بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمن وحي الواقع أقدم لك أخي القارئ الكريم هذه الرسالة التي خاطب فيها أحد التائبين العائدين إلى الله نفسه بعد أن اقترف جريمة قتل واجه بعدها حكم القصاص.
وقد اشتملت هذه الرسالة التي عاتب فيها نفسه مضامين صادقة وعبرًا قيمة، وحوارًا صادقًا مع النفس في لحظات حرجة قاسية من حياته، سطرتها يداه وبثَّها فؤاده المكلوم.
وقد خرجت هذه الرسالة من صميم قلبه بحرقة الندم والتوبة إلى الله والإنابة إليه. وقد كتبها في ليلة تنفيذ القصاص به.
لذلك حرصت أن أنقل الرسالة كما كتبت، أسأل الله تعالى أن تكون هذه الكلمات التي سجلها هذا التائب شاهدة له يوم توفى كل نفس ما كسبت، وأن يقبل توبته.
كما أسأله تعالى أن ينفع بها من كتبها ونشرها وقرأها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وقد أسميتها (رسالة في ليلة القصاص).
وكتبه
خالد بن عبد الله الزرير
يوم الجمعة 21 / 3/ 1421هـ
رسالة إلى نفسي
«نعم رسالة إلى نفسي وهل يوجد لدي أغلى منك يا نفسي العزيزة، ها أنت تمرين بأحلك أيام حياتك، ها أنت واقفة أمام بوابة الموت، وتتألمين حسرة ولوعة على أيامك الماضية ليس حبًا في الحياة وأنت تعلمين أنها عندك الآن لا تساوي جناح بعوضة، أعلم أنك سمعت هذا من قول سيد البشر ولكنه مر عليك في أيامك الخالية مرور الكرام، ولم يكن له أي تأثير، شأنه بذلك شأن مختلف المواعظ والعبر التي سمعتيها من قبل، ولكنك في ضلالة لم تفيقي منها إلا بعد فوات الأوان والذي أرجو من الله ألا يكون قد فات بعد.
نفسي العزيزة ها أنت تتحسرين على ما مضى، وأكبر أمنية وأعزها لديك في هذه اللحظة أن تصلي فرضًا واحدًا مع الجماعة في المساجد حرة طليقة، نفسي لا أحد في هذه الدنيا يفهم ما أقول لك سواك أنت.(1/1)
نفسي أنا أكتب لك هذه الرسالة في أصعب اللحظات التي تمر عليَّ ألا إنها ليلة الجمعة ليلة القضاء المتوقع والتي كم لبثت في صبيحتها تنتظرين السجَّان متى يفتح عليك الباب ليس للخروج، فهذا محال ما عدا رحمة ربي، ولكن لكي يقودك إلى الصفاة كما يقاد الخروف إلى الجزار ... نفسي رغم أن ليلة الجمعة ويومها من أبرك الليالي وأحنها ولكنها لي كابوس مفزع .. نفسي كم تتحسرين على رؤية أهلك، أمك التي كم عصيتيها وهي تنصحك وتدلك على الطريق الصحيح، وتتحسرين على رؤية أبيك الذي كان ملاذك في المصاعب، أبيك الذي لم ينهرك طوال ما أسلفت من أيام في الحياة الدنيا، أب يكابد ويكافح لكي لا يشعرك بالحاجة لأحد في يوم من الأيام.
وأنت تتحسرين على رؤية إخوة لك لم تري منهم في يوم من الأيام ما يكدر صفو عيشك، لم يشعروك يومًا من الأيام بأنك كيان مستقل عنهم بل جزء منهم لا يتجزأ على مرور مراحل عمرك.
وأنت تتحسرين على رؤية أهلك جميعهم وذويك بكل من فيهم من صغيرهم الوردة المتفتحة وكبيرهم منبع الحنان.
نفسي ها أنت تفارقيهم جميعا هاأنت تنتزعين من بينهم وتذهب بذلك أيامك التي عشتها بينهم، هاأنت تتمنين وتنتظرين زيارتهم على أحر من الجمر، تعدين الدقائق وأجزاءها لترين من لم تريه منهم، بل ربما تلقين عليه نظرة الوداع الأخيرة... نعم فربما أتى يومًا ليزورك ولكنك رحلت عن هذه الدنيا.
