رسالة مهمة لعموم الأمة
لا حياة بلا حياء
للشيخ / ندا أبو أحمد
رسالة مهمة لعموم الأمة
لا حياة بلا حياء
تمهيد:
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..........
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ( سورة آل عمران : 102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ( سورة النساء : 1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } ( سورة الأحزاب : 70 )
أما بعد .... ،
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالي وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..
من المعلوم لدينا أن دين الله يقوم على خمسة أمور:
العقائد – العبادات - المعاملات - الأخلاق والآداب - العقوبات
وبهذه الخمس أتم الله علينا نعمته وأكمل علينا دينه ، وبها نتحلى بكل فضيلة ونتخلى عن كل رذيلة.
وهذا الموضوع الذى نكتب عنه يرتبط بالأخلاق والآداب ، بل هو رأس الأخلاق والآداب
ألا وهو الحياء
ولشرف الحياء وقدره وعظيم أثره تصدر طليعة الخصائص الأخلاقية لهذه الملة الحنيفية .(1/1)
فقد أخرج ابن ماجة، وصححه الشيخ الألباني من حديث زيد بن طلحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء"
يعنى : إن الغالب على أهل كل ملة خلق معين ، والغالب علينا أهل الإسلام الحياء
ولما كان الإسلام أشرف الرسالات أعطاه الله أسمى الأخلاق وأشرفها ألا وهو خلق الحياء
ـ والأمة بلا أخلاق هى أضل من الأنعام ، فالقوي فيها يفترس الضعيف ، والكبير لا يرحم الصغير ، والصغير لا يوقر الكبير ، وكلهم إذا انسلخوا من الأخلاق والحياء ، لا يستحيون بعد ذلك من الله الجليل فيتعدون حدوده وينتهكون محارمه ويبارزونه بالمعاصي فتكون الحياة كالغابة
وصدق الشاعر حيث قال :
فلا والله ما فى العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
...
فالشجرة تبقى ما دامت القشرة الظاهرة الخارجية عليها باقية وهو اللحاء ، وإذا أزيلت هذه القشرة يبست وتلفت الشجرة
وهكذا الإنسان وبنو آدم يعيشون فى حياة وسعادة ما دام فيهم هذا الخلق الكريم – هذا الحياء- وإذا فقدوه فقد هلكوا فليس فيهم ولا فى حياتهم خير.
حقيقة الحياء
يقول ابن القيم- رحمه الله- كما فى الداء والدواء صفحة 86 :
والحياء مشتق من الحياة ، والغيث يسمى حياَ- بالقصر- لأنه به حياة الأرض والنبات والدواب
وكذلك سميت بالحياء : حياة الدنيا والآخرة ، فمن لا حياء فيه فهو ميت فى الدنيا ، شقي فى الآخرة
قال بعض العلماء :
( حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائه ،فعلى حسب حياة القلب يكون قوة خلق الحياء ، فقلة الحياء من موت القلب ، فكلما كان القلب حياً كان الحياء أتم )
والحياء من خصائص الإنسان ، خصه الله به ليميزه عن سائر الحيوانات و المخلوقات ، وانظر إلى الحيوان فإنه إذا اشتهى شيئاَ ركبه ، بل إذا أراد أن يقضي حاجته فى الطريق فعل .
فالحمد لله على نعمة الحياء ، التى هى سبب فى عدم الوقوع فى المعاصي والذنوب .(1/2)
فبين قلة الحياء واقتراف الذنوب تلازم ، وارتباط كل منهما يدعو الآخر ويطلبه حثيثاَ
وصدق القائل حيث قال :
ورب قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياء
إذا رزق الفتى وجهاَ وقاحاَ ... تقلب فى الأمور كما يشاء
أنواع الحياء
والحياء نوعان :
النوع الأول: الحياء الفطري الطبيعى الجبلي الغريزي: ـ
وهو ما كان خلقاَ وجبلي غير مكتسب يولد الإنسان به ، وهو مركوز في فطرته دون سائر الحيوانات
فالإنسان السوي يستحي من كشف العورة ، وغير ذلك مما يستحي أن يفعله أمام الناس ،
كالجماع مثلا وغير ذلك
والأدلة على أن هناك حياء غريزي فطري : ــ
1- ما حصل من آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ
لما خالف آدم وزوجه أوامر رب العالمين فأكلا من الشجرة بدت لهما سوأتهما
قال تعالى : { فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } (طه 121)
فاستحيا من الله لما كشفت سوأتهما ،
وهذا دليل على أن الحياء كان موجود مع أول إنسان خلق على الأرض
2- وأخرج الإمام أحمد وابن أبي عاصم فى كتاب السنة وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله-
عن عبد الرحمن بن أبى بكرة قال : قال لى أشج بني الأعصر ، قال لى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن فيك لخلتين يحبهما الله-عز وجل- قلت: وما هما ؟ قال: الحلم والحياء قلت: قديماَ كانتا فى أم حديثا َ؟ قال: قديماَ ، قال: الحمد لله الذى جبلنى على خلتين يحبهما الله-عز وجل-
3- حياء البكر عند عرض الزواج عليها
بلغ من تقدير الإسلام لهذا الحياء ، أن جعله حكماً شرعياً
فقد أخرج البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا تنكح البكر حتى تستأذن , قالوا : يا رسول الله فكيف أذنها ؟ قال : أن تسكت "
وفى رواية : " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ، قالوا : يا رسول الله إن البكر تستحى ، قال : إذنها صماتها "(1/3)
وفى مسند الإمام أحمد وسنن النسائى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" استأمروا النساء فى أبضاعهن . قيل: فإن البكر تستحى أن تَكَلم ؟ قال : سكوتها إذنها . ( السلسلة الصحيحة : 398 )
قال الإمام ابن عبد البر فى كتابه بهجة المجالس وأنس المجالس (الجزء الثاني) :
إن المرأة تكتم حب الرجل أربعين يوماَ ولا يعلم بحالها أحد ، وقد تظهره بعد ذلك ، ولكن إذا أبغضته لا تستطيع أن تكتم بغضها له لحظة واحدة .
فعندما يقال : ترغبين فى فلان تستحي ، وهي ترغب فيه ، فإذنها صماتها
ومن حكمة الله أن جعل الطلاق بيد الرجال ؛ لأن المرأة عندما تنفعل لا تكتم غضبها،
والرجل على العكس فإنه يبغض المرأة أربعين ليلة ولا يصرح قبل ذلك وقد يصرح بعد ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يكتم حبها لحظة واحدة
مسألة لو بكت المرأة فهل هذا دليل على الرضا أم البغض ؟
قالوا : لابد من لمس دمعها ، فإذا كانت الدموع التي نزلت من عينها باردة كانت راضية مسرورة فرحة ، وإذا كانت ساخنة فهي كارهة لا تريد
فلما غضبت بكت خرجت الدمعة حارة ساخنة ، ولما فرحت بكت خرجت الدمعة باردة
الحاصل إنه إذا عرض الزواج على البنت فإنها تستحي، وهذا الحياء يمنعها من الكلام فتلتزم الصمت ، وهو علامة على الرضا
فسبحان من جعل الحياء حكماَ شرعياَ نأخذ به فى شريعة ربنا
النوع الثاني: الحياء المكتسب : ـ
والحياء المكتسب هو: الحياء الشرعي ، وهو ليس كالغريزي ،
فالحياء الشرعي خير كله،أما الغريزي ففيه خير وشر، الخير منه:ما صار على حسب هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -
وتعريف الحياء الشرعي :
هو خلق يبعث على ترك القبيح ، ويمنع من التقصير فى حق ذي الحق ويبعث على فعل المليح
هذا النوع من الحياء يكتسبه الإنسان عن طريق معرفة الله – عز وجل- ومعرفة صفاته والتعبد بأسمائه الحسنى : كالعليم – السميع – البصير – الرقيب – الشهيد – المحيط ،(1/4)
وفهم معانيها يورث فى الإنسان وفى قلبه المعرفة بالله-عز وجل- فيستحي من الله- تبارك وتعالى- ويستشعر قرب الله تعالى منه ، وإحاطته بعباده ، وإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فيمنعه هذا الاستحياء من ارتكاب المعاصي خوفاَ من الله –تبارك وتعالى-
ويدفعه ذلك إلى أن يحقق فى نفسه أعلى خصال الإيمان وأعلى درجات الإحسان
وهو : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك
أقسام الحياء
قسم ابن القيِّم الحياء إلى عشرة أقسام – كما فى مدارج السالكين (2/272) ـ : ...
أولاً : حياء الجناية : ـ
وهو أن يفعل العبد ذنبا فيستحى أن يلقى الله بهذا الذنب وإن غفر الله له ، ومنه : ـ
1- حياء آدم ـ عليه السلام ـ :
لما فر هارباَ في الجنة قال الله تعالى : أفرارا َمنى يا آدم ؟! قال: لا يا رب بل حياء منك
والحديث أخرجه الحاكم عن أبيّ بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن آدم ـ عليه السلام ـ كان رجلاَ طوالاَ كأنه نخلةَ َسحوقَ، كثير شعر الرأس ، فلما وقع بما وقع به ، بدت له عورته، وكان لا يراها قبل ذلك ، فانطلق هارباَ ، فأخذت برأسه شجرة من شجر الجنة ، فقال لها : أرسليني ، قالت : لست مرسلتك ، فناداه ربه – عز وجل – أمني تفر؟ قال: أي رب ألا أستحييك ؟ فناداه ربه وإن المؤمن يستحي ربه ـ عز وجل – من الذنب إذا وقع به ، ثم يعلم بحمد الله أين المخرج ؟ يعلم أن المخرج في الاستغفار والتوبة إلي الله – عز وجل – "
2- الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ :
وعن محمد بن حاتم قال : قال الفضيل بن عياض :
لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة ، وبين ألا أبعث لاخترت ألا أبعث .
قيل لمحمد بن حاتم :هذا من الحياء ؟ قال: نعم ، هذا من طريق الحياء من الله - عز وجل –
3- ومن ذلك ما كان من أمر ( وحشي ) – رضي الله عنه - :
الذي قتل عم النبي - صلى الله عليه وسلم - (حمزة) – رضي الله عنه -
فكان يقول كما عند البخاري:(1/5)
فكنت أتنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان ـ لئلا يراني ـ حتى قبضه الله
4- ومنه حياء الأنبياء في عرصات القيامة وليس عندهم ما يزري بمراتبهم العالية السامية
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيهتمون بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا ؟ قال : فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الخلق خلقك الله بيده و نفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا , فيقول : لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب ، فيستحي ربه منها ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلي أهل الأرض ، قال : فيأتون نوحا فيقول لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب ، فيستحي ربه منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا فيأتون إبراهيم فيقول : لست هناكم وذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله وأعطاه التوراة قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول : لست هناكم ولكن ائتوا محمد ،عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فيأتونني فأستأذن على ربي فيؤذن لي ، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله فقال :يا محمد أرفع قل يُسمع ، سل تعطه ، اشفع تشفع "
5- الأسود بن يزيد :
ولما احتضر الأسود بن يزيد بكى فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قال : ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك منى ، والله لو أتيت بالمغفرة من الله – عز وجل - لأهمّني الحياء منه مما قد صنعت
إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ولا يزال مستحييا منه
يا خجلة العبد من إحسان سيّده ... يا حسرة القلب من الطاف معناه(1/6)
فكم أسأت وبالإحسان قابلنى ... وا خجلتي وحيائي حين ألقاه
يا نفس كم بخفي اللطف عاملني ... وقد رآني علي ما ليس يرضاه
يا نفس كم زلة زلت بها قدمي ... وما أقال عثارى ثمّ إلا هو
يا نفس توبي إلي مولاك واجتهدي ... وصابري فيه إيقاناَ برؤياه
6- إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ :
دخل ( أبو حامد الخلقاني )علي إمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله –
فأنشده هذه الأبيات :
إذا ما قال لي ربي ... أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي ... وبالعصيان تأتيني
فما قولي له لما ... يعاتبني ويقصيني
فأمره الإمام أحمد بإعادتها فأعادها عليه فدخل الإمام أحمد داره وجعل يرددها ويبكي .
ثانيا : حياء التقصير : ـ
كحياء الملائكة الذين يسبحون فى الليل والنهار لا يفترون ، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك
ثالثاً : حياء الإجلال : ـ
1- و منه حياء عمرو بن العاص – رضي الله عنه – :
كان يقول كما في مسند الإمام أحمد: و الله إن كنت لأشد الناس حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ملأت عيني من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و لا راجعته بما أريد حتى لحق بالله – عز وجل- حياء منه
وفي رواية : إنه لم يكن شخص أبغض إلي منه ـ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه ،ولو سئلت أن أصفه لكم لما أطقت؛لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالا له(1/7)
2- ومنه ما يحكيه عروة بن مسعود عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فى قصة صلح الحديبية : لما ذهب عروة بن مسعود للتفاوض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى من تعظيم الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأى ، عاد إلى كفار قريش وقال : والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت مليكا َقط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداَ، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماَ له
3 – ومنه حياء سعد بن معاذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - قي قصة حكمه على يهود بني قريظة :
فإنه لما وصل سيد الأوس سعد بن معاذ إلى مقر قيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فى بني قريظة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكم فيهم يا سعد؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالحكم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرك الله أن تحكم فيهم ، غير أن سعداَ – وقد علم حرص قومه الأوس على التساهل في الحكم على حلفائهم اليهود – أحب أن يستوثق من الجميع ويأخذ عليهم العهد – الأوس وبني قريظة – بأن حكمه إذا صدر يكون غير قابل للنقض أو النقاش(1/8)
فوقف سعد بن معاذ في المعسكر النبوي ووجه حديثه إلى قومه الأوس خاصة وإلى من في المعسكر عامة قائلاَ : عليكم بذلك – عهد الله وميثاقه – أن الحكم كما حكمت ؟ قالوا: نعم ثم اتجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشار إلى الناحية التي هو فيها ، ثم قال : وهو معرض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالاَ وإكباراَ ، وعلى من ها هنا ؟ أشار إلى الخيمة التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، ثم أشار إلى بني قريظة المحجوزين جانباَ في المعسكر ليستوثق منهم قائلاَ أترضون بحكمي ؟ قالوا: نعم . فحكم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية ، وأن تقسم أموالهم ولما نطق سعد بن معاذ بالحكم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات .
