دور المسجد الروحي في المحافظة
على الأمن والاستقرار الاجتماعي
إعداد
الدكتور طاهر أحمد لولو
إن للمسجد دوراً هاماً في حياة المسلمين، ومزايا جمة يجهلها كثير من الناس، فهو المدرسة الجامعة لكل معاني الحياة، من محراب للعبادة، ومنارة للعلم والمعرفة إلى دار للقضاء والصلح بين الناس وعقد ألوية الجهاد والدفاع عن الأمة وكرامتها، المسجد على مدار التاريخ ملاذ الحائرين، وملجأ التائبين، وآمال الباحثين عن الأمن والاستقرار، يقول تعالى: ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))([1]). فجعل الله الأمن والأمان وطمأنينة القلوب مرتبطة بذكر الله سبحانه وتعالى، الذي هو شغل العابدين في بيوت الله، يقول تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ))([2]). ففي هذا المكان الذي يعرج فيه العمل والدعاء إلى السماء، لا يعمره إلا الطاهرون الصادقون في توجههم إلى الله، لا يخافون ولا يخشون إلا الله لا يستعينون إلا بالله، قال تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ))([3]).
ولهذا الدور العظيم في حياة الأمة، كان أول عمل فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته من مكة إلى المدينة هو بناء مسجد قباء، ليلفت الأنظار ويوجه القلوب إلى أهمية هذا المكان الطاهر الذي خرج الجيل الأول من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، الذين نشروا العلم والإيمان في مشارق الأرض ومغاربها، عندما جعلوا مخافة الله بين أعينهم، ورضا الله غايتهم، فكللوا جبين الدهر شرفاً وفخاراً.(1/1)
ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وانقلبت معظم المساجد إلى دور وثكنات، للجماعات والفرق والأحزاب، فخلت من الروح، وبعدت عن دورها الريادي والقيادي في بناء الإنسان ونشر الأمن والاستقرار إلى تخريج أفراد وأفكار ما أنزل الله بها من سلطان، فدخلوا في متاهات وظلمات الجهل والخراب، فضيعت الجهود، وقتلت روح الإبداع والابتكار، وبقينا في ذيل الأمم، لا نحرك ساكنا، ولا نرفع ظلماً ولا نحرر أسرى أو أسيرات يبكون الحجارة والصخور الصماء من الظلم الواقع عليهم من قتلة المرسلين والأنبياء. وبقيت مقدساتنا هدفاً يدنس كل يوم من قبل الحاقدين والمتوطنين الغرباء.
وبعد أن كان المسجد الجامع للأمة الحريص على وحدتها وقوتها، أصبح مكان الاختلاف والنزاع، والاقتتال أحياناً على أتفه السباب بين أصحاب الدين الواحد، والقرآن الواحد، والقبلة الواحدة، وهذا كله بسبب غياب الدور الرئيسي والأساسي لبيوت الله.
((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً))([4]). هذه الدعوة الخالدة في بيوت الله، عبادة الله لا نشرك به أحداً، ولكن في أيامنا هذه أصبح كثير من الناس يعبدون أحزابهم وحركاتهم، ويدافعون عنها أكثر من دفاعهم عن الإسلام، فاصبحوا عباداً لها ودخلوا في الشرك من حيث لا يعلمون أو يعلمون تعصباً وكبراً أحياناً، رغم أنهم يقرءون قول الله تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ))([5]). فخلت المساجد من روح المحبة والألفة مما أدى إلى انقسام ونزاع بين المسلمين والأخوان، فحل الخوف والاضطراب مكان الأمن والاستقرار.(1/2)
والحقيقة أن المساجد هي بيوت الله تعالى على الأرض لها صفات ومزايا لا ينعم بها إلا روادها الذين يعيشون مع أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويفهمون معانيها. ويدركون الفرق بين أداء الصلاة وإقامتها، فأداء الصلاة تكون في أي مكان على هذه الأرض وأنت تسمع كلام الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وقال عليه الصلاة والسلام: وهو يوصي أبا ذر (أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد)([6]) وفي رواية فكلها مسجد. فالسجود يكون على بقعة في الأرض([7])، أما المسجد فدوره أكبر وأعظم من أداء الصلاة فقط، وحدوده لا يجرؤ نجس أو مشرك على تعديها، بل لا يستطيع المسلم الجنب أن يمكث فيه إلا عابر سبيل، فهذا المكان الطاهر يرفع ويذكر فيه اسم الله، وتعرج الأعمال إلى خالقها، وتهبط فيه الملائكة من السماء لحضور مجالس العلم، وتشهد على الجالسين فيه بالخير عند خالقها سبحانه وتعالى.
ومن هنا يأتي الأمن والآمان للجالسين في المساجد في حلقات العلم وتلاوة القرآن، أو تشاور المسلمين فيه بما يصلح الأمة وينفعها، يقول تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً))([8]).
