رسالة
في أحاديث شهر الله المحرَّم
تأليف
الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان
شبكة نور الإسلام
islamlight
http://alfuzan.islamlight.net
alfuzan1@hotmail.com
الاعتبار بمرور الأيام والأعوام
قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ } [آل عمران/190] وقال تعالى : { إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [يونس/6] وقال تعالى : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } [النور/44] .
* * *
في هذه الآيات الكريمات يخبر الله تعالى عن الآيات الكونية الدالة على كمال علمه وقدرته ، وتمام حكمته ورحمته ، ومن ذلك اختلاف الليل والنهار ، وذلك بتعاقبهما ، واختلافهما بالطول والقصر ، والحر والبرد والتوسط ، وما فيس ذلك من المصالح العظيمة لكل ما على الأرض ، وكل ذلك من نعم الله تعالى ورحمته بخلقه ، الذي لا يدركه إلا أصحاب العقول السليمة والبصائر النَّيِّرة ، الذين يدركون حكمة الله تعالى في خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، ويدركون ما في تعاقب الشهور والأعوام ، وتوالي الليالي والأيام .
والله تعالى جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ، ومراحل للآجال ، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر ، لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات ، وتنشيطهم على الطاعات ، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار ، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان/62] .(1/1)
وينبغي للمؤمن أن يأخذ العبرة من مرور الليالي والأيام ، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد ، ويطويان الأعمار ، ويشيِّبان الصغار ، ويفنيان الكبار ، وكل يوم يمر بالإنسان فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة .
فالسعيد - والله - من حاسب نفسه ، وتفكر في انقضاء عمره ، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه ، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته ، وعَظُمَ فواته ، واشتدت حسراته ، نعوذ بالله من التفريط والتسويف .
ونحن في هذه الأيام نودِّع عاماً ماضياً شهيداً ، ونستقبل عاماً مقبلاً جديداً ، فعلينا أن نحاسب أنفسنا ، فمن كان مفرطاً في شيء من الواجبات فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات ، وإن كان ظالماً لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه ، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل ، ومَنْ منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات إلى الممات .
وليست هذه المحاسبة مقصورة على هذه الأيام ، بل هي مطلوبة كل وقت وأوان فمن لازَمَ محاسبة النفس استقامت أحواله ، وصلحت أعماله ، ومن غفل عن ذلك ساءت أحواله ، وفسدت أعماله .
ومما يؤسف عليه أن كثيراً من الناس إذا بدأ العام يَعِدُ نفسه بالجد والعزيمة الصادقة لإصلاح حاله ، ثم يمضي عليه اليوم بعد الأيام والشهر بعد الشهور ، وينقضي العام وحاله لم يتغير ، فلم يزدد من الخيرات ولم يتب من السيئات ، وهذه علامة الخيبة والخسران .
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها ، وخير أعمارنا آخرها ، وخير أيامنا يوم لقائك ، اللهم أعزَّ المسلمين بطاعتك ، ولا تذلهم بمعصيتك ، اللهم اجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وعزٍّ ونصر للإسلام والمسلمين ، وأسبغ علينا نعمك ، وارزقنا شكرها ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ...
الحث على قِصَرِ الأمل في الدنيا(1/2)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبيَّ فقال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ) أخرجه البخاري(1).
* * *
الحديث دليل على وجوب اغتنام الأوقات ، والحث على قِصَرِ الأمل ، وتقديم التوبة والاستعداد للموت ، وهذا الحديث من أبلغ الكلام في التذكير بالآخرة وعدم الاغترار بالدنيا ، وذلك أن الدنيا فانية ، مهما طال عمر الإنسان فيها ، فهي دار ممر لا دار مقر ، وكل نفس ذائقة الموت ، وهذه حقيقة مشاهدة ، نراها كلَّ يوم وليلة ، ونحس بها كلَّ ساعة ولحظة ، وإذا كان الإنسان لا يدري متى ينتهي أجله ويأتيه الموت فعليه أن يستعد للرحيل ، وأن يكون عابر سبيل ، فلا يركن إلى الدنيا ولا يتعلق بها ولا يتخذها وطناً ولا تحدثه نفسه بالبقاء فيها ، فلا يتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه الذي سيفارقه مهما تكن راحته وهناؤه ، وأن يكون فيها كالمسافر الذي يكتفي بسفره بالقليل الذي يساعده على بلوغ غايته وتحقيق مقصده .
