دعوة الأقربين في القرآن الكريم
إعداد
د. سليمان بن قاسم العيد
جامعة الملك سعود
كلية التربية
قسم الثقافة الإسلامية
1423هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:-
فإن الله (سبحانه وتعالى) أرسل رسوله محمداً (صلى الله عليه وسلم) إلى الناس كافة كما في قوله سبحانه: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الأعراف: 158] ومع هذه العمومية في رسالة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد جاءه التوجيه من ربه (سبحانه وتعالى) بتبليغ الدعوة إلى عشيرته الأقربين، لما لهم من الحق الخاص عليه، فهم أحق برعايته لهم والحرص على منفعتهم، وقد امتثل المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ذلك التوجيه الرباني خير امتثال فدعاهم إلى الله (سبحانه وتعالى) بما يلائم أحوالهم.(1/1)
إذاً فالأقربون للداعية من أحق الناس بدعوته، والتقصير في دعوتهم سيحاسب عنه الإنسان يوم القيامة، لما في صحيح البخاري عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته))(1). فمسئولية الرجل عن أهل بيته ليست مقصورة على رعايتهم في أمور الدنيا، بل تتعدى ذلك إلى رعايتهم في أمور الآخرة بدعوتهم إلى الله (سبحانه وتعالى). ويتأكد هذا من قول المولى (سبحانه وتعالى): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]. فجاءت هذه الآية تأمر بوقاية النفس والأهل من النار، فوقاية النفس تكون بالعمل، ووقاية الأهل تكون بالدعوة، ووصف الله تعالى النار بتلك الصفات ليزجر عباده عن التهاون في أمره، في أنفسهم وأهليهم(2).
ومما يؤكد أهمية البحث هو اجتهاد بعض الدعاة ببذل دعوته للآخرين وغفلته عن عشيرته الأقربين، وبخاصة في العصر الحاضر، وربما دخل في ذلك شيء من حظوظ النفس، كطلب السمعة والذكر بين الأقران.
ومن جانب آخر ربما كان الداعية حريصاً على دعوة أقاربه من أب أو أم أو أخ أو أخت ونحوهم، ولكنه قد يحتار في الوسيلة والأسلوب الذي يسلكه معهم، ولربما كان الخوف أو الحياء مانعاً له من دعوته إياهم.
__________
(1) الجامع الصحيح، كتاب الجمعة، رقم الحديث 893.
(2) انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 8/127. والسعدي 7/422.(1/2)
ومن هنا كان اختيار هذا البحث بعنوان (دعوة الأقربين في القرآن الكريم ) محاولة لإضاءة مصباح في طريق الدعاة إلى الله (سبحانه وتعالى) الحريصين على دعوة أقاربهم، وذلك بتتبع النماذج القرآنية التي عرضت مواقف دعوية للأقربين.
التعريف بمصطلحات البحث
الدعوة: للدَّعْوَةُ لغة عدة استعمالات منها: الدعاء إلى الطعام، يقال كنا في دَعوة فلان ومَدْعَاةِ فلان. والدِّعوة بالكسر في النسب، يقال فلان دَعِيٌّ بين الدِعوة والدَعوى في النسب، هذا كلام أكثر العرب إلا عَدِيَّ الربابِ فإنهم يفتحون الدال في النسب، ويكسرونها في الطعام. وتداعت الحيطان للخراب أي تهادت. وتداعى القوم أي دعا بعضُهم بعضاً. ودعوت فلاناً أي صحت به. ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين، وأدخلت الهاء فيه للمبالغة. ويطلق الداعية على صريخ الخيل في الحروب. والدعوة من دعا إلى الشيء، أي ساقه إليه، وحثه على قصده(1). ومنه قوله سبحانه: { وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [يونس: 25]، وقوله سبحانه: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } [يوسف: 33].
