بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله
هو الإمام المجاهد، والبطل المجالد، مجهز الغزوات، رافع الرايات، أمير المسلمين في زمانه، العلامة الزاهد العابد، الشهيد بقية السلف الصالح، تلميذ إمام الدعوة السلفية؛ عبد العزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان.
ولادته:
ولد رحمه الله بالدرعية سنة 1132هـ، في بيت إمارة وشرف من أب اشتهر بالعدل والحزم بين أمراء نجد وغيرها. ووالدته رحمها الله اشتهرت بالرجاحة والرأي وهي التي أشارت على زوجها محمد بن سعود بمناصرة إمام الدعوة رحمه الله تعالى.
طلبه للعلم:
بدأت الدعوة الإصلاحية تشتهر وعبد العزيز بن محمد لم يبلغ العاشرة من عمره، وحينما بلغ سن الشباب أخذ يرتحل هو وأعمامه الثلاثة مشاري وثنيان وفرحان إلى شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب في العيينة ويطلبون العلم على يديه، وكان ذلك بداية مظاهر الخير والصلاح عليه ومما كان له أبلغ الأثر أيضًا في انتقال شيخ الإسلام بعد ذلك إلى الدرعية.. وعلى أي حال فقد ظل ملازمًا للشيخ في العيينة والدرعية يتشرب منه التوحيد والفقه والتفسير والعربية وغيرها، حتى أضحى من أبرز تلامذته ومن أنجبهم.
ولايته الأمر بعد والده:
في سنة 1179هـ، انتقل والده محمد بن سعود إلى جوار ربه، رحمه الله تعالى، فقدمه شيخ الإسلام لمبايعة الناس لنا يعلم من كفاءته، على أن عبد العزيز بن محمد لم يخرج عن مشورة شيخه في أمور الدولة العسكرية وغيرها.
وقد تولى الأمر وهو في الخامسة والأربعين من عمره، واتسع نطاق الدولة في عهده اتساعًا كبيرًا
صفاته:
كان رحمه الله كثير الخوف من الله وكثير الذكر، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم، ينفذ الحق ولو كان في أهل بيته وعشيرته لا يتعاظم عظيمًا إذا ظلم، فيقمعه ولا يتصاغر حقيرًا ظلم، فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن.(1/1)
وكان رحمه الله لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى.
كما كانت له حلقات للتعليم بعد الفجر في جامع الطريف المشهور وبعد الظهر وبعد المغرب فيكون بين معلم أو متعلم.
وذلك إلى جانب تصريف أمور الدولة وتفقد أحوال الرعية.
ومن عادته القيلولة قبل صلاة الظهر على سمة الأوائل في ذلك.
وله ورد من الليل لا يتركه... صاحب دمعة وإنابة كثير الدعاء في جوف الليل خاصة للمسلمين والضعفاء من رعيته له هيبة ووقار من آثار التهجد.
وإلى جانب ذلك فقد كان أبرز قائد عسكري في الجزيرة العربية في أيامه شجاعة وإقداما وجلدا على مقارعة الخطوب وتحمل الأزمات وركوب الصعاب، يجيد فن حرب العصابات وعن طريقها استطاعت غاراته أن تهدم القباب فوق القبور والمشاهد في النجف وكربلاء دون خسائر بشرية تذكر، كما أنه يملك إدارة الجيوش النظامية الجرارة رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
ويذكر من تواضعه رحمه الله أن الصبيان من أهل الدرعية إذا خرجوا من عند المعلم آخر العصر يصعدون إليه في مقره ويعرضون عليه ألواحهم ومحفوظاتهم فمن أبدى منهم نشاطا أعطاه عطاءً جزيلا.
ومن صور زهده وعفافه عن مال المسلمين أنه كانت تأتيه الأموال من الغنائم والزكوات من أطراف الجزيرة البعيدة فلا تحرك في نفسه شهوة لحيازتها والتمتع بها بل كما ذكر أنه جاءه في يوم خمس وعشرون حملاً من الريالات فمر بها وهي مطروحة فحركها بطرف سيفه وقال: اللهم سلطني عليها ولا تسلطها على ثم فرقها من يومه ذاك.
رحمته بالرعية:
كان رحمه الله كثير الرأفة بالرعية وكان يبث الصدقة والأموال فيهم وخاصة الضعفاء والمساكين منهم، يكثر الدعاء لهم وكان يقول في ورده «اللهم أبق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها».(1/2)
وكان يأتيه المحتاج من كل فج فيعطيه ويجزل ورتب ديوانا للعطاء لطلبة العلم والأئمة والمؤذنين. وكان المساكين يكتبون إليه بحوائجهم وربما كتب الواحد عنه وعن زوجته وأمه وابنه وأخيه فيوقع لكل كتاب منهم عطاءه.
وكان إذا مات الرجل في جميع النواحي يأتي أولاده إليه يستخلفونه فيعطيهم وربما كتب لهم راتبا في الديوان. كما كان يتفقد الأيتام والضعفاء بالدرعية ويسأل عنهم ويقضي حوائجهم، ومن كان ضعيفا من النواحي يأمره بأن يأتي إلى الدرعية ويقوم بجميع لوازمه وحاجياته.
قوته وحزمه:
أما عن قوته وحزمه وشدته على المجرمين وحصول الأمن بفضل الله تعالى ثم بذلك فقد حدث منه ما عجزت الأقلام عن تسطيره.
وإليك نبذة من ذلك:
قال ابن بشر في تاريخه عنوان المجد: وكانت الأقطار والرعية في زمانه آمنة مطمئنة، فهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة صيفًا أو شتاءً إلى أي مكان شاء لا يخشى أحدًا إلا الله لا سارقًا ولا قاطع طريق، وكان أهل النواحي في أيام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمراعي من الإبل والخيل والبقر والأغنام ليس لها راعٍ حتى ينقضي الربيع إلا ما كان من الخيل الجياد فإن لها من يتعهدها، وذلك كله بفضل الله ثم ببركات دعوة الشيخ الإمام المصلح وظهور حكم صالح يخشى الله في رعيته ويعف ويقيم حدود الله.
مقتله رحمه الله تعالى:
قتل رحمه الله في سنة 1218هـ في العشر الأواخر من شهر رجب على يد رافضي من أهالي النجف في صلاة العصر وهو ساجد.. وذلك نقمة على ما صنعته جيوش هذه الدولة السلفية من القضاء على الأوثان عند قبورهم.(1/3)
ويرى البعض أنه بإغراء من والي بغداد آنذاك رهبة من توسعات هذه الدولة السريعة.. ومثل هذا الفعل هو الذي يستطيعه الجبناء.. ولم يكن عبد العزيز رحمه الله ليحجب نفسه، وكان يرحب بالضيوف والمجاورين، ولذلك قدم هذا المجرم وزعم أنه من أتباع هذه الدعوة السلفية ويريد الإقامة بالدرعية تنسكا وليطلب العلم فيها فأكرمه عبد العزيز وأمره له بعطاء، فأظهر النسك والعبادة والصلاح حتى استكمل الكتاب أجله وأراد الله إكرام عبد العزيز بالشهادة في صلاة العصر في التاريخ المذكور فوثب من الصف الثالث والناس سجود فطعنه بخنجر مسموم في خاصرته أسفل بطنه، فاضطرب أهل المسجد وماج بعضهم ببعض لا يدرون الأمر، فأهوى المجرم على عبد الله بن محمد شقيق عبد العزيز إلا أنهما تجالدا فتمكن عبد الله من ضربه بالسيف فصرعه وتكاثر عليه الناس فقتلوه ثم صعدوا بالإمام إلى قصره وقد غاب ذهنه وقرب نزعه رحمه الله فما لبث أن توفي رحمه الله وعفا عنه وتقبله في الشهداء، وكان ذلك عن عمر يناهز ستًّا وثمانين سنة.
