بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وأشهد أن لا إله إلا الله، تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته، ومخلوقاته، خلق خلقه أطوارًا، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتدارًا، سبق الأشياء علمه، ونفذت فيها مشيئته، وغلبت عليها حكمته، يقدم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، كما لا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
وأشهد أن معالم الحق ومسالك الهدى، وطرائق المجد، جعلها الله وفق هدي نبينا الأمين الصادق الوعد، المولود في مكة والمسترضع في بني سعد، - صلى الله عليه وسلم - صلاة وسلامًا دائمين ما اتصلت أذن بخبر، وعين بنظر، وما أظل الناس برق ورعد، أما بعد:
أيها المؤمنون! فإن قول ربنا سبحانه وتعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَان } [الرحمن: 46، 46]، إنما هو بيان لما أعده الله - سبحانه وتعالى - لأوليائه الصالحين، من خاف مقامه وسلك طريقه، من جنات النعيم، الجنة أيها المؤمنون، نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، جعلها الله سبحانه وتعالى دارًا لأهل طاعته، ومسكنًا لأهل رحمته، نسأل الله في هذه الليلة المباركة الكريمة، أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
* * *
متى يدخل أهل الجنة الجنة
أيها المؤمنون! لقد مضت سنة الله - سبحانه وتعالى - في خلقه، وكلمته في عباده، أن أهل الجنة لن يدخلوها زمنيًا إلا بعد أمرين:
الأول: موت النفوس وفراقها للأجساد.
والثاني: انتهاء الدنيا وقيام الساعة، ثم البعث والنشور.
وبعد هذين زمنيًّا يكون دخول أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين لجنات النعيم.(1/1)
فأما الأول فلأن الله - سبحانه وتعالى - قال في كتابه وقوله الحق: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران: 185]، وقال - سبحانه وتعالى -: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34].
* * *
العبرة بالخواتيم
كتب الله سبحانه وتعالى على هذه الأرواح، أن تسكن الأجساد يوم يأتي الملك، والنطفة مستقرة في رحم الأم، فينفخ فيها، ثم تمكث ما شاء الله لها حتى يصبح العبد خلقًا آخر، كما أخبر الله رب العالمين، ثم إذا كتب الله ساعة الفراق حضرت الملائكة كما حضرت في المرة الأولى لتنفخ في الرحم، تحضر لتأخذ الأمانة التي أودعتها في ذلك الجسد، فتكون ساعة الوفاة، وما أرَّق الصالحين وأقض مضاجع المتقين إلا ساعة الإقبال على الله - سبحانه وتعالى -، فإن العبرة بالخواتيم، ويثبت الله من شاء على طريقه المستقيم ويُبقي الله – تبارك وتعالى – من صدقت نيتهم على طريقه.
قال أهل العلم رحمهم الله: من صدق فراره إلى الله، صدق قراره مع الله، فمن صدقت توبته وإنابته إلى ربه، صدق قراره ومسيره وهديه على صراط الله حتى يلقى الله – تبارك وتعالى – هذا الهم الذي أقض مضاجع المتقين من قبل، وأرق الصالحين من عباد الله.
ولذلك سعوا أعظم ما سعوا في أن يختم الله - سبحانه وتعالى - لهم بخير، ولما كان النوم أخا الموت، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - مضت السنة الفعلية والقولية، أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا اضطجع، وأراد أن ينام، وضع يده تحت خده قائلا: «باسمك اللهم أحيا وأموت» رجاء أنه إذا قبض يقبض على اسم الله تبارك وتعالى.(1/2)
وفي الخبر الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - جاءته ابنته فاطمة، وقد أرهقها وأتعبها كدُّها في بيتها ولم يكن لها خادم، جاءت إلى بيته تبحث عنه، تسأله خادمًا لما علمت أن سبيًا أتى، فلم تجده، فأخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ثم أخبرت أم سلمة، فلما قدم - صلى الله عليه وسلم - وأخبرتاه بالأمر، قدم عليه الصلاة والسلام على علي وفاطمة، كما عند البخاري، وغيره، وهما على فراشهما، فلما هما بأن يقوما إليه، أشار إليهما أن ابقيا على مكانكما، حفظًا لعوراتهما، ثم دنا منهما - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الناس بالشرع، فلما قصا عليه طلبهما، قال عليه الصلاة والسلام: «ألا أدلكما على خير من ذلك، إذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين، فذلك تمام المائة» (1) ، دلهما - صلى الله عليه وسلم - وقد طلبا شيئًا من متاع الدنيا، دلهما على ما ينفعهما في آخرتهما.
حتى إذا قبض العبد وقد ذكر هذه الأذكار، قبض على عمل صالح، ومن أجل ذلك خلصت نيات المؤمنين وصدقت مع ربهم، رجاء أن يقبضهم الله على نية حسنة، ومما يعين عليها الإكثار من الأعمال الصالحات، فما أكثر عبدٌ من عمل صالح إلا وتوفاه الله - سبحانه وتعالى - على ذلك العمل.
__________
(1) أخرجه البخاري (3113) ومسلم (2727).(1/3)
وقبل سنوات غير بعيدة، كان في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من العامة، يمني الجنسية لا يقرأ، فإذا دخل المسجد النبوي ورأى رجلاً خاليًا من شغل، أعطاه المصحف في يده، وقال له: اقرأ علي من كلام الله، فيمضي الرجل يقرأ، وهذا العبد الصالح الأمي يستمع، قضى أكثر عمره على هذا النحو، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يقبض روحه، وربما كان ذلك العبد صادقًا مع مولاه – والحكم على الظواهر – دخل الحرم ذات يوم وقدم المصحف لرجل جالس في الحرم، فلما أخذ ذلك القارئ يقرأ، وهذا العبد الصالح يستمع إليه، مرَّا على آية سجدة، فسجد الاثنان، ثم رفع الأول منهما، وأما ذلك العبد الصالح فقبض الله روحه وهو ساجد في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
إنه لا يحلف على الله إلا هالك، والصدق مع الله سبحانه وتعالى أعظم ما يؤتى به العبد الخاتمة الحسنة، وحسن الوفادة والإقبال على رب العالمين سبحانه وتعالى من ينشد الخاتمة الحسنة ينبغي أن يكون سليم الصدر للمؤمنين، ليس في قلبه بغض ولا حقد ولا حسد ولا شحناء لأحد من المؤمنين، فإن كثرة الغل والحسد والبغضاء والشحناء لعباد الله، أعظم ما يورث به سوء الخاتمة – والعياذ بالله -.