نفسي لماذا لم تفكري يوما من الأيام... لم أنت أتيت لهذه الدنيا؟ ولماذا خلقت؟! لكي تلهي في هذه الدنيا وتأكلي كما تأكل الأنعام، لماذا لم تسألي وتتساءلي هذا السؤال في يوم من الأيام؟ لماذا لماذا يا نفسي العزيزة؟
آه .. آسف يا نفسي أعلم أنه الآن لا يمكنك فعل شيء بل تزدادين حسرة وهمًا.(1/2)
نفسي ما أعجز التعبير وما أقل مدلولاته في هذه اللحظة بأن يصور هذا الموقف، ما أعجزه بأن يصور لحظات الوداع، نعم لحظات الوداع، ليس وداع الأحبة والمحبة وهراءها الفاضي ولكنه وداع الدنيا جميعها وداع البشرية والهوى.
نفسي كيف بك إذا واجهت خالقك بمعاصيك وذنوبك وسجل حياتك المخزي، ولم تعملي يوما من الأيام في حياتك وصحتك ما تقدميه يوم جزائك وحسابك، نفسي ما ألهفك ليوم تخرجين فيه إلى الدنيا نعم الدنيا، إنك الآن في مقبرة الأحياء، مقبرة من بقي بهم الروح ووقفوا أو وضعوا ينتظرون الجلاد.
ما ألهفك وأحوجك في هذه اللحظات القاسية والمعدودة إلى طاعة الله خالقك وأنت طليقة لتقولي يا ربي أنني عبدتك في يوم واحد، يا رب وأنا في صحتي ونعمتي ومستبعد موتي أو بالأحرى وأنتظره الآن وأعلمه لتقولي لربك عبدتك في ذاك اليوم، وشكرتك يا رب على نعمتك واحفظها لي وجازني عليها.
نفسي انتظري قدرك وادعي ربك واستنجدي الله، ومن غيره في هذا الموقف يخرجك ويمن عليك بعمر جديد، غير خالقك من العدم، من هو القادر على ذلك سواه، هو الذي يسمع دبيب النمل على الصفاة في الليلة الظلماء.
نفسي أنت تدعين الله ليلاً ونهارًا وهو مجيب الدعاء قابل التوبة مفرج الكروب، ومن يقنط من رحمته إلا الخاسرون.
أجل يا نفسي من يمنع رحمة الله عنك، من يمنعها إذا استجاب لدعواتك الباكية في ظلمات الليالي، ولهذا يا نفسي فاجعلي رجاءك دائما بالله وأملك وظنك وانتظري فرجه القريب وأحسني الظن به. ولهذا يا نفسي ولهذا فقط... وجهت لك هذه الرسالة، ووصفت بها حالك وما بك من يأس لا كاشف له إلا خالقك، وجهت لك هذه الرسالة لأن أملي في الله كبير وأرجو عفوه.(1/3)
لذا يا نفسي الغالية إذا أتاك فرج الله واستمالك الشيطان وغرتك الحياة الدنيا فلا تنسي هذه اللحظات وشدتها وانتظارك الموت، لا تنسي يا نفسي هذه اللحظات لا تأبهي إذا أتاك فرج الله فلا تقابليه بالجحود، كيف الجحود بعد الخروج من الظلمات إلى النور .. نفسي انتظري فرج الله إذا أتاك فلا تنسي نعمته وفضله».
راجي رحمة ربه
............................
ليلة الجمعة الساعة الواحدة
تأملات في رسالة هذا التائب
قلت: انظر يا من أسرف على نفسه بالذنوب والخطايا وقنطه الشيطان من التوبة . انظر بعين البصيرة وتأمل معي هذا الحوار الجميل مع النفس!
