رَسَائِل تَثبيت الإيمَان
(1)
نحَو الإيمَان
تأليف الشيخ عَبْد المَجيد الزّندَاني
أهميَّة الإيمان بالله
مَن جَاء بكَ إلى الدّنيا
يا أهل العقول ما هو حكمكم على من وجد نفسه قد نقل إلى مدينة مجهولة، أو صحراء لا يعرفها بدون اختيار منه أو إرادة، وعرف أن هناك من نقله وجاءه رسل من الذي جاء به إلى تلك المدينة أو الصحراء لإرشاده وهدايته ثم هو بعد ذلك لا يهتم بالتعرف على من جاؤوا لإنقاذه وهدايته، يحاربهم وهم يتحملون أذاه؟ يسبهم وهم يتقربون إليه.
إن العاقل لا بد أن يقول: إن أول واجب على هذا الإنسان الضائع الذي جيء به إلى عالم مجهول أن يبحث عن الذي جاء به إلى هذا المكان المجهول بدون إرادة منه وأن يعرف الحكمة من مجيئه وإن وجد رسلاً قد جاؤوا بهدايته فعليه أن يمتحن صدقهم فإن وثق بهم أكرمهم وتابعهم، أما الذي لا يهتم بأمر نفسه أو من جاء به، أو بالرسل المرسلين من الله فلا شك في سفاهته وحمقه فإذا تفكر العاقل في حياته على هذه الدنيا، وكيف كان تراباً ميتاً، ثم أصبح بشراً سوياً.
?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ? (سورة الروم: آية 20)وكم الفرق بين عالم التراب الميت الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ولا يتحرك ولا يحس ولا ينمو ولا يتناسل ولا يتصف بأي صفة من صفات الحياة وبين هذا البشر الحي المتحرك الذي ملأ الأرض حركة وحياة. وإذا تفكر العاقل، في قصة انتقاله من عالم التراب الميت إلى عالم البشر ورأى كيف تحول التراب إلى نطفة من ماء مهين عن طريق تحوله إلى طعام، ثم كيف تحولت النطفة إلى علقة فمضغة فعظام , فكسا العظام لحماً وكيف دبت الحياة والروح في الجنين البشري؟ وكيف خرج طفلاً ثم كان بشراً سوياً.(1/1)
لو تفكر في ذلك كله لرأى أنه لم يكن له اختيار في شيء من ذلك ولعلم أن أول واجب عليه هو أن يتعرف على من بيده أمر وجوده وحياته، ونشأته وتصويره الذي جاء بالإنسان إلى الدنيا بدون إذن أو اختيار من الإنسان ? يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ? (سورة الإنفطار: آية 6- 8).
فما الذي صرفك ايها الإنسان عن ردك الذي انشأك وصورك؟
أتحسب أنك قد جثت من العدم؟ وأن العدم الذي لا وجود له هو الذي ركبك؟ أما علمت أن العدم لا يخلق شيئاً ولقد علمت أنك لم تخلق من نفسك شيئاً؟! فلا بد أن لك خالقاً قد خلقك? أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ? (سورة الطور: آية 35)فإذا كان أمر وجودك وحياتك وخلقك بيد الله الذي صورك وركبك، فلا بد أن تعرف الذي أمرُك بيده، ووجودك بيده وأنت رهن مشيئته ولا بد أن تكون معرفتك لربك أول واجب عليك أيها العاقل.
ملكُ مَن نحن
وهذه اليد التي تعمل بها، والقدم التي تسير عليها، واللسان الذي تنطق به، والعقل الذي تدبر وتفكر به وكل شيء تستخدمه وتنتفع به في جسمك وحياتك ملك من هو؟.
بل ملك من أنت؟ وملك من نحن جميعاً؟.
إن دلالة الملك بالحرية في التصرف في المملوك؟ فهل أنت الذي اخترت أن تأتي إلى هذه الدنيا؟ وهل أنت الذي اخترت أباك وأمك؟ وهل أنت الذي اخترت بلادك؟ أو الزمان الذي تولد فيه؟ وهل أنت اخترت صورتك وصفاتك الجسدية والنفسية والعقلية أو أن تكون ذكراً أو أنثى ؟ وهل أنت الذي تختار لنفسك أن تعود إلى حياة الضعف في مرحلة الشيخوخة بعد القوة؟.(1/2)
إلى الجهل بعد العلم؟ إلى المرض بعد الصحة وإلى الموت بعد الحياة? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ? (سورة الروم: آية 54) تلك أهم أمورك؟ لا تملك منها شيئاً لأنك لا تملك التصرف في واحدة منها. فهل أنت الذي تملك التصرف في هذه الأمور بالنسبة لأولادك؟ أو بالنسبة لأقربائك أو قبيلتك أو مدينتك أو شعبك أو أمتك؟ وهل يملك الآباء أو الأقارب أو القبيلة أو الشعب أو الأمة لأنفسهم شيئاً من هذه المقدرات المفروضة من الخالق لي ولك ولكل الناس في قديم الزمان واليوم وفي آخر الزمان؟!.
وإذن أنت مملوك... وأنا مملوك وكل هذه الأمم والشعوب والحكام والمحكومين محكومون للذي خلقهم كما يريد، وجاء بهم إلى هذه الدنيا وأخرجهم منها وأعطى لكل مخلوق منهم المواهب التي خلق عليها.
ثم تأمل أيها العاقل في يدك أو قدمك هل خلقت منها لحماً أو عظماً أو دماً أو حتى شعرة واحدة؟ ثم تأمل هل خلقت لإنسان غيرك شيئاً من جسمه أو كيانه؟ ثم تأمل هل خلق الشعب أو القبيلة أو الدولة شيئاً منك أو من غيرك من الناس؟ ? إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ? (سورة الأعراف: آية 194)والآن ما رأيك في شخص يمر بحانوت أو مصنع- تركه صاحبه بعض الوقت- أو مزرعة أو مكتب، فدخل هذا الشخص وأخذ يتصرف بمحتويات ذلك الحانوت أو المصنع أو المزرعة أو المكتب، وأخذ يقدم ويؤخر ويرفع أشياء ويخفض غيرها وينتقل من مكان إلى آخر بدون إذن من صاحب ذلك الحانوت أو المصنع أو المزرعة أو المكتب؟!.
إن كل عاقل سيحكم بسفاهة هذا العابث الذي تصرف في ملك غيره بدون إذن من المالك... وسل نفسك الآن هل أنت من السفهاء الذين يتصرفون فيما لا يملكون بدون إذن المالك؟!(1/3)
فإذا تأمل العاقل في نفسه وجد أنه لا يملك من نفسه شيئاً وأن عليه أن لا يتصرف في شيء إلا بعد أن يعرف مالكه، ويعرف منه الهدى ويتلقى منه الأمر ? أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ? (سورة الأعراف: آية 54)لذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف مالكه، وأن يعرف رسول ربه إليه.
لِمَاذا خُلِقنَا؟
لو وقف الأطباء في العالم كله في صف واحد، وسألتهم: هل خلقت عيون الإنسان لحكمة؟ لأجابوا جميعاً: نعم , ومن كذب ذلك فليقلع عينيه. ولو سألتهم عن الفم والأسنان والأذنين والأنف واليدين والقدمين والقلب والرئتين وعن كل عرق صغير أو خلية في الإنسان, هل خلقت هذه الأجزاء لحكمة؟ لأجابوا جميعاً: نعم, ولو سألتهم عن التفاصيل، لقالوا: إن هذا يحتاج منا إلى عشرات السنين لكي نستكمل المعرفة بدقائق الخلق في جسم الإنسان... وإذا سألتهم هل ترتبط حكمة الجزء من كيان الإنسان بكيان الإنسان بأجمعه؟ لأجابوا جميعاً: نعم, إن الحكمة من الفم أن يأكل لجميع أجزاء الإنسان, والحكمة من الرئتين أن تتنفسا لجميع أجزاء جسم الإنسان, والحكمة من القلب أن يرسل الدماء إلى جميع أجزاء الجسم, والحكمة من القدمين أن تنتقلا بكيان الإنسان كله... وهكذا ما أُحكم خلق الجزء إلا ليؤدي مهمة تتعلق بكيان الإنسان بأجمعه.
وإذا كان كل جزء فيك قد خُلق لحكمة؟ وما أُحكمت أعضاؤك إلا لخدمتك بأجمعك، فلا شك أنك قد خلقت لحكمة.
فهل تعلم لماذا خلقت؟ ولماذا خلق الناس جميعاً؟ إنك إذا لم تعرف حكمة خلقك تكون أهون من الورقة التي أمامك؟... لأن لهذه الورقة حكمة وهي أن تكتب عليها وأما أنت فلا حكمة لك في نظرك؟ فتأمل في شأنك كيف تعيش و أنت لا تعرف حكمة خلقك؟.(1/4)
إن من لا يعرف الحكمة من الأشياء التي حوله مغفل عند كل الناس، والذي لا يعرف الحكمة من قطع الملابس التي يلبسها مغفل أكبر منه. ومن لا يعرف الحكمة من عينه أو فمه أو يده أو قدمه مغفل أكبر من سابقيه، ولكن أكبر مغفل وجاهل على وجه الأرض هو ذلك الذي لا يعرف الحكمة من خلقه بأجمعه؟! ولا يعرف الحكمة من حياته كلها !! تنتهي حياته على الأرض وهو لا يعرف لماذا عاش؟ ولماذا يموت؟ إن حياته في نظر نفسه أقل شأناً من نعليه لأن نعليه لهما حكمة، أما هو فلا حكمة في نظره لحياتها كلها؟ ولا لحياة الناس جميعاً? وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ? (سورة محمد: آية 12). فهم يعيشون كما قال الشاعر:
جئت لا أعلم من أين
ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟
كيف أبصرت طريقي
لست أدري
ولماذا لست أدري.. لست أدري
وإذا كان الضالون لا يعرفون حكمة وجودهم, فنحن المسلمين نعرف تلك الحكمة، وإن كانوا لا يعرفون لماذا لا يعرفون (ولماذا
لست أدري) فذلك يرجع إلى أن الحكمة من المصنوع تختفي في نفس الصانع وتعلم بتعليم منه وكذلك الحكمة من خلق الإنسان قد خفيت عنا في نفس خالقنا وتُعلم بتعليم يأتينا منه وحده.
لذلك فلن يعرف الإنسان حكمة خلقه ووجوده إلا بتعليم من خالقه وما لم يعرف الإنسان خالقه ستسقط كرامة الإنسان عند نفسه، ولا يبعد عليه أن يسمي نفسه حيواناً ناطقاً أو خنفساً من الخنافس وربه ينادي ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ? (سورة الإسراء: آية 70)فيأبى الإنسان لنفسه إلا الهوان. لذلك كله كان أول واجب على الإنسان أن يعرف الله وأن يعرف رسوله..
هَل نحنُ ضَائِعون(1/5)
وإذا تأمل الإنسان في حياة الناس وجد حياة أكثرهم تشهد أنهم في تيه وضياع, فعلامة الضائعين وأمارتهم أن تجدهم مختلفين في طريقهم مترددين في أعماق أنفسهم قلقين في مشاعرهم أدلتهم ظنون وأوهام وأماني وهكذا حياة أكثر الناس اليوم.
فهذه الدول تعيش في اختلاف وصراع وكذلك الأحزاب والهيئات والجماعات والقبائل داخل تلك الدول ونشهد الصراع أيضاً والاختلاف داخل أجنحة الحزب الواحد والهيئة الواحدة، والجماعة الواحدة والقبيلة الواحدة، وفي داخل كل جناح خلاف وصراع وحياة كأنها الضياع، فما هو السر في هذا الاختلاف وما هو السر في حياة الضياع؟. وما هو السر في هذا الصراع؟ لو تأملنا وتفكرنا لوجدنا أن السبب في الاختلاف يرجع إلى أن الناس قد اختلفوا في مبادئهم وآرائهم، وإذا تفكرنا في سبب اختلاف الناس في مبادئهم وآرائهم وجدنا أن السبب يرجع إلى اختلافهم فيما يلي:
- اختلاف الناس في علومهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في أخلاقهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في أفهامهم وعقولهم وهذا يؤدي إلى اختلاف آرائهم.
- اختلاف الناس في تجاربهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
- اختلاف الناس في مصالحهم وهذا يؤدي إلى اختلاف الآراء.
فإذا كان رأي كل واحد منا يتوقف على علمه، وخلقه، وفهمه، وتجربته، ومصلحته.
وإذا كان الناس يختلفون في كل هذا ولا يمكن أن تجد اثنين علومهم وأخلاقهم وأفهامهم، وتجاربهم ومصالحهم متساوية وموحدة, إذن فلا يمكن للبشر أن يتحدوا إلا إذا وحدنا آراءهم.
ولا يمكن أن تتحد الآراء والنظريات إلا إذا وحدنا الناس فجعلنا علومهم وأخلاقهم وأفهامهم وعقولهم وتجاربهم ومصالحهم واحدة. وهذا مستحيل فلا بد من الاختلاف ومن المستحيل، إذن أن يكون اتحاد بين الناس ? وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ? (سورة هود: آية 118- 119) فما هو الحل لهذا؟.(1/6)
إن الحل الوحيد هو أن يعرف الناس أن لهم خالقاً قد أحاط بكل شيء علماً وله أكمل الأخلاق وأعظم الصفات وله الأسماء الحسنى وهو الخبير الذي ما غاب ولا يغيب عن علمه ولن يغيب شيء وأنه الرب الرحيم الذي استوى الناس أمامه في عبوديته ? وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ? (سورة الزمر: آية 7) فإذا عرف الناس ربهم وبحثوا عن هداه خرجوا من ذلك الاختلاف وأنقذوا أنفسهم من نتائجه وعاشوا عباداً متحدين معتصمين بحبل ربهم مهتدين بهداه قال تعالى? وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ? (سورة هود: آية 18 1- 19 1) وقال تعالى: ? وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ? (سورة النحل: آية 64)لذلك كله فإنه لا يخرج الناس من الاختلاف إلا إذا عرفوا ربهم ولذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه.