أورد ابن خلكان رحمه الله في وفيات الأعيان، في ترجمة يوسف بن أيوب الحمداني، أنه كان عبدًا صالحًا محبوبًا من الناس، فبينما هو ذات يوم في درسه، إذ قام رجل من الصالحين ظاهرًا، يقال له ابن السقاء، وكان يحفظ القرآن وعنده شيء من الفقه، فقام ذلك الرجل يسأله مسائل يريد بها أن يسيء الأمر في حلقته ويشغب عليه وجموع الناس حوله، فلما أكثر عليه قال يوسف بن أيوب لابن السقاء: اجلس فإني والله، لأشم من كلامك رائحة الكفر، وأظنك ستموت على غير ملة الإسلام.(1/4)
فمضت أيام قدم فيها وفد من ملك الروم إلى الخليفة، فلما خرج الوفد عائدًا إلى القسطنطينية، تبعه ابن السقاء وذهب معه واستقر به الأمر في تلك المدينة، فما لبث فيها أيامًا حتى تنصر – والعياذ بالله – وأعجبه ما عليه النصارى من دين، وخرج من ملة الإسلام، فبقي فيها وكان يحفظ القرآن، ثم قدر لرجل من أهل بغداد أن يذهب إلى تلك البلدة لتجارة له فوجده مريضًا على دكةٍ وفي يده مروحة يذب بها الذباب عن نفسه، فقال له: يا ابن السقاء إني كنت أعهد أنك تحفظ القرآن فهل بقي من القرآن في صدرك شيء؟ قال: لا، ولا آية، إلا آية واحدة { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } [الحجر: 2] [نعوذ بالله من سوء الخاتمة].
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل في محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخنجر ذي نصلين على يد أبي لؤلؤة، فلما حمل - رضي الله عنه - وأرضاه وهو هُو في علمه وجلاله وقدره وصحبته وفضله، فوضع على الأرض وشعر بدنو الأجل، دخل الناس من الصحابة يثنون عليه، وكان فيمن دخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فلما رآه أخذ ابن عباس يثني على عمر ويذكره بنصرته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر - رضي الله عنه - وكان يعجبه كلام ابن عباس -: أعد علي ما قلت، فلما أعادها، قال: إنني مع الذي تقول: لو كان لي ملء الأرض ذهبًا لافتديت به من هول المطلع.
كل ذلك داخل في سياق ما ذكرناه من أن ما أهم الصالحين شيء أكثر من حسن الإقبال على الله سبحانه وتعالى، هذا على حسب كل إنسان بخاصة نفسه، أما على الجانب الآخر، فإنه لن يدخل أهل الجنة الجنة، إلا إذا قامت الساعة، وحشر الأشهاد، وقام العباد لرب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا لن يكون إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى وسيكون كما أخبر الله.(1/5)
إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل له أشراطًا وبين له علامات، سنتقصاها حتى يصل إلى دخول المؤمنين إلى جنة رب العالمين سبحانه وتعالى.
* * * *
من أشراط الساعة
* أعظم أشراط الساعة:
خروج المهدي المنتظر، عبد من ذرية نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، يوافق اسمه اسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فهو محمد ابن عبد الله، من ذرية الحسن بن علي، على ما عليه أكثر المحققين من العلماء، أجلى الجبهة، وأقنى الأنف، يملك الأرض سبع سنين، يملأها عدلاً، كما ملئت جورًا وظلمًا، أخبر ذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه (1) ، فإذا خرج هذا العبد الصالح حارب أهل الكفر والطغيان سنين حتى يكون في أيامه خروج المسيح الدجال.
* والمسيح الدجال: يخرج في آخر الزمان، وظاهر السنة أنه ما زال حيًا يرزق، كما جاء في حديث الجساسة من حديث تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - عند مسلم وغيره من أصحاب السنن، فيخرج هذا الرجل فتنة للناس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما بين خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة هي أعظم من الدجال» (2) .
وقد حذر عليه الصلاة والسلام من سمع به أن يخرج إليه، وكذلك المؤمن العاقل إذا سمع بالفتن يفر منها قدر الإمكان، فإذا ابتلي بها واجه بمنهاج بين وطريق من مشكاة الوحيين؛ كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال عليه الصلاة والسلام: «أنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، فإنه خارج فيكم لا محالة، وما من نبي جاء قبلي نوح فمن بعده إلا أنذر قومه إياه» (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد (10746)، وأبو داود (4285).
(2) أخرجه مسلم (2946).
(3) أخرجه ابن ماجه (4077).(1/6)
هذا الرجل له أمارات خلقية، وأمارات خلقية، من أعظم أماراته الخلقية، أن عينه اليمنى كأنها عنبة طافية، ممسوح العين، والجبين الذي عليها، بين عينيه ثلاثة أحرف (ك – ف – ر) يقرأها كل مؤمن بنور الله يجيد القراءة أو لا يجيدها، ويغيب عن قراءتها كل كافر ومنافق أحسن القراءة أو لم يحسن.
تلك الفتن إنما يهدي الله سبحانه وتعالى فيها ويبين بنور الإيمان والتوحيد الذي في القلوب، يمكث في الأرض أربعين يومًا، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا هذه، يعيث يمينًا وشمالاً، يأمر الأرض الخربة أن تخرج كنوزها فتخرجها فتتبعه كنوزها، قبل خروجه يكون جدب في الديار، وقلة في الأمطار، ومع ذلك يأمر الأرض أن تنبت فتنبت، ويأمر السماء أن تمطر، فتمطر، فتنة من الله سبحانه وتعالى لعباده.
ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن خروج الدجال من أعظم الفتن»، وأرشد عليه الصلاة والسلام المؤمنين إذا خرج بين ظهرانيهم، أن يقرأوا عليه أوائل وفواتح سورة الكهف.
قال بعض العلماء: إن المناسب في قراءة فواتح سورة الكهف على هذا الطاغية أن المؤمنين الفتية من أهل الكهف، لما خرجوا وقاهم الله سبحانه وتعالى برحمته وفضله في الكهف، يوم أن ضرب الله على آذانهم وقاهم الله سبحانه وتعالى شر الطاغية الذي كان في زمانهم، فمن قرأ من المؤمنين فواتح سورة الكهف أيام خروج الدجال يقيه الله سبحانه وتعالى – إن صدق النية مع الله – فتنة الدجال.
يعيث الدجال في الأرض يمينا وشمالا، لكن تحرم عليه مكة والمدينة، فلا يستطيع دخولهما، وكما في حديث تميم بن أوس الداري أن الدجال سأله عن نخل بيسان أيثمر أو لا يثمر؟ فأجابوه: يثمر. قال: يوشك ألا يثمر، وسأل عن بحيرة طبرية أفيها ماء، أو ليس فيها ماء؟ فأخبروه أن ثمة ماء فيها، فأخبرهم أنه سيأتي يوم لا يكون ماء فيها، وهاتان أمارتان على وقت خروجه.(1/7)
وقد قلنا: إنه يخرج أيام المهدي، فيقاتله المهدي، ويلقى المسلمون، والصالحون من عباد الله آنذاك كربًا عظيمًا، الله سبحانه وتعالى أعلم به.
* ثم بعد ذلك وفي حرب المهدي مع الدجال، ينزل عيسى بن مريم – صلوات الله وسلامه عليه – فهي أشراط متتابعة، يتبع بعضها بعضًا، كالسبحة إذا انخرطت، ينزل عيسى بن مريم واضعًا يديه على أجنحة ملك، وقد قال الله سبحانه وتعالى في الكتاب: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 157، 158]، وذكره الله في الزخرف قائلاً: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّون } [الزخرف: 57] ثم قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } [الزخرف: 61] أي: علامة، وأمارة من أمارات الساعة.
وقال - سبحانه وتعالى - عن أهل الكتاب: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء: 159].
ينزل صلوات الله وسلامه عليه كأن في وجهه بللاً، وإن لم يترشح بالماء، فينزل، فما أن يراه عدو الله الدجال حتى يذوب كما يذوب الملح في الماء، لكن عيسى يريد أن يطمئن المؤمنين أن هذا عبد خاسئ لا يملك من صفات الألوهية شيئًا، فيقتل عيسى الدجال بحربة كانت في يده، ليري المسلمين دمه ويطمئنوا على أن عدوا الله قد هلك.
فيمكث عيسى والمؤمنون الذين معه ما شاء الله سبحانه وتعالى لهم أن يمكثوا، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير.(1/8)
* ثم في تلك الأيام يوحي الله - سبحانه وتعالى - إلى عيسى أنني أخرجت عبادًا ليس لأحد بهم قوة، يريد الله قبائل يأجوج ومأجوج، من نسل يافث بن نوح، على نوح الصلاة والسلام، وهم في ردم بناه عليهم ذو القرنين، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه: { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } [الكهف: 96، 97] قبائل لا يحصي عددهم إلا الله - سبحانه وتعالى - يخرجون في آخر الزمان وهم ما يزالون اليوم ساعين في أن يفتحوا ذلك الردم.
دخل عليه الصلاة والسلام، كما عند البخاري ومسلم وغيرهما على زينب بنت جحش قائلاً: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج» - وحلق - صلى الله عليه وسلم - بأصبعيه – بين الإبهام والسبابة (1) ، وهذا يدل على أنهم ساعون في حفره، لكن الله - سبحانه وتعالى - كلما حفروا شيئًا منه رد الله - سبحانه وتعالى - ما حفروه على ما كان، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، حتى يأتي اليوم الذي يأذن الله - سبحانه وتعالى - بخروجهم فيخرجون.
قال الله - سبحانه وتعالى -: { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } [الأنبياء: 96، 97]. فيخرجون يعيثون في الأرض فسادًا.
__________
(1) أخرجه البخاري (3346)؛ ومسلم (2880).(1/9)
فيفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور من أرض سيناء، ويمكث هؤلاء يفسدون في الأرض، فيشربون بحيرة طبرية، يشربها أولهم، ولا يبقى لآخرهم شيء ويعيثون في الأرض فسادًا، ثم إنهم لما لم يبق لأحد من أهل الأرض بهم يدان يرمون النشاب إلى السماء، فيرد الله رأس الرمح أحمر فتنة لهم، فإذا رأوه أحمرَ قالوا: قهرنا أهل الأرض وغلبنا أهل السماء.
ثم إن عيسى عليه الصلاة والسلام يدعو الله سبحانه وتعالى عليهم فيستجيب الله له، فيبعث الله - سبحانه وتعالى - على رقابهم دودًا يكون هلاكهم على يديه، فيموتون فرسى (1) كأنهم نفس واحدة، فسبحان ربك الذي يحيى ويميت، ويبدئ ويعيد، ولا يبقى إلا ملكه، ولا ذلة إلا بين يديه، ولا عزة إلا بطاعته.
فإذا ماتوا ينزل عيسى - عليه السلام - والمؤمنون الذين معه، فيدعو الله - سبحانه وتعالى - عليهم كرة أخرى، فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت تحملهم وتلقيهم في البحار، ثم ينزل الله سبحانه وتعالى مطرًا لا لأهل زرع، ولا لأهل ضرع، وإنما ليغسل الأرض من نتنهم وزهمهم فتصبح الأرض بيضاء نقية.
