رحلة العلماء
في طلب العلم
تأليف
أبي أنس
ماجد إسلام البنكاني
** المقدمة **
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يُضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون } . "آل عمران" الآية (102).
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } ."النساء" الآية (1).
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطِع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } . الأحزاب الآية (70-71) .
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
إن للعلم والعلماء مكانة عظيمة، حيث امتدح الله سبحانه وتعالى العلماء، فقال عزوجل : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . آل عمران : (18) .
فلقد دلت هذه الآية على :
الأول : فضل العلم والعلماء ، دون غيرهم من البشر .الثاني : اقتران شهادة العلماء بشهادة الله عزوجل والملائكة .
الثالث : تزكيتهم وتعديلهم من الله سبحانه وتعالى .
وقرن الله سبحانه وتعالى العلم مع التوحيد ، بل وقدمه على كلمة التوحيد قبل النطق بها ، ويكون قبل القول والعمل ، فقال الله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (محمد:19) .(1/1)
وبوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب ، فقال :
باب العلم قبل القول والعمل ، لقول الله تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله " ، فبدأ بالعلم . صحيح البخاري (1/37) رقم (67) .
قال ابن المنير رحمه الله تعالى في تعليقه على هذا الحديث : أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل ، فلا يعتبران إلا به ، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنيّة المصححة للعمل ، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم : "أن العلم لا ينفع إلا بالعمل" تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه . اهـ . فتح الباري (1/216). وعن بقية بن الوليد ، عن معاذ بن رفاعة ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين" .
أخرجه البيهقي في الكبرى برقم (20700) ، والتمهيد (1/59) . السلسلة الصحيحة رقم (1/485) ، والمشكاة رقم (248) ، والسنة (837،838) .(1/2)
قال المناوي رحمه الله تعالى : هذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه ، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر خلقا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف ، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر ، وهذا من أعلام نبوته ، ولا يضر معه كون بعض الفساق يعرف شيئا من العلم لأن الحديث ، إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئا ، وفيه فضل العلماء على الناس ، وفضل الفقه على جميع العلوم ، وفيه أن هذه الأمة آخر الأمم ، وأنه لا بد أن يبقى منها من يقوم بأوامر الله حتى يأتي أمر الله اهـ . فيض القدير (6/396) . فنظراً لأهمية هذا الموضوع ، والذي عليه مدار الأمور كلها ، ألا وهو العلم ، فبالعلم يوحد الله تعالى ، وبالعلم يعبد الله تعالى ، ، وبالعلم تحارب البدع ، وفي العلم حياة القلوب ، وتزكية النفوس ، وصلاحها . قال أحد الحكماء : يابني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله يُحييّ القلوب الميتة بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء . وبالعلم تعرف السنة ويكون فيها اتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي من أعظم الأعمال إلى الله تعالى ، قال القاسم بن سلاّم أبو عبيد : المتبع للسنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله عزوجل .
قال الألباني رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الكلام : "قلت : هذا في زمانه فماذا يقال في زماننا" . اهـ . كتاب الإيمان لأبي عبيد (ص50) بتحقيق الألباني .
فالعلم هو السبيل للنجاة ، وفيه رفع للدرجات ، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم .
فعلى المسلم أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهه في الدين ، ويسأله سبحانه أن ييسر له طلب العلم .
قال الله سبحانه وتعالى : { وقل ربِّ زدني علماً } .سورة طه(114).(1/3)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في تعليقه على هذه الآية : "واضح الدلالة في فضل العلم ، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم ، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته ، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه" . اهـ . فتح الباري (1/141).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول يا معلم إبراهيم فهمني ويذكر قصة معاذ بن جبل، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته، وقال: إني لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك ولكن أبكي على العلم والإيمان الذين كنت أتعلمهما منك ، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فاطلب العلم عند أربعة فإن أعياك العلم عند هؤلاء فليس هو في الأرض فاطلبه من معلم إبراهيم.العقود الدرية (1/42) .
وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال ألم تسمع إلى قوله حين بدأ به فقال : "فاعلم أنه لا إله إلا الله" ، ثم أمره بالعمل فقال واستغفر لذنبك ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، لا يغفر إلا بها من قالها غفر له . اهـ . حلية الأولياء (7/285) .
وفي الحديث الصحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" .
أخرجه البخاري ـ كتاب العلم ـ باب العلم قبل القول والعمل (1/26) .
وعن صفوان بن عسال المرادي ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع" .(1/4)
أخرجه ابن ماجة في "المقدمة" ـ باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ـ حديث رقم ( 226) ، وقال في الزوائد : "رجال إسناده ثقات" .
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ، وقال من أراد الدنيا فعليه بالعلم ، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ، وقال ما تقرب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفصل من طلب العلم . اهـ . تهذيب الأسماء واللغات للنووي رحمه الله تعالى (1/74) .
وقد كانت الرحلة في طلب الحديث من مؤهلات المحدثين ولوازم طريقتهم ومنهجهم في تحصيل الأحاديث وجمع طرقها وأسانيدها ، روى الحاكم بسنده عن يحيى بن معين أنه قال :" أربعة لا تؤنس منهم رشداً : حارس الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
انظر : معرفة الحديث ـ الحاكم (ص9) .
وسأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه : هل ترى لطالب العلم أن يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنه ، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع فيها ؟ قال : يرحل ويكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة يشام(1) الناس يسمع منهم .
وقيل لأحمد أيضاً : أيرحل الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله شديداً . لقد كان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ، فيسمعا منه .
انظر فتح المغيب : (2/314) .
__________
(1) يُقال: شامَمْتُ فُلاناً إذا قارَبْتَهُ وتَعَرَّفْتَ ما عِندهُ بالاخْتِبارِ والكشف، وهي مُفاعَلة من الشَّمِّ كأَنك تَشُمُّ ما عنده وَ يُشُمُّ ما عِنْدك لتَعْمَلا بمقتَضى ذلك؛ ومنه قولهم: شامَمْناهُمْ ثم ناوَشناهُمْ. و شامَمْتُ الرجل إِذا قاربته ودنوت منه.و الشَّمَمُ : القُرْبُ .اهـ. لسان العرب(12/326).(1/5)
قال السخاوي: وهذا على وجه الاستحباب، وهو متأكد إذا علمت أن ثم من المروي ما ليس ببلدك مطلقاً أو مقيداً بالعلو ونحوه ، بل قد يجب إذا كان في واجب الأحكام وشرائع الإسلام، ولم يتم التوصل إليه إلا به ، فالوسائل تابعة للمقاصد . المرجع السابق . اهـ. كتاب مدرسة الحديث في البصرة للدكتور أمين القضاة (ص414) .
وبناء على هذا أحببت أن أجعل بحثاً خاصاً في هذا الموضوع لأهميته وحاجة المسلمين لذلك في عبادتهم وفي حياتهم اليومية ، وترغيباً لهم بطلب العلم ، واهتمامهم بذلك ليكون لهم سلاحاً يحاربون به الشبهات ، ولينالوا عند الله الأجر والثواب يوم القيامة بإذن الله تعالى ، وليكون زاداً يتزودون به في دنياهم وأخراهم .
هذا ولا يفوتني أن أشكر كل من قدم لي يد المساعدة على إخراج هذا الكتاب ، وقد استعنت بكتب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بتخريج الأحاديث ، إضافة إلى كتب العلماء في هذا الشأن ، فجزاهم الله عنا خير الجزاء .
أسال الله الكريم رب العرش العظيم أن يجزل لهم المثوبة ، وأن يجعله في ميزان حسناتهم ، وأسأله سبحانه أن يثيبنا عليه ، وأن يجعله لنا ذخراً في يوم الدين ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به المسلمين عامة ، وطلبة العلم خاصة ، وأن يجعله حجةً لنا لا علينا ، وأن ينشر له القبول في الأرض ، إنه ولي ذلك والقادر عليه . آمين .
والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتب/ماجد إسلام البنكاني
أبو أنس العراقي
19/رمضان/1423هـ
24/11/2002م
الفصل الأول
أهمية الرحلة في طلب العلم(1/6)
كان من توفيق الله تعالى وفضله وتيسيره على هذه الأمة ، أن سخر لها العلماء لخدمة هذا الدين الحنيف ، والذب عن سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وحرصهم على العلم النافع ، رحلوا وجابوا البلاد والعباد ، وقطعوا المسافات بحثاً عن العلم ، ولم يجعلوا الدنيا مقصداً لهم ، ولا مبتغاً لشهواتهم الدنيوية ، بل علموا أن محاسن ولذات الدنيا مجموعة في تلك المشاهد والمناظر التي رأوها في رحلاتهم ، فلم يتخلف من علم هذه اللذة عن هذه الرحلات .
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ أخذ بحظ وافر". أخرجه أبو داود برقم (3641) ، والترمذي (3682) ، وابن ماجة (223) ، وابن حبان (88 مع الإحسان) ، وأحمد (5/196) ، والدارمي (1/98) ، والبغوي في شرح السنة (1/275-276) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/36-37) ، والطحاوي في مشكل الآثار (1/429) ، الإيمان (25و 115) ، صحيح الجامع برقم (6297) .(1/7)
وعن زر بن حبيش قال : أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه - أسأله عن المسح على الخفين فقال : ما جاء بك يا زر؟ فقلت : ابتغاء العلم فقال : إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب فقلت : إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول وكنت امرءاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجئت أسأل هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً ؟ قال : نعم ، كان يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم فقلت : هل سمعته يذكر في الهوى شيئاً؟ قال : نعم كنا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما نحن عنده إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري يا محمد فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحواً من صوته : "هاؤم" فقلت له : ويحك اغضض من صوتك فإنك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نهيت عن هذا فقال : والله لا أغضض ، قال الأعرابي : المرء يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : المرء مع من أحب يوم القيامة".
فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاماً ، قال سفيان أحد الرواة قبل الشام خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه".
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات برقم (3535) ، وقال : حسن صحيح ، وأحمد في المسند (4/239) ، فقه السيرة (214) ، الإيمان ، (ص 60) .
فيه فائدة عظيمة وهو فضيلة العلم وطلب العلم والمراد به العلم الشرعي أي العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وعن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله أوحى إلي : أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة و من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة و فضل في علم خير من فضل في عبادة و ملاك الدين الورع" .
صحيح الجامع حديث رقم (1727) .(1/8)
وعن صفوان بن عسال المرادي قال : أتيت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فقال : "ما جاء بك" ، قلت : أنيط العلم ، أي أطلبه وأستخرجه ، قال : "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع حتى يرجع" .
صحيح الجامع حديث رقم (5702) .
قال المناوي في تعليقه على هذا الحديث : "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم" أي الشرعي بقصد التقرب إلى اللّه تعالى "إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع حتى يرجع" ، قال حجة الإسلام : هذا إذا خرج إلى طلب العلم النافع في الدين دون الفضول الذي أكب الناس عليه وسموه علماً ، والعلم النافع ما يزيد في خوفك من اللّه ويزيد في بصيرتك بعيوب نفسك وآفات عملك وزهدك في الدنيا ، فإن دعتك نفسك إلى الخروج في طلب العلم لغير ذلك فاعلم أن الشيطان قد دس في قلبك الداء الدفين وهو حب المال والجاه ، فإياك أن تغتر به فتكون ضحكة له فتهلك ثم يسخر بك . اهـ . فيض القدير .
قال الواعظ المشهور منصور بن عمار الخراساني كما جاء في كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" (ص220ـ221) ونقلتها من كتاب صفحات من صبر العلماء ، قال عن الذين يرحلون إلى طلب العلم :
فهم يرحلون من بلاد إلى بلاد ، خائضين في العلم كل واد ، شعث الرؤوس،خلقان الثياب خمص البطون ذبل الشفاه شحب الألوان نحل الأبدان قد جعلوا لهم هما واحداً ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً لا يقطعهم عنه جوع ولا ظماء ولا يملهم منه صيف ولا شتاء .
مائزين الأثر : صحيحه من سقيمه ، وقويه من ضعيفه ، بألباب حازمة ، وآراء ثاقبة ، وقلوب للحق واعية ، فأمنت تمويه المموهين ، واختراع الملحدين ، وافتراء الكاذبين .(1/9)
فلو رأيتهم في ليلهم ، وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا ، وتصحيح ما جمعوا ، هاجرين الفرش الوطي ، والمضجع الشهي ، غشيم النعاس فأنامهم ، وتساقط من أكفهم أقلامهم ، فانتبهوا مذعورين ! قد أوجع الكد أصلابهم ، وتيه السهر ألبابهم ، فتمطوا ليريحوا الأبدان ، وتحولوا ـ عن مرقدهم ـ ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان ، ودلكوا بأيديهم عيونهم ، ثم عاد إلى الكتابة حرصاً عليها ، وميلاً بأوائهم إليها : لعلمت أنهم حراس الإسلام ، وخزان الملك العلام .
فإذا قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم فلزموا المساجد وعمروا المشاهد ، لابسين ثوب الخضوع مسالمين ومسلمين ، يمشون على الأرض هوناً لا يؤذون جاراً ولا يقارفون عاراً حتى إذا زاغ زائغ أومرق من الدين مارق خرجوا خروج الأسد من الآجام ، يناضلون عن معلم الإسلام . انتهى .
ثم قال أبو غدة تعقيباً :
ذلك ، لأنهم جعلوا "الرحلة" مناط الثقة بالعالم ، فقالوا كلمتهم المشهورة : "من لم يرحل فلا ثقة بعلمه" . وقديماً قال الإمام يحيى بن معين : "أربعة لا تؤنس منهم رشداً أي لا تبصر منهم خيراً ولا نفعاً ، وذكر الثلاثة ، ثم قال : "ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
أورده الحافظ ابن الصلاح في كتابه " معرفة أنواع علوم الحديث " (ص210) في ( النوع الثامن والعشرين : معرفة آداب طالب الحديث ) .
ومن هذا قال الحافظ ابن الصلاح : "وإذا فرغ ـ الطالب ـ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده ، فليرحل إلى غيره " . نعم : فليرحل بصيغة الأمر وذلك لما لمسوه من فوائد الرحلة وآثارها النافعة في تكوين المواهب الشخصية ، وتنمية المدارك العلمية وتوسعة الآفاق الفكرية ، والتطاعم بين العقول والمعارف وأهليها فلذا أقاموها مقام الحاجة الضرورية لمن سلك طريق العلم والتحصيل ، واعتبروها شرطاً لتوثيق العالم والثقة بعلمه .(1/10)
فنشأ من ذلك هذه الرحلات الواسعة ، والأسفار الشاسعة والسنوات الطوال تقضي من أعمار هؤلاء الراحلين ، بعيدين عن الأهل والولد ، والزوجة والبلد ، متفرغين لتلقي العلم ولقاء العلماء ، ومشافهتهم ومشامتهم وتعرف ما عندهم ، والانتساب إليهم ، والاعتراف من معينهم ...
وقد صارت هذه الرحلات لدى العلماء السابقين جزءاً أصيلاً من حياتهم العلمية ، ورحل العلماء من أهل كل علم ، فرحل المفسر والمحدث ، والفقيه والأصولي ، واللغوي ، والنحوي ، والأديب ، والمؤرخ ، والزاهد ، والعابد ، والشاب ، والشيخ ، والكبير ، والصغير ، والوليد ! رَحَلُوا ورحَّلُوا معهم الوليد الذي دون أربع سنين أو ما فوقها ، كما تراه في تراجم كثير من العلماء الكبار ، ومنهم الإمام أبو سعد السمعاني .
وقد لقي الرحَّالون في أسفارهم متاعب ومصاعب ، وألاقي وشدائد لا تحصى ، دون عنهم بعضها ، وذهب بعضها دون تدوين ، فهذا الذي تراه في كتب التراجم من أخبارهم في الرِّحَلِ بعض ما كان وليس كل ما كان .
وكانت الرحلة تأخذ من عمر صاحبها السنتين والأربع ، والخمس والعشر ، وكثير منهم من أخذت الرحلة من عمره العشرين سنة ، أو الثلاثين سنة ، أو الأربعين سنة ، وبعضهم أخذت رحلته (45) سنة من عمره ، كالإمام أبي عبد الله بن منده .
جاء في صفحات من صبر العلماء (ص152) :
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : " لا يصلحُ طلبُ العلم إلا لمفلس " . "الجامع" للخطيب (1/39) .
وقال رحمه الله تعالى : " لا يطلب هذا العلم من يطلبه بالتمللِ ـ أي بالتبرمِ وتقلب العزمِ ـ وغنى النفس فيُفلحَ ، ولكن من طلبه بذلةِ النفس ، وضيق العيش ، وخدمة العلم أفلح " . "تدريب الراوي" للسيوطي (ص345) .
ومن فوائد الرحلة في الطلب نذكر منها :
1ـ تحصيلهم للعلم ، وتمكنهم من الجوانب العلمية .
2ـ تطبيقهم وعملهم بما علموا ، ليصبحوا عالمين عاملين .
3ـ نشرهم لما تعلموه من العلم في رحلاتهم .(1/11)
4ـ واتساعهم في الثقافة العامة ، وذلك من خلال احتكاكهم بالناس أثناء رحلاتهم ، ومعرفة ما لديهم من حكم وأمثال ونوادر ، وما شابه ذلك .
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى : وإذا عزم الطالب على الرحلة ، فينبغي له أن لا يترك في بلده من الرواة أحداً إلا ويكتب عنه ما تيسر من الأحاديث ، وإن قلت .
وقد رحل في الحديث الواحد جماعة من السلف ، ذكرنا أسماءهم ، وأوردنا أخبارهم في كتاب "الرحلة في طلب الحديث" فغنينا عن أعادتها في هذا الكتاب . اهـ . "آداب طالب الحديث من "الجامع" للخطيب . إنتقاء بكر بن عبد الله أبو زيد .
الفصل الثاني
تعريف العلم
العلم هو المعرفة ، وهو ضد الجهل .
العِلْمُ : نقيضُ الجهل، عَلِم عِلْماً و عَلُمَ هو نَفْسُه، ورجل عالمٌ و عَلِيمٌ من قومَ عُلماءَ فيهما جميعاً. لسان العرب (12/417).
والعلم الذي نعنيه في هذا الكتاب ، هو العلم الشرعي الذي مدحه الله تعالى في كتابه الكريم ، ومدحه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . وهو إرث الأنبياء.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" .
أخرجه أبو داود كتاب العلم برقم (3641) ، والترمذي في كتاب العلم برقم (3682) ، وابن ماجة برقم (223) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (6297) .(1/12)
قال المناوي : أراد به ما يشمل الرسل كما هو بين والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم ، قال بعض العارفين : إنما يرث الإنسان أقرب الناس له رحما ونسبا وعملا ، فلما كان العلماء أقرب الناس إليهم وأجرأهم على عملهم ورثوهم حالا وفعلا وقولا وعملا ظاهرا وباطنا ، فعلم أنه إنما ينال هذا المنصب من عمل بعلمه فالعاملون به يستحقون الإكرام والإعظام لأنهم من الخلق أسراره وعلى الأرض أنواره وللدين أوتاد وعلى أعداء الله أجناد ، فهم لله أولياء وللأنبياء خلفاء { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّه } . المجادلة (22) .
قال بعض العارفين : العلوم منحصرة في ثلاث ، [أولاً] : علم يتعلق بالدنيا وأسبابها وما يصلح فيها ، [ثانياً] : وعلم يتعلق بالآخرة وما يوصل إليها ، [ثالثاً] : وعلم يتعلق بالحق علم أذواق وشرب ، فالأنبياء جمعوا هذه العلوم ثم ورثها عنهم من تأهل لرتبة الوراثة وما عداهم فإنما يتعلق بالبعض . اهـ . فيض القدير (2/93) .
حكمه
حكمه : منه ما يكون فرض عين على كل مسلم ، مثل تعلم الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، وما شابه ذلك من الأعمال التي يحتاجها المسلم في حياته اليومية ، فيكون عليه فرض أن يتعلم كيف يصلي مثلاً ، أو كيف يحج ، أو أحكام الصيام .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "طلب العلم فريضة على كل مسلم " .
هذا الحديث ثبت عن أنس ، وعن الحسين بن علي ، وعن ابن عباس ، وعن ابن عمر ، وعن ابن مسعود ، وعن علي ، وعن أبي سعيد. صحيح الجامع حديث رقم (3913) .(1/13)
قوله: "طلب العلم فريضة على كل مسلم": قال الإمام المناوي في فيض القدير :قد تباينت الأقوال وتناقضت الآراء في هذا العلم المفروض على نحو عشرين قولاً ، وكل فرقة تقيم الأدلة على علمها ، وكل لكل معارض ، وبعض لبعض مناقض ، وأجود ما قيل قول القاضي : ما لا مندوحة عن تعلمه ، كمعرفة الصانع ، ونبوة رسله ، وكيفية الصلاة ونحوها ، فإن تعلمه فرض عين ، قال الغزالي في الإحياء : المراد العلم باللّه وصفته التي تنشأ عنه المعارف القلبية وذلك لا يحصل من علم الكلام بل يكاد يكون حجاباً مانعاً منه وإنما يتوصل له بالمجاهدة فجاهد تشاهد ثم أطال في تقريره بما يشرح الصدور ويملأ القلب من النور .
وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "طلب العلم فريضة على كل مسلم و إن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر" .
صحيح الجامع حديث رقم (3914) .
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره : طلب العلم ينقسم قسمين : فرض على الأعيان كالصلاة والزكاة والصيام . قلت وفي هذا المعنى جاء الحديث المروي إن طلب العلم فريضة . روى عبد القدوس بن حبيب أبو سعيد الوحاظي ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي قال : سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول : "طلب العلم فريضة على كل مسلم" . قال إبراهيم :لم أسمع من أنس بن مالك إلا هذا الحديث ، وفرض على الكفاية كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه ، إذ لا يصح أن يتعلمه جميع الناس فتضيع أحوالهم وأحوال سراياهم وتنقص أو تبطل معايشهم ، فتعين بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين ، وذلك بحسب ما يسره الله لعباده وقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته ، السادسة طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل . اهـ . تفسير القرطبي (7/311) .(1/14)
وروى عن بن المبارك ، أنه سئل عن تفسير هذا الحديث ، فقال ليس هو الذي يظنون ، إنما طلب العلم فريضة أن يقع الرجل في شيء من أمور دينه فيسأل عنه حتى يعلمه .
وقال البيضاوي : المراد من العلم هنا مالا مندوحة للعبد عن تعلمه كمعرفة الصانع والعلم بوحدانيته ونبوة رسوله وكيفية الصلاة فإن تعلمه فرض عين .
وقيل : هو طلب علم الحلال حيث كان أكل الحلال فريضة ، وقيل هو علم البيع والشراء والنكاح والطلاق ، إذا أراد الدخول في شيء من ذلك يجب عليه طلب علمه، وقيل هو علم الفرائض الخمس التي بني عليه الإسلام ، وقيل : هو علم التوحيد بالنظر والاستدلال أو النقل ، وقيل هو علم الباطن وهو ما يزداد به العبد يقينا وهو الذي يكتسب بصحبة الصالحين والزهاد والمتعبدين ، فهم وارثو علم النبي - صلى الله عليه وسلم - . اهـ . شرح سنن ابن ماجة (1/20) .
قال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى : والطلب المفروض على كل مسلم إنما هو طلب العلم الذي لا يسعُ جهلهُ ، فتجوز الرحلة بغير إذن الأبوين إذا لم يكن ببلد الطالب من يعرفه واجبات الأحكام ، وشرائع الإسلام ، فأما إذا كان قد عرف علم المفترض عليه ، فتكون له الرحلة إلا بإذن أبويه .
قال أبو بكر أيضاً : وإذا منع الطالب أبواه عن تعلم العلم المفترض ، فيجب عليه مداراتهما ، حتى تطيب له أنفسهما ، ويسهل من أمره ما يشق عليهما . اهـ . آداب طالب الحديث من "الجامع" للخطيب .(1/15)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه فان هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا والدين ما بعث الله به رسول وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به وعلى كل أحد أن يصدق محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما وطاعة عامة ثم إذا ثبت عنه خبر كان عليه أن يصدق به مفصلا وإذا كان مأمورا من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصلة وكذلك غسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم فرض على الكفاية وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على الكفاية . اهـ . مجموع الفتاوى (28/80) .
الفصل الثالث
فضل العلم
قال الله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .آل عمران (18) .
بدأ بنفسه سبحانه وتعالى ، وثنى بملائكته ، وثلث بأولي العلم. وهذا يدل على فضلهم ومكانتهم عند الله جل في علاه .(1/16)
وقال تعالى: { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } العنكبوت (43) .قال ابن كثير رحمه الله تعالى : أي وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه ، قال الإمام أحمد ، حدثنا إسحق بن عيس ، حدثني ابن لهيعة ، عن أبي قبيل ، عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : "عقلت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل" . وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - حيث يقول الله تعالى : "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" . تفسير ابن كثير (3/415) .
وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } . سورة العنكبوت: (49).
وقال سبحانه وتعالى : { وقل ربِّ زدني علماً } . سورة طه: (114).
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : واضح الدلالة في فضل العلم ، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم ، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه . اهـ . فتح الباري (1/141) .
وقال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب } . سورة الزمر (9).
وقال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . سورة المجادلة (11).
قيل في تفسيرها يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم ورفعة الدرجات تدل على الفضل إذ المراد به كثرة الثواب وبها الجنة . اهـ . فتح الباري (1/141) .(1/17)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم ، حدثنا ابن شهاب ، عن أبي الطفيل عامر بن وائلة ، أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر من استخلفت على أهل الوادي ، قال استخلفت عليهم ابن أبزي رجل من موالينا ، فقال عمر استخلفت عليهم مولى ، فقال يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قاض ، فقال عمر رضي الله عنه أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال : "إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين" [ رواه مسلم برقم (816) ] . اهـ . تفسير ابن كثير (4/327).
وقال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } .سورة فاطر (28).
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين إنما أنا قاسم ويعطي الله ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله". أخرجه البخاري في كتاب العلم برقم (71) وفي كتاب الاعتصام برقم (7312) وفي كتاب الخمس (3116)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة برقم (2386 و 2389).
مفهوم الحديث أنه من لم يتفقه في الدين أي يتعلم قواعد الإسلام لم يرد الله به خيرا ويلهمه برشده بباء موحدة أوله بخط المصنف وفيه كالذي قبله شرف العلم وفضل العلماء وأن التفقه في الدين علامة على حسن الخاتمة وروى البخاري في الصحيح معلقا من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما العلم بالتعلم . فيض القدير (6/242) .
وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام أحدها فضل التفقه في الدين وثانيها أن المعطي في الحقيقة هو الله وثالثها أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدا . اهـ . فتح الباري (1/164) .(1/18)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فكل من أراد الله به خيرا فلا بد أن يفقهه في الدين فمن لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرا وليس كل من فقهه في الدين قد أراد به خيرا بل لا بد مع الفقه في الدين من العمل به فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح فلا بد من معرفة الرب تعالى ولا بد مع معرفته من عبادته والنعيم واللذة حاصل بذلك . اهـ . الصفدية (2/266) .
وقال المناوي رحمه الله تعالى : إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين وألهمه رشده ، أي وفقه لإصابة الرشد وهو إصابة الحق ذكره القاضي ، قال الزمخشري : والرشد الاهتداء لوجوه المصالح ، قال تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } النساء الآية (6) ، ومعنى إضافته إليه أنه رشد له شأن ، قال السمهودي : ومفهومه أن من لم يفقهه في الدين ولم يرشده لم يرد به خيرا ، وقد أخرجه أبو نعيم وزاد في آخره ومن لم يفقهه في الدين لم يبال الله به ، وكذا أبو يعلى لكنه قال ومن لم يفقهه لم يبال به ، وفيه أن العناية الربانية وإن كان غيبها عنا فلها شهادة تدل عليها ودلالة تهدي إليها ، فمن ألهمه الله الفقه في الدين ظهرت عناية الحق به وأنه أراد به خيرا عظيما كما يؤذن به التنكير ، وهذا التقرير كله بناء على أن المراد بالفقه علم الأحكام الشرعية الاجتهادية . اهـ . فيض القدير (1/258) .
قال البخاري : باب فضل العلم وقول الله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } المجادلة الآية (11) .
وقوله عز وجل : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } . طه الآية (114).(1/19)
عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث ، فقال بعض القوم سمع ما قال فكره ما قال ، وقال بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه، قال أين أراه السائل عن الساعة قال : ها أنا يا رسول الله ، قال : فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".رواه البخاري رقم (59) .
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث : ولد صالح يدعو له وصدقة تجري يبلغه أجرها وعلم يُعمل به من بعده". صحيح الترغيب برقم (76) .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
رواه البخاري في كتاب العلم برقم (73)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (816).
الحسد هنا يراد به : الغِبطة وهو أن يتمنى مثله .
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه - : "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم". متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً".
رواه ابن ماجة (4112) والترمذي (2323) وقال: حديث حسن، وقال الشيخ الألباني : "حسن صحيح"، الترغيب برقم (70).(1/20)
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فسدت وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله فعلم ونفعه ما بعثني الله به وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". أخرجه البخاري في كتاب العلم برقم (79) ، ومسلم في كتاب الفضائل برقم (5912) .
"الكلأ" : بالهمز وهو العشب رطبه ويابسه .
"الأجادب" : هي الأرض الصلبة التي تمسك الماء ولا تنبت .
و "القيعان" : جمع قاع وهي الأرض المستوية .
"الغيث" : المطر .
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير".
أخرجه الترمذي (2685) ، والدارمي (1/97 - 98) ، الترغيب (78)، المشكاة (213، 214) ، الحديث حجة (ص53) ، إصلاح المساجد (ص12) .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرُب مبلَّغٍ أوعى من سامع". أخرجه الترمذي (2657، 2658) وابن ماجة (232) وأحمد (1/437). والحميدي (88) والبغوي (112) في شرح السنة، المشكاة (230، 231)، صحيح الترغيب (83) ، صحيح الجامع رقم (6764) .
وفي رواية عن زيد بن ثابت : "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه" .
صحيح الجامع حديث رقم (6763) .(1/21)
قال المناوي قوله : "نضر اللّه امرأ" بفتح النون وضاد معجمة ، قال التوربشتي : الحسن والرونق يتعدى ولا يتعدى ، قال الحافظ العراقي : روي مشدداً ومخففاً ، ومعناه ألبسه النضرة وخلوص اللون : يعني جمله اللّه وزينه ، أو معناه : أوصله اللّه إلى نضرة الجنة وهي يمها ، قال تعالى : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } المطففين
(24) . وقال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } . القيامة (22) . وقال تعالى : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } . الإنسان (11) . وقال جرير : طرب الحمام بذكركن فشاقني ، لا زلت في فنن الرياض الناضر " أي مورف غض " وقيل : معناه حسن اللّه وجهه في الناس أي جاهه وقدره ، ثم إن قوله نضر يحتمل الخبر والدعاء ، وعلى كل فيحتمل كونه في الدنيا ، وكونه في الآخرة ، وكونه فيهما "سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" .(1/22)
قال الخطابي : فيه دلالة على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بمتناه في الفقه ، لأن فعله يقطع طريق الاستنباط على من بعده ممن هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه بين به أن راوي الحديث ليس الفقه من شرطه ، إنما شرطه الحفظ ، أما الفهم والتدبر فعلى الفقيه ، وهذا أقوى دليل على رد قبول من شرط لقبول الرواية كون الراوي فقيهاً عالماً ، وقسم التحمل إلى شيئين : لأن حامل الحديث لا يخلو إما أن يكون فقيهاً ، أو غير فقيه ، والفقيه إما أن يكون غيره أفقه أو لا ، فانقسم بذلك إليهما . وفيه كالذي قبله ، على أن أساس كل خير حسن الاستماع ، قال الله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ } . الأنفال (23) . وقد حقق العارفون أن كلام اللّه رسالة من اللّه لعبيده ومخاطبة لهم ، وهو البحر المشتمل على جواهر العلم المتضمن لظاهره وباطنه . ولهذا قاموا بأدب سماعه ورعوه حق رعايته ، وقد تجلى لخلقه في كلامه قال تعالى : { وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ } يونس الآية (42) . كلام رسوله مما يتعين حسن الاستماع لأنه لا ينطق عن الهوى . اهـ . فيض القدير .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عندهم ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6793) ، وأبو داود في الأدب برقم (4946) ، وابن ماجة (225) .
"نفس" : أزال .(1/23)
"ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" معناه : من كان عمله ناقصاً لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال ، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل.
قوله : "سهل الله له طريقا" ، أي في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة ، وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة ، قوله وقال أي الله عز وجل وهو معطوف على قوله ، لقول الله : "إنما يخشى الله" ، أي يخاف من الله من علم قدرته وسلطانه وهم العلماء ، قاله ابن عباس . فتح الباري (1/161).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في هذا الحديث: فضل المشي في طلب العلم ، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى ، وإن كان هذا شرطاً في كل عبادة، العلماء يقيدون هذه المسألة لكونه قد يتساهل فيه بعض المبتدئين ونحوهم، أ.هـ. شرح مسلم .
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له". أخرجه مسلم في كتاب الوصية برقم (4199) ، والترمذي في كتاب الأحكام برقم (1376)،والنسائي في كتاب الوصايا برقم (3653).
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ أخذ بحظ وافر".(1/24)
أخرجه أبو داود برقم (3641) ، والترمذي (3682) ، وابن ماجة (223) ، وابن حبان (88 مع الإحسان) ، وأحمد (5/196) ، والدارمي (1/98) ، والبغوي في شرح السنة (1/275-276) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/36-37) ، والطحاوي في مشكل الآثار (1/429) ، الإيمان (25و 115) ، صحيح الجامع برقم (6297) .
وعن زر بن حبيش قال : أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه - أسأله عن المسح على الخفين فقال : ما جاء بك يا زر؟ فقلت : ابتغاء العلم فقال : إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب فقلت : إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول وكنت امرءاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجئت أسأل هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً ؟ قال : نعم ، كان يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم فقلت : هل سمعته يذكر في الهوى شيئاً؟ قال : نعم كنا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري يا محمد فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحواً من صوته : "هاؤم" فقلت له : ويحك اغضض من صوتك فإنك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نهيت عن هذا فقال : والله لا أغضض ، قال الأعرابي : المرء يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : المرء مع من أحب يوم القيامة".
فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاماً ، قال سفيان أحد الرواة قبل الشام خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه".
أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات برقم (3535) ، وقال : حسن صحيح ، وأحمد في المسند (4/239) ، فقه السيرة (214) ، الإيمان ، (ص 60) .(1/25)
فيه فائدة عظيمة وهو فضيلة العلم وطلب العلم والمراد به العلم الشرعي أي العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وعن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله أوحى إلي : أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة و من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة و فضل في علم خير من فضل في عبادة و ملاك الدين الورع" .
صحيح الجامع حديث رقم (1727) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : هذا الدين قام بأمرين: قام بالعلم والبيان وبالسلاح والسنان حتى أن بعض العلماء قال: "إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح" لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم والجهاد بالسلاح مبني على العلم لا يسير المجاهد ولا يقاتل ولا يحجم ولا يقسم الغنيمة ولا يحكم بالأسرى إلا عن طريق العلم فالعلم هو كل شيء ولهذا قال الله عزوجل : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } المجادلة الآية(11) . اهـ .شرح رياض الصالحين (1/15).
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني أُبدع بي فاحملني فقال : "ما عندي" ، فقال رجل : يا رسول أنا أدُلُهُ على من يحمله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" .
أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4876) ، وأبو داود في كتاب الأدب برقم (5129) ، والترمذي في كتاب العلم برقم (2671) .
"أبدع بي" بضم الهمزة وكسر الدال يعني : ظَلَعتْ ركابي .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" . أخرجه مسلم برقم (2674) .(1/26)
وروي عن ابن مسعود أنه قال : إنما العلم الخشية .
وقال الشافعي رحمه الله : كفى بالعلم فضيلة أن يدعيه من ليس فيه ، ويفرح إذا نسب إليه ، وكفى بالجهل شراً أن يتبرأ منه من هو فيه ، ويغضب إذا نسب إليه . مناقب الشافعي للبيهقي .
وقال رحمه الله : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ، وقال : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ، وقال ما تقرب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفصل من طلب العلم . تهذيب الأسماء واللغات (1/75) .
باب ما جاء في طلب العلم
عن مالك ، أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال : "يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء" .
الموطأ رقم (1821) .
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة ، ولقد كنت أطلب القرطاس فيعسر علي ، وقال : لا يطلب أحدا هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح ، ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة العلم وتواضع النفس أفلح ، وقال : تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه ، وقال : من طلب علما فليدقق لئلا يضيع دقيق العلم ، وقال : من لا يحب العلم لا خير فيه ولا يكون بينك وبينه صداقة ولا معرفة . اهـ . تهذيب الأسماء واللغات (1/75) .
ثواب طلب العلم وتعليمه لوجه الله عز وجل
عن صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه - قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد متكٍ على بردٍ له أحمر فقلت : يا رسول الله إني جئت أطلب العلم فقال : "مرحباً بطالب العلم إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب".
رواه أحمد وابن حبان وابن ماجة إلا أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "ما من خارج يخرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع" .(1/27)
حسنه شيخنا الألباني رحمه الله في "الترغيب" برقم (68و 80) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : "سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم : مرحبا بوصية رسول الله و أفتوهم" .
صحيح الجامع حديث رقم (3651) .
قال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير :
"سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم مرحباً" ، أي رحبت بلادكم واتسعت وأتيتم أهلاً لا غرباً فاستأنسوا ولا تستوحشوا وهو مصدر استغنى به عن الفعل وألزم النصب "بوصية رسول اللّه" ، وقد درج السلف على قبول وصيته فكان أبو حنيفة يكثر مجالس طلبته ويخصهم بمزيد الإكرام وصرف العناية في التعظيم وكان البويطي يدنيهم ويقربهم ويعرفهم فضل الشافعي وفضل كتبه ويحضهم على الاشتغال ويعاملهم بأشرف الأحوال وأفتوهم بالفاء أي علموهم وفي رواية الديلمي وغيره بالقاف والنون يعني أرضوهم من أقنى أي أرضى وقيل : لقنوهم وقيل : أعينوهم .
إن الله لا ينزع العلم منكم بعدما أعطاكموه انتزاعا ، ولكن يقبض العلماء بعلمهم و يبقى جهال فيسألون فيفتون فيضلون و يضلون . اهـ .
وعن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن الله أوحى إلي : أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة و من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة و فضل في علم خير من فضل في عبادة و ملاك الدين الورع" . صحيح الجامع حديث رقم (1727) .
عن علي بن أبي طالب ، وأبي هريرة رضي الله عنهما ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها".
رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، والذي يظهر أنه موقوف على علي - رضي الله عنه - ولا يصح رفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم . ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم (4301) .(1/28)
قال القاضي : الكلمة هنا بمعنى الكلام والحكمة المحكمة وهي التي تدلّ على معنى فيه دقة للحكيم الفطن المتقن الذي له غور في المعاني وضالته مطلوبه والمعنى أن الناس متفاوتة الأقدام في فهم المعاني واستنباط الحقائق المحتجبة واستكشاف الأسرار المرموزة فمن قصر فهمه عن إدراك حقائق الآيات ودقائق الأحاديث ينبغي أن لا ينكر على من رزق فهمها وألهم تحقيقها ولا ينزع فيه كما لا ينازع صاحب الضالة في ضالته إذا وجدها وأن من سمع كلاماً ولم يفهم معناه أو لم يبلغ كنهه فعليه أن لا يضيعه ويحمله إلى من هو أفقه منه فلعله يفهم منه ما لا يفهمه ويستنبط ما لا يمكنه استنباطه كما أن الرجل إذا وجد ضالة مضيعة فلا يضيعها بل يأخذها ويتفحص عن صاحبها حتى يجده فيردها عليه فإن العالم إذا سئل عن معنى ورأى في السائل دراية وفطانة يستعيد بها فهمه ، فعليه أن يعلمه ولا يمنعه. اهـ . فيض القدير .
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعمله كأن له كأجر حاج تاماً حجته". أخرجه الطبراني بإسناد لا بأس به، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/123):"رواه الطبراني في الكبير ورجاله كلهم موثوقون"، صحيح الترغيب رقم(81) .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع". رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، المشكاة : (220) الرياض : (1392) .
وعن واثلة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من طلب علماً فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر ومن طلب علماً فلم يدركه كتب الله له كفلاً من الأجر" .
أخرجه الطبراني قال في المجمع (1/123) : "رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثوقون" ، المشكاة (253) .
الكفل : بكسر الكاف هو النصيب .(1/29)
وروى البخاري في "صحيحه" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : "كنت أنا وجار لي من الأنصار ، [هو أوس بن خولي الأنصاري ، كما قال ابن حجر في فتح الباري (9/244) كتاب النكاح] . في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة [قرى بقرب المدينة من ناحية الشرق] ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزل جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك" . فتح الباري (1/167) كتاب العلم "باب التناوب في العلم" .
فانظر رحمك إلى حرص الفاروق عمر - رضي الله عنه - على تحصيل العلم .
فلماذا لا نقتدي به في طلب العلم والعمل به وتعليمه للناس لننال بذلك رضى الرحمن سبحانه وتعالى.
وهذا شيخ المحدثين الإمام أبو زكريا يحيى بن معين ،كان معين على خراج الريّ ، فخلَّف ليحيى ابنه ألف ألف درهم ، فأنفقه كله على الحديث، حتى لم يبق
له نعلٌ يلبسه.
وهذا الحافظ ابن منده ، أبو عبد الله ، محدث الإسلام ، رحل في طلب العلم وعُمُره عشرون سنة ، ورجع وعُمُره خمس وستون سنة ، وكانت رحلته خمساً وأربعين سنة .
قال الذهبي : "ولم أعلم أحداً كان أوسع رحلةً منه، ولا أكثر حديثاً منه، مع الحفظ والثقة ، فبلغنا أن عدة شيوخه ألف وسبعمائة شيخ". اهـ . سير أعلام النبلاء (17/30) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها .
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة .
وعنه قال : من رأى أن الغدو إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : طلب العلم أفضل من النافلة .
قال صالح بن أحمد بن حنبل : رأى رجل مع أبي محبرةً ، فقال له : يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ ، وأنت إمام المسلمين ؟ فقال : مع المحبرة إلى المقبرة .
يعني : كَيف تحمل المحبرة وأنت إمام المسلمين .(1/30)
وقال رحمه الله تعالى : أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر . اهـ . مناقب الإمام أحمد (ص31) .
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة".
أخرجه البخاري (6/660 فتح) ، ومسلم برقم (2628) .
يحذيك : يعطيك .
المسك : الطيب .
الكير : جراب من جلد ينفخ به الحداد النار .
تبتاع : تشتري .
ثواب تعليم العلم وتصنيفه ونسخه وروايته
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره وولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته". رواه ابن ماجة بإسناد حسن وابن خزيمة، المشكاة (254)، الإرواء
(1079)، الجنائز (176-177) الترغيب (73، 108، 273) وقال شيخنا الألباني : "حسن" .
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له". أخرجه مسلم .
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع". رواه الطبراني في الأوسط والبزار بإسناد حسن ، وصححه الألباني في الترغيب (65) .
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث : ولد صالح يدعو له ، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يُعملُ به من بعده".
رواه ابن ماجة بإسناد صحيح وقال الألباني : "صحيح" "الترغيب" رقم (75) .(1/31)
وعن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر".
رواه البزار من حديث عائشة ، وصححه الألباني في "الترغيب" برقم (78) .
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه ، كان له كأجر حاجٍّ تاماً حجتُهُ". رواه الطبراني بإسناد لا بأس به وصححه الألباني في الترغيب (81).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله ، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره". رواه ابن ماجة والبيهقي ، وقال الألباني : "صحيح" الترغيب رقم (82) .
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "أربعةٌ تجري عليهم أجورهم بعد الموت : رجلٌ مات مرابطاً في سبيل الله ، ورجل علم علماً فأجره يجري عليه ما عُمِل به ، ورجل أجرى صدقةً فأجرها له ما جَرَت، ورجل ترك ولداً صالحاً يدعوا له".
رواه الإمام أحمد ، والبزار ، والطبراني في "الكبير" ، و "الأوسط" ، وصححه الألباني في الترغيب (109).
وعن علي - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } . التحريم (6) . قال "علموا أهليكم الخير". رواه الحاكم موقوفاً وقال : (صحيح على شرطهما) ، وقال الألباني : "صحيح" الترغيب (114) .