وإذا تأملنا في السر الذي يبعث في الناس مشاعر الخوف من المجهول الذي قد يحدث في غدهم أو قد يلقاهم بعد موتهم، وإذا تأملنا في سر ذلك القلق الذي يغمر حياة الكفار في هذا الزمان، وجدنا أن السر يرجع إلى أنهم يعيشون في الدنيا لا يعرفون لحياتهم معنى ولا يعرفون الذي أوجدهم ولا يعرفون الطريق التي ترضي خالقهم ولا يعرفون ماذا ينتظرهم بعد موتهم؟ فهم يتخبطون وهم في قلق لا يطمئنون ولن يجد الناس الاطمئنان في العيش والرضى بحياتهم إلا إذا عرفوا ربهم وآمنوا به, قال تعالى: ? يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي? (سورة الفجر: آية 27- 30) لذلك كان أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه وخالقه.
وإذا تأملنا في السر الذي سبب هذا الصراع بين الناس رأينا أنه يرجع إلى جهل الناس بخالقهم وحكمته من خلقهم.(1/7)
لأن كل إنسان قد خلق الله فيه طموحاً واسعاً بحيث لا تكفي الأرض لتحقيق طموح واحد من بني الإنسان فلو قيل لشخص قد ملكناك نصف الأرض لقال أريد نصفها الثاني فما هي نتيجة هذه الأطماع الواسعة التي تلتهب في نفوس الناس؟ الصراع هو النتيجة ولا مفر منه في ظل الكفر بالله تعالى, لأن الكافر يظن أنه ليس له من الحياة إلا هذه الدنيا ومتاعها وليس له من هذه الدنيا إلا ما تمتع به وتلذذ به وما في الأرض لا يكفي لتحقيق متعه ورغباته ولذاته فكيف وهو يجد ملايين من البشر, كل واحد مثله يريد أن يمتلك الدنيا لوحده وأن يخضعها لحكمه, فلا بد من الصراع على أطماع الدنيا ومتاعها الزائل! ولا بد من الصراع في داخل البيوت بين الأخ وأخيه ولا بد من الصراع في القرية أو الحارة بين الأسر.
لا بد من الصراع بين المناطق المختلفة، والقبائل المختلفة، والتجمعات المختلفة.
لا بد من الصراع بين الدول والأحلاف على وجه الأرض.(1/8)
وهذا هو الواقع !! ومن لا يعيش الصراع يعد للصراع !! ولا مفر منه في ظل الكفر وكلما تذكر الإنسان الموت، ورأى أنه قد يفجؤه في أي لحظة أحس بقصر العمر فانطلق كالمجنون المسعور يزيد من صراعه ومنافسته ليفوز بأكبر قدر من متاع الدنيا قبل أن تنتهي حياته وهكذا يقدم الصراع على أطماع الدنيا وتستخدم في هذا الصراع كل الأسلحة والحيل مهما كانت خبيثة غادرة وهذا هو الواقع... ولا مفر منه في ظل الكفر إلا بالفرار إلى رحاب الإيمان, لأن المؤمن يعلم أن ربه قد خلق له ما يكفي طموحه وأطماعه في جنة عرضها السموات والأرض أعد الله فيها للمؤمنين كل ما تشتهيه نفوسهم وتلذ به أعينهم وهم فيها خالدون، قال تعالى: ? الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? (سورة الزخرف: آية 69- 71) وعلم المؤمن أنه لن يفوز بهذا النعيم الدائم كما أنه لن ينجو من عذاب الجحيم إلا إذا نجح في امتحان طاعته لربه الذي يؤديه أثناء حياته وبقائه على وجه الأرض, وعلم المؤمن أن نجاحه في الامتحان لا يكون إلا باتباع أوامر خالقه ومالكه واجتناب ما نهاه عنه، وعلم المؤمن أن ربه قد أمره أن يأخذ حظه من متاع الدنيا من الطرق الحلال التي لا غش فيها ولا خداع ولا استغلال ولا ظلم وأن له ما يكفيه ويكفي من يعوله وعليه حق نحو من عجزوا عن أخذ ما يحتاجون له من متاع الدنيا, فترى المؤمن عاملاً مجداً، ومنافساً شريفاً، ومنفعاً متعاوناً مواسياً، وهكذا يعيش المؤمن في مجتمع تشيع فيه المحبة بدلاً من العداوة, والتعاون بدلاً من التقاطع, والمحبة بدلاً من الكراهية، والشرف بدلاً من الخسة، والعفة بدلاً من الدناءة، والكرم بدلاً من الشح، والمواساة بدلاً من الاستغلال،(1/9)
والعدل بدلاً من الظلم، والتواضع بدلاً من التكبر، و الرضى والسعادة بدلاً من السخط والقلق والشقاء والتعاسة.
وهكذا كان واقع المسلمين يوم أن كانوا مؤمنين أقوياء في إيمانهم ولا تزال هذه الصفات الطيبة في تناقص واختفاء في مجتمعات المسلمين، ويلاحظ اختفاؤها بقدر ما يصيب الإيمان من ضعف في نفوس أصحابه. وتعود للظهور مرة ثانية بقدر ما يعود الإيمان بالله ورسوله لينتهي الصراع بين الناس ولتعود الحياة الإسلامية الصالحة للظهور مرة ثانية كما ظهرت أول مرة ولذلك كان أهم واجب وأول واجب على الإنسان أن يعرف الله تعالى.
مَاذا ننتظرُ في سَاحَةِ الإعدَام(1/10)
أنت ومن في الأرض جميعاً ستخرجون من الدنيا فبما يقارب مئة عام (إذا شاء الله) بعدها ستكون في عداد الأموات، قال تعالى? أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ? (سورة النساء: آية 78) فما أنت إلا من أبناء الموت وأنت تنتظر موعد طلبك للخروج من الدنيا كذلك الذي قد أخرج مع فوج كبير إلى ساحة الإعدام وهو ينتظر دوره الذي لا مفر منه وسيأتيك الموت في لحظة معينة، فقد تصبح مع الأحياء فلا تمسي إلا مع الأموات, وقد نمسي مع الأحياء فلا تصبح إلا مع الأموات. قال تعالى: ? وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ? (سورة ق: آية 19)وما أنت إلا أيام أيها الإنسان كلما مر يوم نقصت وقربت من أجلك ? قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? (سورة الجمعة: آية 8) ستخرج راضياً أو كارهاً، وسيخرج الملوك والرؤساء والأغنياء كما خرجوا في الأمم الماضية, وكما يخرج الأفراد والفقراء والضعفاء, وستخرج كل الشعوب كما خرجت من قبل, فليس الناس إلا عبيداً لمن أحياهم وأماتهم بدون إذن منهم أو اختيار. وستترك مالك وسلطانك وأهلك وأحبابك وعلمك وعملك وخبرتك وصحتك وجمالك, وسيعود جسدك إلى ما بدأ منه، وستأتي اللحظة التي ينسلخ فيها لحمك عن عظامك وتتمزق فيها عروقك وأحشاؤك وسيصبح هذا الجسد الحي أمامك قليلاً من العظام تحت كتلة من التراب وسيطول بك المقام كما طال بسابق الأقوام فهل سألت نفسك عن حقيقة مصيرك الدائم وهل فهمت ما سيكون من أمرك في مستقبلك الطويل؟!.(1/11)
إنك ومن في الأرض من الدول والشعوب تبذلون أقصى الجهود لتأمين مستقبل يعد بالسنين ولا يلبث أن تنتهي أعوامه وأيامه! فماذا أعددت لمستقبلك الدائم وهل هناك مستقبل؟ وهل هناك حياة بعد هذه الحياة؟ وهل ترتبط تلك الحياة بهذه الحياة؟ وما هو طريق الفوز والنجاة؟ وما الذي يؤكد لنا هذه الأخبار؟ إن الذي خلقنا أول مرة من تراب ليس بعسير عليه أن يبعثنا مرة أخرى بعد أن نعود تراباً. إن الذي ظهرت حكمته من خلقنا وأطوار خلقنا لا شك أنه قد أراد حكمة من موتنا ستظهر إن انتقلنا إلى طورنا الجديد بعد الموت.. إن الذي أتقن خلق الإنسان من نطفة تمنى لن يتركه يذهب سدى.. إن الذي أقام الحق في الأرض والسماء سيقيم الحق فيما عمل الإنسان من خير وشر فيجزي المحسن ويعاقب المسيء في يوم الحساب.. إن الذي بعث الرسل مبشرين ومنذرين من يوم الحساب بعد الموت في كل أمة لن يخلف وعده وسيصدقه رسله.. إن علامات قرب الساعة قد ظهرت في الدنيا كما أخبر محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فما بقي إلا أن نرى الساعة كما رأينا اليوم علاماتها. ولقد ثبت أن الأرض تحتفظ بسجل لأعمالنا (الصوت والصورة) وما حفظ وسجل إلا لعرضه مرة ثانية. قال تعالى: ? إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا?( سورة الزلزلة: آية ا- 4).
إن الذي يبدأ الخلق ثم يعيده قادر على إعادة خلقنا مرة ثانية كما بدأه أول مرة.
إن الأمر خطير إذن... إنه أمر المستقبل الدائم والمصير الدائم.
إما حياة النعيم... أو حياة الجحيم.(1/12)
ولن يزول عنك الخوف من مستقبلك المجهول إلا إذا تحققت من صدق رسل ربك وتأكدت أن ما أخبروك به هو الحق من ربك الذي أحياك ويميتك ويبعثك وعندئذ تهدأ خواطرك وتسعد حياتك، ويذهب عنك القلق والفزع من المصير المجهول الذي ينتظرك ولكن ذلك كله لن يكون إلا إذا آمنت بالله ورسوله لذلك كله كان أول واجب على الإنسان أن يؤمن بالله تعالى وأن يعرف رسول الله إليه.
أعظَمُ صلة
إن الإنسان العاقل يحس وشعر بضعفه أمام قوة خالقه الذي يتصرف به كيفما يشاء، فربه الخالق المالك وهو المخلوق المملوك، وربه القوي العزيز الوهاب وهو الضعيف الخائف المحتاج، وربه الغني وهو الفقير، وربه الحاكم المسيطر القهار، وهو المستسلم الخاضع لحكم ربه، والإنسان حائر متردد جاهل وخالقه العليم الهادي المرشد الذي علم الإنسان ما لم يعلم. فما أحوج المخلوق المملوك الضعيف الخائف إلى خالقه المالك القوي المؤمن العزيز الوهاب.
وما أحوج الإنسان الفقير الخاضع المستسلم إلى ربه الغني الحاكم المسيطر القهار.
وما أحوج العبد المتردد الحائر الجاهل إلى إرشاد سيده، المرشد الهادي العليم.
إن الإنسان في أمَسّ الحاجة لتحقيق صلة دائمة بربه فإن حققها أمن المخاوف وعاش في ظل رعاية ربه، واثقاً مطمئناً سعيداً، كما يشاهد في أحوال المؤمنين الصادقين وكما عرف من تاريخ المسلمين الصادقين. لكن هذه السعادة وهذه الرعاية والألطاف الإلهية، والنصر والتثبيت لا تتحقق إلا بعد تحقق أهم صلة بين المخلوق وخالقه تلك هي صلة إيمان المخلوق بخالقه.
لذلك كان لا بد من الإيمان بالله وكان لا بد من الإيمان برسوله لأنه المرشد إلى تفاصيل تلك الصلة.
وهكذا نعرف أن أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه ورسول ربه إليه.
نُورٌ يُبَدِّدُ الظَّلاَم
- من لا يعرف خالقه فهو يعيش في الظلام.
- من لا يعرف مالكه المتصرف بأمره كيف يشاء فهو يعيش في الظلام.
- من لا يعرف الحكمة من خلقه ووجوده فهو يعيش في الظلام.(1/13)
- من لا يعرف الهدى والنور الذي جاء به من ربه فهو يعيش في الظلام.
- من لا يعرف مصيره الذي يسير إليه كل يوم وينتقل بالموت إليه فهو يعيش في الظلام.
- من لا يعرف الطريق للعيش في ظل رضى ربه ورعايته يعيش في الظلام.
- من لا يعرف الطريق للخروج من هذه الظلمات فسيبقى في الظلمات ليس بخارج منها.
وإذا تأمل العاقل وتفكر فسيجد أن حاجته للهدى والنور الذي يخرجه من هذه الظلمات مقدم على كل الحاجات.
