المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
يقول الله تعالي: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]. ويقول الإمام السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذا استفهام بمعني النفي المتقرر أي لا أحد أحسن قولاً أي كلامًا وطريقة وحالة ممن دعا إلي بتعليم الجاهلين ووعظ الغافلين والمعرضين ومجادلة المبطلين بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها والحث عليها وتحسينها مهما أمكن والزجر عما نهي عنه وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه. أهـ.
والمتأمل يدرك جليًا أن الناس بمختلف أحوالهم بحاجة ماسة إلي دعوة صادقة تحمل في ثناياها الحب للمدعوين والرأفة والرحمة بهم.(1/1)
وما لم يكن الداعية على وفق هذا المنهج فلن يكون له شيء من التأثير على هذه الفئات بالذات، ذلك أن كثيرًا من الناس وقعوا في شراك المعصية ومع ذلك تقبلوها ومع الزمن ألفوها فعز عليهم فراقها، بل ربما رأوا وعظ الناصحين مجرد عثرات في طريق تلذذهم في هذه الحياة. فكان واجب الداعي إلي الله أن يتألفهم ويصل إليهم ويدعوهم بالحسنى فإن القدوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلي تجمعات الناس ووعظ وذكر نصح وتحمل في سبيل ذلك الشيء الكثير، فإن لم يكن للداعية قدرة على ذلك فإن الكتابة إلي مثل هذه الفئات من الوسائل التي ممكن أن تسهم في نقل هؤلاء إلي المكانة المرموقة التي تحدث عنها القرآن الكريم في قول الله: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ } [الإسراء: 70]. ولهذا جاءت هذه الرسائل التي حرصت أن تخاطب الوجدان وتبعث الغيرة وتذكر بمكانة الإنسان كمخلوق جاء لأعظم الأهداف غاية – عبادة الله – وحسبي أني اجتهدت في النصيحة فخرجت هذه الرسائل سائلاً الله أن يجعل لي غنمها وأن يصرف عني غرمها وأن يجزي كل من أعان على نشرها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المؤلف
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
* * * *
الشباب الآمال والطموحات
إليك أنت فتي الإسلام، أنت الأمل المنتظر، أنت بوابة الأمل الفسيحة، أنت أخي الشاب أراك فأعيش مبتهجًا، أحلم بالأمنيات، أداعب في خاطري شوق الأماني وحديث الأمنيات لك أنت بالذات، ذلك أني أدرك أن نصر أمتك سيتحقق على يديك بإذن الله، أحلم بكل ذلك ولن يستطيع مخلوق أن يحول تلك النظرة تجاهك لأني أدرك أنك فوق ما أتصور منك، فقط تنتظر فرصة العمل الجاد لتحقق كل هذه الأمنيات، أذكر دائمًا من وقف في طريق هذه الأمنيات فحاول أن يحول بيني وبينك حتى أني أذكر من حديثه:(1/2)
كيف تحلم بذلك من شاب يعبث الحلاقون في رأسه؟ كيف تحلم بذلك من شاب يتجمل لخله ويساير هواه؟ كيف تحلم بذلك من شاب يقضي أوقات فراغه في الشوارع وعلى الأرصفة؟ كيف تحلم بذلك من شاب يقدم خله على والديه؟ كيف وكيف وكيف؟ قلت له: لن تظفر مني بمناك ولن أسمع لك فحديثك لا يعني لي في الطريق شيئًا، ذلك أن كل ما تقوله فترة لن تدوم طويلاً بإذن الله فحياة الرجال تعترضها العثرات ولكنها طيف عابر لن تدوم.
وستري بأم عينيك أفول شمس هذه العثرات، ستري حديث الشباب يسري في واقع الأمة يحقق آمالها ويطمس كيد أعدائها وكل ذلك في القريب العاجل.
ستجمعني الأيام بك في القريب العاجل وسأذكرك هذه النظرة المشؤومة كيف زالت وتحقق الحلم المنتظر، يا أخي كل ما ذكرت من هذه العثرات مجرد أطياف تصبح بعد زمن قريب في حياة أولئك الشباب زلة قدم فرضها عامل السن والزمن وولت في عالم النسيان. حدثت صاحبي بهذا الحديث وحسبت أنني لممت شعثك أخي الشاب وسترت ما حاول أن يجعل منه عثرات في طريقك فسكت ولن يعود.
فور هذا الحديث انتقلت بنفسي من حديث هذا إلى أولئك الشباب الذين مضوا وكتبوا أسماءهم في سجل تاريخ الأمة بحروف من ذهب، تذكرت تلك النفوس الأبية فجال الحديث في النفس بشوق وأمل، تذكرت ذلك الصحابي الجليل الذي غادر الحياة وهو يردد «واه لريح الجنة إني أجدها من دون أحد» وحديث الآخر الذي طعنه ذلك المشرك فثارت الدماء من ظهره فمات وهو يردد قولته المشهورة: «فزت ورب الكعبة» وحديث الثالث الذي يقول: «بخ بخ إنها لحياة طويلة إن بقيت إلى أن آكل هذه التمرات» وذلك الرابع الذي يعرض في بطحاء مكة في حر الشمس ولهب الرمضاء فيردد: «أحد أحد».(1/3)
تذكرت هذه المواقف الشريفة من أولئك الرجال فعرفت أن لفتي الإسلام اليوم تاريخًا مشرقًا وقدوات ناصعة ولن يحيد عن هذا الماضي العريق، إن الزمن الذي استطاع أن يؤثر بهذه البقع السوداء في أثواب شبابنا ستأتي الأيام القادمة بآمال وطموحات تغسل هذه البقع بأسرها بل قد تلبس الجديد الذي لا يحمل شيئًا من آثار الزمن الماضي، سيعيد شبابنا ماضي قدواتهم الأبطال سيخلدون ذكر خالد ومصعب وسلمان وحمزة ومعاذ وأبي، سيكتبون عزتهم من آثار عزائمهم سيخطون بأناملهم حديث الصحب الكرام وليس ذلك ببعيد فقط ينتظروف الفرصة التي يكتبون كل هذه النجاحات.
أخي الشاب:
لعلك تدرك جيدًا صيغة التحدي التي خضتها من أجلك، فذلك يكلفني الكثير من الآمال والآلام ووالله لولا أني أعلم صدق ذاتك، وعلو شأنك، ونفسك الأبية، ما رضيت أبدًا أن أعرض نفسي لنزال مبهم لا يدري لمن العاقبة فيه.
أخي الشاب:
كمين الأعداء شائك سميك وأراه يعترض سيرك المبارك لكنه أمام النفس الأبية من أمثالك بمثابة خيوط العنكبوت وسراب النهار لا يلبث أن يضيع بمجرد وصولك إليه.
أخي الشاب:
يحلم الأعداء بك أن تكون يومًا أسير شهواتهم وصيدًا من صيود مخططاتهم وأحلم كثيرًا أن تأسرهم بعزيمتك وتركل قيودهم بقدمك وليس ذلك بغريب فأنت أمل الأمة المنتظر.
يا إخوتي يا شبابا الحق همتكم
تسمو بكم عن دروب الطيش والصخب
أحبكم يا شباب الحق محتسبًا
ولن يضيع ربي أجر محتسبي
أدعو لكم بصلاح الأمر في زمن
سواد ظلمته يطغي على الشهب
* * * *
قصة الطبق المشؤوم
دخل علي يومًا ذلك الرجل، رجل غير غريب كأنما مر في ذاكرتي دخل على مذهولاً، كأنما يحمل هموم هذه الدنيا، وقف بالباب وعرفني بشخصه الكريم، زميل فرقت بيننا الأيام، رحبت به وكنت أظن أنه وصل زائرًا بعد هذا الفراق الطويل، حاولت أن أكرم الرجل، لكن كأنما كان على عجل، أنصت قليلاً وتنهد الأحزان من صدره، ثم استسمحني ليروي قصته التي جاء يحملها، يقول:(1/4)
كنت دائمًا أسمع حديثًا يؤنب العصاة في سوء ما ارتكبوه، حديث كنت أظن أنه يتجاوز الحقيقة، حديث كان يدار حول القنوات الفضائية وآثارها، كنت أسمع ذلك في المسجد فأنصت له كارهًا، وأكثر من وهلة أوصل أولئك الأشخاص إلي يدي بضع ورقات، أتصفحها فأجد فيها قصصًا وقعت لمقتني القنوات، أقرأ تلك الرسائل ونفسي تحدثني أن هذا أشبه بالقصص الخرافية لا غير، وكنت مع هذه الأخبار أتساءل: لماذا هؤلاء الأشخاص يحدثوننا هذا الحديث؟ يحملون هم بيتي وأسرتي؟ أتساءل فلا أجد أقرب إلي الحدث من أنه مجرد غيره مصطنعة، لا تملك رصيدًا من الواقع، ولذلك لم تقف هذه النصائح وهذه القصص في طريق الشراء الذي عزمت عليه، فحديث الصحب عن المباريات المشفرة كان يدفعني خطوات، وقناة الجزيرة في برنامجها وجهًا لوجه تدفعني خطوات أكبر، وتشد من أزري على الشراء، وكل ذلك كان يؤججه حديث الزملاء في العمل عن الأحداث في الساحة، كل هذه مجتمعة كانت تشدني إلي الإقدام على هذا الشراء، وكان حديث الناصحين يعرقل هذا الشراء من جهة، ومن جهة أخرى كان مسحة الحياء تؤجل هذا القرار في نفسي، لكن العوامل التي ذكرت سالفًا كانت لها الغلبة.
وفعلاً قدم الضيف المشؤوم ولسوء شؤمه أبى أن يطأ الأرض فاعتلي سطح منزلي المبارك، فرآه المجتمع فهرولوا إلي وخوفوني بربي، ذكروني بسوء العاقبة لكنني بقيت صامدًا على ما عزمت وعاد المجتمع أفرادًا وجماعات دون تحقيق نتيجة، وبهذا النصر الموهوم الذي حققته على مجتمعي هنأني أبنائي وزوجي، ورأيت أن أقدمه هدية لهما على التهنئة.(1/5)
مضت الأيام وكنت في شوق إلي حديث المباريات وتلك القناة، وكنت يوميًا أرد على زملائي حديث ما وجدت، في الوقت ذاته كان هناك نهم في نفسي أحببت أن أملأه، لكنني أحسست منذ الأيام الأولي ثقلاً في خطواتي إلي المسجد، وكسلاً يتحمل جسدي، ورغبة ملحة إلي البقاء عند هذه القنوات، ومرت الأيام ففقدت المسجد وأهله الأخيار، بدأت تتلقفني الأحزان وتنتابني الهموم، لكنني كابرت وأصررت على البقاء، عدت أكره المتحدثين عن الخطر ولا أود أن أسمعهم، كنت أري أن هؤلاء أعداء للحرية لا غير، مرت الأيام وأنا وأسرتي حول هذا الجهاز لا نكاد نفارقه إلا في ساعات الدوام، كنت أنام مضطرًا ويبقي أبنائي حوله إلي وقت متأخر.
مر زمن كبير على هذه القصة أقدره بسنوات، ونسيت كل الأحداث التي صاحبت قدوم الدش، وشرعت في ظروف هذه الحياة ولم يبق عندي من الزمن ما أجلسه أمامه، كنت أعود إلي البيت في ساعات متأخرة من الليل، وأحيانًا قبل الفجر، استمررت زمنًا طويلاً، ظروف الزمن هي التي تجبرني على ذلك.
وفي ليلة من هذه الليالي التي أصبح لي التأخر عادة عدت في ساعة متأخرة جدًا، وكالعادة استلقيت في غرفتي دون أن يعلم بقدومي أحد لكن الغريب في الأمر هذه الوهلة أني سمعت أشبه ما يكون بالأصوات المتداخلة، أخذت أتمعن هذه الأصوات فإذا بها تمتمة لا تكاد تبين حروفها، ارتفعت دقات قلبي، ولم بي هم عجيب، وداخلتني الشكوك لأول وهلة في حياتي، فانطلقت إلي غرفة زوجي ففتحت الباب فإذا بها تنام ملء جفنها، تنهدت وزالت الشكوك التي تعتصرني، وحمدت الله وعدت لغرفتي ولكن كأنما الصوت داخل بيتي.(1/6)
قمت هذه الوهلة وقلت لعل الأبناء نسوا ساعات الليل في ظل ما يشاهدون، كنت أمشي برفق وتؤدة حتى أعرف ما الخبر، وصلت إلي الباب فاتضح لي أن الأصوات من داخل هذه الغرفة، تحسست يد الباب فإذا بها محكمة، حاولت أن أرى الخبر عبر الثقوب، لكن دون ما فائدة، فالباب محكم بعناية، أشغلني الأمر، يوشك أن ينطلق صوت مؤذن الفجر وأبنائي ما زالوا يسمرون، عدت إلي غرفتي عازم على المساءلة والتأنيب غدًا.
وقبل أن ألج الغرفة تذكرت بابًا للغرفة من الجانب الآخر فاتجهت إليه، وصلت، وضعت يدي على مقبضه، انفرج بسهولة، أنظر، أتأمل، أضرب في رأسي علني في حلم عابر، لا، بل المصيبة فعلا، المأساة، الجروح الدامية، العار والفضيحة، النهاية المرة، الولد يقع على أخته فيفض بكارتها ويهين كرامتها، لم أتمالك نفسي من هول ما رأيت أطلقت صوتًا مذهلاًن سقطت مغشيًا علي، قامت الزوجة فزعة، وقفت بنفسها على المأساة، رأت ما لم يكن في الحسبان، الطبق المشؤوم الطبق المشؤوم، يهتك ستر البيت ويشوه حاله، يقضي على العفة النقية قيبدلها بآثار العار المخزية، بنت في سن العشرين تنتظر المولود القادم فعل أخيها التائه، سعادة الأسرة المنتظرة بأحلام المستقبل القريب ضاعت تحت كنف ذلك الطبق البائس.
عدت أتذكر ذلك المجتمع الذي طرق بيتي وحاول دون وصول ذلك الطبق المشؤوم، وأتذكر حال الزملاء وحديثهم حول ما جلبت، وبقيت اليوم عاجزًا عن البوح بما لقيت لأدنى قريب، وقد وقعت المأساة ولا سبيل إلى النجاة.
وأخيرًا أخرجت ذلك الطبق عن سطح منزلنا، لكن بعد وقوع وصمة العار داخل أرجاء ذلك المنزل.
فواأسفا على العفة التي ذهبت.
ووا أسفا على الغيرة التي نسيت.