قال البخاري : باب فضل من علم وعلم(1/32)
حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا حماد بن أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى ، عن النبي - رضي الله عنه - قال : "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" . أخرجه البخاري في صحيحه برقم (79) ، ومسلم برقم (2282) .
قال أبو عبد الله : قال إسحاق وكان منها طائفة قيلت الماء قاع يعلوه الماء والصفصف : المستوي من الأرض. البخاري برقم (79) .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : أما الغيث : فهو المطر وأما العشب والكلأ والحشيش فكلها أسماء للنبات لكن الحشيش مختص باليابس والعشب والكلأ مقصورا مختصان بالرطب والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب .
وأما الأجادب فبالجيم والدال المهملة ، وهي الأرض التي لا تنبت كلأ وقال الخطابي هي الأرض التي تمسك الماء فلا يسرع فيه النضوب قال ابن بطال وصاحب المطالع وآخرون هو جمع جدب على غير قياس كما قالوا في حسن جمعه محاسن والقياس أن محاسن جمع محسن وكذا قالوا مشابه جمع شبه وقياسه أن يكون جمع مشبه قال الخطابي وقال بعضهم أحادب بالحاء المهملة والدال قال وليس بشيء ، قال وقال بعضهم أجارد بالجيم والراء والدال ، قال وهو صحيح المعنى ، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس .
فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحي بعد أن كان ميتا وينبت الكلأ فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع .(1/33)
والنوع الثاني من الأرض مالا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع بها الناس والدواب وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بما بلغهم .
والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع بها غيرها ، وكذا النوع الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم والله أعلم .
وفي هذا الحديث أنواع من العلم : منها ضرب الأمثال ، ومنها فضل العلم والتعليم وشدة الحث عليهما وذم الإعراض عن العلم والله أعلم اهـ . شرح النووي (15/46ـ48) .
سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال ألم تسمع إلى قوله حين بدأ به فقال : "فاعلم أنه لا إله إلا الله" ، ثم أمره بالعمل فقال "واستغفر لذنبك" ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، لا يغفر إلا بها من قالها غفر له . اهـ . حلية الأولياء (7/285) .
قال القاسم بن سلاّم أبو عبيد رحمه الله تعالى : المتبع للسنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله عزوجل . قال الألباني معلقاً على هذا الكلام : قلت هذا في زمانه فماذا يقال في زماننا . اهـ . كتاب الإيمان لأبي عبيد (ص50) بتحقيق الألباني .(1/34)
قال الشافعي رحمه الله طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ، وقال من أراد الدنيا فعليه بالعلم ، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ، وقال ما تقرب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفصل من طلب العلم، وقال ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة ولقد كنت أطلب القرطاس فيعسر علي ، وقال لا يطلب أحدا هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة العلم وتواضع النفس أفلح ، وقال تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه . تهذيب الأسماء واللغات (1/74).
قال شيخ الإسلام : وفي الترمذي وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - : "خصلتان لا يجتمعان في منافق ، حسن سمت وفقه في الدين" ، فجعل الفقه في الدين منافيا للنفاق ، بل لم يكن السلف يطلقون اسم الفقه إلا على العلم الذي يصحبه العمل ، كما سئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة ، قال اتقاهم ، وسأل فرقد السنجي الحسن البصري عن شيء فأجابه ، فقال إن الفقهاء يخالفونك ، فقال الحسن ثكلتك أمك فُرَيقِدُ وهل رأيتَ بعينيك فقيها إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علمه الله تعالى أجراً ، وقال بعض السلف إن الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم مكر الله ، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه ، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - كفى بخشية الله علما ، وبالاغترار بالله جهلا ، قالوا فهذا القرآن والسنة ، وإطلاق السلف من الصحابة والتابعين يدل على إن العلم والمعرفة مستلزم للهداية ، وإن عدم الهداية دليل على الجهل وعدم العلم ، قالوا ويدل عليه إن الإنسان ما دام عقله معه لا يؤثر هلاك . اهـ . مفتاح دار السعادة (1/89) .
عن أنس - رضي الله عنه - : "صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر" .
صحيح الجامع حديث رقم (3753) .(1/35)
قال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير في تعليقه على هذا الحديث : "صاحب العلم" ، أي صاحب العلم الشرعي العامل به ، المعلمه لغيره لوجه اللّه تعالى "يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر" ، فيا لها من مرتبة ما أسناها ، ومنزلة ما أرفعها وأعلاها ، يكون المرء مشتغلاً بأمر دنياه وصحف حسناته متزايدة وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب هذا سر قوله "من يرد اللّه به خيراً يفقهه في الدين" ، ولولا العلماء الذين يتلقون العلم ويعلمونه الناس ويبينون الحلال من الحرام جيلاً بعد جيل لهلكت الناس والدواب والأنعام حتى حيتان البحر وضاع الدين واضمحل العدل فحق لهم أن يستغفروا له. اهـ .(1/36)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وكما أن لله ملائكة موكلة بالسحاب والمطر فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم هذا رزق القلوب وقوتها وهذا رزق الأجساد وقوتها ، قال الحسن البصري في قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . البقرة (3) ، قال إن من أعظم النقفة نفقة العلم أو نحو هذا الكلام . وفي أثر "آخر نعمت العطية ونعمت الهدية الكلمة من الخير يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم" ، وفي أثر "آخر عن أبي الدرداء ما تصدق عبد بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها إخوانا له مؤمنين فيتفرقون وقد نفعهم الله بها أو ما يشبه هذا الكلام" ، وعن كعب بن عجرة قال : ألا أهدي لك هدية فذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "قال أفضل الصدقة أن يتعلم الرجل علما ثم يعلمه أخاه المسلم".(1/37)
وقال معاذ بن جبل: "عليكم بالعلم فإن طلبه عبادة ، وتعلمه لله حسنة، وبذله لأهله قربة، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، والبحث عنه جهاد، ومذاكرته تسبيح"، ولهذا كان معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير لما في ذلك من عموم النفع لكل شيء وعكسه كاتموا العلم فإنهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، قال طائفة من السلف إذا كتم الناس العلم فعمل بالمعاصي احتبس القطر فتقوم البهائم اللهم عصابة بني آدم فإنا منعنا القطر بسبب ذنوبهم، وإذا كان علم الإنسان بكونه عالما مرجعه إلى وجوده ذلك وإحساسه في نفسه بذلك وهذا أمر موجود بالضرورة لم يكن لهم أن يخبروا عما في نفوس الناس بأنه ليس بعلم بغير حجة فإن عدم وجودهم من نفوسهم ذلك لا يقتضي أن الناس لم يجدوا ذلك لا سيما إذا كان المخبرون يخبرون عن اليقين الذي في أنفسهم عمن لا يشكون في علمه وصدقه ومعرفته بما يقول وهذا حال أئمة المسلمين وسلف الأمة وحملة الحجة فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم الضروري . اهـ . مجموع الفتاوى (4/41ـ42) .
الفصل الرابع
الإخلاص في طلب العلم وصدق النية
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما
هاجر إليه".(1)
وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الصدق والإخلاص؟ فقال: بهذا ارتفع القوم.
وقال عون بن عمارة : سمعتُ هشاماً الدَّستوائي يقول : والله ما أستطيع أن أقول : إني ذهبتُ يوماً قطُّ أطلب الحديث أُريد به وجه الله عز وجل .
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان (54)، ومسلم في الإمارة برقم (1907).(1/38)
قلت –[أي الذهبي]-: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فَنَبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبهُ قومٌ منهم أولاً لا لله، وحصَّلوه، ثم استقاموا وحاسبوا أنفسهم فجرَّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثم رزق الله النية بعدُ، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، فهذا أيضاً حسن. ثم نشروه بنيَّة صالحة.
وقال الشافعي رحمه الله : وددتُ أن الناس تعلَّموا هذا العلم –يعني كتبه- على أن لا يُنسب إلي منه شيءٌ.
وقال : ما ناظرت أحداً إلا على النصيحة .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع: "نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فرب حامل فقهٍ ليس بفقيه، ثلاث لا يُغَل عليهن قلبُ امرئ مؤمنٍ: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم".(1)
قال في النهاية نَضَره ونضَّره وأنضَره: أي نعمه: ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره.
(يُغل): هو من الإغلال وهي الخيانة في كل شيء.
وعن مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - ، أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".(2)
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً.
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي.
__________
(1) رواه البزار وصححه الألباني في الترغيب برقم (3).
(2) رواه النسائي في الجهاد (6/45)، وصححه الألباني في الترغيب برقم (5).(1/39)
وعن أبي حمزة الثُّمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به، ويقول: "إن صدقة السر تطفئ غضب الربّ عز وجل".(1)
وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسَّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقالوا: كان يحمل جُرُب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة! (2)
وعن ابن عائشة قال: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فَقَدنا صدقة السرّ حتى مات علي بن الحسين. (3)
وعن سفيان قال: أخبرتني مرّيّة الربيع بن خُثيم قالت: كان عمل الربيع كلُّه سراً، إن كان ليجئُ الرجل وقد نشَر المصحف فيغطيه بثوبه.
وقال ابن الجوزي: كان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخل غطاه.
وعن جبير بن نفير، أنه سمع أبا الدرداء، وهو في آخر صلاته، وقد فرغ من التشهد، يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه، قال جبير: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليُقْلَبُ عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه. (4)
وعن عبد الله بن مبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلَّموا لعزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخَلْق. (5)
وقال علي بن الحسن بن شقيق: لم أر أحداً من الناس أقرأ من ابن المبارك ولا أحسن قراءة، ولا أكثر صلاة منه، كان يصلي الليل كله في السفر وغيره، وإنما ترك النوم في المحمل، لأنه كان يصلي، وكان الناس لا يدرون.
وكان أيوب بن كيسان السختياني يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. (6)
__________
(1) يأتي تخريجه في "أبواب الصدقات".
(2) صفة الصفوة: (2/96).
(3) المصدر السابق.
(4) سير أعلام النبلاء: 6/383 وقال الذهبي: إسناده صحيح.
(5) صفة الصفوة: 4/122.
(6) حلية الأولياء 3/8.(1/40)
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إن لله عباداً يميتون الباطل بهجره ويحيون الحق بذكره ، رغبوا فرعبوا ورهبوا فرهبوا خافوا فلا يأمنون ، أبصروا من اليقين مالم يعاينوا فخلطوه بما لم يزايلوه ، أخلصهم الخوف فكانوا يهجرون ما ينقطع عنهم لما يبقى لهم الحياة عليهم نعمة والموت لهم كرامة فزوجوا الحور العين وأخدموا الولدان المخلدين. حلية الأولياء(1/51) .
وقال رجل للشَّعْبي: أيها العالم، فقال: لسنا بعلماء، إنّما العالم من يخشَى الله.
وقال ابن مسعود: وكفى بخشية الله علْماً، وبالاغترار بالله جهلاً. (1)
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وهو جالس في فناء الكعبة: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، والله لو تعلمون العلم الحقيقي لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، وبكى حتى ينقطع صوته .
قال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدى كما يتعلمون العلم .
قال مجاهد رحمه الله تعالى: لايتعلم اثنان : مستكبر ومستحي .
الفصل الخامس
الخلق والأدب والتواضع
قال الله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . الأعراف (199) وقال تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } فصلت(34)
قال الله تعالى : { وإنك لعلى خلقٍ عظيم } . سورة القلم الآية (4).
وقال الله تعالى { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } . سورة آل عمران (134) .
__________
(1) شفاء العليل (1/181) .(1/41)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال : "تقوى الله وحُسن الخُلق" وسُئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال : " الفم والفرج" أخرجه البخاري في ( الأدب المفرد) برقم (289) والترمذي (2004) وابن ماجة (4246) وابن حبان (476)، وأحمد (2/291, 392و442)، والحاكم (4/324) والبيهقي في الزهد (236) والقضائي في الشهاب
(1050)، والبغوي في معالم التنزيل (4/377) ، وشرح السنة
(13/79 - 80) ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ص (10) من طريق يزيد بن داود الأودي عنه به، وحسنه الألباني في الترغيب برقم (2642).
فعلى طالب العلم أن يتحلى بالأخلاق الحسنة ، وعليه أن يتأسى بأخلاق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . القلم (4) .
وثبت عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان خلقه القرآن.
فعن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : "كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن" ، وهكذا رواه أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي ، ورواه النسائي في التفسير . وفي رواية "كان خلقه القرآن" .
صحيح الجامع حديث رقم (4811) .
قال المناوي رحمه الله : "كان خلقه" بالضم ، قال الراغب : هو والمفتوح الخاء بمعنى واحد ، لكن خص المفتوح بالهيئات والصور المبصرة والمضموم بالسجايا والقوى المدركة بالبصيرة ثم قيل للمضموم غريزي .
" القرآن" : أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك ، وقال القاضي : أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه فكان القرآن بيان خلقه . انتهى . فيض القدير .(1/42)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : وعن إسحاق بن منصور ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح به ، ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له وخلقا تطبعه وترك طبعه الجبلي ، فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل ، كما ثبت في الصحيحين ، البخاري برقم (3561) و مسلم برقم (2309) .
وعن أنس قال : "خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته لم فعلته وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا ولا مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". اهـ . تفسير ابن كثير (4/403ـ404) .
وعلى طالب العلم أن يأخذ من شيخه الأدب والسمت الحسن كما يأخذ منه العلم ، ذكر السمعاني : أن مجلس الإمام أحمد كان يحضره خمسة آلاف ، فكان خمسمائة منهم يكتبون ، والباقي يستمدون من سمته وخلقه وأدبه . سير أعلام النبلاء (11/316) .
قال البخاري : حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا إبراهيم بن يونس عن أبيه عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجها وأحسن الناس خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير" .(1/43)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : "بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا .
قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه .
قال فأخبرني عن الإيمان ، قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال صدقت . قال فأخبرني عن الإحسان ، قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
قال فأخبرني عن الساعة ، قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل . قال فأخبرني عن إمارتها ، قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان .
قال ثم انطلق فلبثت مليا ، ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل ، قلت الله ورسوله أعلم ، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" .
رواه البخاري برقم (4499) ، ومسلم برقم (8) .
قال القاضي عياض رحمه الله : وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه ، قال : وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألفنا كتابنا الذي سميناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان إذ لا يشذ شئ من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة . والله أعلم .
قوله فيه جمل من فوائده ومما لم نذكره من فوائد ، أن فيه :(1/44)
أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع .
وفيه أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض.
وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله . والله أعلم . اهـ . شرح النووي (1/158) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول : "إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً" .
رواه البخاري في كتاب المناقب برقم (3559) ، ومسلم في كتاب الفضائل برقم (2321).
وعن أبي ذر جندب بن جنادة ، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلقٍ حسن" . أخرجه الترمذي في البر والصلة برقم (1987) ، وأحمد في المسند (5/153، 158، 228) ، والحاكم في المستدرك (1/54) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي وقال الترمذي : "حسنٌ صحيح".
"اتق الله حيثما كنت" التقوى : هي فعل الأوامر واجتناب النواهي.
وكما فسرها على بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " التقوى : هي مخافة الجليل ، والعمل بالتنزيل والرضى بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس شيء أثقل في الميزان من الخُلق الحسن" . رواه أحمد في مسنده ، وصححه شيخنا الألباني في "صحيح الجامع"
(52606) ، و"الصحيحة" (2/564) ، و"الترغيب" (2641) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً في الدنيا" . رواه ابن عساكر ، صحيح الجامع (1569) .(1/45)
وعن سهل بن سعد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها" . صحيح الجامع (1858).
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل المؤمنين إسلاماً من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وأفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً ، وأفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى عنه ، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل" .
رواه الطبراني في " الكبير" عن ابن عمرو ، ورواه ابن نصر ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1129)، و"الصحيحة" رقم (1491).
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلقاً" . متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مكتوب في الإنجيل : لافظ ، ولاغليظ ، ولاسخاب بالأسواق،ولايجزي بالسيئة مثلها،بل يعفو ويصفح" .
السلسلة الصحيحة رقم (2458).
وعن ابن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحُسن خلقه وكرم ضريبته" . رواه أحمد والطبراني ، وصححه الألباني في "الصحيحة" (522) ، و"الترغيب" (2647)، وصحيح الجامع حديث رقم (1949).
"الضريبة" : الطبيعة وزناً ومعنىً .
وفي رواية عن عائشة: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار" .
صحيح الجامع حديث رقم (1620) .
وفي رواية عن أبي أمامة : "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر" .
صحيح الجامع حديث رقم (1621) .
"إن الرجل" ، وفي رواية "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة" أي مثل درجة أي منزلة القائم بالليل أي المتهجد فيه(1/46)
"الظامئ الهواجر" أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما يجاهدان أنفسهما في مخالفة حظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم وصيام يمنع من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن الطعام يتقوى وبالنوم ينمو ، فالصائم والقائم مجاهدان بذلك ومن جمعهما فكأنه يجاهد نفساً واحدة ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأن الحسن الخلق لا يحمل غير ، خلقه وأثقاله ويتحمل أثقال غيره وخلقه وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة . اهـ . فيض القدير .
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم فقال : "البر حُسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" .
رواه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2553) .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : قوله : "حاك في صدرك" : أي تحرك وتردد ولم ينشرح له الصدر ، وحصل في القلب منه الشك وخوف كونه ذنباً . شرح مسلم (16/111) .
وعن أبي قلابة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً وألطفهم بأهله" . رواه الترمذي وقال : "حديث حسن"، والحاكم وقال : "صحيح على شرطهما"، الصحيحة (168)، المشكاة (3263)
وعن أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال : كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما على رؤوسنا الطير ما يتكلم منا متكلم ، إذ جاء أُناس فقالوا : من أحبُّ عباد الله إلى الله ؟ قال : " أحسنهم خُلقاً" . رواه الطبراني بإسناد على شرط الصحيح ، قال في المجمع (8/24) : "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
وفي رواية لابن حبان : قالوا : يا رسول الله فما خير ما أُعطي الإنسان قال : " خُلقٌ حسن" .(1/47)
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال : كنت في مجلس فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمرة أبو أمامة فقال : " إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً" . رواه أحمد بإسناد صحيح ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/25) : "رواه الطبراني واللفظ له ، وأحمد وابنه ، وأبو يعلى بنحوه ، ورجاله ثقات".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً وخيارهم خياركم لنسائهم" .
أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع برقم (1162) وقال : "حسنٌ صحيح" ، وأخرجه في كتاب الإيمان برقم (2612) ، وأحمد في المسند (6/47) من حديث عائشة رضي الله عنها ، وأبو داود في كتاب الأدب برقم (4682) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1230 و 1231 و 1232).
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا زعيم بيت في ربضٍ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه" .
رواه أبو داود (4800) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (273) ، و حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص (22) ، والمناسك ص(8) ، والترغيب (2648).
الزعيم : الكفيل الضامن .
ربض الجنة : أدناها ، وربض المدينة ما حولها .
المراء : المجادلة والمنازعة في القول والعمل بقصد الباطل .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله ليبلغ العبد بحسن خلقة درجة الصوم والصلاة" .
رواه الطبراني والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (436) ، الترغيب رقم (2645) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إن المؤمن ليدرك بحُسن خلقة درجة الصائم القائم" .(1/48)
رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وقال : "صحيح على شرط البخاري ومسلم" ، وصححه الألباني في الترغيب برقم (2643) .
وفي رواية الحاكم : " إن المؤمن ليدرك بحُسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار" .
صحيح الجامع رقم (1616) ، الترغيب برقم (2643) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من أحبكم وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً" . رواه الترمذي وقال حديث حسن ، الصحيحة رقم (791) ، الترغيب رقم (2649) .
و عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق" . قيل : وما القلب المحموم ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : " هو التقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد"، قيل : فمن على أثره ؟ قال : "الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة". قيل : فمن على أثره ؟ قال : "مؤمن في خُلُق حسن" . رواه الحاكم والطبراني في " الكبير" وأبو نعيم، والبيهقي في الشعب عن ابن عمرو، وشطره الأول عند ابن ماجة عن ابن عمرو، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3291).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خيركم إسلاماً أحاسنكم أخلاقاً إذا فقهوا" .
رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2312) .
ذُكر معروف عند الإمام أحمد، فقيل قصير العلم، فقال: أمسك وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف.
أنظر إلى هذا الإمام الجليل كيف يربي تلامذته على الأدب والأخلاق الحسنة ، وعدم الطعن في الآخرين ، فلله در هذا الإمام ، وهو بحق من السلف لصالح الذي يتأسى به ، فرحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، فكم نحن بحاجة في هذا الزمان إلى أمثال هؤلاء الرجال ، وأمثال هؤلاء المربين ، ياليتنا تأسينا بهم ، وأخذنا من سمتهم وأدبهم وأخلاقهم .(1/49)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وفي الترمذي وغيره ، عنه - صلى الله عليه وسلم - "خصلتان لا يجتمعان في منافق : حسن سمت ، وفقه في الدين" ، فجعل الفقه في الدين منافياً للنفاق بل لم يكن السلف
يطلقون اسم الفقه إلا على العلم الذي يصحبه العمل ، كما سئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة ، قال : أتقاهم ... مفتاح دار السعادة (1/89) .
وعلى طالب العلم أو العالم أن يجيب السائل وأن يرفق به ، وأن يتواضع له ليتعلم دينه .
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه "باب حديث التعليم في الخطبة" . حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة : "انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب ، قال فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه ، قال فأقبل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديدا ،قال فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها" . رواه مسلم (2/597).برقم (876) .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : قوله : "رجل غريب يسأل عن دينه لا يدري ما دينه" ، فيه استحباب تلطف السائل في عبارته وسؤاله العالم ، وفيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقه بالمسلمين وشفقته عليهم وخفض جناحه لهم ، وفيه المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور فأهمها ولعله كان سأل عن الإيمان وقواعده المهمة ، وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الاسلام وجب إجابته وتعليمه على الفور ، وقعوده - صلى الله عليه وسلم - على الكرسي ليسمع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم . اهـ .شرح مسلم (6/165).(1/50)
قال أبو علي الحافظ ، ثنا الهيثم بن خلف الدوري ، ثنا عباد بن يعقوب ، ثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن مطرف بن الشخير ، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع" . صحيح الترغيب رقم (65) .
خيار أمتي علماؤها العالمون بالعلوم الشرعية العاملون بها قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } . آل عمران الآية (110) . والعلماء منهم خيار الخيار : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } المجادلة الآية (11) .
قال المناوي رحمه الله تعالى : وشرف العلوم على حسب شرف المعلوم حتى ينتهي إلى العلم بالله كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "أنا أعلمكم بالله وخيار علمائها رحماؤها" ، أي الذين يرحمون الناس منهم فإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي وفي رواية بدل رحماؤها علماؤها والحليم الذي لا يستفزه الغضب ولا عجلة الطبع وعزة العلم ، فالحلم جمال العلم ألا حرف تنبيه ، وإن الله تعالى ليغفر للعالم العامل أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل أي غير المعذور في جهله ذنبا واحدا إكراما للعلم وأهله والظاهر أن المراد بالأربعين التكثير لكن ربما صدر عنه أنهم أناطوا إرادة التكثير بالسبعين وما قبلها من المنازل ألا وإن العالم الرحيم بخلق الله تعالى يجيء يوم القيامة وإن نوره أي والحال أن نوره قد أضاء له يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب إضاءة قوية كما يضيء الكوكب الدري في السماء وهذا فيه إبانة لعظم العلم وفضل أهله. اهـ . فيض القدير (3/462) .
الرفق في الأمور كلها
قال الله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } . سورة الفرقان الآية (67) .(1/51)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" . رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6024) ، ومسلم في كتاب السلام برقم (2165).
وفي رواية لمسلم : " إن الله رفيق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه" .
وعنها رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه" .
رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2312) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : قوله : "باب الرفق في الأمر كله" الرفق بكسر الراء وسكون الفاء بعدها قاف ، هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل ، وهو ضد العنف ، وذكر فيه حديثين أحدهما حديث عائشة في قصة اليهود لما قالوا السام عليكم وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان ، وقوله : "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" في حديث عمرة عن عائشة ثم مسلم "أن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" والمعنى : أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده وقيل المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره والأول أوجه. فتح الباري (10/449) .
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير" .
رواه الترمذي وقال : "حديث حسن صحيح"، "السلسلة الصحيحة" (51، 563) ، و"المشكاة" (5076) .
وعن عائشة رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرفق" . رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني في "الصحيحة" (523، 219) ، والترغيب (2669).(1/52)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عيه النار تحرم على كل هين لين سهل" . رواه الترمذي وحسنه ، وابن حبان ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (938) ، و"الترغيب" رقم (2676) .
وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من يحرم الرفق
يُحرم الخير" . رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2592).
قال النووي رحمه الله تعالى : وفي هذه الاحاديث فضل الرفق والحث على التخلق وذم العنف ، والرفق سبب كل خير ، ومعنى يعطي على الرفق أي يثيب عليه مالا يثيب على غيره ، وقال القاضي معناه يتأتى به من الاغراض ويسهل من المطالب مالا يتأتى بغيره .اهـ . شرح النووي (16/145) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" .
رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (220) وكتاب الأدب برقم ( 6128) ، ورواه مسلم برقم (284) .
وعن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "يسروا ولا تعسروا وبشروا
ولا تنفروا" . رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6125) ومسلم في كتاب الجهاد برقم (1734).
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها"
رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6126) وفي كتاب المناقب برقم (3560) ، ومسلم في كتاب الفضائل برقم (2327).(1/53)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بردٍ نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبةً شديدة فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء" . رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6088) ، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (1057) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" . رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3477) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1792) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" . رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6114) ، ومسلم في كتاب البر والصلة برقم (2609)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" . رواه مسلم برقم (2588) .
قال الإمام النووي رحمه الله تعال : فيه وجهان : أحدهما أنه على ظاهره ، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاده عزه وإكرامه .
والثاني أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " فيه أيضا وجهان: أحدهما يرفعه في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه .
والثاني أن المراد ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا . اهـ . شرح النووي (16/141ـ142).(1/54)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله أوحي إلي أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" . رواه مسلم .
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
زينة العلماء التوفيق ، وحليتهم حسن الخلق ، وجمالهم كرم النفس، وقال زينة العلم الورع والحلم ، وقال لا عيب بالعلماء أقبح من رغبهم فيما زهدهم الله فيه وزهدهم فيما رغبتم فيه ، وقال ليس العلم ما حفظ العلم ما نفع ، وقال فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهال فقر اضطرار . اهـ . تهذيب الأسماء واللغات (1/74) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : أصل العلم خشية الله .بيان فضل علم السلف عن علم الخلف لابن رجب (ص51) .
وكان السلف يقولون : العلماء ثلاثة : عالم بالله عالم بأمر الله ، وعالم بالله ليس بعالم بأمره ، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله ، وأكملهم الأول ، وهو الذي يخشى الله ويعرف أحكامه . وهم العلماء الربانيون العاملون بالعلم النافع الداعون إليه . اهـ .علم السلف عن علم الخلف لابن رجب .
وقال الإمام ابن قيم الجوزية : وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها ، الصبر ، والعفة، والشجاعة، والعدل. فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة .
والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة .
والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم ، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
[(1/55)
رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6114) ، ومسلم في كتاب البر والصلة برقم (2609) ] ، وهو حقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه .
والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة .
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان الجهل والظلم والشهوة والغضب.
فالجهل يريه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن والكمال نقصا والنقص كمالا .
والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه فيغضب في موضع الرضى ويرضى في موضع الغضب ويجهل في موضع الأناة ويبخل في موضع البذل ويبذل في موضع البخل ويحجم في موضع الإقدام ويقدم في موضع الإحجام ويلين في موضع الشدة ويشتد في موضع اللين ويتواضع في موضع العزة ويتكبر في موضع التواضع . اهـ . مدارج السالكين (2/308ـ309) .
وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما : "سلام عليك ، أما بعد : فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً ، ونزلت الأرض المقدسة . فكتب إليه سلمان : اعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد ، ولكن الخير أن يعظم حِلمُك ، وأن ينفعك علمك ، وأن الأرض لا تعمل لأحد ، اعمل كأنك تُرى ، واعدد نفسك من الموتى" . سير أعلام النبلاء (4/93).
عن جرير - رضي الله عنه - قال : "ما حجبني النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي ، ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري وقال : اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا" . رواه البخاري برقم (2871) ، ورواه مسلم برقم (2475) .(1/56)
قال الحافظ: وفي هذا الحديث : بيان حلمه - صلى الله عليه وسلم - ، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام ، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن .اهـ . فتح الباري (10/506) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج :
"إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ، قال يا رسول الله قديما كانا في أو حديثا ، قال قديما ، قال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما" .
رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (17).
الأشج : اسمه المنذر بن عائذ ، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأشج لأثر كان في وجهه.
قال النووي : وأما الحلم : فهو العقل ، وأما الأناة : فهي التثبت وترك العجلة . شرح النووي (1/189) .
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : وفيها مدح صفتي الحلم والأناة ، وأن الله يحبهما ، وضدهما الطيش والعجلة وهما خلقان مذمومان مفسدان للأخلاق والأعمال ، وفيه دليل على أن الله يحب من عبده ما جبله عليه من خصال الخير كالذكاء والشجاعة والحلم ، وفيه دليل على أن الخلق قد يحصل بالتخلق والتكلف ، لقوله في هذا الحديث خلقين تخلقت بهما أو جبلني الله عليهما فقال بل جبلت عليهما . اهـ . زاد المعاد (3/608) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق ، دون معاملة الخالق ، ولكن هذا الفهم قاصر ، فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق ، فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق جل وعلا ، ومعاملة الخلق أيضاً .
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق ؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور :
1ـ تلقي أخبار الله تعالى بالتصديق .
2ـ وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق .
3ـ وتلقي أقداره بالصبر والرضا .(1/57)
فهذه ثلاثة أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله عزوجل . اهـ . كتاب العلم (ص248ـ249) .
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن العلم ذو فضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه وقلبه حسن النية ، وعقله معرفة الأشياء والأمور الواجبة ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء ، وهمته السلامة ، وحكمته الورع . .
وقال ابن عبد الله المبارك رحمه الله تعالى : "إن للعلم طغياناً كطغيان المال" .
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى : الواجب إن طلبة الحديث أكمل الناس أدباً ، وأشد الخلق تواضعاً ، وأعظمهم نزاهة وتديناً ، وأقلهم طيشاً وغضباً ، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآدابه ، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه ، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين بأجملها وأحسنها ويصرف عن أرذلها وأدونها " .
وقال يحيى بن معين : إن الذي يحدث وفي البلدة من هو أعلم منه أحمق .
وقال أحد الحكماء : يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء .
سب رجل وكيعاً فقيل لوكيع ألا ترد عليه قال ولم تعلمن العلم إذاً .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كان يقال رأس التواضع الرضا بالدون من شرف المجلس .
قال بشر بن الحارث : إن الرئاسة تنزل من السماء فلا تصيب إلا رأس من لا يريدها .
وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى : أما المتعلم فينبغي له تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذم الصفات إذ العلم عبادة القلب .(1/58)
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى : من شُكر العلم أن تقعد مع كل قوم فيذكرون شيئاً لا تحسنه فتتعلم ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر ، فيذكرون ذلك الشيء الذي تعلمته فتقول : والله ما كان عندي شيء حتى سمعت فلاناً يقول كذا وكذا فتعلمته ، فإذا فعلت ذلك فقد شكرت العلم . اهـ . طبقات المفسرين للداودي
(2/36) ، وكتاب الناسخ والمنسوخ بتحقيق محمد صالح المديفر (ص38) .
فعلى طالب العلم أن لا ينتابه الغرور ، ويكون متواضعاً لله تعالى ، وأن يتأسى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم بالعلماء الربانيين ، فقد قص الله تعالى علينا قصة موسى مع الخضر عليهما السلام ، وجاء في السنة من خبرهما :
قال البخاري : باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله :(1/59)
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان ، قال حدثنا عمرو ، قال أخبرني سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر ، فقال كذب عدو الله ، حدثنا أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ، فقال : أنا أعلم فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك قال يا رب وكيف به فقيل له احمل حوتا في مكتل فإذا فقدته فهو ثم فانطلق وانطلق بفتاه يوشع بن نون وحمل حوتا في مكتل حتى كانا ثم الصخرة وضعا رؤوسهما وناما فانسل الحوت من المكتل { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً } . الكهف (61) وكان لموسى وفتاه عجبا فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما فلما أصبح قال موسى { قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } . الكهف (62) ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به ، فقال له فتاه : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } الكهف (63) .(1/60)
قال موسى { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً } (الكهف:64) فلما انتهيا إلى الصخرة إذا رجل مسجى بثوب أو قال تسجى موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام فقال أنا موسى فقال موسى بني إسرائيل قال نعم قال هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه لا أعلمه : { قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً } (الكهف:69) فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما فعرف الخضر فحملوهما بغير نول فجاء عصفور فوقع على فنقر نقرة أو نقرتين في البحر فقال الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر فعمد الخضر إلى لوح من فنزعه فقال موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها
: {(1/61)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } .الكهف (72) . قال لا تؤاخذني بما نسيت فكانت الأولى من موسى نسيانا، فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده فقال موسى : { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً } . الكهف (74) . { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } . الكهف (75) . قال بن عيينة وهذا أوكد : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ } . الكهف (77) . قال الخضر بيده فأقامه فقال له موسى : { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } . الكهف (78) . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يرحم الله موسى لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما.
أخرجه البخاري برقم (122) ، ومسلم برقم (2380) .
قال الإمام النووي رحمه : وفي هذه القصة أنواع من القواعد والاصول والفروع والآداب والنفائس المهمة سبق التنبيه على معظمها سوى ما هو ظاهر منها ومما لم يسبق : أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجة ، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب بل من مروءات الاصحاب وحسن العشرة ، ودليله من هذه القصة حمل فتاه غداءهما وحمل موسى والخضر بغير أجرة لمعرفتهم الخضر بالصلاح والله اعلم .
ومنها الحث على التواضع في علمه وغيره وأنه لا يدعي أنه أعلم الناس وانه اذا سئل عن اعلم الناس يقول الله اعلم .(1/62)
ومنها بيان أصل عظيم من أصول الاسلام وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه أكثر الناس وقد لا يفهمونه كلهم كالقدر موضع الدلالة قتل الغلام فإن صورتهما صورة المنكر وكان صحيحا في نفس الامر له حكم بينة لكنها لا تظهر للخلق فاذا أعلمهم الله تعالى بها علموها ولهذا قال وما فعلته عن أمري يعني بل بأمر الله تعالى . اهـ . شرح النووي (15/146) .
قال عمر - رضي الله عنه - : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم ، وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، ولا يقوم علمكم مع جهلكم.
وقال - رضي الله عنه - : كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم ، وسلوا الله رزق يوم بيوم ، ولا يضركم أن لا يكثر لكم . اهـ . كتاب الزهد لابن أبي عاصم (1/118) .
ترك المخاصمة في الدعوة
قال العباس : قلت لأحمد بن حنبل : ياأبا عبد الله أكون في المجلس ليس فيه من يعرف السنة غيري فيتكلم مبتدع فيه أردُّ عليه؟
فقال: لا تنصب نفسك لهذا أخبره السنة ولا تخاصم .
فأعدت عليه القول، فقال: ما أراك إلا مخاصماً .اهـ.(1)
الفصل السادس
التزكية
تزكية النفس أمر خطير ، وهو من مداخل الشيطان ، فعلى المرء أن لا يزكي نفسه ولا يحب من الآخرين أن يمدحوه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بنفوسنا ، فقد قال تعالى :
{ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } . النجم (32) .
قال القرطبي : فلا تزكوا أنفسكم أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها ، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع ، هو أعلم بمن اتقى أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله .
عن الحسن وغيره قال الحسن : قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة . اهـ . تفسير القرطبي
(17/110) .
__________
(1) نقله القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/236) في ترجمة العباس بن غالب الوراق .(1/63)
قال الأَزهري : الزَّكاةُ الصلاحُ ، ورجل تقيٌّ زَكِيٌّ أَي زاكٍ من قوم أَتْقياء أَزْكِياء ، وقد زكا زَكاءً وزُكُوًّا وزَكِيَ وتَزَكَّى ، وزَكَّاه اللَّه زَكَّى نفسه تَزْكِيةً مدَحها ، وفي حديث زينبَ كان اسمُها بَرَّةَ فغيَّره وقال تُزَكِّي نفسها.زَكَّى الرجل نفسَه إِذا وصفها وأَثنى عليها. وأَصل الزكاة في اللغة الطهارة والنَّماء والبَركةُ والمَدْح ، وكله قد استعمل في القرآن والحديث ، وقوله تعالى : { والذين هم للزَّكاةِ فاعلون } المؤمنون (4) ؛ فالزَّكاة طُهرةٌ للأَموال ، وزَكاةُ الفُطْرِ طهرةٌ للأَبدان ، وفي حديث الباقر أَنه قال : زَكاةُ الأَرض يُبْسُها ، يريد طَهارَتَها من النجاسة ، كَالبول وأَشباهه بأَن يجف ويذهب أَثَرُه. اهـ . لسان العرب
(14/358) .(1/64)
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله : فصل في تزكية النفس ، وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات ، قال تعالى : { قد أفلح من زكاها" } الشمس (9) ، و { قد أفلح من تزكى } الأعلى (14) . قال قتادة ، وابن عيينة وغيرهما قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال ، وقال الفراء والزجاج : قد أفلحت نفس زكاها الله وقد خابت نفس دساها الله ، وكذلك ذكره الوالبي عن ابن عباس ، وهو منقطع و ليس هو مراد من الآية ، بل المراد بها الأول قطعا لفظا ومعنى ،أما اللفظ فقوله من زكاها اسم موصول ولا بد فيه من عائد ، والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم والتحذير من تدسيتها ،كقوله : "قد أفلح من تزكى" ، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهى ولا ترغيب ولا ترهيب ، والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول من جعله الله مؤمنا ، بل يقول قد أفلح المؤمنون قد أفلح من تزكى إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام الله ألا ترى أنه في مقام الأمر والنهى والترغيب والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد والوعيد والمدح والذم وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم إما بما ليس من أفعالهم وإما بإنعامه بالإيمان والعمل الصالح ويذكره في سياق قدرته ومشيئته وأما فى معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم كقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى الآية فهنا مناسب وقوله قد أفلح من تزكى ، وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى ، والمقصود ذكر التزكية قال تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . النور (30) الآية ، وقال : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } النور (28) ، وقال : { الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } . فصلت (7) ، وقال تعالى : { وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكَّى } . عبس (7) . وأصل الزكاة الزيادة في الخير ، ومنه يقال زكا الزرع . اهـ .(1/65)
مجموع الفتاوى : (10/625) .
وقال تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .آل عمران (188) .
وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } . النساء (49) . عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : "سميت ابنتي برة ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم ، فقالوا بم نسميها قال : سموها زينب" . رواه مسلم برقم (2142) .قال القرطبي رحمه الله تعالى : وقوله تعالى فلا تزكوا أنفسكم يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكي من حسنت أفعاله وزكاه الله عزوجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له . وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا بم نسميها فقال سموها زينب ، فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه ، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية كزكي الدين ومحي الدين ، وما أشبه ذلك لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا . اهـ . (5/246) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى :(1/66)
خير الدنيا والآخرة في خمس خصال ، غنى النفس ، وكف الأذى ، وكسب الحلال ، ولبس التقوى والثقة بالله عز وجل على كل حال ، وقال للربيع عليك بالزهد ، وقال أنفع الذخائر التقوى وأضرها العدوان ، وقال من أحب أن يفتح الله قلبه أو ينوره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه واجتناب المعاصي ويكون له خبئة فيما بينه وبين الله تعالى من عمل ، وفي رواية فعليه بالخلوة ، وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء ، وقال يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها.تهذيب الأسماء واللغات(1/74).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وفي الترمذي وغيره ، عنه - صلى الله عليه وسلم - "خصلتان لا يجتمعان في منافق : حسن سمت ، وفقه في الدين" ، فجعل الفقه في الدين منافياً للنفاق بل لم يكن السلف يطلقون اسم الفقه إلا على العلم الذي يصحبه العمل ، كما سئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة ، قال : أتقاهم .
وسأل فرقد السنجي الحسن البصري عن شيء فأجابه ، فقال إن الفقهاء يخالفونك ، فقال الحسن ثكلتك أمك فُرَيْقِدُ وهل رأيت بعينيك فقيها ، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه ، الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علَّمه لله تعالى أجراً ، وقال بعض السلف إن الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يُؤْمِنْهم مكرَ الله ، ولم يدعِ القرآنَ رغبةً عنه إلى ما سواه ، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - بخشية الله علما ، وبالاغترار بالله جهلا ، قالوا فهذا القرآن والسنة ، وإطلاق السلف من الصحابة والتابعين يدل على إن العلم والمعرفة مستلزم للهداية ، وإن عدم الهداية دليل على الجهل وعدم العلم ، قالوا ويدل عليه إن الإنسان ما دام عقله معه لا يؤثر هلاك . مفتاح دار السعادة (1/89) .
الحرص(1/67)
على طالب العلم أن يحرص على قراءة الكتب النافعة وخصوصاً كتب المتقدمين من العلماء ، وعليه أن يحرص بملازمة شيخه ، وأن يحرص على وقته ويستثمره في طلبه للعلم.
عن بن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ" .
رواه البخاري برقم (6049) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : قوله نعمتان : تثنية نعمة وهي الحالة الحسنة ، وقيل هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان للغير ، والغبن بالسكون وبالتحريك .
قال بن بطال : معنى الحديث إن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن ، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما انعم به عليه ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فمن فرط في ذلك فهو المغبون ، وأشار بقوله كثير من الناس إلى أن الذي يوفق لذلك قليل ، وقال بن الجوزي قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش ، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا ، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل :
يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل(1/68)
وقال الطيبي : ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال ، فطريقته في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن ، فالصحة والفراغ رأس المال ، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان ومجاهدة النفس ليربح خيري الدنيا والآخرة ، وقريب منه قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } . الصف (10). الآيات ، وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان لئلا يضيع رأس ماله مع الربح ، وقوله في الحديث مغبون فيهما كثير من الناس كقوله تعالى: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } .سبأ الآية (13) ،فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في.اهـ.فتح الباري(11/230)
قال ابن عباس - رضي الله عنه - : لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قلتُ لرجل من الأنصار : هلّم فلنسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير ، فقال : واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فيهم ؟.
قال : فتَرَكَ ذلك ، وأقبلتُ أسألُ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحديث ، فإن كان ليبلغني الحديثُ عن الرجل فآتي بابه وهو قائل [أي : نائم ظهراً ، من القيلولة] ، فأتوسّد ردائي على بابه تسفي عليّ الرياح من التراب ، فيخرج فيراني فيقول : يا ابن عمّ رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلتَ إليَّ فآتيكَ ؟! فأقول : أنا أحق أن آتيك ؛ فأسألُه عن الحديث .
فعاش ذلك الرجل الأنصاريُّ حتى رآني وقد اجتمع الناسُ حولي يسألوني،قال:هذا الفتى كان أعقل مني."المعرفة والتاريخ" (1/542).
وعن الحسن قال : "يتوسَّد المؤمن ما قدَّم من عمله في قبره إن خيراً فخير ، وإن شرًّا فشرًّا ، فاغتنموا المبادرةَ رحمكم الله في المهلة " .(1/69)
وعن مجاهد في قوله تعالى : { وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } . القصص الآية (77) . قال : عمركَ أن تعمل فيه لآخرتك ... .اهـ . اقتضاء العلم العمل (ص97) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عنها ببيانِ
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع ، فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا ، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به ، فإن حرص على مالا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك ، فالخير كله في الحرص على ما ينفع ، ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام إياك نعبد وإياك نستعين ، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولا تتم إلا بمعونته فأمره بأن يعبده وأن يستعين به. اهـ. شفاء العليل (1/19).
وقال الحافظ في الفتح في تعليقه على حديث جابر حيث رحل إلى عبد الله بن أنيس ليسأله عن حديث حشر الناس يوم القيامة ، فقال الحافظ : وفيه ما كان عليه الصحابة من الحرص على تحصيل السنن النبوية. اهـ . فتح الباري (1/174) .