ولقد أدرك الصحابي الجليل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - موعظة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إدراكاً علمياً وعملياً ، وأخذ منه هذه الوصايا الثلاث العظيمة :
الأولى :« إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء » ومعنى ذلك : حث المؤمن على قِصَرِ الأمل في هذه الحياة ، وأنه ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح ، وإذا أصبح لا ينتظر المساء ، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك .
__________
(1) صحيح البخاري (6416) .(1/3)
الوصية الثانية : « وخذ من صحتك لمرضك » والمعنى : أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم أوقات الصحة وسلامة البدن من العلل ، وذلك بفعل الخير والإكثار من الطاعات ، قبل أن يحول بينه وبينها السُّقْمُ ، فيعجز عن الصيام والقيام وسائر الأعمال ، إذا اعتراه مرض أو علة أو كِبَرٌ .
الوصية الثالثة : « ومن حياتك لموتك » والمعنى : أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم زمن الحياة وساعات العمر بتقديم الزاد ، ولا يفرط حتى يدركه الموت ، ويحول بينه وبين الأعمال الصالحة .
وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) أخرجه البخاري(1).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه : ( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) أخرجه الحاكم وصححه(2).
فالواجب علينا ونحن نستقبل عاماً جديداً أن نغتنم الأوقات ، ونبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بيننا وبينها ، إما بشغل أو مرض أو موت .
اللهم أيقظنا لتدارك بقايا الأعمار ، ووفقنا للتزود من الخير والاستكثار ، اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الآمال ، وذكِّرنا قربَ الرحيل ودنوَّ الآجال ، وثبت قلوبنا على الإيمان ، ووفقنا لصالح الأعمال ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ...
فضل شهر الله المحرم
__________
(1) أخرجه البخاري (6412) .
(2) المستدرك (4/306) وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في « اقتضاء العلم العمل » ص (100) ، وله شاهد عن عمر بن ميمون ، أخرجه ابن المبارك في « الزهد » رقم (2) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/148) ، والخطيب في « الاقتضاء » ص (100 - 101) قال الألباني : ( هذا إسناد مرسل حسن ) .(1/4)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أفضلُ الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم ، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل ) وفي رواية: ( الصلاة في جوف الليل ) أخرجه مسلم(1).
* * *
الحديث دليل على فضل صيام شهر الله المحرم ، وأن صيامه يلي فضل شهر رمضان في الأفضلية ، وفضل الصيام فيه جاء من فضل أوقاته وتعظيم الأجر فيه ، لأن الصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى .
وشهر الله المحرم هو الشهر الذي تبدأ به السنة الهجرية ، كما تمَّ الاتفاق على ذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وهو أحد الأشهر الحرم التي ذكر الله في كتابه ، فقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة/36] وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ... السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاثة متوالية ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبان ) متفق عليه(2).
وقد أضاف الله تعالى هذا الشهر إليه تشريفاً وتعظيماً ، لأن الله تبارك وتعالى لا يضيف من الأشياء إليه إلا خواصُها كبيت الله ، ورسول الله ، ونحو ذلك ، وسمي محرماً تأكيداً لتحريمه ، لأن العرب كانت تتقلب فيه ، فتحله عاماً وتحرمه عاماً .
__________
(1) صحيح مسلم (1163) .