ووا أسفا على النصيحة يوم بذلت دون أن أرعيها أي عناية.(1/7)
هذه قصتي أسردها اليوم وكلماتها أثقل من الحديد في فمي، ووقعها أشد من ضرب السياط في جسدي، وعارها ألصق شيء بعفتي وعفة أسرتي، لكنني أحببت أن أنقلها فتعيها الآذان المصغية وتستفيد منها النفوس الغافلة وإلا فعند غيري أكثر مما ذكرت لكنهم إما لم يعثروا عليها حتى الآن أو أن نفوسهم ضعفت عن الحديث بها، وها أنا أبرأ إلي الله وأخرج من جور المساءلة غدًا عند الله بذكر هذه الآثار ولا حجة بعد ذلك لمخلوق، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
* * * *
يا إمام الأخيار
إن المسجد في كل مكان هو الملتقي الإيماني الذي يلتقي فيه المسلمون كل يوم خمس مرات، لقاًء متجددًا في حياتهم، بل رتب الإسلام على تخلف الواحد منهم وعيدًا شديدًا لا عجب أن ترى أولئك الأخيار، ما إن ينطلق صوت المؤذن الله أكبر، إلا لامس شغاف القلوب، وقاموا كأنما يجترهم بقوة إلي تلك البقعة المباركة.
وهكذا كانت حياة الجيل الأول وصلت إلي أرقى معاني الإنسانية لأن إمامهم قدوة في كل شيء فبنى من تلك الجموع أنفسًا أبية وجمع تحت ظلال ذلك المسجد قلوبًا أخوية فضربت في التاريخ بأعظم مثال مر على الأمة في التاريخ، مع أن الأبنية التي كانت تظلهم في تلك المساجد أعوادٌ من الخشب لا تحميهم حتى من شعاع الشمس المحرقة.
لكن ذلك كان مجتمع أولئك الرجال بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، ففيه تصل العلاقة بالرب على أحسن حال فيزداد بذر الإيمان يومًا فيومًا حتى اشتد وقوي، فأصبح مضرب الأمثال.
ولم يكن غريبًا في ذلك الوقت بالذات من يخرج من أروقة المسجد ثم يقدم نفسه فداًء لدين الله، يلتقون في المسجد حتى نمت بذرة الأخوة بينهم نماءً غير طبيعي، بفضل تلك التربية، تكافل ذلك المجتمع على مواساة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وتضميد جراح منكوبهم، حتى أصبح المجتمع ذاك أشبه ما يكون بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر.(1/8)
ولو لم يكن ذلك المسجد أشبه ما يكون بالملتقى التربوي لم تحصل تلك التربية المثالية ولم يكن مثل ذلك الجيل الفريد.
هكذا كان دور المسجد وتلك هي الثمار التي جنيت، فما أعظم ذاك الدور وما أجمل تلك الثمار!! المتأمل يدرك أن المسجد ما زال يحتل في قلوب المسلمين مكانة مرموقة ويمكن أن يعود دوره الأول متى ما كنا نحمل هم تفعيله وزيادة تأثيره، صحيح أن وجود شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين تلك الأنفس كتب لها أن تكون جيلا لن يتكرر لكنه في المقابل متى ما كنا نحن الأئمة أقرب أسوة بشخص ذلك الرسول سيكون للمسجد أثره التربوي بلا شك، أقول هذا الحديث وأتذكر أحد قادة الشيوعية وهو يقول: لو كان الناس يترددون إليَّ في اليوم الواحد خمس مرات لجعلتهم كلهم شيوعيين.
فماذا نقول نحن نسل أعظم أمة في التاريخ؟!
إن الأمام الذي يحمل هم الدعوة والإصلاح سيكون له أثره مهما كانت الظروف فقط يشترط أن يكون أقرب هدى بالإمام القدوة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - . ويبقي البعد عن القدوة عائقًا عن التربية التي قلت، إننا وإلى هذا الوقت ما زلنا نبحث عن جملة مواصفات من الضرورة بمكان أن يتصف بها إمام المسجد ومتى ما وجدت فسيكون أعظم أثرًا وأقوى تأثيرًا، نبحث عن الإمام المؤصل في علمه، الباحث عن العلم.
الإمام الذي يستطيع أن يجيب على الأقل عن تساؤلات المصلين خلفه.
الإمام الذي يفك مشكلاتهم ويضع لهم الحلول الناجعة.
الإمام الذي يجدون عنده ما يروون به عطش تساؤلاتهم.
الإمام القدوة بكل ما تحمله هذه الكلمة، المتمثل لهدي النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - والمتمسك بسنته، الذي يجعل القدوة واقعًا حيًا يعيشه المصلون لا أحاديث دون رصيد عملي مشاهد.
الإمام الذي يحمل هموم الناس ويسعهم بخلقه الجميل.
الإمام الذي يعيش آمالهم وآلامهم.
الإمام الذي يستطيع أن يجمع بين الفقير والغني فيكمل كل منهما الآخر.(1/9)
الإمام الذي يحبه الناس فيقبلون عليه وينهلون من حياته أدبًا وخلقًا وحياة صالحة.
الإمام الذي يتحمل أخطاء الناس ويسعهم بحلمه وعفوه.
الإمام الذي تسابق أفعاله شدو أحاديثه.
هذا الإمام الذي يحمل هذه المؤهلات يستطيع أن يؤثر في مأموميه وأن يكون له جيلٌ من الأمة يتنافس على الخير ويبذل من حياته لدينه شيئًا عجبًا.
حتى أبرهن على واقعية ما قلت عن الإمام الذي نريد: يسوق لنا الشيخان البخاري ومسلم شاهدًا من ذلك أن أعرابيًا دخل المسجد فبال فيه فانتهره الصحابة، فأبى عليه ذلك إمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «دعوه» فلما انتهى من بوله قال له رسول الله: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والأذى، إنما بنيت لذكر الله» فلا يجد ما يكافئ به هذا الإمام إلا أن يمد يديه إلي السماء ويقول في دعواته تلك: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا.
ويسوق لنا الإمام مسلم مشهدًا آخر من مشاهد هذا الإمام، فيأتي معاوية بن الحكم السلمي مصليًا خلف هذا الإمام فينسى المسكين بجهله فيعطس أحد القوم فيقول وبملء فيه: يرحمك الله، فيضرب الصحابة بأيديهم على أفخاذهم فيروعه الموقف فيزيد الطين بلة ويقول: واثكل أمياه واثكل أمياه، فتنتهي الصلاة فيرمي بطرفه إلي الإمام ينتظر العقوبة فيقول له ذلك الإمام: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام البشر» فيقول هذا المأموم بعد سماعة لهذا الحديث: بأبي هو وأمي، والله ما نهرني ولا كهرني .. الحديث.
وهكذا كانت حياة ذلك الإمام: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159].
ولعلك تدرك دورك بالذات لكن يبقى التذكير من حقك عليَّ، ولعلي لا أبخل عنك بشيء يخدم هذا الدين بالذات ولعل من أهم هذه الوسائل:
1- القراءة اليومية مطلب مهم.
2- الدرس الأسبوعي من الضرورة بمكان.(1/10)
3- لوحة المسجد ومتابعة دورها عامل مهم في تثقيف المصلين وتوعيتهم.
4- الرسالة الأسبوعية والعناية بإعدادها واختيار موضوعاتها التربوية لها أثر متحقق بإذن الله تعالي.
5- جماعة المسجد وحسن اختيارهم يذكر دائمًا بواجب الدعوة في حياتنا.
6- المسابقات الشهرية تعطي تصورات تربوية كبيرة في حياة المصلين.
هذه الأشياء مجتمعة كفيلة بإذن الله بأن تعيد للمسجد دوره التربوي المنشود. أسأل الله أن يعينني وإياك على حمل أمانة المسجد والقيام بحقه والله المسؤول أن يمدنا بعونه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * * *
دعوة للإنفاق
أحييك بتحية أهل الجنة، تحيتهم يوم يلقونه سلام فسلام الله عليك ورحمته وبركاته، وكم يسعدني أخي الحبيب أن أزف لك اليوم أجمل التهاني بقدوم شهر رمضان المبارك عليك وأنت ترفل في أثواب السعادة وتعيش في وافر النعم.
أخي الحبيب:
سل الأيام هل حفظت لنا ذكرى الأجيال وهل يشوبها الحزن لفقد أولئك الرجال، أو أن تلك الأيام التي نسائلها نسيت بعضها البعض فكيف ننتظر منها أن تذكرنا بتلك الأجيال السالفة؟
أخي الحبيب:
ها هو رمضان قدم وقد قدم مرات ومرات وكم كان غيري وغيرك ينتظر مثل هذا القدوم الميمون لكن حالت الأيام بتدبير خالق عظيم دون اكتحال أعينهم بهذا الضيف المبارك، فمن حقي اليوم أن أهنئ نفسي وإياك فما أعظم العافية وما أجمل البقاء على الطاعة!!
أخي الحبيب
لقد أكرمك الله – أولاً - أن جعلك هدفًا للرسالات السماوية، وأكرمك – ثانيًا - بأن جعلك هدفًا لأعظم رسالة، وأكرمك – ثالثًا - بأن جعلك مستودعًا لخيراته ونعمه، فما أعظمك من مخلوق! وما أعظم إكرام الله لشخصك الكريم!
أخي الحبيب:(1/11)
تلفت في كل جهة من مجتمعك ترى حال البائسين الذين يستقطر لهم دمع العين وتنزف لحالهم القلوب الرقيقة وهم بين جائع يتكفف الناس ويتلففهم في طرقاتهم، وبين آخر توشك الظروف الضيقة أن تؤدي بحياته ويستحيل أن يمد يديه أو يشتكي حالة وفقره مصداق قول ربك: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } [البقرة: 273] لكنك تعرف مسحة الجوع على بطنه من عظم ما التصق بظهره، يستبين لك حاله عندما ترى وجهه شاحبًا من ألم الجوع وضامرًا من شح ما يجد.
أخي الحبيب:
تلفت فكم من أب توارى عن الناس خوفًا من لمزهم وإشارتهم المتهمة، تلفت في رمضان بالذات وسترى الدموع خير شاهد على المأساة، سل أهلك وذويك وسيخبرونك أن قومًا من أهل مجتمعك يخفيهم رمضان فلا تراهم الأعين ولا يسمع حديثهم الناس؛ ذلك أن الأسواق التي يجتمع بها تعرف فقره فتجحد هي كذلك إعطاؤهم أو حتى إدانتهم مثل غيرهم من الناس، فكيف تريد من رمضان أن يكشف عورتهم، ويظهر عوزهم في مجتمع الناس؟
أخي الحبيب:
هؤلاء فقط الأصحاء في أبدانهم المعوزون في حالهم فكيف إذا انضم إلي العوز أمراض وأدواء فيشرق أحدهم بدمعه فلا يدري الجوع آذاه أو المرض قلاه يختلط الدمع في أحيان كثيرة بألم الجوع وحرارة المرض فيزداد أساهم. وليت شعري من يقف على حالهم فيرى المأساة أسوا مشهد تعيشه تلك الأنفس البائسة.
أخي الحبيب:(1/12)
حدثني أحد الأصدقاء بحديث من ذهب، قصة يرويها الأفاضل في هذا العام بالذات يقول: بينما أنا أسير بسيارتي في أثناء الطريق يعترضني ذلك العجوز دونما تورع أو تأمل، هاتفته بالسلام ببوق سيارتي المزعج وأشرت إليه بكلتا يدي لكنه لم يرعني سمعه ولم يجبني البته أخذت في خاطري حزنًا أليمًا لماذا لا يأبه بي ولم يحادثني بل حتى السلام لم يشافهني وذهبت أروي هذه القصة على أقربائه مستبينًا عن السبب.
وبينما أنا أسرد المأساة إلا وصاحبي يقاطع حديثي بدمع تشرق به النفوس، أجهش في البكاء حتى اغرورقت عيناي سألته ما الخبر فذهب يقول: صاحبك الذي رفض السلام لم يرك، بل لم يسمع بوق سيارتك فكيف يرى هتاف يدك المسلمة، صاحبك الذي رأيت أعماه العطش وآذاه الجوع وأصمه صراخ بنياته الصغار من لظى المأساة، صاحبك قادم من سوق تلك القرية بعد أن عرض وجهه للمسألة فأبى الجميع أن يمد إليه يد العطاء ولو على أمل الوفاء فعاد هائمًا متألمًا من السوق فكيف يراك؟ وحينها فقط فزعت القرية وصوتت في آذان الغيورين فامتدت اليد الحانية بمثل هذه القصة المؤلمة.
أخي الحبيب:
أو تحسب أن هذه الصور تخلو في مجتمعك؟ لا ورب السماء إنها صور شتى في مجتمعك سل وتلمس حالهم وستجد قصصًا أكبر أثرًا من ذلك.
أخي الحبيب:
تأمل في قول ربك: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد: 11]. يطلب ربك القرض من أجل أن يوفيك خيرًا منه، بل ضمن الله لك بهذه الصدقات أن ينجيك من الخوف والحزن يوم لقائه مصداق قول ربك: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 262].(1/13)
فكيف يوم القيامة تأمن الخوف والحزن في موطن مدعاة لمثل هذه الأشياء؟ أليس ذلك نعمة بل حتى وقوفك هناك في ظل وارف مصداق حديث رسولك الكريم: «كل متصدق في ظل صدقته يوم القيامة» بل ما أسعدك بحديث رسولك الكريم: «ما من يوم إلا وفيه ملكان يقول أحدهم: اللهم أعط منفقًا خلفًا، والآخر يقول: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» بل من حقك على مجتمعك حين تكون بهذه النفس الباذلة أن يقبلك في جبينك ويعلي صوتك ويشدو بذكرك فكم من البؤساء في مجتمعك ضمدت جراحهم.
أخي الحبيب:
ها هي رسالتي تصلك ولعلها بين يديك الآن ووافقت قدوم شهر الخير شهر رمضان المبارك وأبناء مجتمعاتك يعلمون ما من الله به عليك وكأني برقابهم تشرئب إلي عطائك، فهل تمتد يدك بالسخاء لهم، فتطعم جائعهم وتكسو عاريهم وتواسي يتيمهم فأنت الرابح الغانم.
* * * *
السامرون على المعازف
من الأعماق أحبك، وسأبقى - بإذن الله - سائلاً عنك، مشتاقًا إلي لقائك الجميل، وستبقى الأيام تذكرني عظيم صداقتك، هذه الأماني تجاهك، لا لشيء إلا لما رأيت فيك من جوامع الخير، وكم والله يا أخي أجد في قلبي لك حبًا يزيد كل ما رأيت إقبالك على الطاعة، كنت أظن أنك تستطيع أن تؤجج هذه الروابط وتزيد من حماها، لكنني فوجئت أعظم مفاجأة، فتى الإسلام، وأمنياته الجميلة، القلب النابض لأمته يضرب في الوريد من أعدائه ضربة باتت تحلل الروابط التي تجمعني به وتقلل من شدتها، نعم يا أمل الأمة ويا بذرة مستقبلها، استقبلك أعداؤك بسهام الموت فرموك فوقعت صريعًا.
لست صريع المقابر لكنك صريع الشهوات كان ذلك السهم يحمل الوتر السامر والعازفون عليه من الأعداء، وقبل أن يبدؤوا معك رحلة العزف المشؤومة سقوكم من كأس الشهوة المقيتة فبقيتم ترددون ما يطلبونه منكم، ولعلي اليوم بدافع ذلك الحب الذي ذكرته سابقًا أتحدث معكم حديث مشفق حبيب.