وكان الشافعي رحمه الله تعالى :(1/70)
قد جزأ الليلة ثلاثة أجزاء الثلث ، الأول يكتب ، والثاني يصلي فيه، والثالث ينام ، وقال الربيع نمت في منزل الشافعي ليالي فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرا ، وقال بحر بن نصر : ما رأيت ولا سمعت في عصر الشافعي ، كان اتقى لله ولا أورع ولا أحسن صوتا بالقرآن منه ، وقال الحميدي : كان الشافعي يختم في كل يوم ختمة ، وقال حرملة سمعت الشافعي يقول : وددت إن كل علم يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني قط ، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله : كان الشافعي رحمه الله قد جمع الله تعالى فيه كل خير ، وقال الشافعي الظرف الوقوف مع الحق كما وقف ، وقال ما كذبت قط ولا حلفت بالله صادقا ولا كاذبا ، وقال ما تركت غسل الجمعة في برد ولا سفر ولا غيره ، وقال ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي ، وفي رواية من عشرين سنة ، وقال من لم تعزه التقوى فلا عز له ، وقال ما فزعت من الفقر قط ، وقال طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد ، وقيل للشافعي ما لك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف ، فقال لأذكر أني مسافر يعني في الدنيا ، وقال من شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة، وقال : من غلبته شدة الشهوة لزمته العبودية لأهلها ، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع . تهذيب الأسماء واللغات (1/74) .
وهذا علي بن عقيل أنه كان يقول : إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرةًٍ ، و مناظرةٍ ، وبصري عن مطالعة ، أعلمت فكري في حال راحتي ، وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.
وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي ، حتى أختار سفَّ الكعك وتحسِّيَهُ بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ، توفراً على مطالعة ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه ، وأن أجلَّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص ،(1/71)
فالتكاليف كثيرة ، والأوقات خاطفة . "ذيل طبقات الحنابلة"
(1/142) ، صفحات من صبر العلماء (320) .
انظر أخي هداني الله وإياك ، أنظر إلى السلف رضوان الله عليهم كم كانوا يعتنون بأوقاتهم ويحرصون عليها ، فلنأخذ منهم عبرة لنشحذ هممنا ، وأن لا نضيع أوقاتنا ، ولنحرص عليها كما كانوا يحرصون عليها .
الوقتُ أنفسُ عُنيت بحفظه وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ
الفصل السابع
التحذير من التعلم للدنيا وكتمان العلم
وعدم العمل به
قال الله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } . البقرة (159).
وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يُكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } . البقرة (174).
وقال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون } . آل عمران (187).
وتقدم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الثلاثة الذي يسحبون إلى النار أحدهم الذي يقال له : "إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل".
وعن جابر مرفوعاً قال : "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء أو تماروا به السفهاء ولتجترئوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار".
أخرجه ابن ماجة في المقدمة برقم (254) ، وابن حبان (90 – موارد الظمان) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/187) ، وصححه الحاكم ، والمنذري في "الترغيب والترهيب" (1/116) ، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/111) : "هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم" ، وأخرجه الحاكم في المستدرك
(1/86) ، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (1/86 – 87) ، وصححه الألباني في الترغيب برقم (107) ، وصحيح الجامع حديث رقم (7370) .(1/72)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم".
رواه ابن ماجة ، وقال الألباني : "صحيح لغيره" الترغيب (110).
وعن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" . أخرجه ابن حبان (1/154) رقم (96) ، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/5) ، والحاكم في المستدرك (1/102) وقال : "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وليس له علة" ووافقه الذهبي . وقال الألباني : "حسن صحيح" الترغيب (121) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" .
أخرجه أبو داود في كتاب العلم (3658) ، والبغوي في "شرح السنة" (140) ، وابن ماجة في "المقدمة" (261) ، وابن حبان
(1/154) رقم (95 – مع الإحسان) ، والترمذي في "أبواب العلم" (2649) ، وأحمد في "المسند" (1/263 و 296 و 300 و 344 و 353 و 495 و 499 و 508) ، والقضاعي "مسند الشهاب"
(1/266) ، والطبراني في "الصغير" (1/60 و 14 و 162) ، والحاكم في "المستدرك" (1/101) ، وابن عبد البر في "الجامع"
(1/4-5) والبيهقي ، وصححه الحاكم وقال : "صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي ، وقال البغوي : "هذا حديث حسن"وكذا قال الترمذي،وصححه الألباني في الترغيب برقم(120).
وفي رواية لابن ماجة قال : "ما من رجل يحفظُ علماً فيكتمهُ ؛ إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجامٍ من نار". صحيح الترغيب (1/160).(1/73)
وقال أبو ذر : لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها ، وقال بن عباس كونوا ربانيين حلماء فقهاء ، ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .
قال المناوي رحمه الله تعالى : مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه في كون كل منهما يكون وبالا على صاحبه يعذب عليه يوم القيامة ، فعلى العالم أن يفيض العلم على مستحقه لوجه الله تعالى ولا يرى لنفسه عليهم منة وإن لزمتهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله بزراعة العلوم فيها كمن يعير أرضا ليزرع فيها لنفسه ما ينفعه ولولا المتعلم ما نال ذلك المعلم . اهـ . فيض القدير (5/509) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة : رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ ، قال : قاتلت فيك حتى استشهد ، قال : كذبت ولكنك قاتلت ليقال جريء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه نعمه ، فعرفها ، فقال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ، ولكنك تعلمت ليقال : عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت لك ، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ".رواه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6499) ، ومسلم في كتاب الزهد برقم (3986) .
جريء : بفتح الجيم وكسر الراء وبالمد أي : شجاع .(1/74)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أنه قال : كيف بكم إذا لبستكم فتنةٌ ، يربو فيها الصغير ، ويَهرَمُ فيها الكبير ، وتتخذُ سنةً ، فإن غُيرت يوماً قيل : هذا منكرٌ ! قيل : ومتى ذلك ؟ قال : إذا قلّت أمناؤكم ، وكَثُرت أمراؤكُم ، وقلّت فقهاؤكم ، وكثُرت قراؤكم ، وتُفُقه لغير الدين ، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة .
رواه عبد الرزاق في المصنف (11/352) موقوفا، وقال الألباني في الترغيب "صحيح لغيره موقوف" رقم (111).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلم علماً يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" . يعني ريحها .
رواه أبو داود في كتاب العلم (3664) بإسناد صحيح ، وأحمد في المسند (2/338)،وابن ماجة في المقدمة (252)، والحاكم (1/85) المستدرك ، وصححه الألباني في الترغيب برقم (105).
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "يُجاء بالعالم السوء يوم القيامة فيقذف في جهنم فيدور بقصبة كما يدور الحمار بالرحى ، فيقال : بم لقيت هذا وإنما اهتدينا بك ؟! فيقول : كنت أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه".
أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3267) وفي الفتن
(13/48) رقم (7098 فتح الباري) ، ومسلم في كتاب الزهد برقم (2989) من حيث أسامة بن زيد .
القُصْب : واحد الأقصاب , وهي الأمعاء كلها وقيل: الأمعاء يجمعها اسْمُ القُصْب , ومنه اسمُ القَصَّاب , لأنه يعالجها.الفائق (3/199) .(1/75)
وفي رواية عن أسامة بن زيد - صلى الله عليه وسلم - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "يُجاء بالرجل يوم القيامة ، فيُلقى في النار ، فتندلق أقتابُه ، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فتجتمع أهل النار عليه ، فيقولون : يا فلان ! ما شأنك ؟ ألست كنت تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : كنت أمرُكم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن الشرِّ وآتيه" .
قال : وإني سمعتُهُ يقول – يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ : "مررت ليلةَ أُسري بي بأقوام تقرضُ شفاهُهم بمقاريض من نار ، قلتُ : من هؤلاء يا جبريلُ ؟ قال : خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون" .
قال المنذري في تخريجه هذه الرواية الأخير [قال : وإني سمعتُهُ يقول] ، رواه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3267)، ومسلم في كتاب الزهد برقم (2989) ، والرواية هذه ليست عن أسامة بل هي عن أنس بلفظ آخر ، وقد خلط المنذري رحمه الله وجعل الروايتين واحدة ، ونسبها إلى البخاري وهو خطأ .(1/76)
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في تعليقه على هذه الرواية : "كذا في الأصل وغيره ، يعني أنه من حديث أسامة بن زيد ، وسيأتي كذلك في الباب الذي سيشير إليه المؤلف قريباً يعني في ( 21ـ الحدود/ 2) ، وهذا وهم فاحش ، سببه فيما أرى اعتماد المؤلف رحمه الله على حفظه وإملاءه أحاديث الكتاب من ذاكرته دون أن يرجع في ذلك إلى أصوله ، فإن هذا الحديث الذي جعله من حديث أسامه بن زيد هنا وهناك ليس من حديثه مطلقاً لا في " الصحيحين " ولا في غيرهما وإنما هو حديث آخر لا علاقة له بالأول ، يرويه أنس ابن مالك رضي الله عنه ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه ( 35ـ موارد الظمآن ) وغيرهم ممن ذكرهم المؤلف وفاته الإمام أحمد في المسند ( 3/ 120، 231، 239) . ومن أجل ذلك فصلته عن حديث أسامه وأعطيته رقماً خاصاً ، بخلاف ما فعله مصطفى عمارة وغيرة كالمعلقين الثلاثة ، والله ولي التوفيق . اهـ . صحيح الترغيب والترهيب ( 1/ 162) ، وانظر الصحيحة تحت حديث (292) .
"فتندلق" : الاندلاق خروج الشيء من مكانه بسرعة.
"أقتابه" : جمع "قتب" بكسر القاف : الأمعاء أي : المصارين .
"برحاه" أي : الطاحون .
ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي وزادوا في رواية لهما : "ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به". السلسلة الصحيحة (291).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" .
أخرجه الترمذي في أبواب العلم (2655) ، وابن ماجة في المقدمة (258) ، والآجري في أخلاق العلماء (ص 100) ، وقال الترمذي "حسن غريب" ، وقال المنذري : "ورجال إسنادهما ثقات".
وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها" .(1/77)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2722) مطولا ، وأخرجه الترمذي في أبواب الدعوات (3572) ، والنسائي في "المجتبي" في الاستعاذة برقم (8/255).
"اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" أي صاحبه فإن من العلم مالا ينفع صاحبه بل يصير عليه حجة وفي استعاذته صلى الله تعالى عليه وسلم من هذه الأمور إظهار للعبودية واعظام للرب تبارك وتعالى وأن العبد ينبغي له ملازمة الخوف ودوام الافتقار الى جنابه تعالى وفيه حث للأمة على ذلك وتعليم لهم والا فهو صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم من هذه الأمور . اهـ . حاشية السندي (8/255) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : من تعلم علماً لم يعمل به لم يزده العلم إلا كبراً .
وعن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَثَل الذي يُعلِّم الناس الخيرَ وينسى نفسَهُ كمثل السِّراج يضيء للناس ويحرقُ نفسه". أخرجه الطبراني في "الكبير"، "السلسلة الصحيحة" (3379) ، وصحيح الترغيب برقم (131) .
وقال هلال بن العلاء : طلب العلم شديد وحفظه أشد من طلبه، والعمل به اشد من حفظه والسلامة منه أشد من العمل به.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به، كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا يُنفِق منه".
رواه الطبراني في "الأوسط"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (3479) ، و"الترغيب" برم (122) ، و"صحيح الجامع" حديث رقم (5835) .(1/78)
قال المناوي في فيض القدير : "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه" في كون كل منهما يكون وبالاً على صاحبه يعذب عليه يوم القيامة ، فعلى العالم أن يفيض من العلم على مستحقه لوجه اللّه تعالى ولا يرى نفسه عليهم منة وإن لزمتهم ، بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى اللّه بزراعة العلوم فيها كمن يعير أرضاً ليزرع فيها لنفسه وينفعه ، ولولا المتعلم ما نال ذلك المعلم ، قال الطيبي : هذا على التشبيه نحو قولهم النحو في الكلام كالملح في الطعام في إصلاحه باستعماله والفساد بإهماله لا في القلة والكثرة ، فتشبيه المعلم بالكنز وارد في مجرد عموم النفع لا في أمر آخر ، كيف لا والعلم يزيد بالإنفاق والكنز ينقص ، والعلم باق والكنز فان ، فإن المال يفنى عن قريب وإن العلم باق لا يزال . اهـ .
قال الفضيل : "إنما يُرادُ من العلم العمل والعلم دليل العملِ " .
وقال كذلك : "على الناس أن يتعلموا فإذا علموا فعليهم العملُ" .
وقال عبد الله بن المعتز : "علمٌ بلا عملٍ كشجرةٍ بلا ثمرةٍ " . اقتضاء العلم العمل (ص37) ط المكتب الإسلامي .
وعن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه ؟ وعن علمه فيم فعل فيه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيم أبلاه". رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" ، وصححه الألباني في الترغيب برقم (126) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ وماذا عمل فيما عَلِمَ ؟" .(1/79)
رواه الترمذي وقال : "حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من حديث حسين بن قيس" ، وقال الألباني : "حسن لغيره" ، السلسلة الصحيحة برقم (946) .
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي، كلُّ منافقٍ عَلِيمِ اللسانِ".
رواه الطبراني في "الكبير" والبزار، وابن حبان في "صحيحه" (51/91- موارد ) ، وصححه الألباني في الترغيب برقم (132).
وعن لقمان – يعني ابن عامر – قال : كان أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول فيقول لي : يا عُويمرُ! فأقول : لبيك ربِّ ، فيقول : ما عملت فيما علمتَ" .
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" والدارمي وابن بعد البر وابن المبارك في "الزهد" ،وقال الألباني:"صحيح لغيره موقوف"الترغيب (129) .
عن ثابت البناني عن مطرف بن الشخير أنه كان يقول :
"يا إخوتي إجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة ، وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم نقل ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ، نقول قد عملنا فلم ينفعنا " . اهـ . اقتضاء العلم العمل (ص95) ط المكتب الإسلامي .(1/80)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فإن العلم يجب بذله ، فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ، وهو يزكو على التعليم لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل ، ولهذا يشبه بالمصباح وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة لصاحبها أن يسألها ممن هي عنده وكذلك مال الفيء وغيره من الأموال المشتركة التي يتولى قسمتها ولي الأمر للرجل أن يطلب حقه منه كما يطلب حقه من الوقف والميراث والوصية لأن المستولى يجب عليه أداء الحق إلى مستحقه ، ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه كما استطعم موسى والخضر أهل القرية وكذلك الغريم له أن يطلب دينه ممن هو عليه وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه ... مجموع الفتاوى (1/185) .
فعلى طالب العلم أو العالم أن يعمل بعلمه وأن لا يكتمه ، وأنه إذا عمل بعلمه خير له عند الله سبحانه وتعالى .
فعن الحسن قال : "أن الرجل ليتعلم الباب من العلم فيعمل به خير من الدنيا وما فيها" .
جامع بيان العلم وفضله (ص52) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: سبيل العلم مثل سبيل المال إن المال إذا زاد زادت زكاته يعني العمل به .
التحذير من الجدال والمراء واللدد
قال الله تعالى : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } . البقرة (204-205) .
وقال تعالى : { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } . الزخرف (58) .
وقال تعالى : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } . غافر (56).
وقال تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } . العنكبوت (46) .(1/81)
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدُّ الخصم" .
رواه البخاري في كتاب (الأحكام) رقم (7188) ، ومسلم في كتاب (العلم) برقم (2668).
"الألد" : هو الشديد في الخصومة ، وقيل هو : الدائم الخصومة .
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا : { وما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } الزخرف (58) .
أخرجه الترمذي في "أبواب التفسير" (3253) ، وابن ماجة في "المقدمة" (48) ، وأحمد في "المسند" (5/552و 556) ، وابن جرير في "جامع البيان" (25/53) والحاكم "المستدرك" (2/447- 448) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (8/333) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (101) والآجري في "الشريعة" (ص54) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/320 و 231) وابن عبد البر "الجامع" (2/97) والبغوي في "معالم التنزيل" (6/138)، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح" ، صحيح الجامع (5633) ، وصحيح الترغيب برقم (141) .
وعن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "المراء في القرآن كفرٌ".
رواه أبو داود، وابن حبان في (صحيحه) ، وقال الألباني : "حسن صحيح" الترغيب (143) .
المراء : الجدال ، والتماري ، والمماراة : المجادلة على مذهب الشك والريبة .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : "كنا جلوساً عند باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتذاكر ، يَنْزِعُ هذا بآية ، ويَنزِع هذا بآية ، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما يُفقأ في وجهه حبُّ الرمان ، فقال : "يا هؤلاء أبهذا بعثتم ، أم بهذا أمرتم ؟ لا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض" .
رواه الطبراني في (الكبير) ، وفي المجمع (1/157) "رجاله ثقات أثبات"، وصححه الألباني في الترغيب (140).(1/82)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع" .
أخرجه أحمد في "المسند" (2/82) ، وأبو داود (3/305) رقم
(3598) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/82) ، والحاكم في "المستدرك" (4/99) ، والطبراني في "الكبير" رقم (13084 مختصرا" ، وابن ماجة في "السنن" (2/778) رقم (2320) ، والرامهرمزي "أمثال الحديث" (ص 108)، وقال الحاكم "صحيح" وأقره الذهبي في "التلخيص" وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" أنظر "فيض القدير" (6/72) "صحيح الجامع" رقم (6196).
وفي لفظ : "فقد باء بغضب من الله" . المصدر السابق .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق" .
أخرجه الترمذي في "أبواب البر والصلة" رقم (5028) وأحمد في "المسند" (5/269) وعلي بن جعد "المسند" (2/1058) رقم (3059) والحاكم في "المستدرك" (1/52)، وقال "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وقال الترمذي "حسن غريب" وقال المناوي في "الفيض" : "قال الترمذي حسن وقال غيره صحيح".
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عليم اللسان" . المصدر السابق .(1/83)
قال المناوي رحمه الله تعالى : علم لا يقال به أي لا يعلم لأهله أو لا يعمل به ككنز لا ينفق منه بجامع الحبس عن الانتفاع به والظلم بمنع المستحق منه والعالم كما يجب عليه العمل بموجب علمه يجب عليه تعليم غيره ، قال تعالى : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ } التوبة الآية (122) ، التوبة ، وذكر ابن عساكر في التاريخ عن ابن عمر بن الخطاب : "علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه" ، سمي العلم علما لكونه دلالة على الشيء وعلامة عليه ومنه إنه لعلم للساعة الزخرف أي دلالة على مجيئها فمن لم ينفع بعلمه في المهمات ولم يستعن بنوره في ظلمات الجهل والملمات صار علمه وبالا عليه ويلام على تركه الإنفاق منه على نفسه وغيره ، وقد كان من دعاء المصطفى أسألك علما نافعا وقد أودع العالم العلم الذي هو أخص صفاته فجعله كالخازن لأنفس خزائنه ثم هو مأذون له في الإنفاق على كل محتاج فمن منعه من مستحقه فقد اعتدى وسلك . اهـ . فيض القدير (4/325) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى : من طلب علما فليدقق لئلا يضيع دقيق العلم ، وقال من لا يحب العلم لا خير فيه ، ولا يكون بينك وبينه صداقة ولا معرفة . وقال ليس العلم ما حفظ العلم ما نفع .
وقال المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن ، وقال الناس في غفلة عن هذه السورة : { إن الإنسان لفي خسر } العصر ، وكان قد جزأ الليلة ثلاثة أجزاء الثلث الأول يكتب والثاني يصلي فيه
والثالث ينام . اهـ . تهذيب الأسماء (1/74) .
فعلى طالب العلم أن يترك الجدل ، كما عليه أن يترك الكلام على إخوانه المسلمين ، لأنه لا ينال من ذلك إلا الإثم ، والانشغال عن طلب العلم ، وعليه أن يترك الرد على أخوته .
قال معروف الكرخي : إذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل .(1/84)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : والآن تجد بعض الأخوان مع الأسف يَردُّ على إخوانه أكثر مما يرد على الملحدين الذين كفرهم صريح ، يعاديهم أكثر مما يعادي هؤلاء ويشهر بهم في كلام لا أصل له ، ولا حقيقة له ، لكن حسداً وبغياً ، ولا شك أن الحسد من أخلاق اليهود أخبث عباد الله ، ثم أن الحسد لا يستفيد منه الحاسد إطلاقاً بل لا يزيده إلا غماً وحسرة .ابغ الخير للخير يحصل لك الخير ، واعلم أن فضل الله يؤتيه من يشاء . إلى آخر كلامه رحمه الله . كتاب العلم لابن عثيمين (ص102) .
التحذير من القول على الله بغير علم
قال الله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . الأعراف (33).
وقال تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } . الإسراء (36) .
وقال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاعٌ قليل ولهم عذاب أليم } . النحل (116 و 117).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه ، وما في قوله لما تصف مصدرية أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ثم توعد على ذلك فقال إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون أي في الدنيا ولا في الآخرة أما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم كما قال نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ وقال إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون الآيات . اهـ . تفسير ابن كثير (2/591) .(1/85)
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } . المائدة (87).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه". أخرجه أبو داود ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله تعالى في صحيح سنن أبي داود برقم (3675) .
قال الشوكاني رحمه الله تعالى : ومعناه : أي لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قولٍ تنطق به ألسنتكم من غير حجة . أهـ . فتح القدير
(3/227) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". رواه البخاري عن ابن عمر - صلى الله عليه وسلم - .
عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، "أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله أي البلاد شر ، فقال لا أدري فلما أتاه جبرائيل ، قال يا جبرائيل أي البلدان شر ، قال لا أدري حتى أسأل ربي ، فانطلق جبرائيل فمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم جاء فقال يا محمد إنك سألتني أي البلاد شر وإني قلت لا أدري وإني سألت ربي فقلت أي البلاد شر ، فقال أسواقها" .
قال الحاكم رحمه الله تعالى : قد احتجا جميعا برواة هذا الحديث إلا عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقد تفرد البخاري بالاحتجاج بأبي حذيفة ، وهذا الحديث أصل في قول العالم لا أدري . اهـ . المستدرك برقم (303) .
وروي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى : أنه سئل عن مائة مسألة فأجاب عن أربع منها، وقال في الباقيات: الله أعلم، فعوتب في ذلك، فقال: من قال الله أعلم فقد أفتى.
قال ابن جماعة : إذا سئل عما لا يعلمه قال : لا أعلمه ، أو : لا أدري ، فمن العلم أن يقول : لا أعلم ، وعن بعضهم : لا أدري نصف العلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله .(1/86)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى : ومن أعظم ما يجب على المعلمين : أن يقولوا لما لا يعلمونه : الله أعلم ، وليس هذا بناقص لأقدارهم ، بل هذا مما يزيد من قدرهم ، ويستدل به على كمال دينهم ، وتحريهم للصواب .
وفي توقفه عما لا يعلم فوائد كثيرة : منها : أن هذا هو الواجب عليه .
ومنها : أنه إذا توقف وقال : الله أعلم ، فما أسرع ما يأتيه علم ذلك من مراجعته أو مراجعة غيره ، فإن المتعلم إذا رأى معلمه قد توقف ، جدّ واجتهد في تحصيل علمها وإتحاف المعلم بها ، فما أحسن هذا الأثر !
ومنها : إذا توقف فيما لا يعرف ، كان دليلاً على ثقته وأمانته وإتقانه فيما جزم به من المسائل ، كما أن من عُرف منه الإقدام على الكلام فيما لا يعلم ، كان ذلك داعياً للرَّيب في كل ما يتكلم به ، حتى في الأمور الواضحة .
ومنها : أن المعلم إذا رأى منه المتعلمون التوقف فيما لا يعلم ، كان ذلك تعليماً لهم وإرشاداً لهذه الطريقة الحسنة ، والاقتداء بالأقوال والأعمال أبلغ من الاقتداء بالأقوال . اهـ . الفتاوى السعدية (ص628ـ629) .
وقال الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى :فصل في قول العالم : لا أدري ، واتقاء التهجم على الفتوى . ثم قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله . وكذا قال علي بن الحسين .
وقال مالك : كان يقال : إذا أغفل العالم "لا أدري" أصيبت مقاتله .
وقال أيضاً : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام المسلمين وسيّد العالمين يُسأل عن الشيء ، فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء .
وقال الشعبي : "لا أدري" نصف العلم .
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما : العلم ثلاثة : كتاب ناطق ، وسنة ماضية ، ولا أدري .
وبإسناد حسن عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : من علمِ الرجل أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم ، لأن الله عزوجل قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - :
{(1/87)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } . سورة ص (86).
وقال أحمد في رواية المروذي : ليس كل شيء ينبغي أن يتكلم فيه . وذكر أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان يُسأل فيقول : لا أدري ، حتى أسأل جبريل .
وقال سفيان : من فتنة الرجل إذا كان فقيهاً : أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت .
وقال المروذي : قلت لأبي عبد الله : العالم يظنونه عنده علم كل شيء ! فقال : قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون .
وعن علي - رضي الله عنه - قال : خمس لو سافر الرجل فيهن إلى اليمن لَكُنّ عوضاً عن سفره : لا يخشى عبد إلا ربه ، ولا يخاف إلا ذنبه ، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم ، ولا يستحي من تعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم ، والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد ، وإذا قطع الرأس تَوِيَ الجسد .
وقال القاسم وابن سيرين : لأن يموت الرجل جاهلاً خير له من أن يقول ما لا يعلم .
وقال سعيد بن جبير : ويل لمن يقول لما لا يعلم : إني أعلم .
وقال مالك : من فقه العالم أن يقول : لا أعلم ؛ فإنه عسى أن يهيأ له الخير).(2) الآداب الشرعية 2/64 إلى 69 باختصار . اهـ . معالم في طريق طلب العلم (ص205ـ206، ص207ـ208) .
وقال الأخ عبد العزيز محمد السدحان حفظه الله تعالى في كتابه معالم في طريق العلم (ص265ـ266) : فإياك أن تقول في مجمع أو مجلس : لم يرد هذه في السنة أولم يصح هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تكون كاذباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - !(1/88)
وأذكر أنني كنت في منى في مجلس مع فضيلة الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني منذ زمن طويل فسأل أحدهم سؤالاً وذكر فيه تضعيفاً مطلقاً الحديث وقال : لم يرد له طريق صحيح ( أو عبارة قريبة من هذا ) ولعل السائل أراد بسؤاله أن ينبه الجمع وإلا فالذي يسأل يعلم هذا ! فقال الشيخ : أما قولك : (لم يرد هذا ) فقد يكون كذباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد يرد من طريق صحيح لا تعلمه أنت فقولك بهذا النفي العام يعتبر تكذيباً لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن كنت ولا بد متكلماً فقل : على حسب علمي . هكذا فهمت من كلام الشيخ الألباني . اهـ . وروى حديثا بحضرة الزهري فأنكره وقال لا أعرف هذا فقيل له أحفظت حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كله قال لا قال فنصفه قال أرجو قال اجعل هذا من النصف الذي لم تعرفه هذا وهو الزهري فما أظنك بغيره وقريب منه ما أسنده ابن النجار في تاريخه عن ابن أبي عائشة ، قال : تكلم شاب يوما عند الشعبي ، فقال الشعبي : ما سمعنا بهذا؟ ، فقال الشاب : كل العلم سمعت ، قال : لا ، قال : فشطره ، قال : لا ، قال : فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه . تدريب الراوي (1/297) .
وأسند الحافظ ابن النجار في تاريخه ، عن ابن أبي عائشة قال : تكلم شاب يوما عند الشعبي ، فقال الشعبي : ما سمعنا بهذا ، فقال الشاب كل العلم سمعت ، قال : لا ، قال : فشطره ، قال : لا ، قال : فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه فأفحم الشعبي .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وما أشبهه من صيغ الجزم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله بل قل روي عنه كذا ، أو بلغنا عنه كذا ، أو ورد عنه ، أو جاء عنه ، أو نقل عنه وما أشبهه من صيغ التمريض كروي . اهـ . تدريب الراوي (1/297) .(1/89)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : تعليقاً على كلمة "حرام عليك" أو "حرام عليك أن تفعل كذا" ، قال : لا يجوز أن يوصف شيء بالتحريم إلا أن يكون شيئاً حرمه الله أو رسوله ، وذلك أن وصف شيء غير محرم بالحرمة - ولو مع سلامة النية - فيه تعدي على جناب الربوبية ، وفيه إيهام بأن ذلك الشيء محرم وهو ليس كذلك ، والأسلم للمرء في دينه أن يبتعد عن هذا اللفظ . أ.هـ . انظر فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، إعداد : أشرف عبد المقصود . دار عالم الكتب ، الطبعة الثانية (1/200-201).
سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله ابن سلام: من أرباب العلم؟
فقال: الذين يعملون بما يعلمون .
الفصل الثامن
ابن المسيب
عن ابن وهب قال : "سمعت مالكاً يحدث أن عاملاً من العمال بعث إلى سعيد بن المسيب بخمسة آلاف درهم ، فقال له الرسول : بعث بهذا إليك أصلحك الله لتنفقها وتجعلها في حاجتك ، قال وسعيد جاد مجد يحاسب غلامه في نصف درهم يدعيه قبله والغلام يقول : ليس لك عندي شيء ، قال سعيد للرسول : اذهب إلى عملك : ثم عرضها عليه الرسول أيضاً فقال : اغرب عني وأبى أن يأخذها منه . وكلمه إنسان في تركهِ أن يأخذها ، فقال له ابن المسيب : هذا النصف درهم أحب إلي منها " .
وروى أبو نعيم في "الحلية" (2/166) عن عمران بن عبد الله بن طلحة قال : "دعي سعيد بن المسيب إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها ، فقال : لا حاجة لي فيها ولا لبني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم" . اهـ . "الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي" . ط دار الكتب العلمية (ص200) .
الإمام مالك
" الكيس بخاتمه "(1/90)
لما حج هارون ، وقدم المدينة بعث إلى مالك بكيس فيه خمس مئة دينار ، فلما قضى نسكه وانصرف وقدم المدينة بعث إلى مالك أن أمير المؤمنين يحب أن تنتقل معه إلى مدية السلام ، فقال للرسول : قل له إن الكيس بخاتمه ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " . "جامع بيان العلم وفضله" .
صحيح الجامع حديث رقم (2972) ، عن سفيان بن أبي زهير.
عطاء بن أبي رباح
كان عطاء بن أبي رباح عبداً لامرأة من مكة أسود أعور أفطس أشل أعرج ، ثم عمي مفلفل الشعر كأن أنفه باقلاء .
حكي أن سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين جاءه هو ووالداه فجلسوا إليه وهو يصلي ، فلما صلى انفتل إليهم وما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم ، ثم قال سليمان لابنيه : قوما فقاما ، فقال يا بني لا تنيا في طلب العلم فإني لا أنسا ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود .
" حماد بن سلمة "(1/91)
قال أبو سليمان الخطابي ، وحدثني عبد الله بن محمد المسكي ، قال : حدثني أبو بكر بن جابر ، خادم أبي داود ، قال : كنت معه ببغداد فصلينا المغرب ، إذ قرع الباب ففتحته ، فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له فدخل فقعد ، ثم أقبل عليه أبو داود فقال : ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت ، فقال خلال ثلاث قال : وما هي ؟ ، قال تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج ، قال : هذه واحدة هات الثانية ، قال : وتروي لأولادي كتاب السنن فقال : نعم هات الثالثة ، فقال : وتفرد لهم مجلسا للرواية ، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة فقال : أما هذه فلا سبيل إليها لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء ، فقال ابن جابر : كانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون في كم حبري ويضرب بينهم وبين الناس ستر يسمعون مع العامة . اهـ . التقييد (1/283) .
وقال مقاتل بن صالح الخراساني : دخلت على حماد بن سلمة - رضي الله عنه - فإذا ليس في البيت إلى حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ فيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ فيها !!
فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب .
فقال : يا صبيه أخرجي فانظري من هذا ؟ قالت : هذا رسول محمد بن سليمان قال قولي له : يدخل وحده فدخل وسلم وناوله كتاباً فقال : اقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فإنا نسألك فيها فقال : يا صبية هلمي بالدواة اكتب في ظهر الكتاب أما بعد فأنت صبحك بما صبح به أولياءه وأهل طاعته أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً فإذا وقعت مسألة فائتنا فتسألنا عما بدا لك وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصح ولا أنصح نفسي والسلام .(1/92)
فبينا أنا عنده جالس إذ دق داق الباب فقال يا صبية اخرجي فانظري من هذا فقالت : محمد بن سليمان . قال : قولي : له يدخل وحده قال : فدخل فسلم ثم جلس بين يديه فقال : ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعباً ؟ فقال حماد : سمعت ثابتاً يعني البناني يقول : سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإذا أراد أن يكتنز به الكنوز هاب من كل شيء " .
[ضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (840)] .
فقال : ما تقول يرحمك الله في رجل له ابنان وهو عن أحدهما أرضى فأراد أن يجعل له في حياته ثلثي ماله ؟
فقال : لا ، ويرحمك الله فإني سمعت ثابتاً البناني يقول : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إن الله عز وجل إذا أراد أن يعذب عبداً بماله وفقه عند موته لوصية جائرة " .
قال : فحاجة ؟ قال : هات ما لم تكن رزية في الدين !
قال : أربعين ألف درهم تستعين بها على ما أنت عليه .
قال : ارددها على من ظلمته بها .
قال : والله ما أعطيتك إلا ما ورثته .
قال : لا حاجة لي فيها !
قال : ازوها عني زوى الله عنك أوزارك .
قال : فغير هذا ؟
قال : هات ما لم يكن رزية في دين الله .
قال : تأخذها فتقسمها .
قال : فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها : إنه لم يعدل في قسمتها فيأثم ازوها عني زوى الله عنك أوزارك .
" بستان العارفين " للنووي (ص92) .
داود الطائي
قدم محمد بن قحطبة الكوفي فقال : أحتاج إلى مؤدب يؤدب أولادي حافظ لكتاب الله تعالى ، عالم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالآثار والفقه والنحو والشعر وأيام الناس ، فقيل له : ما يجمع هذه إلا داود الطائي ، فسير إليه بدره : عشر آلاف درهم وقال : استعن بها على دهرك فردها فوجه إليه بدرتين مع غلامين مملوكين وقال لهما : إن قبل البدرتين فأنتما حران .(1/93)
فمضيا بهما إليه فأبى أن يقبلهما فقالا : إن في قبولهما عتق رقابنا من الرق ، فقال لهما إني أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي في النار رداهما إليه وقولا له : إن ردهما على من أخذهما منه أولى من أن يعطيني أنا . اهـ . " وفيات الأعيان " 2 ( 260) .
سليمان بن حرب
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى : أنا أبو النصر منصور بن الحسن بن محمد بن أحمد المفسر إملاء بنيسابور قال : سمعت أبا الطيب محمد بن أحمد بن حمدون يقول : سمعت مسدداً يعني ابن القطن يقول : سمعت أبي يقول : " كنت عند سليمان بن حرب إذا أقبل طاهر بن عبد الله بن طاهر والمطرقة بين يديه فلما جلس أقبل عليه سليمان فقبض على لحيته فقال : سبحان الله يستخف بشيخ مثلي ! قال : وما ذاك يا أبا أيوب ؟ قال : بعثت إلي أن تعال فحدثني العالم يأتي أو يؤتى ؟ قال : لا أعود يا أبا أيوب قال : لا تعودن لشيء من هذا ، إن أردت الحديث فهذا مجلسي " .
أبو عبيد
عن أبي بكر البرقاني أنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي أنا عبد الله بن محمد بن سيار قال : سمعت ابن عرعرة يقول : " كان طاهر بن عبد الله ببغداد فطمع في أن يسمع من أبي عبيد وطمع أن يأتيه في المنزل فلم يفعل أبو عبيد حتى كان هذا يأتيه فقدم علي بن المديني وعباس العنبري فأرادا أن يسمعا غريب الحديث فكان يحمل كل يوم كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما فيه " .
قال أبو بكر : إنما امتنع أبو عبيد من المضي إلى منزل طاهر توقيراً للعلم ومضى إلى منزل ابن المديني وعباس تواضعاً وتديناً ولا وكف عليه في ذلك إذا كانا من أهل الفضل والمنزلة العالية في العلم وقد فعل سفيان الثوري مع إبراهيم بن أدهم مثل هذا .
إبراهيم بن أدهم وسفيان
عن محمد بن عبد الله بن أبان لهيتي نا رضوان بن أحمد بن غزوان الرقي قال : قال : لي ليث بن يونس : حدثني يوسف يعني ابن موسى المروروذي أنا ابن خبيق نا عبد الله بن عبد الرحمن قال :(1/94)
" بعث إبراهيم بن أدهم إلى سفيان يجيء يحدثه فقيل لإبراهيم : تبعث إليه حتى يحدثك ؟ قال أردت أن أعلم مواضعه.قال: فجاء فحدثه " .
الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (200) . ط دار الكتب العلمية .
الفصل التاسع
الهمة في طلب العلم والرحلة إليه
لقد قام علماؤنا الأجلاء الأوائل بجهود جبارة وعظيمة لخدمة هذا الدين العظيم والذب عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن السنة هي المصدر مع القرآن للتشريع الإسلامي ، والتي هي موضحة للقرآن ومفسرة له ومخصصة ومقيدة ، فمنها يستمد الفقهاء الأحكام الشرعية كما يستمدون الأحكام الشرعية من القرآن الكريم .
ومن تيسير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه لهذه الأمة ، أن كرس كثير من العلماء حياتهم لخدمة هذا العلم الشريف ، وبذلوا من أجله جهد طاقتهم وكل ما في وسعهم ، فتجشموا قطع المسافات الشاسعة بما في ذلك من تعب ونصب وعذاب باحثين عن العلم وعن أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - متتبعين أسانيدها .
ولا يبتغون من ذلك مكسب دنيوي ، فالدنيا لم تكن في حسابهم يوماً من الأيام ، وإنما كان هدفهم امتثال أمر الله سبحانه وتعالى .
قال الله تعالى : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } التوبة (122) .(1/95)
فقد استدل الإمام حماد بن سلمة بهذه الآية على الرحلة في طلب العلم . فعن محمد بن وزير الواسطي قال : سمعت يزيد بن هارون يقول لحماد بن زيد يا أبا إسماعيل هل ذكر الله تعالى أصحاب الحديث في القرآن فقال نعم ألم تسمع إلى قوله عز وجل : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } ، فهذا في كل من رحل في طلب العلم والفقه ورجع به إلى من وراءه فعلمه إياه . اهـ . الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي (1/87) . قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة ، ولقد كنت أطلب القرطاس فيعسر علي ، وقال لا يطلب أحدا هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة العلم وتواضع النفس أفلح ، وقال تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه ، وقال من طلب علما فليدقق لئلا يضيع دقيق العلم ، وقال من لا يحب العلم لا خير فيه ولا يكون بينك وبينه صداقة ولا معرفة . تهذيب الأسماء واللغات (1/75) .
وعن يحيى بن يحيى التميمي قال أخبرنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال سمعت أبي يقول : "لا يستطاع العلم براحة الجسم" . صحيح مسلم برقم (612) .
قيل لأحمد بن حنبل : رجلٌ يطلب العلم يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل ؟ قال : يرحل ، يكتب عن علماء الأمصار ، فيشام الناسَ ويتعلّم منهم. اهـ. الرحلة في طلب الحديث للخطيب(ص47) .
وقيل لأحمد بن حنبل : أيرحل الرجل في طلب العلم ؟ فقال " بلى والله شديداً ، لقد كان علقمة بن قيس النخعي ، ـ وهما من أهل الكوفة بالعراق ـ ، يبلغهما الحديث عن عمر ، فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ـ إلى المدينة المنورة ـ ، فيسمعانه منه .
وقال يحيى بن معين : أربعة لا تؤنس منهم رشداً ، وذكر منهم : رجلاً يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث .(1/96)
وأنشد الإمام أبو سعد السمعاني في كتابه "الأنساب" في رسم "الصنعاني" (8/97) لأبي عبد الله الفقيه المراغي الشافعي رحمه الله تعالى :
إذا رأيتَ شَبَابَ الحيِّ قد نَشَأوا لا ينقُلُون قِلالَ الحِبْرِ والوَرَقا
ولا تَراهم لَدَى الأشياخِ في حِلَقٍ يَعُوْنَ من صالحِ الأخبارِمااتَّسَقَا
فذَرْهُمُ عنك واعلَمْ أَنَّهُمْ هَمَجٌ قد بَدَّلوا بعُلُوِّ الهِمَّةِ الحُمُقَا .
هذه الأخبار الثلاثة نقلتها من كتاب صفحات من صبر العلماء (45ـ 47) .
الحث على الرحلة لطلب العلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة" .
أخرجه الترمذي ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي . الرحلة في طلب الحديث (1/195) . قال الألباني رحمه الله : ضعيف ، "ضعيف الجامع" رقم (6448) .
"يأتيكم شباب يطلبون العلم ، فإذا رأيتموهم فاستوصوا بهم خيراً ، فإنهم وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - " . الصحيحة رقم (280) .
وعن أبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إنمّا العلم بالتعلُّم ، وإنمّا الحِلْم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يُعطهْ ومن يتقّ الشر يوقهْ" . صحيح الجامع (2328) .
عن معاوية ، "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين و إنما أنا قاسم و الله يعطي و لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز و جل" .
صحيح الجامع حديث رقم (6612) .
وفي رواية : "من يرد الله به خيرا يفقهه وإنما العلم بالتعلم" . صحيح البخاري (1/37) .(1/97)
إنما العلم أي تحصيله بالتعلم ، بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ، ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم ، حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابة ، وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة ، إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول . اهـ . فيض القدير (2/569) .
وفيه رد على الصوفية الذين يعتقدون بالعلم اللدني ، وهو أن تطلب من الله العلم دون السعي والطلب له، وما عليك سوى الجلوس في الزاوية أو في التكية أو في البيت والله هو يعلمك ! هكذا يعتقدون . وهذا خلاف ما جاء في الشرع ، حيث قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } . النحل (43) .
وقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : " "طلب العلم فريضة على كل مسلم " . الترغيب (70) ، و مشكلة الفقر (86) ، والمشكاة (218) ، وحقوق النساء (ص19) .
فهذا أمر من الشارع الحكيم ، ولكن هم يخالفون في ذلك ، هذا فضلاً عن المخالفات الشرعية الكثيرة،هداهم الله للحق واتباع السنة. عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل خير من أن تصلي ألف ركعة" .
رواه ابن ماجة برقم (219) ، مصباح الزجاجة (1/29) . الضعيفة (3/335) ، والمشكاة (3609) .(1/98)
يدل على أن تعلم العلم خير من كثرة الأعمال ، لأن تعلم آية خير من مائة ركعة . دل الحديث أيضا على أن العالم إن لم يعمل بعلمه بحيث جاءه الموت بغتة أو اشتغل في تعليم الناس بحيث فاته الأعمال جوزي بمثل ما جوزي العامل ، ولذا قال فقهاؤنا إن العالم إذا صار مرجعا للناس وسعه ترك السنن الرواتب ولم يجز له أن يخرج إلى الغزوة والجهاد إذا لم يكن في البلد عالم غيره ، وفي الحديث دليل أيضا على أن تعلم العلم خير من تعلم القرآن إذا قرأ ما يصح به الصلاة بعشر درجة ، ولذلك قال الفقهاء الحنفية يؤم القوم أعلمهم بكتاب الله ، ثم أقرؤهم به إنجاح الحاجة . شرح سنن ابن ماجة (1/20) .
وعن الوليد بن مسلم مروان بن جناح ، عن يونس بن ميسرة بن حلبس أنه حدثه قال : سمعت معاوية بن أبي سفيان يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "الخير عادة والشر لجاجة ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" .
رواه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" حديث رقم (3348) .
الخير عادة لعود النفس إليه وحرصها عليه من أصل الفطرة .