فإذا نزل عيسى والمؤمنون الذين معه لا يعبد في تلك الفترة إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يبقى على ظهر الأرض كافر، لأن عيسى لن يقبل إلا اِلإيمان، أو يخيرهم بين القتل والإيمان، فتوضع الجزية، ويكسر الصليب، ويعيش الناس كأنعم ما يعيشون على وجه الأرض.
__________
(1) فرسى: جمع (فريس)، وهو القتيل.(1/10)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «طوبى للعيش بعد المسيح، طوبى للعيش بعد المسيح، كل ذات حمى أي: كل ذات بغضاء وشحناء وحقد وشر ينزعها الله سبحانه وتعالى من قلبها» حتى أخبر - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق – أن الطفل الوليد الرضيع يضع أصبعه في فم الحية فلا تضره ولا تعضه، ويتعرض الوليد الصغير للأسد فلا يضره أبدًا، ويكون الذئب بين الغنم كأنه كلبها، ويأمر الله سبحانه وتعالى الأرض أن تخرج بركتها، وأن تنبت ثمرتها، فلو أن عبدًا من عباد الله غرس حبة على صخرة ملساء، لأنبت الله سبحانه وتعالى غرسها، وكل ذلك بأمره – تبارك وتعالى -.
* فيكون الناس على هذا ما شاء الله لهم أن يكونوا، ثم يقبض عيسى عليه الصلاة والسلام ثم يقبض المؤمنون شيئًا فشيئًا، ويقل الخير في الناس، ويقبض الأخيار (يوشى كما يوشى الثوب) أي يذهب شيئًا فشيئًا، يسرى على القرآن في ليلة واحدة فلا يمكث على ظهر الأرض ولو آية، ويأتي ذو السويقتين من أرض الحبشة إلى الكعبة فيهدمها ويقلعها حجرًا حجرًا، ويستخرج كنوزها، ويسلبها حليها، ولا يبقي منها شيء، ولا تُؤم الكعبة بعده، فلا يؤدى فيها عمرة ولا حجة.
* تهدم الدنيا تدريجيًا على هذا، حتى تخرج الدابة، كما قال الله تعالى: { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ } [النمل: 82] تخطم الناس وتسمهم على خراطيمهم، فينشأ الناس بعد ذهابها، فيشب الصغير ويصبح كبيرًا، فإذا باع ثوبًا أو اشتراه، فسئل ممن اشتريته؟ قال: اشتريته من ذلك الرجل المخطوم أي: الذي خطمته الدابة ووسمته، يبقى الناس على هذا حتى تأتي الشمس تستأذن ربها سبحانه وتعالى كما تستأذنه كل يوم – أن تخرج وتطلع على الناس من المشرق، فلا يأذن العلي الكبير لها، فتطلع على الناس من المغرب، فإذا رآها الناس آمنوا وقت لا ينفع الندم.(1/11)
قال الله سبحانه وتعالى: { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } [الأنعام: 158]. يومها يغلق الله سبحانه وتعالى باب التوبة، فلا يتوب الله سبحانه وتعالى بعد طلوع الشمس من مغربها على أحد.
* * *
أحداث يوم القيامة
فيمكث على الأرض شرار خلق الله، بعد أن يقبض الله أرواح المؤمنين، وعلى هؤلاء – أعاذنا الله وإياكم – يأمر الله سبحانه وتعالى ملكًا يقال له، إسرافيل أن ينفخ في الصور، فينفخ، فإذا نفخ إسرافيل { فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ } [الزمر: 68]، ثم يمكثون أربعين يومًا أو شهرًا، أو سنة.
ثم بعد ذلك يأمر الله إسرافيل أن ينفخ كرة أخرى فينفخ فإذا نفخ ما من روح أودعت في مكان ما، كانت في عليين أو كانت في سجين إلا وخرجت من مكانها وعادت إلى الجسد الذي خرجت منه، فيخرج الناس كما يستيقظ النائم اليوم من نومه، قال الله سبحانه وتعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [يس: 51، 52] فيخرجون حفاةً عراةً غرلاً بُهمًا إلى أرض بيضاء نقية.
جاء حبر من أحبار يهود فقال: يا أبا القاسم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ قال: «هم في الظلمة دون الجسر» قال فمن أول الناس إجازة؟ قال: «فقراء المهاجرين»، قال: فما تحفتهم يوم يدخلون الجنة؟ قال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها»، قال: فما شرابهم عليها بعد إذٍ؟ قال: «عينا فيها تسمى سلسبيلاً» (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم (315).(1/12)
يوم العرض أيها المؤمنون! تتقطع فيه الصداقات والقرابات وسائر العلاقات، من نسب أو رحم، قال الله سبحانه وتعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم: 14] وقال سبحانه وتعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون: 101].
يوم العرض أيها المؤمنون! تهتك فيه الأستار، وتظهر فيه الأسرار، قال الله سبحانه وتعالى: { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر: 15، 16].
فيكون خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من يكسى من الخلائق، لأن الخلائق يحشرون عراة، ثم بعد ذلك الصالحون الأمثل فالأمثل، حتى يكون الناس على استعداد للعرض والحساب.
ثم تدنو الشمس، يلجمهم العرق، وتكون أمور عظام؛ منها الحوض والصراط والميزان، قال الله سبحانه وتعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47].
ثم ينصب الصراط على ظهراني جهنم، فيمر عليه الناس كلُّ على قدر عمله منهم من يمشي مشيئًا، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم – والعياذ بالله – من تختطفه كلاليب جهنم.(1/13)
قال الله سبحانه وتعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [مريم: 68-72].
وتأمل قول الله تعالى، إنه لم يقل: ونرمي الظالمين فيها جثيًا، بل قال سبحانه وتعالى: { وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ } مجرد أن يخذلهم ويتركهم يكفي أن يكون سببًا أن يلقوا في جهنم – نعوذ بالله من الحرمان والخذلان.
بعد ذلك أيها المؤمنون يأتي بيت القصيد من المحاضرة، يأتي المؤمنون الأتقياء الذين جاوزوا جسر جهنم، كما قيل للإمام أحمد: متى يستريح المؤمن؟ قال: إذا خلف جسر جهنم وراء ظهره.