أيها السامرون:
بادئ ذي بدء من الذي أعد لكم هذه المعازف؟ ومن الذي ألف هذه البضاعة المشؤومة؟(1/14)
إن كنتم تغفلون عن مثل هذه الخطط فسأجيبكم عليها، نعم إخوتي هؤلاء هم أعداؤكم وشانئوكم. هم الذين سهروا وتعبوا فأخرجوا الوتر السامر ولعلكم تسألون لماذا هؤلاء يسهرون من أجلنا؟ سهروا لأنهم تجرعوا في زمن مضى قوة المسلمين وشربوا من علقم الهزائم ما باتوا به أذلاء، وخافوا اليوم أن يتكرر عليهم شريط الذكريات الماضية فاحتضنوكم من أجل أن لا تقتدوا بسلفكم الكرام فتعود غصص الهزائم من جديد، صنعوا لكم الوتر السامر وأخرجوا لكم المرأة الفاتنة وعرضوها في أجمل لباس، جمعوا بين الصورة والوتر حتى تحقق سكرة الشهوة فينسى فتى الإسلام قصة نصر ذلك السلف.
ووالله يا أخي ما رأوا أعجب منظرًا حياتهم من منظركم وأنتم تعزفون على ما صنعوا أو تسمرون على ما سهروا.
أيها السامرون:
تأكدوا أنكم بقدر ما تقعون في حبائل الوتر عزفًا أو سماعًا أنكم تتجردون من معاني الكرامة التي منحكم الله إياها وتستبدلون مكانها دناءة المعصية وحقارة النفوس العاصية.
أيها السامرون:
هل ورد في كتاب ربكم نهيٌ عن هذه المعازف؟ تعالوا لنفتح هذا الكتاب الكريم ونتمعن ما ورد في هذه السورة التي وقعت أيدينا عليها يقول الله تعالي: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [لقمان: 6]. وتعالوا لنحكم المفسر الجليل ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية الكريمة يقول رحمه الله تعالي (3/450): «لما ذكر حال السعداء وهم الذي يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا علي استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود رضي الله عنه هو والله الغناء يرددها ثلاث مرات».(1/15)
حتى أن سيد قطب في ظلاله يقول وكأنه يصورك وأنت تقدم على الشراء فيقول: «يشتريه بماله ويشتريه بوقته ويشتريه بحياته يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص يفني فيه عمره المحدود».أهـ.
ها هي يدي وقعت على هذه السورة بالذات وليس المجال مجال جدل ورد وإلا لسقت لك ما يبين عن ذلك.
تعال لنبحث في صحيح السنة، تعال لنبدأ بالأصل بعد القرآن الكريم صحيح الإمام البخاري رحمه الله فنقرأ الحديث الذي أورده «ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف...» الحديث. ولن أزيدك على هذا الحديث حديثًا آخر مع أنها أكثر من ذلك بكثير.
أيها السامرون:
تحدث ابن القيم وأبان مساوئ الغناء فقال رحمه الله: «فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا» أهـ. ونقل بعد ذلك مذهب العلماء في هذه المسألة فقال: «فمذهب أبي حنيفة التحريم وصرح أصحابه بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة، وهذا الشافعي صرح أصحابه العارفون بمذهبه تحريم ذلك، والإمام أحمد يقول: الغناء ينبت النفاق في القلب، ونقل قول الإمام مالك إنما يفعله عندنا الفساق. وهؤلاء أئمة هدى ومصابيح الدجى إن لم يكن هم أدلاء على الخير فمن يكون؟».
أيها السامرون:
كيف بكم لو قلت لكم إنه يُخشى من هذا السمر أنكم تفقدون لذة غناء الحور في الجنة، ذلك الغناء الذي ساقه ابن القيم في نونيته حيث قال:
قال ابن عباس ويرسل ربنا
ريحًا تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتًا تلذ لمسمع
الإنسان كالنغمات بالأوتار
يا لذة الأسماع لا تتعوضي
بلذاذة الأوتار والعيدان
أو ما سمعت سماعهم فيها غناء
الحور بالأصوات والألحان
واهًا لذياك السماع فإنه
ملئت به الأذنان بالإحسان
واهًا لذياك السماع وطيبه
من أقمار على أغصان
واهًا لذياك السماع فكم به
للقلب من طرب وأشجان
واهًا لذياك السماع ولم أقل
ذياك تصغيرًا له بلسان
ما ظن سامعه بصوت أطيب
الأصوات من حور الجنان حسان(1/16)
نحن النواعم والخوالد خيرات
كاملات الحسن والإحسان
لسنا نموت ولا نخاف وما لنا
سخط ولا صغن من الأصغان
وما أدري يا رعاكم الله هل تشعرون بهذا الغناء الذي ساقه ابن القيم وكأنما ينقلنا وإياكم إلي ساحة تلك الجنان فنسمع مثل هذه الأصوات الجميلة هل نتأثر في وجداننا التأثر الذي يمكن معه الرحلة إلي عالم الجنات المزدانة بأصوات هؤلاء الحوريات، أملي كبير بإذن الله أن تنتقلوا بأرواحكم من عالم الشهوة التي تعقبها الآلام إلي عالم الروحانيات التي يكاد يطير بها الإنسان نظير ما يجد من لذة.
أيها السامرون:
هل سمعتم بخبر التجربة المؤلمة خبر أولئك السامرين الذين سبقوكم في هذا الطريق ووصلوا إلي مرحلة القناعة الشخصية بأن هذا الطريق ليس طريق السعادة الذي يبحثون عنه فعادوا الخطو من جديد وها هم اليوم في كتب التائبين العائدين يسجلون التجربة البائسة.
أيها السامرون:
أجدني مضطرًا إلي وداعكم وفي نفسي شجن أكبر وحديث نصيحة أفصح لكنني خشيت أن أملكم فتمجون حديثي ولا تأبهون به ولذلك أمسكت بزمام قلمي وقلت له تريد الإصلاح بلا شك وقد أخرج حبرك الشيء الكثير وليس العبرة بكثرة نقاط الحبر فربما أغنت كلمات معدودة عن كل ما ذكرت.
والله أسأل أن يكتب لهذه الكلمات أثرها المنتظر فذلك كل ما أتمناه وعفوًا.
أيها السامرون:
فحبكم أجبرني على الحديث مع أشخاصكم الكريمة وكلي أمل أن أراكم تهاتفونني تبينون لي عن عودكم المبارك وحينها مضطرًا سأكتب لكم رسالة مماثلة لكن بخطاب آخر: أيها الطائعون.
* * * *
أهل العقوق في ساحة المساءلة(1/17)
بينما الليل يطل بسكونه الجميل، كل شيء هادئ حتى الأصوات، لا تسمع شيئًا، سنة الله في الحياة أن يقف الناس ساعات حتى يعودوا أقوى من البداية، الغريب في تلك الليلة ذلك الصوت الذي يخترق البيوتات، صوت أِشبه ما يكون بأنين مظلوم يطارده الظالم البائس، حاولت أن أنصت على أن أفهم شيئًا من هذا الأنين لكن دون ما فائدة فالصوت تخنقه عبرات البكاء المصاحبة ومن ثم لا يبين، قمت فزعًا كنت أظن أنه مجرد حلم.
لا، الصوت قرب النشيج بدأ يلج مسمعي بوضوح، نعم ها هي الحالة أمامي، عجوز تذرف الدمع من عينيها، رأس كاشف دون قناع، رأس يعلوه الشيب وفي جوانبه احمرار لكنه غير متسق فكأنما عُبث به كثيرًا، قدم عارية وأخر بحذاء، في يدها خدوش وفي وجهها أثر نزاع مستميت، انتظرت حتى يهدأ نفسها، ما إن كادت أن تفصح حتى أقبل ذلك الشاب في منظر أشبه ما يكون بحال تلك العجوز، صمتت وأخيرًا جاء السر المكنون، عجوز هاربة من بنيها آذاها، ووصل بها إلي أبشع صور الإيذاء في المخلوقين، ما الخبر يا بني؟ هذه العجوز عكرت على صفو حياتي أمس الأول وأنا نائم تدخل على دون ما طرق أو استئذان وقبلها مرات ومرات، هذه العجوز تتجسس على وعلى رفاقي الزائرين.
وكم هي المرات التي تفعل ذلك؟. بالأمس أردت أن أشرك زملائي في رحلة برية وطلبتها مالاًَ أتمول به فرفضت أن تمدني به، واليوم عادت لم تغسل ثوبي، ولم ترتب مكتبي، ولم تتعاهد جزمتي، فلما رأيت أن لا فائدة للحديث معها أردت أن أحملها إلي دور الرعاية وأتخلص منها فرفضت ونازعتني وحاولت كثيرًا أن أردها إلي صوابها فم تجبني، فرأيت أن دور الرعاية أحق بأم لا تخدمني وفعلا آثار النفس المتطاير خوفًا من أن يفعل بها بنيها ما توعدها به، عاد الشاب وهو يردد إن سملت هذه الوهلة فلن تسلمي وهلات ووهلات..(1/18)
هذه صورة من بعض الصور وقد تكون الأخرى أشبه حالاً بها. فالذي يقدم أصحابه وخلانه على والديه، ويرى أن من القدح في شخصيته أن يسأله أبوه أو أمه عن سر هذه الصحبه !!
وذلك الذي تستطيع الزوجة أن تؤثر عليه فتأبى أن تعيش بين والديه فيضطر آسفًا إلى طردهما من بيتهما الأصل، وتحل الزوجة أكنافه المباركة!!
وذلك الذي يتبرم من أقاويل والديه وحديثهما بل يمكن أن يقطع عليهما مواصلة الحديث!!
وذلك الذي قد تمرض أمه أو أبوه وقد ينهكهما المرض ويشتد بهما ثم لا يجد من الوقت ما يوصلهما إلى أقرب طبيب، ناهيك عن حاجاتهما الشخصية اليومية فقد يتمني الأبوان لكن تلك الأماني لا تسترعي ذهن ابنهما المبارك !!
يأتي رمضان فيبيتان طاويين وهو في زمر الصحب الكرام، وقد يشرف العيد المبارك فلا يجدان ثوبين جميلين يعبران به عن سر فرحة العيد، وبنيهما يعبث بمقدرات المال التي بين يديه في غير صالح ولا هدى !!
وصور شتي تصل إلي اللعن لهما والبصق في وجهيهما، وعدم الاكتراث بأوامرهما، ويمكن أن ترى آثار وحشيته في جسديهما نتيجة خطأ لم يظنا أنهما سيجدان فيه حتفهما !! وصور أخرى أراها في مجتمعي كما يراها الآخرون في مجتمعاتهم!!
ولما وصل الأمر إلي هذه الصور المقيتة من الوحشية أحببت أن أكتب لهؤلاء ما أرى أنه يبين خطر هذا العقوق وآثاره المستقبلية. فذلك واجب في أعناق المصلحين.
يا أهل العقوق:
الأم التي حملت وعانت آثار هذا الحمل تسعة أشهر وما إن وضعت ورأت حلول سعادتها بك إلا امتدت به الآلام سنوات، فهي في شهورها الأولى بك تعيش ألم وضعك فتتقلب على سريرها، وفي المقابل ما أن تبكي حتى تسارع المسكينة وتتغلب على معاناتها وتهدئ من روعك وترى أن سعادتها تكمن في سكوتك وضحكك.(1/19)
تعيش تربيتك حولين كاملين فمرة لا تسعها الأيام فرحًا بقدومك وأخرى تبيت ليلها باكية لألمك تشكو حالك على كل قريب، إن طعمت وشربت عاشت كل أيامها سعيدة بعافيتك، وإن أبيت وبكيت نسيت شهوة الطعام رغم جوعها ولو قدم لها أجمل ما في الدنيا لما استطاعت أن تمد يديها إليه وأنت شاك مريض، عاشت هذه الحياة المتقلبة لأجلك ليس في عامين فقط، لكن أعوام وأعوام بل وأنت في عالم الرجال لا تحتاج لأحد تجدها تقدمك على نفسها وقد تبيت طاوية من أجلك، وقد ترحل عنها ولو تأخرت تجدها على الأبواب ساهرة منتظرة أبت عيناها أن تغمض وأنت غائب عن بيتها الميمون.
أفيكون جزاء كل ما ذكرت من التربية هذا العقوق الذي حدثتنا به بنفسها وساق لنا الجيران أضعاف حديثها؟! أفيكون هذا جزاء الأمومة؟! عجبًا لهذه الأنفس التي لا تثمن المعروف.
يا أهل العقوق:
لقد ضرب سلفكم الصالح أروع الأمثلة في بر الوالدين أسوق إليكم مقتطفات من تلك الحياة علها بإذن الله تلفت نظركم إلي مقدار الأنفس التي أوفت بالمعروف وكافأت بعضًا من تلك التربية.
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه احتاجت أمه ماء في بعض الليالي فجاءها بالماء فوجدها عادت لنومها، فثبت قائمًا حتى بلج الفجر، وأعطاها.
وهذا ظبيان بن علي الثوري كان بارًا بأمة إذا سافر بها إلي مكة واشتد القيض عليها فحفر لها في الأرض وصب لها من تلك الحفرة ماء وقال لها تبردي يا أماه.
وهذه حفصة تترحم على وليدها الذي مات هذيلاً وتقول: لقد كان يعمد إلي القصب فيقشره ويجففه في الصيف لئلا يكون له دخان فإذا جاء الشتاء قعد خلفي وأنا أصلي فيوقد وقودًا ينالني حره ولا يؤذيني دخانه، يبيت يفعل ذلك حتى يخرج الصباح المبارك.
وهذا محمد بن المنكدر رحمه الله يقول: بات عمر – يعني أخاه – يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته.
وهذا حجر بني الأدبر يلمس فراش أمه فيتهم غلظ يده فيتقلب عليه على ظهره فإذا أمن أن يكون عليه شيء أضجعها.(1/20)
ولو سقت لكم حياة أولئك السلف لرأيتم عجبًا من العجب.
يا أهل العقوق:
ما هي العاقبة التي تنتظركم وأنتم على عقوقكم؟ إن العاقبة أليمة فهذا ربك يقول: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 22 – 23].
وتصوروا يا أهل العقوق: أن تلج بيتكم اللعنة فكيف تجدون طعم السعادة تستمر هذه اللعنة حتى تقدموا على ربك فيكون نصيبكم الحرمان من الجنة مصداق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يدخل الجنة قاطع» وقبل ذلك في الدنيا سيتكرر عليكم مشهد العقوق من جديد مع أبنائكم الأفاضل، فتمعنوا في أعمالكم مع والديكم واحفظوها جيدًا فهي نفسها التي ستتكرر عليكم دون نقص.
يا أهل العقوق:
هل من وقفة صادقة مع أنفسكم لتذكروها العاقبة الأليمة التي تنتظركم.
عسى أن أرى هذه الصورة ويحنها من حقكم على أن أقول لكم في خطابي: يا أهل البر والخير.