والشر لجاجة لما فيه من العوج وضيق النفس والكرب والعادة مشتقة من العود إلى الشيء مرة بعد أخرى . اهـ . فيض القدير .(1/99)
ومن يرد اللّه به خيراً يفقهه في الدين ، أي يفهمه ويبصره في كلام اللّه ورسوله لأن ذلك يقوده إلى التقوى ، والتقوى تقوده إلى الجنة. وجاء في الشرح على سنن ابن ماجة : قوله : الخير عادة والشر لجاجة الخ ، المراد منه والله اعلم أن الإنسان مجبول على الخير ، قال الله تعالى : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } ، الروم (30) .وقال - صلى الله عليه وسلم - : "ما من مولود لا وقد يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث رواه البخاري برقم (2658) ، ومسلم برقم (1319) . والشر لجاجة ، واللجاجة بالفتح الخصومة ، ويقال للنفس اللجوج لأنه منصوب بعداوة الإنسان ، كما جاء في الخبر أعدي عدوك نفسك التي بين جنبيك ، فالمراد منه إن النفس تثلج وتضطر إلى الشرارة ، فالواجب على كل إنسان أن يزيل تلك الشرارة عن نفسه بما جاء من موعظة الله ورسوله ، فإن الأنبياء قد بعثوا بتزكية النفوس { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } . الشمس (9،10) .وأشعار بأن طالب الدنيا ليس من العلماء الورثة ، ولا يرد الاعتراض بأنه كان لبعض الأنبياء غناء كثير لأن المراد أنهم ما تركوا بعدهم ميراثا لأولادهم وأزواجهم ، ويذكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أنه مر يوما في السوق على المشتغلين بتجاراتهم ، فقال أنتم ههنا وميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، فقاموا سراعا فلم يجدوا فيه إلا القرآن أو الذكر أو مجالس العلم ، فقالوا أين ما قلت يا أبا هريرة فقال : هذا ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين ورثته و ليس مواريثه دنياكم . اهـ . شرح سنن ابن ماجة (1/20) .(1/100)
جاء في كتاب المجموع (1/64) في باب آداب المتعلم : قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى : لا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتى يضر به الفقرُ ،ويؤثره على كل شيء .
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : يستعان على الفقه بجمع الهمم ، ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولا تزد .
وقال إبراهيم الآجري : من طلب العلم بالفاقة ورث الفهم . اهـ . صفحات من صبر العلماء (ص146) .
وصية لقمان لابنه في طلب العلم
حدثني عن مالك ، أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال : "يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء" . الموطأ رقم
(1821) .
ويروى أن رجلاً قال لأبي الدَّرْدَاء : إني أريدُ أن أطلبَ العلم فأخشى أن أضيِّعه . فقال : "لأنْ تتوسَّدَ العِلْم خيرُ لكَ مِنْ أَنْ تتوسَّدَ الجَهْلَ" .لسان العرب ، الفائق (4/59).
وورد عن وهب بن جرير ، عن أبيه قال : جلست إلى الحسن سبع سنين لم أخرم منه يوماً واحداً ، أصوم وأذهب إليه . سير أعلام النبلاء (6/362) .
وعن علي بن أحمد بن عمر المقري قراءة عليه ، أنبا إسماعيل بن علي الخطبي ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي رحمه الله عمن طلب العلم ترى له أن يلزم رجلا عنده علم فيكتب عنه أو ترى أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم قال يرحل يكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة بشام الناس يسمع منهم . الرحلة في طلب الحديث (1/88).
فعلى طالب العلم وطالب الحديث أن يحرص ويجتهد في طلب العلم ، وأن يرحل إليه ويلزم العلماء ، فنحن في زمن قلَّ فيه طلب العلم ، وانشغل الناس في الدنيا إلا من رحم الله تعالى .(1/101)
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى : حدثني أبو القاسم الأزهري ، أنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، نا مرزوق بن أحمد السقطي قال : حدثني محمد بن محمد الباغندي قال : سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول : " لا تذهب الأيام والليالي حتى يجيء المحدث يدق أبواب الناس يقول : تريدون محدثاً يحدثكم ؟ فيقولون له لا " . اهـ . "الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي" . ط دار الكتب العلمية (ص200) .
بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب فقال :
باب الخروج في طلب العلم
ورحلة جابر شهر في حديث واحد
ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد . أخرجه البخاري برقم (77) .
أن جابر بن عبد الله حدثه قال : بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم اسمعه منه ، قال فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي فسرت إليه شهرا حتى أتيت الشام فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري ، قال : فأرسلت إليه جابرا على الباب ، قال فرجع إلي الرسول ، فقال جابر بن عبد الله فقلت نعم ، قال فرجع الرسول إليه فخرج إلي فاعتنقني واعتنقته ، قال قلت حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المظالم لم أسمعه فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه ، فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يحشر الله العباد ، أو قال يحشر الله الناس ، قال وأومأ بيده إلى الشام عراة غرلا بهما ، قلت : ما بهما قال ليس معهم شيء ، قال فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، قال قلنا كيف هو وإنما نأتي الله تعالى عراة غرلا بهما ، قال بالحسنات والسيئات . صحيح البخاري (1/41) .(1/102)
قال النووي رحمه الله تعالى : قوله - صلى الله عليه وسلم - : "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" ، الغرل بضم الغين المعجمة وإسكان الراء ، معناه غير مختونين ، جمع أغرل وهو الذي لم يختن وبقية معه غرلته ، وهى قلفته وهي الجلدة التي تقطع في الختان ، قال الأزهري وغيره هو الأغرل والأرغل والأغلف بالغين المعجمة في الثلاثة ، والأقلف والأعرم بالعين المهملة ، وجمعه غرل ورغل وغلف وقلف وعرم ، والحفاة جمع حاف ، والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ، ولا يفقد منهم شيء حتى الغرلة تكون معهم . اهـ . شرح مسلم (17/193) .
قال الحافظ في الفتح : وفي حديث جابر دليل على طلب علو الإسناد لأنه بلغه الحديث عن عبد الله بن أنيس فلم يقنعه حتى رحل فأخذه عنه بلا واسطة وسيأتي عن بن مسعود في كتاب فضائل القرآن قوله لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه ، وأخرج الخطيب عن أبي العالية قال كنا نسمع عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم ، وقيل لأحمد رجل يطلب العلم يلزم رجلا عنده علم كثير أو يرحل قال يرحل يكتب عن علماء الأمصار فيشافه الناس ويتعلم منهم ، وفيه ما كان عليه الصحابة من الحرص على تحصيل السنن النبوية ، وفيه جواز اعتناق القادم حيث لا تحصل الريبة . اهـ . فتح الباري (1/174) .
باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله .
عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - ، "أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز ، فأتته امرأة فقالت : إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج ، فقال لها عقبة ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني ، فركب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فسأله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف وقد قيل ، ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره" .
رواه البخاري برقم (87) .(1/103)
قال الحافظ : وفي الحديث جواز أعراض المفتي ليتنبه المستفتي على أن الحكم فيما سأله الكف عنه ، وجواز تكرار السؤال لمن لم يفهم المراد ،والسؤال عن السبب المقتضى لرفع النكاح . اهـ . فتح الباري (5/269).
وقال البخاري :
باب التناوب في العلم .
عن عبد الله بن عباس عن عمر قال : كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك ، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضربا شديدا ، فقال أثم هو ففزعت فخرجت إليه ، فقال قد حدث أمر عظيم ، قال فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت طلقكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالت لا أدري ، ثم دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت وأنا قائم أطلقت نساءك ، قال : لا فقلت الله أكبر .
رواه البخاري برقم (89) ، ومسلم برقم (1479) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : وفي هذا الحديث الاعتماد على خبر الواحد ، والعمل بمراسيل الصحابة ، وفيه أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على طلب العلم وغيره مع أخذه الحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته لما علم من حال عمر أنه كان يتعانى التجارة إذ ذاك كما سيأتي في البيوع ، وفيه أن شرط التواتر أن يكون مستند نقلته الأمر المحسوس لا الإشاعة التي لا يدري من بدأ بها . اهـ . فتح الباري (1/186) .
رحلة موسى إلى الخضر عليهما السلام لطلبه العلم(1/104)
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فمر بهما أبي بن كعب ، فدعاه بن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه ؟ ، فقال : أبي نعم سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه يقول : "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال أتعلم أحدا أعلم منك قال موسى لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه فكان موسى - صلى الله عليه وسلم - يتبع أثر الحوت في البحر فقال فتى موسى لموسى : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه } الكهف الآية (63) ، قال موسى ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه" . رواه البخاري برقم (74) ، ومسلم برقم (2380).
وفي الحديث جواز التجادل في العلم إذا كان بغير تعنت والرجوع إلى أهل العلم عند التنازع والعمل بخبر الواحد الصدوق ، وركوب البحر في طلب العلم بل في طلب الاستكثار منه ، ومشروعية حمل الزاد في السفر ، ولزوم التواضع في كل حال ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام ، وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع . اهـ . فتح الباري (1/169) .
العلماء من الصحابة
وعن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "معاذ بن جبل إمام العلماء برتوة" .(1/105)
رواه الطبراني ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/311) : "رواه الطبراني مرسلا وفيه محمد بن عبد الله بن أزهر الأنصاري ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح" . وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5880) ، والصحيحة برقم (1091) .
ولما حضرته الوفاة قال : مرحبا بالموت مرحبا زائر حبيب جاء على فاقة اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك إني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لضماء الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .
وقال ابن مسعود : أن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، فقيل له إنما قال الله تعالى هذا في إبراهيم فأعاد ابن مسعود قوله ، ثم قال الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به ، والقانت
المطيع لله عز وجل وكذلك كان معاذ معلما للخير مطيعا لله عز
وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحوال معاذ ومناقبه غير منحصرة - رضي الله عنه - . تهذيب الأسماء (2/404) .
أبو هريرة - رضي الله عنه - وهمته في طلب للعلم
قال البخاري : باب حفظ العلم .
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني مالك ، عن بن شهاب ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : "إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ، ثم يتلو : "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات" ، إلى قوله : "الرحيم" ، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم ، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون" . رواه البخاري برقم (118) .(1/106)
قال ابن عبد البر : طلب الدنيا يمنع من استفادة العلم ، وإن كل ما ازداد المرء طلبا لها ازداد جهلا وقل عمله والله أعلم ، ومن هذا قول أبي هريرة : أما إخواننا المهاجرون فكان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وأما إخواننا من الأنصار فشغلتهم حوائطهم ولزمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شبع بطني هذا ، وكان القوم عربا في طبعهم الحفظ وقلة النسيان فكيف اليوم وإذا كان القرآن الميسر للذكر كالإبل المعقلة من تعاهدها أمسكها فكيف بسائر العلوم . التمهيد (3/202) .
قصة إسلام أبي ذر رضي الله تعالى عنه
وما فيها من عبر(1/107)
قال البخاري : حدثنا زيد هو بن أخزم ، قال أبو قتيبة سلم بن قتيبة : حدثني مثني بن سعيد القصير قال : حدثني أبو جمرة قال : قال لنا بن عباس : ألا أخبركم بإسلام أبي ذر قال ، قلنا بلى قال : قال أبو ذر : كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره ، فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت : ما عندك ، فقال : والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر ، فقلت له : لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد ، قال فمر بي علي فقال كأن الرجل غريب قال قلت : نعم قال فانطلق إلى المنزل ، قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره ، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء ، قال فَمرَ بي علي فقال أما آن للرجل يعرف منزله بعد ، قال قلت لا قال انطلق معي ، قال فقال : ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة ، قال قلت له : إن كتمت علي أخبرتك قال فإني أفعل ، قال قلت له : بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه ، فقال له أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت ، فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت له : اعرض علي الإسلام ، فعرضه فأسلمت مكاني ، فقال لي : "يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل" ، فقلت : والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم ، فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال : يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضربت لأموت ، فأدركني العباس فأكب علي ثم أقبل عليهم فقال : ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم(1/108)
على غفار ، فأقلعوا عني فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس ، فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ ، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس ، قال فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله" .رواه البخاري برقم (3328) .
لأصرخن بها بين ظهرانيهم ، هو بضم الراء من لأصرخن ، أي لأرفعن صوتي بها ، وقوله بين ظهرانيهم وهو بفتح النون ويقال بين ظهريهم . شرح النووي (16/34) .
قال الحافظ : قوله "لأصرخن بها" ، أي بكلمة التوحيد والمراد أنه يرفع صوته جهارا بين المشركين ، وكأنه فهم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالكتمان ليس على الإيجاب ، بل على سبيل الشفقة عليه فأعلمه أن به قوة على ذلك ولهذا أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله وإن كان السكوت جائزا ، والتحقيق إن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه ، قوله ثم قام القوم في رواية أبي قتيبة فقالوا قوموا إلى هذا الصابي بالياء اللينة فقاموا ، وكانوا يسمون من أسلم صابيا ، لأنه من صبا يصبو إذا انتقل من شيء إلى شيء . فتح الباري (7/175) .
قصة إسلام سلمان الفارسي - رضي الله عنه -
وبحثه عن الحقيقة(1/109)
عن سماك بن حرب ، عن زيد بن صوحان ، أن رجلين من أهل الكوفة كانا صديقين لزيد بن صوحان أتياه ليكلم لهما سلمان أن يحدثهما حديثه كيف كان إسلامه ، فأقبلا معه حتى لقوا سلمان وهو بالمدائن أميرا عليها ، وإذا هو على كرسي قاعد وإذا خوص بين يديه وهو يسفه قالا فسلمنا وقعدنا فقال له زيد : يا أبا عبد الله إن هذين لي صديقان ولهما أخ وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان بدؤ إسلامك ، قال فقال سلمان : كنت يتيما من رام هرمز ، وكان بن دهقان رام هرمز يختلف إلى معلم يعلمه فلزمته لأكون في كنفه ، وكان لي أخ أكبر مني وكان مستغنيا بنفسه ، وكنت غلاما قصيرا وكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظهم فإذا تفرقوا خرج فيضع بثوبه ، ثم صعد الجبل وكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا ، قال فقلت له : إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك ، قال أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء قال قلت لا تخف ، قال فإن في هذا الجبل قوما في برطيلهم لهم عبادة ولهم صلاح يذكرون الله تعالى ويذكرون الآخرة ويزعموننا عبدة النيران وعبدة الأوثان وأنا على دينهم ، قال قلت فاذهب بي معك إليهم ، قال : لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتل القوم فيكون هلاكهم على يدي ، قال قلت : لن يظهر مني ذلك فاستأمرهم ، فأتاهم فقال غلام عندي يتيم فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم ، قالوا إن كنت تثق به قال أرجو أن لا يجيء منه إلا ما أحب قالوا فجيء به ، فقال لي : لقد استأذنت في أن تجيء معي فإذا كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها فاتني ولا يعلم بك أحد فإن أبي إن علم بهم قتلهم ، قال فلما كانت الساعة التي يخرج تبعته فصعدنا الجبل فانتهينا إليهم فإذا هم في برطيلهم ، قال علي وأراه قال وهم ستة أو سبعة ، قال وكان الروح قد خرج منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل ويأكلون عند السحر ما وجدوا ، فقعدنا إليهم فأثنى الدهقان على حبر فتكلموا فحمدوا الله وأثنوا عليه(1/110)
وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى ذكر عيسى بن مريم عليهما السلام فقالوا بعث الله تعالى عيسى عليه السلام رسولا وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والأعمى فكفر به قوم وتبعه قوم ، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه ، قال وقالوا قبل ذلك يا غلام إن لك لربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا إليهما تصيرون وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله ما يصنعون وليسوا على دين ، فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام انصرف وانصرفت معه ثم غدونا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن ولزمتهم فقالوا لي : يا سلمان إنك غلام وإنك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع فصل ونم وكل واشرب ، قال فاطلع الملك على صنيع ابنه فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم فقال يا هؤلاء قد جاورتموني فأحسنت جواركم ولم تروا مني سوءا فعمدتم إلى ابني فأفسدتموه علي قد أجلتكم ثلاثا فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا فالحقوا ببلادكم فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء ، قالوا نعم ما تعمدنا مساءتك ولا أردنا إلا الخير فكف ابنه عن إتيانهم ، فقلت له اتق الله فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله وأن أباك ونحن على غير دين إنما هم عبدة النار لا يعبدون الله فلا تبع آخرتك بدين غيرك ، قال يا سلمان هو كما تقول وإنما أتخلف عن القوم بغيا عليهم إن تبعت القوم طلبني أبي في الجبل وقد خرج في إتياني إياهم حتى طردهم وقد أعرف أن الحق في أيديهم ، فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه فقالوا يا سلمان قد كنا نحذر مكان ما رأيت فاتق الله تعالى واعلم أن الدين ما أوصيناك به وأن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله تعالى ولا يذكرونه فلا يخدعنك أحد عن دينك ، قلت ما أنا بمفارقكم قالوا أنت لا تقدر أن تكون معنا نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل عند السحر ما أصبنا وأنت لا تستطيع ذلك ، قال فقلت(1/111)
لا أفارقكم قالوا أنت أعلم وقد أعلمناك حالنا فإذا أتيت خذ مقدار حمل يكون معك شيء تأكله فإنك لا تستطيع ما نستطيع بحق قال ففعلت ، ولقينا أخي فعرضت عليه ثم أتيتهم يمشون وأمشي معهم فرزق الله السلامة حتى قدمنا الموصل فأتينا بيعة بالموصل فلما دخلوا احتفوا بهم ، وقالوا أين كنتم قالوا كنا في بلاد لا يذكرون الله تعالى فيها عبدة النيران وكنا نعبد الله فطردونا فقالوا ما هذا الغلام فطفقوا يثنون علي وقالوا صحبنا من تلك البلاد فلم نر منه إلا خيرا قال سلمان فوالله إنهم لكذلك إذا طلع عليهم رجل من كهف جبل ، قال فجاء حتى سلم وجلس فحفوا به وعظموه أصحابي الذين كنت معهم وأحدقوا به ، فقال أين كنتم فأخبروه فقال ما هذا الغلام معكم فأثنوا علي خيرا وأخبروه باتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم إياه فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر من أرسل من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع به وذكر مولد عيسى بن مريم عليه السلام وأنه ولد بغير ذكر فبعثه الله عز وجل رسولا وأحيى على يديه الموتى وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأنزل عليه الإنجيل وعلمه التوراة وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل فكفر به قوم وآمن به قوم وذكر بعض ما لقى عيسى بن مريم وأنه كان عبد الله أنعم الله عليه فشكر ذلك له ورضي الله عنه حتى قبضه الله عز وجل وهو يعظهم ويقول اتقوا الله وألزموا ما جاء به عيسى صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوا فيخالف بكم ، ثم قال من أراد أن يأخذ من هذا شيئا فليأخذ فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام فقام أصحابي الذين جئت معهم فسلموا عليه وعظموه وقال لهم ألزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا واستوصوا بهذا الغلام خيرا وقال لي يا غلام هذا دين الله الذي تسمعني أقوله وما سواه الكفر قال قلت ما أنا بمفارقك قال إنك لا تستطيع أن تكون معي إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد ولا تقدر على الكينونة معي قال وأقبل علي(1/112)
أصحابه فقالوا يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معه قلت ما أنا بمفارقك قال له أصحابه يا فلان إن هذا غلام ويخاف عليه فقال لي أنت أعلم قلت فإني لا أفارقك فبكى أصحابي الأولون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي فقال يا غلام خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر وخذ من الماء ما تكتفي به ففعلت فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر فلما أصبحنا قال لي خذ جرتك هذه وانطلق فخرجت معه أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال ينتظرون خروجه فقعدوا وعاد في حديثه نحو المرة الأولى فقال ألزموا هذا الدين ولا تفرقوا واذكروا الله واعلموا أن عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام كان عبد الله تعالى أنعم الله عليه ثم ذكرني فقالوا له يا فلان كيف وجدت هذا الغلام فأثنى علي وقال خيرا فحمدوا الله تعالى وإذا خبز كثير وماء كثير فأخذوا وجعل الرجل يأخذ ما يكتفي به وفعلت فتفرقوا في تلك الجبال ورجع إلى كهفه ورجعت معه ، فلبثنا ما شاء الله يخرج في كل يوم أحد ويخرجون معه ويحفون به ويوصيهم بما كان يوصيهم به ، فخرج في أحد فلما اجتمعوا حمد الله تعالى ووعظهم وقال مثل ما كان يقول لهم ثم قال لهم آخر ذلك يا هؤلاء إنه قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي وأنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا ولا بد من إتيانه فاستوصوا بهذا الغلام خيرا فإني رأيته لا بأس به قال فجزع القوم فما رأيت مثل جزعهم وقالوا يا فلان أنت كبير فأنت وحدك ولا نأمن من أن يصيبك شيء يساعدك أحوج ما كنا إليك قال لا تراجعوني لا بد من اتباعه ولكن استوصوا بهذا الغلام خيرا وافعلوا وافعلوا ، قال فقلت ما أنا بمفارقك قال يا سلمان قد رأيت حالي وما كنت عليه وليس هذا كذلك أنا أمشي أصوم النهار وأقوم الليل ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولا غيره وأنت لا تقدر على هذا قلت ما أنا بمفارقك ، قال أنت أعلم قال فقالوا يا فلان فإنا نخاف على هذا(1/113)
الغلام ، قال فهو أعلم قد أعلمته الحال ، وقد رأى ما كان قبل هذا قلت لا أفارقك ، قال فبكوا وودعوه وقال لهم اتقوا الله وكونوا على ما أوصيتكم به فإن أعش فعلي أرجع إليكم وإن مت فإن الله حي لا يموت فسلم عليهم وخرج وخرجت معه وقال لي أحمل معك من هذا الخبز شيئا تأكله ، فخرج وخرجت معه يمشي واتبعته يذكر الله تعالى ولا يلتفت ولا يقف على شيء حتى إذا أمسينا قال : يا سلمان صل أنت ونم وكل واشرب ، ثم قام وهو يصلي حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء حتى أتينا إلى باب المسجد وإذا على الباب مقعد فقال يا عبد الله قد ترى حالي فتصدق علي بشيء فلم يلتفت إليه ودخل المسجد ودخلت معه فجعل يتبع أمكنة من المسجد فصلى فيها فقال يا سلمان إني لم أنم منذ كذا وكذا ولم أجد طعم النوم فإن فعلت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت فإني أحب أن أنام في هذا المسجد وإلا لم أنم قال قلت فإني أفعل قال فإذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني إذا غلبتني عيني فنام فقلت في نفسي هذا لم ينم مذ كذا وكذا ، وقد رأيت بعض ذلك لأدعنه ينام حتى يشتفي من النوم ، قال وكان فيما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا ويعلمني ويذكرني نحو ما يذكر القوم يوم الأحد حتى قال فيما يقول يا سلمان إن الله عز وجل سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهمة وكان رجلا عجميا لا يحسن القول علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه ، قال قلت وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ، قال اتركه فإن الحق فيما يأمر به ورضى الرحمن فيما قال ، فلم يمض إلا يسيرا حتى استيقظ فزعا يذكر الله تعالى ، فقال لي : يا سلمان مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر أين ما كنت جعلت على نفسك ، قال أخبرتني إنك لم تنم منذ كذا(1/114)
وكذا وقد رأيت بعض ذلك فأحببت أن تشتفي من النوم فحمد الله تعالى وقام فخرج وتبعته فمر بالمقعد فقال المقعد يا عبد الله دخلت فسألتك فلم تعطني وخرجت فسألتك فلم تعطني فقام ينظر هل يرى أحدا فلم يره فدنا منه فقال له ناولني يدك فناوله فقال بسم الله فقام كأنه أنشط من عقال صحيحا لا عيب به فخلا عن بعده ، فانطلق ذاهبا فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه ، فقال لي المقعد يا غلام أحمل علي ثيابي حتى انطلق فأسير إلى أهلي فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي علي ، فخرجت في أثره أطلبه فكلما سألت عنه قالوا أمامك حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم فلما سمعوا الفتى أناخ رجل منهم لي بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بلادهم فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط بها ، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء ، ثم أتيته فوجدت عنده ناسا وإذا أبو بكر أقرب الناس إليه فوضعته بين يديه ، وقال ما هذا قلت : صدقة ، قال للقوم : "كلوا ولم يأكل" ، ثم لبثت ما شاء الله ثم أخذت مثل ذلك فجعلت على شيء ، ثم أتيته فوجدت عنده ناسا ، وإذا أبو بكر أقرب القوم منه فوضعته بين يديه ، فقال لي : "ما هذا" قلت : هدية قال : "بسم الله وأكل ، وأكل القوم" ، قلت في نفسي : هذه من آياته ،كان صاحبي رجل أعجمي لم يحسن أن يقول تهامة فقال تهمة ، وقال اسمه أحمد فدرت خلفه ففطن بن فأرخى ثوبا فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال : "من أنت" ، قلت : مملوك ، قال فحدثته حديثي وحديث الرجل الذي كنت معه وما أمرني به ، قال : "لمن أنت" ، قلت لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها ، قال : "يا أبا بكر قال لبيك قال اشتره" ، فاشتراني أبو بكر - رضي الله عنه - فأعتقني ، فلبثت ما شاء الله أن ألبث فسلمت عليه وقعدت بين يديه ، فقلت يا رسول الله ما(1/115)
تقول في دين النصارى قال : "لا خير فيهم ولا في دينهم" ، فدخلني أمر عظيم ، فقلت في نفسي هذا الذي كنت معه ورأيت ما رأيته ثم رأيته أخذ بيد المقعد فأقامه الله على يديه وقال لا خير في هؤلاء ولا في دينهم ، فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله ، فأنزل الله عز وجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - "ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون" ، إلى آخر الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "علي بسلمان" ، فأتى الرسول وأنا خائف فجئت حتى قعدت بين يديه فقرأ : "بسم الله الرحمن : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } . المائدة (82) .إلى آخر الآية ، يا سلمان إن أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى إنما كانوا مسلمين" ، فقلت : يا رسول الله والذي بعثك بالحق لهو الذي أمرني باتباعك ، فقلت له وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ، قال : "فاتركه فإن الحق وما يجب فيما يأمرك به" .
قال الحاكم رحمه الله تعالى : هذا حديث صحيح عال في ذكر إسلام سلمان الفارسي - رضي الله عنه - ولم يخرجاه . مستدرك الحاكم (3/691ـ696) برقم (6543) ، ورواه البخاري مختصراً برقم (3746،4747) . "السلسة الصحيحة" رقم (894) .
قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء . يعني سلمان الفارسي" . الصحيحة (1071)
همة أبي الدرداء - رضي الله عنه -
في الرحلة لطلب العلم
قول أبي الدرداء لو أعيتني آية من كتاب الله فلم أجد أحدا يفتحها علي إلا رجل ببرك الغماد لرحلت إليه من رحلات التابعين ومن بعدهم وفيها جاء هذا الحديث .الرحلة في طلب الحديث (1/195).(1/116)
عن داود بن جميل ، عن كثير بن قيس قال : كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق ، فأتاه رجل فقال يا أبا الدرداء إني أتيتك من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو الدرداء أما جئت لحاجة ، أما جئت لتجارة ، أما جئت إلا لهذا الحديث ، قال : نعم قال فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، والملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" .
موارد الضمآن (80) ، صحيح الجامع برقم (6297) .
رحلة مالك ابن الحويرث ومن معه
رضي الله عنهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
عن أبي قلابة ، عن مالك بن الحويرث قال : "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة ، وكان رحيما رفيقا فلما رأى شوقنا إلى أهالينا ، قال : ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" . رواه البخاري برقم (602) ، ومسلم برقم (674) .
قال الحافظ في الفتح : قوله :"ونحن شببة" بفتح المعجمة والموحدتين ، جمع شاب زاد في الأدب من طريق بن علية عن أيوب ،شببة متقاربون ، والمراد تقاربهم في السن ، لأن ذلك كان في حال قدومهم قوله نحوا من عشرين في رواية بن علية المذكورة الجزم به ولفظه : فأقمنا عنده عشرين ليلة والمراد بأيامها .(1/117)
وقوله : "رحيما ، فقال لو رجعتم" ، في رواية بن علية وعبد الوهاب رحيما رقيقا ، فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا وسألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم" ، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون عرض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله لو رجعتم إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع لأمكن أن يكون فيه تنفير ، فيحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم فأمرهم حينئذ بقوله ارجعوا ، واقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم دون قصد التعليم هو لما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك ، ويمكن أن يكون عرف ذلك بتصريح القول منه - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم لكنه أخبر بالواقع ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة صادف شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين وهو أهلية التعليم، كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث حظ وافق حقا. اهـ. فتح الباري (2/171) .
همة زيد بن ثابت - رضي الله عنه -
في الدعوة وطلب العلم
عن عمر بن سليمان قال : سمعت عبد الرحمن بن أبان يحدث عن أبيه قال : خرج زيد بن ثابت من عند مروان نصف النهار ، قال قلت ما بعث إليه هذه الساعة إلا لشيء سأله عنه ، فسألته فقال سألنا عن أشياء سمعناها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ، ومن كانت الدنيا نيته فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة " .
موارد الضمآن (72) . الصحيحة (404) ، الترغيب (85) ، السنة(94) .(1/118)
ذهب زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ليركب ووضع رجله في الركاب فأمسك ابن عباس بالركاب ، فقال : تَنحَّ يا ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : لا، هكذا نفعل بالعلماء الأكابر. المعرفة والتاريخ (1/484) .
قال البخاري :
باب من رفع صوته بالعلم
حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك ، عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا" . البخاري رقم (117) .
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدثني مالك ، عن بن شهاب ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ، ثم يتلو : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ } . البقرة (159) إلى قوله الرحيم ، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون . البخاري رقم (118) .
الحارث بن عميرة ورحلته لطلب العلم
عن عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن عكرمة ، عن الحارث بن عميرة قال : قدمت من الشام إلى المدينة في طلب العلم فسمعت معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "المتحابون في الله لهم منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الشهداء" .
صحيح الجامع حديث رقم (4312) .(1/119)
فأقمت معه ، فذكرت له الشام وأهلها وأشعارها ، فتجهز إلى الشام ، فخرجت معه فسمعته يقول لعمرو بن العاص رضي الله عنهما : لقد صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنت أضل من حمار أهله ، فأصاب ابنه الطاعون وامرأته فماتا جميعا ، فحفر لهما قبرا واحدا فدفنا ، ثم رجعنا إلى معاذ وهو ثقيل فبكينا حوله فقال : إن كنتم تبكون على العلم فهذا كتاب الله بين أظهركم فاتبعوه فإن أشكل عليكم شيء من تفسيره فعليكم بهؤلاء الثلاثة عويمر أبي الدرداء ، وابن أم عبد ، وسلمان الفارسي وإياكم وزلة العالم وجدال المنافق ، فأقمت شهرا ثم خرجت إلى العراق فأتيت بن مسعود - رضي الله عنه - فقال نعم الحي أهل الشام لولا أنهم يشهدون على أنفسهم بالنجاة قلت : صدق معاذ ، قال وما قال ، قلت : أوصاني بك وبعويمر أبي الدرداء وسلمان الفارسي ، وقال وإياكم وزلة العالم وجدال المنافق ثم تنحيت فقال لي يا بن أخي إنما كانت زلة مني فأقمت عنده شهرا ثم أتيت سلمان الفارسي ، فسمعته يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" ، فأقمت عنده شهرا يقسم الليل ويقسم النهار بينه وبين خادمه . المستدرك على الصحيحين رقم (8296) .
رحلة سعيد بن المسيب
الأيام والليالي لطلبه الحديث الواحد
وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد .
قال ابن حجر : وسيأتي نحو ذلك عن غيره وفي حديث جابر دليل على طلب علو الإسناد لأنه بلغه الحديث عن عبد الله بن أنيس فلم يقنعه حتى رحل فأخذه عنه بلا واسطة . فتح الباري (1/175) .
الصبر على طلب العلم
في الرحلة إليه
وعلى طالب العلم أن يصبر على أذية بعض الناس له ، وأن يتحمل ما يصدر منهم .(1/120)
قال الخطيب البغدادي : أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن طلحة الواعظ بأصبهان ، ثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ، قال سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي ، قال كنا نمشي في أزقة البصرة إلى باب بعض المحدثين فأسرعنا المشي ، وكان معنا رجل ماجن متهم في دينه فقال ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها كالمستهزئ ، فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط . الرحلة في طلب الحديث (1/85) .
رحلة علقمة والأسود
في طلبهم للعلم
عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، أنه قيل له أيرحل الرجل في طلب العلو؟ فقال : بلى والله شديدا ، لقد كان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر - رضي الله عنه - فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر فيسمعانه منه علوم الحديث .
هذان الإمامان الجليلان من أئمة التابعين يخرجان من العراق إلى المدينة مسيرة شهر لكي يسمعا من عمر حديثا بلغهما عنه .
مسروق وطلبه للعلم
عن الشعبي قال : ما علمت أن أحدا من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق . أخرجه الرامهرمزي وابن عبد البر . الرحلة في طلب الحديث (1/197)
الإمام مالك بن أنس
يبيع خشب سقف بيته من أجل طلب العلم
مالك بن أنس ، هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان ، بالغين المعجمة والياء المثناة ابن خثيل بالخاء المعجمة المضمومة وفتح الثاء المثلثة ، ابن عمرو بن الحارث ، وهو ذو أصبح الأصبحي المدني ، إمام دار الهجرة وأحد أئمة المذاهب المتبوعة ، [المولود سنة 95 ، والمتوفي سنة 179] ، وهو من تابعي التابعين ، سمع نافعا مولى ابن عمر ، ومحمد بن المنكدر ، وأبا الزبير والزهري ، وعبد الله بن دينار وأبا حازم ، وخلائق آخرين من التابعين .(1/121)
قال أحمد بن حنبل وابن معين وابن المديني أثبت أصحاب الزهري مالك ، وقال أبو حاتم مالك ثقة ، وهو إمام أهل الحجاز وهو أثبت أصحاب الزهري ، وقال الشافعي إذا جاء الأثر فمالك النجم ، وقال الشافعي: أيضا لولا مالك وسفيان يعني ابن عيينة لذهب علم الحجاز ، وكان مالك إذا شك في شيء من الحديث تركه كله ، وقال أيضا مالك معلمي وعنه أخذنا العلم ، وقال حرملة لم يكن الشافعي يقدم على مالك أحدا في الحديث ، وقال وهب بن خالد ما بين المشرق والمغرب رجل آمن على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مالك.
وروينا بالإسناد الصحيح في الترمذي وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يوشك أن تضرب الناس أباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة" ، قال الترمذي حديث حسن ، قال وقد روي عن سفيان بن عيينة قال : هو مالك بن أنس.
وروينا عن عبد الله بن يوسف عن خلف بن عمر قال : كنت عند مالك فأتاه ابن كثير قارىء المدينة فناوله رقعة فنظر فيها مالك ثم جعلها تحت مصلاة فلما قام من عنده ذهبت أقوم فقال اجلس يا خلف وناولني الرقعة فإذا فيها رأيت الليلة في منامي كأنه يقال لي هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس والناس حوله يقولون له يا رسول الله أعطنا يا رسول الله مر لنا فقال لهم إني قد كنزت تحت المنبر كنزا كبيرا وقد أمرت مالكا أن يقسمه فيكم فاذهبوا إلى مالك رضي الله عنه فانصرف الناس وبعضهم يقول لبعض ما ترون مالكا فاعلا فقال بعضهم ينفذ ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق مالك وبكى ثم خرجت من عنده وتركته على تلك الحالة .(1/122)
وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي قال أئمة الناس في زمانهم أربعة سفيان الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة وبإسناده الصحيح عن الشافعي رضي الله عنه قال ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من موطأ مالك قال العلماء إنما قال الشافعي هذه قبل وجود صحيحي البخاري ومسلم وهما أصح من الموطأ باتفاق العلماء .
وعن محمد بن رمح قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من أربعين سنة في المنام فقلت له يا رسول الله مالك والليث يختلفان في مسألة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك مالك مالك ورث جدي يعني إبراهيم عليه السلام وعن بكر قال رأيت في النوم أني دخلت في الجنة فرأيت الأوزاعي وسفيان الثوري ولم أر مالكا فقلت وأين مالك قالوا وأين مالك وأين مالك رفع مالك فما زال يقول وأين مالك رفع مالك حتى سقطت قلنسوته ، وقال الإمام أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين الدولقي في كتابه الرسالة المصنفة في بيان سبل السنة المشرفة أخذ مالك على تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعيهم ممن اختاره وارتضى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها وخلصت الثقة به وترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية وأحوال مالك رضي الله عنه ومناقبه كثيرة مشهورة توفي بالمدينة في صفر سنة تسع وسبعين ومائة قاله محمد بن سعد وقال إسماعيل بن عبد الله بن أويس مرض مالك أياما يسيرة ثم توفي في صبيحة أربع عشرة من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو يومئذ وال على المدينة ودفن بالبقيع وقبره بباب البقيع وعليه قبة وولد مالك سنة ثلاث وتسعين من الهجرة وقيل سنة إحدى وتسعين وقيل سنة أربع وقيل سنة سبع قالوا وحمل به في البطن ثلاث سنين وقال عند وفاته لله الأمر من قبل ومن بعد . تهذيب الأسماء واللغات (2/382ـ386) .(1/123)
جاء في تريب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك : ألم به الفقر [أي الإمام مالك] حتى باع خشب سقف بيته .
وقال ابن القاسم : أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبَه ، ثم مالت عليه الدنيا بعدُ .
وقال القاضي عياض : قال مالك : لا ينال هذا الأمر –يعني العلم- حتى يذاق فيه طعم الفقر . صفحات من صبر العلماء (ص168) .
ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي
أنفقت أمه على تعليمه ثلاثين ألف دينار
ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي واسم أبي عبد الرحمن فروخ ، مولى آل المنكدر التيمي تيم قريش ، وكنية ربيعة أبو عثمان ويقال أبو عبد الرحمن ، وهو مديني سمع أنس بن مالك ، والسائب بن يزيد ، وعامة التابعين من أهل المدينة ، روى عنه مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، وشعبة بن الحجاج ، وكان يقال له ربيعة الرأي ، وكان قد أدرك بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والأكابر من التابعين ، وكان صاحب الفتوى بالمدينة ، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة ، وكان يحصى في مجلسه أربعون معتما ، وعنه أخذ مالك بن أنس .(1/124)
وعن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ، حدثني مشيخة أهل المدينة أن فروخا أبا عبد الرحمن أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيا وربيعة حمل في بطن أمه ، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار ، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسا في يده رمح فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه فخرج ربيعة فقال له يا عدو الله اتهجم على منزلي ، فقال لا وقال فروخ يا عدو الله أنت رجل دخلت على حرمتي فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران ، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة فجعل ربيعة يقول والله لأفارقك إلا عند السلطان ، وجعف فروخ يقول والله لا فارقتك إلا بالسلطان وأنت مع امرأتي وكثر الضجيج فلما بصروا بمالك سكت الناس كلهم ، فقال مالك أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار فقال الشيخ هي داري وأنا فروخ مولى بني فلان ، فسمعت امرأته كلامه فخرجت فقالت هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفته وأنا حامل به ، فاعتنقا جميعا وبكيا فدخل فروخ المنزل وقال هذا ابني قالت نعم ، قال فاخرجي المال الذي لي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار ، فقالت المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام ، فخرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته وأتاه مالك بن أنس والحسن بن زيد وابن أبي على اللهبي والمساحقي وأشراف أهل المدينة وأحدق الناس به ، فقالت امرأته اخرج صل في مسجد الرسول ، فخرج فصلى فنظر إلى حلقة وافرة فأتاه فوقف عليه ففرجوا له قليلا ونكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره وعليه طويلة فشك فيه أبو عبد الرحمن ، فقال من هذا الرجل فقالوا له هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن فقال أبو عبد الرحمن لقد رفع الله ابني فرجع إلى منزله ، فقال لوالدته لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه عليها فقالت أمه أيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه من الجاه قال لا والله إلا هذا قالت فإني قد أنفقت المال كله عليه ، قال فو(1/125)
الله ما ضيعته . اهـ . تاريخ بغداد
(8/418ـ422) .
الإمام الشافعي رحمه الله
وجهوده الكبيرة
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي الشافعي الحجازي المكي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتقي معه في عبد مناف .
أجمعوا على أنه ولد سنة خمسين ومائة وهي السنة التي توفي فيها أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقيل إنه في اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة .
وعن الحميدي قال : قال الشافعي خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد الزنجي فقال يا فتى من أين أنت ،قلت من أهل مكة قال أين منزلك قلت بشعب الخيف ، قال من أي قبيلة أنت قلت من عبد مناف، فقال بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة إلا جعلت فهمك هذا في الفقه فكان أحسن بك .(1/126)
فصل في رحلاته ، فلما أخذ الشافعي رحمه الله في الفقه وحصل منه على مسلم بن خالد الزنجي وغيره من أئمة مكة ما حصل ، رحل إلى المدينة قاصدا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه ، ورحلته مشهورة فيها مصنف معروف مسموع ، وأكرمه مالك رحمه الله وعامله لنسبه وعلمه وفهمه وعقله وأدبه بما هو اللائق بهما ، وقرأ الموطأ على مالك حفظا فأعجبته قراءته ، فكان مالك يستزيده من القراءة لإعجابه من قراءته، ولازم مالكا فقال له اتق الله فإنه سيكون لك شأن ، وفي رواية أنه قال له إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية ، وكان للشافعي حين أتى مالكا ثلاث عشرة سنة ، ثم ولي باليمن واشتهر من حسن سيرته وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة ، ثم رحل إلى العراق وجد في الاشتغال بالعلم ، وناظر محمد بن الحسن وغيره ونشر علم الحديث ، وأقام مذهب أهله ونصر السنة وشاع ذكره وفضله وتزايد تزايدا ملأ البقاع ، وطلب منه عبد الرحمن بن مهدي إمام أهل الحديث في عصره أن يصنف كتابا في أصول الفقه .(1/127)
وقال احمد بن حنبل وقد سئل عن الشافعي : لقد من الله به علينا ، لقد كنا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم حتى قدم علينا الشافعي فلما سمعنا كلامه علمنا نه أعلم من غيره ، وقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير رحمة الله عليه . وقال الزعفراني : ما ذهبت إلى الشافعي قط مجلسا إلا وجدت أحمد بن حنبل فيه ، وقال صالح بن احمد بن حنبل : ركب الشافعي حماره فسار أبي يمشي إلى جانبه وهو يذاكره فبلغ ذلك يحيى بن معين فبعث إليه أبي في ذلك فبعث إليه أبي إنك لو كنت في الجانب الآخر من الحمار لكان خيرا لك ، وقال الفضيل بن زياد : قال أحمد بن حنبل هذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي ما بت مدة أربعين سنة أو قال ثلاثين سنة إلا وأدعو الله للشافعي واستغفره له ، وفي رواية غير الفضيل إني لأدعو للشافعي في صلاتي من أربعين سنة أقول : اللهم اغفر لي ولوالدي ولمحمد بن إدريس الشافعي ، فما كان فيهم اتبع لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه ، وفي رواية ما أعلم أحدا أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي ، وقال أحمد ما أحد مس بيده محبرة وقلما إلا وللشافعي في عنقه منة ، وقال محفوظ بن أبي توبة كنا بمكة وأحمد بن حنبل جالس عند الشافعي فحدث ابن عيينة فقال هذا يفوت وذاك لا يفوت وجلس عند الشافعي ، وقال أحمد لإسحاق بن راهويه تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله ، وقال أحمد كان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي ، وقال أحمد لمحمد بن مسلم بن دارة حين قدم من مصر كتبت كتب الشافعي قال لا قال فرطت ، وقال أحمد لما قدم علينا الشافعي من صنعاء سرنا على المحجة البيضاء ، وقال كانت أقفيتنا لأصحاب أبي حنيفة حتى رأينا الشافعي ، فكان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال لا يستغني أو لا يشبع صاحب الحديث من كتب الشافعي ، وقال ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول(1/128)
الله - صلى الله عليه وسلم - فبينها لهم ، وقال إسحاق بن راهويه : الشافعي إمام العلماء وما يتكلم أحد بالرأي إلا والشافعي أقل خطأ منه ، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : ما رأيت أحدا أعقل ولا أورع ولا أفصح ولا أنبل رأيا من الشافعي . تهذيب الأسماء واللغات (1/74ـ85) .
جاء في صفحات من صبر العلماء (ص173) :
روى الحافظ ابن عبد البر في كتابه "الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء"(ص70) بسنده إلى الإمام الشافعي ( محمد بن إدريس ) رحمه الله تعال قال : "لم يكن لي مال ، وكنت أطلب العلم في الحداثة ـ أي في مستهل عمره ، وكانت سنه أقل من ثلاث عشرة سنة ـ وكنت أذهب إلى الديوان أستوهب الظهور ـ أي ظهور الأوراق المكتوب عليها ـ فأكتب فيها ".