وإذا تفكر العاقل في شأن خالقه فسيرى أنه سبحانه قد هدى كل شيء إلى وضعه الأمثل الذي يتناسب مع خلقه وتكوينه فترى كل عرق وكل عصب في جسم الإنسان وكل عضو وكل جزء وكل جهاز فيه قد خلق على الوضع المناسب وهدي إلى الأمر الذي يتناسب مع خلقه وتكوينه وكذلك كل أجزاء النباتات من عروق وأوراق وزهور وأغصان وثمار وكذلك كل أعضاء وأجزاء الحيوان وكذلك أجزاء الأرض من ماء وهواء وتراب وجبال وليل ونهار وصيف وشتاء وخريف وربيع وكذلك كل نجوم السماء وكواكبها فكل شيء قدَّر خلقه وهدى إلى ما يناسب ذلك الخلق لأن خالقه هو ? الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى? (سورة الأعلى: آية 2- 3) وهو ? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى? (سورة طه: آية50).(1/14)
وإذا تأمل العاقل في هذا وجد أن الخالق قد هدى ما هو أصغر منه وما هو أعظم فيستنتج عقله أنه ربه الهادي لم يتركه بغير هدى. وإذا تأمل العاقل في خلقه وتكوينه يجد أن الله قد خلقه محتاجاً إلى الهواء فوفر له الهواء وخلقه محتاجاً للماء فوفر له الماء، وخلقه محتاجاً للضوء فكفاه بالضوء وخلقه محتاجاً للطعام فكفاه وخلقه محتاجاً للملابس والفراش فخلقه وخلقه محتاجاً للدم واللحم والعظام والأسنان وسائر أجزاء جسمه فخلق له كل ما يحتاج إليه، وخلقه محتاجاً لطرد الفضلات من جسمه فهدى تلك الفضلات إلى طريقها، وإذا كان الخالق قد هدى أصغر أجزاء الإنسان فلا يشك العاقل أن خالقه بعد ذلك سيتركه بدون هدى. إن الإنسان في أمس الحاجة إلى نور يخرجه من ظلمات الجهل والحيرة والضياع والقلق والشك في أهم أمور حياته ووجوده. إن الإنسان إذا صنع آلة لا يرسلها إلا وقد أتبعها بمن يشرح للناس الحكمة من صنعها وكيفية عملها، وخالق هذا الإنسان لا يمكن أن يترك الإنسان بدون بيان أو هدى، ولقد جاءنا من ربنا النور والهدى ولكن الكافر يتعامى ويتبع الهوى. قال تعالى:? قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? (سورة المائدة: آية 15-16).
فما من أمة إلا وقد أرسل إليها رسولاً, قال تعالى:? وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ? (سورة فاطر: آية 24). وتاريخ البشر المدوّن يشهد أنه ما من أمة إلا ولها دين، سواء كانت على أصله الصحيح أو قد حرفته الأيام.(1/15)
فلا عذر لمعتذر فقد جعل الله لعباده نوراً يخرجون به من الظلمات إلى النور وأرسل هذا النور مع رسله الكرام لإيصاله إلى عباده فلا تبقى حجة لمن أصر على العيش في الظلام قال تعالى: ? رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ? (سورة النساء: آية 165).
وهذه الحجة قائمة في هذا الزمان... هذا هو القرآن تبثه في الآفاق عشرات المحطات الإذاعية والتلفزيونية سليماً كما أنزله الله، قد حفظه الله من كل تحريف، وهذا هو القرآن، قد حفظ في الصدور، وتجمعت جهود العلماء في كل زمان للعناية بحفظه وتعليم كل علومه، فما هو عذر الذي لا يزال يعيش في الظلام وما عذره يوم يسأله ربه كما أخبر تعالى: ? حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? (سورة النمل: آية 84).
إن في الهدى الذي جاء من ربنا جواباً كاملاً على كل أسئلة الإنسان، وفي هذا الهدى شفاء لما في الصدور، وفي هذا الهدى الإقناع الكامل لأهل العقول.
ولقد أقبل أهل العقول على هدى ربهم فعرفوا أنه الحق ? وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ? (سورة سبأ: آية 6).
وهكذا استجابوا بعد أن عرفوا وعلموا فأي عذر للتخلف عن الإيمان بعد أن استجاب غيرهم للحق لما عرفوه. قال تعالى: ? وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ? (سورة الشورى: آية 16).
نُور يأخُذ البَاحِثينَ(1/16)
وكما استجاب العقلاء لنور الله، فإن الباحثين من قادة العلوم المعاصرة في الشرق والغرب قد عادوا إلى رحاب الإيمان بالله بعد أن نفّرهم الرهبان والقسس والكهنة من الدين، لأن القسس أرادوا أن يفرضوا الدين الذي حرفوه وبدلوه على عقول الباحثين بالقوة فنفروا من الدين كله , ولكنهم كلما حاولوا الفرار من الإيمان بالله قابلتهم أنواره وتكشفت لهم آياته وكلما لفّقوا نظرية لنصر الإلحاد كشف الله لهم عن حقائق تعصف بتلك النظرية الزائفة فأرغمتهم الآيات الربانية أن يعودوا دعاة للإيمان به بعد أن كانوا دعاة للإلحاد. ومن المؤسف أن كثيراً من الناس في بلاد المسلمين قد خدعوا بنظريات الإلحاد التي كان يروّجها هؤلاء الباحثون لصد الناس عن الدين وعن الإيمان بالله، ولا زالوا بتلك النظريات مخدوعين، وعلموا أن الباحثين ما فعلوا ذلك إلا فراراً من دين قد حرّفه القسس والرهبان وكذبوا على الله، وما علم هؤلاء المغرورون أن محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد جاء بالبيان لما حرفوه وبدلوا، وأنه قد أشار إلى الباطل الذي لبس على النصارى به في دينهم قبل أن يكتشف الباحثون ذلك الباطل بقرون عديدة. وما علم هؤلاء المغرورون وخاصة في بلاد المسلمين أن قادة البحوث العلمية في الشرق والغرب قد أصبحوا من الذين ينددون بالإلحاد وأباطيله، وأن الكثير منهم قد أصبح من دعاة الإيمان بالله، وإليك بعض أقوال هؤلاء الباحثين والدارسين في علوم الكون مختلفة:
ا- الدكتور وولتر سكاءلند برج:(1/17)
وهو عالم في الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية، حاصل على درجة الدكتوراه وأستاذ فسيولوجيا الكيمياء بجامعة فيوتا وأستاذ الكيمياء الحيوية الزراعية فيها وعميد معهد هورمل منه سنة 1949 م وعضو ورئيس جمعيات عديدة لدراسة الطعام وتركيبه الغذائي قال: "أما المشتغلون بالعلوم الذين يرجون الله فلديهم متعة كبرى يحصلون عليها كلما وصلوا إلى كشف جديد يدعم إيمانهم بالله ويزيد من إدراكهم وإبصارهم لأيادي الله في هذا الكون ".
2- وقال أندرو كونواي أيفي:
وهو من العلماء الطبيعيين ذوي الشهرة العالمية في عام 1925 إلى 1946 م قال فيما كتبه تحت عنوان "وجود الله حقيقة مطلقة ":
"ويظهر أن الملحدين أو المفكرين بما لديهم من الشك لديهم بقعة عمياء أو بقعة مخدرة داخل عقولهم تمنعهم من تصور أن كل هذه العوامل سواء ما كان منها ميتاً أو حياً تصير لا معنى لها بعدم الاعتقاد بوجود الله ".
3- وقال هيرشل العالم الفلكي الإنجليزي:
"فكلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدافعة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا وتضامنوا على تشييد صرح العلم وهو صرح عظمة الله وحده ".
4- ويقول الدكتور (ووتز) الكيماوي الفرنسي:
"إذا أحسستُ في حين من الأحيان أن عقيدتي بالله قد تزعزعت وجهت وجهي إلى أكاديمية العلوم لتثبيتها".
5- وقال الدكتور ماريت ستانلي كونجدن:(1/18)
وهو عالم طبيعي وفيلسوف حاصل على دكتوراه من جامعة بورتون وأستاذ سابق بكلية ترتيتيسي بفلوريدا وعضو الجمعية الأمريكية الطبيعية وأخصائي الفيزياء وعلم النفس وفلسفة العلوم قال: "إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه ويدل على قدرته وعظمته وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر الكون ودراستها حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته ذلك هو الله الذي لا نستطيع الوصول إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته ".
6- وقال إدوارد لوتر كبل:
وهو أخصائي في علم الحيوان والحشرات حاصل على دكتوراه من جامعة كاليفورنيا أستاذ علم الأحياء ورئيس القسم بجامعة سان فرانسيسكو ومتخصص في دراسة أجنحة الحشرات والسلامتدو (نوع من الحيوان) والحشرات ذات الجناحين قال بعد أن سرد عدداً من الأدلة على إيمانه:
"ولا يتسع المقام لسرد أدلة أخرى لبيان الحكمة في التصميم والإبداع في هذا الكون ولكني وصلت إلى كثير من هذه الأدلة فيما قمت به من البحوث المحدودة حول أجنحة الحشرات وتطورها وكلما استرسلت في دراستي للطبيعة والكون ازداد اقتناعي وقويَ إيماني بهذه الأدلة، فالعمليات والظواهر التي تهتم العلوم بدراستها ليست إلا مظاهر وآيات بينات على وجود الخالق المبدع لهذا الكون".
لقد كشف الله للباحثين الآيات والأدلة على وجوده سبحانه كما كشف لهم أيضاً عن عجائب القرآن الكريم ومعجزات الرسول عليه الصلاة والسلام ما يقنعهم بنبوته ورسالته (1) وهذه مواكب الإيمان بالإسلام من الدارسين والباحثين في الشرق والغرب (2) ولا تزال هذه المواكب تتزايد يوما بعد يوم.(1/19)
وهذه المراكز الإسلامية قد أُنشِئت في كثير من البلاد الأوروبية وأمريكا ومما يزيد الثقة بهذا الدين أن الذين يدخلون فيه يدخلونه على علم وبينة وأن الذين يخرجون منه يخرجون على جهل.
اقترابُ الحِسَاب
وإذا كنت أيها العاقل بحاجة إلى الإيمان كما سبق البيان فأنت بحاجة إليه لتنجو من العذاب بالنيران وتكون من أهل الجنان ولأن عدل الخالق- سبحانه- يأبى التسوية بين المسلمين والمجرمين. ولأن خالق السماوات والأرض بالحق لا بد أن يقيم الميزان في كل قضايا الإنسان ولأن الذي حفظ خلقك ورعاك وأنت نطفة صغيرة لن يضيعك سدى.
ولأن هذا الطور الناقص من حياة الإنسان لا يكمل وتظهر الحكمة منه إلا بالحياة الأخرى ولأن ما تحتفظ به الأرض من سجلات لا بد من عرضه مرة ثانية (3)
ولأن مطامع الإنسان لا تشبع إلا بما أعد لها الخالق في الآخرة لأنها قد خلقت للآخرة ولأن الذي يبديء ويعيد وقد بدأ الخلق أول مرة يسهل عليه أن يعيد الخلق مرة ثانية ولأن الذي كتب الموت والحياة قد أرسل الرسل الصادقين وأيدهم بالدلائل والبينات فأخبرونا عن المصير وعن عذاب الله للعصاة في نار وقودها الناس والحجارة، كما أخبرونا عن السعادة الكبرى في جنة عرضها السماوات والأرض، ولقد أخبرنا الرسول محمد- عليه الصلاة والسلام- بأنه خاتم الأنبياء وأن الحساب قد قرب ولقد حدثنا عن علامات قرب الساعة التي ستأتي بعده عليه الصلاة والسلام فرأيناها الآن قد بدأت تظهر وما كان أحد ليصدق في الزمن الماضي بأنها ستقع لولا أن الذي أخبر بها هو رسول الله بتعليم من ربه ونحن اليوم نراها كما أخبرنا رسول الله وغداً يرى أهل النار ما وعدهم ربهم كما يرى أهل الجنة صدق ما وعدهم ربهم. وهذه بعض العلامات التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ا- ظهور العجائب التي لا تخطر على بال:(1/20)
هذا هو زمن العجائب في المخترعات و المباديء والأخلاق والتنظيمات وفي هذا الزمان شاهدنا من عظائم الأشياء ما لم يكن يخطر لنا على بال، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الزمان حتى لا تضطرب أفكارنا وتطيش مع الأمور العظيمة أفئدتنا فقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " لا تقوم الساعة حتى تروا أموراً عظاماً لم تكونوا ترونها ولا تحدثون بها أنفسكم " (4). وقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: " سترون قبل أن تقوم الساعة أشياء ستنكرونها عظاماً تقولون: هل كنا حدثنا بهذا فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله تعالى واعلموا أنها أوائل الساعة" (5).
2- الحفاة العراة رعاة الغنم العالة سيشيدون العمائر المتطاولة:
لا يصدق إنسان من غير المؤمنين أو جاهل بالحديث أن راعي الغنم الحافي الذي لا يملك الحذاء ولا الملبس ولا الطعام يتمكن من بناء العمائر الضخمة ويطاول غيره في البناء حتى رأينا البترول يخرج من أرض الحفاة الرعاة العالة فإذا هم يتطاولون في البنيان، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بهذا قبل وقوعه بقرون فقال صلى الله عليه وسلم:
"إذا رأيت الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان فانتظر الساعة" (6).
3- زخرفة البيوت كما تزخرف الأثواب:
ما كان أحد من السابقين يتوقع أن يبذل الناس جهداً لزخرفة الجدران والبيوت وتخطيطها كما تخطط الثياب لما يسبب ذلك من كلفة ولأن ذلك ليس بالأمر الضروري حتى جاء هذا الزمان ورأينا الزخرفة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشونها وشي المراحيل " (7) والمراحيل هي الثياب المخططة.
4- تقريب أجزاء الأرض:(1/21)
ما كان يخطر ببال أحد أن أجزاء الأرض ستقرب وتزوى حتى يتمكن المشاهد أن يشاهد في مرة واحدة تلك الأجزاء المتباعدة كما حدث ذلك لرسول اله صلى الله عليه وآله وسلم وكما أخبر فقال: "زُويت لي الأرض فأُريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي مقدار ما تزوى لي منها" (8).
أو كما قال ولقد أخبر الرسول الكريم أن الأرض ستزوى في أواخر الزمان فقال: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان وتزوى الأرض زياً". فهذه الأرض قد زويت فرأى راكب الصاروخ مشارقها ومغاربها ورأى الناس معه ذلك، وهذه المسافات قد اختصرت وهذا من زوى الأرض وتقارب الزمان وهذه الأصوات قد سمعت من الأماكن البعيدة والصور قد انتقلت وهذا من زوى الأرض وتقارب الزمان وهذه علامات الساعة كما أخبر الرسول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم.
