكون عندكم – أيها الشباب- مجمِّعاً ، ولا تجعلوا أولئك الباطنيين يضحكون ، ويعودون إلي شياطينهم وهم يتباشرون !! .
×××××××
__________
(1) البقرة / 8 – 16 .(1/8)
أيها الشباب ... ..إنكم من : حفظة القرآن ، وحملته ، بل يأخذ ترتيلكم بمجامع القلوب والألباب ، ولا نظن أحدا منكم لم يقرأ .. قوله تعالى : { يا آيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }(1)..
بل أتموا الحجرات كلَّها . إن التبيُّن من التديُّن ، والسؤال ديدن أهل الحجى والعقل ، ولكم في قوله تعالى :
{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }(2).
×××××××
أيها العلماء ... { ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }(3).
لقد جاءكم في محكمِ آياتِ قرآنِ ربِّكم :
{ إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ... }(4).
فليس الخطأ مما يُصحح بالخطأ ! ، وليست الجفوة تُزيل الهفوة ! ، ولا تُزال الهوَّة بالقوَّة ! ، بل ليس ما يجري .. مما يهني ويُمري ! .
×××××××
أيها العلماء ... لقد وصلكم دين محمد - عليه السلام - ، سليماً معافى ، وسالماً كاملًا ، فجعلناه جميعاً على ما نراه !! .
إنَّ الخطاب في الكتاب الكريم إليكم ، والتعويل عليكم ، والإصلاح منكم ، والاحتواء لدسائس الباطنيين يكون بكم .. فما خاطب الله - جل جلاله - الجهلاء ليُصلحوا ما فسد ، أو يُعيدوا إلى الإيمان من جحد ، بل كان عزيز خطابه إلى [ أهل العلم ] من المؤمنين .
×××××××
أيها الذاكرون العابدون ... اعبُدوا الله على بصيرة ، وتعلموا من أمر الدين ما يصلح الظاهر والسريرة ، وليكن أحدكم مبعوث الدين إلى الخلق وسفيره .
__________
(1) الحجرات / 6 .
(2) الأنبياء / 7 ، الأنبياء / 43 .
(3) الحديد / 16 .
(4) النحل / 125 .(1/9)
واعلموا .. أن العالم مفضلٌ على العابد ، دلت على ذلك أقوال الرسول العالم العابد ، خوطب بـ [ اقرأ ] قبل كل خطاب ، بل وسيرة المتقدمين من ساداتنا والأصحاب ، وخلق أهل الطريق ، وسيرهم تعلمنا ما ينبغي في المأزِق والضيق .
×××××××
أيُّها المسلمون ... إحذروا كل دعوة تُلقى ما لم يكن معلوماً لكم مَنْ القائل .. وما قيل ، وارجعوا إلى أهل العلم في كل دقيق وجليل ، فالعلماء .. حجة الله في خلقه ، وورثة نبيه في علمه ، والتعلم شاف للمتعلم ، والتعليم زكاة العلم ، وبه بُعث نبيكم :
{ .. يعلمهم الكتاب والحكمة .. } .
فإلى العلم .. فإن فيه : الحصانة والحصافة ، وبه حسن السياسة والكياسة ، ولا تكونوا بددا ، ولا طرائق قددا ، { إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء ... }(1)، بل كونوا عباد الله إخوانا ، و { يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار } .
×××××××
واليوم ... ..نريد أن نخيِّب ظنَّ الباطنيين الذين خرقوا في جسم أهل الحق والاستقامة الخروق ، وأودعوا في أفئدتهم غلَّ اليهود ويريدون تعليمنا لذوينا الجحود والعقوق !! .
وها نحن نضع بين أيدي الأبناء رسالة [ العالم والمتعلم ] للإمام أبى حنيفة - رضي الله عنه - ، ونضع صفحات مختارة من كتاب [ الإبانة قي أصول الديانة ] لناصر السنة وقامع البدعة الإمام أبي الحسن الأشعري ، ليتضح لنا أن :
الفقهاء .. والمتصوفة .. وأهل الحديث .. كلهم من : [ أهل السنة والاستقامة ] و [ أهل السنة والجماعة ] ، لا تعتريهم فُرقة ، ولا تخرج من بين صفوفهم فِرقة .. إلى يوم الدين - إن شاء الله تعالى - .
ويتَّضح لنا أنَّ :
لجوء من جاء بعد الصحابة من سلف الأمة إلى التأويل مضطرين ، بعد أن ذرَّ قرن الخلافات ، وكثرت الافتراءات ، والنزعات والنزغات ، ومع كلِّ ما تقدَّ فقد تساهلوا مع أقوامٍ من هؤلاء حين حملوا أقوالهم على التأويل ، وما أخرجوهم من بين المستدلين بالدليل !! .