وجاء في "مناقب الشافعي" للبيهقي و"ترتيب المدارك" للقاضي عياض و"معجم الأدباء" لياقوت في ترجمة الأمام الشافعي رضي الله عنه في ذكر " ابتداء طلبه وحفظة " ما يلي :
" قال الشافعي : كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي فأحفظ ما يقول ولم يكن عند أمي ما تعطي المعلم وكنت يتيماً فكان المعلم يرضى مني بأن أخلفه إذا قام ولقد كانوا يكتبون وقبل أن يرفع المعلم من الإملاء أكون حفظت جميع ما كتب فقال لي ذات يوم،
ما يل لي أن آخذ منك .
ثم لما خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف وكرب النخل وأكتاف الجمال فأكتب فيها الحديث وأجيء إلى الدواوين فأستوهب الظهور وأكتب فيها حتى ملأت جباباً كانت لأمي من ذلك " .
وفي كتاب جامع بيان العلم وفضله ، عن الإمام الشافعي قال : كنت يتيماً في حِجْر أمي ، فدفعتني في الكتاب ، ولم يكن عندها ما تُعطي المعلم ، فكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام .(1/129)
فلما ختمت القرآن ، دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء ، وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها ، ولم يكن عند أمي ما تُعطني ما أشتري به قراطيس ، فكنتُ إذا رأيتُ عظماً يلوح ـ أي يلمعُ لبياضه ـ آخذهُ فأكتب فيه ، فإذا امتلأ طرحته في جَرَّةٍ كانت لنا قديماً . ثم قدم والٍ من اليمن ، فكلمه لي بعض القرشيين أن أصحبه ، ولم يكن عند أمي ما تُعطيني أتجمل به ، فرهنت رداءها بستة عشر ديناراً ، فأعطتني فتجملتُ بها معه .
قال النووي رحمه الله تعالى :(1/130)
فصل في نوادر من حكم الشافعي رضي الله عنه وجزيل وقال من طلب علما فليدقق لئلا يضيع دقيق العلم ، وقال من لا يحب العلم لا خير فيه ولا يكون بينك وبينه صداقة ولا معرفة ، وقال زينة العلماء التوفيق وحليتهم حسن الخلق وجمالهم كرم النفس ، وقال زينة العلم الورع والحلم ، وقال لا عيب بالعلماء أقبح من رغبهم فيما زهدهم الله فيه وزهدهم فيما رغبتم فيه ، وقال ليس العلم ما حفظ العلم ما نفع ، وقال فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهال فقر اضطرار ، وقال المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن ، وقال الناس في غفلة عن هذه السورة : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } سورة العصر (1و2) ، وكان قد جزأ الليلة ثلاثة أجزاء الثلث ، الأول يكتب ، والثاني يصلي فيه والثالث ينام ، وقال الربيع نمت في منزل الشافعي ليالي فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرا ، وقال بحر بن نصر ما رأيت ولا سمعت في عصر الشافعي كان اتقى لله ولا أورع ولا احسن صوتا بالقرآن منه ، وقال الحميدي كان الشافعي يختم في كل يوم ختمة ، وقال حرملة سمعت الشافعي يقول : وددت إن كل علم يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني قط ، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله : كان الشافعي رحمه الله قد جمع الله تعالى فيه كل خير ، وقال الشافعي الظرف الوقوف مع الحق كما وقف ، وقال ما كذبت قط ولا حلفت بالله صادقا ولا كاذبا ، وقال ما تركت غسل الجمعة في برد ولا سفر ولا غيره ، وقال ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي ، وفي رواية من عشرين سنة ، وقال من لم تعزه التقوى فلا عز له ، وقال ما فزعت من الفقر قط ، وقال طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد ، وقيل للشافعي ما لك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف ، فقال لأذكر أني مسافر يعني في الدنيا ، وقال من شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة ، وقال من غلبته شدة الشهوة لزمته العبودية لأهلها ، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع ،(1/131)
وقال خير الدنيا والآخرة في خمس خصال غنى النفس وكف الأذى ، وكسب الحلال ، ولبس التقوى ، والثقة بالله عز وجل على كل حال ، وقال الربيع عليك بالزهد ، وقال أنفع الذخائر التقوى وأضرها العدوان ، وقال من احب أن يفتح الله قلبه أو ينوره ، فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه واجتناب المعاصي ، ويكون له خبئة فيما بينه وبين الله تعالى من عمل ، وفي رواية فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء ، وبعض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب ، وقال يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها . تهذيب الأسماء (1/74) .
وقال يحيى بن معين ، وقد سئل عمن يكتب كتب الشافعي ، فقال عن الربيع ، وقال قتيبة بن سعيد : مات الثوري ومات الورع ، ومات الشافعي وماتت السنن ، ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع ، وقال قتيبة : لو وصلتني كتب الشافعي لكتبتها ما رأت عيناي أكيس منها . تهذيب الأسماء (1/79) .
الإمام سفيان الثوري
وجوعه الشديد
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر الثوري الكوفي ، الإمام الجامع لأنواع المحاسن ، وهو من تابعي التابعين ، ولد سنة سبع وتسعين ، واتفق العلماء على وصفه بالبراعة في العلم بالحديث والفقه والورع والزهد وخشونة العيش والقول بالحق وغير ذلك من المحاسن ، قال أحمد بن عبد الله أحسن إسناد الكوفة سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود وقال أبو عاصم: الثوري أمير المؤمنين في الحديث ، وقال ابن المبارك كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من الثوري .(1/132)
وقال الوليد بن مسلم : رأيت الثوري يستفتي بمكة ولم يختط وجهه، وروينا عن عبد الرزاق قال : بعث أبو جعفر أمير المؤمنين الخشابين قدامه حين خرج إلى مكة ، وقال إذا رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه فوصلوا مكة ونصبوا الخشب فنودي سفيان فإذا رأسه في حجر الفضيل بن عياض ورجله في حجر ابن عيينة ، فقالوا يا أبا عبد الله اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء فتقدم إلى أستار الكعبة فأخذها ، وقال برئت منه إن دخلها أبو جعفر فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة ، وأحوال الثوري والثناء عليه أكثر من أن تحصر وأوضح من أن تشهر ، وهو أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة ، وقد ذكرت في ترجمة الشافعي رضي الله عنه أن بعض الأئمة جمعهم في بيت شعر قال أبو نعيم الفضل بن دكين خرج الثوري من الكوفة إلى البصرة سنة خمس وخمسين ومائة فما رجع إليها ، قال محمد بن سعد : أجمعوا على أنه توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة رضي الله عنه. تهذيب الأسماء (1/215) .
وعن عبد المنعم بن عمر ، ثنا أحمد بن محمد بن زياد ، ثنا أبو رفاعة العدوي ، ثنا إبراهيم بن شارف ، ثنا سفيان بن عيينة قال : جاع سفيان الثوري جوعا شديدا مكث ثلاثة أيام لا يأكل شيئا فمر بدار فيها عروس فدعته نفسه إلى أن يدخل فعصمه الله ومضى إلى منزل ابنته فأتته بقرص فأكله وشرب ماء فتجشى ثم قال :
سيكفيك عما أغلق الباب دونه
وضن به الأقوام ملح وجردق
وتشرب من ماء فرات وتغتدى
تعارض أصحاب الثريد الملبق
تجشى إذا ما هم تجشوا كأنما
ظللت بأنواع الخبيص تفتق .
حلية الأولياء (6/373) .
عبد الله بن المبارك
ورحلته في طلب العلم(1/133)
قال الخطيب : أخبرنا أبو منصور أحمد بن الحسين بن علي بن عمر بن محمد السكري ، ثنا محمد بن إسماعيل الوراق إملاء ، ثنا علي ابن محمد بن أحمد ، ثنا الحسن بن علي بن ياسر ، ثنا أبو بكر بن أبي عتاب الأعين ، ثنا زكريا بن عدي قال : رأيت ابن المبارك في النوم فقلت ما فعل الله بك قال : غفر لي برحلتي في الحديث . الرحلة في طلب الحديث (1/90) .
عن الفضل بن زياد قال : قال أحمد بن حنبل رحمه الله : لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه ، رحل إلى اليمن وإلى مصر وإلى الشام والبصرة والكوفة ، وكان من رواة العلم وأهل ذلك ، كتب عن الصغار والكبار . الرحلة في طلب الحديث (1/91) .
وعن على بن الحسن بن شقيق قمت مع بن المبارك ليلة باردة ، ليخرج من المسجد ، فذاكرني عند الباب بحديث ، وذاكرته فما زال يذاكرني حتى جاء المؤذن فأذن للفجر . تذكرة الحفاظ (1/277) .
ولد ابن المبارك سنة 118 ، وتوفي سنة 181) رحمه الله تعالى .
صبر الشعبي في طلبه للعلم
عن علي بن المديني قال : قيل للشعبي من أين لك هذا العلم كله ، قال : بنفي الاعتماد ، والسير في البلاد ، وصبر كصبر الجماد ، وبكور كبكور الغراب . تذكرة الحفاظ ، والرحلة في طلب الحديث (1/196) ، وسير أعلام النبلاء (4/300) .
رحلة رجل إلى الشعبي
لطلبه العلم(1/134)
أخبرنا محمد بن الحسين القطان ، أنبا عبد الله بن جعفر ، ثنا يعقوب بن سفيان ، ثنا أبو بكر الحميدي ، ثنا سفيان ، ثنا صالح ابن صالح بن حي الهمذاني ، وكان خيرا من ابنيه علي والحسن ، وكان علي خيرهما يريد من الآخر قال : جاء رجل إلى الشعبي وأنا عنده فقال : يا أبا عمرو إن ناسا عندنا يقولون إذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته قال : الشعبي حدثني أبو بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ، الرجل من أهل الكتاب كان مؤمنا قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فله أجران ، ورجل كانت له جارية فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم اعتقها وتزوجها فله أجران ، وعبد أطاع الله وأدى حق سيده فله أجران" .
صحيح الجامع حديث رقم (3073) . اهـ .
الرحلة في طلب الحديث (1/140).
الإمام أحمد بن حنبل يطوف الدنيا مرتين
في طلبه للحديث وجمع المسند(1/135)
أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي ، خرجت به أمه من مرو وهي حامل فولدته ببغداد ، [ في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة (164) ] وبها طلب العلم ثم طاف البلاد ، فروى عن بشر بن المفضل وإسماعيل بن علية وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد ويحيى بن سعيد القطان وأبي داود الطيالسي وعبد الله قال عباس الدوري ومطين والفضل بن زياد وغيرهم ، مات يوم الجمعة لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة [ سنة (241) ] ، لكن قال الفضل في ربيع الآخر وكذلك قال عبد الله بن أحمد ، وقيل حزر من صلى عليه فكانوا ثمان مائة ألف رجل وستين ألف امرأة وقيل أكثر من ذلك ، وقال عبد الله كان أبي يقول قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز ، قلت لم يسق المؤلف قصة المحنة وقد استوفاها بن الجوزي في مناقبه في مجلد وقبله شيخ الإسلام الهروي، وترجمته في تاريخ بغداد مستوفاة قال بن أبي حاتم سئل أبي عنه فقال هو إمام وهو حجة ، وقال النسائي الثقة المأمون أحد الأئمة ، وقال بن ما كولا كان أعلم الناس بمذاهب الصحابة والتابعين ، وقال الخليلي كان أفقه أقرانه وأروعهم وأكفهم عن الكلام في المحدثين إلا في الاضطرار ، وقد كان أمسك عن الرواية من وقت الامتحان فما كان يروي إلا لبنيه في بيته ، وقال بن حبان في الثقات كان حافظا متقنا فقيها ملازما للورع الخفي مواظبا على العبادة الدائمة أغاث الله به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الله عليه وآله وسلم وذلك أنه ثبت في المحنة وبذل نفسه لله حتى ضرب بالسياط للقتل فعصمه الله تعالى عن الكفر وجعله علما يقتدى به ملجأ يلجأ إليه ، وقال سليمان بن حرب لرجل سأله عن مسألة سل عنها أحمد فإنه إمام ، وقال محمد بن إبراهيم البوشنجي ما رأيت أجمع في كل شيء من أحمد ولا أعقل وهو عندي أفضل وأفقه من الثوري ، وقال بن سعد ثقة ثبت صدوق كثير الحديث ، وقال أبو الحسن بن الزاغوني كشف قبر أحمد حين(1/136)
دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحا لم يبل وجنبه لم يتغير وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة . تهذين التهذيب (1/63ـ65) .
وقال أحمد بن شاذان العجلي ، روى عن إمامنا أشياء قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : سافرت في طلب الحديث والسنة إلى الثغور والشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والعراقين وأرض حوران وفارس وخراسان والجبال والأطراف . المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (1/113) .
وذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر (246) : أن الإمام أحمد بن حنبل طاف الدنيا مرتين حتى جمع المسند .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : " قال صالح بن أحمد بن حنبل : رأى رجلٌ مع أبي محبرة ، فقال له : يا أبا عبد الله ، أنت قد بلغت هذا المبلغ ،وأنت إمام المسلمين ! – يعني : ومعك المحبرة تحملها ؟! -
فقال : مع المحبرة إلى المقبرة .
وقال عبد الله بن محمد البغوي .
: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر " . مناقب الإمام أحمد (ص26) . نقلته من صفحات صبر العلماء .
وجاء في طبقات الحنابلة (59) : قال أبو بكر الخلال : سمعت أبا زرعة الصغير ، يحكي عن إبراهيم بن يعقوب ، قال : كان أحمد بن حنبل يصلي بعبد الرزاق ، فسَها يوماً في صلاته ، فسأله عبد الرزاق عنه – أي عن سبب السهو – ؟ فأخبره أحمد أنه لم يطعم شيئاً منذ ثلاث . صفحات صبر العلماء .
وقال : عبد الرحمن بن محمد بن إدريس : سمعت أحمد بن سليمان الواسطي يقول : بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز على طعام أخذه منه عند خروجه من اليمن ، وأكرى نفسه من ناس من الجمالين عند خروجه ، وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحة فلم يقيلها منه . حلية الأولياء (9/175) .(1/137)
وعن يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل قال : خرج أبي وأحمد بن حنبل في البحر في طلب العلم فكسر بهما المراكب فوقعا في جزية قفراء على صخرة معنونة عليها مكتوب غدا يتبين الغني والفقير إذا انصرف المنصرفون من بين يدي الله تعالى إما إلى جنة وإما إلى نار . حلية الأولياء (9/175ـ176) .
الإمام معروف الكرخي
معروف الكرخي ، علم الزهاد بركة العصر ، أبو محفوظ البغدادي ، واسم أبيه فيروز وقيل فيرزان من الصابئة ، وقيل كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدب كان يقول له قل ثالث ثلاثة فيقول معروف بل هو الواحد فيضربه فيهرب ، فكان والداه يقولان ليته رجع ثم إن أبويه أسلما ، وذكر السلمي أنه صحب داود الطائي ولم يصح .
روى عن الربيع بن صبيح ، وبكر بن خنيس ، وابن السماك ، وغيرهم شيئا قليلا وعنه خلف بن هشام ، وزكريا بن يحيى بن أسد ، ويحيى بن أبي طالب .(1/138)
ذكر معروف عند الإمام أحمد ، فقيل قصير العلم ، فقال : أمسك وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف ، قال إسماعيل بن شداد : قال لنا سفيان بن عيينة ما فعل ذلك الحبر الذي فيكم ببغداد ، قلنا من هو قال أبو محفوظ معروف قلنا بخير ، قال لا يزال أهل تلك المدينة بخير ما بقي فيهم ، قال السراج : حدثنا أبو بكر بن أبي طالب ، قال : دخلت مسجد معروف فخرج ، وقال حياكم الله بالسلام ونعمنا وإياكم بالأحزان ثم أذن فارتعد وقف شعره وانحنى حتى كاد يسقط عن معروف ، قال : إذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل ، وقال جشم بن عيسى سمعت عمي معروف بن الفيرزان يقول سمعت بكر بن خنيس يقول كيف تتقي وأنت لا تدري ما تتقي . رواها أحمد الدورقي عن معروف قال : ثم يقول معروف إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا ولقيت المرأة فلم تغض عنها ووضعت سيفك على عاتقك ، إلى أن قال ومجلسي هذا ينبغي لنا أن نتقيه فتنة للمتبوع وذلة للتابع ، قيل أتى رجل بعشرة دنانير إلى معروف فمر سائل فناوله إياها ، وكان يبكي ثم يقول : يا نفس كم تبكين أخلصي تخلصي .
وسئل كيف تصوم ، فغالط السائل وقال : صوم نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان كذا وكذا ، وصوم داود كذا وكذا فألح عليه ، فقال أصبح دهري صائما فمن دعاني أكلت ولم أقل إني صائم ، وقص إنسان شارب معروف فلم يفتر من الذكر ، فقال كيف أقص ، فقال : أنت تعمل وأنا أعمل ، وقيل اغتاب رجل عند معروف فقال اذكر القطن إذا وضع على عينيك ، وعنه قال : ما أكثر الصالحين وما أقل الصادقين ، وعنه من كابر الله صرعه ، ومن نازعه قمعه ، ومن ماكره خدعه ، ومن توكل عليه منعه ، ومن تواضع له رفعه كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله .(1/139)
وقيل أتاه ملهوف سرق منه ألف دينار ليدعو له ، فقال : ما أدعو أما زويته عن أنبيائك وأوليائك ، فرده عليه ، قيل أنشد مرة في السحر ما تضر الذنوب لو أعتقتني رحمة لي فقد علاني المشيب ، وعنه من لعن إمامه حرم عدله ، وعن محمد بن منصور الطوسي قال : قعدت مرة إلى معروف فلعله قال واغوثاه يا الله عشرة آلاف مرة ، وتلا { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } . الأنفال (9) . وعن ابن شيرويه ، قلت لمعروف بلغني أنك تمشي على الماء ، قال : ما وقع هذا ولكن إذا هممت بالعبور جمع لي طرفا النهر فأتخطاه .
عن أبي العباس بن مسروق حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال : كنت عند معروف ، ثم جئت وفي وجهه أثر فسئل عنه ، فقال للسائل : سل عما يعنيك عافاك الله ، فأقسم عليه فتغير وجهه ، ثم قال : صليت البارحة ومضيت فطفت بالبيت وجئت لأشرب من زمزم فزلقت فأصاب وجهي هذا .
عن يعقوب ابن أخي معروف ، أن معروفا استسقى لهم في يوم حار فما استتموا رفع ثيابهم حتى مطروا ، وقد استجيب دعاء معروف في غير قضية ، وأفرد الإمام أبو الفرج بن الجوزي مناقب معروف في أربع كراريس .
قال عبيد بن محمد الوراق : مر معروف وهو صائم بسقاء يقول رحم الله من شرب فشرب رجاء الرحمة .
وقد حكى أبو عبد الرحمن السلمي شيئا غير صحيح ، وهو أن معروفا الكرخي كان يحجب علي بن موسى الرضى ، قال فكسروا ضلع معروف فمات ، فلعل الرضى كان له حاجب اسمه معروف فوافق اسمه اسم زاهد . سير أعلام النبلاء (9/ 339ـ 343) .
الهيثم بن جميل البغدادي
أفلس مرتين في طلب الحديث(1/140)
الهيثم بن جميل البغدادي ، أبو سهل الحافظ ، نزيل إنطاكية ثقة صاحب سنة يغلط على الثقات ، قال سفيان بن محمد المصيصي : شهدت الهيثم بن جميل وهو يموت وقد سجي نحو القبلة فقامت جاريته تغمز رجليه ، أي لترى صحوه ، فقال : اغمزيهما فالله يعلم أنه ما مشتا إلى حرام قط ، رحل وتجول في طلب الحديث وتحمل الكثير .
قال ابن سعد : سمعت موسى بن داود يقول : أفلس الهيثم بن جميل في طلب الحديث مرتين . اهـ . الرحلة في طلب الحديث (1/205ـ209) .
يعقوب بن سفيان بن جوان الفسوي
يرحل لمدة ثلاثين سنة في طلب العلم(1/141)
يعقوب بن سفيان بن جوان الفسوي المحدث الحافظ ، كان ممن جمع وصنف مع الورع والنسك والصلابة في التمسك بالسنة ، قال الحاكم : فأما سماعه ورحلته و أفراد حديثه فأكثر من أن يمكن ذكرها ، وقال أبو عبد الرحمن النهاوندي : سمعت يعقوب بن سفيان يقول : كتبت عن ألف شيخ وكسر ، كلهم ثقات ، وقال يعقوب أيضا : قمت في الرحلة ثلاثين سنة ، وقال أبو زرعة الدمشقي : قدم علينا رجلان من نبلاء الناس أحدهما و أرحلهما يعقوب ابن سفيان يعجز أهل العراق أن يروا مثله ، مات سنة سبع وسبعين ومائتين ، قال عبدان بن محمد المروزي : رأيت يعقوب بن سفيان في النوم فقلت ما فعل الله تعالى بك قال غفر لي وأمرني أن أحدث في السماء كما كنت أحدث في الأرض ، ومن عنايات الله بهذا الأمام في طلبه للحديث هذا الحديث الذي أخبر به عن نفسه نسوقه عبرة لطلاب العلم ، قال محمد بن يزيد العطار : سمعت يعقوب بن سفيان يقول : كنت في رحلتي فقلت نفقتي فكنت أدمن الكتابة ليلا وأقرأ نهارا ، فلما كان ذات ليلة كنت جالسا أنسخ في السراج وكان شتاء فنزل الماء في عيني فلم أبصر شيئا فبكيت على نفسي لانقطاعي عن بلدي وعلى ما فاتني من العلم فغلبتني عيناي فنمت فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فناداني يا يعقوب لم أنت بكيت فقلت : يا رسول الله ذهب بصري فتحسرت على ما فاتني فقال : لي أدن مني فدنوت منه فأمر يده على عيني كأنه يقرأ عليهما ثم استيقظت فأبصرت فأخذت نسخي وقعدت أكتب . الرحلة في طلب الحديث (1/205ـ209) .
يحيى بن معين
يختبر الحافظ الفضل بن دكين(1/142)
ومن لطائف أخبار رحلاته هذه الرحلة التي سافر فيها مع صديقه الأمام أحمد بن حنبل من العراق إلى اليمن للسماع من الأمام عبد الرزاق ابن همام الصنعاني حافظ اليمن وفي العودة أراد أن يدخل الكوفة ليختبر الحافظ أبا نعيم الفضل بن دكين ويعرف حفظه وتيقظه ونباهته ، وكان يرافقهما في هذه الرحلة أحمد بن منصور الرمادي الثقة وهذا نصه ، يروي قصة هذا الاختبار ، قال أحمد بن منصور الرمادي : خرجت مع أحمد ويحيى إلى عبد الرزاق أخدمهما فلما عدنا إلى الكوفة ، قال يحيى لأحمد : أريد أختبر أبا نعيم ، فقال له أحمد لا تزيد الرجل إلا ثقة فقال يحيى لابد لي ، فأخذ ورقة وكتب فيها ثلاثين حديثا من حديث أبي نعيم وجعل على رأس كل عشرة منها حديثا ليس من حديثه ثم جاءوا إلى أبي نعيم فخرج فجلس على دكان فأخرج يحيى الطبق فقرأ عليه عشرة ثم قرأ الحادي عشر ، فقال أبو نعيم : ليس من حديثي اضرب عليه ، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت ، فقرأ الحديث الثاني فقال : ليس من حديثي اضرب عليه ، ثم قرأ العشر الثالث وقرأ الحديث الثالث فانقلبت عيناه وأقبل على يحيى فقال : أما هذا وذراع أحمد في يده فأورع من أن يعمل هذا وأما هذا يريدني فأقل من أن يعمل هذا ولكن هذا من فعلك يا فاعل ، ثم أخرج رجله فرفسه فرمى به وقام فدخل داره ، فقال أحمد ليحيى : ألم أقل لك أنه ثبت ، قال : والله لرفسته أحب إلي من سفرتي.
الرحلة في طلب الحديث (1/205ـ209) .
والحافظ الإمام الجوال الفضل بن محمد بن المسيب البيهقي الشعراني المتوفي سنة (ه) هـ كان أديبا فقيها عابدا عارفا بالرجال ، قال ابن المؤمل : كنا نقول ما بقي بلد لم يدخله الفضل الشعراني في طلب الحديث إلا الأندلس الحفاظ . الرحلة في طلب الحديث (1/205ـ209) .
أبو حاتم يبيع ثيابه
من أجل طلب العلم(1/143)
روى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال : سمعت أبي يقول : بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر ، وكان في نفسي أن أقيم سنة فانقطع نفقتي فجعلت أبيع ثياب بدني شيئا بعد شيء حتى بقيت بلا نفقة ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع منهم إلى المساء فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيت خال فجعلت أشرب الماء من الجوع ثم أصبحت من الغد وغدا علي رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد فانصرف عني وانصرفت جائعا فلما كان من الغد غدا علي فقال مر بنا إلى المشايخ قلت أنا ضعيف لا يمكنني قال ما ضعفك قلت لا أكتمك أمري قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا ، فقال قد بقي معي دينار فأنا أواسيك بنصفه ونجعل النصف الآخر في الكراء ، فخرجنا من البصرة وقبضت منه النصف دينار . الرحلة في طلب الحديث
(1/205ـ209) .
شعبة بن الحجاج
أفلس في طلبه للحديث
شعبة بن الحجاج بن الورد الحجة الحافظ شيخ الإسلام ، أبو بسطام الأزدي العتكي مولاهم الواسطي ، نزيل البصرة ومحدثها ، سمع من الحسن مسائل وسمع من معاوية بن قرة ، وعمرو بن مرة ، والحكم وسلمة بن كهيل ، وأنس بن سيرين ، ويحيى بن أبي كثير ، وقتادة وخلق كثير . قال بن المديني : له نحو ألفي حديث ، وكان الثوري يقول شعبة أمير المؤمنين في الحديث ، وقال الشافعي : لولا شعبة لما عرف الحديث بالعراق ، قال أبو بكر البكراوي : ما رأيت أحدا أعبد لله من شعبة لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه واسود ، وقال حمزة بن زياد الطوسي سمعت شعبة وكان ألثغ قد يبس جلده من العبادة يقول لو حدثتكم عن ثقة ما حدثتكم عن ثلاثة ، قال عمر بن هارون : كان شعبة يصوم الدهر ، وقال أبو قطن ما رأيت شعبة قد ركع إلا ظننت أنه نسي ولا سجد إلا قلت نسي ، قال يحيى القطان : كان شعبة رقيقا يعطي السائل ما أمكنه .
قال عبد الرحمن بن يونس المستملي : سمعت بن عيينة يقول سمعت شعبة يقول من طلب الحديث أفلس ، بعت طست أمي بسبعة دنانير.(1/144)
قال صالح بن محمد جزرة ، أخبرنا سليمان بن داود القزاز سمعت أبا داود يقول : سمعت من شعبة سبعة آلاف ، وسمع غندر سبعة آلاف حديث أغربت عليه ألف حديث وأغرب علي مثلها ، قال الأصمعي : كان شعبة إذا جاء بالحديث الحسن صاح أوه أفرق من جودته ، قال أحمد بن حنبل كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن ، يعني في الرجال ، وبصره بالحديث . تذكرة الحفاظ (1/193) .
وكان سفيان الثوري يخاطب شعبة بن الحجاج قائلاً : أنت أمير المؤمنين في الحديث .
وروي أن أبا قتيبة قال : قدمت الكوفة ، فأتيت سفيان الثوري ، فقال من أين أتيت ؟ فقلت من أهل البصرة ، فقال ما فعل أستاذنا شعبة .
وقال أبو حاتم مقارناً بين شعبة وبين إمام أهل المدينة .
فقال : أما شعبة بن الحجاج فهو أكثر رحلة من مالك في الحديث ، وأكثر جولاناً في طلب السند ، وأكثر تفتيشاً في الأقطار عن شمائل الأخبار . كتاب المجروحين (1/46ـ47) . نقلته من كتاب مدرسة الحديث في البصرة (ص470) .
بقي بن مخلد
يمشي على الأقدام لطلب العلم(1/145)
قال بقي : أتيت العراق ، وقد منع أحمد بن حنبل من الحديث ، فسألته أن يحدثني ، وكان بيني وبينه خلة فكان يحدثني بالحديث في زي السؤال ونحن خلوة حتى اجتمع لي عنه نحو من ثلاث مئة حديث ، قلت هذه حكاية منقطعة ، قال ابن حزم : ومسند بقي روى فيه عن ألف وثلاث مئة صاحب ونيف ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه فهو مسند ومصنف ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث، وله مصنف في فتاوى الصحابة والتابعين فمن دونهم الذي قد أربى فيه على مصنف ابن أبي شيبة وعلى مصنف عبد الرزاق وعلى مصنف سعيد بن منصور ، ثم إنه نوه بذكر تفسيره وقال : فصارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام لا نظير لها وكان متخيرا لا يقلد أحدا وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي ، وقال أبو عبد الملك المذكور في تاريخه كان بقي طوالا أقنى ذا لحية مضبرا قويا جلدا على المشي لم ير راكبا دابة قط ، وكان ملازما لحضور الجنائز متواضعا ، وكان يقول إني لأعرف رجلا كان تمضي عليه الأيام في وقت طلبه العلم ليس له عيش إلا ورق الكرنب الذي يرمى وسمعت من كل من سمعت منه في البلدان ماشيا إليهم على قدمي . اهـ . سير أعلام النبلاء (13/292) .(1/146)
وقال أبو عبد الملك المذكور في تاريخه: كان بقي طوالا أقنى ذا لحية مضبرا قويا جلدا على المشي لم ير راكبا دابة قط وكان ملازما لحضور الجنائز متواضعا ، وكان يقول إني لأعرف رجلا كان تمضي عليه الأيام في وقت طلبه العلم ليس له عيش إلا ورق الكرنب الذي يرمى وسمعت من كل من سمعت منه في البلدان ماشيا إليهم على قدمي . وذكر أبو عبيدة صاحب القبلة قال : كان بقي يختم القرآن كل ليلة في ثلاث عشرة ركعة وكان يصلي بالنهار مئة ركعة ويصوم الدهر وكان كثير الجهاد فاضلا يذكر عنه أنه رابط اثنتين وسبعين غزوة .(1/147)
ونقل بعض العلماء من كتاب لحفيد بقي عبد الرحمن بن أحمد سمعت أبي يقول رحل أبي من مكة إلى بغداد ، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل قال فلما قربت بلغتني المحنة وأنه ممنوع فاغتممت غما شديدا فاحتللت بغداد واكتريت بيتا في فندق ثم أتيت الجامع وأنا أريد أن أجلس إلى الناس ، فدفعت إلى حلقة نبيلة فإذا برجل يتكلم في الرجال فقيل لي هذا يحيى بن معين ففرجت لي فرجة فقمت إليه فقلت يا أبا زكريا رحمك الله رجل غريب ناء عن وطنه يجب السؤال فلا تستجفني ، فقال قل فسألت عن بعض من لقيته فبعضا زكى وبعضا جرح فسألته عن هشام بن عمار فقال لي أبو الوليد صاحب صلاة دمشق ثقة وفوق الثقة لو كان تحت ردائه كبر أو متقلدا كبرا ما ضره شيئا لخيره وفضله فصاح أصحاب الحلقة يكفيك رحمك الله غيرك له سؤال فقلت وأنا واقف على قدم اكشف عن رجل واحد أحمد بن حنبل فنظر إلي كالمتعجب فقال لي ومثلنا نحن نكشف عن أحمد ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم ، فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه فقرعت بابه فخرج إلي فقلت : يا أبا عبد الله رجل غريب نائي الدار هذا أول دخولي هذا البلد وأنا طالب حديث ومقيد سنة ولم تكن رحلتي إلا إليك ، فقال ادخل الأصطوان ولا يقع عليك عين فدخلت فقال لي وأين موضعك قلت المغرب الأقصى فقال أفريقية قلت ابعد من إفريقية أجوز من بلدي البحر إلى أفريقية بلدي الأندلس قال إن موضعك لبعيد وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك غير أني ممتحن بما لعله قد بلغك فقلت بلى قد بلغني وهذا أول دخولي وأنا مجهول العين عندكم فان أذنت لي أن آتي كل يوم في زي السؤال فأقول عند الباب ما يقوله السؤال فتخرج إلى هذا الموضع فلو لم تحدثني كل يوم إلا بحديث واحد لكان لي فيه كفاية فقال لي نعم على شرط أن لا تظهر في الخلق ولا عند المحدثين فقلت لك شرطك ، فكنت آخذ عصا بيدي وألف رأسي بخرفه مدنسة وآتي بابه فأصيح الأجر رحمك الله والسؤال هناك كذلك(1/148)
فيخرج إلي ويغلق ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له وولي بعده من كان على مذهب السنة فظهر أحمد وعلت إمامته ، وكانت تضرب إليه آباط الإبل فكان يعرف لي حق صبري فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه فكان يناولني الحديث مناولة ويقرؤه علي وأقرؤه عليه واعتللت في خلق معه . اهـ . سير أعلام النبلاء (13/291) .
الهمذاني العطار شيخ همذان
باع جميع ما ورثه وأنفقه في طلب العلم
العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن سهل بن سلمة بن عثكل بن إسحاق بن حنبل ، الهمذاني العطار شيخ همذان بلا مدافعة مولده في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربع مئة ، وأول سماعه في سنة خمس وتسعين ، وبعدها سمع من عبد الرحمن بن حمد الدوني وخلق بهمذان ، وسمع ببغداد من أبي القاسم بن بيان وأبي علي بن نبهان وأبي علي بن المهدي وطبقتهم وبأصبهان من أبي علي الحداد ومحمود الأشقر وخلق ، وقرأ بالروايات الكثيرة على الحداد وعلى أبي عبد الله البارع وأبي بكر المزرفي وجماعة ، وارتحل إلى خراسان فسمع من محمد بن الفضل الفراوي صحيح مسلم وما زال يسمع ويرحل ويسمع أولاده وآخر قدماته إلى بغداد وكان بعد الأربعين فقرأ لأولاده على أبي الفضل الأرموي وابن ناصر وابن الزاغوني فحدث إذ ذاك بها وأقرأ ، وكان عالما إماما في النحو واللغة سمعت أن من جملة ما حفظ كتاب الجمهرة وخرج له تلامذة في العربية أئمة يقرؤون بهمذان وبعض أصحابه رأيته فكان من محفوظاته كتاب الغريبين لأبي عبيد الهروي إلى أن قال وكان مهينا للمال باع جميع ما ورثه وكان من أبناء التجار فأنفقه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد وإلى أصبهان مرات ماشيا يحمل كتبه على ظهره سمعته يقول كنت أبيت ببغداد في المساجد وآكل خبز الدخن سير أعلام النبلاء (21/42) .(1/149)
وسمعت شيخنا أبا الفضل بن بنيمان بهمذان يقول : رأيت الحافظ أبا العلاء في مسجد من مساجد بغداد يكتب وهو قائم على رجليه لأن السراج كانت عالية ، قال ثم نشر الله ذكره في الآفاق وعظم شأنه في ثلوب الملوك وأرباب المناصب الدنياوية والعلمية والعوام ، حتى انه كان يمر بهمذان فلا يبقى أحد رآه إلا قام ودعا له حتى الصبيان واليهود ، وكان يفتح عليه بجمل من الدنيا فلا يدخرها ، بل كان ينفقها على تلاميذه حتى ما كان يكون عنده متعلم إلا رتب له رفقا يصل إليه ، وإذا قصده أحد يطلب له بره إلا وصله بما يجد إليه السبيل من ماله ، وجاهه ويتدين له ، وكان لا يأكل من أموال الظلمة ولا يقبل منهم قط مدرسة ولا رباطا إنما كان يقرئ في داره ونحن في مسجده سكان ، وكان يقرئ نصف نهاره الحديث ونصفه القرآن والعلم ، وكان لا يغشى السلاطين ، ولا يأخذه في الله لومة لائم ، ولا يمكن أحدا أن يعمل في محلته منكرا ولا سماعا ، وكان لا يبالي ما لبس وما كان يلبس كتانا قط بل القطن ثياب قصار وأكمام قصار وعمامة قصيرة نحو سبعة أذرع ، وكان لا يكاد يبدأ في أمر إلا ابتدأ فيه بسنة إما دعاء وإما غير ذلك ، وكان لا يمس أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو على وضوء ، هذا مختصر ما ذكره شيخنا عبد القادر ، وقال حكاياته يضيق وقتي عن استيعابها فرحمة الله عليه ورضوانه ، توفي في جمادى الأولى من سنة تسع وستين وخمسمائة بهمذان . اهـ . التقييد (1/240) .
محمد بن سلام
ينفق ثمانين ألفاً في العلم(1/150)
وقال سهل بن المتوكل : سمعت محمد بن سلام يقول : أنفقت في طلب العلم أربعين ألفا ، وأنفقت في نشرة أربعين ألفا وليت ما أنفقت في طلبه أنفقت في نشره ، أو كما قال ، وقال عبيد الله بن شريح : سمعت محمد بن سلام يقول : إني لأحفظ نحوا من خمسة آلاف ، قال : وكان محمد بن سلام من كبار المحدثين وله حديث كثير ورحلة وذكر في الحديث وله مصنفات في كل باب من العلم . اهـ . تهذيب الكمال (25/343) .
يعقوب بن سفيان
ومذاكرته زيد بن بشر(1/151)
أنا علي بن أحمد بن إبراهيم البزاز بالبصرة ، نا الحسن بن محمد ابن عثمان الفسوي ، نا يعقوب بن سفيان قال : ذاكرني زيد بن بشر ، فقال : قد أقمت بمصر أفحي أبواك ، فقلت أما الأم فنعم ، وقد عزمت أن أحج العام واخرج إليها ، فقال سبحان الله وتقيم إلى أبان الحج ثم تحج وتخرج إليها وما يؤمنك أن تموت فتبقى غصة في نفسك ، ثم قال ما كنت أظن أنك ترضى لنفسك هذه المنزلة تغيب عن أمك في طلب العلم، فقلت : إنها راضية بغيبتي عنها، فقال: لا تقل ذلك فإن أصحابنا كانوا إذا طعنوا في السن لحقوا بالرباط بالإسكندرية ورفضوا الفسطاط ، قال فأخبرني أبو عمر بن إدريس بن يحيى الخولاني ، وكنا نقول إنه من الأبدال بل كان كذلك ، قال لما طعن أبي في السن لحق بالإسكندرية للرباط فأقام بها ورفض الفسطاط ، قال وكانت أمي حية فإذا كان أيام الرباط استأذنتها فتأذن لي فأخرج إلى الإسكندرية فأرابط بها الشهر أو الأكثر ثم اقدم عليها ، فمات أبي فلما كان أيام الرباط استأذنتها في الرباط فقالت يا بني أخبرك بحالي وأنت أمير نفسك والله يا بني ما خرجت قط إلى الإسكندرية إلا وقلبي معلق بيدي حتى ترجع إلي فقلت يا أمه فما لك لم تخبريني بهذا حتى كنت لا أخرج قالت يا بني كان أبوك حيا وكنت أرى أن له عليك حقا وبرا فكنت أرى وأوجب على نفسي أن اصبر لما يجب لأبيك عليك من الحق والبر فلما أن مات أبوك فإن شئت أن تخرج إلى الرباط على ما أعلمتك فاخرج ، قال فقلت معاذ الله أن أخرج على ما تصفين ولو علمت من قبل الحال ما كنت لأخرج ، فتركت الرباط حتى ماتت أمي ، ذكر شيء من وجوب طاعة الأبوين وبرهما وترك الرحلة مع كراهتهما ذلك وسخطهما
(1695) . الجامع لأخلاق الراوي رقم (1695) .
قصة غريبة تحدث لمحدث الشام
خيثمة بن سليمان في رحلته(1/152)
خيثمة بن سليمان بن حيدرة ، الإمام محدث الشام أبو الحسن القرشي الطرابلسي ، أحد الثقات سمع أبا عتبة أحمد بن الفرج الحمصي ، ومحمد بن عوف الحافظ ، وإبراهيم بن عبد الله القصار ، والحسين بن محمد بن أبي معشر ، ومحمد بن عيسى بن حيان المدائني صاحب سفيان بن عيينة ، وعبد الله بن أبي مرة المكي ، وإسحاق بن إبراهيم الدبري ، والعباس بن الوليد البيروتي وطبقتهم ، ورحل إلى العراق والحجاز واليمن وجمع وصنف .
قال الخطيب خيثمة ثقة ثقة قد جمع فضائل الصحابة ، قال بن أبي كامل سمعت خيثمة يقول : ركبت البحر وقصدت جبلة [بلدة بساحل بحر الشام قرب اللاذقية] لأسمع من يوسف بن بحر ، ثم خرجت إلى أنطاكية فلقينا مركب فقاتلناهم ثم تسلم مركبنا قوم من مقدمه فأخذوني ثم ضربوني وكتبوا أسماءنا فقال ما اسمك قلت خيثمة ، فقال اكتب حمار بن حمار ، ولما ضربت سكرت ونمت فرأيت كأني أنظر إلى الجنة ، وعلى بابها جماعة من الحور العين ، فقالت إحداهن يا شقي أيش فاتك ، قالت أخرى أيش فاته قالت لو قتل كان في الجنة مع الحور ، فقالت لها لأن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له ثم انتهت ، قال : ورأيت كأن من يقول لي اقرأ براءة ، فقرأت إلى قوله تعالى : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . التوبة (2) ، قال فعددت من ليلة الرؤيا أربعة أشهر ففك الله أسري . تذكرة الحفاظ (3/858ـ859) .
الحافظ ابن عساكر
رحل وتعب وبالغ في الطلب وجمع ما لم يجمعه غيره
ابن عساكر ، الإمام الحافظ الكبير محدث الشام ، فخر الأئمة ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الشافعي ، صاحب التصانيف والتاريخ الكبير ، ولد في أول سنة تسع وتسعين وأربع مائة ، وسمع في سنة خمس وخمس مائة باعتناء أبيه وأخيه الإمام ضياء الدين هبة الله(1/153)
قال السمعاني: أبو القاسم حافظ ثقة متقن ديّن خيّر حسن السمت ، جمع بين معرفة المتن والإسناد ، وكان كثير العلم غزير الفضل صحيح القراءة متثبتا ، رحل وتعب وبالغ في الطلب وجمع ما لم يجمعه غيره وأربى على الأقران ، دخل نيسابور قبلي بشهر ، سمعت معجمه والمجالسة للدينوري ، كان قد شرع في التاريخ الكبير لدمشق ، قال بن الحاجب فيما قرأت بخطه حدثني زين الأمناء ، قال حدثني بن القزويني عن والده مدرس النظامية أبي الخير ، قال حكى لنا الفراوي ، قال قدم بن عساكر فقرأ على ثلاثة أيام فأكثر ، وأضجرني وآليت على نفسي أن أغلق بأبي ، فلما أصبحنا قدم على شخص فقال أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليك قلتُ مرحبا بك ، فقال قال لي في النوم امض إلى الفراوي وقل له قدم بلدكم رجل شامي اسمر اللون يطلب حديثي فلا تمل منه . تذكرة الحفاظ
(4/1328ـ1330) .
الحافظ السمعاني
سمع من سبعة آلاف شيخ(1/154)
السمعاني الحافظ البارع ، العلامة تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن الحافظ تاج الإسلام معين الدين أبي بكر محمد بن العلامة المجتهد ، أبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن احمد بن محمد بن جعفر التميمي السمعاني المروزي صاحب التصانيف ، ولد في شعبان سنة ست وخمس مائة ، وحمله والده إلى نيسابور في آخر سنة تسع ، فلحق بحضوره المعمر عبد الغفار بن محمد الشيرازي ، وعبيد بن محمد القشيري وعدة وحضر بمرو على أبي منصور محمد بن علي نافلة الكراعي ،فمات أبوه سنة عشر وتربى مع أعمامه وأهله ، وحفظ القرآن والفقه ثم حبب إليه هذا الشأن وعنى به ورحل إلى الأقاليم النائية ، وسمع من أبي عبد الله الفراوي وزاهر الشحامي وطبقتهما بنيسابور ، والحسين بن عبد الملك الخلال ، وسعيد بن أبي الرجاء وطبقتهما بأصبهان ، وأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وطبقته ببغداد، وعمر بن إبراهيم العلوي بالكوفة، وأبي الفتح المصيصي بدمشق وببخارى وسمرقند وبلخ وعمل المعجم في عدة مجلدات ، وكان ذكيا فهما سريع الكتابة مليحا ، درس وأفتى ووعظ وأملى وكتب عمن دب ودرج ، وكان ثقة حافظا حجة واسع الرحلة عدلا ديّنا جميل السيرة حسن الصحبة كثير المحفوظ ، قال بن النجار : سمعت من يذكر إن عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ ، وهذا شيء لم يبلغه أحد ، وكان مليح التصانيف كثير النشوار والأناشيد لطيف المزاح ظريفا حافظا واسع الرحلة ثقة صدوقا دينا سمع منه مشايخه وأقرانه وحدثنا عنه جماعة ، قلت: روى عنه ولده عبد الرحيم مفتي مرو وأبو القاسم بن عساكر وابنه. تذكرة الحفاظ (4/1316) .