4- ومنه حياء ابن عمر إجلالاً لكبار الصحابة ممن هو أسنّ منه :
فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر – رضى الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهى مثل المسلم حدّثوني ما هى ؟ فوقع الناس في شجر البادية ، ووقع في نفسي أنها النخلة قال عبد الله : فاستحييت. فقالوا يا رسول الله : أخبرنا بها ، فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هى النخلة ، قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي ، فقال : لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا "
قال الحافظ : وكان يمكنه إذا استحيى إجلالاً لمن هو أكبر منه أن يذكر ذلك لغيره سراً ليخبر به عنه فيجمع بين المصلحتين ، ولهذا عقبه المصنف - أي البخاري - بباب من استحيى فأمر غيره بالسؤال
5- ومنه حياء ابن مهدي من سفيان الثوري :
فقد قال ابن مهدي – رحمه الله – :
ما كنت أقدر أن أنظر إلى سفيان استحياءً وهيبةً منه(1/9)
وأنكر سفيان الثوري مرة على المهدي بعض الأمور واستمر في الإنكار ، حتى قال له وزير المهدي : شططت تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا ؟! فقال له سفيان : أسكت ما أهلك فرعون إلا هامان ، فلما ولى سفيان قال أبو عبيدة الله : " يا أمير المؤمنين ائذن لي أضرب عنقه ، فقال له اسكت : ما بقي على وجه الأرض من يستحي منه غير هذا.
رابعاً : حياء الكرم : ـ
كحياء النبي - صلى الله عليه وسلم - من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب ، وأطالوا الجلوس عنده ، فقام واستحى أن يقول لهم : انصرفوا ، فقال الله ـ عز وجل ـ :
{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } (الأحزاب 53)
خامساً : حياء الحشمة : ـ
كحياء عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المذي ؛ لمكان ابنته منه
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عليّ بن أبي طالب قال :
كنت رجلاَ مذاءًَ فأمرت المقداد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال : " فيه الوضوء "
وفي رواية : كنت رجلاَ مذاءَ فأمرت رجلاَ أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته ، فسأله ،
فقال : " توضأ واغسل ذكرك "
سادساً : حياء الاستحقار واستصغار النفس : ـ
كحياء العبد من ربه – عز وجل – حين يسأله حوائجه ، احتقاراَ لشأن نفسه واستصغاراَ لها
وفى أثر اسرائيلي : أن موسى – عليه السلام – قال : يا ربّ إنه لتعرض لي الحاجة من الدنيا ، فأستحيى أن أسألك إياها يا ربّ ، فقال الله تعالى : سلني حتى ملح عجينتك ، وعلف شاتك
وقد يكون لهذا النوع سببان :
أحدهما : استحقار السائل نفسه واستعظام ذنوبه
الثاني : استعظام مسئولِه
وكحال من قال : إني لأستحيى أن أسأل ربي الدنيا وهو مالكها ، فكيف أسألها غير مالكها
سابعاً : حياء المحبة : ـ(1/10)
هو حياء المحب من محبوبه ، حتى إذا خطر على قلبه في غيبته ، هاج الحياء من قلبه ،وأحس به في وجهه ولا يدري ما سببه ، وكذلك يعرض للمحبّ عند ملاقاته محبوبه ومفاجأته له روعة شديدة
يقول الشاعر :
فما هو إلا أن أراها فجأةَ ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وإني لتعروني لذكراك هزة ... لها بين جلدي والعظام دبيب
ثامنا: حياء العبودية : ـ
هو حياء ممتزج من محبّة وخوف ، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده ، وأن قدْره أعلى وأجل منه ، فعبوديته له تستوجب استحياءه منه لا محالة
تاسعا: حياء الشرف والعزة : ـ
أما حياء الشرف والعزة : فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها ، من بذل أو عطاء وإحسان ، فإنه يستحيى – مع بذله – حياء شرف نفس وعزة وهذا له سببان :
أحدهما : هذا ، والثاني : استحياؤه من الآخذ ، حتى كأنه هو الآخذ السائل ،
حتى إن بعض أهل الكرم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياءَ منه ، وهذا يدخل في حياء التلوّم لأنه يستحيى من خجلة الآخذ
عاشراً : حياء المرء من نفسه : ـ
وأما حياء المرء من نفسه فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدّون ، فيجد نفسه مستحيياَ من نفسه ، حتى كأن له نفسين يستحى بإحداهما من الأخرى وهذا أكمل ما يكون من الحياء ، فإن العبد إذا استحيى من نفسه ، فهو بأن يستحيى من غيره أجدر.
( أ هـ بتصرف)
أولاً : حياء الله
فما أعظمه من خلق ومكرمة ، كيف لا ؟ وقد وصف الله به نفسه فإن الله تعالى حيى يحب الحياء .
فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه الألباني عن سلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الله حيى كريم يستحي أن يرفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين "
وأخرج أبو داود أيضاَ عن يعلى بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن الله تعالى حيى ستير ، يحب الحياء والستر ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر"(1/11)
قال شيخ الإسلام ابن القيم (كما في مدارج السالكين 2/272) :
وأما حياء الرب ّ تعالى من عبده ، فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ، ولا تكفيه العقول فإنه حياء كرم وبرّ وجود وجلال .
فإنه- تبارك وتعالى – حيى كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراَ ، ويستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام
فالله – عز وجل – مع كمال غناه عن الخلق كلهم ، من كرمه يستحي من هتك العاصي وفضيحته وإحلال العقوبة به فيستره بما يقيض له من أسباب الستر ، ويعفو عنه ، ويغفر له ،ويتحبب إليه بالنعم ويستحي لمن يمد يديه إليه سائلا متذللآَ أن يردهما خاليتين خائبتين.
ونقل المناوى في فتح القدير عن بعض السلف أنه قال :
وإنما كان الله يحب الحياء والستر ؛ لأنهما خصلتين يفضيان بالعبد إلي التخلق بأخلاق الله
وقد قال ابن القيم :
من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامها وأدخلته على ربه وأدنته وقربته من رحمته وصيرته محبوبا له ، فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء ، كريم يحب الكرماء ،عليم يحب العلماء ، قوي يحب المؤمن القوي وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف ، حيي يحب أهل الحياء ، جميل يحب أهل الجمال ، وتر يحب أهل الوتر .
وأخرج البخاري عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه ، إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد ، قال : فوقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمّا أحدهما : فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأمّا الآخر: فجلس خلفهم ، وأمّا الثالث : فأدبر ذاهباَ ، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه ، وأمّا الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه(1)
__________
(1) ـ فاستحيا : أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن حضر
والمعنى: أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث فاستحيا الله منه، أي: رحمه ولم يعاقبه(1/12)
وأمّا الآخر فأعرض فأعرض الله عنه(1)"
وفي لفظ الحاكم : " ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس "
فالحياء خلق يحبه الله
فقد أخرج الإمام أحمد عن الأشج بنى الأعصر أنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن فيك لخلتين يحبهما الله - عز وجل- قلت وما هما ؟ قال : الحلم والحياء "
ثانياَ : حياء الملائكة
(1) أخرج الإمام مسلم عن عائشة - رضي الله عنها – قالت :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعاَ في بيتي كاشفاَ عن فخذيه أو ساقيه ، فاستأذن أبو بكر فأذن له ، وهو على تلك الحال فتحدث ، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسوى ثيابه ،فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة:دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك ،فقال :ألا استحيي من رجل تستحي منه الملائكة
وفي رواية قالت له : يا رسول الله مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – كما فزعت لعثمان ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي ّ في حاجته
ـ أي يستحي فيخرج من غير أن يطلب حاجته التي جاء من أجلها ـ
(2) في صحيح مسلم وعند النسائي وأحمد من حديث عائشة – رضي الله عنها –
" أن جبريل – عليه السلام – امتنع من دخول بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - استحياءَ ، فناداه بصوت خفي وأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوت خفي ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك ، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك .
__________
(1) ـ فأعرض الله عنه : أي سخط عليه ، وهو محمول على من ذهب معرضاَ لا لعذر ، هذا إن كان مسلماَ ، ويحتمل أن يكون منافقاَ واطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمره ، كما يحتمل أن يكون قوله : " فأعرض الله عنه " - إخباراَ أو دعاء(1/13)
ثالثا َ: حياء الأنبياء
(1) أخرج الإمام الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" أربع من سنن المرسلين : الحياء ، والتعطر، والنكاح ، والسواك "
وحسنه الترمذي بشواهده ، وضعفه الشيخ الألباني – رحمه الله – في ( ضعيف الجامع760 )
(2) وأخرج البخاري من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصارى البدوي قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"
فقوله : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى " يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرناَ بعد قرن ، وهذا يدل على أن النبوة المتقدمة جاءت بهذا الكلام وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة .
وقوله : " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " في معناه قولان :
القول الأول : إنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما يشاء ، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه
وأهل هذه المقالة لهم طريقان :
ـ أحدهما : أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد ،والمعنى: إذا لم يكن حياء فاعمل ما شئت فالله يجازيك عليه كقوله تعالى : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ( فصلت : 40)
وكقوله : {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } ( الزمر : 15 )
ـ ثانيهما : أنه أمر ومعناه الخبر ، والمعنى : أن من لم يستح صنع ما شاء ، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء ، فمن لم يكن له حياء انهمك فى كل فحشاء ومنكر
فمن سقطت صفة الحياء عن وجهه كما تسقط القشرة الخضراء عن العود الغض ، فقد آذنت حياته الفاضلة بالضمور ، فيجتريء على المخالفات ولا يبالى بالمحرمات .
ومما ينسب للشافعي أنه قال :
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستح فاصنع ما شئت
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقال غيره :(1/14)
إذا لم تصن عرضاَ ولم تخش خالقاَ ... وتستحي مخلوقاَ فما شئت فاصنع
القول الثاني: إنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر أمره .
والمعنى : إذا كان الذى يريد فعله مما لا يستحي من فعله ، لا من الله ولا من الناس لكونه من أفعال الطاعات أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة فاصنع منه حينئذ ما شئت ( لا حرج في فعله )
" وهذا قول جماعة من الأئمة منهم : إسحاق المروزي ، والشافعي وحكي مثله عن الإمام أحمد .
(1) حياء موسى – عليه السلام- :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } ( الأحزاب :69 )
أي : لا تكونوا أمثال بني إسرائيل الذين آذوا نبيهم موسى ، واتهموه ببرص في جسمه أو أُدْرَة
( انتفاخ الخصية ) لفرط تستره وحيائه ، فأظهر الله براءته وكذبهم فيما اتهموه به
فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
"إن موسى كان رجلا حيياَ ستيرا َ، لا يرى من جلده شيء استحياء منه ،
فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص وإما أدرة ( انتفاخ الخصية ) وإما آفة أخرى ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا ، فخلا يوماَ وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجرعدا بثوبه – طار الثوب وعليه الحجر – فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر حتى مر على ملأ من بني إسرائيل فرأوه أحسن ما خلق الله عرياناَ وأبرأه مما يقولون .{وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} ( الأحزاب :69 )
وكان موسى ذا وجاهة ورفعة ومكانة عند ربه
قال ابن كثير :
" أي له وجاهة وجاه عند ربه لم يسأل شيئاَ إلا أعطاه "
(2) حياء النبي – صلى الله عليه وسلم - :(1/15)
إذا ذكرنا الحياء ذكرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقد ركب أعلى هذا الخلق ، وكذا في غيره من مكارم الأخلاق
1- فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدّ حياءَ من العذراء في خدرها(1)فإذا رأى شيئاَ كرهه عرفناه في وجهه .
2 – وأخرج الإمام مسلم عن عاثشة – رضي الله عنها – قالت :
سألت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تغتسل من حيضتها ؟ قالت : فذكرت أنه علمها كيف تغتسل ، ثم تأخذ فرصة من مسك فتطهر بها ، قالت : كيف أتطهر بها ؟ قال : تطهري بها
– سبحان الله – !! واستتر بيده على وجهه ، قالت عائشة : واجتذبتها إلي ، وعرفت ما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : تتبعي بها أثر الدم
فلقد كان حياء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذروة العليا منه ، وكان إذا كره شيئاَ لا يتكلم به لحيائه - صلى الله عليه وسلم - ، بل يتغير وجهه ، فيفهم الصحابة – رضي الله عنهم ـ كراهته فما أكرم خلقه - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - يستحي من ربه.
