بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه الكريم: { تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83]. والصلاة والسلام على رسوله الأمين وقدوة المتقين وخير الخلق أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بوصية الله لخلقه من فوق سبع سماواته: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } [النساء: 131]. وصيته - صلى الله عليه وسلم - كما روى أبو نجيح العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودّع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ...» الحديث.
التقوى هي الكلمة التي من أجلها جاءت الرسل وأنزلت الكتب، هي كلمة التوحيد، وحق الله على العبيد، ليست مجرد كلمة تُلقى في مقدمة المحاضرات والخطب والندوات فحسب، مبناها صغير ولكن معناها كبير جدًا، تنوء بحملها الجبال الراسيات، مأخوذة من التوقي؛ وهي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } [التحريم: 6].
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وروي عن طلق بن حبيب أنه قال: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تجتنب معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله، وعن ابن مسعود قال: حقيقة التقوى: أن يطاع الله فلا يُعصى، ويذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُجحد.
وسأل عمر عنها أُبيّاً بن كعب فقال: هل مشيت في طريق فيه شوك؟ قال: نعم. قال: فماذا صنعت؟ قال: شمَّرت عن ثوبي، قال أبي: فذلكم التقوى.(1/1)
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن من الذنوب صغيرة
إن الجبال من الحصى
إن البحار من قطرة، وإن الشجرة من الحبة، وعلى كل حال بأقصر عبارة وأوجز إشارة: التقوى هي طاعة الله فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، ومن طاعة الله طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ } [الحشر: 7]، { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء: 80]، وفي الحديث: «كلكم يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».
هذا ومكانها القلب، وفي الحديث أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره ثلاثًا، وقال: «التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا».
وللتقوى ثمرات عدة؛ منها: أن الله علَّق عليها الحصول على العلم قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة: 282]، وعلق الله القبول، يقول أحد السلف: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لكنت من المتقين؛ لأن الله يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27]، وعلَّق الله عليها حياة القلوب وتمييزها بين الحق والباطل، قال تعالى: { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال: 29]، وفيها تكفير للذنوب وستر للخطايا وأجر عظيم، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } [الطلاق: 5]، وفيها تيسير كل عسير، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق: 4].
وإذا الأمور التوت وتعقدت
جاء القضاء من الإله فحلها
فلعل عسرًا بعد يسر علَّها
ولعل من عقد الأمور يحلها
كما وعد الله من اتقاه بالحصول على الرزق من وجه لا يخطر بباله.(1/2)
قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3].
عليك بتقوى الله إن كنت غافلاً
يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف الفقر والله رازق
فقد رزق الطير والحوت في البحر
ومن ظن أن الرزق يأتي بقوة
ما أكل العصفور شيئًا مع النسر
تزول عن الدنيا فإنك لا تدري
إذا جن ليل هي تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة
وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وكم من عروس زينوها لزوجها
وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صغار يُرتجى طول عمرهم
وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكًا
وأكفانه في الغيب تنسج ولا يدري
فمن عاش ألفًا وألفين فلا
بد من يوم يسير إلى القبر
وهي صلة بين العبد وربه، وفيها محبة الله ومحبة عباده، ولقد جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين التقوى وحسن الخلق؛ لأن التقوى تصلح ما بين العبد وربه، وحسن الخلق يُصلح ما بينه وبين الناس، فهي توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، وفي الحديث: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
ولقد حار الناس بجميع طبقاتهم وعلى حسب أمزجتهم وميولهم في مكمن السعادة وأين تكون!! فمنهم من رأى أنها في الجاه والمنصب وأن يصبح للمرء عبيدٌ وخدمٌ، ومنهم من رأى أنها في المال والولد والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والحرث والأنعام، ومنهم من رأى أنها في الأكل والشرب والزاد والعتاد فلا جوع ولا حرمان، ومنهم من رأى أنها في العافية والصحة فلا مرض ولا بؤس ولا سقم، وخاض الناس فيها، وقد أنصف من قال: إن السعادة كل السعادة في تقوى الله.