أبو زرعة الرازي
هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ ، سيد الحفاظ ، محدث الري ، مولده بعد نيف ومئتين .(1/155)
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : قلت لأبي زرعة : يجوز ما كتبت عن إبراهيم بن موسى مئة ألف؟ قال : مئة ألف كثير . قلت : فخمسين ألفاً؟ قال : نعم وستين وسبعين ألفاً . حدثني من عد كتاب الوضوء والصلاة ، فبلغ ثمانية عشر ألف حديث .
وقال أبو عبد الله بن مندة الحافظ : سمعت أبا عباس محمد بن جعفر ابن حمكويه بالري يقول : سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق : أن أبا زرعة يحفظ مئتي ألف حديث هل حنث ؟ فقال : لا ، ثم قال أبو زرعة : أحفظ مئتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } الإخلاص (1) وفي المذاكرة ثلاث ألف مئة حديث .
قال أبو جعفر محمد بن علي وراق أبي زرعة : حضرنا أبا زرعة بما شهران وهو في السوق وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان وغيرهم فذكروا حديث التلقين " لقنوا موتاكم : لا إله إلا الله " . واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه ، ، فقالوا : تعالوا نذكر الحديث . فقال ابن واره : حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح وجعل يقول ابن أبي ولم يجاوزه وقال أبو حاتم : حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر [ عن صالح ] ولم يجاوز والباقون سكتوا فقال أبو زرعة وهو في السوق حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ ابن جبل ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" . وتوفي رحمه الله ، وخرجت روحه معه .
قال أبو الحسين بن المنادي، وأبو سعيد بن يونس: توفي أبو زرعة الرازي ، في آخر يوم من سنة أربع وستين ومئتين، ومولده كان في سنة مئتين. سير أعلام النبلاء(13/65ـ85) .
أبو زرعة الرازي
ورحلته في طلب العلم(1/156)
ما ذكر من رحلة أبى زرعة في طلب العلم ، وهو غير الذي قبله، عن عبد الرحمن، قال سئل أبو زرعة في أي سنة كتبتم عن أبى نعيم قال في سنة أربع عشرة ومائتين ومات في سنة ثماني عشرة ومائتين، حدثنا عبد الرحمن، قال سمعت أبا زرعة يقول: خرجت من الري المرة الثانية سنة سبع وعشرين ومائتين ورجعت سنة اثنتين وثلاثين في أولها بدأت، فحججت ثم خرجت إلى مصر فأقمت بمصر خمسة عشر شهرا، وكنت عزمت في بدر قدومي مصر أنى أقل المقام بها، فلما رأيت كثرة العلم بها وكثرة الاستفادة عزمت على المقام ولم أكن عزمت على سماع كتب الشافعي، فلما عزمت على المقام وجهت إلى أعرف رجل بمصر بكتب الشافعي فقبلتها منه بثمانين درهما أن يكتبها كلها وأعطيته الكاغد، وكنت حملت معي ثوبين ديبقيين لأقطعهما لنفسي فلما عزمت على كتابتها أمرت ببيعها فبيعا بستين درهما واشتريت مائة ورقة كاغد بعشرة دراهم كتبت فيها كتب الشافعي، ثم خرجت إلى الشام فأقمت بها ما أقمت، ثم خرجت إلى الجزيرة وأقمت ما أقمت، ثم رجعت إلى بغداد سنة ثلاثين في آخرها، ورجعت إلى الكوفة وأقمت بها ما أقمت، وقدمت البصرة فكتبت بها عن شيبان، وعبد الأعلى، حدثنا عبد الرحمن قال: سمعت محمد بن عوف يقول كان أبو زرعة عندنا بحمص سنة ثلاثين ومائتين ، حدثنا عبد الرحمن قال: سمعت أبا زرعة يقول أقمت فيها ثم خرجت الثالثة بالشام والعراق ومصر أربع سنين وستة اشهر، فما أعلم إني طبخت فيها قدرا بيد نفسي. الجرح والتعديل (1/339).
أبي يمشي أكثر من ألف فرسخ
على قدميه في طلب العلم(1/157)
ما ذكر من رحلة أبى في طلب العلم، حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبى يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت، ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ لم أزل أحصى حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد، فما لا أحصى كم مرة ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيا، ومن مصر إلى الرملة ماشيا، ومن الرملة إلى بيت المقدس ، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية ومن طبرية إلى دمشق ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقى على شيء من حديث أبى اليمان فسمعت ، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة ، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد وخرجت قبل خروجى إلى الشام من واسط إلى النيل ، ومن النيل إلى الكوفة ، كل ذلك ماشيا كل هذا في سفري الأول ، وأنا بن عشرين سنة أجول سبع سنين ، خرجت من الري سنة ثلاث عشرة ومائتين قدمنا الكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة والمقرئ حي بمكة وجاءنا نعيه ونحن بالكوفة ، ورجعت سنة إحدى وعشرين ومائتين ، وخرجت المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعت سنة خمس وأربعين أقمت ثلاث سنين، وقدمت طرسوس سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة، وكان واليها الحسن بن مصعب، وكنت تنظر إلى الحسن كأنه محدث أحمر الرأس واللحية عليه قلنسوة حبرة وكنت أشبهه بسنيد بن داود وربما رأيت الوالي فاضن أنه سنيد وربما اجتمعا فلا أميز بينهما ، وفى هذه السنة فتحت لؤلؤة وأنا بطرسوس ، حدثنا عبد الرحمن ، قال سمعت أبى يقول حججت سنة الأولى سنة خمس عشرة ومائتين ، والحجة الثانية سنة خمس وثلاثين ، والثالثة سنة اثنتين وأربعين ، والرابعة سنة خمس وخمسين وفيها حج عبد الرحمن ابني . الجرح والتعديل (1/359ـ360) .
الحافظ ابن النجار
رحل سبعا وعشرين سنة في طلب العلم(1/158)
ابن النجار الحافظ الإمام البارع ، مؤرخ العصر مفيد العراق ، محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار البغدادي صاحب التصانيف ولد سنة ثمان وسبعين وخمس مائة .
قال بن الساعي : كانت رحلة بن النجار سبعا وعشرين سنة ، واشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ ، ألف كتاب القمر المنير في المسند الكبير ذكر كل صحابي وماله من الحديث ، وكتاب كنز الإمام في السنن ، والأحكام وكتاب المؤتلف والمختلف ذيل به على بن ماكولا ، وكتاب المتفق والمفترق وكتاب أنساب المحدثين إلى الآباء والبلدان ، وكتاب العوالي ، وكتاب المعجم ، وكتاب جنة الناظرين في معرفة التابعين ، وكتاب العقد الفائقي ، وكتاب الكمال في الرجال ، وقرأت عليه ذيل التاريخ عمله في ستة عشر مجلدا ، وله كتاب الدرر الثمينة في أخبار المدينة ، وكتاب روضة الأولياء في مسجد إيلياء ، وكتاب نزهة الورى في ذكر أم القرى ، وكتاب الأزهار في أنواع الأشعار ، وكتاب عيون الفوائد ستة أسفار ، وكتاب مناقب الشافعي، إلى أن قال أوصى إلي ووقف كتبه بالنظامية فنفذ إلى الشرابي لتجهيز جنازته ورثاه جماعة ، وكان رحمه الله من محاسن الدنيا ، توفى في خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وست مائة رحمه الله تعالى . تذكرة الحفاظ (4/1428) . سير أعلام النبلاء (5/326) .
محمد بن شهاب الزهري
وقصة الديون التي عليه
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، الإمام العلم حافظ زمانه أبو بكر القرشي الزهري المدني نزيل الشام .(1/159)
قال أبو الزناد : كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف يكتب كلما سمع إبراهيم بن المنذر ، حدثنا يحيى بن محمد بن حكم ، حدثنا ابن أبي ذئب قال : ضاقت حال ابن شهاب ورهقه دين ، فخرج إلى الشام فجالس قبيصة بن ذؤيب ، قال ابن شهاب : فبينا نحن معه نسمر إذ جاء رسول عبد الملك فذهب إليه ثم رجع إلينا ، فقال من منكم يحفظ قضاء عمر رضي الله عنه في أمهات الأولاد ، قلت أنا ، قال قم ، فأدخلني على عبد الملك بن مروان ، فإذا هو جالس على نمرقة بيده مخصرة وعليه غلالة ملتحف بسبيبة بين يديه شمعة فسلمت ، فقال من أنت فانتسبت له فقال إن كان أبوك لنعارا في الفتن ، قلت يا أمير المؤمنين عفا الله عما سلف ، قال اجلس فجلست ، قال تقرأ القرآن ، قلت نعم ، قال فما تقول في امرأة تركت زوجها وأبويها ، قلت لزوجها النصف ولأمها السدس ولأبيها ما بقي ، قال أصبت الفرض وأخطأت اللفظ إنما لأمها ثلث ما بقي ولأبيها ما بقي هات حديثك ، قلت حدثني سعيد بن المسيب ، فذكر قضاء عمر في أمهات الأولاد ، فقال عبد الملك هكذا حدثني سعيد ، قلت يا أمير المؤمنين اقض ديني قال نعم ، قلت وتفرض لي قال لا والله لا نجمعهما لأحد ، قال فتجهزت إلى المدينة .(1/160)
حدثنا محمد بن عمر ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز سمعت الزهري يقول : نشأت وأنا غلام لا مال لي ولا أنا في ديوان ، وكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، وكان عالما بذلك ، وهو ابن أخت قومي وحليفهم ، فأتاه رجل فسأله عن مسألة من الطلاق فعي بها وأشار له إلى سعيد بن المسيب ، فقلت في نفسي ألا أراني مع هذا الرجل المسن يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه ولا يدري ما هذا ، فانطلقت مع السائل إلى سعيد بن المسيب وتركت ابن ثعلبة ، وجالست عروة وعبيد الله وأبا بكر بن عبد الرحمن حتى فقهت ، فرحلت إلى الشام فدخلت مسجد دمشق في السحر وأممت حلقة ، وجاه المقصورة عظيمة فجلست فيها فنسبني القوم فقلت رجل من قريش قالوا هل لك علم بالحكم في أمهات الأولاد فأخبرتهم بقول عمر بن الخطاب ، فقالوا هذا مجلس قبيصة بن ذؤيب وهو حاميك وقد سأله أمير المؤمنين وقد سألنا فلم يجد عندنا في ذلك علما ، فجاء قبيصة فأخبروه الخبر فنسبني فانتسبت ، وسألني عن سعيد بن المسيب ونظرائه فأخبرته ، قال فقال أنا أدخلك على أمير المؤمنين ، فصلى الصبح ثم انصرف فتبعته فدخل على عبد الملك وجلست على الباب ساعة حتى ارتفعت الشمس ، ثم خرج الآذن فقال أين هذا المديني القرشي قلت : ها أنا ذا ، فدخلت معه على أمير المؤمنين فأجد بين يديه المصحف قد أطبقه وأمر به فرفع وليس عنده غير قبيصة جالسا فسلمت عليه بالخلافة ، فقال من أنت قلت محمد بن مسلم وساق آباءه إلى زهرة ، فقال : أوه قوم نعارون في الفتن ، قال وكان مسلم بن عبيد الله مع ابن الزبير ، ثم قال ما عندك في أمهات الأولاد فأخبرته عن سعيد ، فقال كيف سعيد وكيف حاله فأخبرته . سير أعلام النبلاء (5/340) .(1/161)
حدثني الحلواني ، حدثنا الشافعي ، حدثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك ، فقال : يا سليمان من الذي تولى كبره منهم ، قال عبد الله بن أبي ابن سلول ، قال كذبت هو علي ، فدخل ابن شهاب فسأله هشام ، فقال هو عبد الله بن أبي ، قال كذبت هو علي ، فقال أنا أكذب لا أبا لك فوالله لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت ، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص ، عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ، قال فلم يزل القوم يغرون به ، فقال له هشام ارحل فو الله ما كان ينبغي لنا أن نحمل على مثلك ، قال ولم أنا اغتصبتك على نفسي أو أنت اغتصبتني على نفسي فخل عني ، فقال له لا ولكنك استدنت ألفي ألف ، فقال قد علمت وأبوك قبلك أني ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك ، فقال هشام إنا أن نهيج الشيخ فأمر فقضى عنه ألف ألف فأخبر بذلك ، فقال الحمد لله الذي هذا هو من عنده ، قال عمي ونزل ابن شهاب بماء من المياه فالتمس سلفا فلم يجد فأمر براحلته فنحرت ، ودعا إليها أهل الماء فمر به عمه فدعاه إلى الغداء ، فقال يا ابن أخي إن مروءة سنة تذهب بذل الوجه ساعة ، قال يا عم انزل فأطعم وإلا فامض راشدا ، ونزل مرة بماء فشكا إليه أهل الماء أن لنا ثماني عشرة امرأة عمرية ، أي لهن أعمار ليس لهن خادم ، فاستسلف ابن شهاب ثمانية عشر ألفا وأخدم كل واحدة خادما بألف ، قال سعيد بن عبد العزيز قضى هشام عن الزهري سبعة آلاف دينار ، وقال لا تعد لمثلها تدان فقال يا أمير المؤمنين ، حدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" . صحيح الجامع رقم (7779) .
قال إسحاق بن الطباع ، عن مالك ، قال الزهري : وجدنا السخي لا تنفعه التجارب .(1/162)
قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : مر رجل تاجر بالزهري وهو بقريته ، والرجل يريد الحج ، فأخذ منه بأربع مئة دينار إلى أن يرجع من حجه ، فلم يبرح الزهري حتى فرقه فعرف الزهري في وجه التاجر الكراهية ، فلما رجع قضاه وأمر له بثلاثين دينارا ينفقها علي بن حجر . حدثنا الوليد الموقري ، قال قيل للزهري إنهم يعيبون عليك كثرة الدين ، قال وكم ديني قيل عشرون ألف دينار ، قال ليس كثيرا وأنا مليء لي خمسة أعين كل عين منها ثمن أربعين ألف دينار . سير أعلام النبلاء (5/329ـ330).
بشر بن الحارث
وطلبه للحديث(1/163)
بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال المروزي ، أبو نصر الزاهد المعروف بالحافي ، روى عن حماد بن زيد ، وإبراهيم بن سعد ، وفضيل بن عياض ، ومالك وأبي بكر بن عياش ، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم ، وعنه أحمد بن حنبل ، وإبراهيم الحربي ، وإبراهيم بن هانئ ، وعباس العنبري ، ومحمد بن حاتم ، وأبو خيثمة وخلق ، قال أبو بكر بن أبي داود قلت لعلي بن خشرم لما أخبرني أن سماعه وسماع بشر بن الحارث بن عيسى واحد ، قلت فأين حديث أم زرع فقال سماعي معه ، وكتبت إليه أن يوجه به إلي فكتب إلي هل عملت بما عندك حتى تطلب ما ليس عندك قال على ، وكان بشر يتفتأ في أول أمره ، وقال بن سعد : كان من أبناء خراسان طلب الحديث وسمع سماعا كثيرا ، ثم أقبل على العبادة واعتزل الناس فلم يحدث ومات ببغداد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ، وهو بن ست وسبعين سنة ، وقال المروزي قيل لأبي عبد الله مات بشر بن الحارث قال مات رحمه الله وما له نظير في هذه الأمة إلا عامر بن عبد مقيس ، وقال إبراهيم الحربي ما أخرجت بغداد أتم عقلا ولا أحفظ للسانه من بشر بن الحارث ، وقال الخطيب كان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد وتفرد بوفور العقل وأنواع الفضل وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس وإسقاط الفضول ، وكان كثير الحديث إلا أنه لم ينصب نفسه للرواية، وكان يكرهها ودفن كتبه لأجل ذلك وكلما سمع منه فإنما هو على طريق المذاكرة، قلت: وقال أبو حاتم الرازي ثقة رضي، وقال بن حبان في الثقات أخباره وشمائله في التقشف وخفي الزهد والورع أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها ، وكان ثوري المذهب في الفقه والورع جميعا ، وقال الدارقطني : ثقة زاهد جبل ليس يروي إلا حديثا صحيحا وربما تكون البلية ممن يروي عنه ، وقال مسلمة : ثقة فاضل . اهـ . تهذيب التهذيب (1/389) .
يحيى بن معين
ينفق ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم
في الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسها .(1/164)
يحيى بن معين الإمام ، هو أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن ، وقيل ابن معين بن غياث بن زياد بن عون بن بسطام المري ، من مرة غطفان مولاهم ، قال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى يقول : أنا مولى للجنيد بن عبد الرحمن المقري ويحيى بن معين بغدادي ، وهو إمام الحديث في زمنه والمعول عليه فيه ، قال الخطيب أصله من الأنبار ، سمع ابن المبارك وهشيما ووكيعا وابن عيينة وابن مهدي ويحيى القطان .
روى عنه أحمد بن حنبل ، وزهير بن حرب ، وأحمد ، ويعقوب ابنا إبراهيم الدورقيان ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، ومحمد بن إسحاق الصاغاني ، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي ، ومحمد بن هارون ، وأبو زرعة الرازي والدمشقي ، وأبو حاتم ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وأحمد بن منصور ، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار ، وأحمد بن أبي الحواري ، وعباس بن محمد الدوري ، وعبد الله بن الرمادي ، وأحمد بن حنبل ، ويعقوب بن شيبة ، وأبو يعلى الموصلي ، والحسين بن محمد ، وخلائق لا يحصون .
وأجمعوا على إمامته وتوثيقه وحفظه وجلالته وتقدمه في هذا الشأن واضطلاعه منه .
إمام الجرح والتعديل ، وأحد من انتهى إليه علم الحديث في عصره، قال : كتبت بيدي ألف ألف حديث ، قال الأمام أحمد : كان ابن معين أعلمنا بالرجال ، وقال أبو سعيد الحداد : الناس كلهم عيال على يحيى ابن معين . وذكر ابن عدي ، أن والد يحيى خلف له ثروة ضخمة ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم ، فأنفق ذلك كله على الحديث ، لما توسع في طلبه ورحلاته من أجله .
وقال علي بن المديني : ما أعلم أحدا كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين ، وخلف والده معين ليحيى ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم أنفقها كلها في الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسها .(1/165)
واتفقوا على أنه توفي بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغسل على السرير الذي غسل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونودي عليه هذه جنازة يحيى بن معين ذاب الكذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يبكون ، واجتمعوا في جنازته خلائق لا يحصون ، ودفن في البقيع . قال إبراهيم بن المنذر : رأى رجل في المنام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مجتمعين فقال ما لكم مجتمعين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : جئت لهذا الرجل أصلي عليه فإنه كان يذب الكذب عن حديثي .
وقال بشر بن مبشر : رأيت يحيى بن معين في المنام ، فقال زوجني عز وجل أربعمائة حوراء بذبي الكذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . اهـ . تهذيب الأسماء (2/451).
قال البخاري : توفي يحيى بن معين بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، وله سبع وسبعون سنة إلا نحو عشرة أيام رحمه الله . تهذيب الأسماء واللغات (2/453) .
الإمام البخاري رحمه الله
وخدمته للحديث
محمد بن إسماعيل البخاري ، الإمام صاحب الصحيح ، هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه ، بباء موحدة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم دال مهملة مكسورة ثم زاي ساكنة ثم باء موحدة ثم هاء ، هكذا قيده الأمير أبو نصر بن ماكولا وقال هو بالبخارية ومعناه بالعربية الزراع .
وعن محمد بن يعقوب الحافظ ، عن أبيه قال : رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي لمعلم ، وروينا عن الإمام مسلم بن الحجاج أنه قال للبخاري لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك ، وروى الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور بإسناد ، عن أحمد بن حمدون قال : جاء مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقبل بين عينيه وقال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ويا طبيب الحديث في علله.(1/166)
فصل في الإشارة إلى بعض شيوخه والآخذين عنه والمنتمين إليه والمستفيدين منه . قال النووي : هذا الباب واسع جدا لا يمكن استقصاؤه (1/89) .
قال النووي : روينا عن الخطيب البغدادي رحمه الله قال : رحل البخاري رحمه الله تعالى إلى محدثي الأمصار ، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها وبالحجاز والشام ومصر وورد بغداد دفعات ، وروينا من جهات ، عن جعفر بن محمد القطان قال : سمعت البخاري يقول : كتبت عن ألف شيخ من العلماء وزيادة وليس عندي حديث إلا أذكر إسناده .
وأما الآخذون عن البخاري فأكثر من أن يحصروا وأشهر من أن يذكروا ، وقد روينا عن الفربري قال : سمع الصحيح من البخاري سبعون ألف رجل فما بقي أحد يرويه غيره ، وقد روى عنه خلائق غير ذلك ، وقد قدمنا أنه كان يحضر مجلسه أكثر من عشرين ألفا يأخذون عنه .
وروينا من جهات عن البخاري رحمه الله قال : صنفت كتاب الصحيح لست عشرة سنة خرجته من ستمائة ألف حديث وجعلته حجة بيني وبين الله .
، وروينا عنه قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه ، فسألت بعض المعبرين فقال أنت تذب عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراج الصحيح .
قال الحاكم أبو عبد الله ، حدثنا أبو عمرو إسماعيل ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي قال : سمعت البخاري يقول : أقمت بالبصرة خمس سنين مع كتبي أصنف وأحج في كل سنة وأرجع من مكة إلى البصرة ، قال البخاري : وأنا أرجو أن يبارك الله تعالى للمسلمين في هذه المصنفات ، وبلغني عن الشيخ أبي زيد المروزي من أصحابنا ، وهو أجل من روى صحيح البخاري عن الفربري قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال : لي إلى متى تدرس الفقه ولا تدرس كتابي ، قلت وما كتابك يا رسول الله ، قال : جامع محمد بن إسماعيل البخاري ، أو كما قال .(1/167)
وروينا عنه قال : ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح طحال القول ، وروينا عن الفربري قال ، قال : البخاري ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين .
وجاء في تاريخ بغداد للخطيب (2/9) .
قال البخاري رحمه الله تعالى : أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح لحال الطوال .
وعن محمد بن يوسف الفربري يقول : قال لي محمد بن إسماعيل البخاري ما وضعت في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين .
وعن عبد القدوس بن همام قال : سمعت عدة من المشايخ يقولون حول محمد بن إسماعيل البخاري تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره ، وكان يصلى لكل ترجمة ركعتين . اهـ .
وعن الفربري محمد بن يوسف قال : سمعت محمدا البخاري
بخوارزم يقول : رأيت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل يعنى في المنام خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يمشى فكلما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه وضع أبو عبد الله محمد بن إسماعيل قدمه في ذلك الموضع . تاريخ بغداد (2/10) .
عبد الله بن عدى قال سمعت محمد بن يوسف الفربري قال سمعت النجم بن الفضيل وكان من أهل الفهم يقول رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام خرج من قرية ماستى ومحمد بن إسماعيل خلفه فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطا خطوة يخطو محمد بن إسماعيل ويضع قدمه على خطوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتبع أثره .
وعن محمد بن محمد بن مكي الجرجاني يقول سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقال لي أين تريد فقلت أريد محمد بن إسماعيل البخاري فقال اقرأه منى السلام .(1/168)
وعن خلف بن محمد بن الخيام قال : سمعت أبا محمد المؤذن عبد الله بن محمد بن إسحاق السمسار يقول : سمعت شيخي يقول : ذهبت عينا محمد بن إسماعيل في صغره فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه السلام فقال لها يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أو لكثرة دعائك قال فأصبح وقد رد الله عليه بصره . اهـ . تاريخ بغداد (2/11) .
وعن أبي سعيد بكر بن منير قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل يقول منذ ولدت ما اشتريت من أحد بدرهم شيئا قط ولا بعت من أحد بدرهم شيئا قط فسألوه عن شراء الحبر والكواغد فقال كنت أمر إنسانا يشترى لي وقال أبو سعيد بكر بن منير كان حمل الى محمد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه فلان فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم فقال لهم انصرفوا الليلة فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم فردهم وقال إني نويت البارحة أن ادفع إلى الذين طلبوا أمس بما طلبوا أول مرة فدفعها إليهم بما طلبوا يعنى الذين طلبوا أول مرة ودفع بربح خمسة آلاف درهم وقال لا أحب أن انقض نيتي . تاريخ بغداد (2/12)
وعن عمر بن حفص الأشقر قال : كنا مع محمد بن إسماعيل بالبصرة نكتب الحديث ، ففقدناه أيامنا فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان وقد نفد ماعند ولم يبق معه شيء فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبا وكسوناه ثم اندفع معنا في كتابة الحديث .(1/169)
وعن محمد بن أبى حاتم الوراق قال كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيط أحيانا فكنت أراه يوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيورى نارا بيده ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه وكان يصلى في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بواحدة وكان لا يوقظني في كل ما يقوم فقلت له انك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني قال أنت شاب فلا أحب أن افسد عليك نومك . اهـ . تاريخ بغداد (2/13) .
الإمام أبو حاتم الرازي
يبيع ثياب بدنه لأجل طلب العلم
محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران ، أبو حاتم الحنظلي الغطفاني ، الرازي ، مولده سنة خمس وتسعين ومئة ، كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات مشهورا بالعلم مذكورا بالفضل ، قال ابنه : سمعت أبي يقول : بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومئتين ، ثمانية أشهر ، وكان في نفسي أن أقيم سنة ، فانقطعت نفقتي ، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئاً بعد شيء ! حتى بقيت بلا نفقة ! ومضيت أطوف مع صديقٍ لي إلى المشيخة واسمع منهم إلى المساء فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيت خال، فجعلت أشرب الماء من الجوع ، ثم أصبحت من الغد وغدا على رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد فانصرف عنى وانصرفت جائعا ، فلما كان من الغد غدا علي ، فقال مر بنا على المشايخ فقلت أنا ضعيف لا يمكنني ، قال ما ضعفك ؟ قلت لا أكتمك أمري قد مضى يومان ما طعمت فيهما ، فقال لي رفيقي معي دينار فأنا أواسيك بنصفه وتجعل الأخر في الكراء ، فخرجنا من البصرة وقبضت منه النصف دينار . تاريخ بغداد (2/74ـ75) .(1/170)
وعن أحمد بن علي الرَّقَّام ، سمعت الحسن بن الحسين الدارستيني قال : سمعت أبا حاتم يقول : قال لي أبو زرعة : ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك ، فقلت له : إن عبد الرحمن ابني لحريص ، فقال : "من أشبه أباه فما ظلم" ، قال الرَّقَّام : فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له ، وسؤالاته لأبيه ، فقال : ربما كان يأكل وأقرأ عليه ، ويمشي وأقرأ عليه ، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه ، ويدخل البيت في طلب شيءٍ وأقرأ عليه .
قال أبو الحسين بن المنادي وغيره : مات الحافظ أبو حاتم في شعبان ، سنة سبعٍ وسبعين ومئتين ، وقيل : عاش ثلاثاً وثمانين سنةً . اهـ . سير أعلام النبلاء (13/251) .
الإمام مسلم بن الحجاج
ورحلته الواسعة في طلب الحديث
هو مسلم بن الحجاج بن مسلم ، أبو الحسين القشيري النسب النيسابوري الدار والموطن عربي ، أحد رجال الحديث من أهل خراسان ، رحل فيه رحلة واسعة ، وصنف فيه تصانيف نافعة ، فسمع بخراسان يحيى بن يحيى التميمي ، وإسحاق بن راهويه وغيرهما ، وبالري محمد بن مهران الجمال ، وأبا غسان محمد بن عمرو زنيجا وغيرهما ، وبالعراق أحمد بن حنبل وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهما ، وبالحجاز سعيد بن منصور ، وأبا مصعب الزهري وغيرهما ، وبمصر عمرو بن سواد وحرملة بن يحيى وغيرهما في خلق كثير والله أعلم .
روى عنه من الأكابر أبو حاتم الرازي ، وموسى بن هارون ، وأحمد بن سلمة .
سبب موته : قال أبو عمرو بن الصلاح في كتابه صيانة صحيح مسلم (ص64) وهو يترجم للإمام مسلم ، قال : "وكان لموته سببٌ غريب ، نشأ من غمرةٍ فكريةٍ علمية ، فقرأت بنيسابور حرسها الله وسائر ديار الإسلام وأهله ، فيما انتخبه من "تاريخها" ـ للحاكم النيسابوري ـ على الشيخ الزكيّ أبي الفتح منصور بن عبد المنعم حفيد الفراوي ، وعلى الشيخة أم المؤيد زينب ابنة القاسم عبد الرحمن بن الحسن الجرجاني رحمها الله وإيانا ، عن ... ، قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ :(1/171)
سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب ، سمعت أحمد بن سلمة : عقد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلس للمذاكرة ، فذكر له حديث لم يعرفه ، فانصرف إلى منزله وأوقد السراج وقال لمن في الدار لا يدخلن أحد منكم هذا البيت ، فقيل له أهديت لنا سلة فيها تمر فقال قدموها إلي فقدموها ، فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة يمضغها فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث ، قال الحاكم زادني الثقة من أصحابنا أنه منها مرض ومات قلت قد زرت قبره بنيسابور وسمعنا عنده خاتمة كتابه الصحيح وغير ذلك رضي الله عنه وعنا ونفعنا بكتابه وبسائر العلم آمين آمين .
فذكر الحاكم أبو عبد الله ابن البيع الحافظ في كتاب المزكين لرواة الأخبار أنه سمع أبا عبد الله ابن الأخرم الحافظ يقول توفى مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة وهذا يتضمن أن مولده كان في سنة ست ومائتين والله أعلم . وكان لموته سبب غريب نشأ عن غمرة فكرية علمية فقرأت بنيسابور حرسها الله وسائر بلاد الإسلام وأهله . اهـ . صفحات من صبر العلماء (124ـ125) .
إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحربي
يبيع الدور والنخل لطلب الحديث
وأفنى من عمره ثلاثين سنة برغيفين
إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم ، أبو إسحاق الحربي ، ولد في سنة ثمان وتسعين ومائة ، وسمع أبا نعيم الفضل بن دكين ، وعفان بن مسلم ، وعبد الله بن صالح العجلي ، وموسى بن إسماعيل التبوذكي وأبا عمر .(1/172)
عن أبي إسحاق إبراهيم بن حبيش قال : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم المروزي قال : أمي تغلبية ، وكان أخوالي نصارى أكثرهم ، فقلت له لم سميت إبراهيم الحربي ، فقال صحبت قوما من الكرخ على الحديث وعندهم ما جاز قنطرة العتيقة من الحربية فسموني الحربي بذلك ، وقال قطائعنا في المراوزه يعني عندنا في الكابلية كان لي فيها اثنين وعشرين دارا وبستانا ، قال بن حبيش وكان يصف لنا نخلة نخلة ودارا دارا قال فبعتها وأنفقتها على الحديث وورثت من خال بحولايا عشرين ومائة جريب فيها رطبة فلم أفرغ لها ولا ذهبت أخذت منها لا أصلا ولا فرعا فذهبت إلى الآن .(1/173)
وعن أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان ، ويعرف بابن أسد قال : سمعت إبراهيم بن إسحاق يقول : أجمع عقلاء كل أمة أنه من لم يجر مع القدر لم يتهنأ بعيشه كان يكون قميصي أنظف قميص وإزاري أوسخ إزار ، ما حدثت نفسي أنهما يستويان قط وفرد عقبي مقطوع وفرد عقبي الآخر صحيح أمشي بهما وأدور بغداد كلها هذا الجانب وذلك الجانب لا أحدث نفسي أني أصلحها وما شكوت إلى أمي ولا إلى أخوتي ولا إلى امرأتي ولا إلى بناتي قط ، حمى وجدتها الرجل هو الذي يدخل غمه على نفسه ولا يغم عياله كان بي شقيقة خمسا وأربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط ولي عشر سنين أبصر بفرد عين ما أخبرت به أحدا ، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت وإلا بقيت جائعا عطشان إلى الليلة الثانية ، وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة إن جائتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلته وإلا بقيت جائعا عطشان إلى الليلة الأخرى ، والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة إن كان برنيا ، أو نيفا وعشرين إن كان دقلا ، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهرا ، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودائقين ونصف ، ودخلت الحمام واشتريت لهم صابونا بدانقين ، فقام نفقة شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانق ونصف .
وعن أبي القاسم بن بكير قال : سمعت إبراهيم الحربي يقول : ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئا كنت أجيء من عشي إلى عشي ، وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية أو لعقة بن أو باقة فجل .(1/174)
قال أحمد بن سلمان القطيعي ضقت إضاقة ، فمضيت إلى إبراهيم الحربي لأبثه ما أنا فيه ، فقال لي لا يضيق صدرك فان الله من وراء المعونة ، وإني ضقت مرة حتى انتهى أمري في الإضاقة إلى أن عدم عيالي قوتهم ، فقالت لي الزوجة هب إني وإياك نصبر فكيف نصنع بهاتين الصبيتين فهات شيئا من كتبك حتى نبيعه أو نرهنه فضننت بذاك وقلت اقترضي لهما شيئا وانظريني بقية اليوم والليلة ، وكان لي بيت في دهليز داري فيه كتبي فكنت أجلس فيه للنسخ وللنظر ، فلما كان في تلك الليلة إذا داق يدق الباب فقلت من هذا ، فقال رجل من الجيران فقلت أدخل ، فقال اطفيء السراج حتى أدخل فكبيت على السراج شيئا وقلت أدخل ، فدخل وترك إلى جانبي شيئا وانصرف ، فكشفت عن السراج ونظرت فإذا منديل له قيمة وفيه أنواع من الطعام وكاغد فيه خمسمائة درهم فدعوت الزوجة ، وقلت انبهي الصبيان حتى يأكلوا ، ولما كان من الغد قضينا دينا كان علينا من تلك الدراهم ، وكان وقت مجيء الحاج من خراسان ، فجلست علي بابي من غد تلك الليلة وإذا جمال يقود جملين عليهما حملان ورقا وهو يسأل عن منزل إبراهيم الحربي فانتهى إلي ، فقلت أنا إبراهيم الحربي فحط الحملين ، وقال هذان الحملان أنفذهما لك رجل من أهل خراسان ، فقلت من هو ، فقال قد استحلفني أن لا أقول من هو .(1/175)
عن محمد بن خلف بن وكيع قال : كان لإبراهيم الحربي بن ، وكان له إحدى عشرة سنة قد حفظ القرآن ولقنه من الفقه شيئا كثيرا ، قال فمات فجئت أعزيه قال ، فقال لي كنت أشتهي موت ابني هذا ، قال قلت يا أبا إسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقنته الحديث والفقه ، قال نعم رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت وكأن صبيانا بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس يسقونهم وكأن اليوم يوم حار شديد حره ، قال فقلت لأحدهم اسقني من هذا الماء ، قال فنظر إلي وقال ليس أنت أبي فقلت فإيش أنتم ، قال فقال نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباءنا نستقبلهم فنسقيهم الماء قال فلهذا تمنيت موته .
قال إسماعيل بن علي الخطبي : مات أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي يوم الاثنين لتسع بقين من ذي الحجة ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من ذي الحجة سنة خمس وثمانين ومائتين ، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي في شارع باب الأنبار ، وكان الجمع كثيرا جدا وكان يوما في عقب مطر ووحل ودفن في بيته رحمه الله .
عن محمد بن العباس الخزاز قال : سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد اللغوي يقول سمعت ثعلبا يقول : ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة أو نحو خمسين سنة ، قال أبو عمر وسمعت ثعلبا يقول ذلك مرارا قال محمد بن العباس ، وسمعت أبا الحسين بن المنادى يقول سمعت أحمد بن يحيى يقول : ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس نحو أو لغة خمسين سنة . اهـ . تاريخ بغداد (6/27ـ 35) .
محمد بن إسحاق ابن مندة
خاتم الراحلين وفرد المكثرين
طاف الشرق والغرب مرتين(1/176)
ابن مندة الإمام الكبير الحافظ المجود ، أبو عبد الله محمد بن يحيى بن مندة ، واسم مندة إبراهيم بن الوليد بن سندة بن بطة بن أستندار بن جهار بخت العبدي ، مولاهم الأصبهاني جد صاحب التصانيف الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد ولد في حدود العشرين ومئتين في حياة جدهم مندة ، سمع إسماعيل بن موسى السدي ، وعبد الله بن معاوية الجمحي ، ومحمد بن سليمان لوين ، وأبا كريب محمد بن العلاء ، وهناد بن السري ، ومحمد بن بشار ، وأبا سعيد الأشج ، وأحمد بن الفرات ، وطبقتهم بالكوفة والبصرة وأصبهان ، وجمع وصنف ، حدث عنه القاضي أبو أحمد العسال ، وأبو القاسم الطبراني ، وأبو الشيخ ، وأبو إسحاق بن حمزة ، ومحمد بن أحمد بن عبد الوهاب ، وولده إسحاق بن محمد ، وخلق سواهم من شيوخ أبي نعيم الحافظ الذين لقيهم بأصبهان .
وكان ينازع الحافظ أحمد بن الفرات ويذاكره ويرادده وهو شاب ، قال أبو الشيخ في تاريخه : هو أستاذ شيوخنا وإمامهم أدرك سهل بن عثمان ، قلت سهل من شيوخ مسلم مات سنة نيف وثلاثين ومئتين ، قال أبو الشيخ : ومات ابن مندة في رجب سنة إحدى وثلاث مئة. سير أعلام النبلاء (14/188ـ189) .
وقال الحافظ الذهبي في " تذكرة الحافظ " في ترجمة الحافظ الجوال صاحب التصانيف أبي عبد الله بن منده " محمد بن إسحاق " ،
" ولد أبو عبد الله سنه (310) وتوفي سنه (395) رحمه الله تعالى ، وعده شيوخه الذين سمع منهم وأخذ عنهم ألف وسبع مئة شيخ ، وكتب بيده عدة أحمال . ولما رجع من رحله طويلة كانت كتبه عدة أحمال حتى قيل إنها كانت أربعين حملاً ، وما بلغنا أن أحداً من هذه الأمة سمع ما سمع ولا جمع ما جمع ، وكان خاتم الراحلين وفرد المكثرين مع الحفظ والمعرفة والصدق وكثرة التصانيف ، قال جعفر المستغفري : سألته كم تكون سماعات الشيخ ؟ قال : تكون خمسة آلا ف صن . قلت ـ القائل الذهبي ـ : والصن يجيء عشرة أجزاء كبار .(1/177)
وأول ارتحاله كان قبل سنه (330) إلى نيسابور ، قال الحاكم : التقينا ببخاري سنه (361) وقد زاد زيادة ظاهره ثم جاءنا إلى نيسابور سنه خمس وسبعين ذاهباً إلى وطنه ، فرحل وعمره عشرون سنه ورجع وعمره خمسة وستون سنه ، وكانت رحلته (45) سنه ثم عاد إلى وطنه شيخاً فتزوج وهو ابن (65) سنه ، ورزق الأولاد وحدث بالكثير .
قال ابن منده : طفت الشرق والغرب مرتين ، وقال أبو زكريا بن منده : كنت مع عمي عبيد الله في طريق نيسابور ، فلما بلغنا بئر مجه حكي لي عمي ، قال : كنت قافلاً عن خراسان مع أبي فلما وصلنا إلى هنا إذ نحن بأربعين وقراً من الأحمال ، فظننا أن ذلك ثياب فإذا خيمه صغيرة فيها شيخ وإذا هو والدك ! فسأله بعضنا : ما هذه الأحمال ؟ فقال : هذا متاع قل من يرغب فيه في هذا الزمان هذا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم كر لي عمي بعد ذلك ، فقال : كنت قافلاً في خراسان ومعي عشرون وقراً من الكتب فنزلت فيها عند البئر اقتداء بالوالد . صفحات من صبر العلماء (ص65ـ 66) .
قال الباطرقاني : وكنت مع أبي عبد الله في الليلة التي توفي فيها ، ففي آخر نفسه قال واحد منا : لا إله إلا الله – يريد تلقينه – فأشار بيده دفعتين ثلاثة ، أي : اسكت يُقالُ لي مثلُ هذا ؟! .
وروى يحيى بن مندة في "تاريخه" عن أبيه وعمِّه : أن أبا عبد الله قال : ما افتصدت قطُّ ، ولا شربت دواءً قطُّ ، وما قبلت من أحدٍ شيئاً قطُّ . سير أعلام النبلاء (17/38) .
وصية الإمام ابن الجوزي
رحمه الله إلى ولده
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في رسالته اللطيفة "لفتة الكبد في نصيحة الولد" ، متحدثاً لولده عن نشأتهِ ومبتدأ حاله :(1/178)
"واعلم يابُني ، أن أبي كان موسراً وخلف ألوفاً من المال ، فلما بلغت دفعوا لي عشرين ديناراً ودينارين ، وقالوا لي : هذه التركة كلها ، فأخذت الدنانير واشتريت بها كتباً من كتب العلم ، وبعت الدارين وأنفقت ثمنها في طلب العلم ، ولم يبقى لي شيء من المال ، وما ذَلَّ أبوك في طلب العلم قط ، ولا خرج يطوف في البلدان من الوعاظ ، ولا بعث رقعةً إلى أحد يطلب منه شيئاً قطُّ ، وأموره تجري على السداد، { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } . الطلاق الآية (3) .
فاجتهد يابُني في صيانة عرضك من التعرض لطلب الدنيا والذُّلِّ لأهلها ، واقنع تُعَزّ ، فقد قيل : من قنع بالخبز والبقل لم يستعبدهُ أحد ، ولقد كنت أُصبح وليس لي مأكل ، وأُمسي وليس لي مأكل ، ما أذلَّني الله تعالى لمخلوق قط ، ولكنه ساق رزقي لصيانة عِرضي ، ولو شرحتُ أحوالي لطال الشرح ، وها أنا قد ترى ما آلت حالي إليه . اهـ . صفحات من صبر العلماء (ص324ـ325) .
بدأ ابن الجوزي رحمه الله طلب العلم صغيراً ، بل وأصبح واعظاً وهو في العاشرة من عمره ، وقد وصل إلى مرتبة لم يصلها أحد قبله ، ولا أحد بعده .(1/179)
قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى : وكان رأسا في التذكير بلا مدافعة يقول النظم الرائق والنثر الفائق بديها ويسهب ويعجب ويطرب ويطنب ، لم يأت قبله ولا بعده مثله ، فهو حامل لواء الوعظ والقيم بفنونه مع الشكل الحسن والصوت الطيب والوقع في النفوس وحسن السيرة ، وكان بحرا في التفسير علامة في السير والتاريخ موصوفا بحسن الحديث ومعرفة فنونه فقيها عليما بالإجماع والإختلاف جيد المشاركة في رآه ذا تفنن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار وإكباب على الجمع والتصنيف مع التصون والتجميل وحسن الشارة ورشاقة العبارة ولطف الشمائل والأوصاف الحميدة والحرمة الوافرة ثم الخاص والعام ،ما عرفت أحدا صنف ما صنف توفي أبوه وله ثلاثة أعوام فربته عمته وأقاربه كانوا تجارا في النحاس فربما كتب اسمه في السماع عبد الرحمان بن علي الصفار ثم لما ترعرع حملته عمته إلى ابن ناصر فأسمعه الكثير وأحب الوعظ ولهج به وهو مراهق فوعظ الناس وهو صبي ثم ما زال نافق السوق معظما متغاليا فيه مزدحما عليه مضروبا برونق وعظه المثل كماله في ازدياد واشتهار إلى ان مات رحمه الله وسامحه فليته لم يخض في التأويل ولا خالف إمامه . اهـ . سير أعلام النبلاء (21/367ـ368) .
أبو الوفاء علي بن عقيل
صاحب أكبر مصنف في الدنيا وهو كتاب الفنون
أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي ، المقرئ ، الفقيه ، الأصولي ، المولود سنة (431) ، والمتوفي سنة (513) .
أنه كان يقول : إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرةًٍ ، و مناظرةٍ ، وبصري عن مطالعة ، أعلمت فكري في حال راحتي ، وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة .(1/180)
وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي ، حتى أختار سفَّ الكعك وتحسِّيَهُ بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ، توفراً على مطالعة ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه ، وأن أجلَّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص ، فالتكاليف كثيرة ، والأوقات خاطفة .