الدعوة اصطلاحاً: اختلف تعريف الدعوة الاصطلاحي بين المعرفين لها، فمنهم من جعل كلمة الدعوة مرادفة لكلمة الإسلام، فيتحدث عن الدعوة كما يتحدث عن الإسلام سواء بسواء، ومنهم من جعلها فناً آخر يتعلق بكيفية نشر هذا الإسلام، ومن هذه التعريفات الاصطلاحية ما يلي:-
__________
(1) انظر: الجوهري، الصحاح 6 / 2336-2338، مادة [دعا] . وابن منظور، لسان العرب 14/257-262 مادة [دعا] . والفيروز أبادي، القاموس المحيط 4 / 328، مادة [دعا] . والزبيدي، تاج العروس 10/137، مادة [دعا] .(1/3)
عرفها البهي الخولي بقوله: ((الإسلام الحنيف هو الدعوة العالمية الكبرى الذي بعث بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتكون نظام الإنسانية الكامل في حياتها الروحية والمادية في كل زمان ومكان ))(1).
وعرفها علي محفوظ بقوله: (( حث الناس على الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل ))(2).
وعرفها محمد الراوي بقوله: ((هي دين الله الذي بعث به الأنبياء جميعاً تجدد على يد محمد (صلى الله عليه وسلم) خاتم النبيين كاملاً وافياً لصلاح الدنيا والآخرة))(3).
وعرفها آدم الألوري بقوله: (( صرف أنظار الناس وعقولهم إلى فكرة أو عقيدة وحثهم عليها، وهي بمثابة ندبة لإنقاذ الناس من ضلالة كادوا يقعون فيها، وتخليصهم من مصيبة حدقت بهم ))(4).
الأقربون: قَرُبَ الشيء بالضم يَقْرُب قُرْباً، أي دنا. وتقرب إلى الله بشيء، أي طلب منه القربة. والقُرْبُ ضدّ البُعد. والقَرابة والقُربى في الرحم، وهي في الأصل مصدر، تقول بيني وبينه قَرَابة، وقُرْبٌ، وقُرْبَى، ومَقْرَبَةٌ، وقُرْبَةٌ، وقُرُبَةٌ بضم الراء. وهو قريبي، وذو قرابتي، وهم أقربائي، وأقاربي(5). والمقصود بهم في هذا البحث هم الأدنون للداعية بنسب أو سبب.
النموذج: وهو الآية أو الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر الدعوة للأقربين، ولها حالات مختلفة كما يلي:-
أ أن تكون أمراً من الله سبحانه وتعالى بدعوة الأقربين.
ب أن تكون ذكراً لما جرى من الدعوة بين الداعية وأحد الأقارب.
الدارسات السابقة:
__________
(1) تذكرة الدعاة ص 14 .
(2) هداية المرشدين ص 17 .
(3) الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ص 29 .
(4) تاريخ الدعوة إلى الله ص 17.
(5) انظر: الجوهري، الصحاح 1/198-200مادة [قرب]. وابن منظور، لسان العرب 1/662-665 مادة [قرب].(1/4)
بعد سؤال بعض المختصين والتحري والبحث في بعض المكتبات التي هي مظنة وجود مثل هذا البحث، كمكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز الملك فيصل، ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ومكتبة الأمير سلمان بجامعة الملك سعود، والمكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لم يجد الباحث كتاباً أو رسالة مستقلة في الموضوع، وما وجده في ذلك هو مجرد رسالة صغيرة جداً هي عبارة عن نصيحة بعنوان "إبراء الذمة بالنصيحة في الدين، وإنذار العشيرة الأقربين". وأما ما وجد من الكتب والرسائل العلمية التي لها صلة في الموضوع فأبرزها ما يلي:-
1- الاحتساب على الوالدين: لفضيلة الدكتور فضل إلهي ظهير، وهو كتاب يقع في (62) صفحة، قسم فضيلته الكتاب إلى مبحثين، الأول: حول مشروعية الاحتساب على الوالدين، عرض فيه بعض النصوص الدالة على الاحتساب على الوالدين، ومن ضمنها احتساب إبراهيم (عليه السلام) على أبيه. أما المبحث الثاني فتحدث فيه فضيلته عن درجات الاحتساب على الوالدين وآدابه.