5- حديث السباع ونطق الجماد ونقل أخبار الزوجة إلى زوجها:(1/22)
هل يمكن للسباع أن تتكلم؟ هذا مستحيل بالنسبة لمن عاشوا قبلنا... لكنها اليوم قد بدأت الكلام وهذه القطط قد بدأ بعضها يفصح... وغداً تلحقها السباع... لكن هذا من علامات قرب الساعة هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغداً تقع الساعة كما وقعت اليوم بعض علاماتها وكذلك ما كان أحد يصدق أن الجماد سيتكلم لكنه الآن ينطق وبعد أن نطق الجماد، وكان من البعيد جداً أن يتمكن الجماد من التعرف على أحوال المنزل ونقل أخباره إلى الزوج بعد مغادرته بيته حتى تمكن الباحثون من صنع جهاز للتنصت ينقل الأخبار من أي مكان إلى حامل هذا الجهاز وذلك بواسطة توجيهه على موجة معينة وغداً يطور هذا الجهاز فيحمل في النعل في شكل عذبة سوطة التي تتحدث كما قد شاهدنا المذياع (الراديو) قد صنع في شكل نظارة ولكن هذا أيضاً من علامات قرب الساعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره بما أحدث أهله من بعده " (9) وهذا هو حديث السباع ونطق الجماد وهذا من علامات قرب الساعة.
6- نهضة علمية مع جهل بالدين:
كان السائد أن القراءة إذا كثرت دلت على كثرة الفقه وأن الأمراء إذا كثروا، كثر فيهم الأمناء لأن الإمارات والولايات يتحرى فيها الأمانة، لكن آخر الزمان قد جاءنا بالعكس من ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: "من اقتراب الساعة كثرة القراء وقلة الفقهاء وكثرة الأمراء وقلة الأمناء" (10).
ولقد كان العلم دليلاً على قوة الدين والجهل دليلاً على ضعف الدين ولكن العكس هو الذي يكون في آخر الزمان كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "يكون في آخر الزمان عبّاد جهّال وقرّاء فسقة" (11).
7- وفرة الأموال واتساع التجارة وكثرة القراءة والكتابة:(1/23)
قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أشراط الساعة أن يفشو المال وتفشو التجارة ويظهر القلم " (12) وظهور القلم دليل على كثرة القراء والكتّاب.
8- تعرّي النساء وتمايلهن وجعل الرؤوس كأسنمة الجمال:
ما كان يخطر ببال أحد أن نساء المسلمين سيعملن على التعري والتمايل واتخاذ كل وسيلة تثير شهوات الرجال. لكن حركة التعري مشاهدة رغم وفرة الملابس فهذه الملابس الضيقة تجعل المرأة كأنها عارية وهذه الملابس الخفيفة الكاشفة تعري الجسم من خلف الكساء الشفاف وهذه الملابس القصيرة تكشف قدراً كبيراً من جسم المرأة رغم وفرة القماش والكساء الذي يكسو ما كشف، وهذه حمّامات السباحة المختلطة تشاهد فيها المرأة، وقد تجردت من ثيابها وكسائها وعرت جسمها إلا الفرج وبعض الثديين!! فهؤلاء هن الكاسيات لكنهن العاريات، ولقد تعمدت أغلب النساء أن يلبسن حذاء بكعب عال يجعل جسم المرأة مائلاً من الخلف إلى الإمام فتميل رؤوس المفتونين وقلوبهم مع ميل قلوب النساء وتمايل أجسادهن ومع هذا التعري والتمايل تلك التسريحات المختلفة التي تجمع الشعر، وكأنه سنام جمل يتمايل ولقد كشف هذا الرسول عليه وآله الصلاة والسلام فكانت الكلمات كأنها تقاطيع الصورة المشاهدة فقال: "صنفان من أمتي في النار لم أرهما؟ قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات. مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائل " (13).
9- تشبه الرجال كالنساء والنساء كالرجال:
ما كان يخطر على بال أحد من السابقين أن الرجال سيتشبهون بالنساء وبالعكس وخاصة في جو النخوة القبلية الذي يئد البنت حية تخلصاً من عارها، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بذلك ويخبر أنه عن علامات قرب الساعة فقد قال: "من اقتراب الساعة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال " (14).
10- تربية الكلاب وكراهية تربية الأولاد وظهور الفاحشة:(1/24)
وما كان أحد يتصور أن الناس سيكرهون تربية أولاد من أصلابهم ويقبلون على تربية الكلاب وخاصة في بيئة عربية قبلية تفاخر بالأبناء وكثرتهم.
لكنها النبوة قد كشف الله لرسوله بها حجب الزمان، وأخبر أن ذلك من علامات آخر الزمان فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "إذا اقترب الزمان لأن يربي الرجل جرواً (15) خير له من أن يربي ولداً له، ولا يوقر كبيراً ولا يرحم صغيراً، ويكثر أولاد الزنى حتى إن الرجل ليغشى المرأة على قارعة الطريق, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أمثلهم في ذلك المداهن " (16).
هذه بعض العلامات قد شاهدناها، وقد أخبرتنا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكثير ورأينا منها الكثير والذي أخبرنا عن أمارات الساعة قبل ظهورها بقرون فرأيناها كما أخبر، هو الذي اخبرنا عن الساعة وأمرها وأحوالها مما يحث العاقل ويدفعه إلى أن يتفكر في مصيره الذي أخبره به الرسل الكرام صلى الله عليهم أجمعين، كما سيدفعه ذلك إلى أن يتفكر في أمر هذه الدنيا التي يعيش فيها.
الدّنيَا وَحَقيقتهَا(1/25)
إذا تأملت إلى ما مضى من عمرك، فستعرف قيمة هذه الحياة لأنك إذا أشرفت على حافة قبرك وتذكرت حياتك التي تنتهي باحتضارك ستعرف عندئذ أنك لم تكن فيها إلا عابر سبيل كما أخبرك الرسول الكريم بقوله: " عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " فهل أعددت أيها المسافر ما يلزمك لدار النزول أم أنك انشغلت بجمع الفائض عن حاجتك و أهملت كل ما تحتاجه غداً.. سل نفسك ما الذي تنتفع به عملياً مما تصارع من أجله ليس لك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وستخرج تاركاً كل شيء. لو اجتمع من عاشوا في الأرض من قبلنا لرأينا آلاف الأشخاص يتنازعون على قطعة أرض واحدة كل يدعي أنه قد ملكها واحتجزها وكانت ضمن ممتلكاته!! فمن المالك الحقيقي؟ قال تعالى: ? وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ(23)وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ(24)وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ? (سورة الحجر: آية 23- 25)
لو فكرت كثيراً في أمرك وعرفت خالقك ورسوله إليك لعرفت عندئذٍ أن هذه الدنيا ما هي إلا دار ابتلاء وامتحان يتعاقب عليها الناس ليتميز عليها المطيع لربه من العاصي ثم يخرجون منها كما دخلوا إليها ? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ? (سورة الأنعام: آية 94).
ولو عرفت الآخرة وحقيقتها لعملْتَ واشتقت للعيش فيها وأنقذت نفسك من أخطارها.
الدّار الآخِرَة(1/26)
وإذا كانت الدنيا أياماً منقضية، فإن الآخرة حياة باقية خالدة، وإذا كانت الدنيا قد مزجت بالشقاء فإن الآخرة قد خلصت للنعيم قال تعالى: ? وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ(31)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ(32)مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ(33)ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ(34)لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ? (سورة ق: آية 31- 35).
لكن الكافرين بربهم لهم عذاب شديد، فإذا وقفوا لديه طلبوا من ربهم أن يعيدهم مرة أخرى إلى الدنيا ليعملوا صالحاً غير الذي كانوا قد عملوا فيرد عليهم بأنهم قد أُعطوا مهلة كانت تكفي لكي يتذكروا وقد جاءهم من ينذرهم فما خافوا يوم لا يكون لهم نصير قال تعالى: ?لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ? ( سورة فاطر: آية 36- 37) .
الإيمَان طَريق العَمَل
للفَوز وَ النجَاة
لكنك أيها العاقل لن تتمكن من السعي الصادق للفوز بالنعيم الدائم عند خالقك كما أنك لن تتمكن من اتخاذ ما يلزمك للنجاة من العذاب الأليم في الدار التي تسير نحوها كل يوم إلا إذا كنت مؤمناً صادقاً في إيمانك قد خرجت من شك المرتابين الذين قال الله تعالى عنهم: ?وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا?(سورة الجاثية: آية 32).(1/27)
فلا بد من الإيمان... ولا بد من الأدلة التي يقوم عليها بناء الإيمان... وما أكثر الأدلة ولكن أين أهل العقول؟ وأين أهل القلوب السليمة؟؟.
العِلم طَريق الإيمَان
وإذا صدق الإنسان مع نفسه، وعلم أن أهم أمر في هذا الوجود، هو أن يعرف ربه ورسول ربه، وأن ذلك هو الطريق للسعادة في الدنيا والآخرة، فلا بد له من السعي لتعلم أدلة الإيمان وحججه، فقد جعل الله العلم هو طريق الإيمان به فقال تعالى: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ? (سورة محمد: آية 99).
وقال سبحانه وتعالى: ?أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? (سورة الرعد: آية 19).
خَطر التقليد في الإيمَان(1/28)
لقد بين الله سبحانه وتعالى أن التقليد للآباء بدون علم من الصفات المذمومة التي ذم بها الكافرين فقد قال تعالى: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ? (سورة البقرة: آية 170) وبين أن الطريق إلى الإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو العلم وأن الذي لا علم له في إيمانه أعمى، والأعمى يمكن أن يقاد إلى أي اتجاه من أي شخص قال تعالى: ?أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?(سورة الرعد: آية 19)ولذلك سهل على المسلم المقلِّد الأعمى في إيمانه أن يستجيب لأية دعوة ولأية فكرة لأنه أعمى وبقيام إيمانه على التقليد فقدَ حقيقة الإيمان وحُرم نوره فانعكس هذا على أعمال المقلِّدين من المسلمين وعباداتهم يعبدون الله على حرف ويقيمون جوانب من الإسلام، ويتخلون عن أخرى لأنها شاقة عليهم أو لأنهم مهزوزون في إيمانهم، قال تعالى:? وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ? (سورة الحج: آية11).
وهذا الإيمان التقليدي لا يثبت أمام شكوك المشككين في هذا الزمان وقد جاءتنا فتن لا ينجو منها إلا من عرف دينه كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن لا ينجو منها إلا من عرف دينه".
الإيمَان طَريق السَّعَادة
ويزيد بالأعمال الصّالحة(1/29)
فمن أراد السعادة لنفسه، وإنقاذاً للبشرية فعليه بالإيمان.. ومن أراد حياة صالحة وأعمالاً صالحة في الدنيا فعليه بالإيمان لأن العمل الصالح ثمرة من ثمار الإيمان ومن أراد السعادة في الآخرة والنجاة من العذاب فعليه بالإيمان، ومن حصل على الإيمان، عن علم وبصيرة، فعليه أن ينِّميه ويحميه بالأعمال الصالحة لأن الإيمان "يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي " هكذا أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
الحَضَارَة في مَأزق
ولا مخرج لها إلاّ بالإيمان
يعيش الإنسان اليوم في ظل الحضارة الكافرة، ضائعاً دون أن يجد لحياته معنى أو حكمة فقد تعلم من الحضارة كيف يعيش، لكنها لا تخبر أحداً لماذا خلق؟ ولماذا يعيش؟ فمثل الحضارة المعاصرة كمثل صاحب سفينة قد أتقن صناعة سفينته وزينها ودعا الناس لركوبها (وارتفع صوته في ترغيب الراكبين) وشرح ما أعد لهم على سفينته من متاع وأخذ يبين لهم كيف يأكلون، وكيف يشربون، وأين ينامون، وأين يلعبون، وكيف يلبسون، وأين يقضون حاجاتهم... وأين... وأين... وكيف... وكيف... وإلى أين تذهب سفينتك؟ أجاب لا أعلم؟!.
وهكذا حضارة اليوم تعلم الإنسان كيف يعيش... ولكنها لا تعرف لماذا يعيش الناس!! وما الحكمة من وجودهم. ولا مخرج للناس من هذا الضياع في هذه الدنيا إلا بالاتصال بخالقهم الذي خلقهم، لأنه وحده الذي يعلم لماذا خلق الناس... لأنه خلقهم لحكمة في نفسه ولا يعلم المخلوق ما في نفس خالقه إلا بتعليم من خالقه (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك).
وما لم يعرف الإنسان خالقه فسيبقى في نظرته أقل شأناً من ورقة وأحقر من خنفسة.(1/30)
- ومن سمات الحضارة المعاصرة القلق المخيف الذي يزعزع حياة الأفراد والجماعات ويدفع إلى الانتحار أو الإدمان على المخدرات أو السلوك المجنون العابث الذي يملأ النفوس من القلق، وسبب القلق والخوف غياب الاطمئنان إلى الحياة التي يحياها الإنسان لأن كل ما يتصرف به الإنسان ليس في دائرة ملكه الحقيقي لأنه لم يخلق شيئاً وهو لا يعرف المالك الحقيقي..
ولأن الموت الذي يفجؤه يحطم ويهدم كل أمانيه وينقله إلى مصير مجهول فحاله كحال من فرض عليه النوم في طريق السيارات!!.
- ووجود الاختلاف هي الآراء والمذاهب بين الناس لا مفر منه إذا عاش الناس بعيداً عن هدى الله. ولا مخرج إلا بالإيمان.
- ووجود الصراع بين الناس ثمرة من ثمار الكفر ولا مخرج منه إلا بالإيمان.
- وتتميز الحضارة المعاصرة بالظلم والاستغلال لأن الحكام الذين يصدرون القوانين المتحكمة بالناس سواء في البرلمانات الديمقراطية، أو اللجان المركزية الحزبية يجعلون تلك القوانين خادمة لمصالحهم محققة لشهواتهم. فرأينا الشعب الأمريكي يُسخر لتحقيق مصالح الرأسماليين الذين يعرفون كيف يفوزون في الإنتخابات.