فقد أخرج البخاري من حديث مالك بن صعصعة – رضي الله عنه –
من تردد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ربه وبين موسى – عليه السلام – وسؤاله ربّه التخفيف حتى جعلها خمساَ ( أي الصلاة ) فقال له موسى : ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف لأمتك ،
قال : سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم
رابعاَ: حياء السلف الصالح :
- حياء عثمان – ذي النورين – أمير البررة وقتيل الفجرة -رضي الله عنه –
__________
(1) ـ الخدر : ناحية البيت يلقي عليه ستر فتكون فيه الجارية البكر والعذراء ، وإذا كانت متربية في سترها ، تكون أشد حياءَ لتسترها حتى عن النساء ، بخلاف الداخلة الخارجة ( الخراجة الولجة ) المختلطة بالرجال ، والمراد بالحديث : الحالة التي تعتريها عند دخول أحد عليها فيه .(1/16)
ولقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بهذا الخلق الكريم
1- فقد أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" إن عثمان رجل حيي"
2- وروي ابن عساكر وصححه الألباني من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
الحياء من الإيمان وأحيى أمتي عثمان
3- وسنن الترمذي من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشهدهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم عليّ ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبيّ بن كعب ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح
4- وفي معجم الطبراني بسند لا بأس به كما قال الهيثمي في المجمع عن عثمان أنه قال: والله ما وضعت يميني على فرجي منذ بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -
- محمد بن سيرين – رحمه الله – كان يقول :
ما غشيت امرأة قط ، لا في يقظة ولا في نوم ، غير أمّ عبد الله ، وإني لأرى المرأة في المنام فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري .
ولذلك كان بعضهم يقول :
ليت عقلي في اليقظة كعقل ابن سيرين في المنام
يقظاته ومنامه شرع ... كل بكل فهو مشتباه
إن همّ في حلم بفاحشة ... زجرته عفته فينتبه
- وكان أبو عقبة الجراح بن عبد الله الحكمي يقول :
تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع
وكأن حال هؤلاء القوم كما قال بعضهم :
ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا نهاني الحياء والكرم
ولا إلى محرم مددت يدي ... ولا مشت بي لريبة قدم
حبيبي في الله اعلم أنك لن تصل إلى كمال الحياء إلا إذا استحييت :
أولاَ : من الله عز وجل ثانياَ : من الملائكة
ثالثاَ : من الناس رابعاَ : من النفس
ولنا مع كل عنصر وقفة: ــ
أولاَ : الحياء من الله عز وجل(1/17)
من استحيى من الناس أن يروه بقبيح ، دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشدّ ،فلا يضيع فريضة ولا يرتكب خطيئة ؛ لعلمه بأن الله يرى ؛ وأنه لابد أن يقرره يوم القيامة على ما عمله ، فيخجل ويستحي من ربه .
وكلما ازددت معرفة بالله ازددت حياءَ منه ، فتترك كل قبيح ، وتقبل على كل مليح ،لعلمك بأن الله يراك و يسمعك .
أخرج الإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل يوصيه:
" أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح ومن قومك "
فقد يترك الإنسان المعصية لعلمه بنظر الناس إليه ، والإنسان يستحيي ممن يكبر في نفسه ، فهو يستحي من العالم أكثر مما يستحي من الجاهل ، فيترك المعصية حياءَ منه ،
فكيف وأن الناظر إليه هو الله
قال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } (العلق : 14 )
وقال تعالى : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ( البقرة :265)
وقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ( ق :16 )
وقال تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ( الزخرف :80 )
وقال تعالى : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ( الملك : 13)
وقال تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ( غافر :19 )
وقال تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } ( الأحزاب : 52 )
وأخرج أبو داود وصححه الألباني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :(1/18)
" ثلاث من فعلهن فقد طَعِمَ طعْم الإيمان ، من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله ، وأعطى زكاة ماله طيبةَ بها نفسه رافدة(1)عليه كل عام ، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة(2)
ولا المرضية ولا الشرط(3)اللئيمة(4)ولكن من وسط أموالكم ، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشرّه " وزاد البيهقي : وزكى نفسه فقال الرجل : وما تزكية النفس ؟ فقال أن يعلم أن الله – عز وجل – معه حيث كان "
قال الإمام محمد بن يحي الزملى :
يريد أن الله علمه محيط بكل مكان ، وأن الله على العرش .
قال عبد الله بن عمر – رضي لله عنهما - :
لا يجد عبد صريح الإيمان حتى يعلم بأن الله – تعالى – يراه ، فلا يعمل سراً يفتضح به يوم القيامة
وهذا هو حقيقة الحياء
وحقيقة الحياء من الله يبينها ابن القيم – رحمه الله – فيقول :
والحياء من الله أن تنفتح في قلبك عين تريك أنك قائم بين يدي الله
ويقول أيضاً كما في المدارج :
والحياء يتولد من علم العبد بنظر الحق إليه ، فيدفعه ذلك إلى مجاهدة النفس ، وتحمل أعباء الطاعة واستقباح الجناية ، وأن العبد إذا علم أن الله ناظر إليه أورثه هذا حياء منه تعالى
وإذا تيقن العبد أن الله ناظر إليه وسيسأله يوم القيامة عن كل ما اقترفت يداه ، فإنه سيخجل فيقبل على الفضيلة ويترك الرذيلة
ويتولد الحياء عند العبد من الله، من تقلب العبد في نعمة الله فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصية الله .
أخرج الإمام أحمد وحسنه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) ـ رافدة : فاعلة من الرفد : وهو الإعانة أى تعينه نفسه على أداء الزكاة
(2) ـ الدرنة: الجرباء
(3) ـ الشرط : هو صغار المال وشراره ، قال الخطابي : رذالة المال
(4) ـ اللئيمة : البخيلة باللبن(1/19)
" استحيوا من الله حق الحياء ، قالوا: إنا نستحي يا رسول الله ، قال: ليس ذاكم(1)ولكن من استحيى من الله حق الحياء ، فليحفظ الرأس وما وعى(2)وليحفظ البطن وما حوى(3)وليذكر الموت والبلى(4)ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا(5)فمن فعل ذلك فقد استحيىمن الله حق الحياء "
قال الشنقيطي في تفسيره – أضواء البيان - :
إذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه – جلا وعلا – ليس بغائب عنه ، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي ، لان قلبه وخشي الله تعالى وأحسن عمله لله
ومن الأمثلة القرآنية البديعة في هذا الشأن قصة يوسف – عليه السلام-
حينما تعرض لفتنة من أشد الفتن على القلوب والعقول ، وهى فتنة النساء ،
والتي هى من أعظم الفتن في كل زمان ومكان على الرجال عامة وعلى الشباب خاصة
ولكن انظر كيف أنه صبر واستحيى من ربه وخالقه ، رغم مراودة امرأة العزيز
وهى امرأة توافرت فيها دواعي الفتنة من : مال وجمال وجاه ، فقال : حياءً من ربه ومراقبةً له { قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } (يوسف : 23)
__________
(1) ـ ليس ذاكم : قال البيضاوي : ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه ،بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه عما لا يرضاه من فعل وقول.
(2) ـ يحفظ الرأس وما وعى : ما جمعه من الحواس الظاهرة والباطنة ، حتى لا يستعملها إلا فيما يحل.
(3) ـ ويحفظ البطن وما حوى:أي وما جمعه جوفه باتصاله به، من القلب والفرج واليدين والرجلين فلا يستعمل منها شيئاً في معصية الله – عز وجل –
(4) ـ وليذكر الموت والبلى : فمن ذكر الموت هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة ، وأهمه ما يلزمه من طلب الآجلة وعمل على إجلال الله وتعظيمه
(5) ـ ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا : لأنهما ضرتان ، إذا أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى ، فمن أراد الله تعالى فليرفض جميع ما سواه استحياءً منه ، بحيث لا يرى إلا إياه(1/20)
قال الطبري في قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ( يوسف :24 )
قال : في الآية تقديم وتأخير، أي : لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ،
فلم يقع الهم لوجود البرهان ، وهو حياء يوسف من ربه وعصمة الله تعالى له
فالحياء من الله يكون بامتثال أوامره واجتناب زواجره وهذا لايكون إلا من قوة الدين وصحة اليقين .
والحياء من الله تعالى يقتضي أمور منها : ـ
أولاً : حياؤك من الله يقتضي أن تستر عورتك :
فلقد سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل وحض على ستر العورات حياء من الله ومن الناس ،
فقد أخرج الإمام أحمد وحسنه الألباني عن معاوية بن حيدة – رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ، قلت : يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال: إن استطعت أن لايرينها أحد فلا ترينها أحداً ، قلت: يا رسول الله إذا كان أحدنا خالياً ؟ قال:
" الله أحق أن يستحيى منه من الناس ، وفي رواية : " الله أحق أن يستحيا منه "
ـ فإذا حرض - صلى الله عليه وسلم - على الستر في الخلوة تأدباً مع الله – عز وجل – واستحياءً منه
( وهو على الندب والكمال وليس على ظاهره المفيد للوجوب )
فكيف ينبغي أن يكون حياء الإنسان منه تعالى إذا فقده حيث أمره أو رآه حيث نهاه
وأين حياؤك أختي المسلمة ؟؟!! حينما خلعتي حجابك ، وخرجتي عارية متبرجة
عجبا ً!! النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بستر العورة في الخلوة استحياءً من الله ، وأنتي أيها الأخت المسلمة تكشفي عن عورتك أمام أعين الناس ولا تخشين ولا تبالي بنظر الله لكي ،
كيف أنتي؟؟!! عندما يسألك ربك يوم القيامة ويقول لكي : أمتي لم جعلتيني أهون الناظرين إليكي(1/21)
بل انظري إلى حال هؤلاء الرجال ، وأقول لكي رجال !!؟ لأن الأصل في حال المرأة أن تكون حيية عفيفة إلا من استحوذ عليها الشيطان فخلعت حجابها وحياءها .
انظري كيف كان حالهم وحياؤهم من الله تعالى ؟
1 – الصديق ـ رضي الله عنه ـ خطب الصديق في المسلمين فقال :
" أيها الناس استحيوا من الله ، فوالله ما خرجت لحاجة منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد الغائط ، إلا وأنا مقنع رأسي حياءً من الله تعالى ( مكارم الأخلاق لابن أبى الدنيا صـ20)
2- ويقول الحسن البصري عن عثمان وحياؤه :
إنه ليكون في البيت والباب عليه مغلق ، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء يمنعه الحياء أن يقيم صلبه
3- يقول أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – :
إني لأغتسل في البيت المظلم ، فما أقيم صلبى حتى آخذ ثوبي حياءً من ربي – عز وجل-
وعن قتادة قال :
كان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم ، تجاذب وحني ظهره حتى يأخذ ثوبه ولا ينتصب قائماً
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :
كان أبو موسى – رضي الله عنه – إذا نام لبس ثياباً عند النوم مخافة أن تنكشف عورته
ورأى قوماً يقفون في الماء بغير أُزُر فقال :
لأن أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر أحب إليّ من أن أفعل مثل هذا .
4- وها هو ابن عباس يحكي عنه عكرمة فيقول :
إنه لم يدخل الحمام إلا وحده وعليه ثوب صفيق وكان يقول إني أستحي الله أن يراني في الحمام متجرداً .