2- إبراهيم (عليه السلام) ودعوته في القرآن الكريم: لأحمد البراء الأميري، والكتاب أصله رسالة ماجستير تقدم بها الباحث للمعهد العالي للدعوة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1403هـ، وهو مطبوع في (232) صفحة، قسمه الباحث إلى خمسة أبواب: تناول في الباب الأول حياة إبراهيم (عليه السلام)، وفي الباب الثاني الدعوة والمدعوين، وفي الباب الثالث ابتلاؤه وصبره، وفي الباب الرابع فضائله وشمائله، وفي الباب الخامس شبهات مردودة.(1/5)
3- لقمان الحكيم ومنهجه في الدعوة إلى الله، إعداد: خالد محمد الحافظ، وهو بحث السنة النهائية لمرحلة الماجستير في قسم الدعوة والاحتساب بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عام 1405هـ، ويقع البحث في 168 صفحة. قسمه الباحث إلى ثلاثة فصول، تحدث في الفصل الأول عن لقمان وعصره، والفصل الثاني عن منهجه في الدعوة إلى الله، وأما الفصل الثالث فتحدث فيه عن جوانب دعوة لقمان.
ومن الملاحظ أن هذه الدراسات لم تكن شاملة لدعوة الأقربين، بل كل منها تناول الموضوع في جزئية خاصة حسب موضوعه، وأما البحث الذي نحن بصدده فيحرص فيه الباحث على تناول دعوة الأقربين الوردة في القرآن الكريم.
حدود البحث: البحث مختص في صنف من المدعوين، وهم الأقربون، وذلك من خلال ما ورد في القرآن الكريم من نماذج في شأن دعوتهم.
منهج البحث: المنهج المستخدم في هذا البحث هو المنهج الاستقرائي، وذلك باستقراء مواقف دعوة الأقربين في القرآن الكريم، ومن ثم عرض منهجها وبيان أسلوبها، واستنباط دروسها وعبرها.
إجراءات البحث
سلك الباحث في بحثه الخطوات التالية:-
1- ذكر النص القرآني الدعوي.
2- التعريف بالداعي بشكل موجز.
3- التعريف بالمدعو بشكل موجز.
4- بيان موضوع الدعوة الوارد في النص.
5- ذكر المنهج الدعوي في هذا الموقف وبيان ما فيه من الأساليب .
6- التعقيب بعد ذلك بذكر الفوائد المستنبطة لذلك الموقف الدعوي.
7- في حالة وردود أكثر من نموذج يتم ترتيبها حسب أفضلية الداعي، وأما إذا تعددت النصوص للنموذج الواحد فيكون ترتيبها حسب ورودها في المصحف.
8- تم ترتيب المراجع هجائياً حسب اسم الكتاب، مع حذف (ال). كما تم ذكر بيانات النشر، وفي حالة عدم وجود أي منها يكتب (بدون ناشر) وفي حالة عدم وجود تاريخ على المرجع يرمز إلى ذلك بالرمز: د. ت.
تقسيم البحث
تم تقسيم البحث إلى مقدمة وخمسة مباحث وخاتمة، على النحو التالي: -(1/6)
تقديم
المبحث الأول: دعوة الأب - دعوة إبراهيم (عليه السلام) لأبيه
المبحث الثاني: دعوة الأبناء
- النموذج الأول: دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) لبناته.
- النموذج الثاني: دعوة إبراهيم ويعقوب (عليهما السلام) لبنيهما.
- النموذج الثالث: دعوة نوح (عليه السلام) لابنه
- النموذج الرابع - دعوة لقمان (عليه السلام) لابنه
المبحث الثالث: دعوة الأخ- دعوة موسى لهارون (عليهما السلام)
المبحث الرابع: دعوة النبي (صلى الله عيه وسلم) لأزواجه.