الناشر
* * * *
بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز
تقديم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله ودعا بدعوته ونصر سنته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.(1/4)
أما بعد (1) : فهذه رسالة موجزة يقدمها للقراء صاحب السمو الملكي الأمير المكرم بندر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود ضاعف الله مثوبته ونصر به الحق، وهي من مؤلفات عم جده الثالث تركي بن عبد الله الإمام العلامة ناصر السنة وقامع البدعة عبد العزيز بن محمد بن سعود أمير المؤمنين في عصره وحامل لواء الجهاد في زمانه في البلاد النجدية وملحقاتها، تولى الإمامة بعد أبيه محمد بن سعود يرحمه الله وبايعه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمراء والأجناد والمسلمون بعد وفاة أبيه يرحمه الله عام 1179هـ.
وقام بالإمامة والدعوة إلى الله سبحانه والجهاد في سبيله أحسن قيام واستمر في ذلك مجاهدًا في سبيل الله ناصرًا للسنة وقامعًا للبدعة وناشرًا لعلوم الشريعة ومناصرًا للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله ولأنصاره والداعين إلى سبيل الله بسيفه وسنانه وقلمه ولسانه حتى وافته المنية في عام 1218هـ.
رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجاته في المهديين وضاعف له المثوبة وجزاه عما قدمه للمسلمين من نصر وجهاد ودعوة وتعليم وعناية بشئونهم ومواساة لفقرائهم أحسن الجزاء وأفضله وبارك في أسرته أسرة آل سعود وأسرة آل الشيخ محمد ونصر بهم الحق كما نصره بأولهم وجعلهم من الهداة المهتدين إنه جواد كريم.
__________
(1) طبعت هذه الرسالة طبعتين: الأولى بعناية: علي الصالحي. والثانية على نفقة الأمير: بندر بن عبد العزيز وهذه هي الطبعة الثالثة لها.(1/5)
وهذه الرسالة التي يقدمها سمو الأمير بندر كتبها الإمام عبد العزيز يرحمه الله إلى العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وإلى غيرهم من علماء المشرق والمغرب، أبان فيها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي الحنبلي يرحمه الله وبين أنها هي الدعوة التي دعت إليها الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبارك عليه وعليهم أجمعين.
وأوضح فيها يرحمه الله حقيقة العبادة التي خلق الله من أجلها الثقلين وأرسل بها الرسل وأنزل بها الكتب.
وحقيقة الشرك الذي أنذرت منه الرسل وحذرت منه أممها وبين يرحمه الله الأمور التي أنكرها الناس على أصحاب هذه الدعوة المباركة وأوضح أدلتها.
وكشف الشبه التي تعلق بها عباد الأنبياء والأولياء.
فجاءت بحمد الله رسالة كافية شافية في بيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأقام الله عليه سبحانه الأدلة والبراهين في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين.
كما جاءت كافية شافية في بيان الشرك الوخيم الذي حذر الله منه عباده وأنكرته الرسل على أممهم وحكم الله على أهله بالخلود في النار وحرمانهم من دخول الجنة دار الأبرار كما قال عز وجل: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (1) .
وقال سبحانه: { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (2) .
وقال عز وجل: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (3) .
__________
(1) سورة المائدة آية 72.
(2) سورة النساء آية 48، وآية 116.
(3) سورة الزمر آية 65.(1/6)
ولعظم شأن هذه الرسالة وكثرة فوائدها رأيت أن أقدم لها هذه المقدمة الموجزة تأييدًا لما تضمنته من الحق وبيانًا لشيء من ترجمة مؤلفها وعلمه وفضله وما قام به من النصرة لدين الله والجهاد في سبيله بسيفه وسنانه وقلمه ولسانه ومناصرته دعاة الحق وقمعه دعاة البدعة والشرك، رحمه الله وأكرم مثواه. وأسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يضاعف الأجر لكاتبها وأن يجزيه أحسن الجزاء وأفضله عما قام به من النصر لدين الله والدعوة إلى سبيله والجهاد لأعدائه، وأن يوفق سمو الأمير بندر لكل خير وأن يضاعف مثوبته، وأن يجعلنا وإياه وجميع أسرته وإخوانه وجميع أسرة آل الشيخ محمد يرحمه الله من أنصار الحق والهدى، وأن يعيذ الجميع من مظلات الفتن إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
حرر في 15/6/1407هـ
عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
* * * *
المقدمة
لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله بعث المرسلين مبشرين ومنذرين، يبشرون الموحد المتبع سبيلهم، وينذرون المشرك المخالف طريقهم، وإن دين الإسلام الذي بعث الرسل جميعًا به دين التوحيد هو الغاية من خلق الإنس والجن، فما خلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (1) .
__________
(1) سورة الأنبياء آية 25.(1/7)
وقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } (1) .
فالعبادة الخالصة خلق من أجل تحقيقها الثقلان، وما أسماها من غاية، وما أعظمها من تشريف.
وإن الرسل صلوات الله عليهم إذا بلغوا ثم رحلوا خلف من بعدهم خلوف، غيروا طريقهم وتنكبوا سبيلهم، متبعين السبل المتفرقة، يقودهم الشياطين، شياطين الإنس والجن، ويحثهم داعيا الشهوة والشبهة، ولهما في القلوب شر مستطير، وتأثير كبير خطير.
وإن رسولنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، أبان التوحيد وحمى حماه وأوضح سبيل المشركين بالبلاغ والبيان، - صلى الله عليه وسلم - ، وجزاه الله عن أمته خير ما جزى به نبيًا عن أمته، فما توفاه الله إلا والتوحيد الخالص قد عَمَّ الأرض الطيبة، وتربى عليه صحابته الكرام، الذين كتب الله على أيديهم النصر، وإرساء الدين، دين الإسلام، دين التوحيد والبراءة من الشرك، في أكثر أقطار الأرض والحمد لله رب العالمين.
وبعد هذا الخير العظيم، وبعد انقضاء القرون المفضلة، ظهرت في الناس دعوات شركية، ظاهرها – للمغرور – الإسلام، وباطنها – للمتبصر – الإلحاد، منها الدعوات الإسماعيلية الباطنية التي أنتجت دولة العبيديين.
وهذه الدولة انتشر في زمانها – بتنشيط دعاتها، ودعمهم وتقويتهم – البدع والشركيات العظيمة، حتى تربى عليه الصغار، وأصبح كالمعروف بعد أجيال. ولا غرو، فإن التربية التي يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير إذا كانت من ذي سلطان وقوة فلها آثار سيئة على الدين والشريعة، فالإنكار يقل والراغب يكثر، والنفوذ والتقرير للبدع والشرك في ازدياد، وغير ذلك.
ومع إحداث هؤلاء بعض ما وصفناه وكثيرًا طويناه لم يعدم المسلمون من ينبه على هذه البدع والشركيات منذ ظهورها إلى يومنا هذا.
__________
(1) سورة الذاريات آية 56.(1/8)
ثم إن هذه الشركيات مع تطاول الزمان، وتتابع القرون، أصبحت كالشيء المعروف غير المنكر، المحبوب غير المكروه، لا يحوم خاطر على أنه شرك وجاهلية إلا من سلم له دينه وتوحيده، وقليل ما هم.
وكان من قدر الله الذي شرف به بعض عباده أن هيأ لنصرة التوحيد رجلاً أقض مضجعه وأسهر ليله حال المسلمين، الذين بعدوا عن التوحيد، وانساقوا مع الغواية والجاهلية، فمضى يدرس أحوالهم سنين متطاولة، وزمانًا مديدًا، يدرس واقعهم بالدلائل الشرعية الصحيحة الصريحة، ويدرس السبيل إلى النهوض بهم، وهدايتهم إلى دين الإسلام الذي بعث به رسول الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - .
فوفقه الله إلى ما أراد، فنصر التوحيد قولاً وعملاً، فأبدل الله مواقع وبلدان الشرك في الجزيرة، ببلدان التوحيد والإيمان والاتباع الخالص، فكانت بلادهم في وقته – وبعد ذلك ما شاء الله – أقرب ما تكون إلى حياة الصحابة - رضي الله عنهم - .
ذلك الرجل هو الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي، المولود سنة 1115هـ، والمتوفى سنة 1206هـ.
وما من شك في أن صاحب الدعوة والفكرة لابد له من سيفٍ يناصره، ويد تعضده، وإلا فما حيلته؟!
فكان من قضاء الله أن شرف بيت (آل سعود) بنصرة هذه الدعوة، دعوة تجديد دين الإسلام، ويا له من شرف يفوق كل شرف، وعز فوق كل عز، لو عقل ذلك ووزن، فَنَصَرَ الأمير محمد بن سعود يرحمه الله الشيخَ نصرًا مؤزرًا، فاتسعت رقعة البلاد في عهده، ما شاء الله أن يكون من ذلك.
ثم أتى بعد الإمام محمد بن سعود ولده العالم الصالح المجاهد عبد العزيز بن محمد بن سعود – يرحمه الله رحمة واسعة، فتولى الإمامة بعد أبيه بمبايعة الإمام محمد بن عبد الوهاب له سنة 1179هـ.
وعبد العزيز كان تلميذًا وطالبًا للعلم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فرباه أحسن تربية علمية، ونماه بعلوم الشرع، كما نماه والده بعلوم الجهاد والإمارة، فاجتمعت فيه الخصلتان الغاليتان العلم والقوة.(1/9)
وما أحسن وأبلغ اجتماع تلك الخصلتين في رجل ولي أمور المسلمين، إنه نتاج تربية العلماء والأمراء، أولئك يربون على العلم والدين، وهؤلاء يربون على الحكم والقوة. فأعظم بها طريقة، ثم أعظم بأثرها، وما عداها فطريقة يلحقها من النقص بقدر ما بعدت عن ذلك.
ففي عهد عبد العزيز بن محمد بن سعود يرحمه الله رحمة واسعة، توسع الموحدون في غزواتهم وخاضوا الحروب بالسنان واللسان، وبلغت الدعوة للقاصي والداني، والقريب والنائي، وكانت الدعوة في أشدها، وعلومها في أوجها.
ومن ذلك الجهاد اللساني، الذي لم يتركه الإمام عبد العزيز للعلماء غيره في هذه الرسالة التي قلت صفحاتها ولكنها هي المرتكز لكل المناقشات والردود على أهل الضلال، إذ فيها تركيز وتحقيق، يقر بها من طالعها.
وإن مثل هذا الجهاد لواجب على دعاة التوحيد، وأنصار الدعوة، وما التخلف عنه بمحمود، بل هو مذموم عند أهل العقول والحجى، وللتخلف آثاره الدامية الماحية. وما أطيب وأحسن وأوسع للصدر أن يعيد طبعة هذه الرسالة حفيد أخي كاتبها سمو الأمير المفضال بندر بن عبد العزيز بن عبد الرحمن حفظه الله، ووفقه لكل خير، فإن في ذلك أبعد الأثر لها، وأقر للعيون بها.
فعسى الله أن ينفع بها هذا اليوم، كما نفع بها ذلك اليوم، وأن يرجع للتوحيد قوته ونفوذه، ويكثر أنصاره والدعاة إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض في 20/12/1406هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
«من عبد العزيز بن محمد بن سعود»
إلى من يراه من العلماء، والقضاة، في الحرمين، والشام، ومصر، والعراق، وسائر علماء المشرق، والمغرب.
سلام علبكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد:(1/10)
فإن الله عز وجل شأنه، وتعالى سلطانه لم يخلق الخلق عبثًا، ولا تركهم سدى وإنما خلقهم لعبادته، فأمرهم بطاعته وحذرهم مخالفته، وأخبرهم تعالى أن الجزاء واقع لا محالة، إما في ناره بعدله، أو في جنته بفضله ورحمته.
قد أخبر عز وجل بذلك في كل كتاب أنزله، وعلى لسان كل رسول أرسله، كما نطقت بذلك الآيات القرآنية، وأخبرتنا به الأحاديث النبوية.
قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } (1) .
وقال سبحانه: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } (2) .
فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال، مختصة بجلاله وعظمته، فهي الغاية المحبوبة له والمرضية عنده، وبها أرسل جميع الرسل.
كما قال نوح لقومه: { اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (3) وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب، وغيرهم من الرسل كل قال لقومه: { اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (4) . وذلك أن الإله يطلق على كل معبود بحق أو بباطل. والإله الحق هو الله.
قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ } (5) . وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (6) . وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (7) .
فصل
فنحن لما علمنا وفهمنا من كلام الله وسنة رسوله وكلام الأئمة الأعلام - رضي الله عنهم - كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم من أئمة السلف.
__________
(1) سورة الذاريات آية 56.
(2) سورة الإسراء آية 23.
(3) سورة الأعراف آية 59.
(4) سورة الأعراف آية 59.
(5) سورة محمد آية 19.
(6) سورة النحل آية 36.
(7) سورة الأنبياء آية 25.(1/11)
أن «لا إله إلا الله» معناها ترك كل معبود سوى الله وإخلاص الألوهية له تعالى وحده.
وأن توحيد العبادة هو إفراد العباد ربهم بأفعالهم التي أمرهم بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، فإذا جعلت لغيره تعالى صار ذلك تأليهًا للغير مع الله، وإن لم يعتقد الفاعل ذلك.
فالمشرك مشرك شاء أم أبى، وليس التوحيد خاصا بإفراد الله بأفعاله تعالى وتقدس، كخلقه السموات والأرض والليل والنهار، ورزق العباد وتدبيره أمورهم، لأن هذا قد أقر به المشركون ولم يُدْخلهم في الإسلام ويسمى «توحيد الربوبية».
(العبادة لغة وشرعا)
معناها: لغةً: الذُّلُّ والخضوع.
وشرعًا: ما أمر به من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي من أفعال العباد وأقوالهم المختصة بجلال الله وعظمته، كدعائه تعالى بما لا يقدر عليه إلا هو من جلب نفع أو دفع ضر أو رجائه فيه والتوكل عليه، وذبح النسك والنذر والإنابة والخضوع، كل ذلك مختص بجلال الله كالسجود والتسبيح والتهليل، فكل ذلك مما قدمناه هو معنى قول (لا إله إلا الله).
ولا يغني أحد التوحيدين عن الآخر، بل صحة أحدهما مرتبطة بوجود الآخر.
لما فهمنا ذلك وعلمنا به قام علينا أهل الأهواء فخرجونا وبدعونا وجعلوا اليهود والنصارى أخف منا شرًا ومن أتباعنا.
ولم ننازع المخالف في سائر المعاصي بأنواعها ولا المسائل الاجتهادية، ولم يجر الاختلاف بيننا وبينهم في ذلك، بل في العبادة بأنواءها، والشرك بأنواعه.
فصل
فنحن نقول ليس للخلق من دون الله ولي ولا نصير.(1/12)
وجميع الشفعاء سيدهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن دونه لا يشفعون لأحد إلا بإذنه { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } (1) . { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } (2) . { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } (3) . { قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } (4) { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا } (5) .
وإذا كان كذلك فحقيقة الشفاعة كلها لله، ولا تسأل في هذه الدار إلا منه سبحانه وتعالى.
فجميع الأنبياء والأولياء لا يجعلون وسائل ولا وسائط بين الله وبين الخلق لجلب الخير أو دفع الشر، ولا يجعل لهم من حقه شيء، لأن حقه تعالى وتقدس غير جنس حقهم.
فإن حقه عبادته بأنواعها بما شرع في كتابه وعلى لسان رسوله وحقَّ أنبيائه عليهم السلام الإيمان بهم وبما جاءوا به، وموالاتهم، وتوقيرهم، واتباع النور الذي أنزل معهم، وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين والناس أجمعين.