* * * *
جاري العزيز
من الأعماق أهديك حديث الحب، ومن الأعماق أهديك سلام الود، ووالله يا جاري أني أحمل لك كل معاني الجوار الجميلة، كيف لا أفعل ذلك يا جاري وديني الحنيف عظم الجوار ورتب عليه أجورًا عظيمة، وكل ذلك دليل واضح على علو شأنك واهتمام دينك بك.
جاري العزيز:(1/21)
أقرأ القرآن فأرى فيه حديثًا عاطرًا عن الجيران في قول ربك: { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } [النساء: 34]. وآيات أُخر تتحدث عن أهميتك في حياة الجيران، أنتقل بعد هذا الحديث إلي عاطر السنة فأجد شيئًا عجبًا، جبريل أمين الوحي يتنزل هذه الوهلة ليذكر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بمكانتك يا جاري العزيز فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وهل ورد في السنة لغيرك أعظم من هذا الحديث الشدي لشخصك الكريم، لم أسمع حتى اليوم بمثل هذا.
جاري العزيز:
بعد هذا الحديث العاطر عن منزلتك في دين الإسلام أنتقل معك إلي عتاب ودي جميل كل ما آمله أن أجد صدرًا رحبًا يتقبل هذه الكلمات ويعي أهداف قائلها.
جاري العزيز:
لعل من الأصوات الجميلة التي تخترق نفوذ قريتنا الحبيبة صوت ذلك المؤذن الجميل الذي ينفذ من هذه القرية إلي عالم بعيد، علام الخلوات، صوت يحمل في رياحه عبيق الذكريات فلكأنما يحلق ببلال في ربوع المدينة النبوية، ينفذ القرية فلكأنما يحدثنا عن حال جيلنا الأول وهم يكتبون من هذا الأذان ذكريات ذلك الجيل الفريد. فما أجمله من صوت وما أعبق تلك الذكريات!!
أتذكر ذلك كله فأحدث نفسي بأن تبقى على المنهج فلا تأبه بالعوارض مهما كانت شائكة، أصلي وأسلم فينفذ بي عالم التفكير إلي عالم فسيح من عالم الروحانيات، عالم يتقدمه قدوة الإنسانية وهو يرمي بما في يديه فتحادثه عائشة عن السبب فيقول لها: «الصلاة الصلاة يا عائشة».
أتذكر السلسلة المباركة من عظماء تلك الأمة فيرنو طرفي إلي سيد التابعين سعيد بن المسيب وهو يتغني بأمجاده ويقول: «ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة».
وهذا سليمان بن مهران يقول: «لم تفتني التكبيرة الأولي من سبعين سنة» وغيرهم كثير كثير أتذكرهم فيسابق الدمع مثل هذه الذكريات.
جاري العزيز:(1/22)
أتذكر هذه المعاني من حياة السلف الكرام فأتلفت علني أن أظفر برؤيتك، لكن دون ما فائدة، أمد عنقي بين المصلين علك خلف أستارهم لكن لا ظل ولا رجل، ولأنه غيابك يؤثر في نفسي، أجدني دائمًا أتساءل أين جاري عن هذه الجموع؟ أين من أوصاني الإسلام برعايته؟ أين من التزم فيه أمين الوحي أمين هذه الرسالة فكاد أن يكون وريثًا؟.
ساءلت نفسي مرارًا فخشيت أن تزيد رقعة الجراح في خاطري، فخطوت هذه الوهلة متجاوزًا كل الحدود لأحاورك أنت دون شريك ثالث فأقول: إن تأخرك عن أداء الجماعة في بيوت الله يجعلك نشازًا في الكون كله، إن تخلفك عن مشاركة هذه الجموع يوحي أنك هارب من إطار العبودية، معرضًا عن عالم الرحمات. وصدقني حديث أخ مشفق إن تخلفك هذا يسقطك في عين ربك ومولاك، فتكون طريدًا من رحمة الله كيف لا ورسولك - صلى الله عليه وسلم - استعظم أمرك وكاد أن يشعل فتيل النيران في بيتك مصداق حديثه - صلى الله عليه وسلم - : «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام فآمر رجلاً من المسلمين فيصلي بالناس، فأنطلق برجال معهم حزم من حطب إلي قوم لا يشهدون الصلاة مع الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار».
فتصوريا رعاك الله أنك أحد هؤلاء، وأن فتيل النيران أصاب بيتك فأحرقك وشوه حال أسرتك، بل ليت الأمر مجرد نار تتأجج بل القضية خروج من أعز ملة، ملة الإسلام وارتكاس في أسوأ ملة، ملة الكفر أجارني الله وإياك. حدث بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»، وقال: «لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة» وأحاديث كثر تحمل في طياتها أفزع وعيد تحدث به نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - .
جاري العزيز(1/23)
تخلفك عن الصلاة يجلب من الصورة الأليمة ما مر بك في معرض الوعيد، فكيف إذا عشت بهذا التخلف سمة المنافقين، في كل مناسبة تمتد إليك أصابع الاتهام وتتشدق بك الألسن وتعتبرك عنصرًا غريبًا، تعاكس الفطرة الربانية وتضيع فيك ودائع المؤتمنين فمن ضيع وصية ربه ونبيه من المؤكد جدًا أنه سيضيع حق الجوار وسيسيء للجماعة، وسيعبث بمقدرات الأمة في غير حقها المصون.
جاري العزيز
هب أنك مت في ساحة قريتك المباركة فأقام عليك مجتمعك حجة التخلف ورفضت القرية بمن فيها أن تشارك في تغسيلك أو حتى تكفينك، وأصرت على عدم المشاركة في دفنك، وكانت قوية في كلمة الحق فرفضت أن تكون شريك المسلمين في مقابرهم، وكان الحل أن تقاد إلي أطراف الصحراء الموحشة وهناك تُنسى في عالم الأموات، هل ترضى أن تكون ضحية هذا التخلف المشين؟ لا وربي فالعاقل من أمثالك لا تغره الأمنيات.
جاري العزيز:
هب أنك لجاهك في قريتك، أو للعصبية القبلية في مجتمعك، رفضوا كل هذه الصور ورضوا أن يقوموا بكل لازم في ختام موتك، وشاركت المسلمين في مقابرهم، هل تظن أن هذا مسوغ للنجاة في قبرك، أو حتى من المساءلة من ربك؟!
جاري العزيز:
لست مسلطًا عليك ومجيرًا لك لكنها محض الأخوة وواجب النصيحة فإن كانت الإجابة عاجلة فذلك المنى، وإن أصابك الوهن ورأيت حديثي عثرات في طريق سيرك فحسبي أني قد قدمت ما في وسعي من خير وإصلاح والله قد برأ نبيه بعد الجهد فقال: { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } [الشورى: 48].
وحسبنا القدوة، والله يحفظك ويتولاك.
* * * *
هتاف للصالحين(1/24)
المتأمل في الأجيال والمتمعن في الحياة يدرك تمامًا أن ثلل المستقيمين الطائعين شامة جمال في جبين الأمة كلها، كيف لا والله أثني عليهم ومدحهم وبجلهم بقوله تعالي: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30].
وهذه النوعية من التكريم لا تصلح إلا للأخيار من أمثال هؤلاء فقط بل إن الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه يعطي المكانة الواضحة التي يتبوأها الصالحون: «من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته».
قولوا لي بالله عليكم:(1/25)
من يصل إلي هذه النوعية من التكريم غير الدعاة والمصلحين، وربي لو نقب عنها الباحثون ما وصلوا إلي أبعاضها، فكيف بها كلها مجتمعة في آن واحد، لكنه من البديهي جدًا أن تكون هذه المنزلة حكرًا على الفئات العاملة فقط، وعلى مقدار الجدية من حياتنا ننال هذه المعاني السالفة مصداق قول الله: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس: 62 – 63]، بل إن الله عز وجل بذلك نفسه مدافع عن هذه الفئة في قوله تعالي: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا } [الحج: 38]، يبين عن ما قلت حديث ابن القيم رحمه الله حول هذه الآية عندما قال: «فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله، فمن كان أكمل إيمانًا وأكثر ذكرًا كان دفع الله ودفاعه أعظم ومن نقص نقص ذكرًا بذكر ونسيانًا بنسيان».
هذه الفئة من الناس هي الناجية الناجحة هي بالذات التي استطاعت أن تقهر دواعي الشهوة وتصمد لمجابهة الشبهة، وتظل مع مرور الأيام عودًا صلبًا في مواجهة العدو اللدود، وغيرهم من بني البشر رسبوا رسوب في حياتهم ولم يقووا على نزال عدوهم، فكانت عقبة الشبهة والشهوة حائلاً دون بلوغ المجد في حياتهم ولا ريب في ذلك فهؤلاء هزيمتهم نفسية والهزائم النفسية من أشد الهزائم علاجًا في الحياة.
ولأنهم بهذه الدونية رأيت أن أخص بالحديث الفئة التي ارتوت من منهج السماء عزة وشموخًا ورفعة فلهم فقط أوقاتنا الثمينة فهم في السويداء من القلب ولمثلهم أقول:
أيها الإخوة:(1/26)
من أكرم منكم في الحياة؟ من الذي يستطيع أن يصل إلى علوكم وشموخكم؟ وايم الله إنكم أكرم فئة، وأعز طائفة، وأهل لحلي الألقاب التي ألبسكم بها مجتمعكم الكريم، لكن لا تنسوا ما أسلفته من حديث الإيمان والعمل الصالح قبل كل شيء، يعقب ذلك الدعوة إلي هذا الدين وحمل تبعاته كفيلتان بإذن الله بتحقيق ما ذكرت من رفعة لأشخاصكم الكريمة وإياكم أيها الفضلاء من حدوث الخلل فيهما فإنه أشبه ما يكون بالذي وصل إلي أعلى منازل الحياة ثم نسي أن يستمسك فخر حتى سقط بين أقدام الناظرين.
أيها الإخوة:
علكم تسألون سؤال مستبين: لماذا اليوم بالذات تخصنا بهذا الحديث؟ وأمس الأول من حياتنا البادئة لم نسمع من هتافك شيئًا فأقول:
أيها الإخوة:
بالأمس الأول رأيت فيكم صورة الشباب المتلألئ، صورة الأمل المتطلع، رأيت أنفسًا تمل هم هذا الدين وتسعي لزيادة رقعته المباركة، رأيت قلوبًا تحمل بين دفنيها آمال الأمة وتطلعاتها، رأيت قلوبًا تذرف من عينيها الدموع على آلام الأمة ونكباتها، رأيت بأم عيني هذه الجدية التي وصفت، وحدثني بها جموع ممن لمس أثرها وازدان بهديها المبارك، واليوم بالذات أفل ذلك الطيف المتكرر، وخبت تلك الكلمات المدوية، وفترت تلك الجهود التي حدثني بها المزدانون أمس الأول.
عفوًا أيها الإخوة: جاء حديثي متزامنًا مع الدعة والراحة حتى غابت الغيرة على الدين فعاد كل إنسان يلهو بنفسه ويعمل من أجلهما، غابت تلك الجهود الجادة فاستبدلت ذيولها تؤجج الرذيلة وتزيد من رقعتها، تفك أسر الشبهة بلا قيد، وتطلق جماح الشهوة بلا رابط، أفلا يكون أيها الإخوة هذا الفتور داعيًا لي إلى الحديث معكم؟!
أيها الإخوة:
أخشى أن تكون عاقبة الفتور التي علت حالنا عن القعود عن الدعوة مؤذنة لنا بوعيد الله: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد: 38].(1/27)
أخشى أن يتكرر علينا مشهد الصالحين في قصة السبت فنكون عبرة وعظة لغيرنا، أخشى أن لا يقف صلاحنا المزعوم حاجزًا قويًا مانعًا لنا من عذاب الله مصداق التساؤل الذي ذكرته أم المؤمنين زينب: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» وأي زيادة للخبث تنتظر بعد اليوم، أدرك جيدًا أيها الإخوة أن الشيطان قد أسهم في هذا القعود بشكل كبير فصور لنا أن الدعاة كثير وأن الواجب الكفائي ساقط لا محالة، وقبل ذلك صور لنا حال الناس أنها في مواجهة الفتن ولن تستمع لداعي الخير في هذا الوقت بالذات.
وكم كنت أتمني أن لا أسمع هذا الحديث منكم أيها الإخوة أما وقد سمعت هذه التبريرات فسأنقل لكم حديثًا عاطرًا ساقه سيد قطب في ظلاله وهو يتحدث عن هذه المشكلة بالذات فقال: «وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها، وتكذيب الصادق الواثق مرير علي النفس حقًا.
لكنه بعض تكاليف الرسالة، فلابد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا.
إنه لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ومن عتو وجحود.
إن طريق الدعوات ليس هينًا لينًا، واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة، فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات والنظم والأوضاع يجثم على القلوب، ولا بد من إزالة هذا الركام....»
إلي أن قال: «إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس .. إنه عمل مريح، قد يفثأ الغضب، ويُهدئ الأعصاب.. ولكن أين هم الدعوة؟
وما الذي عاد إليها من هجران المكذبين المعارضين؟!» أهـ.
أيها الإخوة:(1/28)
إن الملامة لا تُحرك كاسلاً ولا تُشفي مريضًا وأنه لا بد من التحول إلي التفتيش عن الأسباب الخفية ومعرفة الثغرة التي ولج منها الألم فأقعد أو تسللت منها اللذة فأذهلت .. قال ذلك محمد أحمد الراشد في سلسلة رسائل العين.
إن من نعم الله علينا أن ألبسنا حُلل الإيمان وزيننا بها وليس بعيدًا بهذا القعود المشين أن يسلبها منا وحينها لن تشفع لنا ظروفنا وأشغالنا، ولن نجد من الأعذار ما يكون سائغًا لتبرير هذا القعود، ولأن الأمر جد خطير رأيت أن من المناسب أن يصلك مع قدوم شهر رمضان المبارك، علنا أن نجعله بداية لطريقنا الطويل طريق الدعوة والإصلاح فبدر الكبرى في رمضان، وفتح مكة الميمون في رمضان، وشقحب في رمضان، ومعظم بدايات المسلمين الأوائل في رمضان، وهنيئًا لي ولك التشبه بهم.
فهذه رسالتي بين يديك ولا أعدم منك إن شاء الله عودًا حميدًا إلي عالم الجدية من حياتك فأمتك تنتظر ابنها البار من أمثالك ولن تعدم بإذن الله دعوة في ظهر الغيب تلج أبواب السماء فتصادف وقت إجابة فتعود بالصلاح والخير عليك وعلى أسرتك المباركة.
كن رابط الجأش وارفع راية الأمل
وسر إلى الله في جد بلا هزل
وإن شعرت بنقص فيك تعرفه
فغذ روحك بالقرآن واكتمل
وحارب النفس وامنعها غوايتها
فالنفس تهوى الذي يدعو إلي الزلل
* * * *
هتاف إلي الصالحات(1/29)
بالأمس حديثًا من أجمل ما سمعت، فتاة تُعيد الأمل لأمتها، فتاة يلهج لسانها بالذكر الجميل، وتزدان سيرتها بعاطر المدح والتبجيل، أحمل لي قريباتي في إحدى الأمسيات أحاديث شجيه عن سيرتها المباركة، فهذه تقول حلقة التحفيظ في كل يوم تكتب لقاءنا كل صباح، وأخرى تقول في درسها عبر وعظات عن سير الصالحات، وثالثة تتحدث عن سر التربية الجادة في حياة معلمتها الفاضلة، وأخريات كُثر بنفس الشجن الجميل لم يجدن ما يبرهن به إلا ركام الرسائل والأشرطة الدعوية قدمنها بين يدي شواهد حية على حرص معلمتهن الفاضلة. ولقد رأيت بأم عيني قريباتي وهن يتمثلن سلوكها وهديها المبارك.