ورأينا الشعب الروسي يُسخر لتحقيق مصالح وأهواء اللجنة المركزية وقيادات الحزب الشيوعي وأفراد الحزب الذين يتمتعون بامتيازات خاصة، ويعرفون كيف الطريق لقهر الناس وفرض الستار الحديدي عليهم، وعلى هذين النمطين تقاس باقي أنماط الحكم الكافرة، ولا يمكن أن يذهب الظلم والاستغلال من حكم الإنسان إلا إذا نزع الحكم من يده، وكان التشريع من الخالق الحق الذي لا ينحاز لطبقة أو فئة أو قومية أو جماعة والإنسان مملوء بالأهواء والشهوات. ولا يمكن أن ينزع منه أهواوءه وشهواته لكنه من الممكن أن ينزع منه الحكم، وتقربه للذي خلق، الذي لا يظلم.(1/31)
أما الشريعة الإسلامية وعدالتها وصلاحيتها فقد بهرت بمزاياها الدارسين للقوانين من غير المسلمين فما وسعهم إلا أن شهدوا بما علموا. وفي شهاداتهم ما يحث قومهم على أن المخرج لهم من مأزق حكم الأهواء والمصالح والجهالات، والفساد البشري لا يكون إلا بالشريعة الإسلامية، وفي شهادة هؤلاء المتخصصين القانونيين حجة بالغة على المسلمين الذي لا يقيمون الشريعة العادلة بينهم...
وإليك قول بعضهم:
1- يقول "هوكتنج":
أستاذ القانون بجامعة هارفارد في كتابه (روح السياسة العالمية) عام 1932م :(إن سبيل تقدم الممالك الإسلامية ليس في اتخاذ الأساليب الغربية التي تدعي أن الدين ليس له أن يقول شيئاً في حياة الفرد اليومية وعن القانون والنظم السماوية و إنما يجب أن يجد المرؤ في الدين مصدراً للنمو والتقدم وأحياناً يتساءل البعض ما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أحكام جديدة وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تطلبه الحياة العصرية؟ فالجواب عن هذه المسألة: هو أن في نظامه كل استعداد داخلي للنمو لا بل إنه من حيث قابليته للتطور يفضل كثيراً من النظم المماثلة والصعوبة لم تكن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي، وإنما في انعدام الميل إلى استخدامها وإني أشعر بكوني على حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المباديء اللازمة للنهوض).
2- يقول "شترل " عميد كلية الحقوق في جامعة (فيينا): فقد أعلن في مؤتمر الحقوقيين عام 1927 م قوله:( أن البشرية تفخر بانتساب رجل كمحمد لها إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي (17) بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما
نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة).
3- وأما المؤتمر الدولي الذي انعقد في لاهاي أيضاً (أغسطس1937م) فقد أعلن ما يلي:(1/32)
أ- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام، أي: أن الشريعة الإسلامية قد أصبحت مصدراً للمحاكم الدولية والقوانين الدولية لا لقوة أهلها ولكن لصلاحيتها وقوتها الذاتية التي فرضت نفسها.
ب- وأصدر المؤتمر إعلاناً بأن الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها مستقلة عن غيرها.
4- أما أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس (عام 1952 م) فقد وقف فيه نقيب المحامين الفرنسيين فقال: لا أدري كيف أرفق بين ما كان يصور لنا من جمود الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي وعدم صلاحيتها كأساس لتشريعات متطورة وبين ما سمعته مما يثبت من غير شك فاعلية الشريعة الإسلامية عن عمق و أصالة ودقة وكثرة تفريع وصلاحية لمقابلة جميع الأحداث.
5- وأما جمعية القانون الدولي العام فقد اعتبرت محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة الرائد الأول للقانون الدولي العام, ما حكمك أيها العاقل.. لو رأيت جماعة من الناس في بلد ما قد حولت السيارات للحراثة, وحولت الحراثات للنزهة هل تشك في ضلال ما فعلوا؟!.
وهكذا فعل الإنسان في هذه الأيام حوّل الرجال نساء والنساء رجالاً تارة عجباً عندما جعل الإنسان الذي كرمه ربه حيواناً من نوع الخنافس!! بعد أن أفسد نظام الأسرة و الأخلاق, تلك مآزق الحضارة المعاصرة وهي ثمرة الكفر الذي تلبس بها: ضياع, وقلق.. واختلاف وصراع, وظلم واستغلال وفساد وانحطاط.. لذلك لا بد من الإيمان لإنقاذ المسلمين من أمراضهم التي أصيبوا بها بعد أن أصيبوا في إيمانهم وإنقاذ الكافرين من المآزق التي أوقعهم الكفر فيها.. لابد من الإيمان لأن ذلك واجب على المسلمين ووظيفة اتباع ورثة المرسلين.
? رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا? (سورة آل عمران : آية 193)
?(1/33)
رَسَائِل تَثبيت الإيمَان
2
طريق الإيمَان
بقلم الشيخ عبد المجيد الزنداني
قال تعالى : (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
إذا تأملت في خلقك فستجد أن كل جزء فيك قد خلقه خالقك لحكمة معلومة وجعل ذلك الخلق متناسباً مع أداء تلك الحكمة والوظيفة التي خلق من أجلها.
تأمل إلى عينيك إلى أذنيك وإلى معدتك كيف جاءت مطابقة لوظيفتها وكيف هداها لأداء مهمتها فهذه ترى وتلك تسمع والثالثة تهضم الطعام، وقد خلقت جميعاً من طعام واحد.
وتأمل إلى شجرة الرمان أو زرع البر، وشجرة النخل كيف قدر الله لكل واحدة خلقاً خاصاً وثمرة خاصة، وهدى كل واحدة لصناعة ثمرتها الخاصة وأخذ صورتها المحددة في الجذور والأغصان والثمار، والكل من مادة واحدة قال تعالى:? وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ? ( سورة الرعد: آية 4).
وتأمل اختلاف حياة الأسماك والطيور والنمل والجراثيم وسائر أنواع الحيوانات كيف خلقها الله من مادة واحدة وقدر لها الحياة في أماكن مختلفة وبطرق متفاوتة ولكنه هدى كل حيوان إلى ما يناسبه ويناسب حياته وأرشد كل جزء فيه لأداء وظيفته فهدى الأجنحة أن تحمل الطير وخياشيم السمك أن تستخلص الهواء للأسماك من الماء وهكذا... قال تعالى:? وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? ( سورة النور: آية 45).(2/1)
فإذا تأملت إلى الشمس والقمر والكواكب والنجوم وجدت كل واحد منها قد خلق بأقدار خاصة وهدي إلى المكان المناسب ورسم له طريق سيره المحكم المطابق لأقداره وأوضاعه، فاتزنت أجرام السماء، قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا? ( سورة فاطر: آية 41) .
فلو زال كوكب أو نجم أو الشمس أو القمر عن مجراه لفسد النظام واختل.
ومن تأمل في هذا الوجود وتفكر علم أن الخالق الذي أبدع خلق كل شيء، قد هدى كل مخلوق إلى ما قدر له قال تعالى:
?سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى? (صورة الأعلى: آية ا-3.).
وقال سبحانه على لسان نبيه موسى: ? قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى? (سورة طه: آية 50).
طريق الإيمان(2/2)
وإذا تفكرنا في شأن الإنسان وجدنا أن خالقه قد منحه قدرة على العلم والمعرفة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع فخلق له الأدوات التي يتمكن بها من تحصيل العلم واكتسابه وتمحيص الحق من الباطل فإن اهتم ببحث الحق وحرص على اتباعه فاز وانتفع وإن تجاهل أمر الحق وخالفه خسر خسراناً مبيناً قال تعالى: ?إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا(4)إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا? (سورة الإنسان: آية 2- 5) وقال تعالى: ? وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? (صورة النحل: آية 78).
وبعد أن قدر الله للإنسان أن يكون عاقلاً مميزاً عالماً مختاراً ومنحه أدوات العلم والتمييز أمره ربه أن يسلك سبيل العلم وأن ينتفع بأدوات العلم لديه. وأن لا يتبع أمراً لا علم له به. وأنه سيكون مسؤولاً عن الانحراف الذي يسير فيه بعد أن خلق له ربه وسائل العلم والمعرفة وتمييز الحق من الباطل.
قال تعالى:? وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا?، (سورة الإسراء: آية 36).
فلا عذر لإنسان بعد ذلك إن هو سلك طريق الضلال، قال تعالى: ? بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ?، (سورة القيامة: آية 14- 15).
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ(2/3)
وإذا كان خالقك هو الذي منحك هذا البصر وأنت قطعة صغيرة من اللحم والدم والأخلاط في بطن أمك، فزودك بآلة إدراك النور، وأنت في الظلمات في بطن أمك وجعلك قادراً بهذا الجهاز على رؤية القريب والبعيد وتمييز الأشياء من حولك فتمكنت من السعي البصير في هذه الأرض وشاهدت ما يأتي إليك وراقبت ما يصدر منك من كل ما يقع تحت رؤيتك.
وإذا كان خالقك هو الذي منحك السمع للأصوات وأنت في عالم السكون في بطن أمك فزودك بآلات السمع الدقيقة المحكمة التي عرفت بها الخطاب الموجه إليك، وعرفك غيرك ما يريد وسمعت بها ما جهلت، وجمعت بها علوم غيرك إلى معلوماتك وبهذه الآلة السمعية تمكن الإنسان أن يتخاطب مع أخيه الإنسان من إنشاء هذه العلاقات التي يرضاها مع غيره كما تمكن من سماع الأصوات المختلفة التي تقع في نطاق سمعه.
وإذا كان خالقك- سبحانه- هو الذي منحك قوة العقل والفهم والوعي والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع، فتميزت بهذا الفؤاد الواعي عن الأنعام التي تشترك معك في السمع والبصر وركب هذا الفؤاد فيك فتمكنت من معرفة ما ينفعك فسخرت به الجبال والبحار، وطوعت به النبات والحيوات، وغصت به في أعماق الماء وطرت به في الفضاء. وحسّنت به عيشك في هذا الدنيا فسعيت لما ينفعك، ونغّصت به عيش خصومك، فوجهت إليهم ما يضرهم. وبغير هذا الفؤاد العاقل تكون في عالم المجانين، فضلاً عن أن تصنع الآلات أو تخترع المخترعات أو تبني المساكن أو تزرع الأرض.
وإذا تأملت أيها الإنسان إلى نتيجة حياتك بدون سمع وبصر وفؤاد عاقل فسترى أنك تعجز أن تنقل نفسك من مكانك إلى مكان آخر يناسبك، وستعجز أن تجد طعامك وشرابك كما تعجز أن تحفظ نفسك من أي خطر يتوجه نحوك من حيوان أو إنسان
وعندئذ يكون الموت أحب إليك من هذه الحياة العمياء الصماء غير العاقلة.(2/4)
وإذا كان الأمر أيها الإنسان كذلك، ألا ترى أن أول واجب عليك هو أن تستخدم هذه الأدوات التي خلقها لك خالقك لتتعلم ما جهلت- في معرفة خالقك ورسوله، والتعرف على مشيئة من خلقك وأوجدك، ولو منع الله عنك السمع والبصر والفؤاد ما تمكن أحد من الناس الذين تعلقت بهم أو أطعتهم أو الأوثان أو الطاغوت بكل صوره أن يهب لك سمعاً أو بصراً.
قال تعالى:? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ? ( سورة الأنعام: آية 46).
وهكذا يرى العاقل أن عليه أولاً أن يستخدم أدوات العلم التي منحها له خالقه في العلم بأمر خالقه والعلم بمرضاته، والعلم بما جاء به رسول ربه إليه قال تعالى: ?فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ? ( سورة البقرة: آية 239)، فنكون بذلك مع المطيعين الشاكرين الذين قالوا: ? سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ? ( سورة البقرة: آية 32).
كما يرى العاقل أن أول واجب عليه هو أن يمتثل لأمر ربه القائل: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ? (سورة محمد: آية 19)(1) فيأخذ عقيدته بعلم ويقين حتى يكون من أهل الإيمان الراسخ الذي لا يتزلزل وليكون من أهل العقول الذين أبصروا بالعلم حقائق الإيمان بالله ورسوله، ويرفع نفسه من درجة العُمي الذين لا يعلمون أن ربهم هو الحق وان رسول ربهم حق قد جاءهم بالحق. قال تعالى: ?أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? ( سورة الرعد: آية 19).
أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ(2/5)
واحذر أيها العاقل أن تكون من الغافلين، من الذين لم يشكروا الذي خلقهم وخلق لهم السمع والأبصار والأفئدة، فلم يستخدموا هذه الأدوات لمعرفة ربهم بل أعرضوا عن رؤية آيات الله في مخلوقاته وعن سماع آيات الله في كتابه. وعن التفكير فيما شاهدوا، وفيما سمعوا من آيات فعطلوا أسماعهم وعقولهم وأبصارهم عن أهم أمر خلقها الخالق من أجله. فتعلقوا بغير خالقهم وعظموا وقدسوا من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فتعلقوا بالأوثان من الأحجار والأشجار أو الكواكب والنيران أو الأبقار والثيران أو الإنس والجن أو الكواكب والنجوم أو البرق والرعد، والمطر أو غيرها من المخلوقات، كما تعلق أهل الوثن الجديد بمجموع الأوثان السابقة وسمَّوها الطبيعة وتذللوا بين يدي المخلوقين وقدسوا نظريات المخلوقين المتبدلة ونسوا الذي أنشأهم وأحياهم و يميتهم ? وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ? (سورة الحج: آية 71). ? وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ? (سورة الأنعام: آية 19ا). و السبب يرجع إلى أنهم غفلوا عن حقائق الإيمان ولم يتعلموها ولم ينتفعوا بالسمع والبصر والفؤاد في تعلم أدلة الإيمان التي ظهرت لكل باحث وعُرفت لكل دارس وتزاحمت أمام كل عالم.(2/6)
فلما غفلوا عن الحق لم يبق إلا الباطل الذي لا دليل عليه ولا برهان ولا يقوم إلا على الوهم والظن ? قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ? (سورة الأنعام: آية 148) فعطل الغافلون أدوات العلم عن معرفة خالقها، وتخبَّطوا في عالم الظنون بعد أن تجاهلوا الحق الذي جاءهم من ربهم فكانوا بذلك ممن يستحق أن تكون خاتمة نشأته في هذه الدنيا هي الدخول في نار جهنم ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ? (سورة الأعراف: آية 179).ويوم القيامة يندمون?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ?( سورة الملك: آية 10- 11).