5- ويقول أبو مسلم الخولاني ـ رحمه الله ـ :
من نعمة الله عليّ إنني منذ ثلاثين سنة ما فعلت شيئاً استحي منه إلا قربى من أهلي
وانظري أختي المسلمة إلى هؤلاء النساء العفيفات الطاهرات وكيف كان حياؤهن : ـ
1- ابنة الرجل الصالح الذي استضاف موسى – عليه السلام - :
وهي مثال عال في الحياء والطهر للمرأة المسلمة ( ابنة رجل صالح تنحدر من بيت كريم ينضح بالعفاف والطهارة والصيانة وحسن التربية ) وكفاها شرفاً بثناء الله عليها(1/22)
قال تعالى : { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ( القصص 25)
قال عمر ـ رضى الله عنه ـ كما في مستدرك الحاكم :
" ليست بسلفع(1)من النساء خراجة ولاجة(2)ولكن جاءت مستترة قد وضعت كمّ درعها على وجهها استحياءً "
ـ والحياء هو الثمرة الطبيعية للمرأة المخبئة المحجبة عن الرجال ولا تخالطهم ، ولذلك البكر تستحي عندما يعرض عليها رجل ،بخلاف الخراجة الولاجة التي تخالط الرجال فهذه يضيع معها الحياء
فانظروا إلى هذه الفتاة جاءت تمشي على استحياء ، مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة واضعة ثوبها على وجهها
وصدق فيها قول الشاعر :
كأن لها في الأرض نسياً(3)تقصه ... على أمّها وإن تحدثك تبلت(4)
2- حياء أم خلاب :
أخرج أبو داود بسند فيه ضعف( وله شواهد تقرر ما كانت عليه الصحابيات )في كتاب الجهاد وفي فضل قتال الروم عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده قال :
__________
(1) ـ السلفع : هي السليطة الجريئة قليلة الحياء
(2) ـ الخراجة الولاجة : وهى التي تكثر من الخروج من بيتها من غير انضباط بضوابط الشرع
(3) ـ والنّسى : ما أضله أهله فيطلب ، أي : تتبعه ، فهي على شدة حيائها تثبت وجهها في الأرض ، وكأنها ضاع منها شيء ، تبحث عنه فلا ترفع رأسها أبداً من شدة الحياء
(4) ـ وإن تحدثك تبلت : وإن كلمتك تتقطع في الكلام ، ولا تستطيع أن تستمر في الكلام استحياء من الرجل .(1/23)
جاءت امرأة في موقعة بني قريظة ( جرت بعد غزوة الخندق والأحزاب ) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأل عن ابنها وقد قتلته يهودية من بني قريظة تسمى : نباتة ـ وقد قتلها النبي مع الرجال الذين قتلوا في بني قريظة ولم يقتل امرأة من اليهود إلا هذه ـ أخذت هذه المرأة حجارة كبيرة فرمتها على هذا العبد الصالح الذي يقال له خلاب من الصحابة – رضي الله عنه – فقتلته ، فجاءت أم خلاب تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابنها وهي منتقبة فقيل لها تسألين عن ابنك وأنت منتقبة ، قالت : إن كنت رزئت ابني ( فقدت) فلم أرزء حيائي ، فلما أخبرت أنه قتل قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هل له أجر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم له أجران ( من أجل أن الروم قتلوه )
3- حياء امرأة النعمان
وصف النابغة الذبياني حياء امرأة النعمان ، حين مرت بمجلسهم فسقط نصيفها ( أي برقعها) التي كانت قد تقنعت به ، فسترت وجهها بذراعيها وانحنت على الأرض ترفع نصيفها بيدها الأخرى
وفي ذلك قال :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
4- حياء أمّ أبيها – فاطمة – رضي الله عنها – بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( أ ) في صحيح البخاري :
أن فاطمة – رضي الله عنها – أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادماً ، فقال : ما جاء بك يا بنية ؟
قالت : جئت أسلم عليك واستحيت ، حتى إذا كانت القابلة أتته فقالت مثل ذلك .
وفي بعض روايات هذه القصة :
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءها وعلياً وقد أخذا مضاجعهما ، فجلس عند رأسها ، فأدخلت رأسها في اللفاع حياءً من أبيها ( لأنها كانت بجوار عليّ ) فأدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الألفة والأنس عليهما ، فقال لهما : كما أنتما – أي : لا تتحركا فجلس بينهما .
( ب ) وموقف آخر يدل على شدة حياءها :
ففي سنن أبي داود من حديث أنس – رضي الله عنه - :(1/24)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها قال : وعلى فاطمة – رضي الله عنها – ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال:
إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك
(جـ) فاطمة – رضي الله عنها – وحياؤها حتى بعد الموت :
تقول فاطمة لأسماء بنت عميس واسمعي يا أختاه هذا الحوار وعيه وتنبهي له وتدبري معانيه قالت لها : يا أسماء إني أستحيي أن يخرج بى غداً على الرجال – وهي تقصد أنها عندما تُحْمَل على الأعناق فإنه سيرى الرجال جسدها – يا له من حياء سامي ، حتى بعد الموت تخشى نظر الرجال إليها ، فقالت أسماء بنت عميس لفاطمة :ألا نصنع لك شيئاً رأيناه بالحبشة فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه ، توضع فيه المرأة فلا يراها من حولها ولا يراها الناس ، فقالت فاطمة: ما أحلى هذا وما أجمله ، سترك الله كما سترتيني ، سترك الله كما سترتيني .
هي بنت من ؟؟؟ هي زوج من ؟؟؟ هي أُمْ من ؟؟؟
من ذا الذي يداني الآنام علاها ، أما أبوها فهو أفضل مرسل ، وجبريل بالتوحيد قد رباها، وعلي زوج لاتسل عنه سوى سيف غدا يمينه تياها .
5- حياء الصديقة بنت الصديق – رضي الله عنه - :
وهذا حياء يعجز القلم عن كتابته ويعجز اللسان عن وصفه
إنها المرأة المؤمنة بفطرتها النقية تستحي من أي رجل حتى ولو كان زوجها ، فما ظنك بمن لا تستحي من الأحياء فحسب ، بل تستحي من الأموات ، إنها أُمُنَا الطاهرة النقية عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها –
فقد أخرج الحاكم في المستدرك عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت : كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي – رضي الله عنه – واضعة ثوبي ، وأقول إنما هو زوجي وأبي ، فلما دفن عمر – رضي الله عنه – والله ما دخلته إلا مشدودة عليّ ثيابي حياءً من عمر – رضي الله عنه –
6- حياء فاطمة بنت عتبة(1/25)
أخرج الإمام أحمد بسنده
إن فاطمة بنت عتبة جاءت تبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ عليها: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( الممتحنة :12 )
فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها ، فقالت :عائشة – رضي الله عنها – :
أقري أيتها المرأة فوالله ما بايعنا إلا على هذا ، قالت : فنعم ، إذن فبايعها بالآية
7- نموذج من هذا العصر
امرأة عجوز عفيفة نقية حيية ـ وكانت منتقبة ـ ذهبت إلى المستشفى لإجراء عملية في عينها ، فلما خرجت من العملية ونجحت ، بكت هذه العجوز فقيل لها : ما يبكيك يا فلانة ، وقد نجحت العملية والحمد لله ، قالت : أنا لا أبكي على عيني وإن فقدتها ، ولكن أبكي أن رجلاً قد رأى وجهي ، ولم ير وجهي أحد من الناس طوال هذه السنين
عجوز تبكي على أن رجلاً رأى وجهها وهي عجوز ، وهي ضرورة ولكنه الحياء
أختاه !! يا من خلعتى حجابك ولم تستحى من ربك ، ألستي حفيدة خديجة وعائشة وفاطمة ؟!!
ألستي من نساء المؤمنين ؟!! إذاً فعليك أن تنصاعي لقول رب العالمين :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ( الأحزاب 59)
أختاه !! أتعرفين من الذي أمرك بالحجاب ؟؟ إنه الله ، أتعرفين من هو الله ؟ قال تعالى :
{(1/26)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ( الزمر: 67)
الذي أمرك بالعفة{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ( غافر :19 )
فالمرأة إذا خلعت حجابها خلعت معه حياءها ، ومن خلعت حياءها خلعت إيمانها
فقد أخرج الحاكم في المستدرك بسند صحيح صححه الألباني من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الحياء والإيمان قرنا جميعاً ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر "
وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال كما عند البخاري : " إذا لم تستح فاصنع ما شئت "
فالمرأة بدون حياء لا تساوي شيئا ، لاتساوي المنديل الذي تلقيه في القمامة
أختاه !! اسمعي هذا الحديث وعيه جيداً ، وانظري أين أنت منه ؟؟!!
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما عند أبي داود :
" من جر ثوبه خيلاء لم ينظر إليه الله يوم القيامة "
فقالت أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن ، قال : يرخينه شبرا ، قالت :
إذن تنكشف أقدامهن ، قال : يرخين ذراعاً لا يزدن عليه "
يا سبحان الله !!! الرسول يقول لأم سلمة يرخينه شبراً ، ولكنها تقول إن النساء لا تطيق هذا لأن أقدامهن ستنكشف عند المشي ، فلم ترضى أن يرخى الثوب شبراً يجرجر في الأرض ، ولكن فتيات هذا الزمان رضين بهذا الشبر، ولكنه ليس شبراً يجرجر في الأرض ، لكنه شبراً فوق الركبتين
يقول أحدهم :
لحد الركبتين تشمرين ... بربك أي نهر تعبرين
كأن الثوب ظل في صباح ... يزيد تقلصاً حيناً فحينا
تظنين الرجال بلا شعور ... أم لأنك ربما لاتشعرين
وانظري إلى هذه المرأة السوداء ، امرأة من أهل الجنة ما حالها ؟؟؟!!! تعالي لنرى قصتها : ـ
أخرج البخاري ومسلم عن عطاء بن رباح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال :(1/27)
ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلت: بلى، فقال : هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي ، فقال : إن شئت صبرت ولك الجنة ،وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك ، فقالت : أصبر ، ثم قالت : إني أتكشف فادع الله تعالى لي ألا أتكشف فدعا لها
يا سبحان الله !!! تخاف أن يظهر شيء من جسدها وهي تعاني من مرض الصرع وهي معذورة ، ولكنها حيية عفيفة أبية ، فطلبت من النبي أن يدعو الله ألا تتكشف ، فهي تصبر على المرض وآلامه ولكنها لا تصبر على التكشف
فما بال اللاتي تكشفن عن أجسادهن بلا مرض ولا صرع ؟؟!!!!!!
واعلمي أختاه أن الستر قرين الحياء
فنجد أن المرأة الحيية هي التي تستر نفسها ، وكلما قل حياؤها ، كلما تكشف أكثر من جسدها ،
وكلما زاد الحياء زاد الستر، والله ـ سبحانه وتعالى ـ حيي ستيّر يحب الحياء ويحب الستر
كل أنواع الستر :
- ستر العورات
- لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم
- لا يحب إشاعة الفاحشة في المؤمنين والأخبار القبيحة
- لا يحب كشف عيوب الناس " من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا وفي الآخرة "
- ولا يحب المجاهرة بالمعصية " كل أمتي معافى إلا المجاهرين "
فقد يعمل الإنسان المعصية بالليل ، ثم يبيت وقد ستره الله ،ثم يصبح ويقول للناس أني قد فعلت كذا أو فعلت كذا ، فهذا يعاقب بأن الله لا يغفر له ، أما من ستر على نفسه فالله يقول له يوم القيامة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم
( وهذا لمن استحي من الله عند فعل المعصية ثم ندم على فعلها وتاب )
فلما ضاع الحياء عند أكثر الفتيات ظهر التبرج والسفور والعري
أختاه !!
اعلمي أن تبرجك دليلاً على نزع الحياء منك ، وأن نزع الحياء منك عقوبة من الله – عز وجل –
قال مالك بن دينار :
ما عاقب الله تعالى قلباً بأشد من أن يسلب منه الحياء
وقال بن سليمان :(1/28)
إذا أراد الله – تبارك و تعالى – بعبده هلاكاً نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً ( بغيضاً مبغوضاً من الناس )
أختاه !! صرخة إنذار من أخ يرجو لك النجاة من النار
ـ لا أرضى لكى أن تكوني من الصنف الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال:
كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" صنفان من أهل النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ، رءوسهن كأسنمة البخت ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا "
وفي رواية : " ألعنوهن فإنهن ملعونات "
ـ ولا أرضى لك أن تكوني معول هدم يستخدمه أعداء الإسلام للفتك بالشباب وضياع المجتمع
فلقد قال بعضهم :
لا يستقيم حال الشرق حتى تخلع المرأة حجابها وتغطي به القرآن
فيا أختاه !! :
إنا سمعنا شيئا عجاب
قالوا كلاما لايسر على الحجاب
قالوا خياما علقت فوق الرقاب
قالوا ظلاما حالكا بين الثياب
قالوا التأخر والتخلف في النقاب
قالوا الرشاقة والتطور في غياب
نادوا بتحرير الفتاة وألفوا فيه الكتاب
رسموا طريقا للتبرج لايضيعه الشباب
يا أختنا !!
هم ساقطون إلى الحضيض من التراب
يا أختنا هم سافلون بغيهم مثل الكلاب
يا أختنا هذا عواء الحاقدين من الذئاب
يا أختنا صبراً تذوب ببحره كل الصعاب
يا أختنا أنت العفيفة والمصونة بالحجاب
يا أختنا فيكي العزيمة والنزاهة والثياب
فالنار مثوى الظالمين هي لهم عقاب
والله يكشف ظلمهم يوم الحساب
والجنة مأوى لمن لبست حجابها
ويا حسن المآب
...
أختاه تذكري واعلمي!!! أنكي ستموتين ، وفي القبر ستدخلين ، وعلى ربك تعرضين
يوم لا تخفى منكِ خافية ، يوم ينادي على اسمك من بين الخلائق للحساب ، أين فلانة بنت فلان ؟؟!!(1/29)
هلمي إلى العرض ، هلمي إلى الله – عز وجل – فتثبين على قدميك ترتعد فرائصك ، وتضطرب جوارحك ، متغير لونك فزعة مرعوبة من الوقوف بين يدي الله الواحد القهار للسؤال والحساب ، فبأي لسان تجيبيه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك عندما كنت متبرجة ؟؟!!
وبأي قدم تقفين غداً بين يديه ،وبأي نظر تنظرين إليه ، وبأي قلب تتحملين كلامه العظيم الجليل ومساءلته إياك ،
يوم يقول لك يا أمة الله : جسمك لماذا عريتيه ؟ ولماذا لم تستريه ؟ لماذا لم تتقي الله فيه ؟
والشباب لماذا فتنتيه ؟ أما أجللتيني ؟ أما استحييت مني ؟ ما حالك عندها يا أمة الله ؟
أين عدتك أيتها الغافلة ؟ هل تنفع الأزياء والموديلات ؟ وهل تنفع الأغاني والمسلسلات ؟ فتأملي هذا اليوم ، وكيف سيقف الناس في أرض المحشر خمسين ألف سنة حفاة عراة غرلاً ، لا طعام ولا شراب ولا ظل ، تدنو فوق رئوسهم الشمس قدر ميل ، فهو أعظم يوم تنكشف فيه العورات ، ويؤمن فيه مع ذلك النظر والالتفات .
أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت :
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ، قلت يا رسول الله : النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى يعض ، قال : يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض "
فيا من أبيت إلا التعري ستقفين عارية يوم القبامة كيوم ولدتك أمك ، ومع ذلك لا يأبه بك ولا يلتفت إليك إنسان
واعلمي أن هذه الأعضاء التي تكشفيها ستشهد عليك يوم القيامة ، فهيا أختي أعلنيها مدوية
{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } ( طه :84) واعلمي أن الله غفور رحيم(1/30)
قال تعالى : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{53} وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ{54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ{55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ{56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ{58} بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (الزمر 53 : 59 )
فهيا...هيا أقبلي على الله أيتها الأخت الفاضلة فإن الله - تعالى - يغفر الذنوب مهما كانت ،
فقد أخرج الترمذي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني ، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء(1)ثم استغفرتني ، غفرت لك ولا أبالي ، ياابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض(2)خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة "
ثانياً : حياؤك من الله يقتضى ألا تبارزه بالمعصية :
من المعروف أن الإنسان الكريم لا يقابل الإحسان بالإساءة ، فإذا أحسن إليه شخص فلابد أن يقابل الإحسان بالإحسان {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } (الرحمن:60)
__________
(1) ـ العنان : ما عَن منها – أي ظهر – والمقصود هو السحاب
(2) ـ قراب الأرض : أي ما يقارب ملء الأرض(1/31)
والذي يفعل غير ذلك فهو اللئيم ، وهو الذي يقابل الإحسان بالإساءة ، هذا بالنسبة لإنسان مثلك
فما بالك من الرب الكريم ، فلو رأيت نعم الله التي تنزل عليك تتراً ليلاً ونهاراً وكل لحظة وفي كل نفس ، فلابد أن تستحيي أن تقابل هذه النعم بالمعاصي ، فإن فعلت فتكون نعم الله عليك نازلة وشرورك إليه صاعدة ، ملك ينزل بالنعم وملك صاعد بالسيئات والمعاصي ، تبارز بها رب العزة فأقبح بهذا من مقابلة
يقول الجنيد – رحمه الله - :
الحياء رؤية الآلاء مع رؤية التقصير – ترى نعم الله بقلبك وترى تقصيرك في حق الله ، فرؤية الآلاء مع رؤية التقصير ، يتولد بينهما حالة الحياء ( تتولد بسبب نعم الله وما أنت عليه من التقصير فهذه مقابلة غير منصفة فتتولد بينهما حالة تسمى الحياء ) وهي حالة تدفع الإنسان إلى ترك القبيح وفعل المليح وعدم التقصير في حق الله
يقول محمد بن علي – رحمه الله – :
اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك
واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك
واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه طرفة عين
واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه
قال الحسن :
من شاهد آلاء الله ونعمه الظاهرة والباطنة ، حمله ذلك على الاستحياء من الله ، وإلا فلا قلب حي لهذا العبد
يقول الشاعر :
هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق ... حياء العباد من المنعم
ثالثاً : حياؤك من الله يقتضى أن تستحي منه في السر و العلانية :
قال تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك 2)
فلم يقل سبحانه أكثر عملا ولكن قال أحسن عملا
وأيضاً في قوله تعالى :
{وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ( هود :7 )(1/32)
إذن الامتحان ليس بكثرة العمل ، الامتحان في حسن العمل ، فإحسان العمل هو الذي سنسأل عنه ، ولكن ما هو الإحسان ؟
يأتينا الجواب من الحبيب - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله جبريل عن الإحسان فقال الإحسان :
" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
فهذا هو الإحسان ، أن تستحضر في كل لحظة أن الله – سبحانه وتعالى – معك يراك ويسمعك
قال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } (العلق : 14 )
وقال تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ( غافر :19 )
ويزداد الإنسان إحساناً ومراقبة ، عندما يتدبر ويتصبر بصفات الله تعالى
قال تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } ( الأحزاب : 52 )
وقال تعالى : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ( البروج :9)
وقال تعالى : " { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ( البقرة :265)
فكل شىء في حق الله مشهود لا يغيب عنه ، حتى أنه يعلم ما تخفي الصدور ،
فلو علم كل إنسان أن الله معه حيث كان يراه ويسمعه فسيكون أكثر حياء منه وأشد مراقبة
ولك أن تتخيل !! لو أن هناك ملك سفاك للدماء شديد البطش والنكال ، وأن السياف قائم عند رأسه ، والنطع مبسوط للقتل ، وحول هذا الملك أزواجه وبناته ، وأنت واقف بين يديه وهو مطلع عليك ناظر إليك ، تراك تنظر إلى محارمه وهو شديد الغيرة ؟ لا بل ستغض الطرف وتنظر إلى الأرض لأنك تعلم أنك لو نظرت إلى محارمه ستقطع رقبتك ، وهذا الملك بشر ، قد يغفل لحظة أو ينام أو يغيب ، ساعتها قد تنظر ، فكيف تتجرأ على محارم الله ، والناظر إليك هو الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .
ولو دخل لص محل كبير ليسرقه ، ثم وجد هناك كاميرات تليفزيونية تراقبه ، ورجال أمن ينظرون إليه ما تجرّأ أن يسرق شيئاً ،فكيف وأن الناظر هو الله ؟؟!!
الحاضر الذي لا يغيب ، الحي الذي لا يموت(1/33)
الشهيد الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
السميع الذي يسمع جميع الأصوات على تفنن الحاجات باختلاف اللغات
البصير الذي يبصر النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء
قال الإمام عبد الله بن المبارك – رحمه الله – لرجل :
راقب الله تعالى ، فقال الرجل ما أفهم تفسير هذا ، قال : كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل
وقال رجل للجنيد :
كيف أستعين على غض البصر؟ قال : بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه
لما غاب الحياء من الله عند كثير من الناس تجرؤا على محارم الله
أخرج ابن ماجة من حديث ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" لأعلمنّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله هباءً منثورا ، قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلّهم لنا ، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم ، قال : أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها "
وكم ذي معاص نال منهن لذة ... ومات فخلاها وذاق الدواهيا
تتصرم لذات المعاصي وتنقضي ... وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فيا سوأتا والله راء وسامع ... لعبد بعين الله يغشى المعاصيا
فإلى من يعصي الله عز وجل : ـــ
إذا كنت تعتقد أن الله لا يراك ...... فهذا كفر
وإذا كنت تعتقد أن الله يراك ...... فهذا قلة حياء ( أن تعصيه وهو ينظر إليك )
1) قال حميد الطويل لسليمان بن عليّ:
عظني ، فقال له : إذا كنت عصيت الله خالياً وعلمت أنه يراك ، فلقد اجترأت على أمر عظيم ، وإن ظننت أنه لا يراك فقد كفرت
2) وقال فرقد:
إن المنافق ينظر ، فإن لم يره أحد دخل مدخل السوء فإنما يراقب الناس ولا يراقب الله تعالى
3) قال ابن عباس – رضي الله عنه – كما في حلية الأولياء - :
يا صاحب الذنب لا تأمننّ من سوء عاقبته وإن ما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذ عملته(1/34)
قلة حياؤك ممن على اليمين والشمال – وأنت على الذنب – أعظم من الذنب إذ عملته
وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك– أعظم من الذنب إذ عملته
وفرحك بالذنب - إذا ظفرت به – أعظم من الذنب إذ عملته
وحزنك على الذنب إذا فاتك - أعظم من الذنب إذ عملته
وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك – وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك - أعظم من الذنب إذ عملته
وإذا ما خلوت الدهر يوم ... فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
لا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا ما تخفيه عنه يغيب
4) قالت امرأة لرجل وهو يراودها عن نفسها:
ألا تستحي ، قال: ما يرانا إلا الكواكب ، فقالت له : فأين مكوكبها
وإذا خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان
فأستحي من نظر الإله وقل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني
فهيا أخي الحبيب أقبل على الله وكن ممن قال الله فيهم :
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ( الرحمن : 46 )
قال مجاهد :
هو الرجل يخلو بمعصية الله ، فيذكر مقام الله فيدعها فرقا ( خوفا) من الله
ثانيا : الاستحياء من الملائكة
قال بعض السلف :
إذا أصبح العبد ابتدره الملك والشيطان ، فإذا ذكر الله وكبره وحمده وهلله ، تولاه الملك وخنث الشيطان ، وإن افتتح بغير ذلك ، ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان ، فهنيئا لمن تولته الملائكة في حياته وعند موته وعند بعثه ونشوره
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ }
( فصلت 31:30)
فيقول له الملك عند الموت كما ثبت ذلك في مسند الإمام أحمد:
" لاتخف ولا تحزن وأبشر بالذي يسرك "(1/35)
فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له ، وهو وليه في يقظته ومنامه وحياته وعند موته وفي قبره ، ومؤنسه في وحشته وصاحبه في خلوته ومحدثه في سره ، ويحارب عنه عدوه ،ويدافع عنه ويعنيه عليه ،ويعده بالخير ويبشره به .
وإذا اشتد قرب الملك من العبد ، تكلم على لسانه ، وألقى على لسانه القول السديد
والحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط بسند حسن عن علي بن أبي طالب أنه قال: " إن السكينة تنطق على لسان عمر – رضي الله عنه –
وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول : ما ألقاه على لسانك إلا الملك ، ويسمع ضدها فيقول : ما ألقاه على لسانك إلا الشيطان
وصحبة الملك للرجل فيها الخير الكثير
إذا دعا العبد المسلم بظهر الغيب لأخيه أمنّ الملك على دعائه فقال : ولك بمثله ( مسلم)
وإذا فرغ من قراءة الفاتحة أمنّ على دعائه (متفق عليه)
وإذا نام على وضوء بات في شعاره(1)ملك ( ابن حبان )
وإذا صلى وانتظر الصلاة صلت عليه الملائكة واستغفروا له
وإذا أذنب العبد الموحد المتبع لسبيل الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - استغفر له حملة العرش ومن حوله ، وإذا سابك أحد نافح الملك ودافع عنك
وإذا كان هذا هو حالهم ( الملائكة ) فلا يليق بك أن تسيء جوارهم ، وتبالغ في أذاهم وتطردهم
وإذا كان إكرام الضيف من الآدميين ، والإحسان إلى الجار من لوازم الإيمان ، فما الظن بإكرام أكرم الأضياف وخير الجيران وأبرهم بك
فأكرموهم واستحيوهم :
ففي سنن الترمذي وله شاهد من حديث بهر بن حكيم عن أبيه عن جده عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إياكم والتعرى ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط ، وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم "
إ ياكم و المعصية :
فمن شؤم المعصية أنها تبعد عنك الملائكة وتتولاك الشياطين
__________
(1) ـ شعار الثوب الذي يلي الجسر(1/36)
فإنك إن فعلت معصية فإنهم لا يصحبونك ويبتعدون عنك حياءً منك وأنت على تلك الحالة
1 ـ ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تصحب الملائكة رفقة معهم جرس "
2 ـ وعند النسائي عن أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" لا تدخل الملائكة بيت فيه جرس "
3 ـ وعند أبي داود : " لا تصحب الملائكة رفقة معهم جلد نمر(1)
4 ـ وعند النسائي : " لا تدخل الملائكة بيت فيه صورة ولا كلب "
5 ـ وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" إذا كذب العبد ،تباعد الملك عنه ميلا من نتن ما جاء به " حسنه الترمذي
6 ـ وفي سنن أبي داود بسند حسن" أنه اختصم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان فجعل أحدهما يسب الآخر وهو ساكت ، فتكلم بكلمة يرد بها على صاحبه فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله لما رددت عليه بعض قوله قمت ، فقال :
" كان الملك ينافح(2)عنك فلما رددت عليه جاء الشيطان فلم أكن لأجلس "
قال ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي :
قال بعض الصحابة – رضي الله عنهم- : إن معكم من لا يفارقكم ، فاستحيوا منهم وأكرموهم
ولا أحقر ولا أخس ممن لا يستحيي من الكريم العظيم القدر ، ولا يجله ولا يوقره
وقد نبه – سبحانه وتعالى – على هذا المعنى بقوله :
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ{10} كِرَاماً كَاتِبِينَ{11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ( الانفطار 10-12)
__________
(1) ـ ( لأنه مفترس وهو مما يبغضه الله )
(2) ـ ينافح : أي يذب عنك ، والمنافحة : المدافعة والمضارة(1/37)
أي : استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم ، وأجلّوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه من هو مثلكم ، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ، فإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه ، فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين ؟
ـ وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول في قوله تعالى :
{وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} ( ق:21)
ما على أحدكم إذا خلا أن يقول اكتب رحمك الله ، فيملي خيراً
وكان أحدهم إذا خلا يقول : أهلا بملائكة ربي ، لا أعدمكم اليوم خيرا ،خذوا على بركة الله ، ثم يبدأ في ذكره ، سبحان الله ، والحمد لله ...................إلخ
ثالثاً : الاستحياء من الناس :
االاستحياء من الناس خلق حسن جميل يمنع من المعايب ويشيع الخير والعفاف ويعود النفس ركوب الخصال المحمودة
1 ـ قال حذيفة بن اليمانى – رضي الله عنه – : " لاخير فيمن لا يستحي من الناس"
2 ـ وقال بعضهم : " أَحْي حياؤك بمجالسة من يستحيا منه"
3 ـ وقال مجاهد : لو أن المسلم لم يصيب من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصي لكفاه.