أجل إنه تضرع وخضوع لله تعالى غافر الذنب وقابل التوبات ومقيل العثرات، فمن يمنع رحمته عن التائبين ويغلق أبوابه عن العائدين، فهلم مع أخي الكريم نحلق سويا في سماء هذه الرسالة نستلهم من عبرها ونعبق من عبيرها وننتقل بين محطاتها النفسية التي امتزج فيها الخوف بالرجاء.(1/4)
والتي سجل بها هذا التائب توبته بأبهى صورة وأجمل حلة فلم يعجزه تعبيره، ولم تخنه مدلولاته عن تصوير هذا الموقف العصيب وعن الإفصاح عما في قلبه من زفرات، وما في عينه من عبرات، وما في نفسه من حسرات، تجلت واضحة في هذه العبارات (نفسي العزيزة ها أنت تتحسرين على ما مضى وأكبر أمنية وأعزها لديك في هذه اللحظة أن تصلين فرضا واحدا في الجماعة في المساجد حرة طليقة) فالذي تمنى هذه الأمنية قال ما قال وهو لا زال على قيد الحياة، لكنه عدَّ نفسه في مقبرة الأحياء، مقبرة من بقي لهم روح ووقفوا ينتظرون الجلاد، فكيف بمن أودع قبره وانقطع عمله، وطويت صحائف أعماله إلى يوم البعث والنشور، فأين بعض الشباب الذين يضيعون الصلوات المكتوبات؟!! فهم في غيهم سادرون، وفي سكرتهم يعمهون ووالله لو قيل لأهل القبور: ما هي أكبر أمنية يتمناها أحدكم؟ لقال أن أصلي لله ركعة واحدة ولكن هيهات هيهات فقد انقطع العمل، وانتهى من النفوس الأمل، ولكنه اشرق في نفس الكاتب حين قال (اجعلي ظنك حسن بالله وانتظري فرجه القريب) وإذا ما أحسن العبد الظن بربه وأمل خيرا فلن يخيب الله ظنه قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه».
فإذا كان كذلك فإن الله تعالى يؤمنه مما يخاف، ويعطيه ما يرجو إذا ما أوقفه بين يديه وسأله عما قدم وأخر وجازاه عن خير ما عمل وحاسبه عن شر ما قدمت يداه، وبهذا يقول صاحب الرسالة [كيف بك إذا واجهت خالقك بمعاصيك وذنوبك وسجل حياتك المخزي ولم تعملي يومًا من الأيام في حياتك وصحتك وما تقدميه يوم جزائك وحسابك].
فعند تطاير الصحف وشهادة الأعضاء تتجلى أمام الأعين ما كان قد خفي قال تعالى: { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22].(1/5)
فقد روى البزار من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني قال: بلى. فيقول: ما لي لا أقبل علي شاهدًا إلا من نفسي، فيقول الله: أو ليس بي شهيدًا وبالملائكة الكرام الكاتبين فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أجادل».
ثم نراه ينقلنا إلى معنى عظيم من معاني العبودية الحقة ظهر واضحًا في أسمى معانيها وأبرز صورها عندما قال لنفسه: (ادعي ربك واستنجدي الله، ومن غيره في هذا الموقف يخرجك ويمن عليك بعمر جديد غير خالقك من العدم هو القادر على ذلك، هو الذي يسمع دبيب النمل على الصفاة في الليلة الظلماء).
أجل يا رعاك الله فمن أنقذ ذا النون من لجج الظلمات وأيوب إذا نادى ربه عندما مسته الكربات إلا رب الأرض والسموات.
فالدعاء إذا كان خالصًا وتحرى العبد فيه أوقات الإجابة المعروفة، وألح في الدعاء فمن يمنعه الإجابة .
ولما قال صاحبنا لنفسه: (اجعلي رجاءك دائما بالله)، قال هذا في حال رجائه لربه، وفي حال خوفه من ربه قال: (كيف بك إذا واجهت خالقك بمعاصيك وذنوبك).
فالخوف والرجاء من أوثق عرى الإيمان فلا رجاء بلا خوف، ولا خوف بلا رجاء.
وقد وصف الله أنبياءه الكرام بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء: 90].
قال الغزالي في الإحياء: (فالرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، وبهما يقطع من طرق الأخرة كل عقبة كؤود. فالعبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة.
وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع مع فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة.(1/6)
وأما ما انهمك فيما يغضب الله تعالى ولم يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقيا).