* * *
الجنة ونعيمها وصفة أهلها
فتقرب إليهم الجنة، فإذا رأوها ذهبوا إلى أبيهم آدم، قالوا: يا أبانا استفتح لنا الجنة. فيقول عليه الصلاة والسلام: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟! فيدفعها عن نفسه، فيأتي نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيطرق باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ يقول: «أنا محمد»، فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك (1) . فيكون - صلى الله عليه وسلم - أول من يدخلها من سائر الناس، وأول من يدخلها من هذه الأمة أبو بكر - رضي الله عنه - .
__________
(1) أخرجه مسلم (197).(1/14)
الجنة أيها المؤمنون: نور يتلألأ، ونهر مطرد، ونعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، كان عباد الله الصالحين في الدنيا يسألون الله إياها ليلاً ونهارًا – قال الله سبحانه وتعالى: { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً } [الفرقان: 16]، وذكر الله خليله وصفيه وحبيبه إبراهيم بقوله: { وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } [الشعراء: 85].
ووقف - صلى الله عليه وسلم - هو معاذ - رضي الله عنه - على أعرابي يدعو فقال الأعرابي: ألا وإني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأستجير به من النار، فقال - صلى الله عليه وسلم - : «حولها ندندن» أي: حتى نحن نسأل الله الجنة ونستجير به من النار.
فإذا دنت الجنة فتحت أبوابها، وأبواب الجنة ثمانية، ما بين مصراعي كل باب مسيرة خمسمائة عام، وليأتين عليها يوم – مع اتساعها هذا – وهي كظيظة من الزحام – جعلنا الله وإياكم ممن يدخلها آمنا -.
وأهل الجنة أيها المؤمنون طوائف، فمنهم من دخل الجنة قبل يوم القيامة كآدم وحواء، والشهداء من المؤمنين، ومؤمن آل يس، قال الله سبحانه وتعالى: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [البقرة: 35] وقال الله سبحانه وتعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169] وقال سبحانه وتعالى عن مؤمن آل يس: { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } [يس: 26، 27].(1/15)
أما أول من يدخلها بعد يوم القيامة: نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وسيدا كهولها أبو بكر وعمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حسن إسناده بعض العلماء -: «أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين (1) ، وسيدا شبابها: الحسن، والحسين» (2) – رضوان الله تعالى عليهم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن ملكًا استأذن ربه أن يأتيني ويبشرني بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (3) .
ومن نسائها المنعمات: خديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، فهؤلاء الأربع سيدات نساء أهل الجنة على الإطلاق، كما أخبرنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
وممن كتب الله لهم دخولها ممن أخبرنا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، كما هو معلوم: العشرة المبشرون من أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقال العلماء: إنه لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة فجميع من كان من أصحاب بيعة الرضوان في غزوة الحديبية يدخل الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى وفضله، كما صح الخبر عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه -.
قلنا: أيها المؤمنون؛ إن الجنة نعيم لا ينفذ وقرة عين لا تنقطع، لهم فيها أطيب المساكن، يدخلونها على طول أبيهم آدم: ستون ذراعًا في السماء جردًا، مردًا مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين.
* جردًا: أي لا شعر على أجسادهم.
* مردًا: أي لا شعر على وجوههم.
* أبناء ثلاث وثلاثين: قيل: إنها السن التي رفع فيها عيسى عليه الصلاة والسلام.
* وطول أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام كان ستين ذراعًا صلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) أخرجه الترمذي (3664)؛ وابن ماجه (95).
(2) أخرجه الترمذي (3768).
(3) أخرجه أحمد (22818)؛ والترمذي (3781).(1/16)
من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا يفنى شبابهم؛ ولا تبلى ثيابهم. لهم فيها أعظم النعيم، وأجل العطايا من رب كريم، تجري من تحتهم الأنهار، وترفرف من حولهم الأطيار، ويناديهم ربهم سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس: 58]، ينحر لهم أول ما يدخلون ثور الجنة الذي كان يرعى من أطرافها، ولهم فيها شراب ونعيم، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من لبن، وأنهار من ماء غير آسن، وغير ذلك من لذات النعيم، كما قال الله: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17].
أما أعظم ما يعطيهم الله سبحانه وتعالى إياهم فلذة النظر إلى وجهه الكريم، مع رضاه سبحانه وتعالى، الذي لا سخط بعده، وليس بعد هذين العطائين عطاء أبدًا. صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يجرنا من النار؟ ألم يدخلنا الجنة؟ فيكشف الحجاب، فيرون وجه ربهم – تبارك وتعالى – فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله – تبارك وتعالى -» (1) .
يبقى أيها المؤمنون السؤال الأعظم: ما السبب في دخول الجنة؟.
من أسباب الفوز بالجنة
وبعض أسباب الحرمان منها
جملة: الإيمان، والعمل الصالح، قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف: 107، 108].
__________
(1) أخرجه أحمد (18462)؛ والترمذي (3105) وابن ماجه (187).(1/17)
وأهل الجنة – كما قلنا – درجات، فأول من يدخلها من عامة الناس فقراء المهاجرين؛ لأن الفقر من أعظم أنواع الابتلاء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما روى الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال -: «يأتي فقراء المهاجرين يستفتحون باب الجنة، فيقول لهم خزنتها: أو قد حوسبتم؟ فيقول هؤلاء الفقراء: وعلى أي شيء نحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا نجاهد في سبيل الله، فيدخلون الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فيقيلون فيها أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس» (1) .
* وممن يدخل الجنة مؤمنون كتب الله لهم الجنة بلا حساب، ولا عذاب – جعلنا الله وإياكم منهم -.
* ومنهم من يرزقون شفاعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
* ومنهم ممن يرزقون شفاعة أهليهم من العلماء والشهداء والصديقين، أو من الملائكة المقربين.
* ومنهم من يمن الله سبحانه وتعالى عليه برحمته أي بشفاعة الله سبحانه وتعالى ذاته.