ـ وقد نصب النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا الحياء حكماً ، على أفعال المرء ، وجعله ضابطاً وميزاناً
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث النواس بن سمعان ـ رضى الله عنه ـ
أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس "
وأخرج ابن حبان بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" ما كرهت أن يراه الناس فلا تفعله إذا خلوت "
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي استوصاه :
" أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك "(1/38)
فلا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح أمام الرجل الصالح ، فكيف وأن المطلع عليه هو الله ؟؟ فمن استحيى من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه ، تجنب جميع المعاصي ،
فيا لها من وصية ما أبلغها ، وموعظة ما أجمعها
ذكر ابن قدامة في كتابه التوابين عن جعفر الصائع قال:
كان في جيران الإمام أحمد رجل ممن يمارس المعاصي ، فجاء يوماً إلى مجلس أحمد ، فسلم عليه فكأن الإمام أحمد انقبض منه ، فقال له هذا الرجل : يا أبا عبد الله لم تنقبض مني ؟ فإني قد انتقلت عما كنت تعهدني برؤية رأيتها ، قال : وأي شيء رأيت ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم كأنه على علو من الأرض ، وناس كثير أسفل جلوس ، قال: فيقوم رجل رجل منهم إليه ،فيقول : ادع لي فيدعو له ، حتى لم يبق من القوم غيري ، قال : فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت عليه ، قال لي يا فلان : لم لا تقوم إليّ فتسألني أن أدعو لك ؟ ، قال : قلت: يا رسول الله يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه ، فقال : إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدع لك ( طالما أنك تستحيي مني فهذه علامة طيبة) فإنك لا تسب أحداً من أصحابي ، قال : فقمت فدعا لي ، فانتبهت وقد بغض الله إليّ ما كنت عليه ، فقال جعفر : فقال لنا الإمام أحمد : يا جعفر ، يا فلان ، حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع .
وفي كتاب التوابين كذلك لابن قدامة أن أبو الفتح بن مخرق قال :(1/39)
تعلق رجل بامرأة من بنات الشام ، فتعرض لها وبيده سكين ، لا يدنو منه أحد إلا عقره ، وكان الرجل شديد البدن ، فبينما الناس كذلك والمرأة تصيح في يده ، إذ مر بشر بن الحارث الحافي فدنا منه ، وحكّ كتفه بكتف الرجل ، فوقع الرجل إلى الأرض ومضى بشر ، فدنوا من الرجل وهو يرشح عرقاً كثيراً ، ومضت المرأة بحالها ، فسألوه : ما حالك؟ فقال ما أدري، ولكن حاكنى شيخ وقال : إن الله ناظر إليك وإلى ما تعمل ، فضعفت لقوله قدميّ ، وهبته هيبة شديدة لا أدري من ذاك الرجل ، فقالوا له : ذاك بشر بن الحارث ، فقال :واسوأتاه كيف ينظر إليّ بعد اليوم ؟!
وحُمّ الرجل من يومه ومات اليوم السابع
ومن لا يستحي من فعل المعصية أمام الناس فهو من أشر الناس .
فقد ذكر الإمام أحمد عن العبد الصالح لقمان أنه قيل له :
أي الناس شر ، قال : من لا يبالي أن يراه الناس مسيء
رابعاً: الاستحياء من النفس :
من استحيى من الناس ولم يستح من نفسه ، فنفسه أخسّ عنده من غيره ؛ لأنه يراها أحقر من أن يستحي منها ، ومن المعلوم أن الإنسان إذا هم بقبيح فإنه يستحيي ممن يكبر في نفسه ، ولذلك فإنه لا يستحي من الحيوان ولا من الأطفال ولا من الذين يميزون ، ويستحي من العالم أكثر مما يستحي من الجاهل ، ومن الجماعة أكثر مما يستحي من الواحد ، وينبغى على الإنسان إذا كبرت عنده نفسه أن يكون استحياؤه منها أكثر من استحيائه من غيره .
ومن ثمّ قال بعض السلف :
" من عمل في السر عملا يستحيي منه في العلانية ، فليس لنفسه عنده قدر "
قال نفطويه :
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعنى ... منه الحياء وخوف الله والحذر
فضائل الحياء
(1) الحياء من الإيمان :
1- فقد أخرج الإمام مسلم من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" الحياء من الإيمان "
2- وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(1/40)
" الإيمان بضع وستون شعبة – أو قال بضع وسبعون شعبة – والحياء شعبة من الإيمان "
قال الخطابي : معنى قوله الحياء شعبة من الإيمان : أي الحياء يحجز صاحبه عن المعاصي ، فصار من الإيمان إذ الإيمان ينقسم على : ائتمار بما أمر الله به ، وانتهاء عما نهى الله عنه
وقال البغوي : أنه لما كان الحياء سبباً يمنع صاحبه عن المعاصي كالإيمان ، عد ّالحياء من شعب الإيمان وإن لم يكن أمراً مكتسباً
3- وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما –
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" دعه فإن الحياء من الإيمان "
وهذا رد على الذين يقولون إن الحياء أو الخشا في الرجال عيب
ذكر النووي في شرح هذا الحديث قوله :( يعظ أخاه في الحياء ) أي ينهاه عنه ويقبح له فعله ويزجره عن كثرته فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : دعه فإن الحياء من الإيمان
4- وأخرج الترمذي عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ،والبذاء(1)من الجفاء ، والجفاء في النار "
- قال محمد بن عبد الله البغدادي :
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... فلا خير في وجهه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك ... إنما يدل على وجه الكريم حياؤه
فالحياء ليس فقط من الإيمان ولكنه قرين الإيمان :
فقد أخرج الحاكم بسند صحيح صححه الألباني من حديث ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن الحياء والإيمان قُرنا جميعاً ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر "
وقالوا قديماً : الحياء نظام الحياة فإذا انحل النظام ذهب ما فيه
وصدق وهب بن منية حيث قال :
" الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء "
(2) الحياء فطرة الله التي خص بها الإنسان دون غيره :
__________
(1) ـ البذاء : إظهار الفحش من القول(1/41)
فمن نعم الله على الإنسان أن خصه بهذا الخلق دون سائر الحيوانات والمخلوقات ، فإن البهيمة لعدم وجود الحياء عندها فإنها إذا اشتهت شيئاً تركبه ، ولا تبالي إن أرادت البهيمة أن تقضي حاجتها في الطريق فتقضيها ولا تستحيي ، أما الإنسان فقد زينه الله بزينة الحياء ليمنعه من فعل القبيح
قال المناوي :
ومما جبل عليه الإنسان الحياء من النفس ، ومن النفوس كلها ، كالحياء من كشف العورة والجماع بين الناس .......... وهذه هي فطرة الله
قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (الروم :30)
فالحياء من سنن الفطرة التي خلقها الله وفطرها في العباد ، حتى قبل ظهور الإسلام ، ولقد كانت العرب أحسن الأمم أخلاقا ، وكان الحياء من هذه الأخلاق التي كانت معروفة ومشهورة عن العرب
وهذا هو أبو سفيان سأله هرقل ، عن أقرب الناس نسباً لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ؟
فأجابه أبو سفيان كما في صحيح البخاري قائلاً : أنا أقربهم له نسبا ، فأمر هرقل أن يدنو أبو سفيان وأصحابه منه ، ثم قال لترجمانه : قل لهم إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه ، فقال أبو سفيان فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عليه .
- فمن لاحياء له ، فليعلم أن فطرته مطموسة وقلبه ميت
(3) الحياء خلق فاضل يكسو المرء وقاراً:
قال الحسن : أربع من كن فيه كان كاملاً ، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي قومه
( دين يرشده ، وعقل يسدده ، وحسب يصونه ، وحياء يقوده )
فالحياء خير عظيم ، فالرجل الحيي يتخوف على مكارمه ومحامده أن يضيع بهاؤها وينطفئ سناؤها
والرجل الحيي يجود بإراقة دمه على إراقة ماء وجهه ، ويكفي الحياء فخراً كونه على الخير دليلاً : إذ مبدأ الحياء انكسار وانقباض يلحق الإنسان مخافة نسبته إلى القبيح ،(1/42)
بل يكسب الحياء الإنسان جملة من الخصال الحميدة ؛ كالإيمان ، والاستقامة ، والعفة ، وغض البصر ، وحفظ الفرج ، ودوام المراقبة ...... إلخ
فالحياء خير زينة يتزين بها الإنسان الحيي ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
فيما رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ :
" ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه ، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه "
وكما قيل : " الوجه المصون بالحياء كالجوهر المكنون في الوعاء "
(4) الحياء أصل لكل خير:
أخرج الإمام مسلم من حديث عمران بن حصين أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" الحياء خير كله "
وأخرج البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" الحياء لا يأتي إلا بخير، فقال بشير بن كعب : مكتوب في الحكمة أن منه وقاراً ومنه سكينة ، فقال عمران : أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتحدثني عن صحفك .
قال الحافظ بن حجر :
وإنما غضب عمران بن حصين لأن الحجة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا فيما يروي عن كتب الحكمة؛ لأنه لا يدري ما في حقيقتها ولا يعرف صدقها
قال ابن شهاب : دعوا السنة تمضي ولا تعرضوا لها بالرأي
وقالوا قديما : كفى بالحياء على الخير دليلا وعن السلامة مخبرا ومن الذم مجيرا .
وأخيراً لابد أن نعلم جميعا أن :
ضياع الحياء ضياع للفرد وللأمم والشعوب والمجتمعات
1- ففى سنن ابن ماجة وحسنه الألبانى من حديث زيد بن طلحة ـ رضى الله عنه ـ
أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " أن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء "
2- وتقول عائشة – رضى الله عنها – : ( الحياء رأس مكارم الأخلاق )
ـ فإذا ضاع الحياء ضاعت الأخلاق ، ومن المعلوم عند ذوى الألباب أنه لا بقاء لأمة لا أخلاق لها
فقد قال الشاعر :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا(1/43)
ـ فإذا نزع الحياء من المجتمع ، فقد شرب أفراده كأس الشيطان حتى الثمالة ، وغرقوا فى مستنقع الرذيلة دون رادع من خلق ودين، فتعم فى أرجائه الفوضى ويسود فيه الفساد وتفشو الإباحية ، فيصير المجتمع متحررا من الروابط الإيمانية والقيود الإسلامية .
3- وصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول كما عند الترمذى من حديث ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ
" الحياء والعى(1)شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان(2)شعبتان من النفاق "
4- وقال النبى - صلى الله عليه وسلم - أيضا كما فى مسند الإمام أحمد وصححه الألبانى من حديث أنس بن مالك:
" ما كان الفحش فى شيء قط إلا شانه ، ولا كان الحياء فى شيء إلا زانه "
قال المناوى : وفيه إشارة إلى أن الأخلاق الرذيلة مفتاح كل شر بل هى الشر كله ، وكذلك الأخلاق الحسنة مفتاح للخير .
يقول ابن القيم كما فى مفتاح دار السعادة ص (277) :
(وخلق الحياء من أفضل الأخلاق وأعظمها قدرا وأكثرها نفعا ، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم ، وليس معه من الخير شيء .)
ولولا هذا الخلق ( خلق الحياء ) : لم يقر ضيف ، ولم يوفِ بوعد ، ولم تؤدَ أمانة ، ولم تقضَ لأحد حاجة ، ولا تحرى الرجل الجميل فآثره ، والقبيح فتجنبه ، ولا ستر عورة ، ولا امتنع عن فاحشةٍ ، وكثير من الناس لولا الحياء لم يؤدِ شيء من الأمور المفترضة عليه ، ولم يرع لمخلوق حقا ، ولم يصل له رحماً ، ولا بر له والداً .
مجتمع هذا حال أفراده فكيف سيكون حاله....؟ والسبب قلة الحياء .
فقد قال بعضهم :
ورب قبيحة ما حالَ بينى ... وبين ركوبها إلا الحياء
إذا رُزق الفتى وجها وقاحا ... تقلب فى الأمور كما يشاء
كمال الحياء ونهايته ألا تستحي من الحق
ـ قال سفيان بن عيينة – رحمه الله - :
__________
(1) ـ العى : سكوت اللسان خشية الوقوع فيما لا يحل
(2) ـ البيان : فصاحته فى غير الحق(1/44)
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الميزان الأكبر وعليه تعرض الأشياء ، على خلقه وسيرته وهديه ، فما وافقها فهو الحق ، وما خالفها فهو الباطل .
ـ وقال المناوى فى فتح القدير (1/287): قال القرطبى – رحمه الله - :
قد كان المصطفى – عليه الصلاة والسلام – يأخذ نفسه بالحياء ، ويأمر به ويحث عليه ومع ذلك لا يمنعه الحياء من حق يقوله ، أو أمر دينى يفعله تمسكا بقوله تعالى : {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } ( الأحزاب : 53 )
وهذا هو نهاية الحياء وكماله وحسنه واعتداله
ـ فإن من فرط عليه الحياء حتى منعه من الحق ، فقد ترك الحياء من الخالق ، واستحيا من الخلق ، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء ، واتصف بالنفاق والرياء .