ولست أرى السعادة جمع مالٍ
ولكن التقي هو السعيد
نعم هي السعادة الحقيقية؛ فشهوات الدنيا وملذاتها ينغصها كدراتها، ولا تصفو لأحد أبدًا وكلها إلى زوال.
إذا تم شيءٌ بدا نقصه(1/3)
ترقَّب زوالاً إذا قيل تمّ
ودوام الحال من المُحال.
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
قال تعالى: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران: 140]، فتارة فقر وتارة غنى، وتارة عز وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي وتارة يشمت الأعادي، فالسعيد من لازم أصلاً واحدًا وهو التقوى. وتقوى الله إن استغنى العبد زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمت النعمة، وإن ابتلي حملته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة، وهو حارسٌ لا ينام يأخذ باليد عند العثرة، فلازم التقوى في كل حال، فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، وفي المرض إلا العافية، هذا نقدها العاجل والآجل عند الله معلوم.
والتقوى هي مقياس لكرامة الإنسان وفضله على غيره، قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 1]، هذه الآية قاعدة في شرف النسب لكن يا ليت قومي يعلمون، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم».
ما ضرَّ بلالاً أنه حبشي ما دام تقيًا، وما ضر سلمان أنه فارسي ما دام تقيًا، والتقوى تعلم الصبر وكبح جماح النفس.
ألا بالصبر تبلغ ما تريد
وبالتقوى يلين لك الحديد
ومن استطاع أن يتغلب على هواه وشيطانه فهو حقيقة بطل.
واتق الله فتقوى الله ما
جاورت قلب امرء إلا وصل
ليس من يقطع طرقًا بطلاً
إنما من يتق الله البطل(1/4)
ولقد طلب السعادة أقوامٌ من طرق منحرفة فكانت هذه الطرق سببًا لدمارهم وهلاكهم، طلبها فرعون وتلاميذه في الملك ولكن مُلكٌ بلا إيمان وتسلطنٌ بلا طاعة؛ فتَشَدَّق في الجماهير، وقال: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [الزخرف: 51]، نسي أن الذي ملكه هو الله، وأنه الذي أعطاه وأطعمه وسقاه، ومع ذلك يجحد ويقول: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص: 38]، فكان جزاء هذا العتو والتكبر والتمرد على الله، أنه لم يحصل على السعادة التي طلبها؛ بل كان نصيبه الشقاء ولزيمه الطرد والإبعاد من رحمة الله { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى } [النازعات: 25]، وقال الله عنه وعن قومه: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 46]، ومنح الله قارون كنوزًا كالتلال لا بجهده ولا بذكائه ولا بعبقريته، وظن أنه هو السعيد وكفر بنعمة الله وطغى وتجبر، قال الله تعالى عنه: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } [القصص: 81].
قال أهل السير وأهل التاريخ: لما استقر هارون الرشيد في الخلافة وتولاها بعد أبيه أنفق الكنوز والقناطير في عمارة قصر له على نهر دجلة، يدخل النهر من شمال القصر ويخرج من جنوبه، وعمَّر حدائق تتمايل على النهر، ثم رفع الستور وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية فوقف أمام هارون الرشيد وقال له:
عش ما بدا لك سالمًا
في ظل شاهقة القصور
فارتاح هارون لهذا الكلام، وقال: أكمل. فقال:
يجري عليك بما
أردت مع الغد مع البكور
قال أحسنت، أكمل. قال:
فإذا النفوس تغرغرت
بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنًا
ما كنت إلا في غرور(1/5)
فرددها أبو العتاهية ثلاثًا، فبكى هارون حتى وقع على الأرض، ثم أمر بالستور فهتكت والأبواب فأغلقت ونزل في قصره القديم، فلم يمض عليه شهر واحد حتى أصبح في عداد الموتى.
