أبعادُ التأريخ
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
يلمحُ القاريءُ لـ ( التأريخ ) أبعاداً كثيرة في مواضيع ( التأريخ ) . و حاصل تلك الأبعاد ثلاثة :
الأول : البُعدُ المنهجي .
و ذلك كون التأريخ علمٌ له أصولٌ و له قواعد تُحْكِمُ حوادثه من حيثُ القبولُ و الرد ، و من حيث تحقق وقوعها و عدمها .
و هذه القواعد أُوْلِيَتْ اهتماماً من العلماء كبيراً ، فنثروها و حرروها ، و سلكوا في ذلك مسلكين اثنين :
أولهما : مسلك الإفراد في التصنيف .
ثانيهما : مسلك التضمين في التأليف .
و بينهما فرْقٌ كبير .
فالأول : إفراد للقواعد في تصنيفٍ مستقلٍ كما فعل ( ابن خلدون ) في ( المقدمة ) .
و الثاني : تضمين القواعد في بعض التآليف التأريخية و السِّيَرِيَّة .
الثاني : البُعْدُ القصصي .
( التأريخ ) أحوال و حوادث و وقائع ، و هذا نوع من القصص المَحْكِي ، و الخبر المروي .
و غالب القصص يكون مبناها على الخيال الواسع ، و الزيف البعيد ، فتكاد أن تُقسمَ ببعد وقوعها حال القراءة و السماع ، ثم ما تلبث أن تكون مصطدماً بكونها حكايةً واقعية ، خبراً ثابتاً .
و القصص _ حيث كان التأريخ لصيق الشَبَهِ بها _ تفتقر إلى مقاييس نقدٍ قصصية ، و تفتقرُ إلى ذوقٍ أدبيٍ راقٍ .
و لا يعني هذا البُعْدُ أن التأريخ عبارة عن حكايات خيالٍ لا مساس لها بواقع الناس ، بل المَعْنِي : قوة الشبه بين الأخبار التأريخية و الحكايات الخيالية فيظُنُّ القاريء أو السامع أن ذاك خبراً خيالياً .
الثالث : البُعْدُ التفسيري للتأريخ .
تفسير التأريخ مُعْتَمِدٌ على ما يُضْمِرُهُ المؤرخ من اعتقاد و دين ، فتراه يفسر التأريخ على حسْبِ هواه ، مماشاةًٍ لنزعاته و أفكاره .
و المراد بـ ( تفسير التأريخ ) هو مبدأ ( السببية ) أي : سبب كينونة الشيء و حدوثه .
و نلحظ ذلك في اهتمامات كثير من المؤرخين بشأن أسباب نهوض الدول ، و أسباب سقوطها .(1/1)
و لتفسير التأريخ منهج مُحْكَمٌ يُراعى لدى دارس التأريخ .
هذه الأبعاد الثلاثية للتأريخ جرى القلم مُقَيِّدَاً لها في ساعة إهمالٍ لها و لغيرها من أصول التأريخ .(1/2)
أعباءُ الفقه
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
يسعى كثيرون لتحقيق فضيلة ( الفقه في الدين ) ، و يجهدون لنوالها ، حيث جاءت بها النصوص مُبَيِّنَةً فضلها و مكانتها ، و من ذلك قول سيدنا رسول الله _ صلى الله عليه و آله و سلم _ : " مَن يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين " [ رواه البخاري ] .
و السعايةُ في تحقيق ذلك ليست من الأمور ذوات السهولة و اليُسْر ، و لا من الأعمال التي تُنال بالركون نحو الدَّعة ، بل هي ذات أعباءٍ كبيرة ، و ذات متاعب و إجهاد ، و في بيان ذلك يقول ابنُ القيم _ يرحمه الله _ حالَ ذكره لاحتجاج الفقهاء بصحيفة عمروِ بن شعيب عن أبيه عن جده _ و إنما طعن فيها مَن لم يتحمَّل أعباء الفقه … . [ أعلام الموقعين 1/35 ] .
فراقَ لي بديعُ التعبير فأحببتُ أن أسيلَ حِبْر اليراع بإيضاحٍ لحقائق هذه اللفظة المُستكنَّة في ظلالها الوارفة .
بعد هاتيك التَّقْدُمة الآنفة فإنَّ من الضروريِّ علمُه أن أعباءَ الفقه نوعان :
الأول : عِبْءُ تأصيلٍ .
فإن تحصيل الفقه في شريعة الله وظيفة كبرى ، و مهمة عُظمى ، بذل النُّجباءُ مُهج أرواحهم في تحصيله ، و نقدوا نفيس أوقاتهم في تحرير مسائله ، فغدى سائراً فيهم سير الدم في العِرْق ، و لم يكونوا _ قط _ يستشعرون سهولةً فيه ، و لا خفةً في تلقيه ، فإنهم كانوا عالمين بشدائده ، عارفين بغوائله .
ذلك أنه يتخذُ مساراً دقيقاً ، و مسلَكاً صعباً _ و لا يعني توصيف صعوبته تيئيس من تحصيله ، و إنما الشأن توصيف حالٍ ليس إلا _ ، بخلاف غيره من فنون العلوم فإنه في نزولٍ عن دقته .
فالتأصيل الفقهي يُؤخذ عن طريقين :
الأولى : دراسةُ متنٍ فِقهيٍ ، و تلكَ سابلةٌ معروفةٌ لدى المتفقِّهَةِ ، إلا أنَّ لها نَهْجاً _ كسائرِ متون العلم _ حيثُ أنَّ المتون المقرَّر دراستُها في الفنون ترْتَكِزُ على ثلاثةِ أصولٍ :(2/1)
الأصلُ الأوَّل : أن تكون مُعتمدةً في الفنِّ ، يقول العلامةُ المَرْعَشِيُ _ رحمه الله _ " ترتيبُ العلوم " ( ص / 80 ) : … بل المنقولُ من سيَرهم ، و المُتبَادَر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المُعتبَرة ، و هي مسائلها المشهورة . أ.هـ
الأصلُ الثاني : أن تكون جامعةً لمسائل الفن ، و يؤخذُ ذلك من كلام المَرعشي _ السابق _ .
الأصل الثالث : أن تكون مُختَصَرةً غيرَ مُطوَّلَةٍ .
و الدراسةُ للفقهِ عن طريقِ المتون الفقهيةِ أمتنُ من غيرها ، لأسباب :
السبب الأول : أنها متون مُحقَّقَةٌ مُنَقَّحةٌ ، فقد جرى على مسائلها بحثاً و دراسةً فقهاءُ كلِّ مذهب ، فليستْ تأليفاً فَرْدياً في الجنوح بالاختيار ، و ليست إلا أنها خُلاصةُ أبحاثٍ طويلةٍ للمسائل .
السببُ الثاني : أنها مُعتَنىً بها عنايةً تُوحي بقيمتها العلميَّة ، فكمْ منْ : شارحٍ ، ناظم ، و مُحَشٍ ، و مُتَمِّم ، و مُدلِّلٍ ، معلِّلٍ ، و غير ذلك .
السبب الثالث : أنها أجمعُ للمسائلِ و أرْتبُ ، فترى فيها ذكراً لأحكام المسألة على الترتيب الذي ]ضجمعُ للطالبِ فِقهها ، فترى تقديم الشروط على الأركان ، و الأركان على الواجبات ، ثم يليها السُّنن ، و ما إلى ذلك .
بخلافِ غيرِها فلا تجدِ فيها تلك الصَّنْعةِ الدَّقيقة .
و هذه الأسبابُ هي التي اختصَّتْ بها متون المذاهب الأربعة الشريفة _ الحنفي ، المالكي ، الشافعي ، الحنبلي _ ، و أما غيرُها فليسَ فيها شيءٌ من تلكم المناقبِ ، بلْ فيها من الآفاتِ ما هو كفيلٌ بردِّها .
الثانية : تقريرُ المسألة الفقهية ، فإنَّ الفقهاءَ أخذوا في تقرير المسائل الفقهيةِ طريقةً مُحكمةً مُتقَنَةً ، أتوا فيها على فروع المسألة و جُزئيَّاتها ، و بها تبرأُ ذِمةُ المُكلَّف ، و خلافُ ذِي لا يُستفادُ منها علماً و لا فقهاً .(2/2)
فتقريرُ مسألةٍ عِباديَّةٍ لِتُضْبَط على وَفْقِ ما هو مُقرَّرٌ عند المذهب الفقهي المأخوذِ به تكون من جهاتٍ ستٍّ :
الجهةُ الأولى : شروطُ العبادة .
الجهةُ الثانية : أركان العبادة .
الجهةُ الثالثة : واجباتُ العبادة .
الجهة الرابعة : مُستحبات العبادة .
الجهةُ الخامسة : مُبطلاتُ العبادة .
الجهةُ السادسة : مَكروهاتُ العبادة .
ثُمَّ بعدَ ذلك يكون تحريرُ تلك الجهات السِّت من خلال مناحٍ ثلاثة :
الأولى : صُورةُ المسألةِ معَ حكمها .
الثانية : قيودُ المسألة .
الثالثة : ذكرُ الاستثناءاتِ إن وُجِدَتْ .
و يُلحقُ ذلك و يُتمَّم بشيئين :
أولهما : ضَبطُ الجهاتِ عداً و نحوه .
ثانيهما : دليلُ المسألة ، و الأدلةُ نوعانِ :
الأول : مُتفقٌ عليها ، و هي : الكتابُ و السنةُ و الإجماعُ و القياس .
الثاني : مُختلَفٌ فيها ، و هي كثيرةٌ ، و لكلِّ مذهبٍ مذهبُه في اعتبار الأدلة .
وَ بحْثُها منثورٌ في كُتُبِ أصولِ الفقهِ فَلْتُراجَع .
الثاني : عِبءُ تأهيلٍ .
التصدِّي للتفقيه و التعليم من المناقب العظيمة ، و من المرتب التي أولاها العلماءُ اهتماماً و عنايةً ، فكانت واضحة المعالم ، بَيِّنَةَ الأصول و القواعد ، و بالغوا في العنايةِ لِمَنْ يتصدَّى لبيان أحكام الشريعة ، و إظهار أسرار الفقه في أعمال المُكلَّفيْن ، فأتوا بأصولٍ و قواعدَ معتبَرَةٍ .
فلم يكن امر التفقيه سبهللاً يسلكه كلُّ متمجهدٍ لا يفقَه ضبطَ اسم العلم ، و لا كلُّ متعالمٍ لم يُجاوز عَتَبَةَ البداية ، و إنما هو على ما ذُكرَ من بيان لاهتمام الفقهاء به .
إذا عُلِمَ ذلك فإن التأهُّلَ نوعان :
النوع الأول : تأهيلُ تبليغٍ ، و شأنُه تبليغُ العلمِ على وجههِ دونَ إقحامٍ لنفسهِ برأي يرتأيِهِ ، أو قولٍ يقولُ به ، و يأخذُ بذلك قانون التبليغِ وهو : ( إيرادُ اللفظِ كما سَمعهُ من غير تغييرٍ ) [ "فيضُ القدير" _ للمُناوي _ (3/206) .(2/3)
النوعُ الثاني : تأهيلُ استباطٍ ، و هذا النوعُ هو المشتغلُ بالاستنباطِ للأحكام من النصوص ، و الكلام عنه من جهتيْن :
الأولى : حدُّهُ ، فهو :الذي يَسْتقلُّ بإدراك الأحكام الشرْعية من الأدلة الشرعية من غيرِ تقليد و تقيد بمذهب أحد .
انظر : أدب المُفتي و المُستفتي _ لابن الصلاح _ ص 87 .
الثانية : شروطه ، إذِ المُتصَدِّر للاجتهاد شروطٌ ، هي :
1. معرفةُ الكتاب ، و المُرادُ : إدراك آيات الكتاب ، و الإلمامُ بمعانيها ، و المُتَعَيِّنُ آيات الأحكام .
انظر : المُستصفى _ للغزَّالي _ 2/350 ، المحصول _ لفخر الدين الرازي _2/33 ، البحر المحيط _ للزرْكشي _6/199.
2. معرفةُ السنة ، كالسابق في حدِّ المُراد .
انظر : البحر المحيط 6/200 .
3. معرفة اللغة العربية ، و المُشْترَطُ العلمُ بما يتعلَّقُ بنصوص الأحكام .
قال الطُّوْفي _ يرحمه الله _ [ شرْح مختصر الروضة 3/581 ] : و يُشترَط أن يعرف من النحو و اللغة ما يكفيه في معرفة في معرفة ما يتعلَّق بالكتاب و السنة مِنْ : نصٍّ ، و ظاهرٍ و مجمَلٍ ، و حقيقةٍ و مجازٍ ، و عامٍ و خاص ، و مُطْلَقٍ و مقيَّدٍ ، و دليل الخطاب و نحوه كـ : فحوى الخطاب ، و لحنه ، و مفهومه ، لأن بعضَ الأحكام يتعلَّق بذلك و يتوقَّف عليه توقفاً ضرورياً . ا،هـ .
انظر : البحر المحيط 6/202 ، التحبير _ للمرْداوي _ 8/3875 .
4. معرفة مواقع الأجماع ، و ذلك لأمرين :
أ _ التحرُّز من القول بما يُخالفه ، و يُلْحق بذلك : إحداثُ قولٍ ثالث .
ب _ التحرُّز من القول بالخلاف أو القول المهجور المتروك .
انظر : المستصفى 2/351 ، البحر المحيط 6/201 .
فائدة : قال الإمامُ الزركشي _ يرحمه الله _ [ البحر المحيط 6/201 ] : و لابُدَّ معَ ذلك أن يعرفَ الاختلاف . ا،هـ .
5. معرفة الناسخ و المنسوخ ، حتى لا يستدل بنصٍّ منسوخ .
انظر : البحر المحيط 6/203 ، التحبير 8/3873 .
6. معرفةُ أصول الجرح و التعديل .(2/4)
قال المرْداوي _ يرحمه الله _ [ التحبير 8/3875 ] : لكنْ يكفي التعويلُ في هذه الأمور كلها في هذه الأزمنة على كلام أئمة الحديث كأحمد ، و البخاري ، و مسلم ، و أبي داود ، و الدارقُطْني ، و نحوهم ؛ لأنهم أهل المعرفة بذلك ، فجازَ الأخذ بقولهم كما نأخذ بقولِ المُقَيِّمين في القيم . ا،هـ.
انظر : البحر المحيط 6/203 ، التحبير 8/3875 .
7. معرفة أصول الفقه .
انظر : المحصول 2/36 ، إرشاد الفحول _ للشوْكاني _ ص 234 ، التحبير 8/3870 .
فائدتان مُتَمِّمَتان :
الأوْلى : قال الصَيْرَفي _ يرحمه الله _ : و مَنْ عرَفَ هذه العلوم فهو في المرتبة العليا ، و من قَصر عنه فمقدارُه ما أحسن ، و لن يجوز أن يُحيطَ بجميع هذه العلوم أحدٌ غير النبي _ T _ و هو مُتفرِّقٌ في جملتهم .
و الغرضُ الّلازم مِن علمِ ما وصفت ما لا يقدرُ العبد بترك فعله ، و كلما ازداد علماً ازداد منزلةً. قال _ تعالى _ : { و فَوْقَ كلِّ ذيْ علمٍ عليمٍ } . ا،هـ [ البحرُ المحيط 6/203 ] .
الثانية : قال الشوكاني _ يرحمه الله _ : و منْ جعل المقدار المُحتاجَ إليه من هذه الفنون هو معرفةُ مُختصَرَاتُها ، أو كتابٍ متوسِّطٍ من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعدَ ، بل الاستكثارُ من الممارسة لها و التوسع في الإطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوةً في البحثِ ، و بصراً في الاستخراج ، و بصيرةً في حصول مطلوبه .
و الحاصلُ : أنَّه لابُدَّ أن تَثْبُتَ له الملَكَةُ القوية في هذه العلوم ، و إنما تثْبُتُ هذه الملَكَةُ بطولِ المُمَارَسة ، و كثرة المُلازمة لشيوخ هذا الفن . ا،هـ [ إرشاد الفحول ص 234 ] .
و بعدَ ذكرِ هذه الشروط المُؤَهِّلَةِ للتصدُّر للاستنباط في الشريعة نعرِفُ عِظَمَ الأمر ، و خطورة الإقدام على مثل هذا .(2/5)
فهذان عِبئانِ من أعباءِ الفقهِ ، يَبِيْنُ منهما عِظَمُ قيمةِ الفقهِ عند العلماء ، و مدى حاجةِ النَّاسِ له ، و ليس علماً يُؤخَذُ عبرَ حالاتٍ لا يُؤْبَه به فيها ، و إنما أمرُه أن يُؤْخَذَ عن : قانون معتَبَرٍ ، و بجدٍ و حزمٍ ، و أن يكون ذلك مصحوباً بعملٍ في الباطن و الظاهر .
رزقنا اللهُ الفقهَ في الدِّين ، و لزوم جادة العلماء العابدين ، و الله الموفق لا ربَّ سواه .
رَقَمَها
عبدُ الله بنُ سُليمان العبد الله
[ ذو المعالي ]
لطف الله بِهِ
الرياض _ 5/1424هـ(2/6)
( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
إن من عظيم نِعَمِ الله على العباد وَهْبَهُ إياهم أموراً تُمَيِّزُ بعضَهم فيها عن بعض ، و قُدَرَاً متفاوتة مختلفة .
فليس البشر كلهم في القُدُرَات سواءً ، و لا هم _ أيضاً _ في المواهب على اتفاق ، بل أوْجَدَ الله فيهم اختلاف ذلك ، و تفاوته و عدم اتفاقه لِحِكَمٍ عُظمى قلَّ المُدْرِكُوْن لها .
و لذلك كانت هذه الكلمة تحمل في طيَّاتها أصلاً أصيلاً ، و قاعدةً متينةً و هي : ( معرفة المرء قُدَرَ نفسه ) .
قال العلامة ابن عاشور _ رحمه الله _ : ( و هذه الآية أصلٌ لوجوب عرْضِ المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علِمَ أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة ) . التحرير و االتنوير ( 7/9 )
و معناها واردٌ عن السلف _ رضي الله عنهم _ و من أحسن تلك الكلمات ما كتبه الإمام مالك بن أنس _ رحمه الله _ لأحد العباد _ لما كتب أحد العباد إليه ينكر عليه اشتغاله بالعلم، ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك -رحمه الله-: \"إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر\".
فالإمام مالكٌ _ رحمه الله _ أشار هنا إشارة بليغة إلى هذه القاعدة الكبيرة ، فما أفقهه من إمام ، و ما أبعد نظره .
و هذه القاعدة الكبرى مُرْتَكِزَةٌ على ركيزَتَيْن اثنتين :
الأولى : عدم رَفْعِ النفس فوق قدْرِها .
حيث ترى _ و هو كثير _ مَنْ يُخادع نفسه و يُلْبِسُها لباس الزور فيُنزلها منازل كبيرةً عليها ، ليست هي من أهلها و لا قَرُبَتْ من أحوالهم .
الثانية : عدم إهانتها و إنزالها عن قدرها .
و هذه كسابقتها في الكثرة و الانتشار .(3/1)
و كما أن الناس متَّعَهم الله بقُدَرٍ فإنه مما لا شك أن لتحصيلها سُبُلاً و طُرُقَاً ، و جملة تلك طريقان :
الأولى : إدراك المرء ذلك من نفسه .
و ذلك من خلال تجارُب و أحوال مرَّت به علَّمته أنه يملك قُدْرَةً على أمرْ دون غيره ، و قليل من يُدْرِكُ ذلك من تلقاء ذاته .
و لقد حَفَلت السيرة بشيء من ذلك ما يُذْكِرُ عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قال : أنا من الراسخين في العلم .
فابن عباس _ هنا _ أدرك من نفسه هذه القُدْرَة فنبَّه عليها ، و أفصح عن حقيقتها .
و مثله : ما يُذكرُ عن كثير من السلف _ صحابةً و تابعين و تابعيهم _ من إخبارهم غيرَهم عما يعلمونه دون غيرهم .
الثانية : إدراك غيره منه .
الإنسان مَدَنِيٌ بطبعه ، مُنْجَذِبٌ إلى بني جنسه ، كثير المعاشرة لهم ؛ لذا فقد يطلع بعضٌ على أن فلاناً موهوب بموهبة كذا ؛ و هو جاهل بقُدْرَته هذه ، غافلاً عن تلك الموهبة .
و من هذه ما حفَلَت به السيَر فمنها :
شأن أبي ذر _ رضي الله عنه _ فقد طلب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يوليَه إمرةً فقال له ( صلى الله عليه وسلم ) : \"إني أراك ضعيفا،ً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم\"
فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أدرك من حال أبي ذر _ رضي الله عنه _ عدم أهليته للإمارة فنهاه ، و قد غابت هذه عنه و أدركها غيره .
و مِنْ ذلك ما يُذكر عن الخليل بن أحمد الفراهيدي _ رحمه الله _ لما جاءه الأصمعي _ عبد الملك بن قريب _ رحمه الله _ طالباً علم العَرُوْض فلم يستطع فهمه ، فأنشد الخليل :
إذا لم تستطع شيئا فدعه *** و جاوزه إلى ما تستطيع .
و حيث عُرِفَ هذا فإن على الإنسان أن يعلم أن لهذه المعرفة لقُدُرَات النفس مجالان _ هما أهم ما يظهر في الساحة _ :
الأول : العلم .(3/2)
مُفْرِحٌ أن نرى كثيراً من رجال الصحوة يعملون و يشتغلون في طلب العلم ، و لكن يُؤْسِفُ _ جداً _ أن ترى عدداً ليس بالقليل منهم ينفضُّ عن مجالس العلم تلك في فترة قصيرة و جيزة .
و حين بَحْثِ السبب في ذلك تلمح أنه الجهل بقُدْرَةِ الرجل و ميوله و اهتمامه .
فإن طلب العلم شأنُ مَنْ ليس له أي شأن إلا طلب العلم ؛ فهو يحتاج إلى تفرُّغٍ ، و سهر ، و بحث ، و تحرير ، و حفظٍ ، … .
فكثير ممن سلك ذلك لم يَدُرْ في خاطره _ و لو لمرَّةٍ _ تساؤلٌ :
هل هو ممن يستطيع طلب العلم و التفرُّغ له ، و إعطاءه حقه ؟
الثاني : الدعوة .
إن الاهتمام بالدعوة شأن كثيرين من رجال الصحوة و شبابها ، و هذا مما يُبَشِّرُ بخير .
لكن يَرِدُ عليه ما وَرَدَ على المجال السابق ؛ و هو : أن بعض المشتغلين بالدعوة ممن دفعتهم عاطفتهم إلى العمل بها ، و هذا أمر لا يُراد ؛ إذ أمور الدعوة لابد لها من سلوك مسارات منضبطة ، و نظام مدروس .
أما أن تُسْلَك سُبُل الدعوة هكذا بلا قواعد تُدْرَسُ من خلالها ، فلا .
و أما أن يسلك الدعوة من له قُدرة على تحمل أعبائها و من ليس له قدرة ، فلا ، و ليس من شأن الجادين .
هذان مجالان مهمان جاء الحديث عنهما لكونهما هما الظاهران في الساحة ، و في صفِّ رجال الصحوة ، و في سلك العمل الدعوي .
و إلا فهناك مجالات كثيرة تحتاج إلى أن نتحدَّث عنها في مثل هذا .
و أخيراً : فإن لمعرفة المرء قُدَرَ نَفْسِه ، و اكتشاف مواهبه ، فوائد نفيسة ؛ منها :
الأولى : تنظيم العمل الإسلامي .
فإذا عرف كلٌّ منَّا ما يحسنه و يتقنه من أعمال ، و مجالات ، انتظم العمل الإسلامي بعمومه ؛ العلمي ، و الدعوي .
فمن عرف أهليته للعمل الدعوي ، و توافرت لديه إمكانات و قُدَرُ الإبداع في المجال الدعوي سلكه و سار فيه .
و من عرف من نفسه الإتقان في المجال العلمي انتهجه و لَزِمَه .
و بذلك ينتظم العمل الإسلامي في أحسن مساراته .
الثانية : حفظ الوقت .(3/3)
و سرُّه أن كلاً سيعمل في حقله الذي مالت إليه نفسه ، و وثق في الإتقان فيه ، و الإبداع في مجالاته .
و حفظ الوقت هنا نوعان :
الأول : حفظ وقت العمل الإسلامي .
فلا يضيع أكثر زمانه في أمور ليس منها نفع له .
و ذلك : أنه لو أخذ كلٌّ منَّا مجاله الذي يتقنه لكان في ذلك إنجاز أهدافٍ كِثار كبارٍ في مشروع العمل الإسلامي .
لكن حين تقلب كثيرٍ من رجال الصحوة في مجالات عِدَّةٍ ، و تنقلاتهم فيما بين مجالات العمل الإسلامي تتأخر أهداف كان تحققها في وقت سبق ، أو ربما تتحق في وقتها لكن ليست بإتقان و إحكام ، و هذا مما لا يتمشى مع أهدافنا في العمل للإسلام و السعي نحو نشره .
الثاني : حفظ وقت الشخص .
ففي سلوكه مجالاً ليس له أهلية السلوك فيه يُوْرِثُه الملل و السآمة ، و من ثَمَّ الانقطاع عنه و البحث عن غيره .
فهذه الحالة أنتجت ضياع وقت كان من الممكن أن يُسْتَغلَّ _ لو عُرِفَت قُدْرَةُ النفس _ في غيره من الأعمال الأخرى .
و أعني بالأعمال : ما يحسنه الشخص و يرى أهليته له .
الثالثة : تقدير الجهود .
حيث كلٌّ على ثَغْرَةٍ من ثغور العمل الإسلامي ، و كله عمل خير .
فذو العمل الدعوي يُقَدِّرُ جُهْدَ العامل في العمل العلمي ، و كذلك العكس .
و حين تتخلَّف المعرفة لِقُدَرِ النفس و مواهبها يكون النقد _ الهادم _ للجهود ، و يكون الانتصار للزيف الإنتاجي ؛ إذ يظن كل عامل أنه خير من صاحبه شأناً ، و أجل منه عملاً .
و هذا ما جلب لنا الخرقَ الكبير في صرح العمل الإسلامي .
الرابعة : تغطية جوانب العمل الإسلامي .
و لعل هذه من أجلِّ فوائدها ، و أعظم ثمارها ؛ فهو ما نطمح إليه في العمل للإسلام و السعي لنشره و تبليغه للناس في أقاصي الأرض .
فقد عَلِمَ كلٌ مشربه ، و لَزِمَ دَرْبَه .
فَيَجِدُّ العامل بإتقان عمله و توسيع نطاقه ، و تكثير مَنْ يُعينه ممن ينهج نهجه في القُدَر و المواهب .(3/4)
هذه خاطرة سنحت فكُتِبَتْ ، آملُ أن أكون قد وُفِّقْتُ في وضع نقاط على أحرفها .
و الله الموفق و الهادي لا إله إلا هو ، و صلى الله و سلم على نبينا محمد .(3/5)
التأصيل لمسألة الأناشيد
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
حمداً لك ربي على جميل إنعامك ، وصلاةً و سلاماً على سيِّد أنبيائك ، و رضىً و رحمة على أصحاب نبيك و سائر أوليائك .
أما بعد :
فإن الناظر في أحوال كثير من الناس اليومَ يرى كلاماً ذا طُوْلٍ و عرضٍ في مسألة ( النشيد الإسلامي ) ، و قولاً بالمنع منه تارةً ، و أخرى بالتجويز لسماعه .
و حيث أن المسألة لم تُعْطَ حقها من التأصيل الشرعي لها ، و إنما كان الكلام فيها على إحدى جهتين :
الأولى : فتاوٍ على أسئلة مطروحة .
الثانية : تأليف مُفْرَدٍ لها ، مُعْتَمَدُ المؤلفين على تلك الفتاوي .
و كما يُلْحَظُ فيهما أنه لم تكن عن بحث _ غالباً _ و تفتيش و بذلٍ للجهد في تأصيل المسألة .
لذا كانت هذه الأكتوبة _ النافعة _ إن شاء الله _ في هذه المسألة ، مراعياً تقريراً كافياً ، راغباً تحريراً شافياً .
فأقول مُسْتَمدَّاً العون من ربي الجميل ، سالكاً أقوم السبيل :
الكلام في المسألة من نواحٍ ثلاث :
الأولى : في الأصل في المسألة .
من المُتقرِّر عند الأصوليين أن الأصل في الأشياء الإباحة ، و لا يُذهب إلى التحريم و الإيجاب و الندب و الكُره إلا بدليل . من هذه ( الأناشيد الإسلامية ) فإن الأصل فيها الإباحة ، و لهذا دلالات :
الأولى : الأصلُ العام في الأشياء، و سبق .
الثانية : عدم ورود الدليل المانع منها .
الثالثة : ورود ذلك في السنة كما في قصة ابن الأكوع ، و كما في إقرار النبي ( صلى الله عليه و سلم ) من أنشد له حين قدومه من غزوة تبوك ( طلع البدرعلينا ... ) ، قال ابن القيم _ في تَعداد فوائد تلك الغزوة ) : ومنها جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا وسرروا به ما لم يكن معه محرم من لهو كمزمار وشبابة وعود ولم يكن غناء يتضمن رقية الفواحش وما حرم الله فهذا لا يحرمه أحد . أهـ [ زاد المعاد 3/572-573 ] .(4/1)
و بعد هذا نقول : إن المباح _ كما هو مقرر عند الأصوليين _ يأخذ حكم ما أدى إليه من الوجوب و التحريم و ما إليه ، و النشيد من هذا القبيل فيأخذ حكم غيره من إحدى جهات ثلاث :
الأولى : جهة المضمون .
فما كان الشعر المُلَحَّن يحمل أبياتاً ذات معانٍ رفيعة ، و آداباً حِساناً فإنه لا شيء فيه و داخل ضمن ( حسنِ الشعر ) .
و أما إذا كان غير ذلك و بعكسه فإنه مُحرَّمٌ قولاً و إنشاداً و تلحيناً ، و التحريم ليس لذاته بل لما تضمنه من عكس الفضيلة ، و خلاف الأدب .
الثانية : من جهة ما صاحبَه .
الشعر إذا صاحبه من قائله _ أو غيره _ ألة لهو ، و أداة عَزْفٍ حَرُمَ ، و التحريم هنا من أجل ذاك المُصَاحِبُ .
الثالثة : من جهة ما يؤدي إليه و يُفضي .
يختلف الشعراء في تضمين أشعارهم ؛ فمنهم من يُضمنها معانٍ ذات سموٍّ و رفعة ، و منهم من يُضمنها معانٍ ذات دنوٍّ و سفول .
و بهاتيك المضامين يكون نتاج الشعر بعد سماعه .
فإذا كان النشيد مؤدياً إلى درب كمال الخلق ، و سلوك طريق الأدب فأنعم به قيلاً و سماعاً و تلحيناً .
و إن كان خلاف ذلك فلا .
الناحية الثانية : المصالح و المفاسد في ( الأناشيد الإسلامية ) .