(2) صحيح البخاري (4662) ومسلم (1679) .(1/5)
وقوله تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : في هذه الأشهر المحرَّمة ، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، قال قتادة : ( إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ، ولكن الله يُعَظِّمُ من أمره ما يشاء )(1).
وقد جعل الله هذه الشهور الهلالية مواقيت للناس ، لأنها علامات محسوسة يعرف كل أحد بدايتها ونهايتها ، ومما يؤسف عليه أن كثيراً من المسلمين تركوا التاريخ الهجري ، وأخذوا بتاريخ النصارى الميلادي المبني على أشهر وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس .
وهذا دليل الضعف والانهزامية والتبعية لغير المسلمين ، ومن مفاسده : ربط المسلمين وناشئتهم بتاريخ النصارى ، وإبعادهم عن تاريخهم الهجري الذي ارتبط برسولهم - صلى الله عليه وسلم - وبشعائر دينهم وعبادتهم(2)، فالله المستعان .
وقد دل الحديث على أن أفضل ما يتطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم ، والظاهر أن هذا محمول على أنه أفضل شهر يُتطوع بصيامه بعد رمضان ، أما التطوع بصيام بعض الأيام منه فقد يكون بعض الأيام أفضل من أيامه كيوم عرفة ، وستة أيام من شوال .
وظاهر الحديث فضل صيام شهر المحرم كاملاً ، وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر المحرم لا صومه كله ، لقول عائشة رضي الله عنها : ( ... ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ) أخرجه مسلم(3).
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة ، وارزقنا الاستعداد قبل النُّقلة ، وألهمنا اغتنام الزمان وقت المهلة ، ووفقنا لفعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ...
يوم عاشوراء في التأريخ
__________
(1) تفسير بن كثير (4/89-90) .
(2) انظر : التشبه المنهي عنه ص (542) .
(3) صحيح مسلم (1156) (175) .(1/6)
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه في الجاهلية ، فلما قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه ، فلما فُرِضَ رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه ) أخرجه البخاري ومسلم(1).
* * *
الحديث دليل على أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون يوم عاشوراء ، وأنه يوم مشهور عندهم ، وأنهم كانوا يصومونه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه - أيضاً - ، واستمر على صيامه قبل الهجرة ، ولم يأمر الناس بصيامه ، وهذا يدل على قدسية هذا اليوم وعظيم منزلته عند العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا كانوا يسترون فيه الكعبة ، كما في حديث عائشة - أيضاً - رضي الله عنها ، قالت : ( كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان ، وكان يوماً تُسْتَرُ فيه الكعبة ... الحديث ) أخرجه البخاري(2)، قال القرطبي : ( حديث عائشة يدل على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر ، ولعلهم كانوا يستندون في صومه إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل - صلوات الله وسلامه عليهما - فإنهم كانوا ينتسبون إليهما ، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما ... )(3).
__________
(1) صحيح البخاري (2002) ومسلم (1125) .
(2) أخرجه البخاري (1952) .
(3) المفهم (3/190) .(1/7)
والذي يستفاد من مجموع الأدلة أن صوم عاشوراء كان واجباً في أول الأمر بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، على الصحيح من قولي أهل العلم(1)، لثبوت الأمر بصومه ، وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال : ( أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أسلم أن أذن في الناس : أن من كان أكل فليصم بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم ، فإن اليوم يوم عاشوراء ) متفق عليه(2).
ولما فرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة نُسِخَ وجوبُ صومِ عاشوراء ، وبقي الاستحباب ، ولم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة ، وهي السنة الثانية من الهجرة حيث فرض عاشوراء في أولها ، ثم فرض رمضان بعد منتصفها ، ثم عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره - في السنة العاشرة - على ألا يصومه مفرداً بل يصوم قبله اليوم التاسع ، كما سيأتي - إن شاء الله - وهي صورة من صور مخالفة أهل الكتاب في صفة صيامهم .