وقصص الذين كانوا يبحثون عن السعادة ولكنهم لم يوفقوا لها كثيرة، فهذا عبد الملك بن مروان حَكَمَ العالم الإسلامي طوله وعرضه شرقه وغربه، ولكنه لما أتته سكرات الموت نزل من سرير الملك وسمع غسالاً بجانب القصر في سعادة وهناء، ما عنده مُلْكٌ ولا مشاغل ولا مشاكل، وكان هذا الغسال ينشد نشيدًا وهو يغسل الثياب، قال عبد الملك: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما توليت الحكم ثم مات.
أيها المسلمون: من أراد السعادة فليلتمسها في قراءة القرآن، في صلاة الجماعة، في قيام الليل، في الهداية والاستقامة والالتزام بشرع الله واتباع سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
هذا وقد طلب السعادة أناس فحصلوا عليها بتقوى الله، فوجدها نبي الله يونس بن متَّى وهو في ظلمات ثلاث: في ظلمة اليمّ، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت؛ حيث انقطعت به الحبال إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت بلسان حزين: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87]، ووجدها موسى وهو بين ركام الأمواج في البحر المتلاطم، وهو يستعذب العذاب في سبيل الله فقال: { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62]، وجدها محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوَّق في الغار بسيوف الكفار ويرى الموت رأي العين: { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40].(1/6)
وجدها يوسف وهو يسجن سبع سنوات وهم يسألونه عن تفسير الرؤيا فيتركهم ثم يبدأ أولاً بالدعوة، فيقول: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف: 39]، وجدها أحمد بن حنبل في غياهب الحبس وهو يجلد جلدًا، فيجد السعادة في تحمل المشاق في سبيل الله، يقول له ابنه عبد الله: يا أبت متى الراحة وأنت إمام أهل السنة؟ قال: يا بني، الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة. نسأل الله الجنة. أما الذي جلده وهو المعتصم لما حضرته سكرات الموت رفع بساطه ومرغ وجهه بالتراب وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم اليوم من قد زال ملكه. ثم يقول: والله لو علمت أني أموت شابًا ما فعلت الذي فعلت من الذنوب.
وجد السعادة ابن تيمية وهو يُكبَّل بالحديد ويُغلقُ عليه السجان الباب داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [الحديد: 13]، ويلتفت ابن تيمية إلى الذين هم خارج السجن فيرسل لهم رسالة وينشد لهم نشيدًا وينقل لهم نبأ وخبرًا من السجن، فيقول: ما يصنع أعدائي بي؟ إنما قتلى شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة، وكان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، يعني: حلاوة الإيمان. والفرح بمناجاة الرحمن، وكان يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويقول: هذه غدوتي إن لم أتغدها لم تحملني قدماي سائر اليوم.
وجد السعادة إبراهيم بن الأدهم وهو ينام في الطرق والسكك في بغداد لا يجد كسرة الخبز، ويقول: والله الذي لا إله إلا هو، إنا في عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف.(1/7)
وهذا عبد الله بن حذافة السهمي يقبض عليه من قبل قيصر الروم ويهدد إن لم يرجع عن الإسلام أن يقذفوه في زيت مغلي فبكى، قالوا: ما يبكيك؟ هل رجعت؟ قال: لا والله إنما أبكى لأنها نفس واحدة توضع في هذا الزيت فتموت، وددت أن لي أنفسًا بعدد شعر رأسي كلها توضع في الزيت فتموت في سبيل الله.
وبلال رحمه الله ورضي عنه وأرضاه سامَهُ سيدُه أمية بن خلف سوءَ العذاب، فكان يجرُّه في سوق مكة ويضحك عليه الصبيان، وكان يضعه في الرمضاء تحت حرارة الشمس المؤلمة في الصيف بدون ثياب، ويضع الحجارة الثقيلة على صدره فلا يزيد بلال عن قوله: أحد أحد، أحد أحد، فلما اشتراه أبو بكر وأعتقه، قيل له: كيف كنت تتحمل العذاب؟ قال: مزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب فلم أحس بشيء.