* ومنهم من يمنع دخول الجنة ابتداء:
1- المتكبرون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر» (2) ، فهؤلاء وإن كانوا موحدين إلا أن ما في قلوبهم من الكبر يمنعهم من دخول الجنة ابتداءً.
وقد صح في الحديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، التقيا عند المروة في مكة، فتحدثا قليلاً ثم مضى عبد الله بن عمرو، فلما مضى بكى عبد الله بن عمر، فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن قال: إن هذا – وأشار إلى عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أخبرني أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله على وجهه في النار» (3) .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/80).
(2) أخرجه مسلم (91).
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/280).(1/18)
فالكبر الذي في الصدور – والعياذ بالله – أعظم ما يحول ما بين العبد، وبين دخول جنات النعيم؛ والمؤمن إذا عرف أن الله سبحانه وتعالى ذم الكبر، وأهله، وأنه – تبارك وتعالى – أمر سيد الخلق، وصفوة الرسل قائلاً: { وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } [الإسراء: 37]، تواضع كما أمره الله سبحانه وتعالى أن يتواضع، لأن الكبر والعياذ بالله – يسوق العبد إلى كثير من المعاصي، والإفساد في الأرض.
2- الظالمون: وإن كانوا من الموحدين، الظَّلمة من العباد، قال - صلى الله عليه وسلم - : «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس» (1) قال بعض العلماء القدامى: وإنهم في زماننا هذا.
قال صديق حسن خان رحمه الله: «بل هم في كل الأمصار والأعصار، وغالبًا ما يكونون من ذوي الجاه والقدرة، والأعيان الذين يكون لديهم أعوان، وقدرة على الظلم ومعهم ما معهم، يضربون به الخلق».
إن الظلم أيها المؤمنون، حرمه الله على نفسه، وجعله بين عباده محرمًا، ولأن تلقى الله تعالى بكل ذنب، دون الشرك، أهون من أن تلقاه بظلمك لعباد الله – تبارك وتعالى -: قال سبحانه وتعالى: { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } [هود: 113].
جاء رجل إلى الإمام مالك رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله: إنني أعمل عند أناس ظالمين، يظلمون الناس، ويجلدونهم بغير وجه حق، وأنا أعمل عندهم خياطًا، أحيك لهم الثياب، أفأنا من الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؟ فقال مالك رحمه الله: بل أنت منهم. فقال: يا مالك: ومن إذن الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؟ قال: يا أخا العرب، الذين ركنوا إلى الذين ظلموا من باعك الخيط الذي تخيط به لهؤلاء.
__________
(1) أخرجه مسلم (2128).(1/19)
فالمؤمن يتحرر من كل ما فيه ظلم للعباد، وقد يظن إنسان أن الظلم إنما يكون مقصورًا في فئة من الناس، كل من كان تحت يديك، وجعل الله تبارك وتعالى – لك سلطة عليه فظلمته وبخسته حقه من زوجة، أو ولد أو طالب في المدرسة، أو موظف تحت إدارتك، أو أجير، أو عامل، أو خادم، أو سائر ذلك، ظلمته، ونهرته، وضربته بغير وجه حق، دخلت فيمن قال فيهم - صلى الله عليه وسلم - : «صنفان من أهل النار لم أرهما».
3- أم الصنف الآخر، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، عليهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها» قال العلماء: للجنة ريح عبقة ذكية، يتلقاها المؤمنون.
فإذا كان هؤلاء النساء على هذا الوضع مما هو مشاهد في زماننا هذا، مشاهد في القنوات والفضائيات، في الأفلام والأغاني، مشاهد في كثير من الأسواق، مشاهد في كثير من صالات الأفراح، مشاهد في كثير من الطرقات، نساء – والعياذ بالله – تحررن من عبودية الخالق إلى عبودية المخلوق، وأصبحن – أردن أم أبين – أداةً لأعداء الدين يلعبون بهن كيفما شاءوا.
والمؤمنة التي تعلم أنها ستلقى الله سبحانه وتعالى، تعلم أن الله سبحانه وتعالى فرض عليها حجابًا شرعيًا، وخير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال.
ولقد بذل كثير من علماء المسلمين المعاصرين والسابقين، كثيرًا من علمهم، ووقتهم في تبيين الحجج للناس، ودفع حجج الظالمين ممن يزينون للنساء ترك الحجاب، ويدعون – عياذًا بالله – إلى التبرج والسفور مما حرمه الله سبحانه وتعالى ونهى عنه.(1/20)
فالمؤمنة التقية التي تبصر ملاقاة الله، وتعلم يقينا أنها داخلة في عموم قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ } [الانشقاق: 6] تخشى الله سبحانه وتعالى فيما تلبسه، وتتقي الله تبارك وتعالى فيما ترتديه، ولا تكون فتنة لشباب المسلمين أينما كانوا وحيثما نزلوا. هذه الطائفة محرومة من دخول الجنة.
4- قاتل نفسه: كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه سبحانه وتعالى: «عبد بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة» (1) ، أي: من يموت انتحارًا، فمن مات انتحارًا، حرم الله سبحانه وتعالى عليه الجنة ابتداءً، ولا يعني هذا أنه لن يدخلها أبدًا، فقد يغفر الله سبحانه وتعالى له، لأن الانتحار رغم أنه أمر من كبائر الذنوب، وعظائم المعاصي، ونهى الله سبحانه وتعالى عنه فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29] لكنه ذنب لا يخرج صاحبه من الملة، ولا يخرج العبد من حظيرة الإسلام.
فمن ابتلي أحد قرابته بشيء من هذا فليصبر، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ويصلي عليه، إلا أنه لا يصلي عليه الإمام الأكبر أو نائبه، ويدفن في مقابر المسلمين كما بين أهل العلم رحمهم الله.
هذه الأمور تحول بين العبد وبين دخول الجنة.
أما التي تجعل العبد أهلا أن يدخل الجنة: فينبغي أن نعلم ابتداءً أن الجنة ليست ثمنًا للعمل الذي صنعته، وإنما هي فضل من الله وجزاء منه، وفرق أن يكون الشيء عوضًا وثمنًا، وبين أن يكون الشيء سببًا في رحمة الله سبحانه وتعالى.