المبحث الخامس: سائر الأقربين.
النموذج الأول: دعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأهله.
النموذج الثاني: دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) لعشيرته الأقربين.
النموذج الثالث: دعوة إسماعيل (عليه السلام) لأهله.
الخاتمة
وأسال الله (سبحانه وتعالى) التوفيق والسداد والنفع، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الباحث
المبحث الأول
دعوة الأب
دعوة إبراهيم (عليه السلام) لأبيه
النصوص الدعوية:
(1) { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 74].
((1/7)
2) { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً { 41 } إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً { 42 } يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً { 43 } يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً { 44 } يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً { 45 } قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً { 46 } قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً { 47 } وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً } [ مريم: 41-48 ]
الداعي:(1/8)
هو إبراهيم الخليل (عليه السلام) أبو الأنبياء، ومن أولي العزم من الرسل، ولقد أثنى الله (سبحانه وتعالى) عليه في مواضع عدة من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله سبحانه: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { 120 } شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل: 120، 121]، وقوله: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [البقرة:130]. وهو خليل الرحمن كما في قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء: 125]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي جاءت ببيان صفاته وفضله (عليه السلام).
وكونه أباً للأنبياء لأن من ذريته إسماعيل وإسحاق (عليهما السلام)، وكل منهما نبياً، ومن نسل إسماعيل (عليه السلام) جاء خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وسلم) ومن نسل إسحاق (عليه السلام) جاء يعقوب (عليه السلام) ومن نسله جاء جميع أنبياء بني إسرائيل وهم كثير.(1/9)
ولد (عليه السلام) في بابل ثم انتقل إلى حران ثم الشام، ورحل إلى مصر ومكة، واستقر أمره بالشام بعد ذلك، واجه قومه بالدعوة في بابل وكذلك في حران، وواصل الدعوة إلى دين الله في كل مكان يحل فيه. وكان له مواجهات مع النمرود، وحاول قومه إحراقه بالنار فأبطل الله كيدهم ونجاه من شرهم(1).
المدعو:
المدعو هو والد إبراهيم، واسمه آزر، وهذا هو الاسم الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة دلالة صريحة، فنص الكتاب كما هو مذكور في الآية، أما في السنة فما ورد عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة... )) الحديث(2).
وورد عن بعض النسابين والمؤرخين وأهل التفسير أقوال مختلفة في (آزر) على النحو التالي:-
1- أنه اسم لأبي إبراهيم.
2- أنه اسم لصنم، فأما اسم أبي إبراهيم فتارح.
3- أنه ليس باسم، ولكنه سب بعيب، وفي معناه قولان: أنه المعوج، والثاني: أنه المخطئ.
4- أنه لقب لأبيه وليس باسم (3).
__________
(1) للاستزادة في سيرة إبراهيم (عليه السلام) راجع -مثلاً-: ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك ص 142-174. وابن كثير، البداية والنهاية ص139-157. ومحمد علي الصابوني، النبوة والأنبياء ص 160-180. ومحمد النجار، تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ص 95-115. وأحمد البراء الأميري، إبراهيم (عليه السلام) ودعوته في القرآن الكريم ص 25-40. وهشام فهمي العارف، سيرة إبراهيم (عليه السلام) ص 27-118. وسليمان الراجحي، إبراهيم (عليه السلام) في التوراة --دراسة عقدية في ضوء القرآن الكريم- رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود1420-1421 ص 25-83.
(2) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث 3101.
(3) هذه الأقوال الأربعة ذكرها ابن الجوزي، زاد المسير 3/70،71.(1/10)
5- أنه اسم عم إبراهيم(1).
ولعل مرد هذا الاختلاف هو ما ورد عند أهل الكتاب في نسب إبراهيم (عليه السلام) أنه: (إبراهيم بن تَارَح بن ناحور...)(2)، ومن المعلوم أن التوراة كتاب محرف لا يعول عليه، فبقي أن المقطوع به أن اسم أبي إبراهيم (آزر) كما ورد بذلك التصريح في القرآن والسنة.