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة ، ارزقنا التوبة إليك والإنابة ، وأيقظنا يا مولانا من نوم الغفلة ، ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ، اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته ، واستهداك فهديته ، واستنصرك فنصرته ، وتضرع إليك فرحمته ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ...
الترغيب في صيام يوم عاشوراء
عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عاشوراء ، فقال : ( يكفر السنة الماضية ) وفي رواية : ( ... وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) أخرجه مسلم(3).
* * *
__________
(1) الفتاوى (25/311) .
(2) صحيح البخاري (2007) ومسلم (1135) ، وله شاهد من حديث الرُّبَيِّع بنت معوِّذ عند البخاري (1960) ومسلم (1136) وشواهد أخرى عند أحمد وغيره .
(3) صحيح مسلم (1162) (196) (197) .(1/8)
الحديث دليل على فضل صيام يوم عاشوراء ، وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم ، على القول الراجح والمشهور عند أهل العم .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء ، فقال : ( ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ، ولا شهراً إلا هذا الشهر ، يعني رمضان ) متفق عليه(1).
فينبغي للمسلم أن يصوم هذا اليوم ، ويحث أهله وأولاده على صيامه ، اغتناماً لفضله ، وتأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بصيام يوم عاشوراء ، ويحثنا عليه ، ويتعاهدنا عليه ... الحديث ) أخرجه مسلم(2).
والصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى ، ومن فوائد صوم التطوع - إضافة إلى ما رُتِّب عليه من الأجر - أنه كغيره من التطوعات يجبر ما عسى أن يكون في أداء الفرض من نقص أو تقصير ، وفي ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الصلاة: ( قال الرب تبارك وتعالى : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فَيُكَمَّلُ بها ما انْتَقَصَ من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله كذلك )(3).
كما أن صوم النفل يهيئ المسلم للترقي في درجات القرب من الله تعالى ، والظفر بمحبته ، كما في الحديث القدسي : ( ما تَقرَّب إليّ عبدي بأفضل مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبَّه ... الحديث )(4).
__________
(1) صحيح البخاري (2006) ومسلم (1132) .
(2) صحيح مسلم (1128) .
(3) رواه الترمذي بتمامه (413)عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً ، وقال : ( حديث حسن ) لكن فيه حُريث بن قبيصة أو قبيصة بن حريث ، وهو ضعيف ، ولعل الترمذي حسنه باعتبار طرقه.
(4) رواه البخاري (6502) .(1/9)
وأعلم أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للذنوب ، كالوضوء وصيام رمضان وصيام يوم عرفة ، وعاشوراء وغيرها ، أن المراد به الصغائر ، لأن هذه العبادات العظيمة ، وهي الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إذا كانت لا تُكَفَّر بها الكبائر - كما ثبت في السنة - ، فكيف بما دونها من الأعمال ؟
ولهذا يرى جمهور العلماء أن الكبائر كالربا والزنا والسحر وغيرها ، لا تكفِّرها الأعمال الصالحة ، بل لا بد لها من توبة أو إقامة الحد فيما يتعلق به حد .
فعلى المسلم أن يباد بالتوبة في هذه الأيام الفاضلة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها ، لعل الله تعالى أن يتوب عليه ويغفر ذنبه ، ويقبل طاعته ، لأن التوبة في الأزمنة الفاضلة لها شأن عظيم ، فإن الغالب إقبال النفوس على الطاعات ، ورغبتها في الخير ، فيحصل الاعتراف الذنب ، والندم على ما مضى ، لا سيما ونحن في بداية عام جديد ، وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان .
اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا ، واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا ، اللهم حبب إلينا الإيمان ، وزينه في قلوبنا ، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ...
الحكمة من صيام يوم عاشوراء
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسئلوا عن ذلك ، فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ، فنحن نصومه تعظيماً له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( نحن أولى بموسى منكم ، فأمر بصيامه) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( فصامه موسى شكراً ، فنحن نصومه ... )(1).