وعلامة الصدق في ذلك اتباع هديهم والإيمان بما جاءوا به من عند ربهم، قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } (6) .
والإيمان بمعجزاتهم، وأنهم بلغوا رسالات ربهم، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتمهم وأفضلهم، وإثبات شفاعتهم التي أثبتها الله في كتابه، وهي من بعد إذنه لمن رضي عنه من أهل التوحيد.
وأمام المقام المحمود الذي ذكر الله في كتابه وعظم شأنه فهو لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) سورة البقرة آية 255.
(2) سورة الكهف آية 102.
(3) سورة الأنبياء آية 28.
(4) سورة الزمر آية 44.
(5) سورة النجم آية 26.
(6) سورة آل عمران آية 31.(1/13)
وكذلك حق أوليائه محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان بكراماتهم، لا دعاؤهم ليجلبوا لمن دعاهم خيرًا لا يقدر على جلبه إلا الله تعالى، أو ليدفعوا عنهم سوءًا لا يقدر على دفعه إلا هو عز وجل، فإن ذلك عبادة مختصة بجلاله تعالى وتقدس.
هذا إذا تحققت الولاية رجيت لشخص معين كظهور اتباع سنة، وعمل بتقوى في جميع أحواله، وإلا فقد صار الولي في هذا الزمان من أطال سبحته، ووسع كمه، وأسبل إزاره، ومد يده للتقبيل، ولبس شكلاً مخصوصًا، وجمع الطبول والبيارق، وأكل أموال عباد الله ظلمًا وادعاء ورغب عن سنة المصطفى وأحكام شرعه؛ فنحن إنما ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم، والذكر الحكيم، الذي فيه الكفاية لمن اعتبر وتدبر وبعين بصيرته نظر وفكر، فإنه حجة الله وعهده ووعده ووعيده؛ فمن اتبعه عاملاً بما فيه جد جده، وبان سعده، ومن خالفه واتبع هواه فقد ضل ضلالاً مبينًا.
والتوحيد ليس هو محل الاجتهاد، فلا تقليد فيه ولا عناد!
ولا نكفر إلا من أنكر أمرنا هذا ونهينا، فلم يعمل بما أنزل الله من التوحيد، بل عمل بضده الذي هو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، كما سنذكر أنواعه، وجعله دينًا، وسماه وسيلة عنادًا وبغيًا، ووالى أهله وظاهرهم علينا، ولم يقم بأركان الدين وامتنع من قبول دعوتنا، وأمر بقتالنا وإرجاعنا عن دين الله الحق إلى ما هم عليه من الشرك، والعمل بسائر ما لا يرضي رب العباد، ويأبى الله ِإلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
وما حجتهم علينا إلا أن المدعو يكون شفيعًا ووسيلة. ونحن نقول: إن هؤلاء الداعين الهاتفين بذكر الأموات والأحياء الغائبين يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم وإبراء مريضهم، ومعافاة سقيمهم، وتكثير رزقهم وإيجاده من العدم، ونصرهم على عدوهم برًا وبحرًا، ولم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة. وحقيقة قولنا أنَّ الشفاعة وإن كانت حقا في الآخرة، فلها أنواع مذكورة في محلها.(1/14)
ويجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص ما عدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون.
فالوصف: «من مات لا يشرك بالله شيئًا».
كما في البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة، وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا»، وحديث أنس بن مالك الذي في الشفاعة بطوله، وحديث الذراع الذي رواه أبو هريرة المتفق عليه. وإذا كانت بالوصف فرجاؤه أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب.
فصل
فالمتعين على كل مسلم صرف همته وعزائم أمره إلى ربه تبارك وتعالى، وبالإقبال إليه والاتكال عليه، والقيام بحق العبودية لله عز وجل، فإذا مات موحدًا شفع الله فيه نبيه.
بخلاف من أهمل ذلك وتركه، وارتكب ضده من الإقبال إلى غير الله بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلا من عند الله، والالتجاء إلى ذلك الغير، مقبلاً على شفاعته متوكلاً عليها، طالبًا لها من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، راغبًا إليه فيها، تاركًا ما هو المطلوب المتعين عليه، من إخلاص للعبادة لله وطلب الشفاعة منه، فهذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم، ولم تنشأ فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد.(1/15)
ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذنه وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما، لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب لتأثيره فيه بشفاعته، ولا سيما إن كانت من غير إذنه، فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قائل: { قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } (1) . وقال: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } (2) .
فمن طلبها من غير الله، فقد زعم أنها مشروعة بغير إذن الله ورضاه عن المشفوع له. والله يقول: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } (3) . وقال تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلهُمْ يَتَّقُونَ } (4) .
والعبرة في النصوص بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع ملاحظته وعدم الاقتصار عليه.
فصل
وأما دعاء الله عز وجل للغير، فقد مضت السنة أن الحي يطلب منه سائر ما يقدر عليه.
ودعوة المسلمين بعضهم لبعض مستحبة، قد وردت بها الآثار الصحيحة في مسلم وغيره، فإن كانت للميت فهي آكد. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف على القبر بعد الدفن فيقول: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل».
__________
(1) سورة الزمر آية 44.
(2) سورة الأنعام آية 94.
(3) سورة السجدة آية 4.
(4) سورة الأنعام آية 51.(1/16)
فالميت أحوج بعد الدفن إلى الدعاء، فإذا قام المسلمون على جنازته دعوا الله له، وشفعوا له بالصلاة عليه دون أن يدعوه. فبدل أهل الشرك والبدع الدعاء له بدعائه، والاستغاثة به والهتف باسمه عند حلول الشدة، وتركوا من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه.
كما بدلوا الزيارة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحسانًا إلى الميت، وتذكيرًا بالآخرة، بسؤال الميت نفسه وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب وخشوعه عندها أعظم منه في الصلاة والمساجد، وإذا كان الدعاء مشروعًا لسائر المؤمنين، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بأن يصلى ويسلم عليه ويدعى له بالوسيلة.
كما في الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة».
واستشفاع العبد في الدنيا إنما هو فعل للسبب لحصول شفاعته له يوم القيامة طبق ما جاء به قولاً واعتقادًا.
وإنما سئلت له الوسيلة مع تحققها تنويهًا بقدره، ورفعًا لذكره، ويعود ثواب ذلك إلينا. فهذا هو الدعاء المأثور وهو فارق بني الدعاء الذي أَحَبَّهُ والذي نَهَى عنه.
ولم يذكر أحد من ألأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة السلف فيما نعلمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل بعد الموت الاستغفار ولا غيره.
قال الإمام مالك يرحمه الله فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط عنه، والقاضي عياض في الشفاء والمشارق، وغيرهما من أصحاب مالك عنه: لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، ولكن يسلم ويمضي.(1/17)
وقال أيضًا في المبسوط عن مالك: لا بأس لمن قدم من السفر أو خرج إليه يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي ويسلم عليه ويدعو له، ولأبي بكر وعمر، فقيل له إن ناسًا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، وهم يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر؛ يأتون عند القبر فيسلمون عليه ويدعون ساعة فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه في بلدنا لا من الصحابة ولا غيرهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك: يكررون المجيء إلى القبر، بل كانوا يكرهونه إلا لمن جاء من سفر وأراده. انتهى.
وتلاوة الآية الكريمة في قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } (1) ... الآية. والاستغفار بحضرة القبر، وإن قال به جماعة من متأخري الفقهاء فهم لم يقولوا: يدعى صاحب القبر. بل المحفوظ عنهم أن الميت والغائب لا يسأل منه شيء لا استغفار ولا غيره، وحياته في قبره برزخية لا تقتضي دعاءه، وأصحابه أعلم بها منا، ولم يأت أحدهم إلى القبر فيسأله ويستغيث به.