حين النظر في هذه المسألة من حيث قاعدةُ المصالح و المفاسد نرى أن لها حظاً كبيراً و نصيباً وافراً .
فمصالح ( الأناشيد الإسلامية ) كثيرةٌ تَرْجَحُ على ما يُظَنُّ و يُزْعَمُ أنها مفاسد .
و غلطاً صنيع بعض المشتغلين بالعلم تغليبُ الأقل ( المفاسد ) على الأكثر ( المصالح ) .
فمن جملة الفوائد و المصالح :
1- أن سماعها ترويحٌ عن النفس .
2- أن فيها غَنَاءٌ عن سماع الغِنَاء و الخنا .
3- ما تتضمنه من أبيات رفيعة اللفظ ، غزيرة المعنى كافٍ في سماعها و انتقائها .
4- أنه مِعْوَلٌ لهدم الشريط الغنائي الساقط .
5- أنها تربيةٌ للنفس بما تضمنته من آداب و أخلاق .(4/2)
و من مفاسد ( الأناشيد الإسلامية ) _ و هي ليست بشيء ، و ذكرُها من باب ذكر القسيم _ :
1- أن الإكثارَ من سماعها مما يجعلها ملهاةً عن أمور أهم .
2- لحنٌ مَشِيْنٍ في بعضها _ و هو نادر _ .
الناحية الثالثة : في المفارقة بين ( القصائد الصوفية ) و ( الأناشيد الإسلامية ).
مما علَّل به بعضُ من منع سماع ( الأناشيد الإسلامية ) كونها تُشابه ( القصائد الصوفية ) و ( السماع الصوفي ) .
و في هذه التعليل نظر بيِّن واضحٌ ، بل بينهما من المفارقة ما يقتضي عدم المقارنة و المشابهة .
نعم بين السماعين تشابه في أمرين :
الأول : كونهما شعرٌ مُقفَّى موزون .
الثاني : اللحن الموجود في كلٍّ .
و المفارقة بينهما من جهتين :
الأولى : من جهة المضمون .
فـ ( قصائد الصوفية ) غالباً ما تكون مُتضمِّنَةً لأمرين كفيلين في بيان المفارقة ، و هما :
الأول : الشرك و البدعة في قصائدهم ، و لا أدل على ذلك من ( البردة ) للبوصيري .
الثاني : الفسق و الخنا كالغزل و التشبيب .
و أما ( الأناشيد الإسلامية ) فهي في خلاءٍ من ذلك _ و لله الحمد _ ، بل تتضمن المعاني الرفيعة و الأخلاق السامية و الآداب الكاملة .
الثانية : جهة الأداء .
يتفق الحال بين ( القصائد الصوفية ) و ( الأناشيد الإسلامية ) في كونهما شعراً ملحوناً .
لكن ( القصائد الصوفية ) تفارق ( الأناشيد الإسلامية ) من جهة البكاء و العويل .
و للمانعين عللٌ أُخرى ضربت عنها صفحاً على أمل أن يكون هناك توسع في تحرير المسألة و تفصيل .
و الله أعلم ، و صلى الله و سلم على نبينا محمد .
الرياض 22/4/1423هـ(4/3)
التقييم : خلل و تصحيح
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
جميلٌ أن يُعملَ الإنسان عقله و فكره مقيِّماً أمراً مما يسوغ له أن يدخل في التقييم له ، و هذا نوع من إعمال الفكر في اختيار و تحقيق ما يناسبه .
لكن المؤسف أن يكون هذا التقييم مطلقاً لا ضوابط له ، أو يكون اتكاؤه على ضوابط وهمية خرافية لا تنتج إلا خللاً كبيراً ، و خرقاً واسعاً .
فلعظم هذا الأمر تعيَّن الكتب في هذا إيضاحاً و بياناً للخلل الواقع و الحاصل في التقييم عند كثير من طلاب العلم .
و قبل البدء بذكر الخلل أريد أن أبيِّن أن التقييم إنما هو : تقييم بعضُ طلاب العلم الشيوخَ من أهل العلم ، و الدين .
فمن الخلل :
أولاً : تقييم العالم بكثرة دروسه و لقاءاته العلمية .
و هذا سائد و منتشر عند الأغلبية من طلاب العلم ، فما أن يروا عالماً قد ربت دروسه و كثرت إلا و تكالبت عليه ألقاب التعظيم ، و شارات : العلامة ، الفذ ، الحافظ ، … إلخ .
و يكون هذا التقييم في بعض الأحايين في مقابل عالمٍ آخر مثله في : السن ، العلم ، المكانة ، الشيوخ.
و هذا خلل بيِّن لكل ذي عينين ، و واضح لمن أنار الله بصيرته .
فلم يكن معهوداً عند السالكين مجال العلم أن كثرة دروس الرجل دالة على قوة في العلمية تؤهله أن يفضل على غيره ، أو أن يُلزم فلا يُغادر درسه .
و ليست قلتها دالة على قلة علم الرجل ، و ضيق مداركه العلمية .
و لو نظرنا بهذا الاعتبار لكنا مُسْقطين لجملة من أهل العلم _ الذين هم أهله _ في قديم الزمان و حديثه ، و آخذين لجملة من المتصفين بالعلم _ و لم يدركوا حال الذين قبلهم _ كذلك .
نعم ؛ الأصل أن كثرة الدروس فيها دلالة على كثرة علم الشيخ و لكنها دلالة ظنيَّة لا يقين فيها .
و بيان كونها ظنية ليست باليقينية أن أهل العلم فيهم تفاوت في أحوالهم :(5/1)
فمنهم من هو كثير الأشغال ، فلا يكاد يجد له وقتاً يفرغ فيه للتعليم أصلاً ، أو الزيادة من مجالس التعليم .
و منهم من لم يفتح الله _ تعالى _ له في التعليم لكن فتح عليه في مجالات أُخر .
و منهم من لم يُعرف ، و منهم من لم يُعطَ أسلوباً في التعليم مناسباً لحال طلاب زمانه .
إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يكاد يخلو منها أحد من أهل العلم ممن هذا شأنه .
و إذا نظرنا أيضاً إلى العالم المكثر من الدروس و مجالس التعليم نجد أن الكتب التي يقوم بشرحها و تدريسها كلها ذات ترابط بينها فهو إما أن يشرح في : الفقه ، أو الحديث ، أو الاعتقاد ، أو المصطلح ، … إلخ ؛ فهذه كلها علوم كتبها إنما هي إعادة و تكرار ، فليس فيها دليل على علمية العالم ، أو قوته .
ثانياً : التقييم بكثرة الكتب .
يعمد كثير من الناس إلى تقييم العالم و إيضاح رتبته العلمية من خلال ما له من الكتب و التصانيف ، و هذه حجة الجاهل بأحوال أهل العلم ، و مسالك التصنيف .
لو كان كلُّ من صنف و ألف عالماً لما كان للقولة الشهيرة ( من صنف فقد استهدف ) و لا للأخرى ( من ألف فقد عرض عقله على الناس ) أي معنى و مكانة ؛ إذ لو كان لا يؤلف إلا العالم لكان تأليفه عرض لكمال عقله ، و تمام علمه و نضوجه ، لا ليحظى بتقييم ممن هو بحاجة إلى تقييم .
فلو أبصرنا حال المكتبات في هذه الآونة لوجدنا الأكثرية من المؤلفين إنما هم ممن ليسوا على حال متقدمة في العلم .
بعض أهل العلم لا يرى نفعاً _ له _ في التأليف و التصنيف فلا حاجة له في أن يشغل نفسه في مثل ذلك .
و منهم من لم يرزقه الله جلداً على التأليف و الجلوس له ؛ إذ التأليف محتاج إلى تفرغ للبحث و التنقيب في بطون الكتب .
و منهم من يكتفي في التأليف في الأمور التي لم تطرق فيؤلف فيها .
و غالب من ألف حاله بعكس حال من لم يؤلف .(5/2)
بل أكثر التآليف في هذه الأزمنة مفرغة من الأشرطة السمعية فليست تأليفاً ، و لو صحَّ أن تسمى تأليفاً لكان كل بليغ و متفيهق يتكلم في أشرطة ثم تفرغ و تنشر كتباً مرقوم على طرتها ( تأليف ) .
ثالثاً :التقييم بكبر السن .
ما أظن زماناً عُهد فيه تقدم السن دليلاً على العلم مثل زماننا هذا .
بل لم يعرف للعلم وقتاً و لا عمراً ؛ و إنما هو مُنالٌ بالجد ، و السلوك الأمثل في التحصيل .
لا شك أن للعمر دوراً في رسوخ القدم في العلم و التمكن فيه ، و قوة التحرير و التدقيق في المسائل ، لكن ليس هو مقياساً و ميزاناً ثابتاً لتقدير علم العالم : كماً و كيفية .
و التأريخ حاكم على هذا الميزان _ الذي تعلق به من تعلق لتقييم بعض أهل العلم على بعض _ بالإبطال و النقض ، و من قرأ السير درى الخبر .
رابعاً :التقييم بكثرة الطلاب .
إن الاحتجاج و الاستدلال على مدى علمية العالم و قوته بكثرة الطلاب أو قلتهم من الأمور التي لا يلتفت إليها إلا جهلة المنتسبين إلى طلبة العلم و لمّا يدركوا .
إيضاح ذلك أن الطلاب يكثرون عند الشيخ لأسباب ، أجملها في :
(1) حسن أسلوب الشيخ و براعته في الشرح .
(2) ميول بعض الطلاب إلى الشيخ و محبتهم له _ و الحب يعمي و يصم _ .
(3) مكانة الشيخ : العلمية ، المنصبية ، النسبية ، … إلخ .
(4) التخصص ، أو التفرد بنوع من العلم .
فلا عبرة بعد هذا بالتقييم بكثرة الطلاب .
و ليُعلم أن كثرة الطلاب عند الشيخ دليل _ في الغالب _ على خلل في التأصيل في الطلب .
خامساً :التقييم من خلال : الحب و البغض .
فبعض طلاب العلم يفضا فلانا على فلان لمحبته له و بغضه للثاني ، و قد يكون الثاني أكثر علماً و قدراً ، و هذا ظلم بيِّن ظاهر .
و هذا مما لا يحتاج إلى بيان و لا إيضاح فتوضيح الواضحات من الفاضحات .
هذه بعض الخلل الموجود في صفوف طلاب العلم في هذه الأزمنة _ و الله المستعان _ .(5/3)
و ليعلم المشتغل بالتقييم أنه مقبل على ربه _ تعالى _ و محاسبه على كل صغيرة و كبيرة فلا يعلقن في ذمته شيئاً من مثل هذه الأمور ، و ليتق الله _ تعالى _ فإن لحوم العلماء مسمومة ، و عادة الله في منتهكم معلومة .
سادساً : التقييم من خلال ما يريده الشباب من الكلام في بعض القضايا الساخنة ، فنرى كثيراً من الناس كبَّرَ فلاناً ( طالب العلم ) لكونه قد أدلى بدلوه في بعض القضايا الحالَّة ، أو أفتى بما تميل إليه رغبات الشباب _ و لا يعني ذلك أنه يفتي على رغباتهم ؛ لا ، و لكن يفتي بما يراه حقاً فيتعلقون به _ و أما من خالف ما يريدونه فذاك فيه و فيه ، و من الصنف الفلاني .
و ليحذر من الحجة المهلكة _ التي قذفها الشيطان في قلوب بعض طلاب العلم _ : الكلام في مثل هذه الأمور إنما هو بيان حالٍ ، أو غيبة في ذات الله _ تعالى _ .
تصحيح التقييم
إن التقييم أمرٌ ملحٌ في جانب حياة الإنسان : علماً ، و نهجاً ، و سلوكاً ...
فأقول _ و من ربي استمد العون _ :
إن تصحيح خلل التقييم عائدٌ إلى أمورٍ هن أُسس و أصول :
الأول : التقييم الديني :
و أعني به : تقييم العالم من جهة دينه .
و هذا له فرعان :
1- التزامه بالدين ظاهراً و باطناً .
فإن سلوك درب الاستقامة أساس في التقييم متين ، و به التعديل و التجريح .
و متى تخلَّف فردٌ من أفراد الاستقامة _ التي شأنها الضرورة _ عن رجل من الناس كان ذلك ناقصاً من تعديله .
2- الحمية للدين .
فإذا ما رأينا الرجل ( العالم ) ذا حمية على دينه حين انتهاك حرماته ، و ذا قومة قوية في وجه من تبنى نشر الرذائل و تمكين أهل الفسق و الانحراف استحق بذلك أن يكون ممن له وزنه بين الناس معدَّلاً موثقاً .
و لا يستحق التقييم من نِيْلَ من دينه و انتهكت حرماته و لم تقم في قلبه قائمة الغيرة على الدين .
الثاني : التقييم العلمي :(5/4)
المعنيُّ بالتقييم العلمي هو : أن يكون تقييم العالم من حيث كونه عالماً بدين الله تعالى ، سالكاً في التعليم درباً مؤصَّلاً .
و أطمح من ذلك : أن يكون تقييم كل ذي علم بما لديه من علم ، فلا يُتَجاوَز به إلى فوق مرتبته .
و عند إمعان النظر في أحوال الطلاب مع الشيوخ نرى ذلك جلياً في تخلف التقييم الأصيل لقدر الشيخ بعلمه ، و نرى _ أيضاً _ الحطَّ على من نبغ في العلم قدراً كبيراً .
و التحكيم و الوزن راجع إلى ما في النفوس من سخائم ، و ما في القلوب من تقديس .
فالتقييم للعالم يكون من جهة ما ناله من العلم : المؤصَّل المسلوك فيه طريق الفقهاء و الأئمة المعروفين .
و _ أيضاً _ من جهة كونه باذلاً العلمَ للطلاب على وَفْقِ أصول التعليم المقررة في كتب التربية و التعليم .
ثالثاً : التقييم الإبلاغي :
و أعني به : تقييم الشيخ من جهة كونه ممن أعطى دينه شيئاً من جهده الدعوي .
فمن الغلط : أن يكون تقييم شيخٍ وتفضيله وهو خِلْوٌ من أي همٍّ للتبليغ دين الله تعالى .
و من الغلط _ أيضاً _ هدرُ قَدْرِ شيخ بذل مهجته و نفسه و وقته لتبيلغ دين الله تعالى .
تنبيه : أشير إلى أمورٍ ذات بالٍ :
الأول : أن بعض العلماء العاملين في تبليغ دين الله قد يكونون ممن قارفوا شيئاً من المخالفات _ فيما يظنها المقيِّمُ أنها مخالفة _ ، فلا يعني ذلك أن يكون حاظياً بهدم قدره عند المقيِّم .
الثاني : أن الاعتبار بالتبليغ في القدر الواجب من الدعوة إلى الدين و الحق .
فليس مراداً لي _ البتة _ أن يكون همه التبليغ و الدعوة بمعنى : أن يكون عاكفاً ليل نهار ، لا و لكن مرادي أن ذا بذل مناسب لقدره و مقامه العلمي .
الثالث : عند التقييم يلاحظ أمرٌ مهم ؛ و هو : اعتبار المسائل الخلافية في الشريعة ، فلا تأتي إلى رجل عالمٍ يأخذ من لحيته فتفسقه و تحطُ من شأنه لأنه يأخذ من لحيته .(5/5)
فهذا سوء فهم ، و ليس تقييماً علمياً ؛ إذ ما قام هو بأخذ لحيته إلا لما صح عنده جوازها ، كما أن من لم يأخذ ما ترك الأخذ إلا لما صح عنده عدم جوازه .
فليست المسائل كلها مُجْمَعٌ عليها .
و الله الموفق
الخميس 19/2/1423هـ(5/6)
التَّرْقِيَةُ في مِعْرَاجِ التَّرْبِيَة
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
إن من معاني ( التزكية ) و ( التربية ) النماء و الترقي بالشيء نحو الكمال ، و الإيصالُ له نحو المطلب المرموق ، و هذا المعنى مضموم مع المعاني الأخرى التي تعني ( التحلية ) بكل فضيلة ، و ( التخلية ) من كل رذيلة ، و بضمِّ ذاك مع ذين يكون الشأن واضحاً بيِّناً ، و نتحصَّلُ على قاعدةٍ أُمٍّ في التربية الذاتية .
تلك هي قاعدة : الترقية في التربية ، إننا حين نسعى في تربية ذواتنا و غيرنا فإننا نطمحُ من تلك التربية بالوصول إلى أمرٍ من الغايات الكمالية ، و نصلُ إلى هدفٍ سامٍ شامخ ، و هذا من أُسس المقاصد التربوية .
و الترقية التربوية ملازمةً للطموح ، و مجاريةً للهمة ، و مصاحبةً للعزيمة ، و من تخلَّى عنها ممن يأْمَلُ من نفسه أن يكون ذا طموحٍ و همةٍ و عزمةٍ فليس من آمالِه في شيء ، و لا من أمانيه في حظٍ .
ذلك أن الهمةَ السعيُ في تحصيلِ الغاية مع بذلِ ما دونها لها ، و الماكثُ على حالٍ في تربية نفسه و تهذيبها ليس آتياً بمعنى الهمة ، و لا جائياً بحقيقتها .
و الطموح ذا نظرٍ بعيد ، و أُفُقٍ واسع يَرْمُقُ المجد غايته ، و يُبصرُ الكمالَ نهايته ، و الباقي على وتيرةٍ واحدة على النقيضِ من هذا المعنى .
هذا فيما هو من خصائص النفس و رغائبها ، كيف إذا كان من المقررات في الشريعة تحريضُ الشارع عبادَه لتحقيق الترقية التربوية ، يقول الله _ تعالى _ : { و في ذلك فليتنافس المتنافسون } ، بل مايزَ الله بين عباده فجعلهم على مراتب ؛ المقربين ، ثم أصحاب اليمين ، ثم أصحاب الشمال ، و لم يكن هذا التمايزُ بينهم , و التقسيم لهم إلا لبيان أن ذلك بسبب السعي منهم في الترقية التربوية .
و يقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : " مَن بطأ به عملُه لم يسرع به نسبُه " ، و المراد واضحٌ بيِّنٌ ظاهر .(6/1)
و كان من كلام العلماء التربويين في سَوْقِ الحديثِ عن الليل و أُنْسِ الصالحين به و فيه أن جعلوه محلَّ السباق ، و ساحة التنافس ، و مقام التمايزِ بين العباد في الأسبقِ إلى الله _ تعالى _ ، و لقد كان أبو بكرٍ _ رضي الله عنه _ سباقاً إلى الخيرات ، راقياً بنفسه في الفضائل لذا عجزَ عمر _ رضي الله عنه _ عن دَرْكِ أبي بكر ، أو مضارعته ، و من أجل ذا _ أيضاً _ استحق أبواب الجنة الثمانية ، و في الأمة كثيرون نالوا مقامات الرقي التزكوي ، و لا يزال فيها بقية باقية ، فمن ذا و ذاك نعرف مدى قيمة الترقية التربوية ، و منتهى نفاستها للراغب في الكمال .
الترقية في مجال التربية لها أنواع و أحوال ، منها :
أولاً : الترقي في الوسائل العلمية النظرية ، فليس من التربية في شيءٍ أن يبقى المُربِّيْ على وسيلةٍ واحدة يُصبحُ عليها و يُمسي ، و يشِبُّ و يشيب ، فإن الركود على الشيء _ مع وجود أفضل منه _ دنو في الهمة ، و ضعفٌ في العزيمة .
التقنية الحديثة أتت بوسائل تعليمية و تربوية كثيرةٌ جداً ، فالتنويع بينها مطلبٌ مهم جداً ، و الأخذ بها من عيون الحكمة التزكوية ، و من سوابل الترقية التربوية .
و يأخذُ المرءُ المُربَّى على أي وسيلةٍ تتناسبُ مع همته و هدفه و قدراته ، و لكن بشرطين :
الأول : أن تكون وسيلةً مباحةً ، فلا يجوز الاعتماد على الحرام للوصول إلى الحلال ، فإن الغايات لا تبرر الوسائل ، و في الوسائل المباحة ما يُغني عن الحرام أو المُشْتَبَه فيه .
و الوسائل المُحرَّمة متنوعة منها :
* إلزام المرءِ المُربَّى وسيلةً فيها مضرةً عليه ، كالتجويع المضر ، و كالإسهار المهلك ، و كالوقوف المرهق ، فإن مثل هذه إذا كانت تؤخذ للتربية و يلحقُ صاحبَها ضررٌ فلا يجوز ، و أما إذا فيها دُرْبَةٌ على الصبر ، و تعويدٌ على الجلَد _ مع عدم المضرَّة _ فلا بأس ، على أن الإعراضَ عنها خيرٌ .(6/2)
الثاني : أن تكون نافعةً مفيدةً ، فليست كلُّ وسيلةٍ مفيدة و نافعة ، فمن الوسائل ما هو مباحٌ لكن لا فائدة منها و لا منفعة فيها فتكون الترقية قاصرةٌ ناقصة ، و منفعةُ الوسيلة تؤخذ من طريقين :
أولهما : النصُّ الشرعي ، فإنه قد جاء في النصوص بيانٌ للطرق النافعة في الترقية بالنفس ، و أنها ذات نفع و ثمرة ، كـ : الترغيب و الترهيب ، و الأخذ بالمُربَّى في الشدة أحياناً للتأدب ، و الهجرِ الجميل ، و غير ذلك ، و كلها نافعةٌ بنصِّ الشارع .
ثانيهما : التجرُبة ، فمن الوسائل ما جُرِّبَ فظهرَ أثرُ نفعه فيكون مفيداً لذلك الأثر ، استناداً على الأصل العام أن الأشياء الأصل فيها الإباحة ، و أن ما نفع منها و أفاد فيؤخذ به .
و عليه أن يكون في أخذه بتلك الوسائل مراعياً الأولويةَ فيها ، فلا يجنح لقليلِ منفعةٍ و أثرٍ مع وجود ما هو أكبرُ نفعاً منه .
ثانياً : الترقي في العمل التطبيقي التربوي ، فإنه متنوِّعٌ منه العلمي ، و منه العملي ، و الأخذُ بالمُربَّى في هذا الجانب رُقياً و صعوداً ضروري ، و الاقتصارُ على الدون ، و الركود على الحال من أضداد الكمال .
أولَ بَدْءِ المرءِ بتربية نفسه يكون آخذاً بالهيِّن السهل على نفسه ، سالِكاً معها مسلك الترغيبِ تاراتٍ ، و الترهيب تارة ، مجارياً لها ، عاذراً خطأها ، و كلُّ ذلك للتعَوَّدَ على أن تتجلَّدَ على الأخذ بالشدائد و الصعْبِ من الأعمال و العبادات .
و الأعمالُ العبادية متنوِّعةٌ كثيرة ، منها ما يندرجُ تحت جنس الصلاة ، و منها المُضمَّن لعمل الذكر ، و ما إلى ذلك .
إن السلوك بالمُرَبَّى على سابلة الترقي و الصعود في الجانب العملي و العلمي من أهم ملامح هذه القاعدة التربوية النفيسة ، كما أن إغفالها و إهمالَها و ترْكها ، و عدم رعايتها ترقِّياً شرْخُ خطرٍ في التربية.(6/3)
ففي الصلاة يكون بَدْؤه _ بعد إتيانه بما يكون من لوازم المسلم في يومه و ليلته [ الرواتب ، الوتر، القيام ] _ بصلاة الضحى ، و النفل المطلق ، و سائر الصلوات النوافل المُستحب الإتيان بها .
فنتلخَّصُ إلى أن يكون شأنه في السير في الترقي في صلاته على النحو التالي :
1. النوافل المؤكدة على المرء إتيانه بها ، كـ : السنن الراتبة ، و الوتر ، و قيام الليل .
2. النوافل المستحبة المقيَّدة ، كـ : صلاة الضحى .
و يُلاحظُ في الأمرين التدرُّج و الحكمة في الأخذ بالمُربَّى في الترقية التربية ، فإن بعضاً منها لا يتناسب مع المُربَّى ، و بعضها أقلَّ منه ، فمراعاة الحكمة و التدرُّج مهم جداً .
3. النفل المُطلَق العام في جميع العبادات .
من أفضلِ ما يُرَقِّي المرء في العملية التربوية ، و المنهجية التزكوية جعلُ مراحلَ للعملية التربوية ، و وجعلُ مدىً زمنياً للمراحل ، و الأخذ بالمُربَّى في تلك الأحوال على أحسن حال ، فإن هذا لو أخذ به المرءُ لكان مُحصِّلاً لمنافع كثيرات جداً في سبيله التربوي .
و بعدَ هذا لابد من أخذ الأمور التربوية بحزمٍ و جد ، و الإعراضِ عن الهزل و اللين في غير محله ، فقد مللنا وجودَ جيلٍ مُربَّى على غير جادة من التزكية النافعة ، و مللنا من تواجد عينات من الصالحين اتخذوا رسماً صورياً للاستقامة و خلوا من حقائق تلك الأحوال و الأخلاق .
و ما ألذَّ أن يشتغلَ المُتَزَكِّي بكتب الأئمة الأعلام : ابنُ قيم الجوزية ( مدارج السالكين ) و ( طريق الهجرتين ) ، أبو حامدٍ الغزَّالي ( منهاج العابدين ) و ( مكاشفة القلوب ) ، ابنُ رجبٍ ( الدُّلْجة ) و ( لطائف المعارف ) و غير ذلك كثير .
و الاعتكاف على قراءة تراجم الصالحين و العُباد ففيها النفع الكبير .
22-6-1424هـ(6/4)
الحفظ و الفهم
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
مسألة الحفظ و الفهم من المسائل المهمة في سلك الطلب ..
و لا بد للطالب من مراعاتهما رعاية تحفظ مقامهما ، و شأنهما
و ذلك من خلال أمور :
الأول : الوقت المناسب لهما :
الحفظ أغلب ما يكون الاشتغال به في زمن الصبا ( و أعني : الإكثار من المحفوظ ) .
و الفهم أغلب وقته هو حال الكبر لتفتح الذهن .
و لا يعني ذلك أن الفهم يُغفل في حال الصغر .
و لا أن الحفظ يهمل في سن الكبر .
لا ، و إنما المراد هو إعمال كل سن بما يكون الإقبال عليه أكثر كما مر تقريره .
الثاني : ما يُعمل في كلا منهما .
أغلب ما يكون الاشتغال بالمحفوظ في أمور :
أحدها : النصوص الشرعية التعبدية .
ثانيها : ما يكثر الاستدلال به و الاحتجاج من العلم .
ثالثها : التعاريف و الضوابط .
و الجامع لهذين هو أغلب علم الغاية .
و أغلب ما يكون الفهم في أمورٍ تحتاج إلى تبصر و تعقل فهذه لا تحتاج إلى حفظ أكثر من احتياجها إلى الفهم و التدبر .
الثالث : الفهم هو تفتيق للذهن و إعمال لوظيفته فلا يجوز للطال أن يغفله أو يهمله .
و هو صعب في أوله لكنه مع الإدمان و الدربة يسهل .
و الحفظ هو تكرار لمحفوظ فلا ينفع صاحبه إلا في جزيئة صغيرة .
هذا إذا لم يكن ثمة فهم يصاحبه .
فإن صاحبه فهم فهو من أحسن ما يكون .
هذه خاطرة سنحت في البال .
الرياض 2/2/1423هـ(7/1)
السياسة العِلْمِيَّة
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
يشكو كثيرٌ من الناس آفاتٍ في طريق تحصيلهم العلم ، بل يشكون عدم جدوى سلوكهم دَرْبَ ( العلم ) .
و نرى في عباراتهم التوجع من فوات الأعمار في أشياءَ ظنوها علماً و ما هي بذاك .
و لهؤلاء أقول : إن الأمر قد عمَّ كثيراً من سالِكي دَرْبَ ( العلم ) ، و صدحوا بصرخاتٍ مدوية أرجفت قلوب الغيورين على جانب ( العلم ) و جانب ( العمل ) و جانب ( الإصلاح ) .
و هذا الخلل الكائنُ في صفوف طلاب ( العلم ) إنما عَوْدُهُ إلى إهمال ( السياسة العلمية ) و عدم مراعاتها .
إن أحوال المرء لا تكون فوضوية إلا ويصاحبها الفشل الدائم و عدم الاستفادة ، و لا تكون مرتبةً مَسوسةً إلا كان لها نتاجٌ طيب و نفع مستمر .
و من ذلك ( العلم ) فإذا كان الطالب سالكاً فيه جادةً مسلوكة ، و طريقة محفوظة حَظِيَ بعوائد الفوائد ، و أما إذا كان سلوكه من خلال طريق خطرت ، أو سبيل طرأ فسُلِكَ فإن عوائده بوائد .
لقد نال كثيراً من الناس ذمٌّ بسبب إهمال ( السياسة العلمية ) ، كما نالَ غيرَهم مدحاً و حمداً في حسن ( العلم ) بسبب رعاية ( السياسة العلمية ) .
إن ( السياسة العلمية ) حين نعرضُ للكلام عنها فإننا نحصرها في سياسة الطلب . و أعني بها : رعاية ( السياسة العلمية ) في وقت تلقي ( العلم ) .
و هذه مما أولاها العلماء عنايةً تامةً ، و رعايةً كاملة عامة .
و غالباً ما تكون الطريقة في الطلب مفتقرةٌ إلى معرفة ( الشيخ ) بأسلوب ( التعليم ) ، و نجاح ( السياسة الطلبية العلمية ) و فشلها منوط بمعرفة الشيخ و عدمها .
و العُمْدَةُ في ( السياسة الطلبية العلمية ) هي اعتمادُ طريقةٍ آتت ثمارها ، و أثبتت فوائدها . و أما الاعتماد على طريقة لمْ تُسْلَكْ و لم تُطْرَقْ فلا أظن أن نتاجها بذاك المؤتي لذته .(8/1)
و قبيحٌ بطالب ( العلم ) أن يَعْمَدَ إلى طريقة يبتكرها فيسلكها في ( العلم ) ، مهملاً بذلك نصح الشيوخ ، و توجيه المربين .
كم كنا نسمع عن صبيانٍ شرعوا في المطولات فما جاوزوا مقدماتها ، و كم سمعنا بأقوام من الشبان بدأوا في جرد المتون على تلقاء النفس فما خرجوا إلا بما دخلوا به .
و العَتَبُ مُرْسَلٌ إلى المشايخ كما هو إلى الطلاب ، إذ إهمالهم التوجيه خلل يُحاسبون عليه ، و يدانون به .
و كانت جادة العلماء قديماً و حديثاً معروفة مشهورة في ( التعليم ) فكان مسلكهم في تعليم الطلاب ( العلم ) ما يلي :
أولاً : التدرُّجُ في التعليم ، فكانوا يبدءون بالطالب من الصغار ثم يرتقون به ، و هذا حال الربانيين .
و التدرج على أنواعٍ ثلاثة :
أولها : تدرجٌ في الفنون ، فيبدأ الطالب بالفنون الواجبة _ عيناً _ عليه ، ثم الكفائي ، ... .
ثانيها : تدرجٌ في المتون ، و يكون بدءً بالمتن الصغير ، ثم المتوسط ، ثم الكبير .