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ(2/7)
ومما سبق يتبين لنا أن الذي ? عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ?( سورة العلق: آية 5) ومنحه أدوات العلم والمعرفة قد جعل الطريق للإيمان به وبرسوله يأتي عن طريق العلم وباستخدام أدواته والانتفاع بها فخلق فينا أدوات توصلنا إلى الإيمان به عن طريق موثوق هو طريق العلم، قال تعالى: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ? (سورة محمد: آية 19)وقال تعالى: ?أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? (سورة الرعد: آية 19) وقال تعالى: ?كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ?( سورة البقرة: آية 151.) كما حذر سبحانه وتعالى من اتباع الجهل فقال سبحانه: ? وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا? (سورة الإسراء: أية 36)
وبيّن سبحانه أن الجهل يسوق إلى الجحود والكفر فإذا تبعه العناد كان سبباً للطبع على القلب فلا يفقه من الحق الذي جحده ويجهله شيئاً. قال تعالى: ? كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ? (سورة الروم: أية 59).
وباستخدامنا لأدوات العلم لدينا وتوجيهها لمعرفة ربنا ورسول ربنا ندخل في سلك الذين شهدوا لله بالوحدانية وقرنهم المولى في شهادتهم بشهادته سبحانه وتعالى فقال الواحد الذي لا شريك له: ? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ? (سورة آل عمران: آية 18).
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(2/8)
بعد أن عرفنا أن العلم هو الطريق إلى الإيمان، فهيا لنرى بعض التفاصيل التي توضح معالم الطريق.
وسنرى أن الإنسان إذا أراد أن يعرف حقيقة أو يتعلم أمراً مجهولاً لديه فإنه يسلك واحدة من الطرق الثلاث الآتية:
التّأمل وَ التفَكّر
فهو يشاهد الأمر يراقبه ويتفكر فيه أو يجرب ويشاهد ويتفكر ويستنبط الحقيقة التي كانت مجهولة عنده من قبل، فهو يرى أن النار إذا سلطت على الثلج، فإنها تصهره، وقد يجرب ذلك فيستنبط الحقيقة التي كانت مجهولة عنده، والتي لم يرها، فيعلم أن الحرارة تصهر الثلج ويطمئن إلى الحقيقة التي عرفها باستنتاج عقله مما يشاهده.
وقد يرى الريح تهب من جهة معينة ثم يرى أن السحب قد جاءت من تلك الجهة فيستنتج عقله بأن الرياح هي التي تسوق السحب فيطمئن إلى الحقيقة التي استنتجها عقله مما شاهده.
وقد يرى سيارة من بعيد تتحرك في الطريق المعبد فيراها تنحني عند الانحناء وتبطيء حيث يجب أن تبطيء وتسرع حيث يليق بها أن تسرع ويشاهد نورها يضيء لها الطريق فيتفكر ويستنتج أن للسيارة نوراً يضيء لها الطريق، ويدرك بعقله أن أجهز السيارة صالحة للعلم ولتسييرها وأنها تعمل أثناء السير كما يرى، وأنها ليست معطلة و إلا ما سارت وإن كان المشاهد لم ير الآلات والمحركات وان جهاز الضوء في السيارة سليم غير معطل بل هو صالح للعمل، وإن كان المشاهد لم يرَ أجهزة إنتاج الضوء في السيارة.
وأن السائق عاقل مفكر لأنه يسوقها بعقل وفهم.
وأن السائق مدرَّب على قيادة السيارة لأنه يسوقها بإتقان وإحكام.
وإذا رأينا أغصان الأشجار تتحرك وشتى الأجسام تسقط إلى الأرض.(2/9)
وإذا لم يوجد ما يمسكها فإن عقولنا تستنتج أن الرياح هي التي حركت أغصان الشجر وأن الجاذبية الأرضية هي التي جذبت الأجسام التي تسقط على الأرض وإن كنا لم نشاهد الهواء ولا الجاذبية. وبهذا الطريق يكتسب المهندسون والأطباء والخبراء والطلاب في علومهم المشاهدة والناس جميعاً كثيراً من العلوم والمعارف اليومية عن طريق المشاهدة والتفكر أو التجربة والتفكر الذي يؤدي إلى معرفة الحقيقة وقد سميت هذه الطريقة بالطريقة العلمية وسمي القانون الذي يحكمها بقانون المعرفة العلمية والذي يمكن صياغته كما يلي:
المشاهدة للظاهرة أو للتجربة+ التفكر فيما يقع تحت المشاهدة= الحقيقة العلمية.
وهكذا إذا شاهدنا آثار الحقائق، وفكرتْ فيها عقولنا تمكنا من معرفة الحقائق معرفة علمية صحيحة وبهذا الطريق نفسه نعرف الحق سبحانه.
فإذا شاهدنا آثاره في كل أرجاء الكون وتفكرنا فيها عندئذ سنعرف الحق سبحانه وتطمئن إلى تلك المعرفة قلوبنا ? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? (سورة آل عمران: آية 190- 191)
فإن آثار الخلق تشهد أنها من صنع الخالق.
فإن آثار الحكمة تشهد أنها من صنع الحكيم.
فإن آثار الخبرة تشهد أنها من صنع الخبير.
فإن آثار العلم تشهد أنها من صنع العليم.
فإن آثار الرزق تشهد أنها من صنع الخالق الرازق.
فإن آثار الحياة والموت تشهد أنها من صنع المحيي المميت.
فإن آثار التصوير البديع تشهد أنها من صنع المصور المبدع.
فإن آثار الرحمة تشهد أنها من صنع الرحيم.
فإن آثار الحفظ تشهد أنها من صنع الحفيظ.
فإن آثار السيطرة تشهد أنها من صنع المسيطر المهيمن.(2/10)
فإن آثار الهداية تشهد أنها من صنع الهادي.
فإن آثار القوة تشهد أنها من صنع القوي.
فإن آثار القدرة تشهد أنها من صنع القادر.
فإن آثار الضر والنفع تشهد أنها من صنع الضار النافع.
فإن آثار الغنى تشهد أنها من صنع الغني الواجد.
فإن آثار الدوام والبقاء تشهد أنها من صنع الدائم الباقي.
فإن آثار الوحدانية تشهد أنها من صنع الواحد الأحد.
فإذا تأملنا في الوجود من حولنا لا نرى شيئاً من المخلوقات له الصفات السابقة بل نجده يشهد بواقع حاله أنه من صنع من له تلك الصفات فنعرف ونعلم أنه لا إله إلا الله.
وبنفس الطريقة ندرس بينات رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونتفكر فيها فنجد أن كل بينة من البينات تقدم شهادة قاطعة بأن محمداً رسول الله. وإذا درسنا البشارات التي جاءت في كتب الديانات السابقة والتي لا يزال بعضها موجوداً إلى الآن في الكتب المقدسة المشهورة وجدناها تشهد بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأملنا إلى فصاحة القرآن الكريم وجدته الدائمة التي أعجزت، وتعجز الجن والإنس على أن يأتوا بسورة من مثله مثل هذا القرآن وجدناها تشهد ولا تزال تشهد لكل عاقل بأن هذا القرآن من عند الله وأن محمداً رسول الله. وإذا درسنا أخبار الغيب التي أخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمنه والتي ظهرت بعد ذلك مصدقة لخبره ولا تزال تظهر إلى يومنا هذا سنجد في ذلك شهادة صادقة باقية بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا درسنا الخوارق غير العادية التي أيد الله بها نبيه فسنجد الكون وما فيه من مخلوقات وآيات ودرسنا ما كشفته العلوم الحديثة بعد قرون طويلة وبعد توفر الأدوات الدقيقة والدراسات الطويلة المتسلسلة فإذا بتلك الإكتشافات تأتي مصدقة لما جاء في كتاب الله على لسان النبي الأمي شهد لنا ذلك بأن هذا القرآن قد أنزله الله بعلمه(2/11)
وإذا درسنا الخوارق غير العادية التي أيد الله رسوله بها وسجلت في حينها في كتاب الله وسمعها المسلمون فصدقوها لأنهم شاهدوها، وسمعها الكافرون فصدقوها وكذبوها وتحولوا من الكفر إلى الإسلام مؤكدين لما أخبر القرآن عن تلك الخوارق والبينات التي لا يقدر عليها إلا الله، مثل انشقاق القمر ونزول الملائكة للقتال مع المسلمين، وقتال الرياح مع المسلمين ضد الكافرين، ونزول المطر، والنعاس، لتثبيت المؤمنين، وإذا درسنا كيفية حفظ كتاب الله إلى اليوم واحداً في كل أجزاء الأرض علمنا بصدق وقوع الخوارق المؤيدة المبينة لصدق رسالة محمد الله صلى الله عليه وسلم لأنها سجلت في كتاب الله في حينه على مسمع ومرأى من المسلمين والكافرين فما أنكر ذلك واحد من الحاضرين وقد حفظ القرآن الذي سجل هذه الخوارق سليماً من كل تحريف إلى يومنا هذا.
و إذا درسنا ذلك شهد ذلك كله بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أيده ربه بما لا يقدر عليه أحد إلا اله..
وإذا درسنا سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلق الشعوب التي فتحوها بهم وتخليدهم لذكراهم وانصهارهم في دعوتهم على عكس ما تفعل الشعوب المفتوحة المهزومة مع غزاتها- إذا درسنا ذلك كله علمنا أن أتباع محمد الذين اختبروه وعايشوه قد آمنوا به حقاً وصدقوه يقيناً فكانت حياتهم شاهدة على إيمانهم به وتصديقهم له بعد أن حاربوه، وأخرجوه وقاتلوه، فإذا سمعنا هؤلاء المؤمنين الصادقين يتحدثون عن أسباب إيمانهم بمحمد- عليه وعلى آله الصلاة والسلام- وجدناهم يتحدثون عن آيات بينات لا تكون إلا على يد رسول مؤيد من عند الله، ووجدنا أن تلك البينات قد نقلت إلينا على أيدي علماء الصحابة والتابعين مَمّن شهد الناس لهم بالصدق والعلم والضبط الدقيق، فتشهد تلك البينات بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .(2/12)
وإذا درسنا الشريعة الإسلامية وكيف حققت على وجه الأرض أسعد حياة عرفها البشر والتي يشهد المختصون والدارسون للقوانين والشرائع من المسلمين وغيرهم بأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، قد حكمت قروناً عديدة، فما وجد فيها
نقص، أو تقصير، ولا تزال صالحة لتحقيق السعادة الكاملة للناس إلى يومنا هذا والى ما شاء الله.
وإذا درسنا ما يقوله المختصون والدارسون للقوانين البشرية من أنه لا يمكن لقانون بشري أن يبقى صالحاً للحياة البشرية لأكثر من قرن من الزمان إذا عرفنا ذلك ودرسناه، شهد لنا ذلك كله أن هذه الشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان تشهد لكل دارس لها أنها من صنع العليم بحقائق النفس الإنسانية وبقواعد الفطرة البشرية الثابتة التي لم تتغير، والتي لا تزال مجهولة عند أصحاب القوانين البشرية. ووجدنا ذلك يشهد أن محمداً رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا درسنا سيرة رسول الله في أوثق مصادرها، وجدنا تلك السيرة لا يمكن أن تكون إلا سيرة لرسول من عند الله فنجدها تأتي مصدقة وشاهدة بأن محمداً رسول الله.
هذه بعض أوجه الدراسة- حسب علمي- والتي تنتهي بصاحبها إذا أخذها بدراسة وتفكر إلى إيمان قوي لا يتزعزع.. فيجد نفسه يردد وبكل إيمان ويقين: أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه إيمان واعٍ ليس بإيمان وراثي أعمى إيمان يثمر الأعمال الصالحة ولا تؤثر فيها الشبهات.