وقد ثبت النهي منه عليه الصلاة والسلام أن يتخذ قبره عيدًا؛ قال أبو يعلى الموصلي في مسنده عن علي بن الحسين رضي الله عنهما، قال: أحدثكم حديثًا سمعته عن أبي عن جدي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم» رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته.
__________
(1) سورة النساء آية 64.(1/18)
وروى سعيد بن منصور في السنن عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وروى هذا الحديث أبو داود عن أبي هريرة. ورواه سعيد أيضا من حديث الحسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنه - ، وهذان الحديثان -وإن كانا مرسلين- فهما يقويهما حديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» وهو حديث ثابت باتفاق أهل العلم يتلقى بالقبول عنهم، وهو إن كان معناه لا تشدوا الرحال إلى مسجد من المساجد إلا إلى الثلاثة التي قد ذكرت، فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة إنما هو للصلاة فيها والدعاء والذكر وقراءة القرآن، والاعتكاف الذي هو من الأعمال الصالحة. وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحل إليه من بعيد، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي إليه كل سبت ماشيًا وراكبًا، وكان ابن عمر يفعله كما في الصحيح.
وكما أنه أسس على التقوى، فمسجده - صلى الله عليه وسلم - أعظم في تأسيسه على التقوى، كما ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «مسجدي هذا» فكلا المسجدين أسس على التقوى، ولكن اختص مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي لمسجد قباء يوم السبت.
وإذا كان السفر إلى مسجد غير الثلاثة ممنوعًا شرعًا مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة ويستحب أخرى، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يحصى، فالسفر إلى مجرد القبور أولى بالمنع. ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة التي أحدثها الملوك وأشباههم.
تنبيه:(1/19)
الأحاديث التي رواها الدارقطني في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام، كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل المعرفة، منهم ابن الصلاح، وابن الجوزي، وابن عبد البر، وأبو القاسم السهيلي، وشيخه ابن العربي المالكي والشيخ تقي الدين بن تيمية وغيرهم، ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل، وكذلك تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن، والأئمة كلهم يرون بخلافه.
وأجلَّ حديث روي في هذا حديث أبي بكر البزار، ومحمد بن عساكر، حكاه أهل المعرفة بمصطلح الحديث كالقشيري والشيخ تقي الدين وغيرهما.
وإنما رخص - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور مطلقًا بعد أن نهى عنها. كما ثبت في الصحيح، لكن بلا شد رحل وسفر إليها، للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك كما تقدم.
فصل
وإذا كان السفر المشروع لقصد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه دخلت زيارة القبر تبعًا لأنها غير مقصودة استقلالاً، وحينئذ فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل محذور عند القبر، كما تقدم عن مالك.
وما حكاه الغزالي يرحمه الله ومن وافقه من متأخري الفقهاء من السفر لأجل زيارة القبر - فمرادهم السفر المجرد عن فعل العبادة من الصلاة والدعاء عنده، بل يصلي ويسلم عليه ويسأل له الوسيلة، ثم يسلم على أبي بكر، ثم عمر.
ولا يقصد الصلاة عند القبر، للعنه - صلى الله عليه وسلم - المتخذين قبور أنبيائهم مساجد، واللعنة في كلام الله، وكلام رسوله لا تجامع إلا الحرمة والإثم لا مجرد الكراهة ولقوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
قال ابن حجر يرحمه الله في «الإمداد» ينوي الزائر المتقرب السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - وشد الرحال إليه، لتكون زيارة القبر تابعة. انتهى.(1/20)
واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد هو الموقع لكثير من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك الأصغر؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، كود، وسواع، ويغوث، وتماثيل طلاسم الكواكب ونحو ذلك؛ يزعمون أنها تخابطهم وتشفع لهم.
والشرك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الرجل المعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو بحجر. ولهذا تجد أهل الشرك كثيرًا ما يتضرعون ويخشعون عندها مالا يخشعون لله في الصلاة، ويعبدون أصحابها بدعائهم ورجائهم، والاستغاثة بهم، وسؤال النصر على الأعداء وتكثير الرزق، وإيجاده، والعافية، وقضاء الديون، ويبذلون لهم النذور لجلب ما أملوه، أو دفع ما خافوه، مع اتخاذهم أعيادًا، والطواف بقبورهم، وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على تربتها، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطلبات التي كان عليها عباد الأوثان يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم، فهؤلاء يسأل كل منهم حاجته وتفريج كربته، ويهتفون عند الشدائد باسمه، كما يهتف المضطر بالفرد الصمد، ويعتقدون أن زيارته موجبة للغفران، والنجاة من النيران وأنها تجب ما قبلها من الآثام، بل قد وجد هذا الاعتقاد في الأشجار والغيران، يهتفون باسمها، واسم من ينسبونها إليه من المعتقدين بما لا يقدر عليه إلا رب العالمين، وأكثر ما يكون ذلك عند الشدائد.
فصل
والله تعالى عز شأنه، قد فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه عبادة محضة، كقوله: { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } (1) . وقوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } (2) .
__________
(1) سورة الشعراء آية 92، وآية 93.
(2) سورة الأنبياء آية 98.(1/21)
والأنبياء والملائكة والصالحون كل معبود من هؤلاء داخل في عموم قوله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } (1) كما هو سبب النزول.
وقوله عز شأنه: { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } (2) .
فدعاؤهم آلهتهم هو عبادتهم لها، ولأنهم كانوا إذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا فهم يسألونها بعض حوائجهم بواسطة قربهم من الله ويطلبونها منهم بشفاعتهم لهم، فأمر الله العباد بإخلاص تلك العبادة له وحده، فلا يدعونهم ولا يسألونهم الشفاعة؛ فإن ذلك دين المشركين.
قال الله تعالى فيهم: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَه } (3) .
وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } (4) .
وإنما ذكر الله تعالى ذلك عنهم لأنهم يدعون الملائكة والأنبياء ويصورون صورهم ليشفعوا لهم فيما دعوهم فيه وذلك بطرق مختلفة.
(ففرقة) قالت ليس لنا أهليةُ مباشرةِ دعاءِ اللهِ ورجائِه، بلا واسطة تقربنا إليه وتشفع لنا؛ لعظمته.
(وفرقة) قالت الأنبياء والملائكة لهم وجاهة ومنزلة عند الله، فاتخذوا صورهم من أجل حبهم لهم ليقربوهم إلى الله زلفى.
(وفرقة) جعلتهم قبلة في دعائهم وعبادتهم.
__________
(1) سورة الأنبياء آية 101.
(2) سورة الكافرون آية 2.
(3) سورة سبأ آية 22، وآية 23.
(4) سورة الإسراء آية 56، وآية 57.(1/22)
(وفرقة) اعتقدت أن لكل صورة مصورة على صورة الملائكة والأنبياء وكيلاً موكلاً بأمر الله، فمن أقبل على دعائه ورجائه وتبتل إليه، قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله، وإلا اصابته نكبة بأمره تعالى.
فالمشرك إنما يدعو غير الله بما لا يقدر عليه إلا هو تعالى ويلتجئ إليه فيه ويرجوه منه بما يحصل له في زعمه من النفع، وهو لا يكون إلا فيمن وجدت فيه خصلة من أربع:
إما أن يكون مالكًا لما يريد منه داعيه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا، فإن لم يكن شريكًا كان ظهيرًا، فإن لم يكن كان شفيعًا. فنفى الله سبحانه وتعالى هذه المراتب الأربع عن غيره، الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي لأجلها وقعت العداوة والمخاصمة بالآية المتقدمة وبقوله: { وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } (1) .
وقوله: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } (2) .
وقوله: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (3) .
وقوله: { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ } (4) .
وقوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (5) .
وقوله: { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } (6) .