ولقد كان (آزر) كافراً عابداً للأصنام، وقيل صانعاً لها. بل أشهر صناعها وأمهرهم فقد كان القوم يشترونها منه لا من غيره(3). إذاً فهو فوق كفره وعبادة الأصنام معين للناس على عبادتها بصناعتها لهم.
موضوع الدعوة: التوحيد ونبذ الشرك، فإبراهيم (عليه السلام) يدعو والده إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام.
المنهج:
أما النص الأول فجاءت فيه الدعوة مختصرة حاسمة، ويتمثل الأسلوب الدعوي في هذا النص بما يلي :-
1- طرح السؤال الاستنكاري
__________
(1) الزبيدي، تاج العروس 3/13. وانظر الكلام على آزر عند البغوي، معالم التنزيل 3/158. والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن 7/16، 17. وابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/150، 151. والشوكاني، فتح القدير 2/133. أحمد البراء الأميري، إبراهيم (عليه السلام) ودعوته في القرآن الكريم ص 185-190.
(2) سفر التكوين إصحاح 11 فقرة 23-26. وانظر: ابن كثير، البداية والنهاية ص139. وسليمان الراجحي، إبراهيم (عليه السلام) في التوراة - دراسة عقدية في ضوء القرآن الكريم، رسالة ماجستير - جامعة الملك سعود 1420-1421، ص 25.
(3) انظر : الشهرستاني، الملل والنحل 305.(1/11)
فإبراهيم (عليه السلام) يوجه إلى أبيه سؤالاً يحمل معنى الاستنكار(1)، يسأله ذلك السؤال وكأنه يستنهض تفكيره ويوقظ فطرته، فالإله الذي يعبد، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء، والذي خلق الناس والأحياء.. هذا الإله في الفطرة السليمة لا يمكن أن يكون صنماً من حجر، أو وثناً من خشب.. وإذا لم تكن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد، وما هي بالتي تتخذ آلهة، حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد!(2).
2- الصدع بالحق
وبعد هذا السؤال يتوجه إبراهيم (عليه السلام) بالصدع بالحق { 'دoTخ) أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي 5@"n=|ت &ûüخ7-B } أي السالكين مسلكك ( في ضلال مبين ) أي تائهين، لا يهتدون أين يسلكون، بل في حيرة وجهل، وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم(3). كلمة يقولها إبراهيم (عليه السلام) لأبيه. وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم. ولكنها العقيدة هنا. والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة(4).فالعقيدة يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم، ولا يجامل على حسابها أباً، ولا أسرة، ولا عشيرة، ولا قوماً(5).
وأما النص الثاني فيكشف لنا بصورة مغايرة للأولى كيفية دعوة إبراهيم (عليه السلام) البار الحليم المشفق الرقيق لوالده الكافر الفظ الغليظ، ويتمثل الأسلوب الدعوي في هذا الموقف بالنقاط الآتية:-
1- التذكير بصلة القرابة
__________
(1) انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 7/17.
(2) انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 2/1138 .
(3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/151.
(4) انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 2/1139.
(5) المرجع السابق 2/1138 .(1/12)
بدأ إبراهيم دعوته بـ(يا أبت) وكررها في كل جملة تذكيراً للوالد بصلة القرابة ومنبع الشفقة عليه، وما يكون بين الوالد والولد في العادة من محبة أحدهما للآخر وحرصه على مصلحته، وتضحيته من أجله، وفي هذه الدعوة ((تبدو شخصية، إبراهيم الحليم... تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته... وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة ))(1).