قال تلميذ تلامذته الشيخ ابن الجوزي : كان الإمام ابن عقيل دائم الاشتغال بالعلم ، وكان له الخاطر العاطر ، والبحث عن الغوامضِ والدقائق ،وجعل كتابه المسمى بـ "الفنون" مناطاً لخواطره وواقعاتهِ.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي : وللإمام ابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلوم ، نحو العشرين تصنيفاً،وأكبر تصانيفه كتاب "الفنون" وهو كتاب كبير جداً ، فيه فوائدُ كثيرة جليلة ، ، في الوعظ ، والتفسير ، والفقه ، وأصول الفقه ، وأصول الدين ، والنحو ، واللغة ، والشعر ، والتاريخ ، والحكايات ، وفيه مناظراته ومجالساته التي وقعت له ، وخواطره ونتائج فكره ، قيدها فيه .
قال الحافظ الذهبي : لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب ، حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربع مئة ، قال الحافظ ابن رجب : وقال بعضهم : هو ثمانُ مئةِ مجلدة .
وقال الحافظ ابن رجب : أن عبد الله بن المبارك العكبري ، المقرئ الحنبلي ، ويعرف بابن نَيَّال ، المتوفي سنة (528) رحمه الله تعالى ، باع ملكاً له واشترى بثمنه كتاب الفنون ، وكتاب الفصول لابن عقيل ، ووقفهما على المسلمين ، وكان خيِّراً ، من أهل السنة رحمه الله تعالى . اهـ .
انظر "ذيل طبقات الحنابلة" (1/142ـ165) ، و "صفحات من صبر العلماء" (320ـ321) .
شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
وجهوده الكبيرة في الدعوة
نسبه ومولدة :(1/181)
هو الشيخ الإسلام ، تقي الدين ، أبو العباس ، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحراني ، ثم الدمشقي وسمي جده الأعلى محمداً بـ"تيمية" ، لأنه كما قيل حج على درب تيماء فرأى طفلة ، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتاً ، فقال : يا تيمية ، يا تيمية !! فلقب بـ"تيمية" .
فيظهر أن تسميه شيخ الإسلام بـ"ابن تيمية" نسبه إلى جده ، وقيل إن جده محمداً كانت أمه تسمى "تيميه" ، وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها ولد سنه 661 هـ في العاشر أو الثاني عشر من شهر ربيع الأول بحران .
نشأته وطلبه للعلم :
عاش شيخ الإسلام ابن تيمية مع والديه بحران إلى أن بلغ عمره سبع سنوات تقريباً عندها اضطر إلى الهجرة مع والديه إلى دمشق بعد أن زحف التتار إلى حران .
وقد تربى ابن تيمية في بيت علم بن أبيه عبد الحليم وجده عبد السلام ولما انتقلوا من حران إلى دمشق أخذوا الكتب معهم على عجلة وهذا دليل على ارتباط هذه الأسرة بالعلم فأبوه : محقق جليل كثير الفنون وله يد طولى في الفرائض والحساب والوعظ والإرشاد .
وجده عبد السلام مجد الدين أبو البركات كان إماماً حجة بارعاً في النفقة والحديث والتفسير وله معرفة تامة في الأصول كما أن هناك من سائر أفراد أسرته غير أبيه وجدة من برز في ميدان العلم ومن هؤلاء أخوة الشرف الدين عبد الله الذي برع في النفقة والفرائض والعربية ولذا فنشأة شيخ الإسلام علمية منذ الصغر ، حيث بدأ تحصيله وطلبه للعلم منذ نعومة أظافره .(1/182)
قال ابن عبد الهادي : " وعني بالحديث ، وقرأ ونسخ ، وتعلم الخط والحساب في المكتب ، وحفظ القرآن ، وأقبل على الفقه ، وقرأ العربية على ابن عبد القوي ، ثم فهمها ، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو ، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً ، حتى حاز فيه قصب السبق ، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك . هذا كله وهو ابن بضع عشر سنه فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه ، وسيلان ذهنه ، وقوة حافظته ، وسرعة إدراكه " .
وقال أيضاً : " وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي : نشأ يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله في تصون تام وعفاف وتأله وتعبد واقتصاد في الملبس والمأكل وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره ، ويناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم فأتى وله تسعة عشر سنه بل أقل ، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت وأكب على الإشتغال ومات والده وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم فدرس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنه واشتهر أمره وبعد صيته في العالم .
أما سماعه للأحاديث والآثار فقد ذكر العلماء أنه سمع أجزاء كبيرة من الأحاديث قال البزار : " ولقد سمع غير كتاب على غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة العالية أما دواوين الإسلام الكبار كمسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم وجامع الترمذي وسنن أبي داود السجستاني والنسائي وابن ماجة ودار قطني فإنه رحمه الله ورضي عنهم وعنه سمع كل واحد منها عدة مرات وأول كتاب حفظه في الحديث " الجمع بين الصحيحين " للإمام الحميدي وقل كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه وكان الله قد خصه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره إما بلفظه أو معناه .(1/183)
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول : ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول : يا معلم آدم وإبراهيم علمني ، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول يا معلم إبراهيم فهمني ويذكر قصة معاذ بن جبل ، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته ، وقال : إني لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك ولكن أبكي على العلم والإيمان الذين كنت أتعلمهما منك ، فقال : إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فاطلب العلم عند أربعة فإن أعياك العلم عند هؤلاء فليس هو في الأرض فاطلبه من معلم إبراهيم . العقود الدرية (1/42) .
وقال ابن عبد الهادي:"وسمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء ومن سموعاته معجم الطبراني الكبير " إلى غير ذلك مما ذكره العلماء من الكتب التي سمعها أو حفظها .
وقد تعرض الشيخ الإسلام ابن تيميه إلى الأذى والمحن خلال فترة حياته وما ذلك إلا لمحاربته البدع والخرافات التي كان يسلكها المتصوفة ومحاربته الفرق المخالفة لطريق السلف الصالح واختياره بعض الآراء والأفكار التي تخالف ما عليه جمهور الناس في عصرة .
ولقد أوذي وسجن عدة مرات فمن ذلك أنه في سنه 698 هـ حدثت معركة بينه وبين بعض الفقهاء بسبب إجابته على سؤال ورد إليه من أهل حماه يسألونه عن الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن فأجابهم بالرسالة الحموية . اهـ . كتاب " تفسير آيات أشكلت " (ص40ـ 41ـ 42) .
«وكتب وهو في السجن يشكر الله على إخراج خصومه كتبه»
ـ وكتب ابن تيمية رحمه الله وهو في السجن:(1/184)
ونحن ـ ولله الحمد والشكر ـ في نعم عظيمة تتزايد كل يوم، ويجدد الله تعالى من نعمه نعماً أخرى؛ وخروج الكتب كان من أعظم النعم، فإني كنت حريصاً على خروج شيء منها لتقفوا عليه، وهم كرهوا خروج «الإخنائية» فاستعملهم الله في إخراج الجميع؛ وإلزام المنازعين بالوقوف عليه، وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق؛ فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس؛ فإذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله؛ ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله؛ واستحق أن يذله الله ويخزيه، وما كتبت شيئاً من هذا ليكتم عن أحد ولو كان مبغضاً.
والأوراق التي فيها جواباتكم وصلت، وأنا طيب، وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا. ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد. والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
ثم ذكر كلاماً، وقال: كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة؛ إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو القوي العزيز العليم الحكيم، ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه، {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } [النساء: 79] فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه، فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له؛ إن أصابته سراء شكر؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له .اهـ. مجموع الفتاوى (28/30) .
مكانته العلمية :
حرص شيخ الإسلام ابن تيمية على طلب العلم منذ صغره وقد آتاه الله سرعة في الحفظ وقوة في الفهم وقد تربى كما ذكر سابقاً في بيت أسرته العريقة بالعلم وكان من نتيجة ذلك أن اتسعت معارفه وتنوعت علومه وفنونه حتى برع في كل فن ولا سيما في المجالات الشرعية : كالتفسير ، والحديث ، والفقه ، والعقيدة وغيرها .(1/185)
وفيما يلي أذكر أمثلة من ثناء الأئمة عليه في بعض المجالات :
قال ابن عبد الهادي : " وللشيخ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع ولا صنف نحو ما صنف ولا قريباً من ذلك مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه وكثير منها صنفه في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب .
وفاة شيخ الإسلام ابن تيميه :
توفي شيخ الإسلام ابن تيمية ليلة الاثنين في العشرين من شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة مسجوناً بالقلعة في دمشق . رحمه الله ، ونفع بعلمه .
العلامة ابن قيم الجوزية
هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي [نسبة إلى زرع من قرى حوران ، كما في معجم البلدان] ، ثم الدمشقي .
ولادته :
ولد في السابع من صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة (691) هـ .
وكان والده مسرفاً على المدرسة الجوزية ، وهي المدرسة التي بناها محي الدين بن الحافظ يحيى بن الجوزي بسوق القمح بدمشق ، وقد فرغ من بنائها سنة (652) هـ ، ثم تحولت في سنة (1327)هـ إلى محكمة .
دراسته وطلبه للعلم :
سمع من أبيه وأخذ عنه علم الفرائض ، وبرع فيه .
وأخذ الحديث من الشهاب النابلسي العابر ، والقاضي تقي الدين بن سليمان ، وإسماعيل بن مكتوم ، وعيسى المطعم ، وأبي بكر بن عبد الدائم ، وفاطمة بنت جوهر ، وغيرهم من أهل العلم .
وأخذ العربية من ابن أبي الفتح البعلي ، والشيخ مجد الدين التونسي .
وأخذ الفقه والأصول من شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ صفي الدين الهندي ، وغيرهم .
تلاميذه :
تتلمذ على يديه الكثير من العلماء ، ومن أبرز الذين تتلمذوا على يديه : ابن رجب الدمشقي الحنبلي رحمه الله ، صاحب التصانيف المشهورة .
وكذلك تتلمذ على يديه الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي ، صاحب التفسير المشهور .(1/186)
وتتلمذ على يديه الحافظ عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي .
وشمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد القادر بن يحيى الدين عثمان بن عبد الرحمن النابلسي .
ملازمته لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
لقد لازم شيخه ابن تيمية وسجن معه وجاهد معه ، ولم يفارقه إلى أن مات رحمه الله تعالى . ولقد تأثر بشيخه تأثيراً كبيراً ، ومن الأشياء التي يظهر فيها تأثر ابن القيم بشيخه ابن تيمية اقتباسه من كلامه ، وإعجابه به ، فنجده يسوق كلام ابن تيمية في التفسير ، وقد يسوقه كرأي من الآراء التي لها قيمتها العلمية، والتي يقف منها موقف الإعجاب والتقدير.
لقد استوعب ابن القيم رحمه الله تراث شيخه أعظم استيعاب وانتفع ونفع به .
وفاته :
مات رحمه الله تعالى في الثالث والعشرين من شهر رجب سنة (771) هـ . وكانت جنازته حافلة جداً ، ورؤيت له منامات حسنة ، وكان قد ذكر هو نفسه قبل موته بمدة ، إنه رأى شيخه ابن تيمية في المنام ، وأنه سأله عن منزلته فقال : إنه انزل منزلة فوق فلان ، وسمى بعض الأكابر ، قال له : أنت كدت تلحق به ، ولكن أنت في طبقة ابن خزيمة .
لقد ترجمته من الأخ عبد القادر العشا في زاد المعاد ، وقاسم الرفاعي في حادي الأرواح ، وعبد العزيز بن محمد في تفسير آيات أشكلت ،
وانظر مصادر ترجمته : النجوم الزاهرات ، والبداية والنهاية ، وبغية الوعاة ، والبدر الطالع ، وذيل طبقات الحنابلة ، والدرر الكامنة وشذرات الذهب ، وغيرها من المصادر .
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
صاحب كتاب أضواء البيان
اسمه ونسبه:(1/187)
هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح بن محمد ابن سيدي أحمد المختار ، من أولاد أولاد الطالب أوبك ، وهذا من أولاد أولاد كرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكن الأبر جد القبيلة الكبيرة المشهورة المعروفة بالجكنيين ، ويعرفون بتجكانت ، ويرجع نسب هذه القبيلة إلى حمير ، وكل من اسمه رحمه الله واسم أبيه علمٌ مركبَّ من اسمين ، وذكر محمد فيه للتبرك .
ولادته:
ولد رحمه الله عام خمسة وعشرين وثلاث مئة وألف للهجرة
(1325هـ) عند ماء يسمى (تنبه) من أعمال مديرية (كيفا) من القطر المسمى بـ "شنقيط" ، وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن ، علماً بأن كلمة "شنقيط" كانت لا تزال اسماً لقرية من أعمال مديرية "أطار" في أقصى موريتانيا في الشمال الغربي .
نشأته:
ونشأ رحمه الله يتيماً . قال رحمه الله : "توفي والدي وأنا صغير أقرأ في جزء { عمَّ } ، وترك لي ثروة من الحيوان والمال ، وكانت سكناي في بيت أخوالي وأمي ابنة عم أبي ، وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم ب أحمد نوح جد الأب " .
طلبه للعلم ، ومشايخه فيه:
قال الشيخ عطية :[حفظ القرآن في بيت أخواله على خاله عبد الله ـ كما تقدم ـ وعمره عشر سنوات] .
قال رحمه الله : "ثم تعلمت رسم المصحف العثماني "المصحف الأم" عن ابن خالي سيدي محمد بن أحمد بن محمد المختار ، وقرأت عليه التجويد في مقرأ نافع برواية ورش من طريق أبي يعقوب الأزرق وقالون من رواية أبي نشيط ، وأخذت عنه سنداً بذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك وعمري ست عشرة سنة" .
ثم قال رحمه الله : "وفي أثناء هذه القراءة درست بعض المختصرات في فقه مالك ؛ كرجز الشيخ ابن عاشر ، وفي أثنائها أيضاً درستُ دراسة واسعة في الأدب على زوجة خالي أم ولد الخال " .
أي : أن ولد خاله يعلّمه العلوم الخاصة بالقرآن ، وأمه تعلّمه الأدب.(1/188)
قال : "أخذت عنها مبادىء النحو ؛ كـ "الآجرومية" وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية ، ونظم الغزوات لأحمد البدوي الشنقيطي ، وهو يزيد على خمس مئة بيت ، وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بـ (حماد) ، ونظم عمود النسب للمؤلف ؛ وهو يعد بالآلاف ، وشروحه لابن أخته المذكور على خصوص العدنانيين ؛لأنه مات قبل شرح ما يتعلق بالقحطانيين"
هذه دراسته في علوم القرآن والأدب والسير والتاريخ ، كانت في بيت أخواله على أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله ؛ أي : كان بيت أخواله المدرسة الأولى له .
أما بقية الفنون ؛ فقال : "أولاً : الفقه المالكي ، وهو المذهب السائد في البلاد ، درست "مختصر خليل" .
على هذا المنهج كانت دراسة الشيخ رحمه الله ؛ إلا أنه تميَّز ببعض الأمور قلَّ أن كانت لغيره ، نوجز منها الآتي :
تقدَّم أنه أتيح له في بادئ دراسته ما لم يتح لغيره ، حيث كان بيت أخواله مدرسته الأولى ، فلم يرحل في بادئ أمره للطلب ، وكان وحيد والديه ، فكان في مكان التدلل والعناية .
قال رحمه الله : "كنت أميل إلى اللعب أكثر من الدراسة حتى حفظت الحروف الهجائية وبدؤوا يقرئونني إياها بالحركات ، (با فتحة با ، بي كسرة بي ، بو ضمة بو ) ، وهكذا (ت ) و(ث) ... فقلت لهم : أوكل الحروف هكذا ؟ قالوا : نعم . فقلت : كفى ؛ إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة ـ كي يتركونني ـ فقالوا : أقرأها بثلاثة حروف أو أربعة ...
وتنقلت إلى آخرها بهذه الطريقة ، فعرفوا أني فهمت قاعدتها ، واكتفوا مني بذلك ، وتركوني ، ومن ثم حببت إلي القراءة " .(1/189)
وقال رحمه الله : " ولما حفظت القرآن ، وأخذت الرسم العثماني ، وتفوقت فيه على الأقران ؛ عنيت بي والدتي وأخوالي أشدَّ العناية وعزموا على توجيهي للدراسة في بقية الفنون ، فجهزتني والدتي بجملين : أحدهما عليه مركبي وكتبي ، والآخر عليه نفقتي وزادي وصحبني خادم ومعه عدة بقرات ، وقد هيأت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب ، وملابسي كأحسن ما تكون ؛ فرحاً بي ، وترغيباً لي في طلب العلم وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل" .
وقال رحمه الله تعالى : قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ، ولم يكن يعرفني من قبل فسأل عني من أكون في ملاءِ من تلامذته ؟ فقلت مترجلاً :
هذا فتىً من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العُرب قد عدلا
رمت به همَّةٌ علياء نحوكم إذ شام برق عُلومٍ نورهُ اشتعلا
فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبى ألا يميز شكل العين من "فعلا"
وقد أتى اليوم صبّاً مولعاً كلفاً بـ "الحمد لله " لا أبغي له بدلا
يريد دراسة "لامية الأفعال" .
وقد مضى "رحمه الله " في طلب العلم قُدُماً ، وقد ألزمه بعض مشايخه بالقران ؛ أي : أن يقرن بين كل فنَّين ؛ حرصاً على سرعة تحصيله وتفرساً في القدرة على ذلك ،فانصرف بهمة عالية في درس وتحصيل.
وقد صورَّ شدَّة انشغاله بطلب العلم في شبابه بقوله "رحمه الله " في "رحلة الحج" ما نصه : "ومما قلت في شأن طلب العلم وقد كنت في أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم دائم الاشتغال به عن التزويج لأنه ربما عاق عنه ، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي يرغب في زواجي ويطمح فيه ، فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال ؛ أيست مني ، فتزوجت ببعض الأغنياء ، فقال لي بعض الأصدقاء : إن لم تتزوج الآن من تصلح لك ؛ تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال ، ولم تجد من يصلح لمثلك ، يريد أن يعجلني عن طلب العلم ، فقلت في ذلك هذه الأبيات :(1/190)
دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دلَّ خلوب اللَّحظ جائلة الوشاح
ضحوكاً عن مؤشر رقاق تمجُّ الراح بالماء القراح
كأنَّ لحاظها رشقات نبلٍ تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظها لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلت كميَّاً ذا دلاصٍ ضعيفات الجفون بلا سلاح
فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاح
ولي شغل بأبكارٍ عذارى كأنَّ وجوهها غررٌ الصباح
أراها في المهارق لا بساتٍ براقعِ من معانيها الصحاحِ
أبيت مفكراً فيها فتضحى لفهمِ الفدمِ خافضة الجناحِ
أبحتُ حريمها جَبراً عليها وما كان الحريم بمستباحِ
عنايته بالعلم النافع :
وللشيخ رحمه الله في هذا العلم القِدْح المعلى والنصيب الأوفى تعلماً وعملاً وتعليماً له ودعوه إليه .
قال الشيخ عطية وفقه الله : "وكان اهتمامه بالعلم وبالعلم وحده ، وكل العلوم عنده آلة ووسيلة وعلم الكتاب وحده غاية " .
وقال الأخ عبد الرحمن السديس : حدثني ابنه عبد الله قال : " قال لي أبي : لا توجد آية في القرآن إلا درستها على حدة وأخبرني الشيخ عطية أن والدي قال له:كل آية قال فيها الأقدمون شيئاً فهو عندي".
وكان يلهج دائماً بالوصية بالنظر في كتاب الله وتدبره ، حدثني ابنه عبد الله ؛ قال : " سألت أبي : ما الذي يطرد وساوس الشيطان ؟ فقال : التدبر في كتاب الله " .
وبهذه الوصية افتتح كتابه ، وبها ختمه ، حيث قال في مقدمة كتابه بعد أن ذكر فضل القرآن ووعد الله لمتبعة ووعيده للمعرض عنه ما نصه : " ومع هذا كله ؛ فإن أكثر المنتسبين للإسلام اليوم في أقطار الدنيا معرضون عن التدبُّر في آياته ، غير مكترثين بقول من خلفهم : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا } . محمد (24) .(1/191)
إلى أن قال : "وإياك ثم إياك أن يزهَّدك في كتاب الله تعالى كثرة الزاهدين فيه ، ولا كثرة المحتقرين لمن يعمل به ويدعوا إليه ، واعلم أن العاقل الكيِّس لا يكترث بانتقاد المجانين".
إلى أن قال : "أما بعد ؛ فإنا لما عرفنا إعراض أكثر المتسمين باسم المسلمين اليوم عن كتاب ربهم ، ونبذهم له وراء ظهورهم ، وعدم رغبتهم في وعده ، وعدم خوفهم من وعيده ؛ علمنا أن ذلك مما يعين على من أعطاه الله علماً بكتابه أن يجعل همته في خدمته من بيان معانيه وإظهار محاسنه وإزالة الإشكال عما أشكل منه وبيان أحكامه والدعوة إلى العمل به وترك كل ما يخالفه .
واعلم أن السنة كلها تندرج في آية واحدة من بحره الزاخر ، وهي قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . الحشر (7) . إلخ كلامه رحمه الله.
وأكد رحمه الله هذا المعنى في الجزء السابع من " الأضواء " عند كلامه الطويل على قوله تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } . محمد (24) .
وقال أيضاً الأخ عبد الرحمن السديس : وقد قال لي ابنه عبد الله : "آخر ما عليه أبي رحمه الله كلامه على هذه الآية من سورة محمد" . اهـ . ولا يزال يوصي بذلك ويحث عليه حتى لقي الله رحمه الله رحمه واسعة .
قصة سهره رحمه الله على حل مسألة من مسائل "مختصر خليل" حيث بقي في حلها من العصر إلى طلوع الشمس .
أورد هذه القصة الشيخ عطية سالم في "ترجمته" للشيخ رحمه الله دون ذكر المسألة وقولة الشيخ التي رآها ، حيث قال في (ص31) في تعليقه على قول الشيخ رحمه الله عن نفسه :
ولي شغل بأبكارٍ عذارى كأنَّ وجوهها ضوء الصباح
أبيتُ مفكِّراً فيها فتضحي لفهمِ الفدمِ خافضة الجناحِ(1/192)
ما نصه : "نعم إنه كان يبيت في طلب العلم مفكراً وباحثاً ، حتى يذلل الصعاب ، وقد طابق القول العمل ؛ حدثني رحمه الله قال : جئت للشيخ في قراءتي عليه ، فشرح لي كما كان يشرح ، ولكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودت ، ولم يرو لي ظمئي ، وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح بعض المشكل ، وكان الوقت ظهراً ، فأخذت الكتب والمراجع ، فطالعت حتى العصر ، فلم أفرغ من حاجتي ، فعاودت حتى المغرب
وفاته:
قال الأخ الفاضل عبد الرحمن السديس : حدثني الشيخ أحمد بن أحمد الشنقيطي ـ وهو غاسل الشيخ "رحمه الله " ؛قال .
"لما جاء الشيخ رحمه الله للسعي يوم الحج الأكبر ؛ سعى شوطاً واحداً على قدميه ، ثم أخذت له العربة ، فحصل معه ضيق في التنفس من ذلك الشوط الذي طافه على قدميه ، وتوفي في اليوم السابع عشر من ذي الحجة من عام ثلاث وتسعين وثلاث مئة وألف للهجرة ضحى يوم الخميس ، وغسلته في بيته بمكة بشارع المنصور" .
وصلى عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي مع من حضر من المسلمين بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم .
وفي ليلة الأحد أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي ، وصلى عليه الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي بعد صلاة العشاء مباشرة .
ودفن بمقبرة المعلاة بريع الحجون بمكة حرسها الله . آمين .
أخذت هذا الموضوع من كتاب " ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي" . للأخ عبد الرحمن السديس .
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي
هو أبو عبد الله ، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي التميمي النجدي الحنبلي .
مولده :
ولد في مدينة عنيزة بالقصيم ، في اليوم الثاني عشر من شهر محرم من السنة السابعة وثلاثمائة بعد الألف (1307) هـ ، قبل وقعة المليدا الشهيرة بسنة واحدة . "المجلة العربية" العدد (95) ،حياة الشيخ السعدي في سطور (12).
تربيته :(1/193)
نشأ يتيم الأبوين ،إذ توفيت والدته سنة 1310هـ وعمره أربع سنين ، وتوفي والده وعمره سبع سنين سنة 1313هـ فكفلته زوجة والده ـ رحمها الله ـ وأحبته أكثر من أولادها ، ورعته حتى شبَّ ، ثم انتقل إلى بيت أخيه الأكبر حمد " فقام برعايته وتربيته .وكان حمد رجلاً صالحاَ وهو من حملة القرآن ومن المعمرين" .
ولقد كان والد الشيخ عبد الرحمن من العلماء ، وإماماً لمسجد المسوكف بعنيزة ، وكان قد وصى ابنه حمداً برعاية أخيه الأصغر الشيخ عبد الرحمن .
وقد كانت نشأته مثاراً للإعجاب والدهشة ، ولفت الأنظار لذكائه ورغبته الشديدة في طلب العلم ، كما كان محافظاً على الصلوات الخمس مع الجماعة ، حتى إنه خرج لصلاة الفجر صباح سطوة آل سليم ، وكان عمره خمس عشرة سنة ، وكان القصر فيه الرماة ، وكان الناس متحصنين في منازلهم خوفاً على أنفسهم فقابل بعض الناس فخاطبوه ، فقالوا : إلى أين تريد الذهاب ؟ فقال : لصلاة الفجر !! فضربه حتى ألجأه إلى الانصراف إلى بيته ، وعلى هذا كان حرصه على ألاَّ تفوته صلاة واحدة في أشد الأزمات في عصره .
طلبه للعلم :
كما ذكرنا في نشأة الشيخ من حرصه على طلب العلم الشرعي ، فقد حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل تمام الثانية عشرة من عمره ، واهتم بطلب العلم على علماء البلاد المجاورة لها ، كما كان يستفيد من العلماء الذين يفيدون ، ومن يريدون إلى بلده ، كما جعل أوقاته كلها في تحصيله للعلم ، حفظاً وفهماً ودراسة ومراجعة واستذكاراً ، حتى أدرك في صباه من العلم ما لا يدركه غيره في زمن طويل .
وقد كان لا يصرفه عن حلق الذكر ومجالس الدرس أي صارف ولا يرده عن الدروس أي راد ، إلا ما يكون في حال الضرورة ، كما تعلم القراءة والكتابة في سن مبكرة ، ثم انكبَّ على العلم وانقطع له ، ولم يشتغل بأي من الأعمال التجارية حرصاً على طلب العلم .(1/194)
ولما لاحظ أقرانه في طلب العلم تقدمه عليهم ، ونبوغه المبكر تتلمذوا عليه ، وبدأوا يأخذون عنه العلم ، وما إن تقدم به طلب العلم حتى فتح الله عليه آفاق العلم فخرج عمَّا اعتاد عليه علماء بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط ،إذ تطلَّع إلى كتب متعددة من تفسير وحديث وغيره ، وعني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وسار على نهجهما في اتباع الأدلة والاستنباط .
وكان من شدة طلبه للعلم أن قرأ على مشايخ عصره في علم الحديث والمصطلح والأصول والفروع والتفسير وأصول الدين وعلوم العربية ، وأكبَّ على المطالعة في كتب الفقه والحديث طيلة حياته ، وكان يحفظ كثيراً من المتون العلمية ، كما كان واسع الاطَّلاع في كل جانب من جوانب الحياة التي تتعلق بحياته وحياة الناس ، ليعرف حالاتهم ، وليكون عنده الدراية الواعية التي يتمشى بها في حياته . ولا أدلَّ على حرصه على طلب العلم من المؤلفات التي أورثها وتداولها طلبة العلم من بعده .
وكان يميل كثيراَ إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ولهذا جاء من تأليفه في التفسير والحديث وغيره وردٌ لا ينضب من العلم ورفد لا يشح على متتبعٍ مؤلفاته .
منذ أن تربى وترعرع ، كما كان صالحاً محافظاً على قواعد الدين ومحباً للخير والإحسان إلى الفقراء والضعفاء ، كان ذكياً محباً للمناقشة ومتواضعاً وطيب الأخلاق في معاملته للصغير والكبير والغني والفقير ، وكان ورعاً زاهداً ، عُرض عليه القضاء سنة (1360هـ ) فرفض ذلك لانشغاله بطلب العلم ، كما كان عزيز النفس طلق الوجه لا ترى عليه سمات الغضب ، محباً لأفعال الخير .. وكان كثير الاجتماع بالعامة والخاصة ، يشتاق لحديثه جميع الناس لسهولة وبساطة تعامله مع الآخرين .(1/195)
ووصف بأنه أرقّ من النسيم وأعذب من السلسبيل ، لا يعاتب على الهفوة ، ولا يؤاخذ بالجفوة ، ويتحبب إليه البعيد والقريب ، وكان جواداً بماله ونفسه وعلمه وبكل ما يستطيع القيام به ، فلا يبخل بشيء أبداً مهما كانت الظروف .
وقد وضع الله له القبول في الأرض ، وأعطاه محبة في القلوب فكان الناس يحبونه محبة لا تقدَّر بثمن ، وكان له زعامة شعبية في النفوس ، فكانت كلمته مسموعة وأمره مطاعاً في كل الأقوال والأعمال التي تصدر عنه .
وكان مخلصاً للعلم والدين ، حريصاً على مصالح المسلمين راجياً من الله أن تكون مجتمعاتهم متمسكة بالدين . فكان كثيراً ما يتصل بالناس ، ويتفقد أحوالهم ، ويحل مشاكلهم ، ويعلَّم الجاهل ، ويرشد الضال ، ويحقق لهم الخير . فكان ـ رحمه الله ـ لين الجانب متواضعاً، عليه وقار العلم والعبادة ، تحس إذا جالسته كأنك مع أقرب الناس إليك لما تجده من الزهد والتواضع ، ولم تقتصر أخلاقه على ذلك بل كان لتلامذته وطلابه نصيب من ذلك .
فكان في التدريس والتعليم من أحسن العلماء وأبلغهم ، فكان مرتباً وقته ، ومنظماً درسه ، يختار العلوم المثمرة والكتب النافعة ، يشاور تلاميذه ويأخذ برأي الأكثرية منهم ، وهم يحرصون على تلقيَّ العلم عليه والانتفاع بمؤلفاته التي ألفها .
وكان ذا جلد وصبر وقوة على ملازمة الدروس وعدم الضجر ، صبوراً على شدة البرد وعلى شدة الحر في الدروس والتعاليم ، ولم يسمع عنه أنه تضجر مرة واحدة .
بدأ طلب العلم في وقت مبكر ، فحفظ القرآن عن ظهر قلب قبل تمام الثانية عشرة من عمره ، ولما كان عمره ثلاثة وعشرين سنة بدأ يوفق بين طلبه للعلم والتدريس فاستفاد وأفاد ، وقد تلقى عنه الكثيرون وانتفعوا بعلمه واستمر على ذلك إلى سنة خمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة حتى صار الشيخ معول الطلبة في التعليم والاستفادة.(1/196)
وكلما تقدم به طلب العلم تفتحت أمامه آفاق العلم ، لذا خرج عما اعتاد علماء بلده من الاهتمام بالفقه الحنبلي فقط ، فتوسعت مداركه وتفتق ذهنه وتنوعت علومه من كتب التفسير والحديث والتوحيد وأكب على كتب الشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم " وأنه لا يطعن في علماء المذاهب كبعض المتهوسين " وكان يميل إلى آراء شيخ الإسلام وتلميذه " وربما يخرج عنهما إذا قوي عنده الدليل ويجعل مذهب الإمام أحمد أساساً له إذا لم يتوفر خلافه " .
كما خرج من مرحلة التقليد إلى مرحلة الاجتهاد المقيد فصار يرجح من الأقوال ما يرجحه الديل ويصدقه التعليل وكان إذا عرض عليه مسائل متعددة يجيب عليها باختصار غير مخل وكانت فتاواه غير طويلة فكانت سهله مما يدل على أنه سريع البديهة قوي الذاكرة سريع الكتابة بديع التحرير ولهذا تجد في مؤلفاته الكثير مما يدل على ذلك من اتصافها بالأسلوب الشيق الذي يفهمه العامة والخاصة .
وكان له الفضل في إنشاء مكتبة في مدينة عنيزة وكان ذلك سنه (1358) .
مؤلفاته :
كان من مؤلفاته رحمه الله تعالى العديد من الكتب والرسائل والفتاوى ، بعضها قد طبع والبعض الآخر لم يطبع بعد ، وهدفه من التأليف هو نشر العلم كما تعلمه من العلوم المختلفة من خلال الكتب التي ألفها .
ومن هذه المؤلفات : تفسير الكريم المسمى "تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن" ، في ستة مجلدات ، وحاشية على الفقه ، الفتاوى السعدية ، منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين ، الدرة البهية ، شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية ، لابن تيمية ، والقواعد الحسان لتفسير القرآن ، والتنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه الواسطية ن المباحث المنيفة . إضافة إلى الكتب والرسائل العديدة .(1/197)
وفاته : أصيب رحمه الله عام واحد وسبعين وثلاثمائة وألف (1371هـ) ، بمرض ضغط الدم وضيق الشرايين ، فكان يعتريه المرة بعد الأخرى وهو صابر عليه مدة خمس سنوات فزاد عليه أخيراً . وبعد أن شافاه الله منه ، عاوده المرض مرة أخرى ، وفي ليلة الأربعاء 22 من شهر جمادى الآخرة سنة (1376هـ) ، أحس بشيء في جسمه مثل البرد والقشعريرة ، وبعد أن كمل الدرس للطلاب أتم صلاة العشاء الآخرة إماماً ، وبعد السلام أحس بثقل وضعف ، فأشار إلى بعض تلامذته أن يمسك بيده ويذهب به إلى بيته ففزع الناس لذلك ، وبعد أن فحصه الطبيب وجد عنده نزيفاً في المخ ، وتوفي رحمه الله تعالى قبيل فجر يوم الخميس الموافق 22جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف (1376هـ) عن عمر يناهز تسعاً وستين سنة.
وما أن علم الناس بوفاة الشيخ حتى أصيبوا بذعر وحزن شديد ، فسالت الدموع ، وحزنت القلوب وبكى الصغير والكبير والقريب والبعيد ، وكان ذلك اليوم مشهوداً في تاريخ مدينة عنيزة .وصلي عليه في يوم الخميس في وكان الناس في حشد عظيم امتلأ الجامع بهم ، ولم تشهد عنيزة من قبل تلك الجموع من المصلين والوافدين والمشيعين للصلاة عليه ، فرحمه الله رحمةً واسعة وغفر له ، وجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى من النبيين والصديقين . آمين . أخذت هذا الموضوع من كتاب "حياة الشيخ عبد الرحمن السعدي" للأخ أحمد القرعاوي .
الفصل العاشر
نبذة عن مجددي هذا العصر
بعد أن عرفنا جهود وتضحيات العلماء السابقين ، حيث سخرهم الله تعالى لحماية هذا الدين الحنيف من الكذب والافتراءات ، فقد أصابت الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً بنكبات تلو النكبات ، خصوصاً بفقدهم للعلماء الأجلاء ، وفي هذا الزمان أصبنا بموت مجدديه ، فرأيت من الواجب ومن حقهم علينا أن نذكر جهودهم لخدمة هذا الدين في عصرنا هذا .
قال عنهم الشيخ محمد إبراهيم شقرة حفظه الله تعالى :(1/198)
وكان هؤلاء الثلاثة هم الغرّة الغراء البيضاء لأمتهم ، ولقد علمت القرون والأجيال أن الذي حفظ للأمة عليها دينها هم العلماء الربانيون الذين لم يخل منهم زمان وأنجاهم الله من كل طوفان ، أراد بالأمة شراً بإحلالها دار الهلكة والبوار في كل مكان .
ومن هؤلاء الربانيين أولئك الثلاثة الأخيار ، ابن باز ، والألباني ، وابن العثيمين رحمهم الله تعالى . اهـ . كتاب "مع الربانيين الراحلين" (ص9) .
الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز
رحمه الله تعالى
هو الإمام الفقيه ، الداعية الكبير ، عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن آل باز ، ولد بمدينة الرياض سنة 1330هـ .
بدأ الدراسة وتحصيل العلم منذ الصغر ، وحفظ القرآن قبل البلوغ ، وتلقى العلوم الشرعية والعربية منذ صباه ، وكان نشيطاً في طلبه للعلم ، فهو وافر النشاط ، دؤوب لا يفتر ، لا يكل ولا يمل ، فقد حارب الشرك بكل أنواعه ، وكان يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وهو داعٍ إلى الله سبحانه وتعالى .
سيرة سماحة الشيخ رحمه الله
ذكر الدكتور ناصر بن مسفر الزهراني في كتابه "إمام هذا العصر" نبذة عن سيرة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى فجاء فيها :
تفضل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ بإملاء نبذة عن حياته ، وقرأت عليه كتابتها فأقرَّها :
"أنا عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز ، ولدت بمدينة الرياض في ذي الحجة سنة (1330هـ ) ، وكنت بصيراً في أول الدراسة ، ثم أصابني المرض في عيني عام
(1346هـ) ، فضعف بصري بسبب ذلك .. وأسأل الله ـ جل وعلا ـ أن يعوضني عنه بالبصيرة في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة ، كما وعد بذلك ـ سبحانه ـ على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما أسأله سبحانه أن يجعل العاقبة حميدة في الدنيا والآخرة .(1/199)
وقد بدأت الدراسة منذ الصغر وحفظت القرآن الكريم قبل البلوغ ثن بدأت في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض ، ومن أعلامهم :
1ـ الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله ـ .
2ـ الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (قاضي الرياض ) ـ رحمهم الله ـ .
3ـ الشيخ سعد بن حمد بن عتيق (قاضي الرياض) .
4ـ الشيخ حمد بن فارس (وكيل بيت المال بالرياض) .
5ـ الشيخ سعد وقاص البخاري ( من علماء مكة) أخذت عنه علم التجويد في عام 1355هـ .
6ـ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ ، وقد لازمت حلقاته نحواً من عشر سنوات ، وتلقيت عنه جميع العلوم الشرعية ابتداء من سنة 1347هـ إلى سنة 1357هـ ، حيث رشحت للقضاء من قبل سماحته .
جزى الله الجميع أفضل الجزاء وأحسنه ، وتغمدهم جميعاً برحمته ورضوانه .
وقد توليت عدّة أعمال وهي :
1ـ القضاء في منطقة الخرج مدة طويلة استمرت أربعة عشر عاماً وأشهرا ، وامتدت بين سنتي 1357هـ إلى عام 1371هـ ، وقد كان التعيين في جمادى الآخرة من عام 1357هـ ، وبقيت إلى نهاية عام 1371هـ .
2ـ التدريس في المعهد العلمي بالرياض سنة 1372هـ ، وكلية الشريعة بالرياض بعد إنشائها سنة 1373هـ ، في علوم الفقه والتوحيد والحديث ، واستمر عملي على ذلك تسع سنوات انتهت في عام 1380 هـ .
3ـ عنيت في عام 1381هـ نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وبقيت في هذا المنصب إلى عام 1390 هـ .
4ـ توليت رئاسة الجامعة الإسلامية في سنة 1390هـ ، بعد وفاة رئيسها شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ في رمضان عام 1389هـ ، وبقيت في هذا المنصب إلى سنة 1395هـ .(1/200)
5ـ وفي 14/10/1395هـ صدر الأمر الملكي بتعييني في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، ولا أزال إلى هذا الوقت في هذا العمل .
أسأل الله العون والتوفيق والسداد .
ولي إلى جانب هذا العمل في الوقت الحاضر عضوية في كثير من المجالس العلمية والإسلامية.
سر توفيق الشيخ ونجاحه وبصيرته الثاقبة
قال لي أحد الملازمين لسماحته في سر توفيق الشيخ ونجاحه وبصيرته الثاقبة في كثير من المعاملات والآراء والموافق ، قال : ما ظنك برجل يبيت يناجي ربه ويدعو ويرجو ويهتف ويبكي ثم إذا ارتفع النداء بادر إلى المسجد ثم صلى الفجر في خشوع وخضوع ، ثم أتى بكامل الأوراد ثم أتى له بالأوراق كلها ثم يبدأ بقراءة المعاملات ، والنظر في حاجات الناس ، ثم قراءة بعض مسائل العلم ثم قبل أن يخرج من بيته وهو في كامل طهره ووضوئه ، متطهراً متطيباً متسوكاً ، يتجه إلى الله تعالى ويدعوه أن يحفظه وأن يعينه وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين ، أليس مثل هذا حرياً بأن يكون التوفيق حليفه ، والنصر ربيبه ، وأجزم لو أن الشيخ لو علم أنه سيموت في اليوم المحدد ، والوقت المحدد ، ما زاد في عمله شيء ، فكل وقته لله ، وبالله ، وفي الله ، ومع الله .
في مرة من المرات أساء الأدب معه بعض الوافدين من الذين يؤويهم الشيخ ويقيمون تحت رعايته وكفالته ، فجاءه في أيام إجازة وعيد وأخذ يرفع صوته ويخاصم في مجلس الشيخ ، ويقول : لماذا ما أنهيتم إجراءات إقامتي ، فقال : الكاتب يا شيخ هذا طبعه دائماً صدره ضيق ومماحكاته كثيرة ، فلم يزد الشيخ على أن قال : هؤلاء مساكين وأغراب ولا يعرفون مصطلحاتكم فارحموهم وارفقوا بهم وتحملوهم ، ألم تسمعوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ، ومن ولي من أمرهم شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه " . اهـ . كتاب "إمام هذا العصر" (15ـ95) .(1/201)
توفي في ضحى يوم الخميس 27محرم 1420هـ في مدينة الطائف من مدن المملكة العربية السعودية ، قال عنه العلامة الشيخ الألباني رحمه الله تعالى : لقد كان الشيخ عبد العزيز رحمه الله من خيرة العلماء ، نسأل الله تعالى أن يجعل مأواه الجنة . ولو أن هذه الحياة دامت لأحد لدامت للمصطفى صلوات الله وسلامه عليه . اهـ . وقال عنه الأخ الفاضل إحسان العتيبي حفظه الله تعالى : فالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مات وقد نصر العقيدة السلفية ، وبيَّن المنهج الحق الواضح ، وألف عشرات الرسائل ، وأفتى آلاف الفتاوى ، وله مئات الأشرطة العلمية النافعة ، مات وقد حج أكثر من خمسين حجة وأضعافها من العمر ، ومئات الطلبة النابغين النابهين ، مات وأمامه شفاعات شفع فيها لمستحقيها ، وأموال قدمها لمحتاجيها ، وعمل خير لا يمكن إحصاؤه ههنا . اهـ . صفحات مشرقة (ص38) .
العلامة الألباني رحمه الله تعالى
وجهوده وتضحياته
هو ناصر الدين بن نوح نجاتي بن آدم ، وقد أضاف إلى اسمه محمد لما في اسمه الذي سمي به من تزكية، ويكنَّى بأبي عبد الرحمن، واشتهر بالألباني، نسبة إلى ألبانيا إحدى الولايات الإسلامية في البلقان .
ولادته : وُلِدَ رحمه الله تعالى في مدينة "اشقودرة" عاصمة ألبانيا حينئذ سنة 1333هـ الموافق 1914م ، وهاجر بصحبة والده إلى دمشق وكان عمره آنذاك تسع سنوات ، ونشأ فيها .
دراسته وشيوخه :
نشأ رحمه الله في دمشق وتلقى تعليمه الابتدائي فيها ثم أخرجه والده من التعليم النظامي واعتنى به ودرَس عليه القرآن والفقه الحنفي، ثم عزز ما تلقاه عن والده بما تلقاه عن الشيخ سعيد البرهاني، وقدم الشيخ محمد راغب الطباخ وثيقة "الأنوار الجلية في مختصر الأثبات الحلبية" وإجازته للشيخ الألباني في علم الحديث .(1/202)
ولقد اعتنى الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بهذا المجال ، فأنشأ نفسه بنفسه ، وهو في العشرين من عمره متأثراً بأبحاث مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا حتى أصبح إمام أهل السنة والجماعة في هذا الزمان ، وعُدَّ عمدة أهل الحديث في زمانه.