وأثبت سبحانه وتعالى ما لا نصيب فيه لمشرك البتة، وهي الشفاعة بإذنه لمن رضي عنه، وهو سبحانه يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
__________
(1) سورة الإسراء آية 111.
(2) سورة آل عمران آية 26.
(3) سورة غافر آية 16.
(4) سورة الانفطار آية 19.
(5) سورة الفاتحة آية 4.
(6) سورة طه آية 108، وآية 109.(1/23)
لهذا لما قالت الصحابة - رضي الله عنهم - : أربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ أنزل الله سبحانه: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (1) .
وقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ } (2) .
فصل
الموحد من اجتمع قلبه ولسانه على الله مخلصًا له تعالى الألوهية المقتضية لعبادته في محبته وخوفه ورجائه ودعائه والاستعانة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وأمثال هذا ناظرًا إلى حق الخالق والمخلوق من الأنبياء والأولياء مميزًا بين الحقين.
وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، ومحبته، وموالاته وطاعته وهذا من تحقيق «لا إله إلا الله» لأن معنى (الإله) عند الأولين ما تألهه القلوب بالمحبة، والتعظيم، والإجلال، والخضوع ونحو ذلك مما لا يكون إلا لله.
قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ } (3) . { تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (4) .
__________
(1) سورة البقرة آية 186.
(2) سورة الزمر آية 43.
(3) سورة البقرة آية 165.
(4) سورة الشعراء آية 97، وآية 98.(1/24)
وهم ما سووهم به لا في الصفات، ولا في الذات، ولا في الأفعال، كما حكى الله عنهم في الآيات، والشاهد لله بأنه لا إله إلا هو، وقائلها نافيًا قلبه ولسانه لألوهية كل ما سواه من الخلق، ومثبتًا به الألوهية لمستحقها وهو الله المعبود بالحق، فيكون معرضًا عن ألوهية جميع المخلوقات لا يتألههم بما لا يقدر عليه إلا الله، مقبلاً على عبادة رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب في عبادته ومعاملته على الله ومفارقته في ذلك كل ما سواه فيكون مفرقًا في عمله، وقصده، وشهادته، وإرادته، ومعرفته، ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا بالله، ذاكرًا له، عارفًا به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم بعبادته، وأفعاله، وصفاته، فيكون محبًا فيه مستعينًا به لا بغيره، متوكلاً عليه لا على غيره.
وهذا المقام هو المعني في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (1) . وهو من خصائص الألوهية التي يشهد له بها تعالى عباده المؤمنون.
كما أن رحمته لعبيده، وهدايته إياهم وخلقه للسموات والأرض وما بينهما وما فيهما من الآيات، من خصائص الربوبية التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، حتى إبليس عليه اللعنة معترف بها في قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (2) . وقوله: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } (3) .
__________
(1) سورة الفاتحة آية 5.
(2) سورة ص آية 79.
(3) سورة الحجر آية 39.(1/25)
وأمثال هذا الخطاب الذي يعترف فيه بأنه ربه وخالقه ومليكه، وأن ملكوت كل شيء في يده تعالى وتقدس، وإنما كفر بعناده وتكبره عن الحق وطعنه فيه وزعمه أنه فيما ادعاه وقاله محق. وكذلك المشركون الأولون يعرفون ربوبيته تعالى، وهم له بها يعترفون، قال تعالى: { قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ } (1) .
وقال: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ } (2) . وقال تعالى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } (3) . فمن دعا غيره تعالى لم يكن مخلصًا، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ اللهِ } (4) . وقال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } (5) . والآيات في هذا الباب كثيرة جدًا.
__________
(1) سورة المؤمنون آية 84، وآية 85.
(2) سورة العنكبوت آية 61.
(3) سورة العنكبوت آية 65.
(4) سورة المؤمنون آية 88، وآية 89.
(5) سورة الشعراء آية 69 إلى آية 74.(1/26)
وروى الإمام أحمد في مسنده والترمذي من حديث حصين بن عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا حصين كم تعبد؟» قال ستة في الأرض وواحدًا في السماء قال: «فمن ذا الذي تعد لرغبتك؟» قال الذي في السماء. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن» فأسلم فقال له قل: «اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي».
فمجرد معرفتهم بربوبيته تعالى واعترافهم بها لم تنفعهم ولم تدخلهم في الإسلام لما جعلوا مع الله آلهة أخرى يدعونها ويرجونها لتقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم عنده، فبذلك كانوا مشركين في عبادته ومعاملته. ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
والمقصود
من الأدلة السابقة ومما يأتي: يجب أن يفهم القارئ أن الدعاء هو العبادة؛ روى النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الدعاء هو العبادة». وفي رواية: «مخ العبادة». ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (1) . رواه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن صحيح، ورواه أيضًا النسائي، وابن ماجه والحاكم والإمام أحمد وابن أبي شيبة بهذا اللفظ.
وهذه الصيغة تفيد حصر الدعاء على العبادة فلا يخرج عنها لأنها من الصفات اللازمة التي ليس لها مفهوم يخالف الظاهر كقوله تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِه } (2) . إذ كل مدعو فهو إله قصد الداعي أن يكون مدعوه إلهًا أم لا، اتخذه المشركون الأولون أم لا، وليس ثم دعاء إله آخر له برهان.
فصل
__________
(1) سورة غافر آية 60.
(2) سورة المؤمنون آية 117.(1/27)
يوضح ما قدمنا أن الله سبحانه وتعالى وصف دين المشركين بقوله: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى } (1) الآية. فبين في هذه الآية أن قصدهم الشفاعة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك». قال: فقلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قال قلت ثم أي؟ قال: «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تصديقها { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } (2) .
فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أعظم الذنوب الشرك بالله الذي هو جعل الأنداد واتخاذهم من خلقه ليقربوهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».
فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
فصل
والشرك شركان:
أكبر، وله أنواع، ومنه الذي تقدم بيانه آنفًا. وشرك أصغر كالرياء والسمعة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه».
ومنه الحلف بغير الله لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من حلف بغير الله فقد أشرك» أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه ابن حبان.
__________
(1) سورة الزمر آية 3.
(2) سورة الفرقان آية 68.(1/28)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» أخرجه الشيخان وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له رجل ما شاء الله وشئت قال: «أجعلتني لله ندًا؟ قل ما شاء الله وحده» والشرك الأصغر لا يخرج عن الملة، وتجب التوبة منه ومن كل ذنب.
فصل
فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة كتوسل المؤمنين بإيمانهم في قولهم: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ } (1) . وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم وهم ثلاثة نفر توسلوا إلى الله بالأعمال الصالحة، والحديث في صحيح البخاري.
ولله سبحانه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
وكسؤال الله بأسمائه الحسنى قال تعالى: { وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (2) .
وكالأدعية المأثورة في السنن: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام»، وأمثال ذلك، وهذا معنى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } (3) .
والوسيلة القرب التي يتقرب بها إلى الله وتقرب فاعلها منه، وهي الأعمال الصالحة، لما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله من عادي لي وليًّا فقد آذنته بالحرب وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» الحديث.
__________
(1) سورة آل عمران آية 193.
(2) سورة الأعراف آية 180.
(3) سورة المائدة آية 35.(1/29)
ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أهمه أمر فزع إلى الصلاة لأنها أعظم القرب إلى الله تعالى، قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } (1) .
وأما التوسل بمخلوق وجعله واسطة بين الله وبين عبده، فهو عين ما نهى الله عنه في الآيات وأنزل بقبحه الكتب وأرسل الرسل، ومنه ما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } (2) وكان قصدهم يتقربون به.
فصل
وأما الإقسام على الله بمخلوق فهو منهي عنه باتفاق العلماء، وهل هو منهي عنه نهي تنزيه أو تحريم؟
على قولين (أصحهما) أنه كراهة تحريم، واختاره العز بن عبد السلام في فتاويه. قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة رحمهما الله: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: «بمعاقد العز من عرشك»: هو الله فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام.