وهذه الصورة الجميلة متكررة في كل مجتمع فلا نعدم المصلحات في كل زمان وفي كل مكان فرأيت أن الفرصة سانحة للحديث مع الأخريات الصالحات على أمل أن تتحقق صورة أختنا السالفة.
أختي الفاضلة:
سرني والله صلاحك وتقواك، وكم والله اليوم أعيش لذة الفرحة وأنا أشاهد إقبالك إلي الله تحثين الخطى نحو القمم التي عاشتها المصلحات قبلك، ومن حقي أن أكون بهذه الفرحة والسرور لأن صلاحك بمثابة الشرر المتساقط في أعين أعدائك، وهذا الخطو المبارك طريق إلي السمو في طريق المعالي.
أختي الفاضلة:
تحدث شوقي قائلاً:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق(1/30)
وشوقي واراه التراب من زمن بعيد لكن وصيته لأهميتها بقيت عالقة في ذهني ولم توهنها الأيام، تخبو أحيانًا فتذكرني بها الأخت التي يدار حولها حديث قريباتي في كل وقت ولا نعدم منك أيتها الأخت التي يدار حولها حديث قريباتي في كل وقت ولا نعدم منك أيتها الأخت الصالحة اليوم أن تكوني مثل من عناها حديث قريباتي قبل زمن، فأنت يا رعاك الله مدرسة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان وكم هي الأمنية أن يتربى في ظلالك آمال الأمة وطموحاتها جيل المستقبل القريب، كم أتمنى والله أن أراك في صورة الداعيات المصلحات، ممن يحملن هم هذا الدين وينافحن عن سير الصالحين.
أختي الفاضلة:
لقد ضرب أسلافك من الأمهات الصادقات أروع الأمثلة في حمل هذا الدين، وبقيت آثارهن كالبدر ليل الست بعد ثمان، ولو سقت لك سير الصالحات لرأيت شيئًا أعجب من العجب.
فهذه خديجة سيدة نساء العالمين في زمانها ونظير ما قدمت للداعية الأول من عون صادق بشرها جبريل ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وهذه عائشة يعجز الزمان أن ينجب علمها المبارك فمسندها فقط ألفان ومائتان وعشرة أحاديث.
وهذه نسيبة بنت كعب المازنية المجاهدة في سبيل الله قطعت يدها يوم اليمامة وقدمت لدين الله ابنيها حبيب بن زيد بن عاصم، وعبد الله بن زيد المازني.
وهذه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين تدعم سير الهجرة المباركة وتكون عضوًا فعالاً في نجاحها الميمون.
وكم هي كتب السير حافلة بمآثر هذه النوعية من النساء.
أختي الفاضلة: يحكي لنا التاريخ اليوم صورًا من جهود النصارى ما يلثم البيان.
فهذه امرأة نصرانية ترحل إلي أدغال إفريقيا وتبقى السنوات الطوال من أجل دينها المحرف، ترحل فتتعرض لحرارة الشمس، ويصيبها لفح الرمضاء المحرقة فتتبدل صور الزينة إلي صور شاحبة من الشقاء والمعاناة لا لشيء إلا للخطو بالنصرانية إلي الأمام.(1/31)
أنقل لك هذه الأخبار ولست أريد منك الرحلة إلي هناك حتمًا لكنني أتمني والله أن تدفعي حياة زوجك الدعوية إلي الأمام فتباركي سيره وتوسعي خطوه لا أن تقفي شاكية باكية في منتصف الطريق، كم أتمني والله وأنت تخرجين إلي مدرستك كل صباح وأنت تحملين هم هذا الدين وتجتهدين في التربية والإصلاح، أعيش أمل أن أرى أثرك في ساحات مدرستك، وفي بيوت جيرانك ونساء حيك.
أختي الفاضلة:
حالة الفتور والدعة ليس غريبًا أن تطوف بنا فتلوثنا بقعودها المشين، لكن العبرة في من يفيق ومن ثم يأبي أن يعود إلي الحال المشين، لعل في قدوم رمضان اليوم شرارة أمل للعودة الصادقة إل يحمل هذا الدين والقيام بواجب الدعوة فذلك أمل ننتظره منك.
أيتها الأخت المباركة:
وايم الله يا أخيه، لقيامك بهذا الواجب يجعلني أسعد مخلوق أعيش الفرحة بلا قيود، تدرين لماذا؟ لأنه الأعداء أفجع خبر في حياتهم أن يسمعوا بخبر دعوتك ويلج آذانهم صوت حديثك الواعظ فهم يدركون تمامًا أن في دعوتك تدميرًا لمخططاتهم وهتكًا لأستارهم وفضحًا لنواياهم، وليت شعري من يقف بجانبك فيؤجج صوتك الواعظ وحينها فقط يحق لي أن أردد قول ربي: { قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } [آل عمران: 119]. وفقني الله وإياك إلي حمل هذا الدين والسير في خطى الدعوة المباركة والله أسأل أن يحقق على يديك آمال أمتك الكريمة.
* * * *
المشوهون للأعراض
ما أجمل النعمة على الإنسان عندما يرفل فيها ويدرك تمامًا أن المحرومين منها كثير، وما أسوأ مغبتها عندما يجعلها الشيطان بكيده مصدر بلاء ونقمة، تشتكي الأسر المؤمنة من رنين الهاتف ليس لهدف ولا غاية وإنما للعبث بأعراض البريئات وخدش الحياء في وجوه تلك الأسرة الآمنة.
هذا الرنين يعطيك تصورًا واضحًا عن عطش النفوس الشريرة لخراب بيوت المسلمين.(1/32)
هذا الرنين المتردد يجعلك تتساءل في نفسك من هم هؤلاء الباحثون عن العورة؟ من هم أولئك المتربصون في الخلوات؟ من هم هؤلاء وأولئك التائهون في حضيض الشهوة حتى ولو على حساب سمعتك وعفتك؟ من هم الذين يسعون لإشباع نزواتهم على كل دواعي الأخوة التي تربطك بهم؟
تساؤلات كثيرة وكثيرة تضطرك رغم ظروفك للحديث مع هذه الفئات ولو على سبيل الخروج من ألم المساءلة في عرصات القيامة، تعجب لهذه الصور الخائنة عندما تكون أنت وإياهم في رباط يصعب التكهن معه أن مثل هؤلاء سهل عندهم حله والعبث به، لأنك ترى في المجتمعات صورًا ليست على الاستقامة التي تتمناها لكنها في المقابل صور عفيفة إلي أبعد ما تتصور عنهم، يرون أن مثل هذه الطرق خيانة وعبث بمقدرات الأخوة، يرونها تتنافي أصلاً مع مروءتهم كرجال ويأبون أن يتنزلوا إلي مثل هذا الصور مهما كانت الدواعي، لأنهم يدركون أنها ثلب في شخصياتهم كرجال.
من حقك أن تعجب للفرق الشاسع بينهم وبين من أسلفت بالذكر، الصور السابقة التي تحفظ رقم هاتفك وهاتف بيتك جيدًا لتهاتفك في الوقت الذي تتوقع هي أنك لست في الخدمة مؤقتًا فئات حقيرة إلي أبعد ما تتصور.
هذه الفئات أعرفهم أنا ويعرفهم غيري من الناس لأنهم سقطوا في تجربة الصداقة التي ارتبطت بها معهم أنت، ومن جانب آخر معروفون لكل ذي لب فسيما الغدر والخيانة من أظهر الصفات على مثل هذه الوجوه. ولذلك أحببت أن أهاتفهم هتاف ناصح قبل أن يسقطوا في أسوأ تهمة وحينها قد لا ينفع حديث ولا تفيد موعظة لأن هذا السقوط لا ينتظر بعده قيام على الأقل في أوساط أهل العفة والغيرة.
أيها المشوهون:(1/33)
عفوًا أوقفكم وأسائلكم: أي هدف وغاية تريدون تحقيقها من هذه المعاكسات؟ أعيذكم أن توصلوا للشيطان حبل الفرقة الذي ينتظره من زمن وينتظر من جنده شدة في رقاب الأسر البريئة فتكونون أشبه شيء بالنفوس الشيطانية في مسلاخ الأجساد البشرية، من لا يحمل هدفًا نبيلاً تجاه هذه الآلات وهو يستخدمها، فليعذرني في هذا الوصف فلم أجد أكثر شبهًا به مما ذكرت.
أيها المشوهون:
ليفترض أنكم عثرتم على الفريسة المنتظرة وأشبعتم نزوة الشهوة التي تعتريكم وكانت هذه الأدوات التي تعبثون بها هي حلقة الوصل دون تعب وعناء، ألا ترون أنكم أوقعتم أنفسكم في حمي الرذيلة من غير تفكير جاد في مثل هذه الخطوات؟ أعيذكم أن تكون نزوة الشهوة أغلقت تفكيركم وأنستكم العواقب الوخيمة التي قد تحدث لكم وإلا فهذه العواقب أشهر من أن تذكر فمن سبقكم بيوم يعيش آلامها وقد تكون أنستكم إياها.
ولذلك تحملوني في أسطري المقبلة فسأنقل لكم حديثًا ساقه ابن القيم في كتابه الموسوم ب «روضة المحبين» فقال: «ويكفي في قبحه (أي قبح الزنى المترتب على معاكساتكم الدنيئة) أن الله شرع فيه أفحش القتلات وأصعبها وأفضحها، ومن قبحه أن الله سبحانه فطر عليه بعض الحيوان البهيم الذي لا عقل له كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: «رأيت في الجاهلية قردًا زنى بقردة فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا وكنت فيمن رجمهما» والزنى يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وقلة الغيرة، فلا تجد زانيًا معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله، ومنها سواد الوجه، وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين».
إلى أن قال: «فإذا ابتلي به عبد فليودع نعم الله؛ فإنها ضيف سريع الانتقال وشيك الزوال» أهـ.
أيها المشوهون:(1/34)
روى الإمام أحمد في مسنده حديث ذلك الشاب الذي جاء يستأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إشباع نزواته من أعراض الآخرين، فكان الجواب لا يصلح للشاب وحده بل يصلح أن يكون علاجًا ناجعًا لكل من اشتطت به الشهوة فأحب أن يفرغها في حفنة دناءة في أحضان العفيفات. قال له: «أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ أترضاه لبنتك؟ أترضاه لعمتك؟» يعدد له قريباته فقال ذلك الشاب في كل: لا، لا، لا فداك أبي وأمي يا رسول الله.
وأخشى أيها المشوهون أن تشتط بكم هذه الشهوة فتنسوا ما ذكر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقع نفس الحفنة المشوهة في أحضان بناتكم وزوجاتكم وأخواتكم وربما أمهاتكم.
فلا تغتروا بتأخر العقوبة فقد لا تتأخر كثيرًا، وقد تتأخر فيتم هذا العبث بعد موتكم فتلحقكم السوءة في قبوركم.
أيها المشوهون:
هل تظنون بأن الله غافل عما تفعلون أم تدركون يقينًا أنه يراكم ويراقبكم؟ فإن كانت الأولي فقد أنكرتم صفة من صفات ربكم وقد تصلون بذلك إلي الكفر بالله، وإن كانت الثانية فأنتم أشبه بالمستخفين بربكم وفي كلا الحالين لقد سقطتم على رؤوسكم.
أيها المشوهون:
ذكر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - حديثًا في صورة الواعظ لكم وما أطبقة على حالكم فقال: «يأتي أناس من أمتي يوم القيامة ومعهم حسنات كأمثال جبال تهامة بيض يكبهم الله على وجهوهم في النار» فيسأل ذلك الصحابي: صفهم لنا يا رسول الله، فيقول: «يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون ولهم ورد من الليل (أي يقومون يتهجدون) لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» فما أدري هل وافق الحديث أسراركم الخفية أم ما زلتم تتعامون.
أيها المشوهون:
في قلبي ألم يتجدد عند كل رنين للهاتف فأحببت أن أضرب على هذه الأصوات بأشد ما أملك من قوة.
قسا ليزدجروا، ومن يك حازمًا
فليقسُ أحيانًا على من يرحم(1/35)
وكلي أمل أن تكون هذه الضربة قد أماتت نزوة الشهوات المتأججة في مهدها فذلك الأمل وهذه البغية، والعائدون إن وُجدوا بعد ذلك فلا يسعنا إلا أن يخرج المجتمع بكل فئاته إلي بيوتهم ولنقتادهم برقابهم إلي الساحة الفسيحة من قراهم ولنربطهم ونوثق أَسْرهم حتى يشهدهم الناس كل الناس، وبعد ذلك لمجتمعهم الحق أن يقفوا مصطفين جميعًا ويرموهم بالحجارة ومن حقنا بعد ذلك أن ننام قريري العين فقد وضعنا للأَرَضَة سمًا مبيدًا وسيبقى بعد ذلك بناؤنا أقوى متانة وأزين حلة.
المتشدقون بالأعراض
لعل المسلم المدرك لأسرار هذه الحياة يدرك بوضوح أن هذه النعم التي ينعم بها الإنسان تحتاج معها النفس إلى وقفات صادقة للقيام بشكرها، واستخدامها في ما خُلقت له، وعندما ترى أولئك الذين وفقوا إلى حفظ هذه الجوارح من الزلل وسارعوا بها وفق أهدافها التي من أجلها وجدت، تصيبك الغبطة وأنت تراهم قد حققوا الغاية والهدف.
وكم تتمنى أن تصل إلي حالهم فترقى بهذه النفس إلى أن تجد حلاوة الإيمان وتذوق لذته لأن التائهين عن الطريق القويم لهذه النعم ما زالوا يعيشون مرارة المعصية وألم ضياع الهدف الرباني في حياتهم، ولعل من هذه النعم التي هي بحاجة إلي وقفات صادقة نعمة اللسان التي بها وصل الإنسان إلى بيان ما في نفسه من آمال وآلام وهي نعمة تتضح أكثر عندما تشاهد المحرومين منها وهم يجهدون أن يوصلوا لك حديث نفوسهم، فتلوذ أمامهم الكلمات ويعيا هذا اللسان عن الإفصاح حكمة ربانية تستدعي الوقفات، كيف لا والله يمن بها على عباده بعد خلقهم مباشرة وما ذلك إلا لأهميتها: { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [الرحمن: 1 – 4]. ولأنها نعمة عظيمة رتب الله على مجرد حديثها أيًا كان مساءلة ورقابة قوية فقال تعالي: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].(1/36)
وتصور يا رعاك الله كل كلمة تتفوه بها تبقى حبيسة الكتب الراصدة لشجونها، ونظرة إلى واقع الناس اليوم تجد عجبًا من العجب ... من ينسى هذه النعمة ويعبث بها في كل ما يريد دون تذكر للخطر أو تأمل في العاقبة.