الله أكبر..
أحد أحد لها حلاوة كحلاوة الماء الزلال
لا عنها تسلني إنما سل عنها بلال
وآل ياسر عذبوا في سبيل الله حتى قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»، وأمسك أبو جهل بأم عمار بن ياسر فضربها وطعنها بالرمح فدخل من فرجها وخرج من ظهرها.
وكان فيمن قبلكم ينشر الرجل بمنشار ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله.
أيها المسلمون: ومن ثمرات التقوى أن الله يحفظ وينجي من اتقاه.
وكان من وصايا الصالحين لبعضهم: اتق الله واحفظ الله يحفظك، حفظ الله إبراهيم لما ألقوه في النار، فأوحى الله إلى النار أن كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم.(1/8)
ونجى الله محمدًا لما أراد المشركون قتله، ولما فتح عبد الله بن علي العباس دمشق قتل في ساعة واحدة 36 ألفًا من المسلمين، وأدخل بغاله وخيوله في المسجد الأموي الكبير!! ثم جلس وقال للوزراء: هل يعارضني أحد؟ قالوا: لا. إلا الأوزاعي فربما يعارضك، وقد كان الأوزاعي محدثًا فحلاً إمامًا في الحديث زاهدًا عابدًا من رواة البخاري ومسلم، قال: تعالوا به، فلما أتوه، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم قال: انتظروني قليلاً، فذهب واغتسل ولبس أكفانه وتجهز للموت ثم قال في نفسه: قد آن لك يا أوزاعي أن تقول كلمة الحق لا تخشى لومة لائم، يقول الأوزاعي وهو يصف القصة:
فدخلت فإذا سماطين من الجلود، وإذ بالجنود على صفين وقد سلوا سيوفهم، فدخلت من تحت السيوف حتى بلغت إلى عبد الله العباس، وقد جلس على سريره وبيده خيزران، وقد انعقد على جبينه عقدة من الغضب، فلما رأيته كان أمامي كأنه ذباب، فما تذكرت أحدًا لا أهلاً ولا مالاً ولا ولدًا، إنما تذكرت عرش الرحمن، إذا برز للناس يوم الحساب.
قال الحاكم: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية التي أرقناها، قال الأوزاعي: حدثنا فلان عن فلان عن ابن مسعود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، فإن كان من قتلتهم من هؤلاء فقد أصبت، وإن لم يكونوا منهم فدماؤهم في عنقك.(1/9)
قال الأوزاعي: فنكث بالخيزران ورفع عمامتي انتظر السيف، ورأيت الوزراء يستجمعون ثيابهم ويرفعونها حتى لا يصيبها الدم قال: وما رأيك في الأموال التي أخذناها؟ قال الأوزاعي: إن كانت حلالاً فحساب وإن كانت حرامًا فعقاب، قال الحاكم: خذ هذه البردة – كيس مملوء ذهبًا – قال الأوزاعي: لا أريد المال، فغمزه أحد الوزراء فأخذها ووزعها على الجنود ولما خرج، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قلناها يوم دخلنا وقلناها يوم خرجنا: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران: 174]، حقًا إنها التقوى، ولما مات الأوزاعي وقف الحاكم أمام قبره وهو يقول: والله ما خفت أحدًا كخوفي من هذا المدفون، والله إنني إذا رأيته رأيت الأسد بارزًا. { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الزمر: 61].
كيف حال الأولين مع التقوى وكيف حالنا؟!