وإذا ما تأملنا قول التائب لنفسه معاتبًا إياها: (ما الهفك واحوجك في هذه اللحظات القاسية والمعدودة إلى طاعة الله خالقك وأنت طليقة لتقولي يا ربي إنني عبدتك في يوم واحد، يا ربي وأنا في صحتي ونعمتي ومستبعد موتي).
كأنه يشيبر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس العظيم «تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
ما أحوجنا إلى تطبيق هذا الأمر النبوي الكريم في حياتنا العملية. فما دام الإنسان في صحته وعافيته يتقلب في نعم الله التي لا تعد ولا تحصى لم ينس حق الله عليه، فإن الله تعالى لا ينساه في وقت نزول الأقدار وتغيير الأحوال.
ومن التساؤلات التي طرحها إلى نفسه والتي هي جديرة بالتأمل قوله (نفسي لماذا لم تفكري يومًا من الأيام لماذا أتيت لهذه الدنيا؟ ولماذا خلقت؟ لكي تلهي في هذه الدنيا وتأكلي كما تأكل الأنعام؟ لماذا لم تسألي وتتسألي هذا السؤال؟).
أجل أيها الأخ المبارك فمن نور الله بصيرته وبصره يتسأل هذا السؤال من أنا؟ ولماذا خلقت؟ وما هي الغاية من وجودي في هذا العالم؟!
وإذا ما تأملنا القرآن الكريم وجدنا الإجابة على هذه التساؤلات قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].
والحكمة من خلق الإنسان هي العبودية لله تعالى وحده لا شريك له، فعندما يوقن المؤمن أنه عبد لله تعالى دون سواه يضمحل في نفسه كل شك وريب ألقاه الشيطان في روعه.
ولقد ضلَّ عن هذا التساؤل كثير من البشر، فهذا الشاعر النصراني يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت
كيف أبصرت طريق لست أدري(1/7)
فكل من أصيب بمرض في بصيرته وضعف في إدراكه عاش حياة جاهلية، وكل من غفل عن سر وجوده وحياته والغاية من خلقه تداعت عليه أسباب الغواية، وكانت حياته شبيهة بحياة البهائم!
ولقد أعجبني كلام لصاحب الظلال رحمه الله عند تفسير قول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].
قال رحمه الله: «إن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها سواء كانت حياة فرد أم جماعة أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها.
وأنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمعارف تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة.
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هناك غاية معينة لوجود الإنس والجن، تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد خاوية من معناها الأصيل الذي تستمد منه القيمة الأولى.
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود هي العبادة لله، أن يكون عبد ورب، عبد يعبد، ورب يُعبد، وأن تستقيم حياة العبد على أساس هذا الاعتبار. انتهى كلامه رحمه الله.
ومن ثم نجد أن القرآن الكريم قد ذمَّ الذين غفلوا عن التفكر والاعتبار وعطلوا حواسهم فقال تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179].
*********
قاتل المائة(1/8)
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت؛ فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكمًا – فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقضبته ملائكة الرحمة» متفق عليه.
وفي رواية في الصحيح: «فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهله».
وفي رواية في الصحيح: «فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال: قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له».
وفي رواية: «فنأى بصدره نحوه».
انظر أخي القارئ إلى هذا الحديث وتدبره جيدًا فهذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا سأل أعلم أهل الأرض هل له من توبة فلما قال لا قتله وأكمل به المائة.
ثم إنه سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل فذكر له نبأه فسأله هل له من توبة فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، فهاجر عن هذه الأرض التي ارتكب فيها هذه الجرائم طالبًا التوبة فقال له العالم: «لا ترجع إلى أرضك فأنها أرض سوء».(1/9)
فأدخله الله في رحمته الواسعة لأنه أتى تائبًا عابدًا مقبلاً إلى ربه فقبل الله توبته، ومن يغفرالذنوب إلا الله فقد قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 52].
قال ابن كثير رحمه الله بعد إيراد هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً } [النساء: 92] إذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة مقبول بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الأغلال التي كانت عليهم.
فعندما يرى الله تعالى الرغبة الأكيدة والعزيمة الصادقة من العبد يفتح له أبواب التوبة والرحمة، مع أن هذا الرجل الذي ذكر في الحديث قالت عنه ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، وهذا الرجل الذي سجل توبته في هذه الرسالة ذكر أنه يتحسر على الأيام الخالية التي ذهبت من عمره ولم يتزود فيها بالأعمال الصالحة.