__________
(1) الأنعام / 159 .(1/10)
لقد امتحن أولئك الهداة فاجتازوا ونجحوا ، وَوَفَقوا وواءموا ، ولو سكتوا بعد نجوم سئ المقولات ، وجديد الادِّعاءات .. لاتّهموا بالعجز !! ، ويا ليت ذلك العجز المنسوب يقف عندهم ، ولا يتجاوزهم إلى دينهم ، ولقلنا : عالمٌ واحدٌ عجز .. والعجز للبشر جبِّلة .
ولكن في عجزهم رميٌ للدين بمثل ذلك ، وسيفرح أعداؤنا .. هؤلاء وأولئك ! ، فهل ترك التأويل أجدى ، أم إنقاذ الدين به أولى وأعلى ؟؟.
لقد لجأ الكثير إلى التأويل البعيد .. بل وغير السديد – في أزماننا - ، وتأولوا آياتٍ لم يقل بمثل تأويلهم لها من [ السلف ] قائل ، وقبلناه منهم لغيرتهم على الدين ، وتمسكهم بحبله المتين .. وإلاَّ قل لي بربك :
هل قال السلف الصالح - رضي الله عنهم - بـ : وجود النظرية الانفجاريَّة للكون في القرآن !! .
وهل قالوا بوجود نظرية [ آنشتاين ] القائلة بتحول الطاقة إلى كتلة .. في القرآن العظيم !! .
إن كلُّ ما تقدم يجعل مغالاة البعض منَّا في حال الاختلاف المبرر المقبول ، الذي لا يُخرج المؤمن عن الإيمان والأصول ، أمرٌ لا يقبله المأثور في تلك الأمور !! ..
فمن أين أتينا بتلك المواقف المتشنجة ؟؟ ! ..
وتلك الفوضى والهرجلة ؟؟ ! ..
فحريٌّ بنا أن نتأسى [ بالسلف ] في هذه المسألة ، وإلاّ :
{ أ لم ترَ إلى الذين بدَّلوا دينهم كفراً وأحلُّوا قومهم دار البوار } 20 .
أ فترضون أن نكون ممن قال فيهم ربُّهم :
{ .. أ فتؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض فما جزاء ذلك منكم إلاَّ خزيٌّ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردُّون إلى أشد العذاب وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون }(1).
على أن من يبعد منَّا – جميعاً أيَّاً كنا – قليلاً .. ناصَحنا وناصحناه ، وليكن أحدنا مجاهراً بأننا لقول نبينا قد اتَّبعناه :
{ الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة .. } .
__________
(1) البقرة / 85 .(1/11)
فالمناصحة تلقي عن كواهلنا الواجب الشرعي ، ثم نترك كلاً يَلقى ربَّه وقد قامت عليه الحجة ، ونخزي من تسللوا إلى حصوننا المنيعة ، بأساليبهم الشنيعة ، ونصلي بعضنا خلف بعض ، ونحسن الظن بأهل الاستقامة ، المتمسكين بالكتاب والسنة ، ولا نصدق { كل خوَّان كفور } .
×××××××
إنَّ الحريَّ بنا – وهو ما يأمر به ديننا – أن نتّفق على المصطلحات ، قبل الخوض في التفصيلات .. فهل :
المتصوِّفة هم : أصحاب الحلول ، وأصحاب الشطح ، وأصحاب الاتحاد ، والعالة على مجتمع المسلمين ، الخائرين المنعزلين ؟؟ .
أم هم : ما عليه الرسول - عليه السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - ، القوَّامون في الليل ، المجاهدون في النهار ، الذين لا يأكلون إلاَّ مِن أكساب يدهم ، والذين رابطوا وجاهدوا ، وأسسوا للدين دولاً ، وكانت [ رباطاتهم ] .. هي الرباط ؟؟ .
وهل أنَّ السلف هم : أصحاب الفرن السابع الهجري ، أم هم أصحاب القرن الأول ، والذي يليه ، والذي يليه ؟؟ .
والله .. لو اتَّفقنا على معاني ما عليه نصطلح ، و[ حررنا المقام ] في موضع ما عليه نختلف ، حينئذٍ – تاللهِ - .. لا نزاع ، ولا خلاف ، وسيحيق المكر السئ بأهله ، ويعود أهل السنَّة .. :
أصحاباً للسنَّة فعلاً ، قامعين للبدعة عملاً وقولاً ، مجتمعةً قلوبهم ، متآلفةً على الحقِّ أفئدتهم ، دعاةً للحق ، ظاهرون لا يضرُّهم من خالفهم ، وهم يدُ على من سواهم .
ولم أنصفنا لما أنكرنا .. بل تناصحنا ,, ونصحنا .. فهل من تشبَّه بالكفار في : كلامه ، وملبسه ، وعاداته .. على شريعةٍ من أمره ؟؟ .
وهل من قلَّد في عقائده الإشراقيَّة ، وخالف قول الفقهاء وأهل الأصول في [ الإلهام ] وأمثاله ، على بيِّنةٍ في جهره وسرِّه ؟؟ .