ولما رأيت مثل هذه الأحوال أحببت أن أسهم في التعريف بهذه العمة وأبين عن شيء من الخطر الذي ينتظر المفرطين ولعلي بمثل هذه الكلمات أستطيع أن أؤثر على الأقل في الباحثين عن النجاة وغيرهم، إن لم تقو كلماتي على التأثير عليهم فسيؤثر عليهم بلا شك شرر النار المتطاير في عرصات القيامة هناك؛ لأن من الناس من لا يلين إلا للقوة المؤثرة فعلاً، لكن في وقت قد لا ينفع فيه العودة إلي الصواب، من منطلق ما يفرضه ديننا من التناصح أهمس إليك بحديث الود لعلني أن أحقق منك مبتغاي في ردك عن الهلكة.
أيها المتشدقون:
وأنتم تمارسون هذه العادة المشينة ألا ترون أن فيها اعتراضًا على الرب جل وعلا؟ إن المتشدق لا يخرج عن ذكر عيب خَلْقي أو عيب خُلقي وكلا الأمرين الحديث فيها فيه ما فيه من الاعتراض على الخالق عز وجل، وحري بنا أن نعرف للرب حقه وأن نقف عند الحدود الشرعية التي يجوز فيها الحديث فقط ونعتبر أن ما تجاوز ذلك أمر لم نخلق له وإنما غفلة النفس جالت في حماه.
أيها المتشدقون:(1/37)
أوقفكم على قول ربكم المحاسب: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]. وتمعنوا فيه جيدًا لتدركوا أن القضية أخطر مما تتصورون، وأنها عملية حسابية سيترتب عليها وقفة حساب ومرارة عقاب، ولذلك ينقل ابن كثير رحمه الله عقب هذه الآية قولاًً للحسن البصري رحمه الله وهو يوجه هؤلاء الناطقين فيقول: «يا ابن آدم، بُسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة». أهـ.
إنه من السهولة بمكان أن نقدح في الآخرين ونذمهم لكنه الخروج من ذلك هو الأمر الذي يحتاج إلي وقفات متأنية مصداق ما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالي عليه بها سخطه إلي يوم يلقاه». فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلابل بن الحارث. فالقضية ليست حديثًا يزول بزوال المجلس الذي نتفكه فيه بل قد يكون بها الخسارة التي لا تقدرها أثمان الدنيا بأسرها.
أيها المتشدقون بالأعراض:
أسوق إليكم حديثًا آخر وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال لأصحابه: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: الفلس من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «المفلس من يأتي بحسنات عظيمة ويأتي وقد لطم هذا وضرب هذا .. الحديث». فما أدري هل بضاعتكم هذه التي تعرضونها في كل مجلس تزيد فلسكم أو تربي أنفسكم؟ وعلى ضوء حديث نبيكم الكريم ستعرفون الجواب.
أيها المتشدقون:(1/38)
هل سمعتم بهذه القصة: رجل وجد صاحبه صريعًا ميتًا، فجثا عليه يأكل لحمه ويلوك عظمه حتى شبع وقام من فوقه فلم يجد إلا الجشاء خير شاد على شبعه، وأسألكم بالله العظيم كيف ترون هذه شاهد القصة في أنظاركم؟ إنكم للأسف أنتم أصحاب القصة الذين تتسلون على أعراض إخوانكم كل صباح ومساء، وهذه الصورة التي عرضت ذكرها الله في كتابه الكريم فقال تعالي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 12]. فهلا اعتبرتم من هذه القصة أثناء حديثكم المشين.
أيها المتشدقون:
لو كانت البضاعة التي تتسوقون بها دائرة بين ربح وخسارة لكنتم تجارًا مهرة في التخطيط قبل الإقدام وقد تتوقفون كثيرًا تنتظرون الفرص المواتية التي تأمنون البخس فيها، فكيف إذا كانت هذه البضاعة خسارة متأكدة لا تحتاج جدلاً مصداق حديث نبيكم الكريم - صلى الله عليه وسلم - : «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: لا، قال: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره» قالوا: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».
أيها المتشدقون:
لو ذهبت أسرد عليكم أضرار هذه البضاعة لنفذ حبر قلمي دون أن أنجح في تصويرها النجاح المأمول، أملي أن أكون قد أوقفتكم على المأساة بأنفسكم وصورت لكم الخطر الداهم الذي يحدق بكم وحينها لو سقطتم وعلى رؤوسكم بالذات أكون معذورًا وقد أوصلت الرسالة حسب ما أستطيع، ولست مكلفًا غير ذلك، وفقني الله وإياكم إلي معرفة الربح من الخسارة ورزقنا الربح المضمون إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * * *
قصة تائب(1/39)
سافر كل مكان، تجاوز الحدود الجغرافية لبلاد المسلمين بأجمعها،رأى الآخرين وخالطهم، عاشرهم وتعلم لغتهم، كنت دائمًا أرقبه وهو يهيم في أودية الشتات، عاش عاقًا لوالديه هاربًا من حنانهما، عاثت الأحزان في نفسه حتى فقد كل أصدقائه وخلانه، فقد مستقبله، وأخيرًا عاد يسامر البطالين، يسهر معهم ليله المظلم دون هدف أو غاية، استمرت الحالة المأسوية التي يعيشها دون أن يجد حلا عاجلاً لهذه المأساة.
في ليلة هادئة، نام كل الناس، تلفت فلم ير أحدًا يرقبه، تسللت يده إلي سكين بجوار سريره الذي ينام عليه فوجد فأومأ بها على قلبه يبحث عن النهاية، لكنها العناية الربانية تتحجر تلك السكين في يد التائه وإذا به يسمع صوتًا خافتًا، صوت يهز الوجدان ويبعث في النفس الأمل، صوت تال بآي القرآن، صوت ينفذ الآذان بعبير الأصوات المتداخلة، صوت يردد قوله تعالي: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67]. أنصت بشوق فإذا بالعتاب الحار على الرفقة السيئة لكنه تجاوزها، بدأ يتحدث عن الجنة وحال المتقين فيها.. يتجاوز ذلك كله فيتحدث عن النار وحال المجرمين فيها..، سكت صوت التالي فكأنما ختم هذه السورة الجميلة، سكت.
يقول: كنت أنتظر حديثًا أطول من ذلك بكثير، بردت قوة يدي، سقطت السكين على الأرض، تهاوى جسدي على الفراش .. نمت ولأول وهلة من زمن طويل فإذا بصوت آخر يبعث الوجدان من جديد قمت فلكأنما أعيش أحلامًا جميلة، صوت مؤذن القرية يتلألأ في الأرجاء، يخترق كل البيوتات المجاورة وهذه الوهلة بالذات يخترق حتى أذني بصوت ما سمعت أجمل منه، عشت نشاطًا ملموسًا في جسدي فقمت مسرعًا إلي المسجد، وهناك صليت مع جموع المسلمين صلاة كان لها أعظم الأثر في نفسي، أحسست من نفسي أنها بدأت تنشرح ويزول ذلك الانقباض، بدأت الحياة تدب في روحي، الحياة الروحية الجديدة، لا الجسدية البهيمية.(1/40)
بدأت أشعر بكرامتي بين الناس، أجد من اللذة الشيء العجيب، تكاد الفرحة أن تطير بي، انطلقت في درب الحياة الطويل غير مبال بالعراقيل، ولأن الابتلاء سنة في الحياة فقدني أصحابي، بدأوا يترددون عليَّ، يبلغني عتابهم مرة بحديث ودي، ومرات يشوهون طريقي، يخوفونني من القادم، ويذكرونني بالماضي المشين.
وفي زخم هذا التهويل هممت أن أعود إلي الحياة البائسة، لكنه في الوقت ذاته قرع في أذني صورة الأخلاء التي نفذت أذني من صوت ذلك القارئ فعدت هاربًا من هذه الصورة مذكرًا حالي بصورة المجرمين والسائق لهم إلى النار، وعدت لطريق دربي الطويل واستمررت بحمد الله ومضت الأيام فتعوضت بهذه الصحبة صحبة إخوة ناصحين فما أجمل هذه الصحبة وما ألذها في الحياة!
واليوم بعد هذا الزمن من عمر الاستقامة في حياتي أجدني أعيش لذة السعادة التي حرمها الآخرون فتذكرت صحب الطريق البائس، فأشفقت عليهم وتمنيت أن أوصل لهم ما أجد في نفسي من لذة فأقول:
أيها الصحب الكرام:
وايم الله، لقد عشت تجارب الحياة كلها، فسافرت باسم الترويح، وسافرت باسم المعرفة والثقافة، وسافرت باسم التجربة، وتعددت الأسماء فكونت غلافًا للحقيقة المرة، السفر باسم الشهوة، وكم هي المرات التي عدت من ذلك الترحال بأخسر بضاعة، عدت ولكم هنأني الأصدقاء بسلامة الأسفار ولم يدرك المساكين أن السلامة التي يهنئون بها جسدية ظاهرية وأن القلب أحق بالعزاء من التهنئة فقد عاثت فيه المعصية حتى عاد من سفره خربًا ميتًا ويا ليتهم واسوني بكلمة عزاء.
وأنا اليوم أحق بالتهنئة من ذلك اليوم وللمهنئين اليوم دين في عنقي أن أحفظ لهم حق التهنئة ولا أنساه.(1/41)
سمعت كل جديد من الغناء واشتريت بالذات النسخ الأصلية بحثًا عن الصوت الجميل وكنت أبحث في كل ذلك عما ما يخفف وَقْد النار المستعرة في جسدي، لكن دونما فائدة أسمع كثيرًا فتزداد الفوة في قلبي ألمًا وضجيجًا، عبثت في رأسي، غيرت لباسي، تمثلت كل جديد في الحياة، جلبت الدش فرأيت كل ما أريد ولم تشبع نهمي، اشتركت في الإنترنت نفذت كل مشاهدها وكم من ليلة قدح ضوء الصباح الباكر وكل ما أبحث لم يتحقق.
كنت أبحث عن السعادة، عن الطمأنينة، عن الأنس والراحة، لكن دونما فائدة، واليوم بالذات.
أيها الأحبة:
وجدت ما كنت أحلم به، وجدت الأمنية في أفسح مجالاتها.
اليوم بالذات عاد القلب يعيش لذة الفرحة الضائعة.
اليوم بالذات أشعر كأنما قلبي يطير من زهاء الفرحة التي يعيشها.
اليوم عرفت طريق دربي الطويل ولما رأيت هيامكم أيها الصحب في غير المسار الصحيح خشيت عليكم من وعثاء المعصية وكآبتها، خشيت عليكم من تأنيب الضمير ومساءلة النفس، خشيت عليكم أن تبقوا تراوحون في مكانكم تبحثون عن السعادة فلا تهتدوا إليها، فرأيت أن لكم دينًا في عنقي أن أفسح لكم الطريق وأزيل العوائق التي تكتنف جوانبه وكلي أمل أن أراكم في الجادة منه وعلى بساطه تسيرون وحينها سأقابلكم في نفس الطريق وستكون الفرحة أكمل وأتم بلقياكم معاشر التائبين.
* * * *
رسالة إلي متهاجرين(1/42)
هما إخوان، وقد يكونان جارين، وقيل إنهما زميلان وصديقان، مرت بهما أيام جميلة يسودها اللقاء المتكرر والعناق الحار، السؤال المتردد بين مرة وأخرى، واستمرت هذه العلاقة الجميلة أعوامًا وأعوامًا والناظر يتوهم لشدة ما يرى من المودة بأن هذا اللقاء لن تكسره حواجز الأيام، لكن سنن الحياة لا تنظر إلي هذا أو ذاك تمضي دونما اعتبار للأشخاص لكنها هذه الوهلة وقعت على هذين بالذات فتبدلت أيام اللقاء المتكرر بأيام لا تكاد ترى فيها ظلاً لأحد هذين الخلين، عاد ذلك العناق الحار أشبه بالصحراء التي تتمنى فيها قطرات الماء.
يلتقيان في أحيان لكن لُقيا الأجساد فقط أما القلوب فلا تسأل كم بينهما من بون شاسع تتوهم في المقابل أنك لا يمكن أن تجمع بينهما في ظل هذه الفرقة، يجمعهما الزمن مرات ومرات في لقاءات شتى لكن دونما فائدة، يدور النقاش في المجلس وترتفع الأصوات وتقول: عسى أن تختلط الأصوات مع بعضها وتنسي القلوب مأساتها لكنه يبدو أن مسحة الفرقة كبيرة ووقع الهجر كبير مستبين، وما أدل على ذلك من أنك في ذلك المجلس الذي تتوهم تتداخل الأصوات مع بعضها البعض، تفاجأ أنه بمجرد أن يرفع أحدهما صوته يخبو الآخر تحت حاجز الصمت الطويل فلا تنجح هذه اللقاءات في إعادة الحال إلي سابق عهدها، فننتظر مناسبات أكبر ولقاءات أعم، فيأتي العيد بكل معانيه الجميلة ويرسب هو الآخر في إعادة صفو الحياة السابقة ويمتد الزمن بنا فتمتد الفرقة بامتداد الزمن الطويل.(1/43)
المشكلة أن هذه الصورة التي أرويها ليست في مجتمعي فقط بل في مجتمع كل الناس، وكم حدثتني نفسي من زمن أن أدخل وسيطًا في حل هذه المأساة أو على الأقل في الوصول إلي قناعات تجعل من رمضان الكريم أو من العيد المبارك فرصة سانحة لانتهاء الحال المأسوية وتأذن بولادة فجر جميل من الأخوة المنتظرة، وها هو حديث النفس تحول اليوم إلى واقع فليسمح لي هذان الأخوان بلقاء أضمن لهما أنه لن يطول والله المسؤول أن يوصل هذه الكلمات إلى هذه القلوب المتنافرة فيؤلف بينها ويجمع شملها.
إلي كل هاجر لأخيه:
لتعلم يا أخي أن هذه الحياة مرة واحدة وليست مرات وإن كان للأخوة ثمرة فهي في هذه الحياة فقط التعاون على الطاعة والتناصح في سبيل تجاوز عقبة الحياة الكؤود، ولن تسع خصام أحد لآخر ولو وسعت ما انتظرت حتى تجتمع تلك الفرقة، الواقع يشهد بذلك فكم هم الناس الذين ظنوا أن هذه الحياة بإمكانها أن تسع خصامهم وتنتظر حتى يعود عالم الألفة المنتظر وكانت الأقدار أسرع من الأماني فودعوها دون أن يكتب بنيهم تسامح، وقد يلتقون غدًا فيجدون غب هذه الفرقة البائسة، وما يدريني وإياك أن صفحات عمرنا طويت تنتظر فقط أن توافق يومها المقدر من حياتها فتسير إلى العالم الغيبي وحينها لا ينفع ندم ولا عويل.