وأعظم ما يكون سببا في دخول الجنة:
__________
(1) أخرجه البخاري (3463).(1/21)
1- الخوف من مقام الله سبحانه وتعالى وتقواه قال الله – تبارك وتعالى – { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46].
وقال سبحانه وتعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 40، 41] وذكر الله الجنة فقال: { ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم: 14].
والخوف من مقام الله كل يدعيه، وكل ينتسب إليه، لكن الأعمال غالبًا ما تكون شواهد على ما في القلوب.
فمن أعظم ما يدل عل الخوف من مقام الله: الائتمار بأمره والانتهاء عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه والبعد عن محارمه، والكف عن معاصيه، والقيام بالليل بالأسحار؛ فإن قيام الليل من أعظم الشواهد على أن العبد يخاف مقام ربه تبارك وتعالى.
إذ قلما يترك إنسان فراشًا وثيرا، وزوجة محببة إليه، أو رفقة من الإمكان أن يأوي إليها، فيترك ذلك كله، وينزوي في بيته في وضع مظلم، أو نور خافت، يقف بين يدي ربه، يتلو كتاب الله وآياته، يتوسل إلى الله – تبارك وتعالى – بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجيره من النار، ويدخله الجنة، إلا وهو عبد قد خاف مقام الله – تبارك وتعالى -، قال الله – تبارك وتعالى -: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9].(1/22)
2- كفالة الأيتام: إن الله سبحانه وتعالى يبتلي بالموت فيبقى هذا ما شاء الله له أن يبقى، ويتوفى هذا ويترك وراءه ذرية، فنقول لمن يخشى أن يموت عن ذريته، إنه لا ذخر لأبنائك من بعدك أعظم من عمل صالح تتقرب به إلى الله، فإن الله أخرج موسى والخضر يطويان البحار والقفار حتى وصلا إلى جدار ليتيمين، فلما بنياه قال الله سبحانه وتعالى على لسان الخضر: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف: 82].
قد يكون العبد الصالح في قبره، لا يستطيع أن يخرج فينفع أبناءه، ومع ذلك لأن صلاحه الذي سبق، وذكره الذي فات، يجعله الله سبحانه وتعالى ذخرًا لبنيه من بعده، فيسخر الله سبحانه وتعالى لأولئك اليتامى خلقًا، ويسوق الله سبحانه وتعالى إليهم عبادًا ليحنن الله سبحانه وتعالى عليهم أولياءه، فيخدمون أكثر مما يخدمون لو كان أبوهم حيًا.
وكفالة اليتيم من أعظم الذخر الذي يدخره العبد عند لقاء الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وجمع - صلى الله عليه وسلم - بين أصبعيه السبابة والوسطى (1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن بسند صحيح -: «خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (5304).
(2) أخرجه ابن ماجه (3679).(1/23)
3- طاعة الوالدين – ألزمهما فثم الجنة (1) – وطاعة الوالدة على وجه الخصوص، قيل: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أمك ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك» (2) ، فبر الوالدين، والصبر على ما يناله الإنسان منهما من أذى خاصة إذا كبرا، وأن يوقف الإنسان وقته عليهما يخدمهما في المنشط والمكره، ويقوم بشؤوونهما، ويرعاهما، ويغض الطرف عما يسيئاه إليه، كل ذلك من أعظم أسباب دخول الجنة، والقرب من رب العالمين.
وقد روي أن موسى - عليه السلام - سأل ربه أن يريه عبدًا كتب الله له أن يكون رفيقًا لموسى في الجنة، فأوحى الله - سبحانه وتعالى - إليه: إن عبدي فلانًا كتب له أن يكون لك رفيقًا في الجنة، فتبع موسى ذلك العبد ليرى ما الذي يصنعه، فوجد ذلك الرجل من بني إسرائيل يعمد إلى كهف فيه أم له، عجوزٌ قد بلغت من الكبر عتيا، وهو يطعمها، ويسقيها، ويقوم على خدمتها، فلما خرج من عندها سأله موسى: من هذه؟ قال: هذه أمي، قال: وما تصنع لها؟ قال: أطعمها وأسقيها، وأقوم على خدمتها، قال: فهل تجزيك أمك على ما تصنعه لها شيئًا؟ قال: لا، إلا أنني كثيرًا ما أسمعها تقول: اللهم اجعل ابني هذا رفيق موسى بن عمران في الجنة، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: «أنا موسى بن عمران، وقد أوحى الله سبحانه وتعالى إلى أنه استجاب دعوة أمك، فأنت رفيقي في الجنة» فبدعاء الوالدين، وبرهما، وغض الطرف عما يكون منهما، ينال الإنسان جنات النعيم.
4- الإكثار من ذكر الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سبق المفردون»، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» (3) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2781).
(2) أخرجه مسلم (2548).
(3) أخرجه مسلم (2676).(1/24)
وفي الخبر الصحيح أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر (1) ، وقد جاء في حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال العبد: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله سبحانه وتعالى: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي» (2) .
كما أنه من أعظم كنوز الجنة، كما في حديث أبي موسى الأشعري – أن يكثر العبد من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» (3) .
فبذكر الله – تبارك وتعالى – والانصراف عن معاصيه، ينبت للمؤمن غراس في الجنة.
5- ومما يكتب الله سبحانه وتعالى به الجنة ركعتا الوضوء: فإن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة، وكلما دخلها في منام أو يقظة كما في المعراج ورآها سمع صوت نعلي بلال بن رباح - رضي الله عنه - ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً عن أرجى عمل عمله في الإسلام، قال: يا رسول الله: لا أعلم شيئًا أكثر من أنني ما توضأت وضوءًا إلا صليت بعده ما شاء الله لي أن أصلي، فقال عليه الصلاة والسلام في رواية صحيحة: «فهذه بهذي» (4) أي: هذا الجزاء حصلت عليه بهذا العمل.