ثالثها : تدرجٌ في الشرح ، فيكون على مراحل ثلاثية على شاكلة التدرج في المتون .(8/2)
قال ابن خلدون _ رحمه الله _ : [ اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج ، شيئاً فشيئاً و قليلاً قليلاً ، يُلْقي عليه أولاً مسائل من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب ، و يقرِّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال و يُراعي في ذلك قوة عقله و استعداده لقبول ما يُورَدُ عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن ، و عند ذلك يحصل له ملَكَةٌ في ذلك العلم إلا أنها جزيئة و ضعيفة . وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته . هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات . وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه . وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً . ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية . ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن . وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهوحينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد(8/3)
له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه . وإنما أتى ذلك من سوء التعليم ] أهـ ( المقدمة : ص 531-532) .
فهذا كلام مؤصِّلٌ لهذه ( السياسة التعليمية ) المُهْمَلَة عند كثير من طلاب و أهل العلم في هذا الزمان .
ثانياً : الاعتماد على المتون المعتمدة في الفنون ، فليست كل المتون في أي فنٍّ هي عُمدٌ فيه ، و هي المعتبر بها ، بل جرت عادة العلماء على اتخاذ متون في كل فن هي المعتمدة فيه .
قال العلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده : [ المنقول من سيرهم ، و المتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة و هي مسائلها المشهورة ] أهـ ( انظر : ترتيب العلوم ص 80 ) .
و هذا من أنواع الخلل الواقع فيه كثير من الشيوخ و طلاب العلوم في تدريس المتون .
و المرجعية في ذلك إلى محققي الفن من المتقدمين المتأخرين ( المتقدمين عن المعاصرين ، المتأخرين في الزمان ) .
و إهمال هذه ( السياسة العلمية ) مما يجلب علينا ضرراً كبيراً كثيراً قال البشير الإبراهيمي _ رحمه الله _ : [ إن الذبذبة التي شهدنا آثارها السيئة في هذا الجيل الذي نحن في آخره معظم السبب فيها آتٍ من قارئيه و متعلميه _ على قلتهم _ فهم على تفاهة معلوماتهم و قلة محصولهم من المعرفة لا يرجعون إلى أصل واحد في التعليم و لا إلى منهج واحد في التربية .
و إذا اختلفت الأصول و المناهج في أمة واحدة كانت كلها فاسدة ، لأن الصالح كالحق لا يتعدد و لا يختلف ] أهـ ( آثاره : 2/ 111 ) .
و الله أعلم و هو الموفق .
جمادى الأولى 1423هـ(8/4)
العقلُ الدعوي
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
إن الناظرَ في أحوال الأمم و تجاربها يَلْحَظُ فيها أنها قد قامت على إحدى قاعدتين :
الأولى : الكيانُ الأممي .
الثاني : العقل الأممي .
و حين النظر ثانيةً إلى تلك نلْحَظُ تفاوتاً بيِّناً ين نتائج تينك القاعدتين .
إن الاعتماد في الإنتاج على الكيان أو الجسم لن يَعْدُوَ نتاجه ذلك الكيان ، بل ينتهي بنهايته ، و أما الاعتماد على العقول الفعَّالة ، و الابتكارات المُخْتَرِعة فإنه سَيُوَرِّثُ أكبرَ نتاجٍ تنتفع به الأمم ، و يدومُ معها في أحوال الزمان و تقلُّبَاته .
من ذلك يتضحُ أن نجاح أي أمرٍ إنما هو بتدعيمه بإدارة العقل ثم بالجسم المنفذ لما تُمْلِيْه تلك الإدارة .
و حتى يتحقق هذا لابد من تفعيل القُدُرات العقلية ، و حثِّها على الإنتاج الفكري إما بتحديث أو بتجديد .
تحديثٌ لمقومات تدفع بعجلة نجاح ما نريده ، و تجديد لكل قديم قد كرَّته الأيام .
و إن أحوجَ شئٍ إلى تلك القُدُراتِ العقلية ( الدعوةُ إلى الله ) ، فهي من أعظم الوظائف الإسلامية ، و من هذه الحيثية كانت الحاجة إلى تفعيل العقول لخدمتها توسيعاً لها في نطاقٍ أكبر في الأرض .
و ليتبين لنا مدى الحاجة إلى هذه العقول و الإدارة العقلية الفعالة في ( الدعوة إلى الله ) ليس علينا إلا أن نقوم بالنظر في أدوات تبليغ الدعوة ، فإننا نرى فيها : قصوراً واضحاً ، و قِدَماً بيِّناً ، و معها لا نكاد نصل إلى ما نريده إطلاقاً إلا شيئاً يسيراً .
و نحنُ في العمل الدعوي نقومُ بأعمال البدن و الجوارح ، أما ما يتعلَّق بأمور التفعيل العقلي و التدبير الذهني للمجالات الدعوية فهذا مما نفتقده في حياتنا الدعوية .
و هل ننتظرُ حتى يخرجَ لنا من أهل الإسلام مَنْ يُتْقِنُ الإدارة العقلية ؟!(9/1)
لا ، و إنما علينا الاستغلال للتقنيات الفنية الخادمة في المجال الدعوي ، فهي مرْتعٌ خَصْبٌ لتوسيع نطاق العمل الدعوي من خلالها ، و ذلك لما تميزت به من ميْزَات مهمة :
الأولى : الاتساع و البُعْد .
الثانية : السهولة و اليُسْرُ في التعامل معها .
الثالثة : الإقبال ليها مِنْ قِبَل العامة .
و فيها كفايةٌ للكشف عن أهميتها ، و تحريضٌ على استغلالها . و الأخذ بها طلبٌ مُلِحٌّ في الجانب الدعوي .
و ما أحسن أن يقوم فئات في مجتمعٍ مُسْلِمٍ بأعباء الدعوة إلى الله _ تعالى _ و يقوم آخرون بأمر التدبير الإداري العقلي للدعوة ، إذ أننا نرى إهمالاً في الإدارة الدعوية واضحاً لا يكادُ يُنكر ، و إليكَ جوانبُ من ذلك :
أولاً : الجانب الإداري ، فالإخلال في هذا الجانب كبير و بيِّنٌ و يفقد أموراً ثلاثة :
1- الإدارة .
2- التخطيط .
3- الأهداف .
فغالبُ الأعمال الدعوية سائرة بعمايةٍ و غَبَشٍ ، و موفقةٌ ببركة الله _ تعالى _ و حفظه لها ، و إلا فإن أمثالها لا يُحالفه التوفيق ، و لا أرمي بذلك أن الدعوة قيامها بهذه الأمور مُغْنٍ عن توفيق الله _ تعالى _ و لكن هي من ألأسباب التي بها يكون تحقيق العمل و إيصاله .
و هذه الأمور لا يُوجد لها في العمل الإداري أيةُ أثرٍ ، و إن كان ففي نظريات بدائية عن تصورات شخصية ، فليست قواعد مُقَنَّنَةٌ عند الإداريين فيُعْتَمَدُ عليها ، و هل هذه ذاتُ جدوى في العمل ؟!
و تكمن أهميةُ هذه الأمور إذا أبصرنا نتائجَ العمل في خواتيمه ، و رأينا الفوضوية و الخلل في الثمار .
إن الأعمال التي يقوم بها المرءُ في حياته لابد لها من مقاصدَ و غاياتٍ و أهدافٍ يُسْعى إليها ، و الأهداف ضمانات للمسيرة العملية في أيةِ عمَلٍ يعمله المرء .
و الأهداف نوعان :
أولهما : أهدافٌ زمنية ، و هي الأعمالُ التي يتمُّ إنجازها في غضون زمان مُعيَّنٍ ، و الأهداف هذه قسمان :
الأول : أهداف بعيدة المدى .(9/2)
الثاني : أهداف قصيرة المدى .
و الأول غالباً ما يكون للأعمال التي تتمتع بالشمولية و الكِبَر ، و الثاني دون ذلك .
ثانيهما : أهداف كيفية ، و يُرادُ منها الصفات و الكيفيات التي تكون عليها الأهداف و الأعمال الدعوية و هي قسمان :
أولهما : ما يتعلَّق بذات العمل الدعوي كـ :الوسائل و الغايات .
ثانيهما : ما يتعلَّق بالذوات المتعلقة بالعمل الدعوي ، و هذا شيئان :
أ- القائمين بالعمل ، وصفهم ، قُدُراتهم ، أعمالهم .
ب- المُوَجَّه إليهم العمل الدعوي .
فالعنايةُ بهذه الأهداف يضمن لنا إحكام العمل الدعوي ، و من ثَمَّ يَطيبُ النتاج و يُزهرُ الجنى .
و لِتمامِ المقصود على أحسن أوجهه لابد من رعايةِ أمرين :
الأول : الواقعيةُ ، فلا يكون : التخطيط و الإدارة و الأهداف من باب الخيال ، و إنما إظهاره في أرضِ الواقع مهم للغاية ، و _ أيضاً _ مراعاة أحوال الواقع المُعاش .
الثاني : المرونة ، و تعني : يُسْرُ التعامل معَ الطوارئ و العوارض في مجال تنفيذ الأهداف ، فإن الدقة في التخطيط الداعية إلى التخبط ليست من حُسْنِ الإدارة في شيء .
فالمرونة تجعلُ العمل يسير سيراً مضبوطاً و لا يكون في مسيره غضاضةٌ و لا إشكاليةٌ ، و أما حَصْرُ الأهداف في زمنٍ و مكانٍ و طريقة بالتحديد الدقيق ففيه مَضَرَةٌ و مَشَقَةٌ .
فالمشقةُ بعدم الإتيان بالهدف فيما حُدِّدَ له حيث العوارض التي تعترضُ الأهداف .
و أما المضرة فبالسابق : المشقة ، و بتخلف تنفيذ العمل .
و حاصل المرونة أن يكون ذلك الثلاثي ( الإدارة ، التخطيط ، الأهداف ) مطاطيةً فكيفما كانت الأمور جاء العمل و تحقيق الهدف معها .
و قَيْدُ المرونة : أن يكون بقدر معقولٍ متناسبٌ مع أحوال الزمان .(9/3)
و الجانبُ الثاني : العمل الواقعي ، إن أعمالنا الدعوية في الميادين الواقعية تعيشُ نوبَةً من الخلل المستطير المُنْبيء عن خطورة كامنة ، جرَّ تلك الخطورة عدمُ حُسْنِ تصرُّفٍ في أداء العمل الدعوي في ميادينه .
فكثيراً ما نأخذُ قواعدَ و أصولاً دعويةً و نقتنع بها ، و نتعرَّفُ على أساليب كثيرةً في الدعوة لكن الخلل في تطبيق هذه الأمور .
بل الأدهى من ذلك كله أننا نَرْكُدُ على حالٍ واحدة و ندوم عليها ، فلا نفكر بتقديم أساليب حديثة منها يكون اتساع نطاق الدعوة ، و بها يكون التأثير البليغ في المجال الدعوي .
إننا نحرصُ على أمورٍ و أساليب دعوية كثيرةٍ بِدائية لها أثرٌ بالغ _ بتوفيق الله _ ، و لكننا في الوقت ذاته نريد الانتقال من هذه الدائرة الضيقة إلى دائرةٍ أوسع و أشمل .
نتحسَّرُ حين نرى أهل الكفر و دعاة الباطل قد سبقونا بمفاوز في أساليب نشر دعواتهم ، و اتسعت رقعُ دعواتهم و أفكارهم في الأرض ، بل من بني الجِلْدَةِ مَنْ سبقَ إلى أفكارٍ متعددة النطاق ، متسعة الساحة.
لستُ داعياً إلى سلوك ما تقرر في دين الله تحريمه ، و إنما أطالبُ بأن نسلك أموراً مباحةً و جائزٌ الأخذ بها ، و هي كثيرة _ و لله الحمد _ و لن يَتَبَصَّرْها إلا مَنْ فتحَ الله على قلبهِ فأبصرَ حقائق الدعوة إلى الله .
إن أسلوب : الشريط المسموع ، و المطوية ، و الكُتَيِّب و غيرها قد شرب منها الزمن حتى رَوِيَ ، و ملَّت الناس رؤيتها ، و التنويع بينها و أخواتها من أساليب التبليغ و الدعوة مطلوب .
و مثلها أسلوب الإلقاء للحديث فالعادة القديمة في الحديث و الكلام لابد من تجديدها و تطويرها إلى أساليب أُخَرَ توحي بانبعاث النفس نحو الكلام المُلْقَى ، و تسلبُ الفؤاد ، و تسحر القلب .(9/4)
و يأخذُ المجرى ذاته المجلات و الصحافة الإسلامية فليس من المعقول أن تكون في الذنب و الباطل في الرأس ، و ليس منه كذلك أن تطرحَ طروحاتٍ مجتها الأنفس ، و سئمتها الأعين ، و الذي عليها للأمة الإسلامية أن تنتقل من الطور و الطراز القديم إلى التجديد الدائم المستمر .
و مثلَ هذا يكون الحديث عن الإعلام الإسلامي ، فأينه و التطور ؟ و أينه و التقنيات الإعلامية التي أصابت العالم بتخمة منها ؟
لا شيء ، و أستغفر الله ، هذه هي الإجابةُ المحزنة .
إننا لسنا بأقلَّ من أهل الغواية و الردى : عقلاً ، و ذكاءً ، و قُدْرَةً ، و نستطيع أن نأتي بمثل ما أتوا به بل بأكثر و الله يقول : { و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا و إن الله لمع المحسنين } .
فهما قيدان للهداية بهما يكون التوفيق نحو السداد ، و بدونهما لا يكون شيئٌ :
الأول : بذلُ الجهد .
الثاني : الإحسان في العمل .
فلم يبقَ عُذْرٌ لنا في التخلف عن ركب التقنية المتطور ، و ليس لنا أيةَ حجةٍ إذا أشبعنا أمتنا بما لا ينشر أصولها في أرجاء الأرض .
نؤمنُ بأن دين الله _ تعالى _ سيعمُّ أرجاءً كبيرة ، و أن المستقبل لهذا الدين ، و لكن نؤمنُ أيضاً أنه لا يكون ذلك إلا بأسباب تتفاقم مع حجم الزمن الذي تعيشه الأمم ، و الأساليب التقليدية لا يُؤْبَه بها .
من هنا تكون البدايةُ في السعاية بالدعوة نحو الأمام ، و تطوير تقنياتها ، و إيجادُ عقولٍ مُدَبِّرَةٍ مُفَكِّرَةٍ تضيء للدعوة طُرُقاً و دروباً ، و نُحْدِثُ من السالكين سبيل الدعوة أقواماً تنفيذيين لأفكار تلك العقول .
و غضُ الطَرْفِ عن الخلافيات التافهة مهم جداً في مسيرة العمل الدعوي .
أرجو أن أكون وضعتُ نقاطاً على أحرفٍ ، و رمقتُ بعين النصح مواضع الداء ، و أفلحتُ في وصف الداء .
12/11/1423هـ
الأربعاء - الرياض(9/5)
العلماء و الأُغيلمة
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
من المعروف لدى عقلاء طلاب العلم و نبهائهم أن العلم متشعب متفرِّع . و هذا عام في كل فن من فنون العلم .
و ذاك التشعب و التفريع نعمة كبرى إذا كان من باب التفريع المعوَّل في على أصل العلم .
و هما متضمنان خلافاً في المسائل التي هي تفريع على الأصل .
و الخلاف قسمان :
الأول : خلاف تضاد .
الثاني : خلاف تنوع .
و الأصل في علماء الإسلام _ عموماً _ أن الخلاف فيهم هو من النوع الثاني .
و أما النوع الأول فقليل القائل به ، و لم يقل و لن يقول به إلا من تلبس بهوى ، و شهوة نفس .
هذا أصل سار عليه علماء السنة _ خاصة _ و سائر علماء الدين . لكن لما ضاق الأفق في بعض الناس _المنتسبين للعلم _ بذاك النهج ، و قد تلبَّسَ _ مسبقاً _ بـ ( الامبراطورية ) النفسية ، ضيق المسائل الخلافية ، و جعلها أمراً مجمعاً عليه ، ناسفاً بذلك كل قولٍ و كتاب و مذهب اعتمد القول الذي خالف ما حققه بعض ( النكرات ) .
فكان من ذلك أن أطلق للسان العنان ، و شهر صارم قَلَمِه ، و مُظْهِراً سطرَ كتابه على كل من خالف قوله ( المُحقَّق ) .
و أصبحت القاعدة الأساس عنده هي القاعدة البوشية [ من لم يكن معي فهو ضدي ] .
فحجَّر بجهله الواسع ، و ضيَّق الشاسع ، و تلك بلية ( الأقزام ) ، و آفة ( الذبابيين ) .
فإذا ما قال ( عالم ) قولاً له فيه ( إمام ) سابقٌ له بالقول بهذا الرأي إلا و انبرى له من ( الأقزام ) من هدَّ كيانه ، و نسف بنيانه .
و السبب الدافع لذاك ( النسف ) هو مخالفته ما تقرَّر عند ( الطِّوال ) الذين تبنوا كفالة ( غلمان ) الكتاتيب .
و إن كان في الأمر إنصافاً ، و سعياً للحق لكان الهجوم على القائل به أولاً لا من قاله مقلِّداً .
بغضِّ النظر عن كون نهج أولئك ( الأقزام ) خالفوا الكتاب في : ( الإنصاف ) و ( العدل ) و ( اتباع الحسن من القول ) و ( الحكمة في الطرح ) .(10/1)
و ثمة سؤالات تتبادر إلى ذهن طالب الحق و هي :
هل المُعْتَبَرُ في العلم ما حققه المعاصرون ؟
و هل الخلاف سُدَّ بابه حين تبنى أحدٌ قولاً من الأقوال ؟
و هل الخلاف ( التنوعي ) يكون خلافاً ( تضادياً ) ؟
و هل ( الهجران ) و ( التضليل ) و ( التبديع ) يكون في المسائل الفرعية ؟
و هل مخالفة عالم لرأي آخر تُعَدُّ مسوغةً لـ ( التضليل ) و ( التفسيق ) ؟
أسئلة أطرحها على كل ( قزم ) ناطح ( طويلاً ) .
الكل يرى بين فينات عدَّةٍ أطروحات ردودية على كبارٍ من المشتغلين بالعلم في مسائل فرعية الخلاف فيها سائغ .
و لِيُلْحَظْ أن الردَّ على من لم يسلك مسالك ( الأقطاب ) المبجلين عند بعض الناس .
الأمر في الخلاف ( التنوعي ) واسع ، فلابد من مراعاته مراعاةً تليق به ، يُحتَفى فيها بالمُخالف .
و العجبُ أن أصاب بعض العلماء خوفٌ من إبداء أقوالٍ خلافية بين طلاب العلم بسبب التصرفات ( الصبيانية ) التي يقوم بها بعض ( المتعالمين ) .
و لو كان الرد من ( فاقِهٍ ) و ( نابهٍ ) لكان الخطب هيِّناً ، لكن و الأمر خرج من ( غلمان ) الكتاتيب ، و ذوي الفهاهة ، و أرباب السفاهة ؛ فما نقول إلا ( الله المستعان ) .
بل لو كان الرد و النقض من ( الغلمان ) محفوفاً بـ ( الإنصاف ) و ( العدل ) و ملازماً ( الأدب ) و ( الخلق ) مع ( المخالف ) لكان مقبولاً .
و لكن تخلَّفَت كل تلك المُؤملات فانبرى ( الغلام ) قاتلاً ( السيد ) ، و استطال ( الوضيع ) ناطحاً مقام ( الشريف ) .
فلا الأسد أصبح سيد الغاب ، و لا حاكى مشيَ الطاووس الغرابُ .(10/2)
الـ NLP و الداعية
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
يعيشُ العالَمُ ثورةً معلوماتيةً في نواحٍ عدةٍ من المعارف ، و يسعى فئام من المعرفيين إلى اغتنام الأوقات في تحصيل ذلك ، و لا لوم على أحدٍ فإن المعارف أغذيةُ العقول ، و طعام الفؤاد .
و من تلك العلوم و المعارف ما يتعلَّقُ بالذات البشرية ، و هندسة أحوالها ، و مراعاة أنماط تفكيرها ، و هو ليس من العلوم المُسْتَحْدَثَةِ حقيقتها ، و عوائدها كثيرةٌ جداً من نواحٍ عدة .
و أجلُّ تلك العوائد فيما يكون متعلَّقُه الغير أن العارف بها _ و لو ابتداءً _ يستطيع إيصال المعلومة إلى من يريد بأبسط طريق ، و أخصر أسلوب إقناعي .
و هذا الشيء من المهمات للداعية و العالم ، حيث أنه يواجه جمهوراً من الناس في إبلاغ دعوته و تختلف أنماط الناس من شخص إلى آخر ، فمنهم _ على التقسيم البشري الـNLP _ من يتعامل بنمط الصورة ، و منهم من يتعامل بنمط السمع ، و منهم من يتعامل بنمط الحسِّ و الشعور ، و التعامل مع كلٍّ بما هو من حاله و طريقته مهم جداً .
من هذا نعرف مدى أهمية هذا العلم للداعية ، و مدى قيمته العائدة عليه حين إنزاله في أرض العمل و التطبيق .
و الغفلة عنه من آفات الدعاة ، و من نقائص الدعوة ، إذ كيف نعرف درباً يُوْصِلُ المعلومة و النصيحة لأهلها من أسهل ما يكون و نعرضُ عنه لا نلوي على شيء ؟! .
عرف طوائف من أهل الشر و الإفساد هذا العلم ، و منافعه فتعلموه و استغلوا جهالةَ الصالحين به فاستعملوه في الفساد _ و من عادة بعض أهل الصلاح أن أي شيءٍ يستعمله أهل الباطل في الشر فهو شرٌّ عندهم ، و لو كان في الخير من الأمور التي لا يُستغنى عنه فيها _ فأثَّروا في عامة الناس الذي لا يفرقون بين الحق و الباطل ، و لا يعرفون للحق علائمَ إلا أن يكون من قبيل الهشِّ الضعيف .(11/1)
و هنا تكمن خطورة تعلمِ هذا العلم لمن لا يخشى اللهَ _ تعالى _ ، و نعرف أهميته _ أيضاً _ للداعية الزاهد في هذا العلم .
و ليس في تعلمه شيءٌ من المحظورية و إنما الشأن فيها أنه باقٍ على أصل الإباحة و لا يُنقلُ عنها إلا بنصٍّ ثابت الدلالة عليه .
فعلى أهل الدعوة أن يعتنوا بدراسة هذه العلوم ، و الأخذ بمعاقدها ، و النيلُ لجوامعها ، و استعمالها في البذل الدعوي .
سدَّد الله الخُطى ، و أقالَ الخَطا ، و رفع الدرجة ، و غفر الزلة .
13/3/1424هـ _ الأربعاء
الرياض(11/2)
المعالم في نقد العالم
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
فإنَّ كلاًّ منَّا يعلمُ مقام العالم في الإسلام ، و ما أولاه الله إياه من سَمِيِّ المناقب ، و ما حباه من رفيع المناصب ، و ما ذاك إلا دلالةٌ واضحةٌ بيِّنة على عِظَمِ حُرْمَتِه ، و تمام صيانته .
و لا زال احترامُ العلماءِ سائراً مسيْرَه عبر الأزمان تتناقله أنفسُ الفضلاء الشرفاء ، و تعافه أنفس الدُنآء الوُضعاء .
فكان من تلك الأنفس أنفسُ أهل هذا الزمان الغابر المُدْبِرُ ، حيث تكالبتْ أنفسٌ مدسوسةٌ في صف أهل الفضيلة و المنقبة فجعلوا أعراض العلماء فاكهةً لهم يأنسون بنهشها ، و يسمرون على عظامها ، و يُنهون المجالس باللعقِ لها ، و هم في كلِّ ذلك بين إدبارٍ عن فضيلة ، و نحو سعايةٍ لرذيلة ، اتخذوا من الآيات أسنمةً للسبِّ و القدح ، و من السنة مناشيرَ للبتر و الذبح ، يتزعمون دعوة المناصحة ، و ينادون برفع رايات الصدع بالحق ، و هم في الغرور سامدون ، و في اللهو مغمورون .
فكم قد تجرَّعَ العلماءُ منهم الأذى ، و نالوا من صنائعهم الأسى ، و العذر : لم يقلْ بما قلتُ ، بل لم يعتقد رأيي وهو الحق الذي لا يجادل فيه إلا صاحبُ هوى .
و ما هكذا ربانا الإسلام ، و لا على الحال تركنا علماءُ الإسلام ، و لكن لا عجبْ فأنت في زمن مدبرٍ مولٍّ ، استأسدَ فيه الفأر ، و استنسرَ فيه البُغاث .
و حتى نُوْجِدَ ضمانات للعلماء الأساطين ، و حُماةُ حِمى الدين فإنني أنثر في الأسطرُ معالماً تستسيغها نفوس كريمة ، و تتفيؤها أرواح عظيمة ، و ليس لي فيها سوى التسطير و التأليف .
المَعْلمُ الأول : لا عِصمةَ للعالم .
قال النبي ( صلى الله عليه و سلم ) : " كلُّ ابنُ آدمَ خطَّاء ، و خيرُ الخطائين التوابون " رواه الحاكم و صححه .(12/1)
يقولُ الإمامُ الحافظُ ابنُ عبد البرِّ _ رحمه الله _ : لا يسلمُ العالمُ من الخطأ ، فمن أخطأ قليلاً و أصابَ كثيراً فهو العالم ، و من أصاب قليلاً و أخطأ كثيراً فهو الجاهل . ا,هـ [ جامع بيان العلم ] .
المَعْلمُ الثاني: الحقُ هو البُغْيَةُ .
قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _ : ( وليُعْلَم انه ليس أحد من الأئمة-المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً- يتعمد مخالفة رسول لله-صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنة,دقيق ولا جليل .
فانهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول –صلى لله عليه وسلم- ,وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ) أ.هـ . [رفع الملام ص :4].
المَعْلمُ الثالث: { فتثبتوا }.
يقولُ الله _ تعالى _ : { يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجاهلة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } .
وعلى القراءة الأخرى { فتثبتوا } .
و التثبتُ في خطأِ الشيخ من جانبين :
الأول : صحةُ وقوعه منه ، فإن كثيراً مما يُنْسَبُ إلى أهل العلم و الفضل من الكلامِ اللا مقبول _ حقيقةً _ عند أهل النظر و التمحيص ، فإنه لا يخلو الكلام من أحوالٍ ثلاثة :
الحال الأولى : كونه واقعاً صحيحاً عنه ، فهذا يأتي الحديث عنه _ إن شاء الله _ .
الحال الثانية : كونه مختلَقاً مكذوباً ، وما أكثر ذلك في النقل و الإسناد إلى العلماء .
الحال الثالثة : كونه مما يُلْزَمُ به كلامُ العالم المُوْهم ، و القاعدة : أن لازم القولِ ليس قولاً ، و لازم المذهب ليس مذهباً .
و هاتين الحالتين _ الأخيرتين _ لا يجوزُ التعويلُ عليهما إطلاقاً ، و من ثَمَّ فلا يجوز توجيه النقد على العالم بهما ، لأنه مما يدخل تحت البُهتان و الفِرْيَة .(12/2)
الثاني : التثبتُ من كونه خطأً في الشرع ، و هذا مما لا يستطيعُ أحدٌ أن يجزمَ به ، قال الإمام زكريا الأنصاري _ رحمه الله _ : إياكم أن تُبادروا إلى الإنكار على قول مجتهد أو تخطئته إلا بعد إحاطتكم بأدلة الشريعة كلها ، و معرفتكم بمعانيها و طرقها ، فإذا أحطتم بها _ كما ذكرنا _ و لم تجدوا ذلك الأمر الذي أنكرتموه فيها فحينئذٍ لكم الإنكارُ ، و الخيرُ لكم ، و أنى لكم بذلك ؟ . ا,هـ .
و من الغلطِ أن ترى أُناساً من الذين عصفت بهم الغَيْرة يمنةً و يسرة يسارعون في الحكم على العلماءِ بأنهم خالفوا أصول الإسلام ، و هدموا أعمدةَ المِلَّة ، و هدُّوا بُنيانَ الدين ، و هذا الهذرُ منهم من أقبحِ ما يكون ، و من أفحشِ ما يصدرُ من العقلاء ، فأنى لهم بتلك الأحكام التي أصدروها ؟
رُبِّيَ كثيرٌ من الناسِ اليومَ على أن ما يقولُه أشياخهم هو الحقُّ الذي لا مريةَ فيه ، و أن ما تعلموه في مدارسهم ، و ما تلقوه في حِلَقِ الذكر هو الصوابُ الذي خلافهُ باطل _ يقيناً _ و هذا لا يجوزُ القولُ به ، و لا يتفوَّه به من في قلبهِ شيءٌ من الورع و الخوف من ربه _ تعالى _ ، لأن ذلك يلزمُ منه القولُ بالغيب و ادِّعاؤه و هذا أمره إلى الله _ تعالى _ ، و متى هذَّبَ المرءُ نفسه على الترفُّقِ بإصدار الأحكام ، و عدم إطلاقها فهو خيرٌ له و أزكى عند ربه و الناس .
المَعْلمُ الرابع: لا زالَ للشيخ قدرُه.
خطأُ العالمِ ليس سالباً منه مقامه في الإسلام ، ولا نافياً عنه منقبةَ الفضيلة و العالِمية ، و إنما يبقى عليه لباسها ، و يُحفظ له حقه في الإسلام .
قال الإمام الذهبي _ رحمه الله _ : و لو أن كلَّ مَن أخطأ في اجتهاده _ مع صحةِ إيمانه ، و تَوَخِّيْهِ لاتباع الحق _ أهدرناه و بدَّعناه ، لقلَّ من يسلمُ من الأئمة معنا ، رحمَ الله الجميعَ بمنه و كرمه . ا،هـ .(12/3)
و لو نظرنا في كتبِ التراجُمِ لرأينا كثيراً من العلماء وَقَعَ في أخطاء كثيرةٍ لم يُسْقَطْ مقامهم بسببها ، و لم يُحذَّر الناس منهم لأخطائهم ، و إنما كانوا بين أنفسهم عقلاء ذوي محبةٍ وَ وِداد ، و ليتَ لنا مثلهم في هذا الزمان السيء .
المَعْلمُ الخامس: لعله وَ لعله .
سبقَ _ في المعلم الثاني _ أن بُغْيَةَ العالِم هو الحق ، و أن قصده الوصول إلى الصواب من الرأي ، و لكن يعتريه الخطأ ، و يزاولُه الزلل ، و الواجبُ هنا هو أن نعتذرَ له ، و نتأولُ خطأه باحثين عن مخرجٍ حسَنٍ لائقٍ به .
قال الإمام السُبْكي _ رحمه الله _ : فإذا كان الرجلُ مَشهوداً له بالإيمان و الاستقامة ، فلا ينبغي أن يُحملَ كلامه ، و ألفاظه و كتاباته على غير ما تُعُوِّدَ منه و من أمثاله ، بل ينبغي التأويل الصالح ، و حُسْنُ الظن الواجبِ به و بأمثاله . ا،هـ .