أعرف شخصيًا من حصلت لهما هذه المأساة بالذات وحصل الفراق في غفلة من الطرفين فبكى الآخر حتى أوشك على الانهيار وظل أشهرًا يعاني المأساة تنتابه الأحلام، ويحدث نفسه، لكن كل ذلك في وقت طويت فيه معالم الأخوة وبقيت معالم المساءلة والمناقشة.
إلي كل هاجر لأخيه:(1/44)
سأوقفك على جزء من أحاديث نبيك الكريم تبين لك عن خطر هذا الخصام المشين، يقول رسولك الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهو يعرض الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان في خضم هذه الحياة فيقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانًا».
بل ذكر أنه لو حصل التباغض نتيجة عرض معين أو وسوسة من عدو البشر الشيطان، فإن لذلك زمنًا معينًا تنتهي فيه ثورة الغضب وتعود روابط الأخوة إلي سابق عهدها فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب الأنصاري: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
إلي كل هاجر لأخيه:
إن استمرار الهجر في حياتكما يعرضكما لأمر عظيم جدًا وهو أن الرحمة التي تأملونها وترجون الله فيها لا تتنزل عليكم مطلقًا، إن القلوب التي لا تتسع للخلاف عبر ساحة هذه الدنيا قلوب متحجرة لا تعرف من معاني الرحمة شيئًا ولذلك كان عقاب هذه القلوب أن تنجلي عنها الرحمة ولا تقرب مواقعها مصداق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «تفتح أبواب الجنة كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا».
والمتأمل في هذا الحديث يدرك تمامًا مغبة الهجر وكيف تكون العاقبة وخيمة جدًا.
إلى كل هاجر لأخيه:
تأمل في السبب الدافع لك إلى مثل هذا الهجر وستعرف حينها سوء عاقبة الحرمان التي ألمت بك مع أن الدافع لا يليق بك وبأمثالك، إن كثيرًا من الأسباب لو تمعن فيها جيدًا لأدرك الهاجر أنها لا تتجاوز حفنة من هذه الدنيا الفانية، وللأسف أوبق بها دينه ودنياه.
إلى كل هاجر لأخيه:(1/45)
كيف لو خيرت بين أن تكون سليمًا معافى وبين أن تكون تعيش ألم هجرك لأخيك ولعنة ربك ومولاك مصداق قول ربك: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 22 – 23]. إن الخيار واضح جلي، لكن روح الحسد والبغضاء تطمس بصيرة الحاسد فيتوه عن طريق الرحمة ويأبى إلا طريق الملعونين، وقوم ولجت اللعنة بيوتهم وأنفسهم ما أدري أي حياة يعيشون، وأي راحة يجدون.
وأخيرًا:
لا أملك في الختام إلا أن أودعك وداع محب ولي أمل أن تقرأ رسالتي، وتتفهم معانيها، فإن كتب الله لك عودًا صادقًا إلي حياة المتسامحين فذلك ما أتمناه, وإن تناسيت هذه الأسطر ولم تسترع انتباهك فحسبي أني حاولت أن أنقلك من حياة الجحيم التي تعيشها ولم يكتب الله نجاحًا لهذه المحاولة فبرئت من مسؤوليتك عند لقاء ربك، والله أسأل أن لا يحرمني الأجر وأن يردك إلي رشدك إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * * *
حديث إلى سائح
ها نحن نودع عامنا الدراسي بكل ما فيه ونستقبل النعمة المغبونين فيها، نعمة الفراغ التي تحدث عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وها هي ثلل الراحلين عن بلادهم يحملون حقائب السفر ويودعون كل خليل وحبيب، راحلين وشواهد السفر الطويل ترحل معهم إلى هناك، ولعلنا نقف ونتساءل: إلى أين أيها الراحلون عنا؟ أين وجهتكم؟ وما هي أهدافكم من هذا الرحيل؟(1/46)
قد أذم في سؤالي هذا لكن ليعذرني الإخوة، حقائب السفر تذكرني فقدهم كأحباب، تمر هذه الأسئلة كطيف عابر من هول فقد من أحب، تمر هذه الأسئلة أشبه ما تكون بالأحلام في ذاكرة الراحلين، عجبي أني أحزن لفراقهم وأكفكف الدمع لرحيلهم وهم يعلوهم البشر بالترحال وكأني لم أكن صديقًا في يوم من الأيام، عجب أكبر أن في ساحات الوداع والفراق أبناء للراحلين، وإخوانًا لأولئك المسافرين هم أكثر مني ألمًا لفقد هؤلاء، لكن وكأنما الراحلون تائهون في عالم السفر الطويل.
ولأن هذه الرحلة دائمة مستمرة وفراق الإخوة حاصل لا محالة أحببت أن أسطر لهؤلاء جملاً من الحب في مضمونها النصيحة فأقول:
أخي السائح:
لقد أقسم ربك بالزمان لأهميته في حياتك كمسلم فقال تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } [العصر: 1 – 2]. وقال تعالى: { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } [الضحى: 1 – 2]. وكذلك قوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } [الليل: 1]. ولو لم يكن الزمان شريفًا في حياتك لما جعله مثار قسمه العظيم.
إن الزمان أخي هو أيام عمرك المباركة وسفرك يقطع هذه الأيام مراحل، وهذه الأيام قد تكون شواهد مصداق قول الحسن رحمه الله: «ما من يوم ينشق فجره إلا نادى: يا بن آدم، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني قبل أن أزول».(1/47)
ترحل أيام سفرك من دنياك لكن تبقى شواهد لك أو عليك في آخرتك المنتظرة مصداق قول ربك: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]. أخشى عليك أن يأتي ذلك اليوم وتتمنى ألا تراه حينها لو اجتمعت لك لذة المسافرين بأسرهم ما أغنت عن ألم المساءلة التي تتعرض لها، لقد وصف الله في كتابة الكريم حال فئة من الناس ما أرى أحدًا أِبه بحالهم منك حالهم عند مساءلة ربهم لهم: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } [المؤمنون: 112]. فتأتي إجابتهم بمثل الأثر الذي نالهم من الشهوات العاجلة: { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } [المؤمنون: 113].
حتى أن سيد قطب رحمه الله يقول: «وإن الله ليعلم لكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض، واستقصار أيامهم فيها. وقد باعوا بها حياة الخلود .. وإنهم ليحسبون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها». أهـ.
فهذه المساءلة لك اليوم مني كمحب فهل تجد جوابًا شافيًا لمثل هذه الأسفار المتكررة في حياتك؟ أخشى أن تكون جوارحك في مثل هذه الأسفار بحاجة إلى وقفات ومساءلة أكبر.
أخي السائح:
لقد كان مجرد النظر إلي وجوه المومسات دعوة قاسية تجاه المخطئين من الناس، فهذه أم جريح العابد تسائل ابنها أن يجيبها فانشغل عن إجابتها بالنافلة وكان يظن أن ذلك سيشفع له، فتمد يديها في حالة غضب أن الله لا يميته حتى يرى وجوه المومسات فتأتي الأيام سراعًا فيبتلى المسكين فيقاد إلي وجوه المومسات فيراها أثر الدعوة المقيتة التي نالها، فكيف بك يا رعاك الله ترحل إلى المواطن التي يخشى على دينك منها.
أخي السائح:(1/48)
أقفك بضع دقائق مع حديث رسولك الكريم: «لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره في ما أفناه، وعن شبابه في ما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن عمله ماذا عمل به».
وأود منك بصدق، العمر كله، ومرحلة الشباب أين قضيتها؟ المال أين أنفقته؟ تحمل مناقشتي لك وإلا ستتعرض إلي مساءلة أشد من ذلك، وفي موقف، تشهده الخلائق بأسرها.
وتسأل في موقف الحساب في صورة لم تكن تتوقعها.
تُسأل وأنت لا تملك من الثياب ما تسد به عورتك.
تُسأل والشمس على قدر ميل من رأسك.
تسأل والعرق من جسدك قد كون أميالاً من المياه والناظرون إليك في ساحة العرض أم أمثال الذر.
وقل لي بربك: إن كنت قادرًا على الإجابة عن كل ما ذكرت فامض في طريقك وغدًا سنلتقي وسيرى بعضنا البعض في موقف أسأل الله أن يكتب لنا فيه النجاة.
أخي السائح:
لا أخفيك سرًا حدثني أحد المقربين حديثًا أرق حالي يقول: إن أسرتك تعيش جحيم المساءلة وإشارات الاتهام في كل موضع من أنحاء مجتمعهم الصغير، يخرجون كغيرهم فرحًا بهذه الإجازة وأملاً أن يجول بهم أبوهم في مصايف بلادهم الجميلة فيفاجئون برحلة أبيهم المشؤومة، وما إن يختلطوا بغيرهم وينسوا قصة السفر البائسة حتى يلمزوا بالكلمات أين أبوكم؟ يصرفون وجوههم عن المشيرين إليهم فتتلقفهم الإشارات المبهمة من الجوانب الأخرى فتطعنهم بمرارة اللمز المشين، فما يملكون إلا أن تخبو رؤوسهم فتتجه إلي الأرض بعد أن كانت تعرف مسار النجم، لا يجدون ما يواجهون به هذه التهم إلا الدمع خير شاهد على المأساة.(1/49)
أترضى أخي السائح أن ترحل بعيدًا فيواجههم مجتمعهم بهذه التهم الموجعة، ولو استمرت مكابرتك ماذا تتوقع أن يحصل في شخصيات أبنائك المساكين. في ظني أن فتية تربوا على هذا الخدش كل عام لن يخطوا في المستقبل إلى غاية ولن يحققوا هدفًا وسيبقى الذل قرينًا ملازمًا لحال صبيتك الصغار، فارحم يا رعاك الله حال هؤلاء الفتية وارفق بهم وفكر مليًا في حالهم قبل أن تفكر في رفاق الرحيل.
أخي السائح:
زوجك هي المسكينة هل تصورت حالها وأنت راحل عنها أشبه ما تكون بالأيم بين جدرانها الأربعة، رضيت أن تلازم بيتها خوفا من الأصابع التي امتدت إلي أبنائها الكرام وليتها سلمت مما خافت؛ فها هن السائلات في ثوب الزيارة البريء يسألن أين زوجها الكريم؟ وليت المأساة تنتهي عند هذا الحد بل لا أخفيك سرًا أن أهل الحي عرفوا رحيلك فوصلوا إلي بيتك مرات ومرات وكم هي المرات التي طرقوا فيها باب منزلها المتهالك ولعلك تدرك بغيتهم وماذا يريدون، لا شيء إلا العبث بعرضها وخدش كرامتها، فيداك الكريمتان التي خدشت هناك أستار أسر كريمة تعوضت بيدين مشؤومتين ترد لك دينك صاعًا بصاع، وزد يزاد من حقك الخاص مصداق قول القائل:
من يزن في قوم بألفي درهم
في أهله يُزنى بربع الدرهم
إن الزنا دين إن استقرضته
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
وأخيرًا:
لك أن ترحل إلي ما تريد وليس لأحد أيًا كان أن يسائلك عن سر هذا الرحيل لكن قبل أن تحزم حقائب السفر تذكر حال صبيتك، والتائهون في الشوارع ينتظرون رحيلك، تذكر حال زوجك البائسة وحال الفارغين من أبناء مجتمعك، وحينها لك أن تجمع بين حلاوة السفر وخدش المروءة ولك أن تختار أي الطريقين لتمضي فيه.
* * * *
يا ولدي
يا ولدي:
ما أجمل تحية الإسلام، وما أعظم شأنها، ولذلك أول ما ألقاك يسرني أن أبادلك بها فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته سائلاً الله أن تصلك كلماتي وأنت تلبس ثوب العافية وترفل في جوانج السعادة الآمنة بإذن الله.
يا ولدي:(1/50)
لقد كتبت بقلمي جملة رسائل لإخوانك في الله عرضت فيها فيض مشاعري ونبض آلامي وكنت أرى أن لهؤلاء واجب النصيحة في عنقي، كتبت كثيرًا من تلك الرسائل وما زال قلمي الحالم بالإصلاح في جوف محبرته يسطر آمالاً وآلامًا، وكنت مع كل رسالة من تلك أحلم بوجودك وأتمنى رؤيتاك، ومرت الأيام تلو الأيام فإذا بالخبر يطمس كل الأحلام مباركًا بقدومك إلي ساحة الدنيا بطمس كل الأحلام مباركًا بقدومك إلي ساحة الدنيا الفسيحة، ووالله يا ولدي لقد كانت سعادتي مشوبة بالحزن فسالت الدموع، فما أدري أكفكفها عن أعين الناظرين فأحجب عنهم سعادتي وآمالي أو أدعها تنهمل فيرى الناس دموع الحزن تغلب دموع الفرحة فيتساءلون.
يا ولدي:
علك أن تسأل كيف اصطحب قدومك دموع الحزن مع أن الفرحة منتظرة وداعية إلي السرور، ومن حقك يا بني أن تسأل ومن حق أبيك أن يجيبك عن كل ما سألت.
يا ولدي:
كيف لا أحزن، كيف لا تنهمل الدموع، وعصرك يا ولدي حزين تنتابه الآلام؟. عصر يا ولدي بقي المتحشمون فيه أغرابًا. عصر يا ولدي يُنتهر فيه الصالح، ويبجل الفاسق، عصر يا ولدي المتمسكون فيه غرباء، والمفرطون فيه أبطال أجلاء فكيف أريدك له يا ولدي؟
يا ولدي:
انهمرت دموع الفرحة بقدومك ذلك أنك أمل في أعداد المسلمين وثلمة في أعداد الكافرين وشيء يا ولدي يُفرح المسلمين وينفس كربهم ويزيد آمالهم. كيف لا تنهمر له دموع أبيك؟ فأهلاً بك يا ولدي في علام الدنيا الفسيحة سائلاً الله أن يصلح شأنك ويجعلك ذخرًا للإسلام والمسلمين.
يا ولدي:
لقد جاء ميلادك مع عصر تسود فيه القوة إلى أبعد مما تتصور، فيتسلى الأقوياء على خيرات الضعفاء دون خوف أو وجل.
عصر يا ولدي فتحت فيه الشهوة أبوابها إلى أبعد صور الرذيلة حتى أصبحت المرأة يا ولدي بوابة للشهوة العريضة.
عصر يا ولدي ضعف فيه الحياء، وغابت الغيرة، وانتهت كل معاني الإنسانية.
عصر يدخل بيتك ويسايرك في طريقك.(1/51)
عصر لا كل العصور يا ولدي فكيف لا يشوب مجيئك دموع الحزن والحسرات؟
يا ولدي:
ها أنت تقدم إلي عالم الدنيا الفسيحة فتسمع بمجرد قدومك صوت الصورايخ المفجعة والقنابل المهولة المفزعة، ما إن تقدم يا ولدي حتى يلج أذنك صيحات مسلمة وآهات شيخ كبير وأنين طفلة لا تفقه من الحال المأسوية شيئًا، تقدم يا ولدي والأقصى المبارك سليب، بل يا ولدي تهولك أحداث بلادك المسلمة قتل وتشريد، يُتم وتعبيد.