2- طرح السؤال وإقامة الحجة
__________
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن 4/2311.(1/13)
لم تكن بداية الدعوة بنصح مباشر، إنما كانت بسؤال مطروح، ليوقظ قلبه ويستنهض تفكيره، فسأله أولاً عن العائد من عبادة أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنه شيئاً. ((وهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلاً وشرعاً))(1). ويقول الشهرستاني (ت 548هـ): ((ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره، كان أكثر الحجج معه، وأقوى الإلزامات عليه، إذ قال (عليه السلام) لأبيه آزر: أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين، وقال: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً. لأنك جهدت كل الجهد، واستعملت كل العلم، حتى عملت أصناماً في مقابلة الأجرام السماوية، فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعاً وبصراً، وأن تغني عنك وتضر وتنفع، وأنت بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها، لأنك خلقت سميعاً بصيراً نافعاً ضاراً، والآثار السماوية فيك أظهر منها، في هذا المتخذ تكلفاً))(2). ويقول الألوسي (ت 1270هـ): ((ولقد سلك (عليه السلام) في دعوته أحسن منهاج، واحتج عليه أبدع احتجاج، بحسن أدب وخلق ليس له من هاج، لئلا يركب متن المكابرة و العناد، ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد، حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل، ويأبى الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم، مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام...))(3).
3- التنبيه بحذر
__________
(1) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/110.
(2) الملل والنحل ص305.
(3) روح المعاني 16/97. وانظر تفسير المراغي 16/56.(1/14)
عقب إبراهيم (عليه السلام) بعد ذلك بدعوة والده بحذر بالغ حتى لا يشعر الوالد بالغضاضة من اتباع ابنه، وهو الوالد الأكبر سناً، والأكثر خبرة وتجربة في الحياة، فلم يسند إبراهيم العلم إلى نفسه، ويقل: إني أعلم مالا تعلم، بل أخبر أنه قد جاءه من العلم ما لم يأت والده، وفي ذلك عدم جرح لكبرياء الأب، فهو (( لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط -وإن كان في أقصاه- ولا نفسه بالعلم الفائق- وإن كان كذلك- بل أبرز نفسه في صورة رفيق له، يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق ))(1) فعبارته تفيد أن عندي وعندك علماً ولكن { قَدْ 'دTuن!%y` مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } على سبيل التبعيض، أي شيء من العلم ليس معك(2). العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله، وقيل العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها، وقيل العلم بما يعم ذلك(3). وبه دعاه إلى الطريق السوي، وهو الطريق المستقيم الموصل إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، وذلك بعبادة الله وحده لا شريك له وطاعته في جميع الأحوال(4).
4- النهي والتعليل
__________
(1) الألوسي روح المعاني 16/97. وانظر : والبيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 4/8. وأبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم 3/585.
(2) ابن حيان، البحر المحيط 6/194.
(3) الألوسي، روح المعاني 16/97.
(4) انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3/124. و السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/111.(1/15)
بعد هذا كله نهى إبراهيم (عليه السلام) أباه عن عبادة الشيطان، وإن كان لم يصرح الأب بها، قال ابن عطية (ت 546هـ): يحتمل أن يكون أبوه ممن يعبد الجن، ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله تعالى(1). فعبادته للأصنام إنما هي عبادة للشيطان لأنه هو الداعي إليها والراضي بها، ونسبة الفساد إلى الشيطان متقررة في نفوس البشر، ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون لحالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه. وبين له أن الشيطان كان للرحمن عصياً يعني عاصياً(2). وفي هذا تعليل لموجب النهي وتأكيد له، والإظهار في موضع الإضمار { ِ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } لزيادة التقرير(3). ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاص، وكل عاص حقيق بأن تسترد منه النعم، وينتقم منه(4). ((وفي إضافة العصيان إلى الرحمن إشارة على أن المعاصي تمنع العبد من رحمة الله، وتغلق عليه أبوابها))(5). كما أن لفظ (الرحمن) هنا فيه تنبيه على سعة رحمته، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى(6).