قال عنه الشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني :
? توجهه إلى علم الحديث :
توجه الفتى إلى علم الحديث في نحو العشرين من عمره متأثراً بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ "محمد رشيد رضا"رحمه الله.يقول الشيخ محمد المجذوب في كتابه " علماء ومفكرون " من حديث له مع الشيخ ناصر : " وركز الشيخ من بين الموجهين له على السيد رشيد رضا الذي يعتبره من أكبر الرجال أثراً في دفعه إلى دراسة الحديث الشريف".
يقول الشيخ ملخصاً صلته العلمية بالسيد رشيد رضا على نحوا ما يحدثنا الأستاذ مجذوب " أول ما ولعت بمطالعته من الكتب والقصص العربية كالظاهر وعنترة والملك سيف وما إليها ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها ثم وجدت نزوعاً إلى القراءات التاريخية .
وذات يوم لا حضت بين الكتب المعروضة لدى الطباعة جزاً من مجلة المنار فاطلعت عليه ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف في كتاب الإحياء للغزالي ويشير إلى محاسنه ومآخذه .(1/203)
ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي ، فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله . ثم أمضي لأتابع موضع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ، ورأيتني أسعى لاستئجاره لأني لا أملك ثمنه ومن ثم أقبلت على قراءة الكتاب . فاستهواني ذلك التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه . وهكذا جهدت حتى استقامت لي طريقة صالحة تساعد على تثبيت تلك المعلومات وأحسب أن هذا المجهود الذي بذلته في دراستي تلك هو الذي شجعني وحبب إلي المضي في ذلك إذ وجدتني أستعين بشتى المؤلفات اللغوية والبلاغية وغريب الحديث لتفهم النص إلى جانب تخريجه . ويتابع الأستاذ المجذوب : " وقد أطلعني الشيخ على عمله في ذلك النسخ فإذا أنل لقاء أربعة أجزاء في ثلاث مجلدات تبلغ صفحاتها ألفين واثنتي عشرة في نوعين مختلفين من الخط أحدهما عادي والثاني دقيق علق به في الهوامش تفسيراً أو استدراكاً .
وللحق إنه لمجهود يعجز عنه أولو العزم من أهل العلم في هذه الأيام ناهيك بطلبه الجامعات ممن لا يملكون أي عزيمة تسعفهم بالصبر على التحقيق والمتابعة .
فكيف إذا أضيف إلى أن الشيخ لم يكن آنئذٍ قد تجاوز العشرين من العمر ، ولا جرم أن هذا الجهد الجبار في تأليف تلك المجلدات مع الاستعانة بكل وسائل التحقيق المتيسرة للفتى أيامئذٍ ، كان إذا أثر في تمرسه بهذا الضرب من العمل العلمي فهو وإن كان لا يستحوذ على رضاه بصورة تامة ، قد شق له الطريق إلى تقدم أعلى في هذا المضمار.
ومن خلال هذه الحياة وتلك النشأة وهاتيك الملابسات يتراءى لي أن ثمة عوامل خفية كانت دائبة على توجيه الفتى في ذلك الطريق لتجعل منه في النهاية واحداً من كبار خدمة السنة المطهرة في ديار الشام .
وحول هذه المؤثرات غير المنظورة يقول الشيخ: "إن نعم الله علي كبيرة ولا أحصي لها عداً ولعل من أهمها اثنين هجرة والدي إلى الشام ثم تعليمه إياي مهنته في تصليح الساعات " .(1/204)
فأخذ عن أبيه مهنة إصلاح الساعات فأجادها حتى صار من أصحاب الشهرة فيها وأخذ يكسب رزقه منها . يقول : أما الأولى فقد يسرت لي تعلم العربية ولو ظللنا في ألبانية لما توقعت أن أتعلم منها حرفاً ولا سبيل إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عن طريق العربية .
وكان الشيخ رحمه الله مرجعاً لكثير من أهل العلم ، وبخاصة طلبة الحديث منهم ، فكانوا يلتقون به ويسمعون منه ، ويحضرون مجالسه ، ويأخذون عنه ، وكانوا يراسلونه ويستفيدون منه ، حتى أصبح أغلب طلبة العلم في هذا الزمان يعتمدون على تحقيقاته العلمية وبخاصة في مصطلح الحديث . اهـ . "الألباني جهاده وحياته العلمية" .
تلاميذه :
لقد سمع الشيخ رحمه الله تعالى خلق كثي ر، ولقد تتلمذ على يديه مجموعة من طلبة العلم ، وأخذوا عنه أخذاً مباشراً في دمشق ، حتى أصبحوا طلاب علم يُقتدى بهم ، أمثال الشيخ محمد عيد عباسي ، والشيخ علي خشان ، والشيخ حمدي السلفي ، وأما في عمان لم يخصص الشيخ رحمه الله تعالى درساً لكي يقرأ عليه كتاباً أو كتباً ، وكان يطلب منه الشيخ محمد إبراهيم شقرة ذلك فيقول : "ما بقي من الشجر غير الحطب ، وليس عندي ما يتسع من الوقت لغير مشاريعي العلمية" .
ولقد أخذ عن الشيخ خلق كثير في مشارق الأرض ومغاربها عن طريق الأشرطة المسجلة ، والمؤلفات المنشورة، وهذا يُعدُّ في مصطلح الحديث من الوجادة وليس من السماع والتلقي المباشر . وللتوسع في ترجمته رحمه الله تعالى فلينظر "الألباني حياته وآثاره" للشيخ محمد الشيباني ، و"مقالات الألباني" نور الدين طالب ، و"كوكبة من أئمة الهدى" د . عاصم القريوتي .
ثناء العلماء عليه .
نقل الأخ طارق بن عوض الله في كتابه "ردع الجاني المتعدي على الألباني" ثناء العلماء على العلامة الألباني رحمه الله تعالى فنذكر بعضها :(1/205)
قال عنه العلامة محب الدين الخطيب: "من دعاة السنة الذين وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها، وهو أخونا بالغيب الشيخ أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين نوح نجاتي الألباني"
وقال عنه محمد حامد الفقي : "الأخ السَّلفي البحاثة ناصر الدين".
وقال عنه العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى : "لست أشك في علمه وفضله وسعة اطلاعه وعنايته بالسنة ، زاده الله علماً وتوفيقاً".
وقال عنه كذلك : "ما رأيت تحت أديم السماء عالماً بالحديث في العصر مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني" .
وقال عنه الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله تعالى : "أما بعد فقد سُئلت مراراً عن الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله ... فأقول كما قال السلف إذا سُئلوا عمن هز أجلُّ منهم قدراً فيقول أحدهم : أنا لا أسأل عن فلان هو يسأل عني ، ولولا أننا في عصر أصبح كثير من العامة لا يميز بين العالم والمنجم ، ولا بين المؤمن بالله والشيوعي الملحد ، بل أقبح من ذلك أنَّ بعض ذوي الأهواء من المبتدعة المعاصرين أصبحوا يطلقون الألقاب المنفرة على أهل السنة ... " إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى . اهـ ."ردع الجاني"(ص15ـ26) .
وتوفي رحمه الله في عمان عصر يوم السبت في 22جمادى الآخر 1420هـ الموافق 2 تشرين الأول 1999م ، ودُفن في مقيرة جبل هملان ، وقد شهد جنازته جمع غفير .
وهكذا قضى رحمه الله أكثر من ستين سنة بين كتب أهل العلم دراسة وتدريساً ، علماً وتعليماً، إلى آخر أيام حياته . فرحمه الله رحمة واسعة، وجعلته في مستقر رحمته.
قال عنه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، بعد أن علم أن الشيخ دُفن فور وفاته، قال عنه: "لقد أحيا السنة حياً وميتاً".
وقال الشيخ محمد إبراهيم شقرة عقب وفاة الشيخ رحمه الله :(1/206)
"وكان للشيخ حظ من مثل هذا، نودي به في الناس أنه "الإمام " بلا منازع ناخت ببابه رواحل علم السنة فندب الله لها من أراد به خيراً ليأخذ من أوقارها ما يقدر على أخذه فما نقض منها شيء إلا وصار إليها أضعاف أضعاف ما نقص ـ بدأب الشيخ وصبره وإحاطته ـ" إلى آخر كلامه حفظه الله تعالى .
قال عنه علي الحلبي في كتابه "مع شيخنا ناصر السنة والدين في شهور حياته الأخيرة" .
ولقد رأيت منه تغمده الله برحمته مواقف علمية عالية تدل على عظم إمامته وكبر مكانته أذكر منها لإخواني في الله أموراً يَفيدون منها ويُفيدون .
? أولا : عندما أخبرته بوفاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله لم يتمالك نفسه من البكاء فدمعت عيناه دمعات حارة وتكلم عنه رحمهما الله بكلمات باردة .
? ثانياً : لم يفتر عن الجلوس وراء مكتبه للتأليف والتخريج حيث كان يأتي بالكتب إليه بعض أبناءه وحفدته إلى آخر خمسين يوماً في عمره الميمون وذلك لما وهن بدنه ، ونحل جسمه ، وضعفت قوته .
ومع ذلك فقد كان بحمد الله سليم الذهن نظيف العقل ، وقوي التذكرة معلقاً قلبه بالقرآن والسنة .
ولست أنسى أن نسيت كما يقال اتصاله الهاتفي بي قبل نحو الثلاثين يوماً من وفاته ليسألني عن كتاب في التفسير له ما يميزه تذكره بوصفه وطريقته ولون غلافه ولكني ضعفت -وللأسف- عن إعانته في معرفته فلا حول ولا قوة إلا بالله . اهـ .
فرحمه الله رحمة واسعة وجعله في الفردوس الأعلى مع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وأسأل الله العظيم أن يحشرنا وإياه مع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإن يجمعنا على حوضه الشريف لكي نشرب لا لنطرد اللهم آمين .
العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى
وجهوده في طلب العلم والتدريس(1/207)
هو الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين الوهيبي التميمي ، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ، وأستاذ بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم ، وإمام وخطيب الجامع الكبير بمدينة عنيزة . ولد في عنيزة في 27 رمضان عام 1347هـ
قال عنه الشيخ محمد إبراهيم شقرة حفظه الله تعالى : ولم يعرف عن ابن عثيمين رحمه الله حب الخروج من الجزيرة والتجوال في الأقطار فقد كان يروى أن أحق الناس بعلمه أهل بلاده وهذا حق لا محيد عنه ولا أحسن منه فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفقة قوله " ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فالذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " . الإرواء (833) ، و مشكلة الفقر (51) . اهـ . كتاب "مع الربانيين الراحلين" (ص18) .
وكتب الأخ الفاضل وليد الحسين حفظه الله تعالى وهو من تلاميذ الشيخ رحمه الله تعالى نبذه عنه فجاء فيها :(1/208)
مولده ونشأته : ولد الشيخ ابن عثيمين يرحمه الله في مدينة عنيزة ، إحدى مدن القصيم ، عام 1347هـ ، في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك ، في عائلة معروفة بالدين والاستقامة، بل تتلمذ على بعض أفراد عائلته ، أمثال جده من جهة أمه ، الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ ، رحمه الله ؛ فقد قرأ عليه القرآن ، فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم ، فتعلم الخط والحساب ، وبعض فنون الآداب وكان الشيخ قد رزق ذكاء وزكاء، وهمة عالية، وحرصا على التحصيل العلمي في مزاحمته بالركب لمجالس العلماء، وفي مقدمتهم الشيخ العلامة المفسر عبد الرحمن بن ناصر السعدي وكان الشيخ عبد الرحمن السعدي قد أقام اثنين من طلابه لتعليم الصغار، وهما الشيخ علي الصالحي، والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، فقرأ الشيخ محمد بن صالح العثيمين عليهما مختصر العقيدة الواسطية للشيخ عبد الرحمن السعدي، ومنهاج السالكين في الفقه للشيخ السعدي أيضا، والآجرومية والألفية في النحو والصرف، وهكذا كانت نشأة الشيخ بين أحضان العلماء .
والشيخ متزوج من امرأة واحدة ، وله من الأولاد الذكور عبد الله ، وعبد الرحمن ، وإبراهيم ، وعبد العزيز ، وعبد الرحيم ، وله من الإخوة الدكتور عبد الله ، رئيس قسم التاريخ في جامعة الملك سعود في الرياض، والأمين العام لجائزة الملك فيصل، وأخوه عبد الرحمن .(1/209)
ولم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض ، حين فتحت المعاهد العلمية عام 1372هـ، فالتحق بها يقول الشيخ رحمه الله : "دخلت المعهد العلمي من السنة الثانية، والتحقت به بمشورة من الشيخ علي الصالحي، وبعد أن استأذنت من الشيخ عبد الرحمن السعدي، رحمه الله، وكان المعهد العلمي في ذلك الوقت ينقسم إلى قسمين خاص وعام، فكنت في القسم الخاص، وكان في ذلك الوقت من شاء أن يقفز، بمعنى أنه يدرس السنة المستقبلة له في أثناء الإجازة، ثم يختبرها في أول العام الثاني، فإذا نجح انتقل إلى السنة التي بعدها، وبهذا اختصرت الزمن، ثم التحقت بكلية الشريعة في الرياض انتسابا، وتخرجت فيها وبعد وفاة شيخي عبد الرحمن السعدي، الذي توفي في عنيزة عام 1376هـ ، عن عمر يناهز التاسعة والستين" . رشح بعض المشايخ لإمامة الجامع الكبير، إلا أنهم لم يستمروا على ذلك إلا مدة قصيرة جدا، فرشح الشيخ محمد بن صالح العثيمين لإمامة الجامع الكبير، وعندها تصدى للتدريس مكان شيخه، ولم يتصدى للتأليف إلا عام 1382هـ ، حين ألف أول كتاب له وهو "فتح رب البرية بتلخيص الحموية" وهو تلخيص لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "الحموية في العقيدة" .
واستغل الشيخ وجوده في الرياض بالدراسة على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، فقرأ عليه من صحيح البخاري ، وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الكتب الفقهية، يقول الشيخ محمد العثيمين : "لقد تأثرت بالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله من جهة العناية بالحديث ، وتأثرت به من جهة الأخلاق أيضا ، وبسط نفسه للناس" وقد عرض على الشيخ تولي القضاء من قبل مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله، الذي ألح على فضيلته بتولي القضاء، بل أصدر قراره بتعيينه رئيسا للمحكمة الشرعية بالأحساء، فطلب منه الإعفاء ، وبعد مراجعات واتصالات سمح بإعفائه من منصب القضاء .
مشائخه :(1/210)
استفاد الشيخ ابن عثيمين في طلبه للعلم من عدة شيوخ ، بعضهم في مدينة عنيزة ، وبعضهم في الرياض عندما سكنها للدراسة النظامية ، ومن الشيوخ الذين درس عليهم :
1/ الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، المتوفى عام 1376هـ ، المفسر المشهور، صاحب التفسير المعروف بتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان في ثمان مجلدات ، وله مؤلفات كثيرة في الفقه وأصوله ، وقواعده ، وفي العقيدة ، وغيرها من الكتب النافعة وتخرج على يد هذا العالم الجهبذ علماء بارزون ، لهم دورهم الكبير في الساحة العلمية ، وبعضهم أعضاء في هيئة كبار العلماء، منهم شيخنا رحمه الله محمد العثيمين الذي لازمه ، واستفاد منه قرابة إحدى عشرة سنة، وهو من أبرز طلابه فيما يظهر، ولذا خلف الشيخ في إمامة الجامع الكبير، والتدريس فيه والإفتاء ... ثم ذكر بقية الشيوخ.
تلاميذه :
لا يمكن حصر جميع من تتلمذ على الشيخ؛ لأنهم ازدحموا في مجلسه لاسيما في السنوات الأخيرة بما يزيد على الخمسمائة طالب في بعض الدروس، على اختلاف مستوياتهم وأذكر في بداية طلبي للعلم عند الشيخ في مطلع عام 1402هـ كنا ربما لا نزيد على عشرة طلاب في المجلس الواحد، ولم تكن للشيخ شهرة على ما هي عليه الآن ، ولعل اكتسابه للشهرة ، وتوافد طلاب العلم عليه من كل حدب وصوب، يرجع إلى عدة عوامل منها :
1- صدقه وإخلاصه في طلب العلم والتعليم وبذل نفسه في ذلك.
2- تصديه للدروس والمحاضرات والفتوى في الحرم المكي في شهر رمضان؛ لأن الناس لاسيما طلاب العلم يزدحمون في الحرم المكي في شهر رمضان، خصوصا العشر الأواخر من رمضان، فليتفون حول الشيخ.
3- وضوحه في الأداء، سواء ما يرجع إلى اللفظ أو ما يرجع إلى المعنى، فكان غاية في الوضوح، مع قوة الأسلوب، وجزالة العبارة، التي يفهمها عامة الناس، فضلا عن طلاب العلم.(1/211)
4- سلامة المنهج في العقيدة، وهذه صفة في جميع علماء نجد، والحمد لله، فلم يعرف عن واحد منهم ، فيما أعلم خروجه عن عقيدة السلف ؛ لأنهم حديثو عهد بإمامهم شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
5- عدم تعصبه وجموده لمذهب معين في جميع مسائل الأحكام ، بل كان متجردا للحق ، حيثما ثبت الدليل يمم وجهه إليه ، حتى لو كان ظاهره مخالفا لصريح المذهب الحنبلي الشائع في هذه البلاد، فلا يضره ذلك .
6- تقلده بعض المناصب المهمة، مثل عضويته في هيئة كبار العلماء، ورئاسته لقسم العقيدة في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، ورئاسته لجماعة تحفيظ القرآن الكريم في مدينة عنيزة، ومشاركته في برنامج نور على الدرب الذي يذاع في المذياع واتصالاته الواسعة بكبار المسؤولين من أجل المصلحة العامة، ومشاركاته في مناسبات كثيرة في أنحاء العالم.
7- استجابته لكثير من الدعوات الموجهة إليه لإلقاء المحاضرات من كثير من مدن المملكة، لاسيما المدن الكبيرة التي يتردد إليها، كالرياض، وجدة، والمدينة المنورة، والمنطقة الشرقية، وبعض مدن القصيم ولا تقتصر على المساجد، بل كان يلقي محاضراته حتى في المجمعات العسكرية.(1/212)
8- كثرة الأشرطة العلمية التي سجلت له، والتي وصلت إلى دول أوروبا وأمريكا وغيرها من دول الغرب، فاستفاد منها كثير من المغتربين من الجالية العربية المسلمة، ومتابعتهم لأشرطته بانتظام، التي تمثل شروحاته لكثير من الكتب العلمية التي تخص طلاب العلم، التي شرحها شرحا كاملا بهذه الأشرطة مثل كتاب التدمرية وفتح رب البرية والعقيدة الواسطية ، كلها لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، والعقيدة السفارينية ، وهي منظومة للشيخ محمد بن أحمد السفاريني، المعروفة بالدرة المضية في عقد الفرقة المرضية ، وفي شرحه لكتب الأحكام مثل بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، إلا أنه لم يكمل شرحه ، وزاد المستقنع في فقه الإمام أحمد ، وغيرها من الكتب الكثيرة التي سجلت بالأشرطة ، وانتشرت في أقطار الدنيا ، يستفيد منها طلاب العلم .
9- كثرة مؤلفاته ، التي أكثرها صغيرة الحجم ، غزيرة الفائدة ، واضحة العبارة ، ليس فيها غموض أو تعقيد، يفهمها العامة فضلا عن طلبة العلم وكان الإقبال عليها شديدا ، وترجم بعضها إلى عدة لغات ، لاسيما الإنكليزية ، وانتشرت في أكثر بقاع الأرض وقد قمت بنفسي في السعي بترجمة كتابين من كتبه في العقيدة إلى اللغة البنغالية ، ووزعت مجانا على نفقة بعض المحسنين فهذه بعض العوامل التي أدت إلى شهرة الشيخ ، وكان من أبرز نتائجها توافد طلاب العلم عليه من داخل المملكة وخارجها من جنسيات شتى .
زهده وورعه :(1/213)
الزهد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، هو الزهد عما لا ينفع ، إما لانتفاء نفعه، أو لكونه مرجوحا، لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه وأما المنافع الخالصة أو الراجحة، فالزهد فيها حمق أما الورع فقال شيخ الإسلام : هو الإمساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات والشبهات؛ لأنها قد تضر فإنه من اتقى الشبهات، فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يحوم حول الحمى يوشك أن يواقعه والفرق بين الزهد والورع، كما قال ابن القيم في الفوائد :إن الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة، والورع، ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع فالزهد والورع صفتان نبيلتان رئيستان، اتصف بهما الأنبياء، والتزم بهما العلماء، الذين جعلوا من منهج الأنبياء صورة حية يعيشونها ويطبقونها في واقع حياتهم، يزهدون فيما عند الناس من أمور الدنيا؛ فينالون محبة الناس، لا يرغبون إلا فيما عند الله، يتورعون عن كل ما يجلب لهم الشبهة ويلصق بهم التهمة وما شيخنا رحمه الله إلا صورة من هؤلاء العلماء، حيث التزم الزهد والورع من جميع جوانبه، فقد عرضت عليه المناصب، كتولي القضاء، حيث أصدر مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله، قرارا يقضي بتعيين الشيخ رئيسا لمحكمة الأحساء ، وبعد مراجعات واتصالات ووساطات أعفي من القضاء ولو أراد الشيخ لجمع بمنصبه وشهرته ومكانته عند الأسرة الحاكمة في هذه البلاد الأموال الكثيرة، ولكن زهده وورعه يمنعانه من ذلك، ولم يكن الشيخ يرحمه الله، يتردد على أبواب الأسرة الحاكمة طمعا وحبا فيما عندهم من المال أو المنصب، أو مصلحة لنفسه، وإنما تردده عليهم، مع قلته، لمصلحة عامة يراها الشيخ، يرحمه الله، في حضوره وما كان يتردد عليهم إلا بدعوة منهم وهناك مواقف كثيرة رأيناها وسمعناها أو خفيت علينا تثبت حقيقة الزهد والورع الذي كان يتصف به الشيخ.(1/214)
فكان متصفا بالزهد بجميع أقسامه التي أشار إليها ابن القيم -رحمه الله- في الفوائد، بقوله الزهد أقسام:
1-زهد في الحرام، وهو فرض عين.
2-زهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت، التحق بالواجب، وإن ضعفت، كان مستحبا.
3-زهد في الفضول، وهو الزهد فيما لا يغني من الكلام والنظر، والسؤال واللقاء وغيره،
4-زهد في الناس، وزهد في النفس، بحيث تهون عليه نفسه في الله.
5-زهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله، وفي كل ما يشغلك عنه، وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظات، فلو تأملت هذه الصفات في هذه الأقسام كلها لوجدتها مجتمعة في ذات الشيخ، لا تنفك عنه في جميع حركاته وسكناته زهد لا كزهد الرهبنة والتصوف، وإنما زهد معتدل على منهاج النبوة، زهد كزهد المصطفى عليه الصلاة والسلام .
آثاره العلمية :(1/215)
لقد صنف الشيخ يرحمه الله، آثاراً علمية في مجالات شتى، من مسموع و مكتوب في العقيدة والفقه والحديث والأخلاق، والسلوك، والمعاملات، وغيرها مما كان لها الأثر الكبير في استفادة الناس منها، سواء على مستوى عامة الناس، أو طلبة العلم، وكان الإقبال عليها شديداً ومنقطع النظير، وما ذاك إلا لثقة الناس به، لما يلمسون في ذات الشيخ من الأهلية والكفاءة التامة التي ترشحه إلى إصدار الأحكام الشرعية والتصدي للفتوى والتأليف وتمتاز مؤلفات الشيخ بالوضوح، وضوح في الألفاظ، ووضوح في المعاني، بعيدة عن التطويل الممل والتعقيد ، والاختصار المخل ، استدلالاته مدعومة بالأدلة الصحيحة ، والتعليلات والأقيسة الصريحة ، مع إبداع في التبويب ، وحسن في التقسيم ، فيما يحتاج إلى تقسيم ، إلى غير ذلك من الأساليب البديعة التي يحلي بها الكتاب حتى يخرجه في أروع وأحسن لباس ومن الجوانب المثالية التي تشير إلى اهتمام الشيخ ، وحرصه على طلابه ، هو تكليفهم بالبحوث، وتحرير المسائل المشكلة بل إنه يكلف حتى المبتدئين في علمهم، ليزرع الهمة والحرص في نفوسهم، ويحاول الشيخ ألا يفرض رأيه وينفرد به في الأمور التي تحتاج إلى مشورة ، بل يحاول جاهداً أن يجعل الطلاب يشاركونه الرأي والمشورة ، وربما قدم رأي الطالب على رأيه، لقربه من الصواب، ولاشك أن مثل هذا فيه تعويد للطلاب على التجرد للحق وأن رجوع الشيخ عن رأيه واجتهاده إلى قول تلميذه لا يعد عيباً ، بل هي منقبة عظيمة ، يشكر عليها كما يستعمل الشيخ يرحمه الله أسلوباً مثالياً في تدريب طلابه على إلقاء الكلمات الوعظية والدروس العلمية، فيكلف الطلاب بإعداد كلمة، وإلقائها أمام الطلاب ، بحضور الشيخ ، ثم توجه الملاحظات من قبل الشيخ ، أو الطلاب للطالب، ليجيب الطالب عليها كما جعل الشيخ يرحمه الله دروساً مسندة لدروسه من قبل بعض طلابه من ذوي الكفاءات العلمية ، فيكلفهم في تنظيم دروس علمية للطلاب المبتدئين، فقد(1/216)
قام الأخ الفاضل الشيخ محمد بن عبد الرحمن الإسماعيلي ، بتدريس الفرائض علم المواريث، والأخ الشيخ عبد الرحمن بن صالح الدهش بتدريس النحو، والأخ الشيخ خالد بن عبد الله المصلح بتدريس كتاب التوحيد، والأخ الشيخ سامي بن محمد الصقير بتدريس الفقه، والأخ الشيخ خالد المطرفي بتدريس النحو . اهـ . تلميذه وليد بن أحمد الحسين.
الخاتمة نسأل الله حسنها
أخوتي الكرام هذا ما تيسر جمعه من أخبار العلماء الأفاضل الذين سارو على نهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى طريق صحبه الكرام ، جمعنا الله وإياهم في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل بعد ذكره لمشايخه وانتقالهم إلى الدار الآخرة ، قال : "حاشا المبدئ الخالق لهم على تلك الأشكال والعلوم ، أن يرضى لهم في الوجود بتلك الأيام اليسيرة ، المشوبة بأنواع الغصص ، وهو المالك ، وبتلك اللمحة التي عاشوها في الدنيا ، وقد مزجت بالعلاقم ، لا والله : لا رضي لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمهِ سبحانه ، نعيم بلا ثُبُور ، وبقاء بلا موت ، واجتماع بلا فُرقة ، ولذات بغير نَغْصَة " . اهـ . "المنتظم لابن الجوزي" (9/215) ، و "ذيل طبقات الحنابلة" (1/165) ، و "صفحات من صبر العلماء" (394) .
فرضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل الجنة مثواهم ، ودار كرامة لهم ، وحشرنا وإياهم مع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ونسأله سبحانه أن يبارك في شبابنا ، وأن يجعلهم خلفاً لأولئك العلماء الأجلاء علماً وعملاً ودعوةً ، وأن يسدد خطاهم ، وأن ينفع بهم الأمة ، وأن تستنير بهم العقول ، وتقر بهم العيون .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه
ماجد إسلام البنكاني
أبو أنس العراقي
23/رمضان/1423هـ(1/217)
الموضوع الصفحة
المقدمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 3
الفصل الأول ... 10
أهمية الرحلة في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 11
الفصل الثاني ... 17
تعريف العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 18
حكمه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 19
الفصل الثالث ... 22
فضل العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 23
باب ما جاء في طلب العلم ............................. ... 34
ثواب طلب العلم وتعليمه لوجه الله عز وجل ... ... ... 34
ثواب تعليم العلم وتصنيفه ونسخه وروايته ... ... ... ... 39
الفصل الرابع ... 46
الإخلاص في طلب العلم وصدق النية ... ... ... ... ... ... ... 47
الفصل الخامس ... 51
الخلق والأدب والتواضع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 52
الرفق في الأمور كلها .................................. ... 63
الفصل السادس ... 75
التزكية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 76
الحرص ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 80
الفصل السابع العمل بالعلم ................ ... 85
التحذير من التعلم للدنيا وكتمان العلم وعدم العمل به ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 86
التحذير من الجدال والمراء واللدد ..................... ... 95
التحذير من القول على الله بغير علم ... ... ... ... ... ... ... ... ... 99
الفصل الثامن ... 105
عزة العلماء وصيانة النفس عن الأعواض على العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 105
ابن المسيب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 106
الإمام مالك ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 106
عطاء بن أبي رباح ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 107
حماد بن سلمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 107
داود الطائي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 109
سليمان بن حرب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 110
أبو عبيد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 110
إبراهيم بن أدهم وسفيان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 111
الفصل التاسع ... 112
الهمة في طلب العلم والرحلة إليه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 113
الحث على الرحلة في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 115
وصية لقمان لابنه في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 118
باب الخروج في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 119
باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله ... ... ... ... ... ... 120
باب التناوب في العلم ................................ ... 121
رحلة موسى إلى الخضر عليهما السلام ... ... ... ... ... ... ... 122(1/218)
العلماء من الصحابة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 122
أبو هريرة - رضي الله عنه - وهمته في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... 123
قصة إسلام أبي ذر - رضي الله عنه - وما فيها من العبر ... ... ... ... ... ... 124
قصة إسلام سلمان الفارسي - رضي الله عنه - وبحثه عن الحقيقة ... 126
همة أبي الدرداء - رضي الله عنه - في الرحلة لطلب العلم ... ... ... ... 133
رحلة مالك بن الحويرث ومن معه رضي الله عنهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 133
همة زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في الدعوة وطلب العلم ... ... ... 134
باب من رفع صوته بالعلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 135
الحارث بن عميرة ورحلته في طلب العلم ... ... ... ... ... ... 136
رحلة سعيد بن المسيب الأيام والليالي لطلبه الحديث الواحد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 137
الصبر على طلب العلم في الرحلة إليه ... ... ... ... ... ... ... ... 137
رحلة علقمة والأسود في طلبهم للعلم ... ... ... ... ... ... ... ... 137
مسروق وطلبه للعلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 138
الإمام مالك بن أنس يبيع خشب سقف بيته من أجل طلب العلم ........................................... ... 138
الإمام مالك ورؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ........................ ... 138
ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي أنفقت أمه على تعليمه ثلاثين ألف دينار ... ... ... ... ... ... ... 141
ذكر مشيخة أهل المدينة أن فروخا أبا عبد الرحمن أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيا وربيعة حمل في بطن أمه وعودته بعد سبعة وعشرين عاماً . ... 141
الإمام الشافعي رحمه الله وجهوده الكبيرة ... ... ... ... ... ... 142
ملازمة الشافعي للإمام مالك ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 142
الشافعي وقصة حفظه وكتابته ، وقوله : ولم يكن عند أمي ما تعطي المعلم وكنت يتيماً ... ... ... ... ... ... ... ... 143
فصل في نوادر من حكم الشافعي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 146
الإمام سفيان الثوري وجوعه الشديد ... ... ... ... ... ... ... ... 147
الإمام سفيان الثوري وقصة العروس التي عرضت نفسها عليه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 148
عبد الله بن المبارك ورحلته في طلب العلم ... ... ... ... ... ... 149(1/219)
زكريا بن عدي ورؤيته لابن المبارك في المنام بعد موته ... 149
صبر الشعبي في طلبه للعلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 150
رحلة رجل إلى الشعبي لطلبه العلم .................... ... 150
الإمام أحمد بن حنبل يطوف الدنيا مرتين في طلبه للحديث وجمع المسند ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 151
الإمام أحمد وجوعه ثلاثة أيام ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 152
خروج الإمام أحمد وإسحاق بن أبي إسرائيل في طلب العلم ، وقصة كسر المركب ووقوعهم على الصخرة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 152
الإمام معروف الكرخي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 153
معروف الكرخي يمشي على الماء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 155
الهيثم بن جميل البغدادي أفلس مرتين في طلب الحديث ... ... 155
يعقوب بن سفيان بن جوان الفسوي يرحل لمدة ثلاثين سنة في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 156
يعقوب بن سفيان ورؤيته للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ورجوع بصره له ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 156
يحيى بن معين يختبر الحافظ الفضل بن دكين ... ... ... ... 157
الإمام الجوال الفضل بن محمد بن المسيب لم يبقى بلد إلا ودخله في طلب الحديث ... 157
أبو حاتم يبيع ثيابه من أجل طلب العلم ... 157
أبو حاتم وجوعه الشديد ... 158
شعبة بن الحجاج أفلس في طلبه للحديث ... ... ... ... ... ... 158
شعبة يبيع طست أمه بسبعة دنانير لطلب الحديث ... ... 159
أبو حاتم يقارن بين شعبة وبين إمام أهل المدينة ... ... ... 159
بقي بن مخلد يمشي على الأقدام لطلب العلم ... ... ... ... ... 159
بقي بن مخلد ليس له عيش إلا ورق الكرنب في وقت طلبه العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 160
الهمذاني العطار شيخ همذان باع جميع ما ورثه وأنفقه في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 162
محمد بن سلام ينفق ثمانين ألفاً في العلم ... ... ... ... ... ... ... 163
يعقوب بن سفيان ومذاكرته زيد بن بشر ... ... ... ... ... ... 164
قصة غريبة تحدث لمحدث الشام خيثمة بن سليمان في رحلته ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 165
خيثمة بن سليمان ورؤيته للحور العين في الجنة ... ... ... 166
الحافظ ابن عساكر رحل وتعب وبالغ في الطلب وجمع ما لم يجمعه غيره ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 167(1/220)
الحافظ السمعاني سمع من سبعة آلاف شيخ ... ... ... ... ... 167
أبو زرعة الرازي ورحلته في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... 168
أبو زرعة الرازي يحفظ مئتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ... 168
أبو زرعة الرازي ورحلته في طلب العلم ... ... ... ... ... ... 169
أبي يمشي أكثر من ألف فرسخ على قدميه في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 170
الحافظ ابن النجار رحل سبعا وعشرين سنة في طلب العلم ... ... ... ... ... ... ... 171
محمد بن شهاب الزهري وقصة الديون التي عليه ... ... ... 172
ابن شهاب يقول : لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت ... ... ... ... ... ... 174
بشر بن الحارث وطلبه للحديث ... ... ... 175
يحيى بن معين ينفق ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم في الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسها ... ... ... ... 176
يحيى بن معين يغسل ويحمل على السرير الذي غسل وحمل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ... ... ... 177
رؤية بشر بن مبشر يحيى بن معين في المنام ، وقوله زوجني عز وجل أربعمائة حوراء بذبي الكذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 177
الإمام البخاري رحمه الله وخدمته للحديث ... ... ... ... ... 178
الإمام البخاري يكتب عن ألف شيخ وزيادة ، وليس عنده حديث إلا ويذكر إسناده ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 178
البخاري لم يضع في كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 179
البخاري يُرد عليه بصره في المنام بعد فقده إياه ... ... ... ... 180-181
البخاري ينفد ما عنده ولم يبقى عنده ثوب يلبسه ... ... 181
الإمام أبو حاتم الرازي يبيع ثياب بدنه لأجل طلب العلم ... 182
الإمام مسلم بن الحجاج ورحلته الواسعة في طلب الحديث ... 183
الإمام مسلم يموت بسبب حديث لم يعرفه ... ... ... ... ... ... 183
إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحربي يبيع الدور والنخل لطلب الحديث وأفنى من عمره ثلاثين سنة برغيفين ... 184
إبراهيم بن إسحاق كان يشتهي موت ابنه ... ... ... ... ... ... 186-187
محمد بن إسحاق ابن مندة خاتم الراحلين وفرد المكثرين طاف الشرق والغرب مرتين ... ... ... ... ... ... 187(1/221)
ابن مندة يرحل وعمره عشرون سنه ورجع وعمره خمسة وستون سنه ، وكانت رحلته (45) سنه ... ... 188
وصية الإمام ابن الجوزي رحمه الله إلى ولده ... ... ... ... ... 189
ابن الجوزي يبع الدارين وينفق ثمنها في طلب العلم ، ولم يبقى له شيء من المال ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 189
ابن الجوزي يبدأ الوعظ وهو في العاشرة من عمره ... 190
أبو الوفاء علي بن عقيل صاحب أكبر مصنف في الدنيا وهو كتاب الفنون ... ... 191
ابن عقيل يختار سفَّ الكعك وتحسِّيَهُ بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ، توفراً للمطالعة ... 191
عبد الله بن المبارك العكبري ، المقرئ الحنبلي يبيع ملكه ويشترى بثمنه كتاب الفنون وكتاب الفصول لابن عقيل ، ووقفهما على المسلمين ... ... ... ... ... ... 192
شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وجهوده الكبيرة في الدعوة ... 192
شيخ الإسلام يطالع على الآية الواحدة مئة تفسير ويقول : يا معلم آدم وإبراهيم علمني ... ... ... ... ... ... ... ... 194
العلامة ابن قيم الجوزية ... 197
ملازمة ابن القيم لشيخه ابن تيمية ... 198
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب كتاب أضواء البيان ... 199
الشنقيطي وقصة المرآة التي طلبت الزواج منه ... ... ... ... 202
الشنقيطي وقصة سهره رحمه الله على حل مسألة من مسائل "مختصر خليل" حيث بقي في حلها من العصر إلى طلوع الشمس ... ... 205
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ... ... ... ... ... ... ... ... 206
الشيخ السعدي وتعرضه للضرب أثناء ذهابه لصلاة الفجر ... 207
الشيخ السعدي يطلب العلم في وقت مبكر ، ويحفظ القرآن عن ظهر قلب ... 207
الفصل العاشر ... 212
نبذة عن مجددي العصر ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 213
الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ... 213
سيرة سماحة الشيخ رحمه الله ... 214
سر توفيق الشيخ ونجاحه وبصيرته الثاقبة ... ... ... ... ... ... ... 216
العلامة الألباني رحمه الله تعالى ... ... ... ... ... ... ... ... ... 217
دراسته وشيوخه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 218
توجهه إلى علم الحديث ... 218
تلاميذه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 220
ثناء العلماء عليه ... ... ... ... ... 221
العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ... 223
سيرة حياته ... 223
مشائخه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 226(1/222)
تلاميذه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 226
سر نجاحه واكتسابه للشهرة ... ... ... ... ... ... ... ... ... 227
زهده وورعه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 228
آثاره العلمية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 230
الخاتمة نسأل الله حسنها ... ... 232
فهرس المواضيع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 234
الكتب التي صدرت للمؤلف بفضل الله وحده
1- إتحاف ذوي الألباب بما في الأقوال والأفعال من الثواب. طبع دار النفائس عمان.
قرأه وقدم له فضيلة الشيخ محمد إبراهيم شقرة .
2- تحذير الأنام بما في الأقوال والأفعال من الآثام . طبع دار النفائس عمان .
قرأه وقدم له فضيلة الشيخ محمد إبراهيم شقرة .
3- آداب اللسان فيما يخص اللسان من خير أو شر في ضوء الكتاب والسنة وأقوال السلف.دار النفائس.
4- الرواة الذين ترجم لهم العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى من إرواء الغليل ومقارنتها بأحكام الحافظ ابن حجر رحمه الله، ويليه الفوائد الفقهية والحديثية. طبع مكتبة الصحابة الإمارات الشارقة .
5- رحلة العلماء في طلب العلم . طبع دار النفائس عمان .
6- صحيح الطب النبوي في ضوء الكتاب والسنة وأقوال السلف. طبع دار النفائس عمان.
8- أشراط الساعة الكبرى . طبع مكتبة عباد الرحمن ، ومكتبة العلوم والحكم القاهرة .
9- قصص وعبر وعظات من سيرة الصحابيات.طبع مكتبة عباد الرحمن ، ومكتبة العلوم والحكم القاهرة.
10- تحذير الخلان من فتنة آخر الزمان المسيح الدجال . طبع دار النفائس عمان .
11- تنزيه كلام خير الأنام عما لا يصح من أحاديث الصيام . طبع مكتبة الصحابة ، ومكتبة أهل الحديث الإمارات الشارقة ، ومكتبة التابعين القاهرة .
12- نزْهَة العِبَاد بِفَوَائِد زَاد المعَادْ .طبع مكتبة المعارف بيروت ومكتبة الصحابة الإمارات الشارقة، مكتبة التابعين القاهرة .
13- ابن لك بيتاً في الجنة . طبع الأردن .
14- خمسة أخطاء في الصلاة . طبع الأردن .
15- فضل الصيام والاستقامة على الأعمال . طبع الأردن .(1/223)
16- رد السهام الطائشة في الذب عن أمنا السيدة عائشة .
18- تذكير الأحبة بما لهم من الأجر في الصدقة . طبع مكتبة أهل الحديث الإمارات الشارقة.
19- تحفة الأقران بفضل القرآن . طبع مكتبة أهل الحديث الإمارات الشارقة .
20 - أحكام المرأة المسلمة .
21 – القول المبين في قصص الظالمين . طبع مكتبة عباد الرحمن ، مصر .
22- وجوب طاعة ولاة الأمر بالمعروف وعدم الخروج عليهم .
23- كشف الإلباس عن مسائل الحيض والنفاس .
وهناك كتب تحت الطبع في مكتبة المعارف في الرياض :
1- الياقوت والمرجان في وصف الجنة والحور الحسان .
2- إتحاف الصالحين بسيرة أمهات المؤمنين .
3- جواب السؤول عن سيرة بنات وعمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
4- مكانة الصلاة وفضلها في الإسلام .
5- إعلام الأصحاب بما في الإسلام من الآداب .
6- معاني الأذكار وثوابها .
7- يبتدعون ولا يعلمون .
8- إعلام شباب الإسلام بحرمة التفجيرات والخروج على الحكام .
9- إعلام الجماعة عن الفتن والأحداث .
10- حفظ اللسان والتحذير من الغيبة والبهتان ، ويليه تحذير المسلم بما في الحسد من الإثم، ويليه تحصين البيت والأولاد من كيد الشيطان .
11- سباق أهل الإيمان إلى قصور الجنان . طبع مكتبة الصحابة الشارقة .
12- الثواب في بناء المساجد والمشي إليها .
13- تذكير الأحبة بما لهم من الأجر في الصدقة .
14- أحلى الكلام عن صلة الأرحام .
15- تحفة الأقران بفضل القرآن .
وكتب تحت الطبع أيضاً :
1- سلوك المرأة المسلمة .
2- فتاوى عطاء في الحج .
3- الجمعة أحكام وآداب .(1/224)
وإني لأرجو من كل أخٍ كريم يطلع على أي مؤلف من هذه المؤلفات إذا وجد خطأ أن يعلمني به، عملاً بحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "الدين النصيحة"، و "رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي" حتى نحق الحق، ولم آلُ جهداً من تحري الحق ، فإن وُفقت إليه فإنه من فضل الله عليَّ ، وله المنّة وحده، وإن كانت الأخرى فحسبي أنّي قد بذلت قصارى جهدي في جمع الأدلة الصحيحة والأخذ من علماء الإسلام، مع الحرص على معرفة الحق والصواب .
علماً أن كل ما كتبت في أي موضع هي نقولات من كتب أهل العلم، وأشرت في غالبها إلى قائليها، وقسم يسير لم أعزو لمن قاله أما بسبب لم أتمكن من قائله أو تقصيراً مني، وأسأل الله أن يجزل المثوبة لكل من أخذت منه وأن يجعله في ميزان حسناتهم، وأستغفر الله وأتوب إليه إنه تواب رحيم .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لقد أَلَّفتُ هذه الكتب ولم آلُ جهداً فيها، ولابُدَّ أن يُوجد فيها الخطأ، لأنَّ الله تعالى يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً). النساء (82) فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالفُ الكتابَ والسُّتة، فقد رجعت عنه، أخرجه عبدالله بن شاكر في مناقب الشافعي كما في كشف الخفاء (1/35) .
بالمناسبة يُروى في هذا المعنى حديثٌ لا أصل له بلفظ: "أبى الله أن يصح إلا كتابه . وقد أورده علي القاري في الموضوعات، والشوكاني في الفوائد المجموعة .
وإني متراجع عما يصدر مني من خطأ في أي موضع مما كتبت وأستغفر الله منه، تأسياً بقول بعض سلفنا الصالح: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وأستغفر الله ذا الكمال من خطئي ، وما زل به قلمي، ودينُ الله بريء منه ، وأنا تائب عنه ، والله خيرُ مأمول ألا يضيع سعينا ، ولا يخيب رجاءنا ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والله الموفق ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وجزاكم الله خيراً .
المؤلف
ماجد إسلام البنكاني
أبو أنس العراقي(1/225)
نزيل الإمارات العربية المتحدة/عجمان
جوال 00971502040542(1/226)