قال القدوري يرحمه الله: المسألة بحق المخلوق لا تجوز؛ لهذا فلا يقول: أسألك بفلان وبملائكتك وأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. انتهى.
وأما قوله: «وبحق السائلين عليك» ففيه عطية العوفى وفيه ضعف، ومع صحته فمعناه بأعمالهم؛ لأن حقه تعالى عليهم طاعته وحقهم عليه الثواب والإجابة، وهو تعالى وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
وإذا والى العبد ربه وحده أقام الله له وليًا من الشفعاء، وهي الموالاة بينه وبين عباده المؤمنين فصاروا أولياءه في الله.
بخلاف من اتخذ مخلوقًا من دون الله أو معه، فهذا نوع وذلك نوع آخر.
كما أن الشفاعة الشركية الباطلة نوع، والشفاعة الحق الثابتة التي تنال بالتوحيد نوع آخر.
فصل
__________
(1) سورة البقرة آية 45.
(2) سورة الأعراف آية 138.(1/30)
ومما استدل به علينا الخصم وزعم أن دعوة غير الله وسيلة قوله: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي، اللهم شفعه في» رواه الترمذي والحاكم وابن ماجه عن عثمان بن حنيف فجوابه من وجوه:
(الأول) أنه في غير محل النزاع إذ ليس فيه سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، وإنما فيه سؤال الله وحده أن يشفع فيه نبيه.
فأين هذا من عمارة القبور وإلقاء الستور عليها وتسريجها الذي وردت النصوص الصريحة الصحيحة في تحريمه كما في السنن أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، وهذه كلها كبائر كما قال أهل العلم حتى ابن حجر الهيتمي وغيره؛ حددوها بأنها ما أتبع بلعنة أو غضب أو نار.
والأحاديث في تحريم عمارة القبور كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وارتكاب الكبائر والبناء على القبور ونحوه جنى على الأمة أعظم البلاء من دعاء أصحابها ورجائهم، والالتجاء إليهم، والنذر لهم، وكتب الرقاع لهم، وخطابهم يا سيدي افعل كذا وكذا، وبهذا عبدت اللات والعزى، والويل كل الويل عندهم لمن عاب وأنكر عليهم.
ومن قارن بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور وزيارتها، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر، مناقضًا له، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإذا كان سبب قول الله عز وجل: { فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (1) .
مجيء حَبْر من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وقوله: نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله أندادا فتقولون: ما شاء الله وشاء فلان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أما أنه قد قال حقًا» وأنزل الله: «فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون» وممن أخرج الحديث جلال الدين السيوطي في الدر المنثور في تفسيره.
__________
(1) سورة البقرة آية 22.(1/31)
وهؤلاء يحب أحدهم معتقده أكثر من حب الله، وإن زعم أنه لا يحبه كحبه، فشواهد الحال تشهد عليه بذلك، فإنه يعظم القبر أعظم من بيت الله، ويحلف بالله كاذبًا ولا يحلف بمعتقده؛ فلا جامع بين ما استدلوا به علينا وبين ما نهيناهم عنه.
(الثاني) أن الحديث دليل لنا أنه لا يدعى غير الله عز وجل، فإن قوله: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة» سؤال لله عز وجل لا للمخلوق، وتوجه إليه بدعاء نبيه بدليل ما يأتي بعد. وقوله: «يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي، اللهم شفعه فيَّ» معناه: أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته التي معناها في هذه الدار الدعاء، ولهذا قال في تمام الحديث: «اللهم شفعه فيَّ» أي استجب دعاءه وهذا متفق على جوازه، إذ الحي يطلب منه سائر ما يقدر عليه.
أما الغائب والميت فلا يستغاث به، ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه. قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلهُ للهِ } (1) .
إنما غايته طلب الدعاء من الحي، وقبول شفاعته عند الله عز وجل، وهو - صلى الله عليه وسلم - انتقل من هذه الدار إلى دار القرار بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس بن عبد المطلب، وطلبوا منه أن يدعو لهم في الاستسقاء عام القحط، أخرجه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، ولم يأتوا إلى قبره ولا قفوا عنده مع أن حياته - صلى الله عليه وسلم - في قبره برزخية.
__________
(1) سورة آل عمران آية 154.(1/32)
والدعاء عبادة مبناها على التوقيف والاتباع، ولو كان هذا من العبادات لسنه الرسول، ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين مع شدة احتياجهم وكثرة مدلهماتهم، وهم أعلم بمعاني كتاب الله وسنة رسوله، وأحرص على اتباع ملته من غيرهم، بل كانوا ينهون عنه وعن الوقوف عند القبر للدعاء عنده وهم خير القرون التي نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم» قال عمران: لا أدري أذكر اثنين أو ثلاثًا بعد قرنه. أخرجه البخاري في صحيحه.
(الثالث) أنهم زعموا أنه دليل للوسيلة إلى الله بغير محمد - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا عن محل النزاع إلى شيء آخر، وهو التوسل بغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا دليل فيه أصلاً، لأنهم صرحوا بأنه لا يقاس مع الفارق. فلا يجوز لنا أن نقول: اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك برسولك نوح، يا رسول الهل يا نوح.
ولا لنا أن نقول: إنا نسألك ونتوجه إليك بخليلك إبراهيم ولا بكليمك موسى، ولا بروحك عيسى، مع أن الجامع في نوح - عليه السلام - الرسالة، وفي إبراهيم - عليه السلام - الخلة مع الرسالة، وفي موسى - عليه السلام - الكلام مع الرسالة، وفي عيسى روح الله وكلمته مع الرسالة، فليس لنا أن نقول هذا لأنه لم يرد، ولا حاجة لنا إلى فعل شيء لم يرد. والقياس إنما يباح عند من يقول به للحاجة في حكم لا يوجد فيه نص. فإذا وجد النص فلا يحل القياس عند من يقول به ولا حاجة لنا إلى قول مخترع يجر إلى الشرك، خصوصًا مع ما ورد فيه، وأنه في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل وأن هذه الأمة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فالناجية من اتبعت ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.(1/33)
(الرابع) أن الوسيلة ليست هي أن ينادي العبد غير الله، ويطلب حاجته التي لا يقدر على وجودها إلا الرب تبارك وتعالى ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه.
فصل
ومما استدل به علينا في جواز دعوة غير الله في المهمات قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن مسعود «إذا انفلتت دابة أحدكم في أرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا».
وفي رواية «إذا أعيت فليناد يا عباد الله أعينوا» وهذا من جملة الجهل والضلال، وإخراج المعاني عن مقاصدها من وجوه:
(الأول) أن هذه ليست بوسيلة أصلاً، إذ معنى الوسيلة ما يتقرب به من الأعمال إلى الله عز وجل وهذا ليس بقربة.
(الثاني) أن الحديثين غير صحيحين.
أما الأول فرواه الطبراني في الكبير بسند منقطع عن عقبة - رضي الله عنه - ، وحديث انفلات الدابة عزاه النووي رحمه الله لابن السني وفي إسناده معروف بن حسان، قال ابن عدي: هو منكر الحديث، ولا دليل في هذين الحديثين مع ضعفهما ولا في الحديث المتقدم قبلهما على دعاء أصحاب القبور كعبد القادر الجيلاني من قطر شاسع، بل ولا ينادى غيره لا الأنبياء، ولا الأولياء، إنما غايته أن الله عز وجل جعل من عباده من لا يعلمهم إلا هو سبحانه «وما يعلم جنود ربك إلا هو» وإذا نادى شخصًا باسمه معينًا فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونادى من لا يؤمر بندائه، وليس معنى الحديث في كل حركة وسكون وقيام وقعود، وإنما أبيح له ذلك إن أراد عونًا على حمل متاعه أو انفلتت دابته، هذا مع تقدير صحة الحديث.