يا ولدي:
سفح الدماء لو رأيته لعرفت شكاة أبيك المفزعة.
عذرًا يا ولدي، صحبت قدومك الأحداث فأثرت في شخص أبيك وكم كنت أتمنى أن تصلك آمالي قبل أن تشرب علقم آلامي لكن في الوقت متسع ولن يبقى حديث الحزن عائقًا عن الشجون والأماني.
فهاك يا ولدي آمال أبيك وخذ منه أمنياته فلعلك تذهب بالآلام وتزيد علام الأمنيات.
يا ولدي:
بدأت حياة المسلمين الحقيقية من المسجد وخرجت بعد ذلك فولجت الآفاق فكان المسجد يا ولدي محضن التربية لأولادك الأفذاذ، فهذا مصعب يا ولدي يعيش لذة دلال الأمهات فيخرج شابًا أنيقًا يحمل بين أعطافه العطورات حتى أن كتب السيرة يا ولدي تذكر شيئًا عجيبًا: نساء مكة بأسرها تتطاول أعناقهن لرؤية الفتى المدلل.(1/52)
وعاش زمنًا تضرب أطياف طيبه في أرجاء مكة المعمورة، لكنه يا ولدي كان يعيش قمة النعمة الظاهرية نعمة الملبس وجميل الثياب، نعمة المشرب والمسكن ونعم قد لا أتمكن من ذكرها، لكنه كان يرى المسجد فيجد حنانًا إليه، كان يعيش النعمة الظاهرية في أوسع ما يتصور الإنسان لكنه في نفس الوقت يعيش حياة لا تحمل منهجًا، حياة الفاغرين يا ولدي، يغتسل ويلبس، يتطيب ويتجمل، يمشي في كل مكان، ويرحل إلي أين أراد، ومع كل ذلك كان يبحث عن السعادة، عن الاستقرار، وأطياب أمه شدة عبيرها لم تغنه عن شر ما يجد من آلام فعاد إلى على المسجد والتقى بصاحب الرسالة وعاش لذة القرآن وسمر مع أحاديث السنة والتقى بالصحب الكرام، فوجد ما فقده وعاش اللذة بكل معانيها. وكتب السير تروي لنا هذه الأحداث بكل ما فيها.
وهذا عمر بن أبي سلمة يا ولدي يتلقى الركبان ويسألهم ويستقرئهم حتى فاق قومه وعاد إمام جماعته في حيه ومجتمعه.
وغيرهم يا ولدي كثير كانت هي الانطلاقة إلي عالم الجادين.
ولعل خبر التابعي الجليل سعيد بن المسيب وصلك في أنه ما فاتته تكبيرة الإحرام في المسجد من أربعين عامًا، وذلك الذي ما أذن المؤذن من سبعين سنة إلا وهو في المسجد، هؤلاء يا ولدي خرجوا من المسجد فكتبوا لأمتهم أعظم نصر في حياتها، أسرد إليك يا ولدي هذا الحديث ولعلي أظفر بك طالبًا جادًا في حلق التحفيظ تدرس القرآن وتتدبر معانيه فتخرج حافظًا عالمًا بإذن الله فسلفك الكرام قد جمعوا شيئًا عجيبًا يا ولدي فهذا مجمع بن جارية جمع القرآن وهو ما زال حدثًا في حياته، وهذا سالم مولى أبي حذيفة يحمد نبي الهدى ربه أن جعله في أمته لما معه من القرآن، ومعاذ وابن مسعود يكملان قطار الجدية في حياة الشباب فيأمر النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - باستقراء القرآن منهما.
ووالله يا ولدي ما أسعدك حينما تحقق هذه الأمنيات في حياة أبيك وما أسعد قدومك!!
يا ولدي:(1/53)
ها هو بيتنا الجميل يحتضن كتب العلم والعلماء في أرجائه فيثبت العقيدة أساسًا متينًا في حياتك وتحدو بك السيرة إلي المعالي، تنمق نفسك كتب التربية فترفع نفسك إلى عالم الأوفياء من المصلحين ووالله يا ولدي لقد كنت شريكي في كل كتاب أشتريه، ذلك أني أدرك أنني راحل عن هذه الحياة وآمل أن يطول بك العمر فتجد في هذه المكتبة ما يشبع وجدانك وتكتب بها عالمًا من الجدية في حياتك فيعلو ذكرك في عالم المصلحين فيصلني عبيق دعاء الولد الصالح في وقت أحوج ما أكون فيه إلي الدعاء.
يا ولدي:
ستمضي بك الأيام قُدمًا وكأني بك غدًا يا ولدي أحد أولئك الأفواج في مدارسهم ولكأني بالأعين يا ولدي ترقبك، وبقدر ما أنا محب لتفوقك بقدر ما تهفو نفسي إلى أدب يُزين نفسك فتكون مثالاً للطالب المؤدب، وجمع الخصلتين يا ولدي أمنية يعيشها أبوك.
يا ولدي:
عاثت الفضائيات في أخلاق أقرانك فأوصلتهم إلي صور مجردة من القيم والمثاليات، وكم أتمنى يا ولدي أن أرى فيك الصورة الدؤوبة للدعاة والمصلحين فتخاطب كل هؤلاء بخطاب الرحمة والشفقة فتذكر بالخالق وتنمي جوانب الغيرة وتذكر بأمجاد السلف الصالح علك تسهم في عودهم المبارك فتكون في عداد المصلحين الكرام.
يا ولدي:
الأمنيات كثيرة ولئن كنت اليوم لم أتمكن من سردها عليك للتذكير بها فلعل في روحك المتطلعة وحياتك المستقبلية ما يحقق لأبيك كل الأماني والتطلعات، ولئن، سعد أبوك بكل جميل فيك فإن أمتك أجمل سعادة وأسعد أمة ذلك أن أطبق مثال يصلح أن يكون مثلاً للأمة حديث رسولك الكريم - صلى الله عليه وسلم - : «الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة».
يا ولدي:
لا أملك في ختام حديثي إلا أن أتوجه إلى الله أن يصلح حالك فتعيش صالحًا مصلحًا فتعود على أمتك بالنفع والخير العظيم، سائلاً الله أن يهيئ لك الرفقة الصالحة وقبل ذلك العون والسداد منه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * * *
مُساءلة عانس
يا أبنتي:(1/54)
يحيي الناس بعضهم بعضًا بتحية الإسلام المباركة، وفي السلام من معاني السلامة ما يتجاوز بكثير المدارك المحدودة للإنسان، وأعظم من ذلك أنها تحية المؤمنين يوم يلقون ربهم تبارك وتعالي.
وكم كنت يا أبتي أتمنى أن أحييك بهذه التحية المباركة ولكن ما أجده من آلام وأحزان أشغلني، فبادرتك بالشكاية المرة وتحمل يا أبتي سؤالاً ما زال يتردد في نفسي من زمن.
لماذا أنا بالذات تصر على أن أبقى معادية للفطرة شاذة بين بنات حينا المبارك؟
يا أبنتي:
إن الزواج سنة ربانية وفطرة في بنات حواء ولست أزعم اليوم أني من غير هذه الأصناف.
يا أبتي:
كم هم أولئك الرجال الذين دخلوا بيتنا من أوسع الأبواب يرغبون في سنة الزواج؟ إنهم يا أبتي أتوا من الأبواب المشرعة، وكلهم يا أبتي من الصالحين وأنت قد حدثتني بذلك ومع ذلك تعتذر بحجة إتمام الدراسة؟
وقد أتممت لك ما تريد وتخرجت بحمد الله وأنا اليوم معلمة محافظة تجاوزت كل دواعي الشهوة حفاظًا على كرامة الأٍسرة الكريمة يا أبتي، ومع ذلك يعاود الصالحون رغبة الزواج وتقف أنت حجر عثرة في سبيل ذلك، فلماذا تفعل ذلك يا أبتي؟ أوليس من حقي عليك يا أبتي أن تلبي داعي الفطرة الربانية وتحقق مطالب النفس الإنسانية؟
يا أبتي:
المساءلة لشخصك الكريم عيب أدركه في خلقي لكن الواقع الذي أعيشه أليم فكانت هذه المساءلة.
يا أبتي:
أنا وهذه الأسرة المباركة الكريمة في هذا البيت السعيد أليس الحياة الزوجية منبعها؟ ولو لم تكن الحياة الزوجية مبتغاة وفق السنة الربانية فهل يا ترى من سيكون شريكك في الحياة الطويلة؟
يا أبتي:
لقصد أو لآخر أراك تحارب الفطرة وتجابه السنن الربانية، والضحية من أمثالي أوشكت على العنوسة وأنت يا أبتي ترفل في عالم السعادة.
يا أبتي:(1/55)
لقد زرت زميلاتي وهن أصغر مني سنًا ورأيت يا أبتي بيوتًا تملأ أحضانها السعادة الأمومة الحانية ويجوب تلك البيوت عالم الصبية الأبرياء، لقد رأيتهم يا أبتي فذرفت من عيني الدموع، فهاهم يعيشون في قمم السعادة وأنا لا زلت بين جدراني الأربعة، كنت يا أبتي أعود من تلك الزيارات وأنا أحمل هموم هذه الحياة وكنت أتمنى أن ترأف بحالي وتعرف شكايتيي فتلحق بالسعادة حياتي، لكن كأنما الأمر لا يعنيك وكأنما لا تسترعيك حالة بنيتك المسكينة، وكنت أمضي أيامًا أعيش مرارة تلك الزيارات في نفسي.
يا أبتي:
إن الزواج ستر وحياة وفق السنن الربانية، وكم يا أبتي من يد خائنة وإشارات متهمة تمتد إلينا كل صباح ومساء فلماذا يا أبتي تزيد من هذه الإشارات وتلك الاتهامات؟ حتى أننا يا أبتي نلمز بصديقك الذي يزورك في كل حين ونعرف في وجوه من نلقى أحاديث التهم الحارة ولا نستطيع أن نجيب عن ذلك.
يا أبتي:
في مدارسنا نتعلم كيف تكون الواحدة منا أمًا عطوفًا وربة بيت ناجحة وقائدة أسرة مجيدة وكنا نأمل أن نرى مثل هذه الحياة الأسرية الجميلة، ولكنك يا أبتي قتلت هذه الأمنيات في نفسي بصخرة الواقع المحزنة، فغيري من أخواتي يمارس ذلك في جو من السعادة والآمال وأنا بين جدران أربعة أعيش ألم الوحدة ومساءلة العنوسة المرة.
يا أبتي:
البارحة بالذات سمعت صوتًا يئن، استيقظت فزعة تلفت فإذا بالأبواب والنوافذ محكمة لكنه صوت يتخلخل لقوته فراغات بيتي الحزين فيؤذن مسمعي بالدخول، صوت فتاة باكية تخنقها العبرات، فتحت ذلك الباب لأرى حال ذلك الصوت الشاكي فإذا بالمأساة حقيقة لا حلم عابر، جارتنا المسكينة في سن الثلاثين في نزعها الأخير، حولها تلك الأسرة أب وأم وأخوات صغار كريمات وإذا بهذه الفتاة تتمتم بحديث شكاية حزين، حاولنا أن نستفهم خبرها وسرها المكنون لكن دونما فائدة.
وأخيرًا ..(1/56)
ظهر صوتها وإذا بها تسأل أبيها ماًء، فيهرول ذلك الأب ويأتي لها بماء فيسألها: ماذا تريدين يا بنية؟ فتقول: يا أبتي قل آمين، فيتلعثم الأب من شدة الفرح وكان يظن أنها ستودعه بدعاء الحفظ لحاله فيقول في لهفة آمين، فتخرجها المسكينة بزفرات آخر اللحظات وتقول: أسأل الله يا أبتي مثل ما حرمتني من الزواج أن لا يريحك ريح الجنة.
وتودع الحياة الدنيا بعد هذه الكلمة البائسة، ورأيت حالاً مأسوية بأبيها عظيمة جدًا أخذت العبرات تخنقه وبدأ يجهش بالبكاء لكن في وقت لا ينفع فيه العبرات ولا يغني فيه العويل.
ووالله يا أبتي وإن عزيت في خاطري إلا أن مأساتي قد تغلب عليَّ عند موتي فلا أجد ما أكافئك به غير هذا الدعاء الذي سمعت.
يا أبتي:
بأي ذنب أبقى في بيتك ندًا لدودًا للفطرة السليمة؟
يا أبتي:
إن بقاءك حجر عثرة في سبيل زواجي يدخلك ضمن حديث رسولك الكريم - صلى الله عليه وسلم - : «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة». وما أدري يا أبتي كيف يكون حالك وأنت محروم من الجنة بعيد عنها؟.
يا أبتي:
مرت حياتي سنوات عجاف وأنا لا زلت أثمن قدر العرض والشرف وأسعى جاهدة في لباس الحشمة والستر وأخشى يا أبتي إن طال بي زمان على هذه الحالة أن أتنازل عن هذه المعاني وألقي بها خلف ظهري وحينها حفنة المرتب الذي تريده لن تدمل عار وجهك عن الناظرين إليه.
يا أبتي:
الحياة كلها آيلة إلي الزوال ولن يبقي أجمل من المعروف شيء، ولئن حاولت يا أبتي حرماني من لذة هذه الحياة فسيكون بيني وبينك لقاء أحوج ما تكون فيه إلي الحسنات، ووالله يا أبتي إن كتب الله بيني وبينك لقاء في ذلك اليوم فلن أتنازل عن شيء من هذه الحقوق بل والله سأكون أول خصيم لك يوم القيامة.(1/57)
يا أبتي: إن بقيت معك على بساط هذه الحياة فلا أزال أكرر إليك أن تختم أيامي من هذه الدنيا بالسعادة التي أنتظرها، وإن توليت من هذه الدنيا فسأبقي أنتظر لقاءك عند رب العالمين، والله يتولي الحكم فيما بيني وبينك.
وأخيرًا يا أبتي:
هذه رسالتي لك أنت بالذات، وكاتبها الذي تقرأها باسمه مجرد شافع بيني وبينك أراد أن يوصل رسالتي إليك، فإن كتب الله لك توبة من فعلك فذلك جل ما أتمناه وإن بقيت تجابه كل خاطب من أجل ذلك الراتب فالله أسأل أن يحرمك لذة الحياة عاجلاً وأن يختم لك بسوء، والله المسؤول أولاً وآخرًا أن يريك عاج لما فعلت.
* * * *
الفهرس
المقدمة ... 5
الشباب الآمال والطموحات ... 6
قصة الطبق المشؤوم ... 6
يا إمام الأخيار ... 6
دعوة للإنفاق ... 6
السامرون على المعازف ... 6
أهل العقوق في ساحة المساءلة ... 6
جاري العزيز ... 6
هتاف للصالحين ... 6
هتاف إلي الصالحات ... 6
المشوهون للأعراض ... 6
المتشدقون بالأعراض ... 6
قصة تائب ... 6
رسالة إلي متهاجرين ... 6
حديث إلى سائح ... 6
يا ولدي ... 6
مُساءلة عانس ... 6
الفهرس ... 6(1/58)