السَّمَاع وَ التفَكّر(2/13)
وهذه الطريقة لكسب العلم والمعرفة هي الطريقة الغالبة التي ينتقل بها العلم من إنسان إلى آخر، فالمدرس والمحاضر ينقل معلوماته إلى طلابه ومستمعيه عن طريق سماعهم له، والخبير الفني المختص ينقل معلوماته إلى الناس عن طريق سماعهم له والطبيب ينقل معلوماته إلى مرضاه عن طريق سماعهم له والمهندس والمستشار ينقل معلوماته إلى غيره عن طريق استماعهم له والصديق ينقل معلوماته اليومية إلى صديقه عن طريق استماعه له وهكذا صاحب كل علم ينقل علمه في الغالب إلى غيره عن طريق سماعه له ومن العسير على هؤلاء المدرسين والمحاضرين والخبراء والفنيين والأطباء والمهندسين والمستشارين والمختصين أن يُطلعوا غيرهم مشاهدة على ما شاهدوا أو يسمعوهم ما سمعوا ولكنهم ينقلون لمن يريد العلم ما شاهدوا وسمعوا وعلموا، وهكذا ينتفع المستمعون بعلوم العلماء ويكتسبون علوماً جديدة نافعة، توسع آفاقهم عن طريق استماعهم للعلماء والمختصين والخبراء وغيرهم. وإذا كان الناس يقبلون على أخذ العلم من العلماء عن طريق الاستماع لكلامهم فليس ذلك إلا لأن العلماء علموا ما لم يعلموا، ولأنهم في محل ثقة عند الناس تدفعهم لتصديق كلامهم.(2/14)
وأغلب الحقائق التي يؤمن بها الناس في شتى ميادين العلوم قد تلقوها بالتصديق ممن يثقون بعلمهم وصدقهم وعلى نفس هذا الطريق المعتمد عند كل العقلاء يأتي الإيمان بالله أيضاً ويزداد وضوحاً و بياناً ورسوخاً. فقد اصطفى الله سبحانه رسولاً،- كما اصطفى من قبله رسلاً-:أطلعه على كثير من آياته، كما قال تعالى مخبراً عن رؤية محمد- عليه السلام- لجبريل عليه السلام ولآيات ربه الكبرى فقال سبحانه: ?مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(14)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(15)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(16)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى? (سورة النجم: آية 11-18) وأرسل الله رسوله إلينا ليعلمنا ما جهلنا من أمر خالقنا وديننا وماضينا ومستقبلنا وحكمة خلقنا مما لا سبيل لنا أن نتعلمه من أنفسنا قال تعالى: ?كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ? (2)( سورة البقرة: آية 151) ولكن المؤمن لا يصدق إلا رسول الحق الذي اطمأن إلى صدقه، وجاء بالأدلة على رسالته ونبوته فعندئذ يصدق ما جاء به لأنه أحق من يصدق لأنه ينقل العلم عن رب السماوات والأرض الذي? قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا? (سورة الطلاق: آية 12) ?عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ? (سورة سبأ: آية 3)وطريق تصديق الرسل الذين أثبتوا لنا صدق رسالتهم وجاؤونا بالبينات كما قال تعالى: ?لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ?( سورة الحديد: آية 25).(2/15)
هذا الطريق هو الطريق الثاني للإيمان بالله وهو يحث على الطريق الأول، ويوضح ما خفي ويكمل معرفة الناس بربهم، وهو نفس الطريق الذي اعتمده العقلاء لطلب العلم من كل عالم يوثَق بعلمه وإيماننا بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأتي مرة ثانية على هذا الطريق طريق السماع من جهات موثوقة وأطراف متعددة يستحيل أن يجتمع على الكذب فإذا سمعنا المسلم الصيني والهندي والباكستاني والإيراني والعراقي والتركي والسوري واللبناني والأردني والفلسطيني ومن في الجزيرة العربية والمصري والسوداني والليبي والتونسي والجزائري والمغربي والموريتاني والنيجيري والسنغالي والمالي والتشادي والصومالي والحبشي والتنزاني والأريتري و الأندنوسي و الملاوي وغيرهم يحدثك عن تاريخ بلاده وتاريخ دخول الإسلام إلى أرضه وعن قادة الفتح الإسلامي لبلاده عندئذ ستجد تاريخ هذه البلدان يصدق بعضه بعضاً ويشهد بعضه لبعض، ويستحيل أن يتواطأ أهل هذه البلدان المختلفة والأجناس المتعددة واللغات المتباينة والأفكار المتباعدة على كذب أو باطل يرويه الناس جميعاً.(2/16)
فإذا سألنا المسلمين في هذه الأقطار كيف كان إيمان الفاتحين ودعاة الإسلام الذين وصلوا إليكم دعاة إلى الدين، فعندئذ يجيبك الراوي للتاريخ بأن البشرية لم تعرف فاتحاً مؤمناً بدينه يرجو ما عند الله ويحذر الآخرة مثل هؤلاء المسلمين مما جعل هذه الشعوب المفتوحة تقتنع بصدق إيمانهم وإخلاص نواياهم لربهم وصدق إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت معهم في دين الله وحافظت على الصلاة والزكاة والصوم والحج وتخلقت معهم بأخلاق الإسلام، وحكمت بشريعة الإسلام كل ذلك بعد أن شهدت معهم أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ولقد كان هذا بعد عداوة وحروب وقتل وتشريد فحولت العداوة إلى أخوة والبغضاء إلى محبة، والقتال إلى سلم وانتصار من الجميع لدين الله ضد أعدائه. ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم. وستجد هذه قصة واحدة يرويها لك المسلمون عن حقيقة أصحاب محمد - رسول الله- الفاتحين.
فإذا تفكر العقل فيما سمع علم أن صدق الشعوب المسلمة في دينها وحرصها على التمسك به يشهد بصدق إيمان الفاتحين برسول ربهم، وحرصهم على اتباعه وبذلهم لأموالهم وأنفسهم في سبيل نشر دينه، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكوراً.(2/17)
وإذا سألنا أهل المشرق وأهل المغرب وأهل الشمال وأهل الجنوب أجابوا جميعاً أجوبة موحدة. وشهد الخلف على شهادة السلف شهادة واحدة فإذا بنا أمام بينات نيرة وأدلة وافرة تبين لنا الأساس الذي شهدت على أساسه الأجيال المتعاقبة في المشرق والمغرب بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله. وصدق الله القائل: ? وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ?( سورة البقرة: آية 99) ولقد جمع المسلمون هذه البينات في كتب خاصة تدرس في شتى أنحاء البلاد الإسلامية تحت عناوين مختلفة مثل: دلائل النبوة أو المعجزات المحمدية أو ما شابه ذلك والعلم بهذه الدلائل قد نقل إلينا عن الذين اعترف أهل المشرق والمغرب لهم بصدق الإيمان، فشاركوهم في ذلك الإيمان. وهم الذين كانوا حاضرين مشاهدين لتلك البينات المعجزة. والناقلون لهذه البينات هم المشهود لهم بالعلم والتقوى والضبط والتحقيق من أبناء المشرق والمغرب في مختلف الأزمان.. وهكذا يتأكد الإيمان ويتأصل بعد سماع البينات والمعجزة التي تناقلتها أجيال المسلمين من أوثق المصادر وأصدقها فيزداد العاقل إيماناً ويقيناً بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التعَامل المشَاهَد
وهذا هو الطريق الثالث ولا يتمتع بالسير فيه ومشاهدة آياته ودلائله إلا من صدق عزمه وسار في طريق الإيمان وأكبّ على الدراسة والبحث والتحقيق والناس يؤمنون إيماناً لا يتزعزع بالواقع المشاهد أمامهم، وهو أعلى درجات التصديق لديهم.(2/18)
والإيمان بالله عن هذا الطريق قد جعله الله جائزة لمن آمن به وأطاعه واستجاب له. ففتح باباً للتعامل معه مباشرة ورؤية آيات الله مكشوفة عن حجاب الأسباب والسنن العادية وذلك فيما يعرفه المؤمنون بإجابة الله للدعاء. ولقد عرفت هذا بنفسي عشرات المرات وعرفه الآلاف والملايين من المؤمنين وشاهدوه كما عُرف واضحاً جلياً في الشعوب الإسلامية في ظاهرة الاستسقاء عندما يصاب المسلمون بالجفاف وكل إنسان من البشر يستطيع أن يرى ويلتمس إجابة ربه لدعائه في كشف مرض أعجز الأطباء أو في فتح مخرج من مأزق قد أغلق على صاحبه أو رزق بعد فقر شديد، و أية رحمة ينعم بها الله على عبده، لكن ذلك لا يكون إلا لمن تحقق فيه شرطان:
ا- الإستجابة له واتباع دينه.
2- الإيمان به سبحانه.
قال تعالى: ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ? (سورة البقرة: أية 186) .
وقد يُرى هذا الواقع المشاهد المكشوف في إجابة الله لمضطر لجأ إلى الله بصدق وإخلاص كما قال:
?أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ? (سورة النمل: آية 62)
ومن بلغ هذه الدرجة ووصل إلى هذا الطريق، فقد وجد نفسه من عباد الله المؤمنين الذين تمتعوا باستجابة رب العالمين لدعائهم، فاحرص أيها العاقل أن تكون من هؤلاء واحرص أيها المسلم أن تصل إلى هذه الدرجة بتحقيق شروطها فإذا بلغ المسلمون هذه الدرجة فسيحقق الله لهم كل أمنية.(2/19)
فإذا تفكر العاقل في هذه الظاهرة ظاهرة الإجابة من الله لعباده المؤمنين عرف أن الذي شفى المرضى بدون سبب معلوم- بعد الدعاء- هو السميع المجيب الشهيد الحي الباقي الدائم الذي أجاب المؤمنين في غابر الزمان ويجيبهم اليوم، وفي يوم الدين، والذي يسمع المؤمن المنادي له في الصين والمنادي له في المغرب، والذي يسمع الدعاء الخافت الذي لا يسمعه من في المكان المجاور، ويعلم كل لغة يدعى بها.
إذا تفكر العاقل في ذلك علم أنه يتعامل في الواقع المشاهد مع ربه السميع المجيب. ويزداد إيماناً بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرنا في هذا الطريق طريق الواقع المشاهد الذي وقع بالفعل في تاريخ المسلمين ويقع بالفعل- في حياة المسلمين الصادقين. أما ما وقع في التاريخ وسجلته الأمم المختلفة ورواه الثقات وسجل بعضه القرآن الكريم فذلك النصر الإلهي، والتأييد الرباني الذي جعله الله لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام فنصرهم الله على عدوهم وحقق لهم أسعد حياة عرفها الإنسان(1)(1) فصلح فيها أمر الناس جميعاً فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ونصر الله عباده في الأرض وحقق لهم وعده الذي أخبر به في كتابه ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ? (سورة النور: آية 55)
وليعرف ذلك في سعادة أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصادقين في أي حال من الأحوال عاشوا في الشدة والرخاء والخوف والأمن والقوة والضعف وما يشهد الناس لهم به من حسن خلق، واستقامة سيرة.(2/20)
وهذا القرآن الكريم آيات بينات شاهدة بين أيدينا تدل كل من تفكر فيها أن هذا القرآن من عند الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن درس هذا الكتاب وتأمل علومه وتفقه في آياته رأى الآيات البينات تدله على أن هذا القرآن من عند الله وأن محمداً رسول الله قال تعالى: ? أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?(1)(2)( سورة محمد: آية 24)
? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي? (سورة يوسف: آية 108) .
وبعد فذلك هو طريق الإيمان طريق العلم والوعي.. من سار فيه فقد سار على بصيرة وآمن على بصيرة، وانتفع بسمعه وبصره وعقله وعرف طريقه الذي يوصله بربه الذي بدأ خلقه وإليه مآبه وعليه حسابه ? قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ? (سورة الأنعام: آية 104) .
? وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ? (سورة الأنعام: آية 105) يستقيم في حياته على طريق مستقيم أوله في خلقه ونشأته كان طبقاً لأمر الله وهو يقضي حياته الوسطى في هذه الدنيا أيضاً طبقاً لأمر الله ووفق هداه سبحانه.
خطوة عمليه:(2/21)
فمن كان يريد لنفسه إيمان البصيرة والعلم الذي يثمر العمل الصالح ولا تهدده الشكوك أو يريد ذلك لأولاده وإخوانه وأصدقائه أو أقاربه فعليه أن يسأل عن الكتب التي جمعت حقائق الإيمان وأدلة الشهادتين ويبحث عن عالم أو طالب علم يشرح له تلك الحقائق ويعرض عليه البينات وعليه بعد ذلك أن يجالس حملة الإيمان إن أراد إيماناً كما يجالس طلاب العلم والعلماء إن أراد علماً. ويجالس أهل الخبرة إن أراد خبرة وعليه أن يصبر نفسه معهم حتى يمتليء قلبه بحقائق الإيمان وينير وجدانه بنور الإيمان قال تعالى:? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا? (سورة الكهف: آية 28- 30) وإذا كنت من الذين أخذوا إيمانهم تقليداً للآباء والأجداد فبادر باتخاذ نفس الخطوة أنت وأهلك لتتحصن بحقائق الإيمان وتكون من الذين آمنوا عن علم فكانوا من أولي الألباب أما إن بقيت على ما أنت عليه من التقليد فقد آثرت الطريق التي ندد بها القرآن فقال تعالى: ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ? (سورة البقرة: آية 170). وتكون(2/22)
أيضاً قد عرضت نفسك لفتك مرض الإلحاد المنتشر في هذا الزمان و شبهاته الني أصابت كثيراً من المسلمين فارتدوُّا
كافرين ولقد أخبر رسول الله عن هذا الأمر فقال: "ستكون فتن لا ينجو منها إلا من عرف دينه ".
الإيمان يزيد بالطّاعَاتِ
فإذا استقر الإيمان في نفسك فستجد النشاط لعمل الصالحات قد دب فيك وإذا أقبلت على عمل الصالحات وأخلصت نيتك لربك وجدت أن إيمانك يزداد، فإذا وجدت أمراً يعجزك فاستعن بالمؤمنين الصادقين تتغلب بإذن الله على مشكلتك واحذر أن تكون عوناً للفاسدين والتزم بأمر ربك ? وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ?( سورة المائدة: آية 2).
عَنَتُ الكَافرين
إن الكافر الجاحد الذي كره الهدى، وزين له الشيطان أن مصلحته في مقاومة الإيمان ومحاربته وخاف على بعض مصالحه أن تضيع إذا انتصر الإيمان أو يخشى على شهواته المنحرفة حياة الفضيلة في ظل الإيمان، هذا الكافر لا تكفيه الآيات والبراهين السابقة، رغم أنه يكتفي بواحدة منها أو بنصف واحدة للاقتناع بأمر دنيوي- فيندفع في معاندته ومكابرته لإثارة الشبهات، وابتكار
فنون المغالطة لصد الناس عن دين الله فتراه يتعنت على من يدعوه إلى الإيمان ويشترط الشروط الخرقاء، ومما شاع عن هؤلاء المتعنتين قولهم كما قال الأولون:
أرنَا الله جَهْرَة
ماذا يريد هؤلاء المتعنتون؟.