* * *
__________
(1) صحيح البخاري (3943) ومسلم (1130) (127) (128) .(1/10)
في الحديث بيانٌ للحكمة العظيمة من مشروعية صيام يوم عاشوراء ، وهي تعظيم هذا اليوم وشكرُ الله تعالى على نجاة موسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل ، وإغراق فرعون وقومه ، ولهذا صامه موسى عليه السلام شكراً لله تعالى ، وصامته اليهود ، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أحق بأن تقتدي بموسى من اليهود ، فإذا صامه موسى شكراً لله تعالى ، فنحن نصومه كذلك ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( نحن أولى بموسى منكم ) وفي رواية : ( فأنا أحق بموسى منكم ) أي : نحن أثبت وأقرب لمتابعة موسى عليه السلام منكم ، فإنا موافقون له في أصول الدين ، ومصدقون لكتابه ، وأنتم مخالفون لهما بالتغيير والتحريف ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أطوع وأتبع للحق منهم ، فلذا صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه ، وتأكيداً لذلك .
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود ، وتتخذه عيداً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( صوموا أنتم ) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ، ويُلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فصوموا أنتم )(1).
وظاهر هذا أن من حكمة صومه مخالفة اليهود ، وذلك بعدم اتخاذه عيداً ، والاقتصار على صومه ، لأن يوم العيد لا يصام ، وهذا أوجه من مخالفة اليهود في يوم عاشوراء ، وسيأتي - إن شاء الله - وجه آخر من المخالفة ، وهو صوم التاسع قبله .
وقد ضلَّ في هذا اليوم طائفتان :
طائفة شابهت اليهود فاتخذت عاشوراء موسم عيد وسرور ، تظهر فيه شعائر الفرح كالاختضاب والاكتحال ، وتوسيع النفقات على العيال ، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ، ونحو ذلك من عمال الجهال ، الذين قابلوا الفاسد بالفاسد ، والبدعة بالبدعة .
__________
(1) صحيح البخاري (2005) ومسلم (1131) (129) (130) .(1/11)
وطائفة أخرى اتخذت عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة ، لأجل قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - تُظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب ، وإنشاد قصائد الحزن ، ورواية الأخبار التي كذبها أكثر من صدقها ، والقصد منها فتح باب الفتنة ، والتفريق بين الأمة ، وهذا عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا ، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً .
وقد هدى الله تعالى أهل السنة ففعلوا ما أمرهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من الصوم ، مع رعاية عدم مشابهة اليهود فيه ، واجتنبوا ما أمرهم الشيطان به من البدع ، فلله الحمد والمنة .
اللهم فقهنا في ديننا ، وارزقنا العمل به والاستقامة عليه ، ويسِّرنا لليسرى ، وجنبنا العسرى ، واغفر لنا في الآخرة والأولى ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد.
استحباب صيام اليوم التاسع مع العاشر
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله ، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع ) قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أخرجه مسلم ، وفي رواية له : ( لئن بقية إلى قابل لأصومن التاسع )(1).
* * *
__________
(1) صحيح مسلم (1134) .(1/12)
الحديث دليل على أنه يستحب لمن أراد أن يصوم عاشوراء أن يصوم قبله يوماً ، وهو اليوم التاسع ، فيكون صوم التاسع سنة وإن لم يصمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه عزم على صومه ، والغرض من ذلك - والله أعلم - أن يضمه إلى العاشر ليكون هديه مخالفاً لأهل الكتاب ، فإنهم كانوا يصومون العاشر فقط ، وهذا تشعر به بعض الروايات في مسلم ، وقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفاً عليه : ( صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود )(1).
وفي هذا دلالة واضحة على أن المسلم منهي عن التشبه بالكفار وأهل الكتاب ، لما في ترك التشبه بهم من المصالح العظيمة ، والفوائد الكثيرة ، ومن ذلك قطع الطرق المفضية إلى محبتهم والميل إليهم ، وتحقيق معنى البراءة منهم ، وبغضهم في الله تعالى ، وفيه - أيضاً - استقلال المسلمين وتميزهم .