و يقولُ ابنُ النحاس _ رحمه الله _ : يجبُ أن يُتأوَّلَ للعلماء ، و لا يُتَأوَّلَ عليهم الخطأ العظيم ، إذا كان لما قالوه وَجه . ا،هـ .
المَعْلمُ السادس: تَجَنَّبْ زلة العالم .
إذا ثَبتَ لنا _ يقيناً _ أن العالمَ أخطأ في شيءٍ و لم يكُنْ ثَمَّةَ وَجهُ صِحةٍ يَعتذرُ له به فإنه لا يجوزُ لأحد أن يسلك طريقه في زلته ، للعلمِ بأنها زلةٌ و خطأٌ منه .
قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _ : و ليس لأحد أن يتبعَ زلات العلماء ، كما ليس له أن يتكلمَ في أهل العلم و الإيمان بما هم ليسوا به بأهل ، ... ، و هذا أمرٌ واجبٌ على المسلمين في كلِّ ما يُشْبِه هذا من الأمور . ا،هـ .
المَعْلمُ السابع: مُناصحةُ الشيخ .
إذا تمَّ كثيرٌ مما سبق _ من المعالم _ فإننا نسلُك درب المناصحة للشيخ بأدبٍ جَمٍّ ، و خُلُقٍ عظيمٍ ، دون تنقُصٍ و تعيير ، و دون إساءة أدبٍ .
ولابدَّ من مناصحةِ الشيخ في خطأه من لزوم أدبين :(12/4)
الأول : مُلاطفةُ الشيخ في بيان الخطأ و الزلل ، فإن لها أثراً كبيراً في نفس الشيخ و قبوله لها ، و أثرٌ على الناصحِ حيثُ عرفَ للعلم قدره و مكانه .
قال الإمام ابنُ جماعة _ رحمه الله _ : و لا يقول لما رآه الشيخُ و كان خطأً : هذا خطأ ، و لا : هذا ليس برأي ، بل يُحسنُ خطابه في الرد إلى الصواب ، كقوله : يظهرُ أن المصلحةَ في كذا ، و لا يقول : الرأي عندي كذا ، و شِبْهَ ذلك . ا،هـ .
الثاني : الإسرارُ في النُصْح ، و أحقُّ الناسِ بإسرارِ النصحِ له هو العالم ، لأن في تشهيرِ النصح مفسدتين :
الأولى : إساءةُ أدبٍ معه ، و قد يكون الصوابُ حليفَه ، و _ أيضاً _ تهوينٌ لقدره عند العامةِ مما يُجرؤهم على انتقاصه و الإساءة إليه .
الثانية : تشهيرٌ للخطأ و الزلّة .
قاعدة : قال الحافظُ ابنُ رجبٍ _ رحمه الله _ : و المُنْكَرُ الذي يَجبُ إنكارُه : ما كان مُجْمَعاً عليه ، فأما المُخْتَلَفُ فيه فَمن أصحابنا من قال : لا يجبُ إنكارُه على مَنْ فعلَه مجتهداً فيه ، أو مُقَلِّداً مجتهداً تقليداً سائغاً . ا،هـ [ جامع العلوم و الحِكم 2/270 ، و انظر : شرح النووي على مسلم 2/23 ].
هذه معالمُ ذاتُ بالٍ ، لا يُسْتغنى عنها تُجاه زلةِ العالم و خطئه ، و مراعاتها من أهم المهمات على المسلم حيثُ بها : صيانةُ مقامِ الشريعة من تجرؤ السافلين على كبارها ، و محفظاً لقدرِ العالم و تقديراً له و تعظيماً بتعظيم الدين له .
و هي كما أنت راءٍ إنما هي من منثور كلام الأئمة الأعلام ، و الفضلاء الفقهاء تمَّ تقييدُها و رَصْفُها جمعاً لمتفرَّقها ، و لَمَّاً لشتاتها .
الاثنين _ 10/2/1424 هـ
الرياض(12/5)
النَّقَائِصُ العِلْمِيَّة
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
غايات الكمال مَطْلَبٌ نفيس لدى العقلاء ، و مرمىً عالٍ في سيرة الحكماء .
و لا يعتري ذلك أدنى شكٍّ ، و لا قيدٌ من ريب ، و لكن أبى الله الكمال إلا لكتابه ، و اعترى الخلل كل مخلوقاته ، و تسلط النقص على كيانات الكمالات .
و من تلك الغايات المحمودة ، و المرامي المقصودة ( العلم ) الشريف ، و ما حواه من فخر لطيف ، فقد اعترته شوائب النقص ، و خالجته آفات الكمال .
و ليس ذاك النَّقْصُ من ذات العلم ، بل هو من سالكيه ، و طارقي أبوابه .
و لأهمية العلم ، و سُمُوِّ غايته جرى اليراع مقيِّداً آفاتٍ تختلج كيانه ، و سطر الحبر ذلك مظهراً بيانه .
و لقد كشف عن ذلك مُبَيِّنَاً آفات العلم و نقائصه العلامة محمد البشير الإبراهيمي _ رحمه الله تعالى _ حيث قال : ( و إن من نقائصنا المتصلة بحالتنا العلمية الحاضرة ثلاثاً لا كمال معها ، و من المؤسف أن ناشئتنا العلمية المستشرفة إلى الكمال لا تفكر في السلبي منها و لا الإيجابي .
هذه النقائصُ الثلاث هي :
- ضعف الميل إلى التَّخَصُّص .
- ضعف الميل إلى الابتكار .
- الكسلُ عن المُطَالَعَة .
و إذا كانت الأوليان مُتعسرتين لفقد دواعيهما ؛ فإن الثالثة أقرب إلى الإمكان ) أهـ
[ آثار الإبراهيمي : 1/154 ] .
و كما ترى أن هذه النقائص هي ركائزُ في العلم ، و أصول في الثقافة ، و تخلُّفُها يعني الإخلال الكبير في ديمومة الإنتاج الثقافي العلمي .
و إلى بيانٍ شافٍ كافٍ لهذه النقائص .
أولاً : ضَعْفُ الميلِ إلى التخصُّص .
و ضَعْفُ الميل إلى التَّخَصُّص آفةٌ أدركت فئاماً من طُّلاّب العلوم ، و لابد من النظر إلى هذه النقيصة من خلال خمسة محاور :
الأول : في معنى ( التَّخصُّص ) .
يُعْرَفُ ( التَّخصُّصُ ) عند أهله بأنه : اشتغالُ رَجلٍ بعلمٍ من العلوم ، و معرفته بدقائقهِ ، و إلمامه بمباحثه .(13/1)
و كما ترى أن هذا التعريف لـ ( التَّخصُّص ) في أرض العمل مُغْفَلٌ مُهْمَلٌ .
الثاني : أقسام الناس بالنسبةِ لـ ( التَّخصُّص ) .
طُلاَّبُ العلوم كثيرون ، و أهل ( التَّخصُّص ) قليلون ، و هم فيما بينهما في تفاوتٍ كبير .
فأقسامُ الطلاَّبِ بالنسبة لـ ( التَّخصُّص ) ثلاثةٌ :
أولها : مِنْ لم يرمِ إلى تخصُّصٍ في علمٍ من العلوم ، بل هو مشتغلٌ في كل علم مُحصِّلاً له ، و لكن دون إتقانٍ و إحكامٍ .
و أُسميهم بـ ( المُثقفين ) أو ( الجمَّاعين ) .
ثانيها : مَنْ تخصَّصَ في علمٍ و جَهِلَ علوماً ، و هذه حالُ أكثرِ مُتخصِّصِي زماننا .
ثالثها : مَنْ تخصَّصَ في علمٍ و ألمَّ بالكفايةِ من العلومِ الأخرى ، و هؤلاء أقلُّ من راحلةٍ في إبلٍ ألفٍ .
الثالث : زَمَنُ ( التَّخصُّص ) .
يظن _ غلطاً _ كثيرٌ من طلاب العلوم أن التَّخصُّصَ يكون حين ميلةِ الطالب لعلمٍ من العلوم ، و هذه نظرةٌ خاطئة .
إن ( التَّخصُّصَ ) نهايةٌ بعد بداية ، و آخرةٌ بعد أولى ، فزمنُ اشتغال الطالب به إنما يكون بعد إلمامه بجملةٍ من العلوم ، و المشاركة بأصولها و رؤوسها .
( و بعدَ المُطالَعَةِ في الجميع _ أي جميع الفنون _ أو الأكثر إجمالاً إن مالَ طبعه إلى فنٍّ عليه أن يقصدَه و لا يَتكلَّف غيره ، فليس كل الناس يصلحون للتَّعلُّم ، و لا كل مَنْ يصلُح للتَّعلُّم يصلح لسائر العلوم ، بل كل مُيَسَّرٌ لما خلقَ له .
و إن كان مَيْلُهُ إلى الفنون على السواء مع موافقة الأسباب ، و مساعدة الأيام ، طَلَبَ التَّبَحُّرَ فيها ) . [ كَشْفُ الظنون ( 1/46 ) ] .
و أما سلوك ( التَّخصُّص ) قبل تحصيل أصول العلم فهو خلَلٌ و غلطٌ ، إذ غالبُ ذلك انتقاءُ ما تميل إليه النَّفْسُ في حال اشتعال فتيلة همتها .
و لذا كانت سيرة العلماءِ الأقدمين على هذا المنوال ، و على هذا الدرب و الطريق .(13/2)
فلابدَّ من الإلمام بالفنون الأخرى ، و هو المُسَمَّى بـ ( التَّفَنُّن ) أو ( المُشَارَكة ) .
و بيانُ ذلك في الآتي :
الرابع : معنى التفنُّن في العلوم .
كثيراً ما تستوقفنا كلمة ( المُتَفَنِّنْ ) في كتب التراجم و السِّيَر ، و يخالجنا فيها معانٍ لها كِثار ، منها الصائب و أكثره بعيد النَّجْعَةِ .
و أصلُ المعاني التي تخالجنا صحيح ، لكن الحقيقة هي الغائبة .
فحقيقةُ ( التَّفنُّن ) في العلم هي : ( الوقوفُ على كُلِّياتِه التي تشتملُ على جميع أجزائه بالقوة ) . [الهوامل و الشوامل لـ ( مسكويه ) ، ص 304 ] .
الخامس : القَدْرُ المطلوب في ( التفنُّن ) .
ليس المرادُ بـ ( التَّفَنُّن ) إلا ما بينه ( مسكويه ) في كلامه الآنف ، و لكن ما القدرُ الذي به يكون تحصيلُ ( التَّفَنُّن ) في تلك العلوم .
أبانَ عنه ( حاجِّي خليفة ) فقال _ لما عَدَّدَ شرائط التَّحْصِيْل _ : ( و منها : أن لا يَدَعَ فناً من فنون العلم إلا و نظرَ فيه نظرَاً يَطَّلِعُ به على غايته و مقصده و طريقته ) .[ كَشْفُ الظنون ( 1/46 ) ] .
النَّقِيْصَةُ الثَّانِيَةُ : ضَعْفُ المَيْلِ إلى الابْتِكار .
هذه النَّقِيْصةُ من أشهر ما وُجِدَ بين طلاب العلوم ، و للأسف أنه لا يجهل أحدٌ قدرها ، و لكن ليس كلاًّ موفقاً لها .
و الابتكار هو الإبداع ، و معناهما واحد .
و الإبداع من أنفسِ مناقب الذكي ، و من أجلِّ محامده .
و الإبداع أو الابتكارُ سيكون الكلام فيه في نواحٍ عِدَّة :
الأولى : معنى الابتكار .
الابتكار معناه : ابتداع شيءٍ غير مسبوق إليه ، و المعنى _ أشد إيضاحاً _ هو : الاختراعُ لشيء جديد لم يُسْبَقْ إليه .
و من أمثلةِ ذلك علمُ أصولِ الفقه ، فإن الذي اخترعه كعلمٍ مُفْرَدٍ هو الإمام الشافعي . [ انظر : البحر المحيط لـ ( الزركشي ) 1/6 ] .
و من ذلك أصول الشَّعْرِ و عروضه فإن مُخترِعَهُ هو الخليل بن أحمد الفراهيدي .(13/3)
و المعنى الثاني : التجديد لعلم اندَرَسَ ، و التجديد له بالتذكير به .
و يَظْهرُ من خلال التعريف له دِقَّته و عِزَّتُه .
الثانية : هل الإبداعُ جِبلِّي أم اكتسابي ؟
يميلُ كثيرٌ من الناس إلى أن الإبداع يأتي مخلوقاً مع الإنسان ، فلا يوجد مبدع إلا وهو مخلوق فيه الإبداع .
و من لم يكن كذلك فليس أهلاً لأن يكون مُبْدِعَاً .
و هذه نظرة آفنة ، و رؤية خاطئة ، و إبطالها من أوجه كِثار ليس هذا مَعْرِضُ بسطها .
الثالثة : أهميَّةُ الإبداع .
الكلامُ عن أهميَّةِ الإبداع و ( الابتكار ) من ثلاثة جوانب :
الأول : ما سبقَ أن قُرِّرَ في معناه تظهرُ أهميته .
الثاني : الفضائل الواردة في العلم تنطبق عليه إذ هو مرتبةٌ من العلم .
الثالث : مرتبةُ الإبداع مرتبةٌ عاليةٌ لا يَصِلُها إلا الخُلَّصُ من الرجال المؤهلين لها .
الرابعة : الطُرُقُ المُوْصِلَةُ إلى الإبداع .
لـ ( الإبداع ) طُرُقٌ تُوْصِلُ إليه ، و لا يَتأتَّى الوصولُ إلى ( الإبداع ) إلا بها و من خلالها :
الطريقُ الأولى : الآلة التي بها الإدراك و التحصيلُ ، و هي ( العقل ) .
و هذه الآلة شيئان :
الأول : الحفظُ .
الثاني : الفهم .
يقولُ شيخُ الإسلام : (العلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم ) [ اقتضاءُ الصراط المستقيم 1/160 ] .
الطريقُ الثانية : استيعابُ المسائل التي تُوْصِلُ إلى الإبداع .
فإن ( الإبداع ) في أي فنٍّ لا يكون الوصول إليه إلا بعد أن يَسْتَوعِبَ الشخصُ أصول و مسائل ذاك الفن .
و معلومٌ أنه لا يكون ( الإبداع ) إلا على أصولٍ من العلم يُعْتَمَدُ عليها عند أهل الفن و العلم .
و خاطئةٌ طريقةُ البعضِ حين يدَّعي ( الإبداع ) في علمٍ من العلوم و هو لم يَسْتَوْعِبْ مسائله ، بل أصول العلم .
الطريقُ الثَّالثةُ : مَعْرِفَةُ حقيقةُ ( الإبداع ) .
و قد سبقَ تقريرُ ذلك فيما مضى .
الخامِسَةُ : أخلاقياتُ ( الإبداع ) .(13/4)
لابدَّ أن يتمتع ( المُبْدِعُ ) في ( إبداعه ) بأخلاقياتٍ مهمة لابُدَّ من مُراعاتها :
الأولى : أن يَعْلَمَ أن كلَّ شيءٍ من الله _ تعالى _ .
فإن كثيراً ممن يَظُنُّوْنَ أنهم ( مبدعون ) في العلوم يكون لديهم شعورٌ بالخروج عن قدَرِ الله _ تعالى _ ، و يظنون أن ما أصابوه من ( إبداع ) إنما هو من تلقاء جهدِهمْ و عقولهم .
و هذا تَلْحَظُه في كثيرين من كُتَّابِ هذا الزمان _ و الله المستعان _ ، و قدْ حصلَ هذا لـ ( ابن سينا ) فإنه لما حصَّلَ علوماً و أبدع فيها لَحِقَهُ الطغيان فطغى ، و مثله ( ابن الراوندي ) .
الثانيةُ : عَزْوُ المَعْلُوُمَةِ إلى أهلها .
فإنَّ بركةَ العلم في عَزْوِهِ لأهله ، إذ هو نالَ طرفاً مُؤَصِّلاً لـ ( الإبداع ) لديه من كلامِ مَنْ سَبَقَهُ من السابقين له في العلم و الفضل .
و كان هذا منهجاً مسلوكاً لدى العلماء النبلاء كـ ( أبي عبيد القاسم بن سلاَّم ) و ( السيوطي ) ... .
الثَّالِثَةُ : المَجِيءُ بالأمور على وجهها .
و ذلك في ناحيتين :
الأولى : في آداب الكتابَة .
الثانية : في آداب التأليف .
و يُنْظَرُ : علامات الترقيم لـ ( أحمد باشا ) ، و صياغةُ البحث العلمي لـ ( عبدالوهاب أبو سليمان ) .
السادِسَةُ : العلوم التي يُبْدَعُ فيها .
العلومُ التي يُحْرَصُ على ( الإبداع ) فيها نوعان :
الأول : العلم النافع ، و نَفْعِيَةُ العلوم من جهتين :
الأولى : المضمون .
الثانية : الثمارُ و النتائجُ .
الثاني : العلم المُحْتَاجُ إليهِ بِكَثْرَةٍ .
النَّقِيْصَةُ الثَّالِثَة ً : الكَسَلُ عن المُطالَعة .
آلَةُ العالِمِ كُتْبُهُ ، و عُمُدُ تَحْصِيْلِه كَرَارِيْسُ العلم لديهِ ، و على مَدَى حِرْصِهِ عَلَيْها يكون شأنُ تحصيلِه ، و بِقِلَّة إهمالها يكونُ ضَعْفُ تَحْصِليه ، و هي مُكَوِّنَةِ علم الرجل ، و مُنْضِجَة فكره .
و بها تمدَّح العلماء ، و بفضلها ترنحوا .(13/5)
و لَقَدْ بُلِيْنَا في هذا الزمان بِقِلَّة المُطَّلِعِيْن على الكُتُبِ ، بل بُلِيْنَا بِكثْرَةِ الكُتُبِ التي تَتَّسِمُ بـ ( الغُثُوْثَة ) ، و لأجلِ ذا كان الانصرافُ عن المُطَالَعة .
و المُطَالَعةُ إذ كانت بذا المُقام ، و تِيْكَ المكانة فإنه لابُدَّ من إضاءةٍ حول نُقْصَانِها في صَفِّ من اشْتَغَلَ في العلم _ طَلَبَاً و تَعْلِيْمِاً _ ، فأقولُ و بربي استعانتي ، و عليه اتّكالِي :
إن الكلامَ على ( المُطَالَعةُ ) سيكون من خلالِ ما يأتي :
الأَوَّلُ : في الأسبابِ المانِعَةِ من المُطالَعة .
لمْ يَكُن انصرافُ طلاَّبِ العلم عن المُطالَعة ، و الاهتمام بها إلا من أسبابٍ حَفَّتْ بها ، و جملتُهَا قسمان :
الأول : أسبابٌ في المُطالِع .
إن أهمَّ الأسباب المانِعَةِ من ( المُطالَعة ) هي ما كان ورودها مِنْ قِبَلِ ( المُطالِع ) ، و إليك طَرَفَاً منها :
الأولُ : ضَعْفُ الهمةِ في ( المُطَالَعة ) .
الثاني : عَدَمُ استشعارِ أهميتها .
الثالث : الجَهْلُ بطرائق ( المُطالَعة ) ، و هما طريقتان :
الأولى : المنهجية في ( المُطَالَعة ) .
فترى بعضاً من القوم يَشْرَعُ في قراءةِ ما وقع في يده من الكتب ، مُهْمِلاً بذلك شأنه و حاله مع الكتابِ المُطالَع .
و ( المُطالَعةُ ) النافعةُ هي ما كان فيها أمران :
الأول : التناسُبُ بين الكتاب و المُطالِع ، و يندرجُ في هذا شيئان :
أولها : التناسب في العقل و الفهم ، فلا يكون في فنٍّ لا يفهمُ أصوله .
ثانيها : التناسبُ في اللغة و العبارة ، فلا يكون الكتابُ ذا لُغَةٍ أكبر من القاريء .
الثاني : يُسْرُ القراءة فيه ، و هذا فيه أمور :
أولها : اليُسْرُ من جهة حُسنِ الطباعة و الإخراج .
ثانيها : اليُسْرُ من جهة المعلومة فيه و اتفاقها مع فهم القاريء .
ثالثها : اليُسْرُ من جهة الزمان و المكان .
فهذَانِ لُبُّ ( المُطالَعةُ ) النَّافِعة ، و بفقدِهما يكون فُقْدانُ المَنْفَعة .(13/6)
الثَّانِيَةُ : إهمالُ آداب ( المُطَالَعة ) و هي تدُوْرُ في محورين :
الأول : جِلْسَةُ ( المُطالِع ) .
الثاني : أدَبُ الكتابِ .
الثاني : أسبابٌ في المُطالَع ( الكتاب ) و هي ثمانيةٌ :
أولها : إسْقاطُ الألفاظ من الكلام .
ثانيها : زيادةُ ألفاظٍ في الكلام .
ثالثُها : إسقاطُ أحرُفٍ من كَلِمَةٍ .
رابعها : زيادةُ أحرُفٍ في كلمةٍ .
خامسُها : وَصْلُ حَرْفٍ مفصولٍ ، أو فَصْلُ حَرْفٍ موصولٍ .
سادسها : تَغييرُ أشكالٍ الحروف بأشباهها ككتابةِ ( الحاءِ ) على شكْلِ ( الباء ) .
سابعها : العُدُوْلُ عن الأشكالِ الصحيحة للحروف كَتَصِيِيْرِ ( العيْنِ ) كـ ( الفاء ) في حال الوصل ، أو كـ ( الحاء ) في حال الفصل .
ثامنها : إغْفَالُ ( النَّقْطِ ) و ( الإعْجَام ) .
( النَّقطُ ) وَضْعُ النُّقَط .
( الإعْجام ) تَشْكيلُ الكلمة بحركاتها .
( انظر : أدبُ الدنيا و الدين [ 104_ 107 ] تَحْقِيْقُ : السَّقا )
الثاني : أقسامُ المُطَالَعةِ :
الأول :القراءة التأصيلية : و هي القراءة التي يعتمد فيها على التركيز و التمعن ، و هي في نوعين من الكتب :
1- شروح المتون : فإن التركيز عليها حال قراءتها من مطالب التأصيل و التأسيس ، و بها يكون الطالب على إلمام كبير بمقاصد المتن .
2- كتب العلم ( الشرعي ) و هي التي يكون فيها التحصيل العلمي ، مثل كتب : الاعتقاد ، الفقه ، الحديث ، الأصول ، المصطلح ، النحو ....
الثاني : القراءة الجردية : و هي تعني أن هناك كتباً تقرأ قراءة فيها نوع من التركيز و التفهم ، و لا تحتاج الى إعمال الفكر و العقل في عباراتها ، و هي في نوعين من الكتب :
1- المطولات : و هي الكتب ذات المجلدات الكثيرة ، و هي لا تستدعي التوقف عندها و التفكر لمعانيها ، و غنما تقرأ لبحث ، أو غيره من الحاجات .
مع أن المتعيِّن على طالب العلم أن يقرأ بها و لكن بعد إدراكه أصول العلم .(13/7)
2- كتب التكميل العلمي : و مرادي بالتكميل العلمي : هو تحصيل الطالب علماً ليس أساساً في تكوينه علمياً و تأصيله فيه ، بل هو من مكملات ثقافته و علمه .
و علومه : التأريخ ، التراجم ، الأدب ، اللغة ...
الثالث : القراءة الموسمية : و هي القراة التي تكون في مناسبات و أوقات ، و هي نوعان :
1- قراءة في المواسم العبادية : كقراءة كتب الحج قبل الحج ، و الصيام قبل الصيام ، و النكاح قبل النكاح ، و البيوع قبل البيع و الشراء .
2- القراءة في أحكام النوازل : و هي القراءة في الكتب التي ألفت في أزمنة من أزمنة المسلمين التي حلت فيهم نازلة و كارثة كغزوة أشكلت عليهم ، و هكذا .
و بِهَذا أكون قد أوقفت اليراعة عن الرَّقْمِ ، و اللسان عن البَوْحِ بالكَلِم ، آملاً من الله العليم ، أن يَعُمَّني بفضله العميم .
و صلَّى الله على نبينا محمد و على آلهِ و صحبه .(13/8)
( النُّهُوْضُ بـ [ التأريخ ] )
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
القاريءُ في كُتُبِ ( التأريخ ) يرى أنه حَظِيَ بالإهمالِ من كثيرٍ من أهله ، و ذلك في كوْنِهِ أُبْقِيَ على حالٍ واحدةٍ ، و تُرِكَ على وضْعٍ راكدٍ لم يتغيَّر .
و لا شكَّ أن إهمالَ ( التأريخ ) مَفْسَدَةٌ كُبْرى ، و خطيئةٌ جُلَّى ، لأن فيه تغييبٌ لحقائقه ، و سَتْرٍ لمصداقية أخباره .
و مِنْ جرائره _ كما مرَّ _ جعلُه خامداً ، و تصييرُه ساكناً ، مما أدى إلى حِرْمانه من ( النهوض ) به نحوَ ما يقتضيه كلُّ زمانٍ بحسبه .
و ( النهوض ) بـ ( التأريخ ) مما يتوافق مع مَسِيْرِ ( التأريخ ) : الزمني ، و المكاني ، و النوعي .
إيضاحُ ذلك : أن الزمان يدورُ دائرته ، و المكانُ يتبدَّلُ ، و الأحوالُ تختلف ، و ذلك كلُّه لابدَّ و أن يكون فيه اختلافٌ بينَ السابق و اللاحقِ ؛ فإما حسَنٌ و إما سيءٌ .
و المُرَادُ : أن يُنْهَضَ بـ ( التأريخ ) نحوَ : الحُسْنِ و الرُّقِي ، و إقصاءَ ما يُسَبِّبُ له التَّخَلُّفَ و التدنِّي .
و ( النهوض ) بـ ( التأريخ ) يكون بأمورٍ ثلاثةٍ :
الأول : التَّنْقِيَة .
إن القاريءَ لـ ( التأريخ ) يَسْتَاءُ جدَّاً مما شابَه من الشوائب المُذْهِبَةِ لِرَوْنَقِ حقيقته ؛ و هاتيكَ الشوائبُ على أقسامٍ :
أولها : أخبارٌ مُخْتَلَقَةٌ مَكْذُوْبَةٌ .
حينَ يتجرَّدُ الكاتبُ لـ ( التأريخ ) عن المِصْدَاقِيَّةِ في الكتابة يكون العبَثُ في ( التأريخ ) .
و هذه الشائبَةُ عَمَّتْ في السياق التأريخي ، و انتشرَتْ في المصنفاتِ التأريخية .
و أسبابُها الباعثةُ عليها عديدةٌ لكنَّ جُمْلَتَها :
أولاً: الصراعُ الديني .
ثانياً : الصراعُ السياسي .
فَمْن الأول أخبارُ الروافض ، و من الثاني الأخبار المكذوبة على بني أمية .
ثاني الشوائب : التفسيرُ الكاذب .
و أعني بالكاذب : معنيين :(14/1)
الأول : الكذب الذي هو ضدُّ الحقيقة و الواقع ، و هو عَكْسُ الصدق .
الثاني : الخطأ .
و هما معنيانِ معروفان عند العرب .
لابد لمن أراد أن يُدِيْمَ النظرَ و الاطِّلاع في تأريخ الزمان من تحليلٍ و تفسيرٍ لوقائعه و أحداثه .
و إن ممن تصدَّوا لتفسير ( التأريخ ) قَوْمٌ خانوا ( التأريخ ) ففسروا أحداثَه وَفْقَ ما يتناسبُ و أهوائهم و مذاهبهم .
و بذلكَ قُلِبَتْ حقائقُ ( التأريخ ) ، و ضُيِّعَتْ نفائِسُ خبايا أحواله .
فهاتان شائبتان رئيستانِ في ( التأريخ ) ، لابد من تصْفِيَةِ ( التأريخ ) منهما ، و إظهارِ الخُلاصَةِ الحَقَّة .
الأمر الثاني _ مما يتعلَّقُ بالنهوض _ : التَّقْعِيْدُ .
مِنْ صُوَرِ الإهمال لـ ( التأريخ ) فُقْدانُ التَّقْعِيْد له ، و غيابُ التأصيل لأبحاثه .
التقعيدُ من مهماتِ العلوم _ أي: في ذات العلوم _ فَبِهِ يكونُ ضبطُ أصولِ العلم ، و بِهِ يكونُ إحكامُ الطَّرْح ، و بِهِ يكون توجيهُ الخلاف و تبيين الوفاق في العلم .
و كلُّ عِلْمٍ خَلا من التقعيد فهو زيفٌ و هباءٌ ، و الاشتغال به ضياعٌ و فساد .
و العَجَبُ أن ( التأريخ ) من العلوم التي لحقَها قُصُوْرٌ في التقعيد ، و هي بالأهمية له بمكانٍ كبير ، و ذاك من جهتين :
الأولى : كوْنُهُ ديوانُ الزمان و الإنسان .
الثانية : ما مرَّ من كون التقعيد مهمٌّ في العلوم .
و لابدَّ من مُراعاة أمرين حالَ التقعيد :
الأول : كونُ القاعدةِ مَنْصُوْصَاً عليها عند جُملَةِ المؤرخين .
الثاني : مراعاة الوفاقِ في القاعدة و الخلاف فيها .
و التقعيدُ لـ ( التأريخ ) داخلٌ فيه :
أولاً : التقعيدُ ( الكتابي ) .
و أعني به : وَضْعُ قواعدَ لمن يتصدَّى للكتابة التأريخية ، فإن كثيراً من المشتغلين في كتابة ( التأريخ ) يكتُبُ على غيرِ قواعد ، أو على قواعدَ اخترعها .
و هذا مما لا يُرْتَضَى أن يكون في الكتابات التأريخية .
و مما يُلْحَقْ بهذا :
أ- التقعيد في التفسير التأريخي .(14/2)
ب- التقعيد لمسائل الترجيح ؛ فإن أغلبَ مَنْ يكتُبُ في ( التأريخ ) يَعْمَدُ إلى ترجيحٍ و نَصْرٍ لقولٍ دون اعتمادٍ على قواعدَ في ذلك .
ثانيها : التقعيدُ للقراءةِ في ( التأريخ ) .
و ذلك بوضْعِ أصولٍ لمن أراد أن يقرأ في ( التأريخ ) .
و بمعنى آخر : وضْعُ منهجيةٍ للقراءة في ( التأريخ ) ، و يُرَاعى فيها :
أ- كونُ الكتابِ ، أو المنهج مما هو عُمْدَةٌ عند مُحقِّقي المؤرخين .
ب- التدرُّج في القراءة .
الأمر الثالث _ مما يتعلَّقُ بالنهوض _ : صياغة ( التأريخ ) .
إن صياغةَ ( التأريخ ) مرَّتْ في زمنِ التأليف التأريخي على نوعين :
الأول : صياغةٌ من حيثُ الترتيبُ التسلسلي ، كما هو الحال من ابن جرير و ابن كثيرٍ و غيرهما .
الثاني : الصياغة من حيثُ الانتقاءُ لأحوالٍ منه .
هذان النوعان يتعلَّقان بالترتيب _ أصالةً _ و جعلُهما نوعين للصياغة لما للترتيب من تأثيرٍ قويٍ في صياغة ( التأريخ ) .