ففي هذا المكان الطاهر جعل الله الأمن والأمان لمن دخله على مدار التاريخ لا يخاف بطش جبار، ولا سوط جلاد، ولا ظلم الظالمين وتآمر الحاقدين.
وكذلك المساجد كلها في جميع أنحاء العالم حين يجتمع المسلمون خلف إمام واحد تقي نقي ورع لا يخشى إلا الله، يجمع الناس على المحبة والألفة والتعاون وسمعهم قول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وقوله -صلى الله عليه وسلم- (المؤمن آلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)([9]).(1/3)
وفي المسجد يجتمع المسلمون في تواضع لله عز وجل، لا تميز ولا فرق بين حاكم أو محكوم، ولا بين غني أو فقير يجتمعون كلهم في صف واحد يركعون ويسجدون للخالق سبحانه وتعالى، وتقام الصلاة في المساجد لما تحمل من هذه المعاني العالية في التعامل والانسجام بين الأرواح قبل الأجسام، وكي يشعر الإنسان بهذه الروح السامية في التعامل والأمن والاستقرار يخرج من بيته إلى المسجد وكله ثقة بالله عز وجل ودعاء الحبيب في أذنيه: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وخلفي نوراً وفي عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شعري نوراً، وفي بشري نوراً)([10]). فإذا ما دخل المسلم المسجد شعر بقربه من الله، واقترب أكثر عند السجود (( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)). فيعيش في طمأنينة القرب من الله، فإذا حرص على صلاة الجماعة وكان من رواد المساجد اطمأن لقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)([11]) وكيف لا والسعي إلى المساجد يسجل لصاحبه نزلاً في الجنة إذا غدا أو راح يقول -صلى الله عليه وسلم- (من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا وراح)([12]). وأي شعور يسكن المسلم وهو يستمع إلى قول الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-(المسجد بيت كل تقي). فالراحة والطمأنينة والأمن والأمان بالإضافة إلى الرحمة التي تظله مع السبعة يوم لا ظل إلا ظله سبحانه وتعالى بسبب تعلق قلبه ببيوت الله عز وجل.
خاتمة
بهذه المعاني والمشاعر تتضافر الجهود، ويشعر المسلم بالأمن والأمان والاستقرار في بيوت الله، وتقر الأعين وترتاح القلوب وتتلاقى الأرواح في أدب ووقار واتزان واستغفار، فلا مكان للخلاف أو الاختلاف ولا مجال للرفث والفسوق والعصيان.
ويتحقق ذلك:
1- عندما نعلم بأن المساجد بيوت الله فلا ندعو معه أحداً ((إن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)).(1/4)
2- (المسجد بيت كل تقي). فلا تضيع هذا المكان لتكون مع الأتقياء الأوفياء.
3- حافظ على الصلوات الخمس في المساجد لتتذكر دائما قول المولى عز وجل ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ))([13]).
4- المساجد مكان تزكو فيه النفوس وتنعم فيه القلوب برحمة الله وهي ملتقى الأحبة والإخوان فنتذكر قول الله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ))([14]).
5- كثرة الاستغفار والدعاء وبالذات عند السجود (( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)). ويقول -صلى الله عليه وسلم- : }أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد{ فأكثروا من الدعاء في السجود.
6- لا فرق ولا تميز بين المسلمين فكلهم سواسية كأسنان المشط، فلا كبر ولا تكبر بل خضوع وخشوع لله عز وجل وتذكر دائماً قول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- }لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى{.
7- وتذكر دائما قول المولى عز وجل ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)). فالاختلاف موجود ولكن النزاع مرفوض.
8- يجب علينا احترام الآخرين وتقبل أفكارهم واجتهاداتهم ما دام الهدف الإسلام وغايتهم مرضاة الله عز وجل.
والله ولي التوفيق
المصادر:
- القرآن الكريم.
- فقه السنة، السيد سابق.
- منهاج مسلم، أبوبكر الجزائري.
- رياض الصالحين، الإمام أبي زكريا بن شرف النووي.
---
([1]) الرعد: 28.
([2]) النور: 36.
([3]) التوبة: 18.
([4]) الجن: 18.
([5]) يوسف: 106.
([6]) رواه الجماعة.
([7]) كل جاف طاهر يجوز الصلاة والسجود عليه إلاّ بعض المواضع كالمقابر ومرابض الإبل.
([8]) آل عمران: 96.
([9]) أحمد والطبري وصححه الحاكم.
([10]) بخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه.
([11]) أحمد وابن ماجه وابن خزيم وابن حبان والترمذي عن أبي سعيد.(1/5)
([12]) أحمد والشيخان عن أبي هريرة.
([13]) الأنبياء: 92.
([14]) الحجرات: 49.(1/6)