وقد ذكر أهل العلم أن أفضل المراتب في صيام عاشوراء ، صوم ثلاثة أيام : التاسع والعاشر والحادي عشر ، واستدلوا بحديث ابن عباس : ( خالفوا اليهود وصوموا قبله يوماً وبعده يوماً )(2)، وهذا حديث ضعيف ، لا يعول عليه ، إلا أن يقال إن صيام الثلاثة يأتي فضلها زيادة على فضل عاشوراء لكونها من شهر حرام ، ورد الحث على صيامه ، وليحصل فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال : ( من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام ، ابن سيرين يقول ذلك )(3).
والمرتبة الثانية : صوم التاسع والعاشر ، وعليها أكثر الأحاديث ، وتقدمت .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (4/287) والطحاوي (2/78) والبيهقي (4/278) عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وإسناده صحيح .
(2) أخرجه البيهقي (4/287) وهو رواية عنده للحديث الآتي .
(3) المغني (4/441) اقتضاء الصراط المستقيم (1/419) .(1/13)
والمرتبة الثالثة : صوم التاسع والعاشر أو العاشر والحادي عشر ، واستدلوا بحديث ابن عباس مرفوعاً بلفظ : ( صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا فيه اليهود ، صوموا قبله يوماً ، أو بعده يوماً ) وهو حديث ضعيف(1).
__________
(1) أخرجه أحمد (4/52) وابن خزيمة (3/290) (2095) والطحاوي في « شرح معاني الآثار » (2/78) والبيهقي (4/287) من طرق ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن داود بن علي ، عن أبيه ، عن جده ابن عباس به مرفوعاً ، وهذا إسناد ضعيف ، ولا يصح رفعه ، لما يلي :
1 - محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ جداً ، كما قال الحافظ في « التقريب » .
2 - داود بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي ، ذكره ابن حبان في « الثقات » (6/281) وقال : ( يخطئ ) ، وقال الحافظ في « التقريب » : ( مقبول ) أي : عند المتابعة وإلا فليِّن الحديث ، وليس له في الكتب الستة إلا حديث واحد عند الترمذي (3419) ، ولعل الحافظ الذهبي لخص القول فيه ، كما في « سير أعلام النبلاء » (5/444) حيث قال : ( ما هو بحجة ،ولم يُقَحِّم أولو النقد على تليين هذا الضرب لدولتهم ).
3 - علة الرفع ، فقد تقدم أن الموقوف جاء من طريق ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وهم أو ثق وأحفظ من رجال طريق الرفع ، ولعل كلمة ابن حبان في داود بن علي فيها إشارة إلى ذلك ، ومما يؤيد رواية الوقف ما أخرجه الشافعي في مسنده (1/272 ترتيبه ) عن سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن عباس موقوفاً ، كذلك ، وإسناده صحيح .(1/14)
والمرتبة الرابعة : إفراد العاشر بالصوم ، فمن أهل العلم من كرهه ، لأنه تَشَبُّهٌ بأهل الكتاب ، وهو قول ابن عباس على ما هو مشهور عنه ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وبعض الحنفية ، وقال آخرون : لا يكره ، لأنه من الأيام الفاضلة فيستحب إدراك فضيلتها بالصوم ، والأظهر أنه مكروه في حق من استطاع أن يجمع معه غيره ، ولا ينفي ذلك حصول الأجر لمن صامه وحده ، بل هو مثاب إن شاء الله تعالى .
اللهم وفقنا لما يرضيك ، وجنبنا معاصيك ، واجعلنا من عبادك الصالحين ، وحزبك المفلحين ، واعف عنا وتب علينا ، واغفر لنا ولوالدينا ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ...(1/15)