وقد ذكر في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
* وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: كيف نوفق بين قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 116]، وبين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة»(1/10)
فأجاب رحمه الله: لقد أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على أن جميع الذنوب تصح التوبة منها حتى الشرك الذي هو أعظم الذنوب يقبل الله توبة صاحبه إذا تاب { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:56].
أجمع أهل العلم أن هذه الآية من التائبين وأن الذنوب كلها تغفر، الشرك فما دونه حتى سب الله والأنبياء ون تاب تاب الله عليه.
والقتل دون ذلك - أي دون الشرك - وقد نص القرآن على توبة القاتل: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } [الفرقان:68].
ويدخل فيها الشرك والقاتل والزاني، وهذا الحديث المذكور «أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة» غير صحيح ولقد روزي عن ابن عباس وقد غلطه العلماء، والصواب أن القاتل مثل غيره تقبل توبته، والقول أن توبة القاتل لا تقبل قول مرجوح وإن كان قد قاله ابن عباس مع مكانته ومنزلته، ولكن خالف غيره في بعض المسائل منها هذه المسألة وأنه قال ذلك تغليظًا على القاتل، وحق الورثة يعجل بالقصاص أو بالدية، وحق الله يسقط بالتوبة، وحق القتيل لا يضيع وسوف يرضيه الله يوم القيامة إذا تاب القاتل، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته
تمت،،،،
*********
ثناء واعتراف ورجاء
وهذه بعض الأبيات الشعرية التي جاءت على لسان هذا التائب، ورغم ما فيها من ضعف الأسلوب وركاكته إلا أن القارئ يلمس فيها طلبه الرحمة من الله تعالى ومغفرة الذنوب، وعزاءه لنفسه على التقصير وضرورة استغلال العمر بالأعمال الصالحة يقول:
يا الله يا خالق الناس من طين
محيي العظام البالية من كفنها
يا منزل الفرقان وعم وياسين
يا والي الدنيا برها مع بحرها(1/11)
لي مطلب يا والي العرش حرفين
نفسي ليا زارتك قليل عملها
أطلبك لطفك يا مدبر السلاطين
أن ما رحمت النفس محدن
رحمها
هنيكم بأعمالكم يا المصلين
وعزي لنفسي كان جاءها قدرها
يا مضيعن دينك ويا الغافل الشين
دنياك هاذي لا يغرك زهرها
عمرك ترى محسوب يا صحبي زين
ما فات يومًا من حياتك نقصها
الرايح الليل راجحن بالموازين
عند الولي جنات نفسه عرفها
الخاتمة
وبعد أن استعرضنا هذه المشاعر الصادقة والعاطفة الجياشة التي بثها هذه التائب من نفسه إلى نفسه، والتي عبر فيها عن توبته وإنابته إلى ربه ورجائه تعالى أن يغفر ذنوبه يجدر بنا أن نقول: إن تلكم الحقائق قلما تخرج من نفس تتوقع أن تقاد إلى الجلاد في أي لحظة وهي تأمل أن يأتيها فرج الله ورحمته، فإن النفس في اللحظات الأخيرة من الحياة يتسلط عليها الشيطان ويسعى جاهدًا أن يقنطها من رحمة الله وفضله حتى يختم لها بخاتمة سيئة عياذًا بالله من ذلك.
نسأل الله تعالى أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يتوب علينا ويكفر عنا سيئاتنا، كما نسأله تعالى أن يغفر لأخينا التائب ذنبه، وأن يغفر للمقتول.
كما أشكر أخي فضيلة الشيخ عبد المحسن المحمود الذي نشر توبة هذا القاتل عبر جريدة الرياض فجزاه الله خيرًا على ما قدم من دعوة ونصح للشباب داخل السجون، والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله
خالد بن عبد الله الزرير
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 2
نموذج من الرسالة التي وجهها القاتل لنفسه ... 3
تأملات في رسالة هذا التائب ... 7
قاتل المائة ... 13
ثناء واعترف ورجاء ... 17
الخاتمة ... 18
الفهرس ... 19(1/12)