والحياء من الله هو الأصل والأساس ، فإن الله أحق أن يُستحيا منه ، فليحفظ هذا الأصل فإنه نافع .
ـ فإن ترك الحياء فى النصح والأمر والنهى الشرعيين ولإظهار الحق هى من النعوت الإلهية والسنة الربانية .
قال تعالى : { وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } ( الأحزاب : 53)
فالذى يتهيب تقريع المبطلين لا يعتبر حيياً .
ـ وقد زيف الله – تبارك وتعالى – الآلهة المزيفة وفضح شأن هذه العقائد الفاسدة ،
فقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } ( الحج : 73)
وبعد أن حقر آلهة الكفار وفضح عجزها من خلق ذبابة ، بل حتى عن حماية نفسها إذا هاجمتها ذبابة
وقال – تبارك وتعالى– فى موضع آخر :
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ( البقرة : 26 )(1/45)
ـ فإن الله لا يستحيى أن يضرب مثل هذه الأمثلة فى مقام الانتصار للعقيدة الصحيحة ، وإفساد العقائد الباطلة ، فالسنة الإلهية أن الله لا يستحيى من الحق .
فالحياء ليس له موضع إذا ضل الناس أو انتفش الباطل ، والتاريخ الإسلامى حافل بنماذج كثيرة جدا من الصدع لكلمة الحق ، وعدم الاستحياء من ذلك .
وإليكم هذه النماذج التى تؤكد على هذا الأصل : ـ
1ـ الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ـ
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع كمال حيائه ، ومع كونه أشد من العذراء فى خدرها ، إلا أنه كان يقول :
فى مسند أبى يعلى بسند صحيح ، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
" استحوا فإن الله لا يستحيى من الحق ، ولا تأتوا النساء فى أدبارهن "
2ـ الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ـ
لما طُعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ودخل عليه الناس وكان معهم شاب، فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقدم فى الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة فى سبيل الله ، فقال عمر : وددت أن ذلك كفافاً لا لى ولا على ، فلما أدبر الرجل إذا إزاره يمس الأرض ، فقال عمر - رضي الله عنه - ردوا الغلام ، ثم قال : يا ابن أخى ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك
( أو أبقى لثوبك ) وأتقَََى لربك .
3ـ أبو أيوب الأنصارى - رضي الله عنه - وفهمه السليم لكمال الحياء : ـ
فقد أخرج الطبرانى عن سالم بن عبد الله قال : أعْرست فى عهد أبى فآذن أبى الناس ، وكان أبو أيوب فيمن آذنا ، وقد ستروا بيتى بنجاد أخضر ، فأقبل أبو أيوب فدخل فرآنى قائماً ، واطلع فرأى البيت مستترا بنجاد أخضر ، فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر ؟ ؟ قال أبى ـ واستحيا ـ : غلبنا النساء أبا أيوب ، فقال من كنت أخشى أن تغلبنه النساء فلم أكن أخشى عليك أن تغلبنك ، ثم قال : لا أطعم لكم طعاماً ، ولا أدخل لكم بيتاً ، ثم خرج ـ رحمه الله ـ .(1/46)
4ـ سفيان الثورى والخليفة المهدى : ـ
وكان صلبا فى الحق ، أنكر مرة ـ فى بعض المجالس ـ على الخليفة المهدى فى بعض الأمور ، فاشتد فى الإنكار حتى أن الوزير( وزير المهدى ) قال لسفيان : شططت تكلم الأمير بمثل هذا ، فقال له سفيان : اسكت ؟ ما أهلك فرعون إلا هامان ،
فلما ولى سفيان بعدما نصح ومشى ، قال أبو عبيد الله : يا أمير المؤمنين ، ائذن لى أضرب عنقه ، فقال : اسكت ، ما بقى على الأرض من يستحيى منه غير هذا .
وموقف آخر لسفيان الثورى ـ رحمه الله ـ مع أحد جلسائه : ـ
كان هناك رجل أعمى يجالس سفيان ، فإذا جاء شهر رمضان خرج إلى السواد ( القرى ) يصلى بالناس صلاة القيام ، وبعد الصلاة يكسى وتعطى له الهدايا مقابل أن صلى بالناس ،
فجاء هذا الرجل فى مجلس سفيان ،
فقال سفيان : إذا كان يوم القيامة أصيب أهل القرآن من قرآنهم ، ويقال لمثل هذا : قد تعجلت ثوابك ، فقال له الرجل : يا أبا عبد الله ، تقول هذا لى وأنا جليس لك ،
فقال سفيان : إنى أتخوف أن يقال لى يوم القيامة : إنه كان جليس لك أفلا تنصحه ؟؟
ـ لأنه كان يقبل الهدايا مقابل قراءة القرآن ـ .
5 ـ ابن طاووس وأبو جعفر المنصور ( الحاكم العباسى ) : ـ
يقول الإمام مالك : بعث إلى أبو جعفر المنصور( الحاكم العباسى ) وإلى ابن طاووس فدخلنا عليه وهو جالس على فرش وثيرة ، وبين يديه السياف وقد أمسك بسيفه ، ويجلس مع أبى جعفر حاشيته ، وبمجرد أن دخلنا أومأ إلينا أبو جعفر بالجلوس ، وأطرق عنا طويلا ،
ثم التفت إلى ابن طاووس فقال له : حدثنى عن أبيك ،
قال : نعم ، سمعت أبى يقول : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله فى حكمه ، فأدخل عليه الجور ( الظلم ) فى عدله ، قال مالك : فضممت ثيابى مخافة أن يملأنى دمه ،
ثم التفت إليه أبو جعفر فقال : عظنى يا ابن طاووس ،(1/47)
قال : نعم . أما سمعت الله يقول : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) إلى قوله ( الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ) ( الفجر )
قال مالك : فضممت ثيابى مخافة أن يملأنى دمه ،
فأمسك المنصور ساعة ثم قال : يا ابن طاووس ناولنى الدواة ،
فأمسكها ابن طاووس ولم يناولها إياه ، وهى فى يده ،
قال أبو جعفر : ما يمنعك أن أن تناولينها ؟؟
قال ابن طاووس : أخشى أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها ،
فلما سمع المنصور ذلك قال : قوموا عنى ، قال ابن طاووس : ذلك ما كنا نبغ ،
قال مالك : فما زلت أعرف بعدها لابن طاووس فضله .
وهؤلاء امتثلوا قول النبى - صلى الله عليه وسلم - :
كما عند ابن ماجة وفى مسند الإمام أحمد وصححه الألبانى من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعا :
" لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه ، فإنه لايقرب من أجل ، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق ، أو أن يذكر بعظيم . "
وقال عبيد بن عمير : آثروا الحياء من الله على الحياء من الناس .
ولم يفهم كثير من الناس هذا الأصل ، فوقعوا فى مخالفات شرعية حياء من الناس
ومنها : ـ
1 ـ ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حياء من الناس : ـ
وهذا ليس من الحياء فى شيء بل هذا ضعف وعجز ومهانة وخوار
أخرج الإمام أحمد وابن ماجة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
" لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا فيه مقال فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت فى كذا وكذا ؟؟ فيقول : مخافة الناس فيقول: إياي أحق أن تخاف "
ملحوظة : الأمر بالمعروف لابد أن يكون بمعروف ، والنهى عن المنكر يكون بغير منكر
2 ـ خروج المرأة سافرة متبرجة كاشفة جسدها للأجانب : ـ
فإذا نظر إليها رجل إ حمر وجهها وحاولت أن تستر جسدها ، فهذا ليس من الحياء ، وإنما الحياء أن تلبس حجابها وتستر جسدها ، ولا تخرج إلا لضرورة ومعها محارمها .(1/48)
3 ـ مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية: ـ
زعمًا منه أنه استحيا لأنها مدت يدها لتصافحه ، أو العكس بالنسبة للمرأة فهذا ليس من الحياء إنما ضعف فاستحى من المخلوق ولم يستح من الخالق .
وقد أخرج الطبرانى فى الكبير وصححه الألباني عن معقل بن يسار ـ رضى الله عنه ـ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :
" لأن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له "
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضا : " اليد تزنى وزناها البطش(1)"
وهو القائل - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أصافح النساء " ( أحمد )
4 ـ عدم أخذ الضمانات عند الإ قراض : ـ
فهذا ليس من الحياء فى شيء ، فنجد أن الرجل يقرض رجلا مالا وهو لا يثق بأمانته ويود أن لو يشهد عليه الجن والإنس ، ومع ذلك يستحى أن يستكتبه الدين أو أن يشهد عليه ، وإذا حصل أدنى خلاف تتحول هذه العاطفة والصداقة إلى عداوة شديدة وخصومات وتنتهى بالمحاكم وربما للسجن ، وكل ذلك لأنهم لم ينضبطوا بضابط شرعى فى تعاملهم وهو كتابة الدين ، والله ـ عز وجل ـ أنزل أطول آية فى القرآن آية الدين ليحفظ كل ذى حق حقه ، ولك أن تتخيل إذا لم يرجع المال لصاحب المال المقرض فهل تنتظر أن يساعد أحدا بعد ذلك ، وفى هذا سدا لباب الخير وفك عسرات الناس .
ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الحاكم من حديث أبى موسى الأشعرى ـ رضى الله عنه ـ :
" ثلاثة يدعون الله ـ عز وجل ـ فلا يستجاب لهم : رجل كان تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه ، ورجل أتى سفيها ماله ."
وقال الله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5)
(
__________
(1) ـ البطش : يعنى اللمس ويدخل فيها المصافحة(1/49)
النوع الأول ) لا يستجاب للرجل فى هذه الزوجة لأنه المعذب نفسه بمعاشرتها وهو فى سعة من فراقها، ولا يفهم من هذا أنها دعوة للطلاق لا بل الشرع يحث على الصبر على المرأة
قال تعالى : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء : 19)
لكن المقصود هو عدم أذيتها بالدعاء عليها فإنه لا يستجاب له لأن فى يده التخلص منها ، ومع ذلك يمسكها بإرادته .
( النوع الثانى ) لا يستجاب للرجل الذى يدعو على من أخذ منه دين ثم لم يرده ، وذلك لأن الله شرع له الضوابط والإجراءات التى تحمى له ماله ، ولكنه لم يفعل ووضع ثقته فى غير محلها كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ( ما خان أمين قط ، ما خان أمين قط ، ولكن ائتمن غير أمين فخان )
فأنت الذى قصرت وفرطت فإذا دعوت فلا يستجاب لك.
( النوع الثالث ) لايستجاب لرجل يدعو على سفيها مكنه من ماله فضيعه وبدده شذر مذر فأنت تعلم أنه سفيه وفى عقله نقص ، ومع ذلك تمكنه من مالك فأنفقه فى العبث وبدده وفرقه شذر مذر، فإذا دعوت عليه فلا يستجاب لك فيه ؛ لأنك لم تمتثل لقول الحق ـ سبحانه وتعالى ـ :
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5)
5 ـ ترك النساء بمفردهن مع الطبيب :ـ
كأن تترك زوجتك أو ابنتك أواختك مع الطبيب ليكشف عليها بل ويطلب منك أن تخرج فتخرج ، ويمنعك حياؤك أن تطلب منه البقاء فهذا ليس بحياء إنما هو خور وضعف .
6- ترك الابنة بمفردها مع المدرس : ـ
لا يدفعك حياؤك أن تترك ابنتك مع المدرس بمفردها فى غرفه مغلقة بغرض توفير الجو المناسب فيحدث ما لا يحمد عقباه .
7- ترك الابنة بمفردها مع السائق : ـ
لا يدفعك حياؤك إلى ترك ابنتك تركب مع السائق بمفردها .
8- إقامة أفراح وليال ملاح غير شرعية : ـ(1/50)
كذلك فلا يدفعك حياؤك إلى عمل أفراح كلها اختلاط ومخالفات شرعية ؛ لئلا يقال عليك رجعى ومتخلف ، وتخاف ملامة الناس وكلام الناس ، فتلتمس رضا الناس بسخط الله ، والنتيجة أن يسخط الله تعالى عليك ويسخط عليك الناس الذين تلتمس رضاهم وفعلت ما فعلت حياء منهم والخوف من المذمة.
9 ـ عدم التفقه فى الدين والسؤال عما لابد منه : ـ
فمن المواضع التى ينبغى أن نطرح فيها الحياء : طلب العلم والتعلم
فما من إنسان منا إلا وهو مطالب بالصلاة ، وهناك أشياء تبطل الصلاة ويستحى أن يسأل عنها ، والصلاة تحتاج إلى تعلم الطهارة ، ومع ذلك يستحى أن يسأل عن مبطلات الطهارة ، وما من إنسان إلا وهو يأكل ويشرب ومعنى هذا أنه يقضى حاجته فيستحى أن يسأل عن آدابها ،
وهناك من تصيبه الجنابة ، ومن يصبها الحيض ولا يعرفون كيف يتطهرون منها ، ويستحيوا أن يسألوا عن كيفية الغسل .
وهناك من الأمور الزوجية والعلاقة الزوجية ما يستحى الزوج أو الزوجة الاستفسار عنها ، فهؤلاء وغيرهم يحرمون العلم ، ويقعون فى مخالفات شرعية بسبب الحياء المذموم .