كان السلف يشد بعضهم بعضًا بها، فإذا رأى أحدهم أخاه على منكر قال له: اتق الله، وقيل لعمر بن الخطاب: اتق الله. فبكى، واستدعى عمر بن عبد العزيز وزيرًا له اسمه مهاجر لما تولى الخلافة وقال له: كن بجانبي فإذا رأيتني ظلمت مسلمًا أو شتمت مؤمنًا فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا عمر. فكان وزيره مهاجر يهزه دائمًا ويقول: اتق الله يا عمر.
خرج عمر بن الخطاب ذات ليلة وهو يتفقد رعاياه، وإذا به يسمع حوارًا بين أم وابنتها، تقول الأم يا ابنتي امزجي اللبن بالماء حتى يكثر فنبيعه؛ فإن عمر لا يرانا، قالت البنت: يا أماه إذا كان عمر لا يرانا فإن ربَّ عمر يرانا، فأعجب عمر بالبنت التقية فزوجها أحد أبنائه، إنها مراقبة الله.(1/10)
امرأة من السلف يتركها زوجها شهورًا ويخرج إلى الجهاد في سبيل الله، وهي تتقلب على الفراش، آلمتها حرارة الفراق وبدأ الشيطان يسوَّل لها بالمعصية لكن { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل: 128]، فأنشدت قائلة في ظلام من الليل:
تطاول هذا الليل وأرخى جوانبه
وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فو الله لولا أن ربًا أراقبه
لحرك هذا السرير جوانبه
فوصل الخبر إلى عمر فضرب أشهرًا معدودة لا يغيب أحد فوقها عن زوجته، وكم في البيوت من زوجات تشكو في هذا الزمان من تضييع أزواجهن لهن، يسهر الزوج في الخارج على الورقة والدش والغناء والطرب والدخان أو في البراري، والزوجة المسكينة تتقلب ليلاً تعاني ألم الوحدة في فراشها، وربما انتابها شيء آخر الليل فالله أعلم بحالها، فإذا ما غطَّت بالنوم أتاها زوجها قرب الثانية أو الثالثة ليلاً فينهرها، ولولا مخافة الله لحصل أمور من المرأة لا تُحمد عقباها، ألا فليتق الله كل رجل في بنته، وأن يختار لها الزوج الكفء فهو مؤتمن عليها.(1/11)
دخل ثلاثة من بني إسرائيل في غار فانطبقت عليهم الصخرة ولا سبيل للخروج فتوسلوا بصالح أعمالهم، قال أحدهم: اللهم إنه كان لي أجراء فأعطيت كلاً منهم أجره إلا واحدًا تركه أمانة عندي وذهب، فلما عاد بعد زمن طويل قال: أين الأمانة؟ قلت: هذه هي الأمانة وادٍ من الإبل والبقر والغنم، اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك ففرج عنا فانفرجت عنهم الصخرة قليلاً، وقال الآخر: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت آتى باللبن وأسقيهما كل ليلة قبل أولادي، وفي ليلة وجدتهما نائمين فظللت واقفًا ومعي قدح اللبن إلى أن طلع الفجر، وأبنائي حولي يصيحون ويتضاغون جوعًا، فشربا وحمدا الله، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا فانفرجت أكثر، وقال الآخر: اللهم إنه كان لي ابنة عم لي أراودها عن نفسها فتمتنع، وذات يوم ألَّمت بها حاجة فجاءتني لأقرضها دراهم، فشرطت علي أن تخليني من نفسها، فلما جلستُ منها مجلس الرجل من زوجته، قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت النقود لها، اللهم إن كان ما فعلت ابتغاء وجهك ففرج عنا، ففرج الله عنهم وانزاحت الصخرة وخرجوا. { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } [الطلاق: 2].