أما بيوت الجنة، وقصورها، فإنما تبنى بعظيم الأعمال، ومن أعظمها:
1- أن يبني الإنسان لله سبحانه وتعالى بيتا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من بنى لله بيتًا في الدنيا ولو كمفحص قطاة – أي: ولو صغير – بني الله له بيتًا في الجنة» (5) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (4362).
(2) أخرجه ابن ماجه (3794).
(3) أخرجه البخاري (4205) ومسلم (2704).
(4) أخرجه البخاري (1149).
(5) أخرجه أحمد (2158)؛ وابن ماجه (738).(1/25)
2- ومن كان له ولد أثير صالح ثم قبضت روحه قبل أبيه فصبر ذلك الوالد، واحتسب ذلك الولد عند الله سبحانه وتعالى بني الله سبحانه وتعالى للوالد بيتا في الجنة يسمى بيت الحمد، لأن ذلك العبد حمد الله سبحانه وتعالى على ما ابتلاه به.
وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قابل رجلاً من الأنصار ومع الأنصاري ابن له فقال عليه الصلاة والسلام للأنصاري: «أتحبه»؟ قال: يا رسول الله، أحبك الله كما أحبه. ثم إن رسول الله عليه الصلاة والسلام فقد الرجل دهرًا، فقال: «ما فعل صاحبكم»؟ قالوا: يا رسول الله مات ابنه، فلما لقيه عليه الصلاة والسلام قال: «أما يسرك أنك لا تأتي غدًا بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك يأخذ بثوبك حتى يدخلك إياها»؟ قالوا: يا رسول الله، من حرص الصحابة على الخير – قالوا: يا رسول الله: أله خاصة، أم لنا كلنا؟ قال: «بل هي لكم كلكم» (1) وهذا من رحمة الله بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
3- أن يحافظ المؤمن على السنن الرواتب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من صلى لله في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، بني الله سبحانه وتعالى له بيتًا في الجنة» (2) .
فهذه يا أيها المؤمنون جمع من الأعمال تعددت مشاربها، وكثرت مناهلها، لأن الله تعالى لم يخلق العباد على نسق واحد، قال سبحانه وتعالى: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } [البقرة: 60] وقال الله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة: 48].
__________
(1) أخرجه أحمد (15168)؛ والنسائي (1870).
(2) أخرجه مسلم (728).(1/26)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جُنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر» ثم تلا: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 16، 17] (1) .
* * *
نعيم أهل الجنة
أهل الجنة يا أيها المؤمنون – وليس في الجنة جوع ولا عطش - ومع ذلك يأكلون ويشربون، ولا يأكلون ليسدوا جوعًا، ولا يشربون ليرووا ظمًأ، وإنما نعيم متتابع، وفضل من الله سبحانه وتعالى وإحسان.
وليس في الجنة تكليف، قال الله تعالى: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس: 10]. هذا الذكر من التسبيح والحمد يلهمونه إلهامًا، كما يلهم أحدنا النفس اليوم في حياته ما دام حيًّا.
أهل الجنة أيها المؤمنون، يتزاورون ويتذاكرون مجالسهم في الدنيا – جعلني الله وإياكم ممن يذكر هذا المجلس يوم القيامة -، يتذاكرون مجالسهم في الدنيا، كما تكون بين أهل النار خصومة ومحاجة، فإن الله ذكر أهل النار، وذكر خصومتهم ومحاجتهم: { قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } [ص: 60-64].
__________
(1) أخرجه أحمد (21511)، والترمذي (2616) وابن ماجه (3973).(1/27)
كذلك يكون بين أهل الجنة لقاءات تزاور، قال الله تعالى عنها: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور: 25-27] ومن كان له قرين في الدنيا يحاول أن يغويه ويضله من أهل الكفر أو الفسق ثم يمن الله عليه بالثبات على الهداية، يتذكر وهو في الجنة ذلك القرين.
قال الله تعالى: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات: 50-53]، فيطلع ذلك المؤمن على أهل النار { قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } [الصافات: 54، 55] فلما يراه على تلك الحال يتذكر نعمة الله تعالى عليه بالثبات على الهداية، قال الله تعالى بعدها: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات: 61].
وما زلنا وإياكم في دار عمل، وما زالت أرواحنا في أجسادنا، وهذه بعض مما ذكره الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله من نعيم الجنات، فنسأل الله سبحانه وتعالى الذي رزقنا الإسلام من غير أن نسأله ألا يحرمنا الجنة وقد سألناه إياها.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
* * *
الفهرس
تمهيد ... 5
متى يدخل أهل الجنة الجنة ... 6
العبرة بالخواتيم ... 6
من أشراط الساعة ... 6
* أعظم أشراط الساعة: ... 6
* والمسيح الدجال: ... 6
هذا الرجل له أمارات خلقية، وأمارات خلقية، ... 6
يعيث الدجال في الأرض يمينا وشمالا، ... 6
* ثم بعد ذلك وفي حرب المهدي مع الدجال، ينزل عيسى بن مريم ... 6
* ثم في تلك الأيام يوحي الله - سبحانه وتعالى - إلى عيسى أنني أخرجت عبادًا ليس لأحد بهم قوة ... 6(1/28)
* فيكون الناس على هذا ما شاء الله لهم أن يكونوا، ثم يقبض عيسى عليه الصلاة والسلام ثم يقبض المؤمنون شيئًا فشيئًا ... 6
* تهدم الدنيا تدريجيًا على هذا، حتى تخرج الدابة ... 6
أحداث يوم القيامة ... 6
الجنة ونعيمها وصفة أهلها ... 6
من أسباب الفوز بالجنة ... 6
وبعض أسباب الحرمان منها ... 6
وأعظم ما يكون سببا في دخول الجنة: ... 6
1- الخوف من مقام الله ... 6
2- كفالة الأيتام: ... 6
3- طاعة الوالدين ... 6
4- الإكثار من ذكر الله ... 6
5- ومما يكتب الله سبحانه وتعالى به الجنة ركعتا الوضوء ... 6
نعيم أهل الجنة ... 6
الفهرس ... 6
* * * *(1/29)