ـ أخرج البخارى عن مجاهد أنه قال :
( لا يتعلم العلم مستحى أو مستكبر )، وفى رواية : ( لاينال العلم مستحى أو مستكبر )
ـ وقالت عائشة كما عند البخارى :
( ِنعْمَ النساء نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن فى الدين )
ـ أخرج البخارى ومسلم عن زينب ابنة أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت :
جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله : إن الله لايستحيى من الحق ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟؟ قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : نعم . إذا رأت الماء ، فغطت أم سلمة ـ تعنى وجهها ـ وقالت يا رسول الله : أوتحتلم المرأة ؟ قال : نعم . تربت يمينك ففيم يشبهها الولد ؟
ـ أخرج الإمام مسلم من حديث أنس ـ رضى الله عنه ـ قال :(1/51)
جاءت أم سُليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له ـ وعائشة عنده ـ :
( يا رسول الله المرأة ترى ما يرى الرجل فى المنام ، فترى من نفسها ما يرى الرجل من نفسه ، فقالت عائشة : يا أم سليم فضحت النساء تربت يمينك ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : بل أنت تربت يمينك ، نعم . فلتغتسل يا أم سليم إذا رأت ذاك ).
فلا ينبغى أن تمتنع المرأة عن السؤال فى دينها بسبب الحياء المذموم .
تنبيه
لا تلتفتوا إلى هذه الكلمة " لا حياء فى الدين " فهى خطأ ، فإن الدين كله حياء كما مر بنا ،
ولكن الصحيح أن يُقال : " لا حياء فى العلم والتعلم "
ـ وفى صحيح مسلم من حديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت :
إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليه الغسل ؟ وعائشة جالسة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنى لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل "
ـ فلم يمنع النبى - صلى الله عليه وسلم - حياؤه أن يبين للمسلمين ما أشكل عليهم من أمر دينهم ، وهذا يدلك على أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم الناس أدق الأمور من غير تقصير، كيف لا ؟وهو القائل - صلى الله عليه وسلم - :
" إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم "
( رواه الإمام أحمد من حديث أبى هريرة )
ولقد قال أبو ذر - رضي الله عنه - :
لقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يتقلب فى السماء طائر إلا ذكر لنا منه علماً ،
فما ترك لنا النبى - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا وعلمنا إياه دق أم عظم ،
فمع شدة حيائه تكلم عن آداب الفراش ، وآداب الخلاء .
فقد جاء رجل مشرك إلى سلمان الفارسى - رضي الله عنه - وقال له : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة ،(1/52)
قال : أجل ـ بمنتهى الفخر ـ لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول أو بغائط ، وألا نستنجي باليمين ، وألا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاث أحجار ، أو يستنجي برجيع أو بعظم .
ـ ولقد جاءه أعرابى فقال له : يا رسول الله :
إنا نكون بالبادية فتخرج من أحدنا الرويحة ـ يقصد الرائحة ـ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :
" إن الله لا يستحيى من الحق ، إذا فعل أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء فى أعجازهن " وفى رواية : " فى أدبارهن "
فالحياء لا يمنع الناس من تعلم أمور الدين !!!
وفهمت عائشة ـ رضى الله عنها ـ هذا الأصل ، فلم يمنعها الحياء أن تعلم الناس أمور دينهم :
ـ ففى صحيح مسلم من حديث أبى موسى - رضي الله عنه - قال :
( اختلف فى ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصار : لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء ، وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل ، فقال أبو موسى : فأنا أشفيكم من ذلك ، فقمت فاستأذنت على عائشة فأُذن لى ، فقلت لها : يا أماه ( أو يا أم المؤمنين ) إنى أريد أن أسألك عن شيء وإنى أستحييك ، فقالت : لا تستح أن تسأل عما كنت سائل عنه أمك التى ولدتك ، فإنما أنا أمك ، قلت : فما يوجب الغسل ؟ قالت : على الخبير سقطت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل "
ـ وأخرج البخارى ومسلم عن الأسود ومسروق قالا :
( أتينا عائشة ـ رضى الله عنها ـ لنسألها عن المباشرة للصائم فاستحيينا فقمنا قبل أن نسألها ، فمشينا لا ندرى كم ، ثم قلنا جئنا لنسألها عن حاجة ثم نرجع قبل أن نسألها ؟ فرجعنا فقلنا يا أم المؤمنين : إنا جئنا لنسألك عن شيء فاستحيينا فقمنا ، فقالت : ما هو ؟ سلا عما بدا لكما ،
قلنا : أكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يباشر وهو صائم ؟ قالت : قد كان يفعل ذلك ولكنه كان أملك لإربه منكم .(1/53)
ـ وأخرج مالك فى الموطأ من حديث عائشة بنت طلحة :
أنها أخبرت أبا النضر أنها كانت عند عائشة زوج النبى - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها زوجها هنالك
ـ وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق ـ وهو صائم ،
فقالت له عائشة ـ رضى الله عنها ـ : ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها وتلاعبها ؟
فقال : أقبلها وأنا صائم ؟ قالت : نعم . " إسناده صحيح "
فعائشة أم المؤمنين العالمة الفقيهة لم يمنعها الحياء أن تعلم ابن أخيها أن القبلة للصائم جائزة .
ملحوظة
لاينبغى أن يفهم شخص أن الحياء يصد عن الفقه فى الدين كما مر بنا ،
وكذلك لا ينبغى أن تتمادى بشخص مسائِلُهُ حتى يخرج إلى الخير المذموم ، فيتحدث فيما يتعلق بأمور تخدش الحياء حيث لا حاجة إليها .
كيف نكتسب خلق الحياء ونقويه فى قلوبنا ؟؟؟؟؟؟؟
بداية .. ينبغى أن نعلم أن الإنسان قابل أن يتغير إلى الأحسن دائما
و إلا لما قال الله: - عز وجل - { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد : 11)
ولولا أن الصفات تتغير لما أرسل الله الرسل ، ولما أرسل رسوله ليتمم مكارم الأخلاق ،
ومعنى هذا : أن الأخلاق من الممكن أن تتغير إلى الأفضل وتتغير الطباع ألى الأفضل ،
ولذلك قال ربنا - عز وجل - : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس : 9 ، 10)
ويقول النبى - صلى الله عليه وسلم - :
" إنما العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم ، ومن يتحرى الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه " إذن لابد أن تجاهد نفسك حتى تكنسب هذه الصفات بالنسبة لخلق الحياء .
أولا : صدق اللجوء إلى الله : ـ
وذلك فى طلب التحلى بهذا الخلق ، والإخلاص فى صدق الطلب من الله ،لأنه إذا عُدم الإخلاص فلا خلاص ولتتذكر قوله تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} ( النحل : 53)
ثانيا : مراقبة الله : ـ(1/54)
والمراقبة كما عرفها الجنيد ـ رحمه الله ـ قال : المراقبة علم العبد بقرب الرب
ـ فيتولد الحياء من علم العبد بنظر الحق - سبحانه وتعالى - إليه ، فيحمله ذلك على تحمل المجاهدة ، ثم يحمله ذلك على استقباح الجناية ، ثم يحمله على احتمال أعباء الطاعة .
ـ وهذه المراقبة لا تكون إلا بالتعبد بأسماء الله الحسنى والتفكر فيها ، فلو استحضر الإنسان منا أسماء الله : كالشهيد والرقيب والعليم والسميع والبصير والمحيط والحفيظ لراقب الله واستحى من معصيته .
ـ قال حاتم الأصم ـ رحمه الله ـ : تعاهد نفسك فى ثلاث : إذا عملت فاذكر نظر الله إليك ، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك ، وإذا سكتَ فاذكر علم الله فيك .
ثالثا : تقوية الإيمان فى القلب : ـ
وذلك لأن الحياء ثمرة من ثمرات الإيمان ، وزيادة الإيمان عن طريق المواظبة على العبادات المفروضة والمندوبة .
ـ كالصلاة التى قال الله تعالى فى شأنها : {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت : 45)
أخرج الإمام أحمد وابن حبان وصححه من حديث أبى هريرة ، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قيل له :
إن فلاناً يصلى الليل كله فإذا أصبح سرق
فقال - صلى الله عليه وسلم - :" سينهاه ما تقول " أو قال : " ستمنعه صلاته "
ـ وكالزكاة التى قال - سبحانه وتعالى - فيها: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } (التوبة :103)
رابعا : إدمان مطالعة فضائل الحياء : ـ
فمطالعة وترديد فضائل الحياء على القلب ، وجمع الهمة على تحصيل أعلى درجات الحياء ، والسعى الحثيث فى التحلى به ، يورث الحياء فى القلب .
خامسا : المواظبة على تكلف الحياء : ـ
فعندما يتكلف الإنسان منا الحياء مرة بعد مرة فإن النفس تألفه وتعتاده ويصير لها طبعا وسجيةً .(1/55)
وهذا يستلزم التجمل بالصبر كالمريض الذى يصبر على تعاطى الدواء المر ، وصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال فيما أخرجه بن ماجة بسند صحيح من حديث معاوية :
" الخير عادة(1)والشر لجاجة(2)ومن يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين " ( الصحيحة :651 )
سادسا : مخالطة الصالحين ورؤيتهم والسماع منهم والاستمداد من حيائهم : ـ
كالنظر إلى حياء النبى - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى للبشرية ومطالعة سيرته العطرة وشمائله الكريمة ، واستحضار حياء الصحابة وسيرتهم ، وحياء السلف الصالح ـ رضى الله عنهم أجمعين ـ
ـ وكذلك مجالسة الصالحين حيث قال بعضهم : أحى حياءك بمجالسة من يستحيا منه
وقال مجاهد : لو أن المسلم لم يصب من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصى لكفاه
سابعا : اعتزال أصحاب السوء والبيئة الفاسدة : ـ
حيث ينبغى البعد عن أصحاب السوء والتنزه عن معاشرة قليلى الحياء ، والبعد عن البيئة الفاسدة والتى تصد عن الخلق الحسن ، والبحث والجلوس مع الصحبة الصالحة .
ـ وفى الحديث الذى أخرجه البخارى ومسلم ، فى قصة قاتل المائة ، أن العالم قال له :
ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها ناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء .
ثامنا : البعد عن الذنوب والإمساك عما تقتضيه قلة الحياء : ـ
فالإمساك عما تقتضيه قلة الحياء من أفعال وأقوال ، كالكلام الفاحش والبذئ ، وذلك مراغمة وإغاظة للشيطان الذى يزين هذه الأفعال ويغرى بها .
والابتعاد عن الذنوب لأنه من عقوبة الذنوب
كما يقول ابن القيم فى كتابه الداء والدواء :
(
__________
(1) ـ الخير عادة : أى أن المؤمن الثابت ينشرح صدره للخير ، فيصير له عادة .
(2) ـ الشر لجاجة : أما الشر فلا ينشرح له صدره ، فلا يدخل فى قلبه إلا بلجاجة الشيطان ، واللجاجة : الخصومة ، والنفس الأمارة بالسوء .(1/56)
ذهاب الحياء الذى هو مادة حياة القلوب ، وهو أصل كل خير وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه )
والمقصود : إن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية ، حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه ، بل كثير منهم يخبر هو عن حاله وقبح ما يفعله .
والحامل على ذلك : انسلاخه من الحياء .
وبين الذنوب وقلة الحياء تلازم ، وكل منهما يستدعى الآخر ويطلبه حثيثاً ،
ومن استحى من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه .
ومن لم يستح من الله عند معصيته م يستح الله من عقوبته يوم يلقاه .
وأخيراً دعوة من القلب
اعلموا أحبتى فى الله أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها ؟
فلنتمسك بديننا وحياء وأخلاق نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهدى سلفنا ، وليجتهد كل منا على تجميل نفسه بالأخلاق الفاضلة الكريمة ، فهى من تمام وكمال الإيمان .
فقد أخرج الإمام أحمد وصححه الألبانى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا "
وقال أيضاً كما عند أبى داود :
" أثقل شيء فى الميزان الخلق الحسن "
فهيا ..هيا لنتخلق بالأخلاق الحميدة ، وعلى رأسها الحياء :الذى هو أساس كل خير وفقده أساس كل شر
قال الفضيل ـ رحمه الله ـ خمس من علامات الشقاء :
القسوة فى القلب ، وجمود العين ، وقلة الحياء ، والرغبة فى الدنيا ، وطول الأمل
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( من قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه )
فإذا مات القلب فلا تتعجب مما تراه وتسمعه : من تبرج وسفور ، ومسابقات لملكات الجمال تظهر فيها العورات ولبس المايوهات ، ومن مسلسلات وأفلام تظهر فيها القبلات ، ومن رشوة وخنا ، وفجور وزنا ، وسرقة واغتصاب .
فهم لم يستحيوا من الله ، فكيف يستحيوا من الخلق ؟؟؟
فيا عباد الله ........
التوبة .... التوبة ،
الأوبة ... الأوبة ،
العودة ...العودة لهذا الخلق العظيم ، خلق الحياء .(1/57)
وأكرر ما قاله النبى - صلى الله عليه وسلم - : والحديث عند ابن ماجة بسند صحيح :
" إن لكل دين خلقا ، وخلق الإسلام الحياء "
وبعد...فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول وأن يتقبلها منا بقبول حسن ،
كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان علي إخراجها ونشرها ......
إنه ولي ذلك والقادر عليه .
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده ، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه براء وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب ، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق ، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا
...
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
... هذا والله تعالى أعلى وأعلم .........
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك(1/58)