و النهوض بـ ( التأريخ ) في صياغته صياغةً تتناسبُ مع أهل الوقت الذي تكون فيه صياغة ( التأريخ ) .
و من أمثلة الصياغة : السؤالُ و الجواب ، الجدولَة ، التشجير .
على أنه يَنْبَغي ملاحظةُ شيئين :
الأول : البساطةُ و السهولةُ في الصياغة ، فلا طولٌ مملٌّ ، و لا اختصارٌ مخلٌّ .
الثاني : الشمولية لـ ( التأريخ ) و أحداثه ، سواءً شموليةً عامةً للتأريخ كله ، أو شمولية خاصة لبعض أزمانه .
و إذا سلكنا تلك الأمور الثلاثة في النهوض بـ ( التأريخ ) يكونُ خروجنا بفوائد ثلاث :
الأولى : فهمُ ( التأريخ ) .
الثانية : استيعابُ ( التأريخ ) .
الثالثة : الاستفادةُ من ( التأريخ ) .
و هذه واضحةٌ بَيِّنَةٌ لا تفتقر إلى إيضاح و شرح .
و صلى الله و سلم على نبينا محمد .
1/7/1423هـ(14/3)
انهدام الصروح
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
جرت سننٌ من الله _ تعالى _ في الكون على قَدَرٍ منه و قضاء .
و كانت تلك السنن محلَّ أنظارٍ من كثير من أهل النُّهى و العقل ، فكان أن منحوها شيئاً من التفكُّر و الاعتبار .
و أصبحت _ كذلك _ أماراتٍ و علامات يُسْتَدَلُّ بها على نتائجَ أحداثٍ و وقائعٍ تدور في رحاب التأريخ .
( و حين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله و تحقُّ كلمته ) [ في ظلال القرآن 4/2218 ]
و من تلك السنن ما كان منصوصاً عليه في شرع الله _ جل جلاله _ كتاباً أو سنةً _ ، و لم يكن هذا _ أيضاً _ قد خلا الزمان من وقوع ما يستدل به تمثيلاً له .
فلو قرأنا كتاب الله بتمعنٍ لرأينا فيه سننا لها دلالات بعيدة المعاني _ كما لها قريبة المعاني أيضاً _ ، و لكن السوء الذي يلحقنا في حِقَبِ التأريخ هو الجهل بالتأريخ .
و جهلنا بالتأريخ استجهال منا لتلك السنن المذكورة في الكتاب و السنة .
كثيرة قصصُ الله _ عزَّ جاهه _ عن الأمم السابقة ، و التي كانت في زمان تتشبب بجمالها الأخاذ ، و تتغنج بمشيتها المتمايلة ، و بين إغماضة عين و ضدها هَوَتْ تاركة أثراً لها بعد عين .
عجبٌ هي هذه الأمم أكانت على علم بمخبوء القدر ؟
أم كانت مسلوبة العقل و التبصر في الحقائق المفضية إليها تلك الأحوال التي تعيشها ؟
لا بد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها ، و لا للسر في الكون أن يكون ظاهراً .
تلك إحساسةٌ يعيشها ذو الحس التأريخي المرهف ، بل و يعبق بنسيم عليل من كان على قدر من الدراية بكتاب الله .
أمم كانت فبانت .
لكن ؛ لكينونتها أسباب و كذلك لبينونتها فما أسباب البينونة حيث تثير طلاسماً و علامات استفهام طويلة عريضة .
إن كينونة الشيء ليست بمستغربة كاستغراب الناس ببينونته .
لنكن أوفياءَ قليلاً و لنأخذ من القرآن شيئاً مما حوته آياته من أسباب بينونة الأمم ، و انهدام الصروح .(15/1)
و حين نأخذ بها نكون قد أضفنا إلى علمنا ، عفواً إلى ثقافتنا فائدةً جديدة ، من خلالها نحوز فوائد كثاراً ، و نستقي عِبَرَاً كباراً .
لقد كان لـ ( انهدام الصروح ) عِللاً دبَّتْ في كيانها ، و كان لانهدامها إحداثاً للغزٍ حيَّر الناس أزمنة متوالية .
و ما زالت رواسب الحيرة كامنة في أحضان عقول أقوامٍ كثير ، فجاءت آيات الله تعالى في القرآن كاشفةً خبايا الزوايا ، و مظهرةً مكنون التأريخ .
فذكر الله _ تعالى _ أن من العِلل الدابَّةِ في كيان هاتيك الصروح المنهدمة ، علةٌ حسنٌ ظاهرها ، جميل تناسقها ، رائع نتاجها .
و أسفٌ أن أكثر العلل لها تلك الصفات الحسان .
علةُ ( الترف ) التي ما دبَّتْ في أمة إلا أردتها خاوية على عروشها ، و صيرتها أثراً بعد عين .
قال ربنا _ تقدَّس اسمه _ : { و إذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمرناها تدميراً } .
لنعش زمناً مباركاً في أفياءِ هذه الآية الكريمة ، و لنظهر منها أموراً من خفايا العلل ، و دسائس لأمراض .
لنتصور الأمةَ _ أيَّ أمةٍ _ جسداًً كاملاً في قوتيه العقلية و البدنية ، و لنكن ممن يأخذ بقانون الافتراض أن ذاك الجسد قد أغدق عليه صاحبه بالنعم ، و متعه بالراحة ، و وفَّر له جميع داعيات الخمول .
لنفترض أن شيئاً من ذلك حدث ، ما سيكون حال ذاك الجسد المُدلَّل ؟
الكل يُشاطرني أن مفسدات ستلمُّ به _ سريعاً _ و أعظم ما يكون قاتلاً بطيئاً هو الفراغ الذي يعمُرُ حياة ذاك الجسد المدلل .
نعم إن الفراغ أساس متين في إحداث شرخٍ كبير في ذاك الجسد المدلل ، فلا شاغلٍ يشغل الجسد في تلك اللحظات المارَّة في حياته ، و من ثمَّ يكون على أُهبةٍ تامةٍ لإلهاء نفسه بما يقدر عليه .
فيبدأ بطلب أنواعٍِ من المطاعم و المآكل ، و يتخير من أنواع المشروب ما شاء ، علماً بأن من كلٍّ ما هو محرم .(15/2)
فيمل ذلك الوضع ، و يسأم تلك الحالة ، فهنا يكون بداية إنجاز المشاريع الشيطانية التي يعقد لها آلافاً من العقود على رؤوس أولئك المترفين .
فتفتح صفحة جديدة من صفحات اللهو العابث ، و ورقة سوداء في جسد متناهٍ في التنعم .
هي تلك الحالة التي تعيشها الأمم المترفة ، يعبث أطرافها بأنواعٍ من الفساد ، و يلتهمون في أوقاتهم اللذائذ المحرمة _ حسيةً و معنويةً _ .
و في غمار تلك المؤنسات ؟؟؟!!! يصبحهم من الله الموعود _ السابق في الآية _ .
و ترف ( المُهْلَكين ) على أنواع :
الأول : ترف في المظاهر الكمالية المباحة .
ظاهرة معتادة أن ترى مُتْرَفَاً يحرص على الكماليات الباهرة ، بل غير المُتْرَف ممن هم دونه .
لكن كون الترف ( الكمالي ) يصل إلى حدٍّ من الفحش في الإسراف هذا الذي هو نذير الخطر .
كم ترى من المُتْرَفين ممن يبني داراً كبيرة واسعة لا يشمله و أهله إلا زاوية خبيئة في أقصى الدار ؟
و كم ترى من المُتْرَفين من له في كل بلدة بيتاً على نفس النسق الآنف ؟
و كم ترى التزيُّن بالمظاهر من غير حاجة سوى الشره الترفي الكامن في تلك النفس الموبؤة ؟
صورٌ كثيرة هي هذه ، في حين يعيش مئات من الألوف من المسلمين تحت وطأة الفقر و العوز .
الثاني : الترف في المعاصي .
غريب هذا النوع ، لكنه كان و حصل ، و التأريخ يشهد بذلك .
و المُنكرُ لحقائق التأريخ ممن استحمق نفسه .
إن كثيراً من الخلق يعصون الله _ تعالى _ و لكن المُتْرَف يكون عصيانه مختلفاً عن عصيان سائر الخلق من جهتين :
أما الأولى : فمن جهة كِبَر المعصية .
و أما الثانية : فمن جهة كثرة المعاصي .
فلا يزال ذا ترف في المعاصي و الذنوب حتى يأذن الله بتحقيق وعده
و لأمنه من العقوبة أساء الأدب مع ربه _ تعالى _ .
و لو سبرنا صفحات من التأريخ القريب و القريب فقط لرأينا كيف يكون الترف في المعاصي ، و أترك هذا مُبيَّضاً لإضافات القاريء النبيل .(15/3)
و للعلامة ابن خلدون كلامٌ غاية في النفاسة حول هذه العلة سطَّرها في المقدمة في الفصل الثالث عشر ص 157.
فقد بيَّن في ذلك الموطن نفائس و دقائق من أبعاد هذه السنة الكونية .
( و المترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال و يجدون الخدم و يجدون الراحة ، فينعمون بالدعة و الراحة و بالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم و تأسن ، و ترتع في الفسق و المجانة ، و تستهتر بالقيم و المقدسات و الكرامات ، و تلَغُ في الأعراض و الحرمات ، و هم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً ، و نشروا الفاحشة في الأمة و أشاعوها ، و أرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها و لها .
و من ثمَّ تتحلل الأمة و تسترخي ، و تفقد حيويتها و عناصر قوتها و أسباب بقائها ، فتهلك و تطوى صفحتها .
و الآية تقرر سنة الله هذه )
وصف دقيق لمعنى الآية ، و تبصير بالغ لأبعاد السنة الإلهية الكونية .
هذه كلمات قالها الكاتب الأديب سيِّد قطب _ رحمه الله و غفر له _ في ( في ظلال القرآن 4/2217 ) .
و لو تدبرنا هذين النقلين ( كلام ابن خلدون ، وكلام سيد ) لرأينا وجوده في هذا العصر المتلاطم فتناً و مآسيَ .
و حين إمعان النظر ، و إعمال الفكر يكاد يرجف القلب خوفاً و هلعاً من تتابع الفتن التي تؤذن بـ ( انهدام الصروح ) .
حقيقة غائبة آثرت تبيانها من خلال أسطر مستضيئاً بوحي آية ، مستأنساً بأحوال سنة كونية ..
و الله أعلم(15/4)
بيان معنى كلام الموفق في اللمعة
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّد الأنبياء و المرسلين ، و على آله و صحبه أجمعين .
أما بعد :
فهذا تحرير لمسألة مهمة ذكرها الإمام ابن قدامة _ رحمه الله _ في ( اللمعة ) فقال : [ و ما أشكل من ذلك _ أي الصفات _ ؛ وجب إثباته لفظاً و ترك التعرض لمعناه ] .
و هذه الكلمة قد أورثت إشكالاً كبيراً بين العلماء في : ما المراد بها ، و ما هو مذهب ابن قدامة في الصفات ؟
و قبل الولوج في تحرير مراد ابن قدامة من هذه اللفظة التي ذكرها في ( اللمعة ) أبيِّن مسألة نفيسة ينبني عليها هذا التحرير ، و هي :
أن الصفات بالنسبة لمعانيها نوعان :
الأول : صفات معناها واضح جلي .
الثاني : صفات معناها مشكل خفي .
فالواجب في الأول أمران :
أحدهما : الإيمان بها لفظاً .
ثانيهما : الإيمان بالمعنى الظاهر منها .
و أما الثاني فالواجب فيه أمران _ أيضاً _ :
أولهما : الإيمان بها لفظاً .
ثانيهما : ترك التعرض لمعناها .
قال شيخنا العلامة الفقيه محمد بن صالح العُثَيْمِيْن _ رحمه الله _ : ( و الواجب عند الإشكال اتباع ما سبق من ترك التعرض له و التخبط في معناه ) . انظر : شرح لمعة الاعتقاد ( 33 ) .
و أما كلمة الموفق فإن أهل العلم لهم فيها أربعة توجيهات :
الأول : أنه قول المفوضة ، و قال به العلامة محمد بن إبراهيم ( فتاويه 1/202-203 ) ، و العلامة عبد الرزاق عفيفي ( فتاويه 1/153 ) .
بل نصَّ الثاني على أنه مفوِّض ، و برأه الأول من التفويض _ و هو الحق _ .
الثاني : أن المراد بقوله : ( و ترك التعرض لمعناه ) أحد أمرين :
أحدهما : الكيفية .
الثاني : المعنى الباطل .
و مما يؤيد هذا _ و أنه هو من مراده بهذه اللفظة _ استدلاله بقول الإمام أحمد : ( لا كيف و لا معنى ) أي : لا تعرضاً للكيفية ، و لا ذكراً للمعاني الباطلة التي تنزه عنها الصفات .(16/1)
الثالث : أن مراده تفويض الصفة التي أشكل عليه معناها ، و هذا ظاهر كلامه .
قلت : و هذا هو الحق _ عندي _ و هو الذي يجب حمل كلامه عليه ، لأدلة :
الأول : قوله : ( و ما أشكل ) فلم يرد مطلق التفويض لمعاني الصفات .
الثاني : آية آل عمران ( 7 ) ، فقد قال في الروضة ( 1/281 ) : ( و لأن قولهم ( آمنا به ) يدل على نوع تفويض و تسليم لشيء لم يقفوا على معناه … ) .
و لا شك أن مراده تفويض المعنى المشكل .
الثالث : أن الآية فيها أن التشابه في الأدلة أمر نسبي ؛ فقد يشكل نص على عالم ، و ليس هو كذلك عند غيره .
ثم _ أيضاً _ إن الواجب إرجاع هذه اللفظة المشكلة من كلام الموفق _ رحمه الله _ إلى سائر كلامه في كتبه _ كما في رسالته ( اللمعة ) من تقريره الصفات على منهاج أهل السنة . [انظر _ أيضاً _ : تحريم النظر في كتب الكلام (59)] ، و اعتقاده المشهود له به من قِبَلِ من ترجم له من أهل السنة .
الرابع : أن مراده بتلك القولة هو تفويض المعنى المراد عند الجهمية ، و دليل ذلك استدلاله بقول الإمام أحمد : ( لا كيف و لا معنى ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _مبيناً معنى كلمة الإمام أحمد _ : ( و المنتسبون إلى السنة من الحنابلة و غيرهم الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين يتمسكون بما يجدونه فى كلام الأئمة في المتشابه مثل قول أحمد فى رواية حنبل و لا كيف و لا معنى ظنوا أن مراده أنا لا نعرف معناها و كلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع و قد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية و نحوهم الذين يتأولون القرآن على غير تأويله ) [ الفتاوي 17/363 ] .
ثم قال : (فنفى أحمد قول هؤلاء و قول هؤلاء قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية و قول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون معناه كذا و كذا ) [ 17/364 ] .(16/2)
و لِيُعْلَمْ أن الأخذ بهذه الكلمة الموهمة و جعلها مذهباً للموفق دون الرجوع إلى مذهبه في سائر كتبه أمر لا يجوز الحكم من خلاله على الموفق ، و هو حكم خالٍ من التحقيق .
ثم _ أيضاً _ إن الموفق _ رحمه الله _ لم يُبَيِّن أن هذا هو مذهبه ، بل إنه قرَّرَ منهجاً عاماً ، و هذا فيه فائدة قلَّ من تنبه لها أحد ؛ و هي : أنه سدَّ باب الخوض في الصفات بغير حق ، و التكلف في تتبع الكيفيات ، و ضرب المعاني الباطلة لصفات الله _ تعالى _ .
الجمعة 13/10/1422هـ(16/3)
تعليل التأريخ
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
التأريخ أحداث و وقائع الحاضر شبيه الماضي ، و كلُّ يرى في التأريخ أحوالاً في عاصره مثيلها .
و لا شكَّ أن مراعاة بالقراءة شيء جميل ، و يُنبيء عن توقُّدِ همة , و قوة عزيمة .
لكن الخلل الذي داهم أحوال الثقافة _ عموماً _ لم يسلم منه قراء التأريخ ، إذ غالب القراءة تكون قراءة استسلام و قبول ، و هذه تتنافى مع أصول القراءة التأريخية التي سار عليها محققوا التأريخ _ بعضهم _ .
و من الخلل في القراءة التأريخية إهمال مبدأ ( تعليل التأريخ ) ، و أعني بـ ( تعليل التأريخ ) النظرة الثاقبة المتزنة للحوادث التأريخية .
و هذا المبدأ قيمٌ نفيس ، رفيع المقام ، عالي القدر ، و لذا كانت الحال الإهمالية له .
و الحوادث التأريخية كثيرة جداً ، و حصرها من أصعب الأعمال و المهام ، بل لا يحصيها سوى خالقها _ سبحانه و تعالى _ .
و إعمالُ قاعدة ( ما لا يدرك كله لا يترك جله ) مهم في التأريخ حيث إعمال مبدأ ( تعليل التأريخ ) .
و ( تعليل التأريخ ) له أصلان مهمان :
الأول : السببية ، و ذلك كون الأشياء حدوثها بأسباب و زوالها بأسباب ، فمراعاة عامل ( السببية ) في ( تعليل التأريخ ) يورث لنا فهماً للحدث التأريخي بدايةً و انتهاءً .
و الغفلة عن قانون ( السببية ) غلطٌ بيِّن يُنتجُ فهماً مغلوطاً للحوادث .
و التحريف لحقيقة السبب فُحْشٌ تأريخي يعقبه تحريف في حقائق التأريخ .
و بهذين كان أغلب الانحراف في فهم التأريخ .
و السبب للحدث التأريخي نوعان :
الأول : الفاعل ، وهو القائم بأصل حدوث الحدث ، و هو فرد أو جماعة .
الثاني : العوارض التي كان منها حدث الحدث التأريخي .
الأصل الثاني : الكيفية لحدوث الحدث ، الحوادث لها كيفيات في وقوعها ، و طرق الحدوث .
و الرعاية لتلك ( الكيفية ) مهم للقائم بـ ( تعليل التأريخ ) .
و على من اشتغل بـ ( تعليل التأريخ ) عدم إهمال أمرين :(17/1)
الأول : السنن الكونية ، فلها أثرٌ كبير في حوادث التأريخ .
الثاني : أبعاد الحدث و ما يوميء إليه وقوعه ، فأغلب أحداث التأريخ لوقوعها أبعاد كثيرة تُحصرُ في ثلاثة أبعاد :
أولها : البُعد الديني كـ ( أحداث الحروب ) .
ثانيها : البُعد السياسي .
ثالثها : البُعد الاجتماعي .
و أخيراً : لابد من التعريج السريع حول فائدة ( تعليل التأريخ ) ، و له فائدتان أساسيتان :
الأولى : التشابه الكبير بين الحاضر و الماضي ، فبماصحبة المؤرخ ( تعليل التأريخ ) وجود التشابه بين الزمنين لاتخذ تصرُّفاً في التحليل للحوداث .
و لا يُنسَ في ذلك قاعدة التأريخ : الحاضر بالماضي أشبه من الماء بالماء .
الثانية : الاعتبار بالوقائع التأريخية و ملاحظتها بعين الفكر .
انتهى ما لمح بالخاطر ، و فُرِغَ مما سنح في الفكر .(17/2)
حينما تخالفني الرأي ...
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
حدثني شاهد عيان عن مجلس نقاش شبه علمي _ و هو إلى المراء أقرب _ مع واحد من المتحدثين عن أمورٍ جفَّ فيها القلم ، و رفعت فيها الصحف .
و كان جملة الحال من نقاشهم أن كلاً رادٌّ و مردودٌ عليه ، و كلاً حاج و محجوج ، و كلاً منتصرٌ و مغلوب .
و السبب أن لا أصل متَّفَقٌ فيه بين القوم ، و في انعدام الأصول سقوط الدلائل .
إن مجالس المناظرات و النقاش تفتقرُ إلى أصولٍ مهمات حتى تكون على وجهٍ صائب ، و في فقدانها مكمنُ الخطأ و موطن الغلط .
(1) أتاني هواها :
النفوس ميَّالَةٌ ، و تسترقُ السمع لتظفر بمن يؤيدها على ميولها ، و الله يقول : { إن النفس لأمارة بالسوء } .
إن العلم الشرعي مبني على أصول و قواعد ، إليها يَهْرَعُ القوم عند التخاصم ، و إليها يفزعون حالَ الاختلاف .
و الفقه المبني على هذا هو المقبول ، و هو المرْضي ، و ما عداه فالإعراض عنه منقبة ، و الصدود عنه محمدة .
يكتم أقوام بعض الآراء لهم خشية الاستنكار من الناس تجاه ما يتبنونه ، فإذا ما لقوا قوماً يشطحون جانباً و يضربون بالواقع عرض الحائط يستنفرون خيلهم ، و يجلبون بها و برجلهم تجاه القائل ، فيحظى بالوصم بـ : العالم ، البطل ، الفقيه ،،، .
و من قبل لم يحظَ و لا بربع لقب ، و الآن استحقها لكلامه في أمر مالت إليه النفس .
قد شَرِقَ قوم بأمورٍ و مسائل في دين الله ، لم ترتفع أنفسهم لقبول الخلاف فيها فأبوا إلا التضييق و التحجير .
و الخلاف في الفروع رحمة .
فلهؤلاء نقول : إن دين الله مرتكز على أصول ، و مبني على قواعد و الأخذ بفهم فلان و علان ليس منه في شيء فاعلموا هذا و خذوه و إلا فأحجموا عنه ، و دعوا العلوم لأهلها لستم منها في شيء .(18/1)
ألمّا تكلم بعضٌ فيما تشتهون أخذتم بالصولات و الجولات ، و رفعتم المتكلم فوق مقامه ، و بريحٍ صرصرٍ أرسلتموها على من جاوزه في العلم برمية حجر حيث خالفَ رغائب النفس ؟.
ألا بئس القوم قومٌ يجعلون دين الله تعالى تحت سيطرة النفس و الهوى .
(2) حين تكون النصوص مراكب :
و أستغفر الله _ تعالى _ إن كان في الكلام سوءٌ ، أو اعتراه خلل التعبير .
و هذا هو واقع كثيرين ، إذا رَغِبَ في أمر ، و طمع في حكم استنفر ما يملك من آلات بدائية فتصفح الكتاب و السنة آخذاً منها ما يوافق الرغبة ، و يحقق الشهوة ، ضارباً بصائب الفقه أرضَ القدم .
و هل النصوص ( مراكبَ ) و ( دوابَّ ) لقوم لا يفقهون مقاصدها ؟
إن الأخذ من النصوص مرجعه إلى من ملك الآلة ، و أتقن الصنعة ، و أعني بها : صنعة الفقه .
و ليست الأمور عبثاً يَسْتَطِرُ فئامٌ صغارَ العقول و الفهوم أحكاماً من كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم .
و الأخذ بهما له ضوابط تضبط الفقه المستنبط منهما ، حتى لا يكون الفقه شاذاً ، و حتى لا يتطفل عليهما من قلَّ دينه ، و عُدِمَ ورعه .
و العبرة بتقرير من هو معتبر عند العلماء قوله ، و مأخوذ عندهم بالنظر و الفحص .
أما من قوله و عدمه سواء ، فلا سواء .
و من هو المعتبر عند الفقهاء ، و من هو المأخوذ قوله لديهم ؟
هو : الفقيه ، المجتهد ، الإمام ، العالم ، و من عداه فلا . فتَنَبَّه و تفطَّن .
و لهذه الألقاب معانٍ و الأصل حملها على ما اصطلح عليه أهلها لا ما اصطلح عليه الأجانب عن العلم .
(3) فاستخفَّ قومه :
إن الاستخفاف بالعقول ، و الاستهجان بالفهوم سَوْءَةُ أدب ، و دناءةُ خُلُقٍ .
و الأقبح من ذلك : أن يكون الاستخفاف مستوراً بالكتاب و السنة ، و مُلْبَسَاً لباس التقرير الحق .
و هذا تغرير و غبن ، و مخادعة لعقول الناس و أفهامهم .(18/2)
إذا كنتَ يا هذا ممن يروم الحق و تبيانه ، و يقصد هدم الباطل و نقض بنيانه فاعمد إلى نهج الأوائل في تقرير الأدلة ، و سَوْقِ حجج الخصوم ، مع النقض و التقرير السوي الصحيح .
هذا إذا كنت أهلاً لذاك ، أما و الأهلية معدومة فلك أقولُ :
دعِ الكتابَةَ لستَ منها ** و لو سوَّدَّتَ وجهك بالمداد
إن هذا النوع من الطرح المتضمن :
1) تقرير الرأي الشخصي .
2) لَيُ أعناق النصوص لتمشيتها تأييداً لذاك الرأي .
3) الهدم القوي لحجج الخصم ، و الطرح لرأيه .
4) الوصف للخصم بألفاظ : الفسق ، و الجهل ... .
كلُّ هذه من الاستخفاف بعقل المقابل المتلقي لمضمون المطروح ، و من الاستهجان لعقله بأنه ليس أهلاً أن يُعطى ما يتفهمه بل يُعطى الشيء كاملاً ، خشية الفتنة .
فلو كان أيَّ راءٍ لرأي حين يكتبُ ما يعضدُ رأيه يطرح ذلك بقالَبٍ علمي رصين ، و يقرر المسائل بتقرير منهجي لكان ذلك مقبولاً .
أما و الطرحُ إنما هو تحجير للسَعةِ ، و رفعاً للخلاف الواقع بحجة أوهى من بيت العنكبوت فلا ، و لا كرامة .
و هذا ما وقع فيه بعضٌ من الكُتَّابِ في بعض المسائل المنتشرة.
(4) كُن واسع القلب للنقاش :
الجادة المطروقة عند عامة الصالحين هي البحث عن الحق ، و السعي للوصول إليه .
و إلى ذلك كان السلوك في ذاك الدرب ، و لأجله كان التنوع في البحث عن الحق .
و من تلك السبل : النقاش و المناظرات ، و فائدتها معلومة معروفة ، و إيصال الحق من خلالها أقوى من ناحية الطرح المجرد .
و الأصل الجامع للطرفين هو : السعاية نحو الحق مع أيٍ كان .
إلا أن هذا الأصل تخلَّفَ في زمنٍ استأسد فيه من خلا من أصول النقاش العلمي ، فترى الواحد من القوم _ كالذي أشرنا إليه _ حين يناقَشُ بين حالين :
الأولى : أن يكون متقبلاً للنقاش بصدرٍ رحب .
الثانية : ألا يقبل الحوار في ذلك .
و المطلب الأساس في الحوارات هو أن يكون الخصم قابلاً للحق إذا ظهر ، و لا يتهرب منه .(18/3)
إلا أنه يجنح البعض إلى السكوت ، و إلى التصرف بتصرفات غير محمودة إذا حُجَّ من قبل الخصم .
و هذه تخالف سعة الصدر و رحابته في الحوارات ، و تقضي له بأنه كاسد البضاعة في العلم .
(5) بين قولَيْن :
اشتهرت في الناس قالةٌ بديعة ، عظيمة ، و هي : قولي صحيح يحتمل الخطأ ، و قولك خطأ يحتمل الصحة .
و ليت من يقولها بلسانه يقولها بفعاله .
إن كثيراً من المتحاورين يبغون الحق في حواراتهم ، لكن يترسب لدى البعض منهم أن قوله حق و صواب ، و قول المقابل له باطل و خطأ .
نعم ؛ قد يكون منهم من يأخذ بتلك القالة في الظاهر و التنظير ، أما عند ميدان الواقع نراها متخلفة مهملة .
إن الحق عند كلٍّ _ بزعمه _ و لكن الاعتبار بالدليل العاضد ، و القرائن المؤيدة للقول .
و ما أجمل أن يتمثل الكل بتلك القاعدة ، و يهملوا القاعدة الأخرى : قولي صواب لا يحتمل الخطأ ، و قولك خطأ لا يحتمل الصواب .
(6) قوارب نجاءٍ :
بعد هذه الإلماعات المتعلقة بتقرير العلم عند البعض ممن جهل الجادة ، و سلك درباً منكوساً ، أسطر ههنا كلمات هن إضاءات ، و قالات إلماعات ، تنير درباً ، و تعين أخاً .
أولاً : أن الأصل في المسلمين _ و العلماء منهم خاصة _ عدم مخالفة الشريعة في أي شيء منها .
قال شيخ الإسلام : وليُعْلَم انه ليس أحد من الأئمة-المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً- يتعمد مخالفة رسول لله-صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنة,دقيق ولا جليل .
فانهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول –صلى لله عليه وسلم- ,وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) أ.هـ . [رفع الملام ص :4].
ثانياً : أن الخلاف في الأمة سائغ و محمود في الفروع .(18/4)
قال الإمام يحي بن سعيد الأنصاري : ما برح أولوا الفتوى يفتون ، فيحل هذا و يحرم هذا ، فلا يرى المحرِّم أن المُحِلَّ هلك لتحليله ، و لا يرى المُحِلُّ أن المحرِّم هلك لتحريمه . [ جامع بيان العلم و فضله 2:80 ]
ثالثاً: المسائل المخالف فيها.
إن الخلاف القائم بين علماء الدين لا يخرج عن مسألتين:
الأولى: مسألة في الأصول (الاعتقاد)
الثاني: مسألة في الفروع (الفقه وغيره)
وقبل أن يخطأ العالم في مخالفته لابد من معرفة ما يأتي:
رابعاً: دوران المسائل بين الوفاق والخلاف.
بعد أن ننظر إلى العالم وكونه خالف غيره في أي من المسألتين الآنفتين فإن الواجب أن ينظر إليهما من خلال جهتين:
الأولى: جهة الوفاق والإجماع .
الثانية: جهة الخلاف .
فإن كان العالم قد أخذا بمسألة انعقد عليها الإجماع ولم يَقُمْ فيها خلاف فإنه يخطأ بأدب وعلم.
وأما أن كان العالم قد اخذ بمسألة قام الخلاف فيها قديماً فلا يجوز أن يخطأ أو يجهل .
قال سفيان الثوري –رحمه الله- :(إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه) . (الفقيه والمتفقه 2/69).
على أنه لابد من التنبيه إلى أن الناس قد سلكوا مذاهبَ و اقتدوا بعلماء ، و لهم أقوالهم و منازلهم في نفوسهم ، و هذا يتبين منه أن ملاحظة الحال التي عليها القوم مهمة جداً ، و مخاطبتهم بلغتك ، و محاكمتهم إلى نهجك من الأمور التي لا يُسلِّمُ بها البعضُ من الناس ، فعليك بمراعاة أحوال القوم .
علماً بأن الخصم إذا كان آخذاً بمذهب فهو لن يدعه لقول خصمه إن لم يكن القول الذي تعلَّقَ به قولاً في مذهب .
هذه إلمعات مجملة موجزة آثرت طرحها ليعم نفعها ، و لتبرأ بها الذمة .
و الله الموفق ، و الهادي إلى سواء الصراط .
22/10/1423هـ
الرياض _ الخميس(18/5)
سُقاةُ الشرِّ الغرباء
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
إن الشر ما نما و ما كثُرَ و ما انتشر إلا بوجودِ سُقاةٍ لزرعه ، و حرَّاثٍ لبذره .