وإذا خلوت بريبة في ظلمة
والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها
إن الذي خلق الظلام يراني
وآخر اغتصب امرأة وأغلق الأبواب، فقالت له: هل ترى شيئًا في السماء قال: أرى كواكبها، قالت: فأين مكوكبها، فقام مهروعًا خائفًا.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
أما حالنا فحدث ولا حرج، أصبحت كلمة التقوى ذمًا وتنقصًا لمن تقال له، فإذا قلت: اتق الله يا فلان قال: هل أنت أفضل مني؟ والأفزع من ذلك أن من الناس من يعتز بمعصيته فيجاهر بها: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } [البقرة: 206].(1/12)
كلما يدخل فصل الشتاء يلبس الناس ما يقيهم لفح البرد، ويتفننون في أنواع الملابس والثياب، لكنهم يغفلون أن يلبسوا أجسادهم ما يقيهم عذاب النار: { يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف: 26]، ومن فقد لباس التقوى فلا ينفعه لبس الثياب.
إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى
تجرَّد عريانًا ولو كان كاسيًا
وخير تجارات المرء طاعة ربه
ولا خير في عبد كان لله عاصيًا
ووالله ونحن نطالب بتقوى الله نجد المسلمين يكبون على الدنيا إكبابًا عظيمًا وكأنهم ما خُلقوا إلا لها، وما بقي منكر إلا وعصي الله به، ولو كان للذنوب رائحة لما استطاع أحدٌ العيش في هذه الأرض، وتجد المسلمين يتخبطون في صراعات بينهم، وينهشون لحوم بعضهم وقد سلم منهم أعداء الله، إن المسلمين كثير ولكنهم غثاءٌ كغثاء السيل تجرؤوا على بعضهم، وحقًا:
وفي الناس شر لو بدا ما تعاشروا
ولكن كساه الله ثوب غطاء
يقول الأعداء: كأس وغانية تفعل بالأمة المحمدية ما لا يفعله ألف دباب ومدفع، نام المسلمون والغرب يخططون وقد نجحت خططهم، ودخلوا على المسلمين بواسطة الحرب الفكرية؛ بعد أن أثخنتهم الجراحات في أشد وقعات التاريخ، رحم الله صلاح الدين؛ ما أبقى لهم باقية، ولكن الآن قد اندملت جراحاتهم فغزونا فكريًا، والمسلمون في سبات عميق فليس لهم همٌّ إلا التهام أفكار الغرب وتقليدهم تقليدًا حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، حتى أصبحت تُنِكر الرجلَ الذي كنت تعرفه، وتنكرت الأرض فما هي بالأرض التي كنت تعرفها.
ربَّوا نواصيهم مع حلق القفا
شبه اليهود وعابد الأوثان
تنكرت البلاد ومن عليها
كأن أناسها ليسوا بناس(1/13)
ودب الضعف والهوان في صفوف المسلمين من أثر ما يرون من المنكرات ليل نهار فتبلد الحس، وحقًا إذا كثر الإمساس قلَّ الإحساس، وعمت البلوى، ولو تمسكوا بالكتاب والسنة، لما ضلوا أبدًا، «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي».
أسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين.
إخواني ضعوا نصب أعينكم: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } [الطلاق: 2]، وخافوا الله وراقبوه، ولتكن علانيتكم مثل سريرتكم، واخشوا الله بالغيب، ووالله مهما فعل المسلمون ما دام لم يتوِّجوا أعمالهم بالتقوى والإخلاص، فإن الأعمال لا تنفع، ومن الناس من يأتي بحسنات كأمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثورًا.
إن البناء وإن تسامق واعتلا
ما لم يشيد بالتقى ينهار
فإذا اتقيتم الله ولم تخافوا إلا منه ولم تأخذكم فيه لومة لائم فسيصبح لكم شأن عظيم وهيبة كبيرة بين الأمم، وستنصرون على الكفرة بقولكم «الله أكبر».
إذا وصلنا برب الكون أنفسنا
فما الذي في حياة الناس نخشاه
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سليمان بن عبد الكريم المفرج
الجوف – محافظة دومة الجندل
تحريرًا في 1/2/1422هـ
جوال/ 055389153(1/14)