(الثالث) أن الله تعالى قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } (1) .
فبعد أن أكمله بفضله ورحمته، لا يحل أن نخترع فيه ما ليس منه ونقيس ما لا قياس عليه.
__________
(1) سورة المائدة آية 3.(1/34)
(الرابع) أن الحديث الصحيح إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به، فإنهم قالوا إن الحديث الصحيح الذي يعمل به إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فكيف العمل بالحديث المتكلم فيه بما لا يدل عليه دلالة مطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، فهذا هو البهتان.
(الخامس) أنهم دعموا إجابتهم بذكر من يعتقدونه ونسبوا الأفعال إليهم، وكل أحد يذكر ما وقع له من الاستغاثة بفلان وأنه أنجده، وكشف شدته.
فإذا قال أحد سبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، سبحانك هذا بهتان عظيم قاموا عليه وخرجوه وبدعوه، وقالوا معلوم أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فإذا قال نعم ولكن ليس لأحد منهم ملكوت خردلة والله يقول: { ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } (1) .
يكون جواب من يدعي العلم والإنصاف أن هذه الآية نزلت في عبادة الأصنام فيقال له: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
ومن المكابرة أن يعمل شخص كعمل المشركين أو أشد ثم يقول أنا لست بمشرك، فلم يبق لهذا الزاعم ما يتشبث به إلا قوله بأن الأمة مطبقة على هذا، والأمة لا تجمع على ضلالة.
فيلزم تضليل الأمة وتسفيه الآباء.
وجوابه أن هذا كذب على الأمة، وهذه كتب الحديث والتفسير كلها تنص على أنه لا يجوز أن يدعى غير الله عز وجل بما لا يقدر عليه إلا وهو لا يباح، بل الآيات البينات والأحاديث وأقوال العلماء ترشد أن هذا شرك محقق والله تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (2) .
__________
(1) سورة فاطر آية 13، وأية 14.
(2) سورة الأنعام آية 151.(1/35)
ويقول: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } (1) .
والأحاديث ونصوص العلماء لا تخالف الكتاب.
(السادس) أنهم اختلفوا في التوسل إليه بشيء من مخلوقاته تعالى وتقدس هل هو مكروه أو حرام، والأشهر الحرمة، كما قال به أبو محمد العز بن عبد السلام في فتاويه أنه لا يجوز التوسل إليه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم، وتوقف في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هل فيه الحرمة أو الكراهة، وتقدم قول أبي حنيفة وأصحابه يرحمهم الله.
(السابع) أنهم يشترون أولادهم ممن يعتقدون فيه السر والبركة ويعبدونهم لهم ويبنون لهم الزوايا ويعمرونها بآلات الطرب واللهو ومطارق الحديد يضربون بها أنفسهم، ومن أولئك جماعة يعرفون بالعلوانية، والقادرية والرفاعية وأشباههم، وهذه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان. والله قد سمانا المسلمين. قال الله تعالى: { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } (2) .
فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وإذا مرض هذا المشتري من المعتقد نذر أهله له النذور، ولم يزل يستغيث به أن يشفي سقمه، ويكشف شدته، وهذا الأمر سرى في العلماء والجهال، فهم قد غلبت عليهم العوائد وسلبت عقولهم عن تفهم المراد والمقاصد، من الكتاب والسنة، وكلام الأئمة إلا من شاء الله.
فصل
فبهذا يتبين أن الشيطان اللعين خدع أهل البدعة والجهل فنصبوا قبورًا يعظمونها ويعبدونها من دون الله، ثم أوحى إلى أوليائه أن من نهى عن عبادتها واتخاذها أعيادًا فقد أنقصها حقها، فيسعى الجاهلون المشركون في قتالهم وعقوبتهم.
__________
(1) سورة الإسراء آية 23.
(2) سورة الحج آية 78.(1/36)
وما ذنبهم عند هؤلاء إلا أنهم أمروهم بإخلاص التوحيد، ونهوهم عن الشرك بأنواعه، وقالوا بتبطيله، فعند ذلك غضب أولئك المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد انتقصوا أهل المقامات والرتب، فاستحقوا الويل والعتب، وزعموا أنا لا نحترم الصالحين ولا نحبهم، حتى سرى ذلك في نفوس الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، وبسبب ذلك عادونا ورمونا بالعظائم والجرائم، ونسبوا كل قبيح إلينا، ونفروا الناس عنا وعما ندعوا إليه ووالوا أهل الشرك وظاهروهم علينا، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله وكتابه ويأبى الله ذلك؛ فما كانوا أولياءه؛ إن أولياؤه إلا المتقون، الموافقون، العارفون به، وبما جاء به، والعاملون به، والداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا، اللابسون ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن دين نبيهم وهديه وسنته ويبغونها عوجًا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وتعظيم الأنبياء والأولياء واحترامهم ومحبتهم متابعتهم فيما يحبونه ويأمرون به، وتجنب ما يكرهونه وما ينهون عنه قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } (1) .
فأهل التوحيد أين كانوا أولى بهم وبمحبتهم ونصرة طريقهم وسنتهم وهديهم ومناهجهم، وأولى بالحق قولاً وعملاً من هؤلاء المبتدعة الذين كانوا هم أعصى الناس لهم وأبعدهم عن هديهم ومتابعتهم. وصنيعهم معهم كصنيع النصارى مع المسيح، وكاليهود مع موسى، والرافضة مع علي.
ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه وتدبره وتفهمه أغناه عن اتباع الشياطين وشركهم الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وينبت النفاق في القلب.
وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول واجتهد في اقتباس الهدى والعلم منهما أغنياه عن البدع والشرك والآراء والترخصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس الشيطان.
__________
(1) سورة آل عمران آية 31.(1/37)
وكذلك من عمر قلبه بمحبة الله وبخشيته والتوكل عليه أغناه أيضًا عن عشق الصور، وإذا خلا عن ذلك صار عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده.
فالمعرض عن التوحيد عابد للشيطان مشرك شاء أم أبى.
كما في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي واسمه حيان بن حصين قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته.
وفي الصحيح أيضًا عن ثمامة بن شفى الهمداني قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي، فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها. وقد أمر به وفعله الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون.
قال الشافعي في (الأم) ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنون على القبور. ويؤيد الهدم قوله «ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته». وحديث جابر الذي في صحيح مسلم نهى - صلى الله عليه وسلم - عن البناء على القبور ولأنها أسست على معصية الرسول لنهيه عن البناء عليها وأمره بتسويتها فبناء أسس على معصية الرسول ومخالفته بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعًا، وأولى من هدم مسجد الضرار المأمور بهدمه شرعًا إذ المفسدة أعظم حماية للتوحيد والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على أفضل المرسلين سيدنا ونبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
الفهرس
ترجمة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله ... 5
ولادته: ... 5
طلبه للعلم: ... 5
ولايته الأمر بعد والده: ... 6
صفاته: ... 6
رحمته بالرعية: ... 6
قوته وحزمه: ... 6
مقتله رحمه الله تعالى: ... 6
تقديم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز ... 6
المقدمة لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ ... 6
متن الكتاب ... 6
فصل ... 6
(العبادة لغة وشرعا) ... 6
فصل ... 6
فصل ... 6
فصل ... 6
تنبيه: ... 6
فصل ... 6
فصل ... 6(1/38)
فصل ... 6
والمقصود ... 6
فصل ... 6
فصل ... 6
والشرك شركان: ... 6
فصل ... 6
فصل ... 6
فصل ... 6
(الأول) ... 6
(الثاني) ... 6
(الثالث) ... 6
(الرابع) ... 6
فصل ... 6
(الأول) ... 6
(الثاني) ... 6
(الثالث) ... 6
(الرابع) ... 6
(الخامس) ... 6
(السادس) ... 6
(السابع) ... 6
فصل ... 6
الفهرس ... 6
* * * *(1/39)