و هذا الدأب مسلوك في كل أمرٍ من أمور الحياة المختلفة .
و لكن إن كان ( السُقاة ) من جنس المبدأ و الشأن فنعم ، لكن الغريب أن يكون ( السُقاةُ ) هم أعداء المبدأ .
إن الشر الكاثر في بلاد المسلمين الآن ( السُقاة ) له مختلفون ، فهم إما مناصرون و مؤيدون له ، و إما مخالفون و رادُّون له .
فالأول يسعى دائباً لنشر مبدئه ، حيث اقتنع بجدواه و أهميته ، أو حيث علِمَ بضرره و لكنها عماية الشر .
و أما الثاني فشأنهم إبطال الشر و رده ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .
جميلٌ هذا منهم ، بل مطلوب حتمي تحققه فيهم .
و لكن العجبُ يساور الروح ، ويخالج العقل بتغريب أن يكون هؤلاء ( سقاةً ) للشر ، و حراثاً لبذره .
نعم هو قبيح جد القبح ، و لكن حيث وقع فلا بد من إبداء ضوء تجاه المسألة يكشف منيراً ما وراءها .
كون الصالحين ( سقاةً ) للشر _ من حيث علم أوعدمه _ أمر يثير دهشة ، و يورث حيرة ، و لكن لذاك أسباب ، و له طرائق .
و قبل البدء بطرحهما أبين أمراً مهماً و هو : أننا على ثقة بحرص الصالحين على نشر الخير و بيانه ، و دحض الشر و إبطاله .
حيث كان الأصل فيهم العدالة و الاستقامة و الاستئمان على أحوال الدين و أصول الشريعة .
و ما حدث ما سبق إلا بسبب غير مقصود ، و بطريق غير منظور إلى عواقبه عن كثب .
و لست بهذا المطروح أكون ناشراً حقداً ، أو ناثراً فتنة ، أو متقلِّداً نهج إفسادٍ للعامة على العلماء ، إنما أنا _ هنا _ واضعاً تشخيصاً لداء ، و تبياناً لمرض .
فليفهم هذا مني .
أما أسباب كون الصالحين ( سقاةً للشر ) فهذا عائد إلى أسباب كثيرة جملتها ثلاثة أسباب :
الأول : الجهل ببعض الأمور .
يدفع كثيراً من الناس الجهلُ إلى الوقوع في أمور لا تُحمد عقباها ، و لا يطيب جناها .(19/1)
فنرى في أحوال كثيرة من واقع المسلمين الآن استحساناً لمناهج ( العلمانيين ) و مسالك ( الحداثيين ) و ذلك جهلاً منهم بأبعاد تلك الأمور المنحرفة .
و من ثَمَّ يأخذ أهل الشر أفعال أولئك حججاً لباطلهم و ضلالهم .
و عليه : فلابد من الصالحين مراعاة الأمور من حيث العلم بها علماً لا يكون به أدنى ريبة ، ولا يكون به أدنى مسلكٍ لـ ( سَقْيِ الشر ) .
و هذا السبب يصور لنا الحال التي وصلناها بجهلنا ببعض الأمور ، و عدم علمنا بمناهج حديثة زمناً و مكاناً .
الثاني : عدم إحسان التصرُّف في إبلاغ العامة .
كثيرون هم الصالحون الذين يسعون لنقل الناس من الجهالة إلى العلم ، و من الغواية إلى الهداية .
لكن أكثرهم في جهلٍ كبير في طريقة الإبلاغ ، فإن الإبلاغ فنُّ قليلٌ مُتْقِنُه .
و كون ذلك سبباً في ( سقاية الشر ) من جهة أن كثيراً ممن يُبلِّغ يعمد إلى طريقة في التبليغ يكون في الإفهام خلاف المطلوب .
فقد يَعْمَدُ أحدٌ إلى تحذير من مذهب بدعي فيخلط حابلاً بنابل ، أو يأتي بالمتناقضات في أسطر كلماته .
فكم من إنسان أراد تبيين مسألة للناس حادثة فأساء الإبلاغ من جهة طريقة الإبلاغ .
فليس كل أمر يُبلَّغ لكل الناس ، و ليس كل الناس يُبلَّغون كل أمر .
فالناس أجناس ، و لكل جنس ما يناسبه .
و هذا السبب كاشفٌ لنا حقيقة مرةً في مدى الجهل الذي نعيشه في طرائق الإبلاغ .
و الإبلاغ يُسلَك فيه جهتان :
الأولى : جهة المادة المطروحة ، و يُنظرُ فيها إلى أمور :
الأول : مناسبتها للفئة المُلقاة عليهم .
الثاني : الزمان الذي تُلقى فيه .
الثالث : متانتها و قوتها ، مع مراعاة الفوارق بين الناس .
و أما الجهة الثانية : ففي أسلوب الإبلاغ ، و يُتنبَّهُ فيه من خلال أمرين :
الأول : القالب الذي تكون المادة المُبَلَّغة فيه كـ : كتاب ، و شريط ، و نشرة ، و إذاعة ، و صحيفة ، ... .(19/2)
الثاني : حال المُبلِّغ في طرح المادَّة المُبلَّغة من : وقوف ، و جلوس ، و حركة ، و خفض صوت و رفعه ....
السبب الثالث : إغفالُ الحكمة في الطرح 0
فكثيرةٌ أحوال الشر و مناهجه ، و هي دائمة التجديد و التحديث .
فباختلاف المناهج ، و بديمومة تحديثها لابد أن نكون على مراعاة ذلك .
فليس من الحكمة أن يكون الكلام في أمرٍ اندرسَ من عقولِ كثيرين من الناس الغافلين عن أحوال المناهج الشرية .
فهل الحديث عن مواضيع الشيوعية و مناهجها الآن من الحكمة ؟
بلا شك أن الجواب لا .
و السبب فيه أنها مذهب اندرست معالمه و أصوله و لم يبق منه إلا حثالة في المجتمعات الجهل بهم هو الغالب على العامة .
فلو تكلم أحد عن مذهب الشيوعية _ بعد أفوله _ قد يكون ناشراً له من حيث لا يدري .
و قس على ذلك كثيراً .
و أما الطرائق المسلوكة عند ( سُقاة الشر الغرباء ) فمتعددة ، لكن رأسها : الاستنكار الغير مُوفَّق .
حين يقوم من هو عالمٌ بأبعاد الشر بالإنكار و الاستنفار لهدم صرح الشر يكون هناك أقوام من الصالحين لا يعرفون معرفته فيستنكرون فعلته و إنكاره .
و لك أن تتصور الحال لهذا المستنكر _ الجاهل _ في شأن المنكر العالم ، و أهل الشر .
أما الأول فسيكون في غُربةٍ كبيرة إلا إذا ربط الله على قلبه .
و أما الثاني فيكون كالغريق المستمسك بخيط بيت عنكبوت صارخاً في القوم لقد وجدت غياثي .
و الله أعلم .(19/3)
صناعة التأريخ
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
يُعقلُ أن أحداً قام بصناعة خزفة ، أو آلة أو غيرهما ، لكن قد لا يكون معقولاً _ أبداً _ أن أحداً قام بـ ( صناعة التأريخ ) .
إذ التأريخ ذاته هو محلُّ الأحوال ، فكيف يُعقل أن يكون مصنوعاً يصنعه من يعيشه .
قد يجرؤ البعض فيقول : لقد كابد الكاتب أمراً فخالجه اهتزاز في الفكر فهرف بمالا يعرف ، أو هذى بما لا درى.
و أقول : الترسل في الأمر شأن مبارَك ، إن ما أقوله ليس من بنات الفكر ، و لا من وحي الخَلَد .
و إنما أبوح بأمر اشتهر و انتشر ، حفظ التأريخ شيئاً من ذلك فبثه المؤرخون في أضعاف الكتب و أعطافها .
( صناعة التأريخ ) ليست تعني إيجاده و خلقه ، فهذا من شأن الرب _ تعالى _ ليس للمرء أن يكون زاعماً لمثله ، و متى زعمه فقد ربط نفسه برباط الكفر و الردة .
و إنما ( صناعة التأريخ ) هي صناعة أحداث تؤتي نتاجاً مباركاً في تحقيق أهدافٍ لقوم .
بمعنى : أن يقوم أحدٌ من الناس فيجعل من نفسه موقعاً في تأريخ البشر .
و هذا تماماً ما كان من كثير من أهل الهمم ، و رواد القمم حيث سعوا إلى تحقيق قدر من الأهداف في أزمنة التأريخ .
و الناس في ( صناعة التأريخ ) أقسام :
الأول : من يصنع تأريخاً ينصر من خلاله دينه و مبادئه ، و هؤلاء أنواع :
1- من تبنى ديناً سماوياً ، و هم قسمان :
1) من كان دينه حقاً و هو ( الإسلام )
2) من كان دينه باطلاً و هو ما سوى الإسلام
2- من تبنى مذهباً منحرفاً . و هؤلاء كُثُرٌ .
3- من تبنى فكرة من الفكر الخاطرة في نفسه .
الثاني : من صنع تأريخاً لنفسه ، فعمرَ ذاته ، و بنى كيان نفسه .
و هؤلاء قِلَّةٌ في الزمان كله _ و الله المستعان _ .
و ( صناعة التأريخ ) ليست بالأمر الهيِّن السهل فهي تتطلَّبُ أموراً :
الأول : تحديد التأريخ المراد صناعته .
الثاني : الدراية بالتأريخ .(20/1)
الثالث : إعمالُ الفكر فيه من حيث : الأسباب ، النتائج ، الآليات الصناعية .
و أعني بـ ( الآليات ) أدوات ( صناعة التأريخ ) .
الرابع : فهم و تحليل الحدث التأريخي المشابه .
الخامس : مراعاة الأصول و القواعد التأريخية .
و الاعتبار في ذلك بـ ( مقدمة ابن خلدون ) و دراية ما تضمنته قواعده المنثورة فيها .(20/2)
صناعة النفس
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
للإنسان قُدْرَةٌ في إظهار نفسه و تكوينها ، و هو في ذلك غنيٌّ عن إظهار غيره له .
و هذه حال كثيرين يعتمدون على غيرهم ، و يرتقون على أكتاف كبرائهم لإظهار أنفسهم .
و هذا فيه ما فيه من هضم النفس ، و هَدْرٍ لما وهبها الله من آليَّات النهوض بها ، و الرقي بها في سماء العلو .
و لذا كانت وظيفة ( صناعة النفس ) سائدة لدى فئة من الناس لا يُزَاحَمُوْنَ في وظيفتهم ؛ و هذا إنما هو : لقلَّتِهم ، و لعلو همتهم ، و لقوة عزيمتهم .
فَمِنْ شابههم سلك دروبهم . و مَنْ لا فلا .
و هذه أسطرٌ كاشف فيها معاني ( صناعة النفس ) من خلال مباني الأحرف .
و مؤصِّلاً وظيفة ( صناعة النفس ) موافِقَاً أصول الشريعة ، مراعياً أُسُسَ التربية .
معنى ( صناعة النفس ) :
قد يتبادر إلى الذهن معنى لـ ( صناعة النفس ) غيرُ مُرادٍ لي ؛ و دفعاً لتلك المبادرة أُبيِّنُ المعنى من (صناعة النفس ) و هو :
سعيُ الإنسان _ الجادّ _ نحو إظهار نفسه ، و الكشف عن مكنوناتها و مهاراتها التي تؤدي بها نحو عالم الإبداع . مع اعتماده على ذاته وما كان خافياً فيها من قُدَرٍ .
و هذا المعنى هو من بنيَّات الفكر ، و بَوْحِ الخاطر .
قواعدُ( صناعة النفس ) :
لـ ( صناعة النفس ) قواعدُ و أصولُ بها تُتْقَنُ و تُحْكَمُ ( صناعة النفس ) ، و بدونها ، و حال تخلُّفِها يكون الخلل ، و يُخَيِّمُ الفشل .
و ههنا أمورٌ أربعة هنَّ أصولٌ لـ ( صناعة النفس ) :
الأول : معرفة قُدُرَاتُ النفس :
إن الله _ تعالى _ متَّعَ الخلق بقُدَرٍ و مواهبَ ؛ و هذه المواهب و القُدَرُ متفاوتةٌ بين الناس ، و هم فيها متباينون .
فإذا عرف الإنسان قُدُرَاتُ نفسِه أحسن استعمالها ، و انشغل بها عن غيرها .
و معرفة قُدَرُ النفس مُرْتَكِزَةٌ على رَكِزَتَيْن :
الأولى : عدم رَفْعِ النفس فوق قدْرِها .(21/1)
حيث ترى _ و هو كثير _ مَنْ يُخادع نفسه و يُلْبِسُها لباس الزور فيُنزلها منازل كبيرةً عليها ، ليست هي من أهلها و لا قَرُبَتْ من أحوالهم .
الثانية : عدم إهانتها و إنزالها عن قدرها .
و هذه كسابقتها في الكثرة و الانتشار .
و أعني بقُدَرِ النفس : ما تعرف النفس أنها ميَّالَةٌ إليه ، و تتيقَّنُ أنها تُنْتِجُ فيه أكثر .
الثاني : حُسْنُ إدارة النفس :
إدارة النفس تعني : قُدْرَةُ الفرد على توجيه مشاعره و أفكاره و إمكانياته نحو ما يريد تحقيقه ، و ما يصبو إلى تحصيله ( ).
فَحِيْن يستطيع الإنسان أن يوجِّهَ خواطره و مشاعره نحو ما يسعى إليه في حياته يكون بدءُ ( صناعة النفس ) .
و إدارة النفس فنُّ له أصوله و قواعده و مهاراته ، فليس هو أمرٌ بالهيِّن ، و لا بالشأن السَّهل .
الثالث : تزكيةُ النفس :
تزكية النفس هي : تنميتها ، و تطهيرها .
فتنميتها تكون بـ : الطاعات ، و الفضائل .
و تطهيرها يكون بـ : التخلِّي من الآفات ؛ المعاصي ، سفائل الأخلاق .
هذان أُسَّان في تربية النفس و تطهيرها .
الرابع : التدرُّج :
النفس توَّاقةٌ نحو الدَّعَةِ ، و ساعيةٌ إلى الخمول و السُّكون ، فإذا أراد صاحبها أن يُبْدِعَ في ( صنلعة النفس ) فلا بدَّ له من نقلها من مواطن الركود و الدعة إلى مشارف العلو و الرفعة .
و هذا يحتاج إلى أن يتدرَّج بها صاحبها من الدُّوْنِ إلى العلو ؛ شيئاً فشيئاً قليلاً قليلاً .
و سرُّ ذلك : أن في التدرُّج تنقُّلٌ مُمَهَّدٌ يستدعي تقبُّلَ النفس لتلك الصناعة .
و العكس ذو آفة يعرفها من أدرك حقيقة ذاك السر .
الخامس : الحكمة :
إن ( صناعة النفس ) تقتضي التعامل بالحكمة مع النفس ؛ فلا تُجْهَد ، و لا تُطْلَق لها الأزِمَّة .
فيراعيها في موطنين :
الأول : موطن الإقبال نحو المعالي ؛ فيغتنم تلك الفرصة لتربيتها ، و تنميتها .
الثاني : موطن الإحجام عن الفضائل فيستعمل معها سياسة القيادة من جهتين :(21/2)
الأولى : الترغيب ؛ فيرغب نفسه بفضائل الأفعال ، و مقامات الكمال .
الثانية : الترهيب ؛ فيرهب نفسه بعواقب الدُّنُوِّ ، و يُبَيِّنُ لها مساويء الأعقاب .
طرقُ( صناعة النفس ) :
لـ ( صناعة النفس ) طريقان مهمان :
الأول : طريق ( الذات ) :
و أعني به : أن يكون الإنسان هو الصانع لنفسه ؛ و ذلك من خلال القواعد الخمس السابقة .
الثاني : طريق الغير :
و أعني به : أن تكون ( صناعة النفس ) للإنسان من خلال من هو خارج عنه _ أي : عن نفسه _ من : صاحب ، أو عالم ، أو أبٍ ، … .
مجالات( صناعة النفس ) :
المجالات كثيرة و متعدِّدَةٌ ، و لكن ما يهمُ هنا هو ما يتعلَّق بالأمور المتعلِّقة بالإسلام ؛ و هما مجالان :
الأول : مجال العلم :
فإن أغلب الناس _ الصَّالحين _ ممن أعملَ نفسَه في العلم : طلباً ، و تعليماً ، و تأليفاً ... .
و هذه مَحْمَدَةٌ و مَنْقَبَةٌ يُفرَح بها .
لكن الأمر المُؤْسِف أن يكون من يشتغل بالعلم دائمَ الصعود و الظهور على أكتاف أشياخه ، ملازماً لتقليدهم ، حَذِرَاً من إبداء أي رأي له خَشْيَةَ عدم المُوَافَقَة .
و هذه سلبية لا إيجابية .
إذ الواجب على الإنسان أن يكون مُسْتَقِلاًّ بنفسه ، مُعْتَمِدَاً عليها .
و هذا هو شأن كثير من العلماء ما أظهرهم إلا هم ، سعوا جادِّيْن نحو ( صناعة النفس ) فأبدعوا و أنتجوا ، في حين أن غيرهم ممن سيطر عليه الخوف ما بَرِحَ مكانه .
و لا أعني بكلامي هذا إسقاط ما للعلماء من مكانة و تأثير في نفس الإنسان ، و إنما أُريدُ أن يكون الإنسان ذا رأي مُعْتَبِرَاً لنفسه قَدْرَاً و وزْنَاً ، و يَنْفَرِدُ بالسعي في تَحْصِيْلِ العلم بعد أخذ مفاتحه و أصوله على مشايخه .
الثاني : مجال الدعوة :
و هذا أكثر و أشهر من سابقه .
و ( صناعة النفس ) فيه تكون بأن يَعْتَمِدَ الإنسان على ذاته في تبليغ الدعوة ، و نشر الدين في أوساط الناس .(21/3)
و كذلك أن يسعى لإيجاد طرائق مُتَعَدِّدَةٍ لتبليغ الدين ، و نشر الدعوة في أوسع نطاق .(21/4)
صِناعَةُ المُراهِقِ
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
( المراهقة ) نَقْلَةٌ حياتية يمرُّ بها الشاب أو الشابة في مرحلة ما بعد البلوغ ، و هي تُشْعره بنوعٍ من الاستعظام الذاتي ، فيُحاكي ( أو تحاكي ) من هو أكبر سناً .
و هذا مُلاحَظٌ فإن أغلبَ المُراهقِيْن يتصرَّفُ تصرفاتِ الكبار ، فيصنع كصنيعهم ، و يسير مسيرتهم ، بِغَضِّ النظر عن صحة ذا أو خطئه ، فالمهم عنده أنه قلَّد كبيراً ، و صنع صنعة من يراه أهلاً للتقليد .
و هذه يستعظمها بعضُ المُرَبين ، و يرون أنها آفةٌ من الآفات الخطيرة التي لا علاج لها ، و لا سبيل إلى إقصائها و حلها .
لذا كان خطئاً العنايةُ بالتنظير التعليمي للمراهق في علاج تلك الأحوال ، و مجانبة تلك التصرفات .
و حتى نجعل من المُراهق شخصاً ذا دورٍ إيجابي فإن لنا مرحلتين جديرتين بالاهتمام الشديد :
الأولى : المرحلة العاطفية .
غالباً ما تكون مرحلةُ المراهقة مرحلةً يفقد فيها المراهق ( العاطفية ) و ( الحِنيَّة ) و ( الوداد ) ، فيسعى لتحقيق تلك الرغبة في أي مجال يتمكن منه .
و لا ريب أن إشباعها يعني الكثير للمراهق ، و مِن ثَمَّ يتودد إلى مَن يُشْبِعُ له تلك الرغبة و يحققها له .
لا تكادُ أسماعنا تقف عن سماع أقاصيص من البعضِ في ميول المراهقين إلى ثُلَّةٍ من الناس لا يساوون قذاةً ، و لا يَزِنُ بهم شيئاً ، و لو بحثنا بِدِقَّةٍ في الأمر لوجدنا أنه حصَّل عندهم ما فقده من الأخيار .
كون المراهق محتاجاً إلى تلك العاطفية عائد إلى صِغَر عُمُرِه ، فليس كونه بلغَ ( 15 ) و زاد أنه أصبح رجلاً فيُحْرَم من التعامل معه بالعاطفية ، و ليس كونه تجاوزَ سنةً دراسية كان معه الأخذ له بأسلوب كبير يفوق عقله .
و إشباعُ الحاجة العاطفية لدى المراهق تكون بأمور كثيرة ، منها :(22/1)
1- عُذُوْبَةُ اللفظ ، فإن غالباً ما يُواجَه المراهق بألفاظ فيها قسوة و غِلْظةٌ مما يجعله نافراً عن قبولِ أيِّ شئٍ من المقابل له ، و اللفظ الحسَنُ العذب يَسْلِبُ اللُّبَّ و يَسْحَرُ العقْل ، و معلومٌ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن من البيان لسحراً " و بيانُه يُغْني عن تبيانه .
و تتأكدُ هذه الحالة في حينِ وجودِ أخطاءٍ من المراهق ، فإنه يصادمُ بسيئ اللفظ إن أخطأ ، و يقابل بفاحش القيل إن بَدَرَتْ منه زلَّةٌ و صبوة .
2- معاملته بتفكيره _ مؤقتاً _ ، يدورُ تفكيرُ أغلب _ بل كل _ المراهقين حول أمورٍ لا يخرجُ مجملُها عن نطاق ضيِّقٍ جداً ، فهي بينَ أمانٍ و طموحاتٍ و آمالٍ من ذوات الظل القريب .
و المَسِيْرُ معه في تفكيره ، و محاكاته في طموحه ، و التفاعل مع أطروحاته مما يُشْبِع حاجته العاطفية ، فهو يُحِبُ مَنْ يفكر كتفكيره ، و يميل إليه و كما قيل : الطيور على أشباهها تقعُ .
و لِيُنْتَبَهُ إلى أن التفاعل معه في هذه النقطة مُمَهِّدٌ للمرحلةِ الثانية الجادة ، و لكن لابد من خطواتٍ قبل الانتقال إليها ، بها يُحْكَمُ سَيْرُ المرحلة الثانية ، و يُعْطي المُربي اطمئناناً بِثِقَةِ المراهق بجدوى المرحلة الثانية ، و الخطوات هي :
أولاً : التبصُّر بمواضع الضَعْفِ في المُراهق ، فَحِيازةُ هذه الخطوة و النجاحُ فيها مكْسَبٌ كبيرٌ جداً للمربي ، إذ موضع الضعف في المراهق هو مَكْمَنُ الخَطَر و مَوْطِنُ الزَلل . تقولُ كيف ذلك ؟ فأقولُ : الغالبُ على المراهقين أنه يَشْعُرُ بِخَرْقٍ في شخصيته فتراه مُحَاكِيَاً من هو أرفعُ منه _ في ظنه _ فلا يَعْتَرِفُ أنه ذو شخصية متفرِّدَةٍ متميِّزَةٍ ، و هذه من أجزاءِ نُقْطَةِ الضعف التي تكون في المراهق .
فإذا تبصَّرْناها و عرفناها بِدقةٍ يكون الانتقال إلى الخطوة الثانية و هي :(22/2)
ثانياً : معرفةُ ميول المراهق ، فإن سِنَّ المُراهَقة سنُّ أحلامٍ و أمانٍ عريضةٍ ، و مرحلةٌ واسعةُ الخيال لدى المراهق ، فتراه يُؤَمِّلُ آمالاً ، و يتمنى أماني ، و يَسِيْحُ في خيالاتٍ واسعة الأرجاء .
و معرفتها مُهمةٌ جداً فمنها يكون التوجيه و منها تكون التربية ، و بِعدمها لن يكون أي نِتاجٍ متين في سلوك التربية مع المراهق .
و إذا تَفَهَّمَ المربي هذه الخطوة و أتقنَها فإنه ينتقلُ إلى الخطوة التالية .
ثالثاً : التوجيه اللبِق _ و اللباقة الحذق في العمل _ ، و هذه بيتُ القصيد في حياة المراهق فإنه لم يجد من يقوم بتوجيهه نحو الأصوب له في حياته ، و لم يَظْفَرْ بِمَنْ يُسَدِّدُ له تصرُّفَاتِه .
و المراهِقُ يتصرَّفُ بما يراه من أعمالٍ و تصرفاتٍ حولَه من الناس الذين يراهم قُدُوَاتٍ له يُأتَسى بهم ، و حين لا يرى من يوجه ميوله نحو السداد ، و يهديه نحو الكمال فإنه سيبقى سادراً في مسيره ، هائماً في طريقه .
و هنا لا يحتاجُ المربي إلى كبير عملٍ لأن المراهق نفسه قد أبدى من نفسه قناعاتٍ كثيرةٍ جداً _ كما هو سابقٌ في تبيان الخطوات _ ، و ما عليه بعدُ إلا أن يبين للمراهق بأن الطريق الصواب هو من هذه الجهة ، و بلزوم تلك الطريق .
فإذا ظَفِرَ بها المربي و أحسن سَلْبَ لُبِّ المُراهقِ _ هنا _ يكون البَدْءُ بالمرحلَة الثانية التي تَعْقِبُ المرْحَلَةَ العاطفية ، و هي :
الثانية : المرحلة التربوية .
و هذه المرحلةُ هي الأساس و هي المقصد و الغاية من معاملة المراهق و العنايةِ به ، و تربيةُ المراهق لن تكون صعبةً _ و لله الحمد _ لأننا أنجزنا أكثر من نصف الطريق في المرحلة الأولى .
و كل ما على المربي هو أن يقومَ بتربيةِ المراهقِ تربيةً ذاتِ سداد و إصابةٍ ، و يُنَوِّعُ في أساليب التربية حتى لا يَلْحَق المراهق ملل ، و لا يعتري التربية خلل .(22/3)
يستطيعُ المربي التنقلَ بالمراهق في مجالاتٍ كثيرةٍ جداً ، و مجموعُ تلك المجالات ثلاث مجالات :
الأول : المجالُ المَعْرِفي .
المَعْرفةُ مما مايَزَ الله به بين الإنسان و الحيوان ، بل هو أداةُ العقل و غذاؤه ، و لا يخلو منه الإنسان مهما كان .
و المعرفة يتفاوتُ البشر في تحصيلها ، و يتفاوتون في قيمتها ، و قيمةُ المرء ما يُحْسِنه .
و أهميتها بالنسبة للمراهق تتركز في جهتين اثنتين :
الأولى : أنها توجيه و تبصير .
الثانية : أنها تثبيت و تأييد .
و سواهما داخلٌ فيهما .
و المعرفة تتنوعُ و إليك أنواعها :
1- المعرفة الدينية ، و هي التي يكون بها معرفةُ المراهق أمورَ دينه و أحكامه ، و قسمان :
الأول : الواجب العيني ، و هو أنواعٌ أربعةٌ :
أ- أصول الإيمان ، و القدرُ الواجبُ منها العلم الجُمْلي لا التفصيلي .
ب- الأحكامُ الفقهية ، و هي أركان الإسلام ، و الواجبُ معرفةُ ما تقوم به تلك العبادات صحةً و إجزاءً .
ت- معرفة المحرمات ، و هُنَّ خمس _ كبائر _ في قول الله _ تعالى _ : { قل إنما حرَّمَ ربي الفواحش ما ظهرَ منها و ما بطن و الإثمَ و البغي بغير الحق و أن تُشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } .
ث- الأخلاقُ و الأدابُ مع الناس خاصةً و عامةً
انظر : مفتاح دار السعادة 481:1-482 .
فإذا مرَّ المراهقُ على هذه المسائل معرفةَ إتقان و درايةٍ بها يكون قد أتى بما لا يجوز له لجهلُ به في دين الله _ تعالى _ .
القسم الثاني : الواجب الكفائي ، و هو الإتيان بالعلم بما لا يجب على الإنسان أن يتعلمه و إنما هو من باب الكفائية و الندب .
و هو منقبةٌ و فضيلة .
2- المعرفة الثقافية العامة ، كالاشتغال بسائر العلوم التثقيفية كالتاريخ ، و الأدب ، و الإدارة و غيرها من الثقافات .
الثاني : المجالُ الإيماني .(22/4)
الإيمانُ أساسُ الحياة ، و بستان القلب ، و لا يستغني عنه المرء أبداً و لو تمتع بكل ما أوتيه من مُتَعٍ و لذائذ .
و التربية الإيمانية مهمةٌ في حياة المراهق ، و أهميتها في أمرين :
الأول : أنها أساسٌ في حياته عامةً ، و في حياة المراهقة خاصة .
الثاني : توثيقاً للصلة بينه و بين الله _ تعالى _ ، و نتائج هذه كثيرةٌ و مهمة للمراهق .
و المجالات التربوية الإيمانية ثلاثةٌ :
أولها : الصلاة ، و المراد بها غير الفريضة كـ : الرواتب ، و قيام الليل ، و الوتر ، و النافلة المطلقة ، و النافلة المقيدة .
ثانيها : الذكر ، و هو ذكر الله _ تعالى _ و يُقْصَدُ به غير الواجب ، والواجب ما تقوم به الصلاة ، والمقصود _هنا _ : أذكارُ طرفي النهار ، و أدبار الصلاة ، و الذكر المطلق .
ثالثها : قراءةُ القرآن في : إقبال النهار و إدباره ، و دُبُرِ الصلوات ، و الوِرْدُ اليومي . و لا يُرادُ بقراءته الواجبة التي لا تتم الصلاةُ إلا بها كالفاتحة .
هذه هي مجالات التربية الإيمانية للمراهق ، و هي الداعم المعنوي للسير به نحو التميُّز و التفوق .
الثالث : المجالُ الخُلُقي .
المرءُ مدنيٌ بطبعه ، لا يستغني عن معاشَرة بني جنسه ، و لا يستطيعُ الفكاك عنهم مطلقاً ، و هذه الغريزة النفسية التي وهبها الله المرء تحتاجُ إلى من يَصقلها و يهذبها ، ويصوِّبُ سيرها نحو الكمال والتمام .
و من كمال الشريعة أن جاءت بما يُكمل هذه الناحية ، و يهذب هذا المجال ، فجاءت بأخلاقٍ كثيرةٍ جداً و آدابٍ بها قِوامُ السلوك الاجتماعي على أحسن وجوهه .
و المراهقُ جزءٌ من المجتمع المسلم _ و غيره _ فلابدَّ من تربيته أخلاقياً حتى يستقيم سيرُه بين الناس على أحسن الأوجه ، و أتم الصُوَر .
الشريعة جاءت بأخلاقِ المعاشرة الاجتماعية و نوعتها أنواعاً متعددة يَصْعُبُ حَصْرُها في هذه العُجالة ، و الإشارة إلى أصول الأخلاقِ حَسَنٌ جميلٌ .
و أركان الخُلُقِ الحَسَن :(22/5)
1- العلم ، و مضى تقريرُ ما يحتاجه المراهق .
2- الجود ، و هو مراتب أعلاها : بذل النفس ، و بذل العلم ، و بذل الجاه ، و بذل المال .