فهي واحدةٌ بواحدةٍ .. والكلُّ مطالبون بـ :(1/12)
التحرِّي في كلِّ الأحوال ، والإنصاف في المقال ، والبعد عن المزالق ، واتِّباع سبيل أهل البحث والاجتهاد ، ففي قولهم أيَّاً شئت منهم – لا ريب – النجاة والسداد .
ولا تكونوا ممن يُزكون أنفسهم ، أو يزكون على الله - عز وجل - أحدا ، ويطعنون في الخصم ما ساقهم إليه إلاَّ البغض والعِدا ، ولا يُغالون فيمن أحبوا ، ولا يبخسوا قدر من خالفوا .. بل منهج الإسلام ..
يقول تعالى :
{ .. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى .. }(1)..
ويقول تعالى :
{ يا أيُّها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنَّكم شنآن قومٍ على ألاَّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون }(2).
ويقول :
{ وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتَّبعتم الشيطان إلاّ قليلا }(3)
أيمكن أن يكون الكفار أحسن حالاً منكم ؟ ؟ ! .
أ لم نرهم قد : اختلفوا ، واتَّفقوا ، ووالوا وعارضوا .. بل وتجمعهم الشدائد ، وليس لهم إلاَّ مصالحهم التي قد لا يقرُّها .. شرعٌ ، ولا عقل .
فهل نتنكب أمر الله - عز وجل - ويتمسك به الكافرون ؟ ؟ !
أليست مصلحة الدين تقتضي منَّا اليوم – بل وفي كلِّ حين – ألاَّ نكون على ما نحن عليه ؟؟ ! .
أليس من الأجدر أن نبحث حلول المسائل الجديدة ؟؟ ! .
أليس من الأجدر أن نقف على سرَّاق ثروات المسلمين من الكفار ، ونعدّ لهم ما يأمرنا به الشرع ؟؟ ! .
ألم يقل ربُّكم : { يا أيُّها الذين آمنوا خذوا حِذركم }(4)؟؟ !
×××××××
فهلاَّ رجعنا إلى أهل العلم المشهود لهم بـ : بالعفة والديانة ، والنُصفة والأمانة ، والحصافة في القول مع اللطافة .. ؟؟ .
__________
(1) المائدة / 152 .
(2) المائدة / 8 .
(3) النساء / 83 .
(4) النساء / 71 ، وراجع : النساء / 102 .(1/13)
أم أننا – ويا للأسف - رجعنا إلى : أهل البذاءة مع الجهل ، والمجاوزة في الكلِّ ، والدعاوى القاتلة ، والإدِّعات الفارغة ، والتطاول والتشامخ ، وإلى الداعين إلى عدم التحري .. بل وعدم التسامح ؟؟ .
فأنظر .. أيُّ الفريقين أهدى وأوضح سبيلا ؟؟ ! .
×××××××
وإلى من ادَّعى من غير حجة .. فإليه قول الإمام أبي الثناء محمود شهاب الدين الآلوسي البغدادي المتوفى سنة 1270هـ ، في ثبوت كتاب [ الإبانة ] إلى الإمام أبى الحسن الأشعري ، وأرغم بذلك زعم المفتري ، وأنه آخر ما فارق الدنيا عليه ، وهو نفس طريق السلف ، فأضحى السلف والخلف ، في بحبوحة عيش الشريعة الغراء في كل خير وترف(1).
ومن جعل كلمة [ الخلف ] سبَّةً .. فهل هو إلاَّ منهم ؟ ؟ ! .
وهل من سلفٍ إلاَّ وهناك خلف ؟ ؟ !
أيُّها القوم .. إنَّ العبرة [ بحقيقة المسمَّيات لا باختلاف الأسماء ] ، فلا تكونوا كأولئك الذين فرضوا التلازم – من غير لازم – بين :
الدين ... . و التخلف ! .
والرجعية ... . و عدم الفهم !.
والكتب الصفراء و الجهل !.
وبين .. وبين .. الخ .
×××××××
وفي الختام .. ندعوا الله أن يجعل أعمالنا خالصه لوجهه ، مرعية بعطفه ، وأن يقع ما نقول في قلوبٍ مؤمنة ، وعقولٍ مدركة ..
وأن .. يؤلف القلوب ، ويزيل المفاسد ، فالإسلام ما انتصر بفرقة ، ولا انتشر مع الفتنة ، فمن عهد الرسالة إلى نهايات عهد عثمان - رضي الله عنه - هو بتوسع دائم ، وتوقفت الفتوحات أيام الخلافات زمن سيدنا علي - رضي الله عنه - ، فلا تُيْقضوها وهي نائمة ! .
ألا هل بلغت ؟ ؟ .. اللهم اشهد ... والحمد لله رب العالمين ~~
الفقير إلى لطف المولى الغزير
العبد المقرِّ بالذنب والتقصير
د . محمد محروس آل العلاقة بند الأعظمي الطائي الحنفي
عامله الله وآباءه بلطفه الجليِّ والخفيِّ
[ الشهيرة عائلته بآل المدرِّس ]
__________
(1) روح المعاني للآلوسي – 10/ 60 .(1/14)