إنهم يريدون أن يروا الله بأعينهم التي في رؤوسهم الآن بارزاً أمامهم وهل تقدر العيون الضيقة العاجزة المحدودة المدى أن ترى الله جهرة؟ هيا لنرى الآخر ونبحث قدرة العين التي يشترط الكافرون في الإيمان أن تحيط بربها إدراكاً هل تقدر العين أن ترى الهواء الذي يلامسها ويمتد أمامها مئات الكيلومترات؟.
هل ترى العين جاذبية الأرض التي تجذب إليها كل الأجسام؟ وهل تقدر أن ترى؟ الجواب لا... لا.(2/23)
هل ترى العين أمواج الإذاعة التي تبثها الآن محطات الإذاعة
في العالم ومحطات اللاسلكي والرائي (التلفزيون)؟ وهل تقدر أن ترى ذلك؟.
الجواب لا... لا...
هل ترى العين الروح التي تسكن في الأجسام الحية فتوجد الفرق بين الحي والميت؟ وهل ترى العين العقل الذي يفرق بين المجنون والعاقل؟ وهل تقدر أن ترى ذلك؟.
الجواب لا... لا...
وهل تستطيع العين أن ترى القوى التي يجذب بها المغناطيس قطعة الحديد؟.
الجواب لا... لا...
وهل تقدر العين أن تتحمل ضوءاً قريباً يوجه إليها من كشاف أو مصباح قوي؟.
الجواب... إنها لا تستطيع احتمال شدة النور.
إذن: هذه العين تعجز أن ترى كثيراً من الأشياء القريبة منها ولا تتحمل شدة النور القريب منها.
وإذن فهل تستطيع العين المحدودة أن تدرك الأشياء البعيدة أو تتحمل النور القوي البعيد عنها؟ هيا لنرى؟.
هل تستطيع العين أن ترى من بالمكان المجاور؟.
الجواب لا... لا...
هل تستطيع العين أن ترى قارات الأرض بأجمعها؟.
الجواب لا... لا...
هل تستطيع العين أن ترى جميع نجوم السماء؟.
الجواب لا... لا... فهي لا ترى إلا القليل. وإذا ظهر ضوء القمر لم تَر إلا أقل القليل قال تعالى:? ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ? (سورة الملك: آية 4).
وهل تستطيع العين أن تتحمل مشاهدة قرص الشمس في رابعة النهار؟.
الجواب لا... لا...
إذن هذه العين عاجزة محدودة لا تستطيع أن ترى ما بعد عنها ولا ما اشتد نوره عليها ولا تقدر على ذلك كما تعجز أن ترى كثيراً من الأشياء اللطيفة القريبة منها...
فهل تستطيع هذه الأعين الضعيفة المحدودة أن ترى الله؟.
هيا لنرى:(2/24)
المسافة بيننا وبين الشمس 93 مليوناً من الأميال تقريباً، ويقطعها الضوء في 8 دقائق تقريباً لأن الضوء يقطع في الثانية (دقة الساعة) (300000) كيلومتر وأقرب نجم- غير الكواكب- إلينا لا يصلنا منه الضوء إلا بعد أن يسافر منه في مدة أربع سنوات وخمسة أشهر تقريباً.
وبعض النجوم يستغرق سفر الضوء منها إلينا مئة سنة وبعضها ألف سنة وبعضها مليون سنة وبعضها ستة بلايين السنين، وهو في الثانية الواحدة يقطع (..... 3) كيلومتر فأين تقع هذه النجوم إذن؟ إقرأ معي قول الله عز وجل:? فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ?( سورة الواقعة: آية 75- 76). ولقد علمنا فرأينا أنها مواقع عظيمة حقاً.
وهذه النجوم لا تزال في زينة السماء الأولى قال تعالى: ? وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ?( سور الملك: آية 5)وبعد هذه الزينة تأتي السماء الأولى وسمكها والفراغ بينها وبين السماء الثانية، ثم تأتي السماء الثالثة والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة ثم يأتي كرسي الرحمن الذي أحاط بهذه السماوات السبع فكانت السماوات السبع بالنسبة للكرسي كسبعة دراهم في ترس- كما جاء في الحديث- ثم يأتي العرش العظيم الذي لا يساوي الكرسي والسماوات السبع بالنسبة له إلا كحلقة قد رميت في صحراء، كما جاء في الحديث الشريف.
فماذا يريد الكافرون؟.
إنهم يشترطون لإيمانهم أن يروا الله الذي استوى على العرش بعين لا تستطيع أن ترى من بالمكان المجاور ولا تستطيع أن ترى
نجوم السماء ولا تقدر أن تدرك الهواء الذي يحيط بها من كل مكان.
ويريد الكافرون أن يحتملوا نور الله بأبصار لا تستطيع أن تتحمل قرص الشمس.(2/25)
و ? اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ? (سورة النور: آية 35)ولقد قص علينا محاولة موسى عليه الصلاة والسلام الذي ألح عليه قومه فقالوا له: ? أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً? (سورة النساء: آية 153) وعندما سأل ربه لما كلمه أن يمكنه من رؤيته، فأخبره المولى سبحانه وتعالى بأنه لا يقدر على أن يراه ووضعه أمام تجربة عملية لتكون آية للسائلين فقال: ? وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ? (سورة الأعراف: آية 143).
وهكذا نرى جبلاً لا يحتمل آثار تجلي الله عليه، فكيف يطلب الكافرون أن يروا الله ببصر لا يحتمل نور المصباح أو الشمس عند النظر إليها مباشرة.
إنها الجهالة والعناد.. والتكبر في أنفسهم على الحق و إلا فهم قد علموا أن بصرهم عاجز ضعيف،و أنهم لا يشترطون لإيمانهم وتصديقهم بكثير من الأمور المشاهدة لها بأبصارهم.
فالمدرسون والمحاضرون يتحدثون إلى طلابهم كل يوم بمئات الحقائق التي لم يشاهدها الطلاب فيصدقون... وكذلك الأطباء والمهندسون والخبراء يصدقهم الكافرون بما قالوا دون أن يشترطوا المشاهدة وربما بلغت المعلومات التي يصدق بها الكافرون لا يرى الحرارة- و جزئياتها وير تصهر الثلج ولكنه لا يشك أن الحرارة تصهر الثلج لأنه رأى أثر الحرارة.
وإن أمواج الإذاعة هي التي أحدثت الصوت الذي يسمعه في جهاز استقبال الإذاعة (الراديو) وهو ما شاهد الهواء ولا أمواج الإذاعة ولكنه أدرك أثر كل منهما فآمن وصدق بوجودها وكان يكفيه لإيمانه بربه أن يسلك نفس الطريق الذي سلكه لمعرفة شتى الحقائق:(2/26)
ا- أن يتعلم من المختصين الثقات في هذا الأمر وهم الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه- الذين ختم الله رسالتهم بآخرهم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- بعد أن يتأكد من ثبات رسالته وبراهين نبوته.
2- أن يرى آثار الخالق في مخلوقاته التي تملأ الأرض والسماء فلا يمكن أن تكون الحكمة الظاهرة في الكون كله من غير حكيم ولا العلم من غير عليم ولا الخبرة من غير خبير ولا الصور البديعة من غير مصور بديع وهكذا.... لكنه العناد والجهل والكبر ? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا? (سورة النمل: آية 14).
وأمثال هؤلاء يقول الله عنهم: ? كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(200)لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ? (سورة الشعراء: الآيتان 200- 201).
اقتراحَات وَشرُوط(2/27)
وهناك طائفة من المتعنتين الكافرين، لم يبحثوا في البينات التي وضحها الله لعباده في مخلوقاته وأرسل بها رسله، فيسلكوا الطريق المستقيم بل تكبروا على الذي خلقهم من ماء مهين، وحسبوا أنهم قد بلغوا في أنفسهم درجة تمكنهم من الاقتراح على الله لنوع البينات- والأدلة التي تكون مقبولة عندهم. فأخذوا يقترحون المقترحات، ويشترطون الاشتراطات لإيمانهم ولو أجابهم الله إليها لازدادوا عنتاً، وفسد نظام الأرض والسماء لأن هذا سيشترط على الله أن يجعل الليل نهاراً وآخر يشترط أن يجعل النساء رجالاً وثالث يشترط أن يقتل الله له خصمه، ويزوجه فلانة وفلانة، وهذا يقترح على الله أن يجعل أمامه الأرض سماء وهذا سيقترح أن يجعله ربه في درجة الأنبياء وصدق الله القائل: ? وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ? (سورة المؤمنون: آية 71) ولكن الله سبحانه لا يستزله الجاهلون، فقد أقام للناس الدلائل وأوضح البينات وأقام البراهين، وخلق للناس أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ينتفع بها المؤمنون، ويأبى الجاهلون الكافرون إلا العنت وأي حجة تبقى لهم عند ربهم، قال تعالى: ? وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ? (سورة الشورى: آية 16).
وهذه بعض صور المقترحين، والمشترطين كما يرويها لنا القرآن الكريم.
فهؤلاء اليهود يقولون لموسى ? وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ(55)ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? (سورة البقرة: آية 55-56).(2/28)
وهؤلاء كفار قريش يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ? وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا? (سورة الإسراء: آية 90- 93).
وهؤلاء يهود المدينة ينصح بعضهم بعضاً بالأخذ بشرط من هذه الشروط ? وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72)وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ? (سورة آل عمران: آية 0 72- 73).
وهكذا دفع الحسد والبغي اليهود إلى جحود البينات التي أجراها الله على يد رسول ليس من اليهود وهذه فرقة ممتدة في شعاب الزمان والمكان تقف موقفاً واحداً من رسل الله:(2/29)
? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123)وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ? (سورة الأنعام: آية 123- 125) فهؤلاء قادة الإجرام في كل زمان ومكان يبتكرون الشبهات لخداع الناس عن هدي ربهم، ويشترطون الاشتراطات التي تدل على تكبرهم على الحق فإذا بهم يطالبون أن يكون لكل منهم معاملة ومكانة كمعاملة الله لنبيه ورسوله ? اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ? (سورة الأنعام: آية123) ولهؤلاء المتكبرين المذلة والصغار أما من علم الله فيه الهدى، وحب الحق فإن الله يفتح صدره ويوسعه لمعرفة الإسلام وتعلمه ومن علم الله أنه لا يؤمن ولا يهتدي يفتح أمامه باب الضلال كما بين الله ذلك في قوله تعالى? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ? (سورة محمد: آية 17) وقال تعالى? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ? (سورة الصف: آية 5) فترى علامة الضال نفوره من مجالس الإسلام، وضيقه الشديد بالموعظة والتذكير بدين الله وتزايد الضيق في صدره حتى يبلغ درجة الحرج الشديد فأشبه حاله في ضيق صدره بالإسلام كضيق أولئك الذين يصعدون في السماء بطائراتهم فيزداد عليهم الضيق كلما ازدادوا ارتفاعاً وصعوداً(2/30)
في السماء فلا يجدون لهم من حيلة إلا أن يستخدموا الآلات التي تخفف عنهم شدة ذلك الضيق فما أصدق آيات الله في المثل والممثل به. فمن شاء الهدى فليشرح صدره للإسلام، وليبحث عن دلائل الإيمان، وليحذر شبهات المجرمين المتكبرين، وعليه أن يسأل عن السائرين في طريق الإيمان ليصحبهم في سفرهم حتى يصلوا جميعاً إلى نهاية الطريق القويم فإذا بهم أمام ? جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ? (سورة آل عمران: آية 133).
فيا من تريدون السفر إلى الجنة هذا طريق الإيمان فاسلكوه.
وعليكم بمصاحبة أهل الإيمان ليكونوا عوناً لكم على سفركم واحذروا السير في الطريق الموصلة إلى النار واحذروا مصاحبة الذين سلكوا بأنفسهم طريق النار فتكونوا من الناس النادمين. ? وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا(27)يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا? (سورة الفرقان: آية 27- 29).
هذا طريق الإيمان... طريق العلم والعرفان... طريق الرقي في الدرجات العالية ? يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ? (سورة المجادلة: آية 11).
والحمد لله رب العالمين.
?
---(2/31)
(1)(1) قد يظن ظان أن السعادة تكون وتتحقق بالمال الزائد, وكثرة التيسيرات المادية وهذا لا شك من الأسباب الثانوية التي تجعل الحياة سعيدة أما الأسباب الرئيسية فهي الإيمان والرضى بقدر الله والإطمئنان عل المستقبل والحياة في ظل الأخلاق الإسلامية الرفيعة مع الآخرين وليست المتع الدنيوية إلا سبباً ثانوياً للسعادة لأن الدول التي حققت الكثير من هذه المتع تعيش في ضيق وتعاسة ويفر كثير من أبنائها إلى الإنتحار للتخلص من ضيق حياتهم وشقائهم، وكذلك المنحرفون من المسلمين في هذا الزمان.
(2)(2) وهذا القرآن يدعو المكذبين إلى تجربة عملية فيقول تعالى: ? وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ?(البقرة: آية 23-24)، ومن خصائص القرآن التي يدركها الناس بسهولة: جدته الدائمة فهو لا يبل مهما كررته الألسن... فهل يستطيع الناس أن يأتوا بكلام لا يبل مهما كرر؟ الجواب واضح جلي وهو عجز الناس عن مثل هذا... وللقرآن خصائص ومزايا كثيرة يعجز الناس عن الإتيان بمثلها وقديماً عجز كار قريش وهم أحرص الناس عل تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا إلا الإيمان بعد أن وصفوا القرآن بالسحر وهذه التجربة لا تزال قائمة بين أيدينا تدلنا وتعرفنا على أن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى.(2/32)