3- الصبر ، و هو أربعةُ أنواعٍ :
أ- صبرٌ على الطاعة .
ب- صبرٌ عن المعصية .
ت- صبرٌ عن فضول الدنيا .
ث- صبرٌ على المِحَن و المصائب .
و أضدادها أركانٌ للأخلاق المذمومة المرذولة .
فهذه مجالاتُ المرحلةُ الثانية في التعامل مع المراهق ، و السير معه في إقحامه دربَ النجاة ، و تبقى لفتةٌ ذاتُ بالٍ يجبُ الوقوف عندها ، و هي : أن تمام تينك المرحلتين صُنْعاً و إحكاماً يكون بالمربي ذاته ، فمتى ما كان المربي على أوفقِ حالٍ و أجملها كان النتاجُ طيباً مبارَكاً ، و المربي ينبغي أن يكون متصفاً بأصول ثلاثةٍ :
الأول : العلم ، فإذا كان المربي خالي الوِفاض من العلم و المعرفة كيف يكون متأهلاً للتربية لغيره ، بل عليه أن يكون متأهلاً بعلومٍ و معارف كثيرةٍ .
الثاني : إجادةُ أسلوب التربية ، و أعني بها السياسة التربوية لإيصالِ الغاية و المعرفة للمراهق ، و أصلها التدرُّجُ بالمراهق من البدايات إلى النهايات .
الثالث : أن يكون أهلاً للاقتداءِ به و الإئتساء به ، و التواضع البارد في هذه المجالات غير مقبول و هو نوع من الخذلان و الهروب عن المسؤولية .
نعم ؛ لا نريد رجالاً يعتزون بأنفسهم و يجعلون منها شيئاً له بريقٌ و لمعان مع الخلو من الحقيقة ، كما أننا لا نريد رجالاً لا يرون أنفسَهم شيئاً و هي هي بالمقام التربوي و المعرفي .
إن تأهل المربي لأن يكون محلاً للاقتداء مهم في وظيفةِ ( صناعة المراهق ) لأن المراهق يريد أحداً ينظرُ هو إليه على أنه مستحقٌ للاقتداء به و جعله نبراساً و مثالاً للحذو على منواله ، و أقربُ مَنْ له هذه الصفة و الحالة هو المربي الملاصق له في أغلب ساعات يومه .(22/6)
و لأهمية هذه اعتنى أهل التربية و السلوك بها فسطروها في تصانيفهم التربوية و السلوكية ذاكرينَ لآدابهم و أخلاقهم ، و ما ذلك إلا لكونهم أسوةً لغيرهم من المُرَبَّيْن و غيرهم .
و أصلُ كلٍّ في المربي أن يكونَ مراقباً الله _ تعالى _ في جميع أحواله و شؤونه فإنه _ تعالى _ رقيب على كل ظاهر و باطن ، و كل جلي و خفي .
و المُربي أصلٌ و المراهقُ فرعٌ و لا يطيبُ الفرع مع فساد الأصل .
و من أجل أن تتحقق الرغائبُ ، و تُنالَ الكمالات في ( صناعة المراهق ) الاهتمام بأمرين مهمين في كل عمل و هما :
الأول : العزيمة في العمل و السير فيه .
الثاني : الجدية في إتقانه .
و منهما و فيهما أمران :
أحدهما : حُسْنُ الإدارة و ذلك بـ : التخطيط ، و صياغة الأهداف .
ثانيهما : التفاؤل و عدمُ اليأس ، و الفشلُ أولُ خُطى النجاح .
هذه معالمُ مُشرقةُ واضحةٌ في ( صناعة المراهق ) جادَ بها على عِوَزٍ الفكرُ المكدود ، سدد الله الخُطى ، و أقالَ الخطا ، و بارك في الجهد ، و أفاد السَّعْد .
11/11/1423هـ
الثلاثاء - الرياض(22/7)
فشل المثالية
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
الطموح نحوَ الكمال من دواعي النفس الشامخة ، و الرغبة في التقدُّم على الأقران غريزة و جِبِلَّة ، و ليس هذا إلا في مقام المحامد و الممادح ، لكن أن يكون السعي إليها إخلالاً من حيث ألاّ شعورية فهو مكمنُ الآفات ، و موطن الزلات .
إن من علائم الناجح أن يكونَ مَرِناً في تسييرِ برنامج أهدافه ، و أن يكون مُسدِّداً مقارباً ، فلا هو الأخاذُ بالأمور بشدة ، و لا هو المتساهلُ بإتمامها .
و حقيقةُ المثالية ليست في إتمامِ العمل كمَّاً ، بل هي في أمرين ذوَيْ بالٍ :
الأول : إتقانه كيفيةً ، و هو الأساس و الأصل .
الثاني : في احترامِ العمل و نتائجه .
فهذان الأمران هما من الأمور التي تُمثِّل حقيقة المثالية في أداء العمل ، أما ما يكون من المباهاة في الكماليةِ و الصورة الحسنة _ مع الإخلال بأحد هذين _ فليس من المثالية إلا في الدعوى .
و من هنا نعرف أن كثيراً من الإداريين واقع في شِباك الزيوف المثالية ، فليس هو الذي ظفر بإتقان العمل في كيفيته ، و لا هو الذي احترمَ نتائجَ عمله .
و لكلٍّ من الأمرين مهام مختصةٌ به :
فمن مهام الإتقان أشياء :
1. رَسْمُ معالم العمل و أهدافه .
2. تحديدُ آليَّاته و إمكانياته .
3. مرونةُ التعامل مع العمل .
و من مهام الاحترام :
1. السرعةُ في اتخاذ القرار ، مع معرفة بواعثه .
2. نظرةُ التقدير لنتيجةِ العمل ، و اعتبارُ الفشل فيها خطوة نجاح جبار ، و كما قيل : النجاح في أحضان الفشل .
3. احترام عملِ الآخرين ، فليس كلُّ عاملٍ أخطأ في نظرك هو مخطيءٌ في ذاته ، و ليس كل محسنٌ محسناً .
و هذه من أسس النجاح في العمل _ أيَّاً كان _ ، و إن أبعدَتْ ففي العملِ خللٌ كبيرٌ لن يُؤْتي نتيجته .
إن قضية المثالية من القضايا الإدارية التي عُكِسَ الفهم لها ، و معالجتها من الأمور المهمة جداً ، و هذا مدخلٌ بسيط .(23/1)
و قد كان من جميلِ التفاؤل أن جُعلَ الفشل ممتعاً ، ومن قبيح ما يستعمل أن يكون لمبدأ المثالية طابع الفشل .
متى ؟!
إذا استعملَ في غير حق .(23/2)
فِقْهُ تَخْطِئَةِ الْعَالِم
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
أحمدُ من أبي العصمة إلا لكتابه ، و أصلي و أسلِّمُ على من حُمِيَ من الزلل جنابُه ، و على آله و أصحابه .
أما بعدُ :
فهذه مُرْسَلَةٌ أوضِّحُ فيها معالم (فِقْهُ تَخْطِئَةِ الْعَالِم ) ، ناشداً من الله التوفيق في الإيضاح ، و راغباً من الأنام درايةَ سرِّ الإفصاح .
أضع بين مخائل لفظها بدائع لحظِ القواعد ، و أسطِّرُ فيها غُرَرَاً من نفيس الفوائد ، مَسْرُدَةً في عِقْدٍ منظوم بمعانٍ من الإجلال ، و مُزَيَّنَةٍ بجلبابٍ من اللآل .
فأقول و بربي استعانتي ، و عليه اتكالي :
إ ن الكلام عن (فِقْهُ تَخْطِئَةِ الْعَالِم ) يدور على محاورَ هُنَّ أساسٌ له ، و عليها اعتماده :
الأول : الأصل في العالم عدم مخالفة الشريعة .
و هذا الأصل معروف مشهور ، إذ علماءُ الشريعة على جانب كبير من التعظيم للملة ، و على حيازة عظيمة لإجلال الآثار .
و لذا قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _ : (وليعلم انه ليس أحد من الأئمة-المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً- يتعمد مخالفة رسول لله-صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنته, دقيق ولا جليل .
فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول –صلى لله عليه وسلم- ,وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) أهـ [رفع الملام ص :4].
فإذا تقرر هذا فإن مخالفة العالم للنص الشرعي سيكون له فيها عذراً يشفع له بتجاوز زلته .
ولا يجوز – إطلاقاً- إخراج احد من العلماء من هذا الأصل.
الثاني: أسباب المخالفة.
حصر شيخ الإسلام –رحمه الله – أسباب مخالفة العالم النصَّ في عشرة أسباب :
أولها: أن لا يكون الحديث قد بلغه.
ثانيها: أن يكون الحديث قد بلغه لكن لم يثبت عنده .
ثالثها: اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ خالفه فيه غيره.
وقد جعل الشيخ لحصول هذا السبب أسباب خمسه هي :(24/1)
أولاً : أن يكون المحدث ( الراوي ) بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفا ويعتقده الآخر ثقة.
ثانياً : أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حَّدث عنه,وغيره يعتقد انه سمعه .
ثالثاً: أن يكون للمحدث حالان:
1- حال استقامة .
2- حال اضطراب(اختلاط , واحتراق كتب).
فما حَدَّث به في الحال الأولى فهو صحيح,وما حَدَّث به في الثانية فهو ضعيف.
فهنا يكون النزاع بين العاَلِمَيْن في حديث الروي في أي الحالين حَدَّث به؟
رابعاً: أن يكون المحَّدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد ,أو أنكر أن يكون حَدَّث به, ويرى أحد العالَمِين أن ذلك علة توجب ترك الحديث.
ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به.
رابعها: اختلاف العلماء في شرط خبر الواحد.
فبعض العلماء له في خبر الواحد شروطاً يرى أهمية تواجدها فيه,بينما غيره لا يرى تلك الشروط .
خامسها: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده, ولكن نسيه.
سادسها: عدم معرفة العالم بدليل الحديث. وسبب ذلك:
أولا: كون لفظ الحديث غريباً عند العالم.
ثانياً:الاختلاف في معنى الكلمة في لغة العالم ولغة النبي-صلى الله عليه وسلم- فيحمله على ما يفهمه من لغة نفسه.
ويحتج لفعله هذا بأن الأصل بقاء اللغة.
ثالثاً: كون اللفظ:مشتركاً,أو مجملاً,أو مترددا بين حقيقة ومجاز.
فيحمله العالم على الأقرب عنده, وان كان المراد المعنى الآخر.
كما في فَهمِ عدي بن حاتم من قوله تعالى(الخيط الأبيض من الخيط الأسود) انه الحبل المعروف.
رابعاً: كون الدلالة من النص خفية.
فإن جهات الدلالات مُتَّسَعَةُ جداً ، يتفاوت الناس في إدراكها . وفهم وجوه الكلام بِحَسبِ منح الحق –سبحانه وتعالى-ومواهبه.
سابعها: اعتقاد العالمِ أن لا دلالة في الحديث .
والفرق بين هذا والسابق :
الأول :العالم لا يعرف جهة الدلالة .
الثاني: العالم عرف الدلالة في الحديث لكنه اعتقد عدم صحتها.(24/2)
وهذا الاعتقاد _ أي كون الدلالة ليست صحيحه-سبب كون بعض الأصول-لدى العالم-ترد تلك الدلالة.
ثامنها: اعتقاد العالم أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة.
تاسعها: اعتقاد العالم أن الحديث معارضٌ بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله- إن كان قابلاً للتأويل- وشرط العارض : أن يكون معارضاً بالاتفاق كـ(آيه)أو(حديث)أو(إجماع).
وهذا الاعتقاد نوعان:
الأول:أن يعتقد أن هذا المعارض راجحٌ في الجملة, فيتعين أحد ثلاثة أمور , من غير تعيين واحدِ منها.
قُلْت : والظاهر أن المراد بالثلاثة التي يتعين واحداً منها وهي:ضعف الحديث , أو نسخه , أو تأويله.
الثاني:أن يعين واحداً من الأمور الثلاثة بأنه يعتقد أنه منسوخ أو مؤول.
عاشرها: معارضة الحديث بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله ,مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارضاً , أو لا يكون في الحقيقة معارضاً.
وبيان هذا أن يأتي عالم فَيِعارض حديثاً بمُعَارضٍ فيه دلالة على ضعف الحديث أو نسخه أو تأويله .
وعالمٌ آخر لا يعتقد أن المعارض معارضاً, أو لا يكون عند التحقيق فيه معارضاً.
[انظر: رفع الملام ,ص5-20]
الثالث: المسائل المخالف فيها.
إن الخلاف القائم بين علماء الدين لا يخرج عن مسألتين:
الأولى: مسألة في الأصول (الاعتقاد)
الثاني: مسألة في الفروع (الفقه وغيره)
وقبل أن يخطأ العالم في مخالفته لابد من معرفة ما يأتي:
الرابع: دوران المسائل بين الوفاق والخلاف.
بعد أن ننظر إلى العالم وكونه خالف غيره في أي من المسألتين الآنفتين فإن الواجب أن ينظر إليهما من خلال جهتين:
الأولى:جهة الوفاق والإجماع .
الثانية: جهة الخلاف
فإن كان العالم قد أخذا بمسألة انعقد عليها الإجماع ولم يَقُمْ فيها خلاف فإنه يخطأ بأدب وعلم.
وأما أن كان العالم قد اخذ بمسألة قام الخلاف فيها قديماً فلا يجوز أن يخطأ أو يجهل .(24/3)
قال سفيان الثوري –رحمه الله- :(إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه) . (الفقيه والمتفقه 2/69).
وَصْلٌ: اعلم –علمني الله وإياك- أن الخلاف يعود إلى أمرين رئيسين:
الأول:الأخذ بالأدلة
الثاني: فهم الأدلة
فأما الأول فإن الأدلة على قسمين:
أولها: أدلة متفق عليها.
وهي(القرآن,السنة,الإجماع,القياس)
ثانيها: أدلة مختلف فيها
مثل: (الاستحسان,الاستصحاب,فعل الصحابي,شرع من قبلنا)
وأما الثاني: فإن فهوم العلماء متفاوتةٌ مختلفةٌ.
وعلى ذلك فلا لوم على من قال بمسألة واعتمد على دليلٍ معتبر (متفقاً عليه أو مختلفاً فيه)
هذا ما سنح الخاطر برقمه , وما جاد القلم برسمه سائلاً ربي الكريم إصلاح الحال وجمع الشمل , وإقصاء بواعث الفرقة
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
15/5/1432هـ
الخميس _ الرياض(24/4)
كَيْفَ نَفْهَمُ ( التأريخ ) ؟!
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
مِنْ مُتَعِ النفس استطلاعها على أحوال الناس ، و رغبتها الأكيدة في معرفة ما هم عليه ، و هذه من غرائز النفس التي لا تكاد تكون مفقودةً إلا عند أقوامٍ قِلَّة .
و إذا كانت هذه بتلك المكانة الغريزية فلا بد من إعمالٍ لأصلِ فهم تلك الأحوال ، و الفَهْمُ لـ ( التأريخ ) مهمٌ جداً ، و رعايته أهم من مجرد مطالعته ، إذ بالرعاية يكون الاطلاع و التحليل ، و بالمطالعة يكونُ الإعمالُ العين دون الفكر .
إننا لمَّا نظرْنا في ( التأريخ ) على أنه قَصَصٌ تُحْكَى ، و أخبارٌ تُرْوى ، دون الاهتمام بشأن التفهُّمِ له ، و التبصر بأبعاده و مقاصده كان أن حلَّ بنا المرَضُ الذي نملكُ علاجه ، و أهلكنا الضمأ و نحن نرى فجاجَه .
فبانَ أن فَهْمَ ( التأريخ ) ذو أهميةٍ بالغَة المدى ، بعيدةُ الصدى .
قواعد فهمِ ( التأريخ ) :
إلا أنه لابد من رعاية قواعد في فَهْمِ ( التأريخ ) هُنَّ أساسٌ ذو متانة في الفهم و جدواه ، و إليكها :
الأولى : قاعدةُ السببية .
( السببية ) أصلٌ كبيرٌ في باب الفَهْمِ ( التأريخي ) و إغفاله خطأٌ خطير ، و ذلك كون الأشياء حدوثها بأسباب و زوالها بأسباب ، فمراعاة عامل ( السببية ) في ( تعليل التأريخ ) يورث لنا فهماً للحدث التأريخي بدايةً و انتهاءً .
و الغفلة عن قانون ( السببية ) غلطٌ بيِّن يُنتجُ فهماً مغلوطاً للحوادث .
و التحريف لحقيقة السبب فُحْشٌ تأريخي يعقبه تحريف في حقائق التأريخ .
و بهذين كان أغلب الانحراف في فهم التأريخ .
و السبب للحدث التأريخي نوعان :
الأول : الفاعل ، وهو القائم بأصل حدوث الحدث ، و هو فرد أو جماعة .
الثاني : العوارض التي كان منها حدث الحدث التأريخي .
الثانية : العمران .
العِمْرَانُ مَعْقِدُ التقويم للأخبار ، و مناطُ القيد في الفهم لـ ( التأريخ ) ، و كينونته أساساً لفَهْمِ ( التأريخ ) من نواحٍ :(25/1)
الأولى : بيانُ صِدْقِ الأخبارِ وَ كَذِبِها .
الثانية : بيانُ استحالةِ الوقوع للحادثة و عدمِ ذلك .
و لذا يقول ابنُ خَلْدُوْن _ رَحمهُ الله _ (( المُقدِّمَة )) 42 : [وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم إن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع . وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح . ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول الفلظ وتأويله بما لا يقبله العقل . وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف انشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط ] أ.هـ .
الثالثُ : السُّنَن الكَوْنِيَّة .
السُّنَنُ الكونيَّة من الأمور المَرْعِيَّةِ تأريخياً ، و مِن الأمور السائرة أساساً في فهم ( التأريخ ) ، و إهمالُها مُؤْذِنٌ بقُصُوْرٍ في الفهم و العبرة لـ ( التأريخ ) .
و لعلَّ الزمانَ يَفْسَحُ الله فيهِ فأرْقُمُ كلاماً حولها أو يرقُمُه من نالَ الخيريةَ و الأهليَّة .
طرقُ فَهْمِ ( التأريخ ) :
بَعْدَ تقريرِ قواعد الفهمِ لـ ( التأريخ ) لابد من الإشارة إلى طرقٍ لرعاية تلك الأهمية ، و لذا فقد حَصَرْتُ الطرائقَ فيما يلي :
الطريقُ الأولى : التدرُّج .
يَدْفَعُ الحِرْصُ بعضَ المُثَقَّفِيْن إلى أن يتبنَّى قراءةً لـ ( التأريخ ) يرجو من خلالها فهمَهُ له ، و غالبُ تلك القراءات تَتَّسِمُ بِسِمةِ العَشْوَائِيَّة ، بمعنى : أن القاريءَ يتلقَّف أي كتابٍ يحوزُ على رضاه .
و لا ريبَ أن هذه السابلة المسلوكة في القراءة و التثقف لا تؤتي إلا ثماراً لا تسمنُ و لا تغني ، حيثُ كان الطريقُ غير مُجَرَّب .
و التدرُّج المُرَادُ هنا ، نوعان :
الأول : تدرُّجٌ في السياق التأريخي .(25/2)
و المعنى : أن يَشْرَعَ القاريءُ بقراءة ( التأريخ ) من أوله ، و الأولية إما أن يراد بها الأولية المطلقة _ أي : أول التأريخ ، و إما أن يراد بها الأولية النِّسْبِيَّة كأول دولة أو ديانةٍ .
الثاني : تدرُّجٌ في القراءة .
أي : أن تكونَ القراءةُ في كُتُبِ ( التأريخ ) على وَفْقِ التنقل المَرْحَلي .
فإن كثيراً من المُثَقَّفِيْن لا يفْهَم و لا يعرِف فِقْهَ القراءات الثقافية ، فإن القراءةَ فَنٌّ له أصوله و قواعده .
و المُشْتَغليْنَ بـ ( التأريخ ) قد وقعوا في مثل هذه الآفة ، و تجاوُزها من أبسطِ ما يكون لم شَمَخَتْ أنفُه نحوَ التحقيق في الفن ، و الدرايةِ الأصيلةِ فيه .
و المَرْجِعُ في ذلك إلى أهل العلم المتخصِّصِيْن في الفن عامةً أو المُتَخصِّصِيْن في جانبٍ من جوانبه .
فهذه الطريقُ أساسٌ في الفهم ( التأريخي ) ، و قاعدةٌ جُلَّى ينبغي لـ ( التأريخي ) و ( المؤرِّخ ) أن يرعيانها حقَّ الرعاية .
الطريقُ الثانية : التبصُّر بالأشباه .
جَرَتْ كلمةٌ من المؤرخين يقولون فيها : ( الحاضرُ أشبَهُ بالماضي من الماء بالماء ) أ.هـ.
و هذه القولةُ لمْ تكُن خارجةً مخرَج الحديث الذي تُقَطَّع به المجالِس ، و إنما خرجت مخرَجَ التقعيد و التأصيل لمسألةٍ مهمة له أحداثها في علم ( التأريخ ) .
فاهتمام ( المؤرِّخُ ) بأحوالِ ( التأريخ ) و مقايسةِ الحاضر بأشباهه في الماضي يُكَوِّنُ لديه تَفَهُّمَاً للحقائق ( التأريخية ) .
و لمَّا بُلِيَتْ أنْفُسُنَا بالصُدُوْدِ عن تلك اللفتة صار ( التأريخ ) عند كـ ( حكايات الجدات ) أو ( أساطير الخيال ) على أن ( حكايات الجدات ) و ( أساطير الخيال ) تُعْطيْنَا فوائدَ و عِبَرَاً غزيرة .(25/3)
كُن مُبَارَكاً
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
( البركة ) خيرٌ دائم .
فكلٌّ يرغب بها ، و يتمنى ( البركة ) في أحواله و أيامه .
لكن كون المرء ذاته يكون هو ( البركة ) مما يُسْتَغْرَب و يُتَعَجَّبُ منه .
و لا عَجَب إذ كان عيسى ابن مريمَ قد قال _ كما حكى الله عنه _ : { و جعلني مباركاً أينما كنت } .
و المعنى : معلِّمَاً للخير .
و كل ما قيل في المعنى فهو عائدٌ إلى هذا .
فأخبر عيسى _ عليه السلام _ عن كينونته مبارَكَاً أينما كان .
و مما لا شكَّ أن كلاَّ يرغب في صيرورته مبارَكَاً في المكان الذي هو فيه ، و المجتمع الذي يعيشه .
و لقد كشَف ابن القيِّم عن عملِ ( المُبَارَك ) فقال : ( فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلَّ ، و نصحه لكل من اجتمع به ، قال الله _ تعالى _ إخباراً عن المسيح : { و جعلني مباركاً أينما كنت } أي : معلماً للخير ، داعياً إلى الله ، مرغباً في طاعته .
فهذه من بركة الرجل ، و من خلا من هذا فقد خلا من ( البركة ) ، و مُحْقَتْ بركة لقائه و الاجتماع به ، بل تُمْحَقُ بركة من لَقِيَه و اجتمع به )
انظر : رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ؛ ص 5 .
و ( البركة ) إذاً أنواع متنوِّعة ، و أقسامٌ شتى ، يجمعها أمورٌ :
الأول : (البركة ) في النفس .
و لا يستريب عاقلٌ أن مراعاة المرء ( البركة ) في نفسه، وتربيتها و تنميتها أولى من مراعاتها في غيره.
و ( البركة ) في النفس تشملُ أصولاً ثلاثاً :
الأول : ( البركة ) في الإيمان .
و أعني بها : القُرُبات و الصالحات . ( البركة ) فيها حِرْصُ المرء على أن يكون من أهل الطاعات و الصالحات ، ذا برٍّ و تُقى .
الثاني : ( البركة ) في العلوم .
و المعني : تنمية العقل و الذهن بما ينفعه من العلم .
الثالث : ( البركة ) في التعامل .
و هو فيما يتعلَّق بجانب الخُلُق ، و الأدب .
و هذه الأصول جوامعُ ( البركة ) في نفس الرجل .(26/1)
الثاني : ( البركة ) في المكان .
لا يخلو المرء من مكان يقطنه ، و أرض يطأها ، و الناس في ذلك أبناءُ عِلات _ تجمعهم طبيعة الركون إلى الأرض ، و يختلفون في أجناس الأراضين _ .
و المُوَفَّقُ من كان في الأرض الحالِّ بها ( مُبارَكاً ) و ( مُبَارِكَاً ) فيها .
و كونه ( مُبارِكاً ) فيها أي : أن يكون آتياً بأعمالٍ ثلاث :
الأول : ناشراً عِلماً مُهْمَلاً .
الثاني : مُحْيياً طاعةً مُمًاتةً .
الثالث : نافياً معصيةً .
و لابدَّ من كونه ذا :
• حكمةٍ في التبيلغ .
• علمٍ فيما يدعو إليه .
• رحمةٍ بمن جانب طريق الطاعات .
الثالث : ( البركة ) في الزمان .
هذا ظرفٌ ثانٍ يكتنف الناس ، و إيجادُ ( البركة ) فيه من جهة أن يكون الزمان محلاً مناسباً لإيجاد ( البركة ) فيه .
و الأزمنة أقسام :
الأول : أزمنة خاصة ؛ فيُرَاعى فيها ما يليق بمن هي خاصةٌ به .
فمثلاً : الإجازات ؛ زمانٌ خاصٌّ ، فكلُّ واحد له عملٌ في زمنه .
فيأتي ( المُبارَك ) فيجعل زمن المرء ( مُبارَكاً ) بدلالته على أسنى درجات استغلاله ، و أعلى أحوال الانتفاع به .
و الناس مختلفون في الإجازة فمنهم من يستغلها في : علم ، دعوة ، عملٍ ، سفرٍ .
فيُعطى كلٌ بحسب ما يناسبه .
الثاني : أزمنة عامة .
و هي الأزمنة التي تُشغلُ أقواماً و فئاتٍ من الناس .
و ( المُبارَكةُ ) فيها بإشغال الناس بما يتوافق مع حقيقة وضع ذاك الزمن .
ففي مناسبات ( الجهاد ) يكون حديث ( المُبارَك ) عن : أحكام الجهاد ، و أسراره ، موارد النصر ، و ... و ... .
و ليس من ( المبارَكة ) أن يُغْفَلَ حديث الساعة و يُشْغَلُ الناس بحديث مُجانِبٍ لما هم فيه .
و السرُّ الجامع لـ ( البركة ) أن يكون ( المُبارَكُ ) عارفاً بوظيفة الوقت ، و هي : ( العمل على مرضاة الربِّ في كل وقت بما هو مُقتضى ذلك الوقت و وظيفته ) . أهـ [ المدارج 1/109 ]
و هو ما سبق أن بينته في ثنايا الكلام .(26/2)
و أسَفٌ أن تَلْقَ ( المُبارَك ) نادراً في زمانه ، و حيداً في مكانه ، مُهْمَلاً من أخدانه ...
و إن كان موجوداً فإنه على قلَّة ، و التأريخُ مليء بأخبار ( المبارَِكين ) منهم على سبيل التمثال لا الحصر :
1- الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله _ ، فإن الناظر في سيرته يرى أنه ما كان في أرض و لا في زمان إلا و هو ناشراً خيراً ، و مُظْهِراً طاعة .
و لكَ أن تنظر شأنه في المحنة فإنه لما عَلِمَ أن ذاك زمانٌ لابدَّ فيه من إظهار الحق ، و الجلَدِ في تبيانه كان منه ما كان .
2- شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني _ رحمه الله _ و شأنه معروف مشهور .
و حاله في موقفه مع أهل البدع ، و حاله في ساحات العراك مع التتر ، و تربيته لطلابه ، و نفيه من بلاده ... .
تراه في كل ذلك يعيش عملاً يتناسب مع حاله و زمنه .
3- الشيخ عبد العزيز ابن بازٍ _ رحمه الله _ و هذا مدرسة ( مبارَِكة ) متكاملة .
و من عرفه عرف أبعادَ ما أقولُ .
و ختماً أبوح بنداءٍ لعلَّ هناك من يسمع دويَّه فأقول :
ألا لا يلعبنَّ بنا الهم ، و لا يعبثنَّ بنا الشيطان صرْفاً عن إدراك مكنونات ( البركة ) ، و ظَفَرَاً بنا في ساحات ( المحق ) و الصدِّ عن العمل للدين .
و لِيَعْلَمَ كلٌّ أن ( البركة ) سائرةٌ ، و أن ( المُبارَِك ) لا تخلو منه أمكنة و لا أزمنة ، و أن كلاًّ فيه من ( البركة ) ما كتب الله له ، و لكن الموفَّق أظهره الله ، و الآخر إما أنه أهملها _ الرجل نفسه _ أو أن الله حرمه ( البركة ) .
و الاستسلام لأوهام ( المحق ) حاجبٌ لأنوار ( البركة ) .
جعلني الله و إياكم مبارَِكين أينما كنا ، و أن يجعلنا ممن إذا أعطيَ شكر ، و إذا ابتليَ صبر ، و إذا أذنب استغفر .
6/4/1423هـ(26/3)
لذة العلم
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
الإنسان متقلِّبٌ في اللذات بين لذتين :
الأولى : حسِّيَّة .
الثانية : عقلية : .
و أسماهما العقلية ، و غايتها العلم .
فالعلم لذة من اللذائذ العقليَّة ، و هو ذو لذة رفيعة نفيسة .
لذة العلم لها مجالان :
الأول : لذة حال تحصيله و طلبه .
و هذه اللذة أنواع :
الأول : لذة باعتبار المقصد ( أي النية ) ؛ و الناس في نية الطلب أقسام :
أحدها : أن يكون طلبه لله ( فهذا مأجور ) .
ثانيها : أن يكون طلبه لغير الله ( فهذ يأثم )
ثالثها : أن يكون طلبه لا لله و لا لغير الله ( فهذا لا يثاب و لا يعاقب ) .
و الأخيرة هي ( حال أكثر النفوس ، فإن الله خلق فيها محبة للعلم و المعرفة و إدراك الحقائق ، و قد يخلق فيها محبة للصدق و العدل و الوفاء بالعهد ، و يخلق فيها محبة للإحسان و الرحمة بالناس ، فهو يفعل هذه الأمور لا ليتقرَّب بها إلى أحد من الخلق ، و لا ليطلب مدحَ أحد و لا خوفاً من ذمه ...
و المقصود _ هنا _ أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذموماً بل محموداً ، و مَنْ فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذموماً و لا معاقباً و لا يقال إن هذا عمله لغير الله ، فيكون بمنزلة المرائي و المشرك ، فذاك هو الشرك المذموم ، و أما مَنْ فعلها لمجرَّد المحبَّة الفطرية فليس بمشرك و لا هو _ أيضاً _ متقرِّباً بها إلى الله حتى يستحق عليها ثواب مَنْ عملَ لله و عبده ) أهـ .
[ انظر : مسألة فيما كان للعبد محبة لما هو خير و حق و محمود في نفسه ، لشيخ الإسلام ( 445 –450 ) ضمن مجموع ( دراسات عربية و إسلامية مهداة إلى أديب العربية محمود شاكر ].
الثاني : لذة باعتبار التحصيل ( أي ما حصَّلَه من العلم ) .
الثالث : لذة باعتبار القَدْر ( أي ما ناله الطالب من قَدْرٍ و مكانة بسبب الطلب ) .
و كلها لا تخلو من مراعاة .
الثاني : لذة بعد إدراك قَدْرٍ منه ، و حال العمل به .(27/1)
فهذان مجالان للعلم يَتَحَصَّل للطالب فيهما لذته و حلاوته .
و المراد باللذة العلمية : استلذاذ مسائل العلم و تذوق حلاوته ، و تحمُّل المشاق في تحصيله ، و إيثاره على أعراض الدنيا .
و ضابطها : ألاَّ تكون مُشْغِلَةٌ عن الأمور الأهم في العلم و طلبه ، و عن أصول الفنون بفروعها .
و لِيُعْلَم : أن لذة العلم مُقَيَّدة ٌبأمرين :
الأول : أن يكون بقصد و تؤدة .
الثاني : أن يكون بتوسُّطٍ .
إن غالب طلاب العلم حين يَحْلُو له العلم و يتذوَّق لذته ينجرف مع تلك اللذة فيقع في إهمال مهامٍ كبار ، و هذا خلل جَلَلٌ .
فلابد من مراعاة هذين القَيْدَيْن ، و الحذر من رونقة العلم و لذته المُفْضِيَة إلى ترك أمور أكبر .
و لهذه اللذة صور :
الأولى : اشتغال جملة من الطلاب بفنون ثانوية ، و ترك الفنون الأصيلة .
و ليس مرادي ذم الاشتغال بالفنون الكمالية ، و إنما مرادي : أن يشتغل الطالب بالعلوم الآلية و يعرض الإعراض _ الكلي أو الجزئي _ عن علوم الغاية .
الثانية : الاشتغال بمسائل فنٍّ فرعية جزئية دقيقة مع إهمال أصول ذلك الفن و أُسس مسائله .
الثالثة : الصعود إلى العلوم الكبار لمن لم يتقن بدائيات العلم .
إلى صُوَرٍ عديدات .
و لذة العلم مُنَالَةٌ بأمور :
الأول : الإخلاص لله في الطلب .
الثاني : سلوك جادة العلم المطروقة من التدرج من : الأصغر فالأوسط فالأكبر .
الثالث : إعمال الذهن و العقل في العلم تفهُّماً و استنباطاً .
فائدة :
طالب العلم المتلذذ بفهمه لا يزال يطلب ما يزيد التذاذه ، فكلما طَلَبَ ازداد لذةً فهو يطلب نهاية اللذة و لا نهاية لها .
[ انظر : فيض القدير ( 1/163 ) ] .
إضاءة :
( مَنْ لم يحتمل ألم التعلُّم لَمْ يَذُقْ لذة العلم ) [ السِّيَر ( 22/322 ) ] .(27/2)
لغة العلم
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
</TD< tr>
تتفاوت العلوم بمقاماتها ، و تتباين بمراتبها ، و تختلف في مسالكَ يسلكها أهلها .
و مما كان فيه التفارق بين العلوم ( اللغة ) و أعني بها : لغة العلم ، و اصطلاح الفن .
فإن لكل علمٍ من العلوم لغة يُتعامل معه من خلالها ، اصطلح و تعارف أهله بها .
و لغات العلوم نوعان :
الأول : لغة السياق .
و اعني بها أمرين :
أولهما : عبارات أهل الفن و اصطلاحاتهم .
ثانيهما : نظم الكلام و صياغته .
فلغة السياق أمرٌ مهم جداً في الفن ، لأن به يكون الإفصاح عن حقائق المسائل ، و يكون به الإيضاح للمراد عند المتكلم .
و رأس ذلك : أن يكون الفن مُتَصَوَّرَة مباحثه على الوجه المسلوك عند أهله .
و عند إهمال كثيرين من المشتغلين بالعلم هذا الأمر صار في العلوم خللٌ كبير ، و داهمتها فجوة خطيرة ، أردت العلوم بضاعة يتلاعب بها من علا و من سفُلَ .
فنرى بعضاً ممن يتكلم في الفقه يُدخل فيه علوماً أُخر .
لست أريد عدم إدخال مباحث من فنٍّ في فنٍّ جاءَ ذكرها عرضاً ، و إنما أريد أن لا تكون مباحث الفن الأجنبي غالبة على مباحث الفن الأصلي ، و أن لا تكون مما ليس له أي صلة ، أو أن تكون من الحشو الذي لا طائل منه .
النوع الثاني : لغة الحكم و التقرير .
تعارف العلماء في كل فنٍّ على أصولٍ في تقرير مسائل الفن ، و هذه الأصول مختلفة في رتبها ، فمنها :
1- أصول يُتوصَّلُ بها إلى أحكام مسائل الفن .
2- أصولٌ في ترجيح أقوال أئمة الفن .
فهذه لأئمة كل فنٍّ طرقاً في التعامل معها من خلال دراسة الفن .
و عجباً رؤيتك بعضاً من الناس يتعامل مع مباحث العلوم مناطحاً كبار علمائه .
و الأعجب منه : أن يعمد قوم لتقرير مسائل فنٍّ و الترجيح بينها وَفْقَ أصولٍ درسها في فنٍّ أجنبي .(28/1)
مثالٌ : يعمد بعض المحدِّثين إلى القراءة في كتب الفقه فيرى الاستدلال بالحديث المرسل ، فيُبْطِلُ القول به ؛ بناءً على أن المرسل عنده ضعيف .
فنقول له : صنيعك حسنٌ لو كان في الحديث ، لكن بما أن تعاملك صار في كتب الفقه فلا يُقبل منك هذا الصنيع .
و السبب : أن الفقهاء أجمعوا على الاحتجاج بالحديث المرسل في الفقه ، و المحدثون خالفوهم .
فهذه صورة من صورة التعامل مع فنٍّ بغير لغته .
و مثله _ أيضاً _ في البلاغة القول بالمجاز ، فقد جنح جمعٌ من العلماء إلى القول بتحريمه و إبطاله .
و إذا رجعنا إليهم _ كشفاً عن مكانهم عند أهل الفن _ نجدهم مشاركين في الفن .
و أقصد بالمشارك : الذي ليس لقوله اعتبار في الفن ، و إنما عنده اطِّلاعٌ على كلياتٍ في الفن .
و أئمة الفن يقولون : بجوازه و وقوعه .
فأي الفريقين أحقُّ بالأخذ بقوله و الرد إليه ؟ .
إلى صورٍ كثيرات من هذه الشاكلة و غيرها .
فبانَ من هذا أهمية العناية بلغة الفنون ، و الحرص على التعامل مع كلِّ فنٍّ بما تعارف عليه أهله به .
و الله أعلم
الرياض 1/4/1423هـ(28/2)
مأساة النجاح
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
الإنسان مولودٌ راغباً في تحقيق كلِّ ما يريده ، و ساعياً في تحسين حياته ، و هذه جِبِلَّةٍ من الجِبِلاَّت التي غرزها الله في النفس البشرية .
و هي ممتعةٌ مُؤْنِسَةٌ إذا كانت مُتَمَشِّيةً على قواعد النجاح و أصولِه ، و في خِلاف ذا لا يكون له أيَّةُ متعةٍ و أُنْسٍ .
لكن هل هو مأساةٌ و حسرة ؟!
نعم !!!
لكن كيف ؟ و متى ؟ و لمَ ؟
أما عن كيفَ ؟
فالجواب :
إن الإنسان إذا كان سالِكاً دروب الطُموح ، طارقاً أبواب الفلاح و النجاح يعتوِرُه الفشل في حينٍ من أحايينه ، و يؤذيه البذلُ من نفسه في أزمنته ، فإذا جاءه ذلك كان مُحطماً له ، مدمراً لهمته ، و هذا لا يأتي إلا الأنفسَ الضِّعاف ؛ التي تجعل الكأس دائماً فارغاً مع امتلاء نصفه .
هذه الحال تجعلُ تحقيق النجاح في كلِّ شيءٍ أمراً مُلِحَّاً لا يتخلله خللٌ أبداً .
و هذه النظرة من النظرات اللاتي تحصرُ الهمَّ ، و تُفَتِّرُ العزمَ ...
فهنا يكون للنجاح مأساة لعدم تحقيق الرغبة في تمام النجاح .
و أما متى ؟
فالجواب :
فذلك حينَ يكون المرءُ دقيقاً في جزئيات عمله و هدفه ، فذاك طموحٌ في كمال صعبٍ لا يُنال ، ففي تلك الحالة عند عدم تحققِ الغاية بإتمام و إكمال و إتقان إن شعرَ بالفشل التام فهي مأساة النجاح .
يذكرُ د. طارق السويدان _ وفقه الله _ أنه قد اشترى حقولَ بترول في أمريكا ، و في أحداث 11 سيبتمبر دُمرتْ و جرى عليها ما جرى ، و أسِفَ على ذلك ، و لكن تمتَّعَ بالنجاح حيث تأهل لتلك الحالة من شراء حقول .
فلو اعتبرَ ذلك النجاح الكبير مع الخلل و الفشل الذي فيه مأساةً لكن داخلاً في موضوعنا .
فهنا ظرفية المأساة الناجاحية ، فتنبَّه .
و أما عن لمَ ؟
فقد مرَّ الجواب عنها في أعطاف الكلام الآنف .
بعد هذا كلِّه إن مأساة النجاح إنما هي جائِيَةٌ من صنيع الرجل نفسِه ، و ليست من الهدف .(29/1)
و ربما تكون من آليةِ السعي ؛ و هي من اختيار الرجل .
فحتى نتجنَّب الوقوعَ في مأساة النجاح لنتعلَّم حقيقة النجاح ، و لنعرف لذته ، و لنتفهم حالنا معه .
عندها نعرف مدى ملابسات النجاح : متعةً و مأساةً ...
السبت 23/3/1424هـ
الرياض(29/2)
مقدمات في سبيل الطلب
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، العليم الحكيم ، و أصلي و أسلم على نبينا محمد و على آله و صحبه و التابعين ، و من على نهجه سار إلى يوم الدين .
أما بعد :
إن طلب العلم من أشرف ما اشتغل به المسلم ، و من أنبل ما قصده صفيٌ أفخم ، فمناقبه كثيرة ، و فوائدة غزيرة .
و لا يخوض غمار الطلب إلا رجل آتاه الله الحكمة ، و اختصه بالفطنة ، و لا يكاد يُحْجِمُ عنه إلا من بوأه الله مقام الخذلان ، و اصابه بقارعة من الهوان .
أخي الفاضل : هذه كلمات هُنَّ مقدمات في سبيل الطلب ، أنلتُكَ إياها بلا تعب ، فخذها مني ؛ لك غُنْمُها ، و علي غُرْمُها ، و لك خُلَّصُ فوائدها ، و علي جائرة عوائدها .
محضت لك فيها النصح ، و صدقتك فيها التوجيه ، فضيِّفها لديك في أحسن تضياف ، و تمعنها برفق لا اعتساف .
المقدمة الأولى : للعلم أصوله و قواعده :
، إن العلم _ كما هو مقرَّر لدى كثير من العلماء التربويين _ له أصوله و قواعده فلا يقوم أساسه إلا بتلك القواعد ، و لا يعتبر تفريعه إلا عن تلك الأصول ، قال الماوَرْدِي : ( اعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها ، و مداخل تُفْضي إلى حقائقها ، فليبدأ طالب بأوائلها لينتهي إلى أواخرها ، و بمداخلها ليُفضي إلى حقائقها ، و لا يطلب الأخر قبل الأول ، و لا الحقيقة قبل المقصد ، فلا يدرك الآخر و لا يعرف الحقيقة ، لأن البناء على غير أُسٍ لا يُبْنى ، و الثمر من غير غرس لا يُجْبْنى ) [ أدب الدنيا و الدين ( 55)] .
فأصول العلم و قواعده التي تعارف عليها العلماء هي تلك الكتب الصغار المسماة بالمتون ، فمن حازها حاز الفنون ، و من أدركها أدرك علماً غزيراً .
و التدرج في الطلب ثلاثة أنواع :
الأول : تدرج في الفنون ، فيبدأ الطالب بالفن الأهم قبل المهم كـ ( العقيدة ) قبل ( الفقه ) .(30/1)
الثاني : تدرج في المتون ، فيبدأ بالمتون الصغار قبل الكبار ، و ليحذر الدخول من الظهور .
الثالث : تدرج في دراسة المتن ، فلا يبدأ بدراسة المتن دراسة توسعٍ و بحث و هو ما زال في أوائل طريق الطلب لا يعرف أصول الفن و مقاصده .
المقدمة الثانية : طرق تحصيل العلم :
سلك العلماء في قديم الزمان و حديثه في طلب العلم مسالك عِدَّة منها :
أولاً : الحفظ : و هذا مسلك سار عليه كثير من أهل العلم و ابدعوا فيه : تأصيلاً له ، و عملاً به ، و دعوة إليه .
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي :
ليس علماً ما حوى القِمَطْرُ *** إنما العلم ما حواه الصدر
فائدة : ليس ثمة تعارض بين الحفظ و الفهم ، فهما رضيعا لبان ، و فرسي رهان في حال الطلب و شأن الطالب .
و هذا تحرير متواضع لهما :
مسألة الحفظ و الفهم من المسائل المهمة في سلك الطلب ..
و لا بد للطالب من مراعاتهما رعاية تحفظ مقامهما ، و شأنهما
و ذلك من خلال أمور :
الأول : الوقت المناسب لهما :
الحفظ أغلب ما يكون الاشتغال به في زمن الصبا ( و أعني : الإكثار من المحفوظ ) .
و الفهم أغلب وقته هو حال الكبر لتفتح الذهن .
و لا يعني ذلك أن الفهم يُغفل في حال الصغر .
و لا أن الحفظ يهمل في سن الكبر .
لا ، و إنما المراد هو إعمال كل سن بما يكون الإقبال عليه أكثر كما مر تقريره .
الثاني : ما يُعمل في كلا منهما .
أغلب ما يكون الاشتغال بالمحفوظ في أمور :
أحدها : النصوص الشرعية التعبدية .
ثانيها : ما يكثر الاستدلال به و الاحتجاج من العلم .
ثالثها : التعاريف و الضوابط .
و الجامع لهذين هو أغلب علم الغاية .
و أغلب ما يكون الفهم في أمورٍ تحتاج إلى تبصر و تعقل فهذه لا تحتاج إلى حفظ أكثر من احتياجها إلى الفهم و التدبر .
الثالث : الفهم هو تفتيق للذهن و إعمال لوظيفته فلا يجوز للطالب أن يغفله أو يهمله .
و هو صعب في أوله لكنه مع الإدمان و الدربة يسهل .(30/2)
و الحفظ هو تكرار لمحفوظ فلا ينفع صاحبه إلا في جزيئة صغيرة .
هذا إذا لم يكن ثمة فهم يصاحبه .
فإن صاحبه فهم فهو من أحسن ما يكون .
ثانياً : القراءة على الشيوخ : و هذا أساس العلم و قاعدته ، و به يُوْثَقُ بعلم الرجل .
و القراءة على الشيخ مقام رفيع ، و مكان منيع .
وللقراءة على الشيخ أصولاً مهمة :
1- أن يكون الشيخ من أهل العلم و الاعتقاد الصحيح ، فإن للشيخ تأثيراً على طلابه قوياً .
2- أن يكون الشيخ عالماً بالفن الذي يُقرأ عليه فيه .
3- أن يكون على جانب كبير من الأخلاق و الفضائل .
4- أن يكون عارفاً بأصول التعليم ، فلا يبدأ بالطالب من كبار المسائل ، و لا يدخله في متاهات الخلاف .
ثالثاً : القراءة الفردية : و هي مُكَوِّنَةِ علم الرجل ، و مُنْضِجَة فكره .
و بها تمدَّح العلماء ، و بفضلها ترنحوا ، و هي على أقسام ثلاثة :
الأول : القراءة التأصيلية : و هي القراءة التي يعتمد فيها على التركيز و التمعن ، و هي في نوعين من الكتب :
1- شروح المتون : فإن التركيز عليها حال قراءتها من مطالب التأصيل و التأسيس ، و بها يكون الطالب على إلمام كبير بمقاصد المتن .
2- كتب العلم ( الشرعي ) و هي التي يكون فيها التحصيل العلمي ، مثل كتب : الاعتقاد ، الفقه ، الحديث ، الأصول ، المصطلح ، النحو ....
الثاني : القراءة الجردية : و هي تعني أن هناك كتباً تقرأ قراءة فيها نوع من التركيز و التفهم ، و لا تحتاج الى إعمال الفكر و العقل في عباراتها ، و هي في نوعين من الكتب :
1- المطولات : و هي الكتب ذات المجلدات الكثيرة ، و هي لا تستدعي التوقف عندها و التفكر لمعانيها ، إنما تقرأ لبحث ، أو غيره من الحاجات .
مع أن المتعيِّن على طالب العلم أن يقرأ بها و لكن بعد إدراكه أصول العلم .
2- كتب التكميل العلمي : و مرادي بالتكميل العلمي : هو تحصيل الطالب علماً ليس أساساً في تكوينه علمياً و تأصيله فيه ، بل هو من مكملات ثقافته و علمه .(30/3)
و علومه : التأريخ ، التراجم ، الأدب ، اللغة ...
الثالث : القراءة الموسمية : و هي القراة التي تكون في مناسبات و أوقات ، و هي نوعان :
1- قراءة في المواسم العبادية : كقراءة كتب الحج قبل الحج ، و الصيام قبل الصيام ، و النكاح قبل النكاح ، و البيوع قبل البيع و الشراء .
2- القراءة في أحكام النوازل : و هي القراءة في الكتب التي ألفت في أزمنة من أزمنة المسلمين التي حلت فيهم نازلة و كارثة كغزوة أشكلت عليهم ، و هكذا .
المقدمة الثالثة : العلم قسمان :
علم الغاية خمسة علوم :
1- القران ( التفسير ) .
2- الفقه .
3- الحديث .
4-العقيدة .
5- السيرة .
و علوم الآلة :
1- أصول الفقه .
2- القواعد الفقهية .
3- المصطلح .
4- أصول التفسير .
5- اللغة :
أ - النحو .
ب_ الصرف .
ج _ البلاغة .
المقدمة الرابعة : في تقييد الشوارد :
يحظى الطالب و هو في مضمار الطلب بفوائد نفيسات ، و فرائد بديعات ، و حكمة في غير مظانها ، و قاعدة في غير محالِّها ، و غالب الإخوان لا يعير تلك الفوائد اعتباره ، و لا يصرف لها فضول أنظاره ، فتفلت منه على غير عودة ، و تذهب على غير أوبة ، فتلحقه حين أرادته لها الحسرة ، و تزعجه من أجلها الفكرة .
و حتى يتفادى الطالب تلك المزالق ، هذه جملة من طرائق تقييد الفوائد :
1- على طُرَّة الكتاب ؛ أي على باطن جلدته .
2- على دفاتر خاصة ( لكل علم دفتر ) .
3- على بطاقات البحث .
و يلاحظ فيها : عنونة الفائدة .
هذه جملة المقدمات الممهدات للطلب العلم الشرعي ، و هن أسس لكل طالب علم . و الكلام في العلم يطول ، و الحديث فيه و عنه ذو شجون ، و لكن حسب اللبيب الإشارة ، و يكفي المعصم من السوار ما به أحاط .
فلتكن منك على بال ، و حرص على اغتنام العمر في سبيل العلم و تحصيله .
الاثنين 7/11/1422هـ(30/4)
نحوَ يومِ عيدٍ متميِّزٍ
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
يعيشُ المسلمُ فَرْحَةَ العيدِ ، و يأنَسُ بلذته ، و يَحمَدُ اللهَ _ تعالى _ أن منَّ عليه بإتمام صيام الشهر ، و أنعمَ عليهِ بقيامه .
و يأتي العيدُ ليُسْبِلَ على القلبِ بهجةً و سَعْدَاً ، و تلتقي أفئدةٌ ، و تتلاقى أرواحٌ على خير و طاعة .
و حيثُ أن القلوب لم تَزَلْ تتمتَّعُ بنعيم النشاط في الطاعة ، و تتقلَّبُ في رياضِ رياحين العبادة ، و لم تَزَلْ مُقْبِلَةً نحو الخير ، مُدبرةً عن الشر .
لما كان ذلك كلِّه انطلقَ القلمُ خاطَّاً نقاطَ تَمَيُّزٍ ليوم العيد ، و ناثراً أحرفاً لتصبح ساعات العيد مما لا يُنْسى .
الكثيرون من الناس يقضون أيام العيد بلعبٍ و لهو ، فتتصرَّمُ ساعاتهم ، و تنقضي أيامهم على غير منفعة تُجْنى ، و لا فائدة تُنال .
و حتى لا يضيعَ يومُ العيد سدى ، هذه أفكارٌ مُقْتَرحاتٌ لاستغلاله :
أولاً : الثقافيات .
و يُمْكنُ أن يُسْتغلَّ يومُ العيدِ بأنواعٍ من الثقافة العائدة بالنفع على مَنْ يحضرها ، و هذه إشارةٌ إلى بعضِ أنواعها :
الأول : الفوائد .
و هي فوائدُ تُطْرَح على مَنْ يَحضر ، خفيفةً ، سهلة ، و هي على محورِ المشاركة من الجميع فيها ، و الأنسبُ أن تكونَ في صورةِ بطاقات ( كرت ) يتنوعُ المكتوب فيها على ما يلي :
1- سؤالٌ .
2- فائدةٌ عامة .
3- حكم شرعي .
4- في ظلال آية .
5- قَبَسٌ من السنة .
6- رجلٌ عظيم .
و تكونُ موزَّعةً على كل مَنْ يَحضر اللقاء و الاجتماع .
الثاني : كلمةُ العيد .
بأن تكون الكلمة مخصَّصَةٌ ليوم العيد ، و يكون الحديث فيها عن اليوم و ما يتعلَّقُ به من أحكام ، على ألا تتجاوز المدة ( 15 ) دقيقة .
الثالث : المسابقات .
للمسابقات إحساس مرهَفٌ في النفوس ، و لها إقبال منقطع النظير ، إذ هي قد جمَعَتْ بين المتعة و الفائدة .
و إشغالُ يومِ العيد _ أو أيامه _ بمسابقاتٍ نافعة خيرٌ و برٌّ .(31/1)
و المسابقاتُ صُوَرٌ كثيرة ، منها :
1- المسابقةُ العائلية ، و تكون موجهةً إلى عائلةٍ و أسرة لا أن تكون موجهةٌ لأفرادٍ ، و الفائدةُ فيها ثنتان :
الأولى : المشاركة من جميعِ أفراد الأسرة .
الثانية : التنافسُ بين الأسر .
و لا يمنع أن تكون المسابقة فيها نوع من الطول ، لإكثار التنافس و تقويته .
2- المسابقة الرجالية ، و هي التي تكون موجهةٌ للرجال دون النساء ، و يُراعى فيها أن تكون الأسئلة مما يهم شأن الرجال أكثر .
3- المسابقة النسائية ، و هي كسابقتها .
4- المسابقة الطفلية ، و تكون أسئلتها سهلة ميسورة ، تهتم بجانب التربية و حسن الخلق و التعامل .
5- مسابقةُ الخَدَم ، فتوجهُ لهم مسابقةٌ فيها : تصويرٌ لحقيقةِ الإسلام ، و تعليمٌ لشريعته ، و لابدَّ من التنبه لأمرٍ وهو : أن مسابقاتهم تكون على كتابٍ أو شريط ليس إلا .
و بعد هذا التقسيم لأجناس المتسابقين ، نبين أنواع المسابقة ، و هي :
1- المسابقات الشرعية ، و هي التي تكون فيها أسئلةٌ عن : القرآن ، السنة ، الفقه ، التوحيد ... .
2- المسابقات الثقافية ، و تكون في الأمور العامة كـ : من أول من صنع كذا ، و الألغاز ، و غيرهما .
3- المسابقة الكتابية ، فيختارُ كتابٌ و تجعل عليه أسئلة .
4- المسابقة السمعية ، تتعلَّقُ بالشريط المسموع .
و من الأفكارِ المتعلِّقَةِ بالمسابقات :
1- أن تكون المسابقةُ على صورةِ بطاقات ( كروت ) بحجم اليد .
2- أن يكون المتسابقون فريقان ، أو أفراداً .
3- أن تكون مسابقاتٍ فورية ، أو مسابقاتٍ لها وقتٌ تنتهي فيه .
الرابع : اللقاءات .
في بعضِ الأُسَرِ رجالٌ يُشارُ إليهم بأصابعِ الاحترام و التقدير ، و يُنظرُ إليهم بعين التقدير ، و ذلك لاشتهارهم بـ : علمٍ ، أو منصِبٍ ، أو وَجَاهَةٍ .
و لا ريبَ أن مثلَ هؤلاءِ قد محصَّتْهُمُ السنين ، و أخرجتهم التجارُِب فاستغلالهم مكْسَبٌ كبير جداً .(31/2)
و هذه هي فكرةُ اللقاءات ، فيُعْقَدُ لقاءٌ مع أحد أولئك ، و يكونُ كأي لقاءٍ .
الخامس : الكتاب .
و أعني به : توزيعُ كتابٍ أو نشرةٍ فيها تبيانٌ لبعضِ ما يقعُ فيه الناس ، أو فيها بيانٌ لأحكام العيد ( الفطر أو الأضحى ) .
السادس : الشريط .
و لا يجهلُ أحدٌ منفعةَ الشريط ، و عظيم فائدته ، و يُراعى في انتقاءِ الشريطِ كونُه مناسباً للفهوم ، مخاطباً الواقع الذي يعيشه الناس .
ثانياً : الرياضات .
الرياضَةُ مُتْعَةُ مُبَاحةٌ في شرعِ الله _ تعالى _ ، و لا تكونُ مُحَرَّمَةً إلا بأحدِ أمورٍ ثلاثةٍ :
الأول : أن يكون الدافع لها شيءٌ محرم ، كـ : قمارٍ .
الثاني : أن يكون مصاحباً لها ما هو حرامٌ ، كـ : آلةِ لهوٍ ، أو قد ضيَّعَتْ واجباً .
الثالث : أن تؤدي إلى حرام ، كـ : قطيعةٍ ، و سبابٍ .
و ما عدا ذلك فلا بأس به بناءً على الأصل .
فاستغلال أيام العيد بأنواعٍ من الرياضات الباعثةِ في النفسِ رُوْحَاً و أُنْسَاً مطلب جميل ، و عمل مباركٌ إن شاء الله .
و الرياضات أنواعٌ كثيرةٌ جداً ، و المقصود استغلالها مع التوجيه نحو الأصوب ، فتكون ترفيهاً مع إفادةٍ .
و جميلٌ أن يكون هناك توجيهٌ لطيف من خلال الرياضة ، فإن بعض الأسر يكون فيها إظهارُ ألفاظٍ قبيحةٍ اعتاد أهلها عليها فلا بأس من التوجيه اللطيف لهم .
و العناية بإقامةِ الرياضة في وقتٍ لا يضيق معه وقت الصلاة ، فلا يقام لها وقتٌ قبيل الغروب فيترتب عليه تأخير الصلاة عن وقتها .
ثالثاً : الاجتماعيات .
لا يَقومُ أساس من الدعوة ، و الإصلاح إلا بتنظيمٍ و تخطيط ، و بهما يكون تحقيق الهدف ، و بغيابهما يكون الفشل .
و المُرادُ بالاجتماعيات : التنظيمُ للعملِ الدعوي في العيد .
أي : تكليف أشخاصٍ يقومون بترتيب المسابقات ، و أخرين بتنسيق اللقاءات ، و جماعةٍ ثالثة في توفير الشريط أو الكتاب .
و مما يندرِجُ _ هنا _ تنظيم ألأوقات المناسبةِ لكلٍّ .(31/3)
و كذلك ما يتعلَّقُ بتوفير المال لأمور العمل الدعوي ، فهو مهم و هو عَصَبُ العمل الدعوي ، و بتوفيره يكون تحقيق أكبر قدرٍ من العمل المقصود .
و الجامعُ لجميع تلك المُقْتَرحات هو :
أولاً : الحكمة في الطرح .
ثانياً : التجديد في الأسلوب .
ثالثاً : مراعاة الزمان و المكان .
رابعاً : الرفقُ في الطرح .
سدد الله الخُطى ، و بارَك في الجهود ، ووفق الجميع للمرضاة ، و سلك بنا درب النجاة .
الأربعاء : 22/9/1423هـ(31/4)
وقفة مع
( من كان شيخه كتابه ، كان خطؤه أكثر من صوابه )
عبد الله بن سليمان العبدالله ( ذو المعالي )
لا يشك عاقل فَطِن ما للكتاب من مكانة سامية ، و منزلة مرموقة في نفس العلماء و طلاب العلم .
و ذلك : أن الكتاب آلة الصناعة العلمية ، فلا يخلو و لا يستغني الصانع عن آلته .
و هذه ( وقفة ) صامدة أمام مقولة قيلت بحق ، و استُعْمِلَتْ في هذه الأزمان بباطل ؛ و هي : ( من
كان شيخه كتابَه ، كان خطؤه أكثر من صوابه ) .
فأقول و بالله أستعين :
إن السلف _ رحمهم الله _ أرادوا بهذه القالة أحدَ أمرين :
الأول : التأصُّلَ العلمي من تضاعيف الكتب .
و المعنى : أن هناك مَنْ يسلُك مسالك التأصُّلَ العلمي عن طريق قراءة الكتب .
الثاني : تعليم الناس عن طريق الكتب .
و المراد : من يجلس لتعليم الناس قراءةً من الكتب ، مستغفلاً نفسه و غيره ، مُعْرِضاً عن التحقيق و التحرير في مسائل العلم .
فهذا مُرَادَان للسلف بتلك القولة .
و ههنا فائدة تتعلَّق بأقسام الناس بالنسبة لقراءة الكتب ؛ و هم على أقسام ثلاثة :
الأول : مَنْ يقرأ على الشيخ مفاتيح العلوم .
بمعنى : أنه يتأصَّلُ بشيخه و يتخرَّجُ عليه في مفاتيح العلوم و أصولها .
الثاني : من يقرأ على شيخه تخرُّجاً عليه في فنٍّ من الفنون .
و المعنى : أنه يلزم شيخَه دراسة عليه سنيَّاً طِوالاً في فنٍّ يُتقِنُه شيخه ، و ربما أُسْنِدَتْ إليه الإمامة في ذاك الفن .
و هذا هو المقصود من صنيع السلف بقوله : ( لزم شيخه عشرين سنة ) و نحوها .
الثالث : مَنْ يلزم شيخه تكثُّراً من الفوائد و المُلَحِ العلمية .
و هذا : لا أظن أن هناك داعياً لحضوره مجالس شيخه إذا كان تحصيله إنما هو لفوائد و نُتَفٍ من العلم لا تُعَدُّ من أصول العلم و معاقده .
هذه خاطرة خير في البال خَطَرَتْ ، فأردت أن أُتحف بها .
و الله أعلم و الموفق .(32/1)