5- التخويف بحكمة
وهنا يأتي تخويف الأب من العذاب، ولم يصرح إبراهيم (عليه السلام) بلحوق العذاب بأبيه، بل أظهر له الشفقة والخوف عليه من عذاب الرحمن، فأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة، ونكر العذاب ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه(7) فقال:
{
__________
(1) ابن عطية، المحرر الوجيز 4/18 .
(2) ابن الجوزي، زاد المسير 5/236. وانظر : الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير 16/116، 117.
(3) الألوسي، روح المعاني 16/97.
(4) البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 4/8.
(5) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/112.
(6) ابن حيان، البحر المحيط 6/194.
(7) ابن حيان، البحر المحيط 6/194.(1/16)
ِ 'دoTخ) أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } قال الطبري (ت 310هـ): أخاف بمعنى أعلم أنك إذا مت على عبادة الشطان أن يمسك عذاب من عذاب الله(1). وقال الثعالبي (ت 875هـ): والظاهر عندي أنه خوف على بابه، وذلك أن إبراهيم (عليه السلام) في وقت هذه المقالة لم يكن آيساً من إيمان أبيه(2).
6- التدرج مع الأب
ولقد تدرج إبراهيم في دعوة أبيه تدرجاً: ((فأخبره بعلمه، أن ذلك موجب لاتباعك إياي، وأنك إن أطعتني اهتديت إلى صراط مستقيم. ثم نهاه عن عبادة الشيطان وأخبره بما فيها من المضار. ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله، وأنه يكون ولياً للشيطان))(3).
مع هذا كله فلم تنجع تلك الدعوة بذلك الشقي، فقد وجد الولد الغلظة مقابل اللين، والسفه مقابل الحلم، والبعد مقابل القرب، والانقطاع مقابل الحجة. وأجاب الوالد بجواب جاهل فقال: { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي مLىدd¨uچِ/خ*¯"tƒ } فتبجح بآلهته التي هي من الحجر والأصنام، وفي هذا الجواب أضاف الوالد الآلهة إلى نفسه ليبين شدة قربه منها، واستعداده للدفاع عنها. فقابل الوالد استعطاف الولد ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل (يا أبتِ) بـ(يا بني)، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل(4). ثم هدده قائلاً: { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ } عن شتم آلهتي، ودعوتي إلى عبادة الله
{
__________
(1) الطبري، جامع البيان 8/68.
(2) جواهر الحسان في تفسير القرآن 3/11.
(3) السعدي، تيسر الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/112.
(4) البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 4/9. وانظر: الشنقيطي، أضواء البيان 4/287.(1/17)
y7¨ZuHنdِ'{ } أي بالحجارة أو شتماً بالقول(1) { ِ 'دTِچàf÷d$#ur $wد=tB } أي لا تكلمني زماناً طويلاً(2).
وعلى مثل هذه الحال تكون مواقف الجبابرة من دعاة الحق، فإنهم إذا انقطعوا وعجزوا عن الحجة قابلوا الدعاة بالشدة والغلظة والتهديد والوعيد، كحال قوم إبراهيم حينما توعدوه بالإحراق بالنار، وحال فرعون مع موسى وغير هم.
وبعد هذا كله رد الحليم قائلاً: { سَلَامٌ عَلَيْكَ } أي لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى بل أنت سالم من ناحيتي، وهذا هو جواب المؤمنين في حالة الرد على الجهال. وقيل هذا سلام هجران ومفارقة، وقيل: سلام بر ولطف، وهو جواب الحليم للسفيه. وزاده خيراً فقال: { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ 'دn1u' إِنَّهُ كَانَ 'د1 $wدےxm } أي لطيفا يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له ولهذا قال: { ِِNن3ن9ح"yIôمr&ur وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (#qممôٹr&ur 'دn1u' عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ 'دn1u' $wة)x© } (3). فكان إبراهيم (عليه السلام) يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك، رجع عن الاستغفار له، وتبرأ منه(4)، كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114].
__________
(1) انظر : ابن عطية، المحرر الوجيز 4/18. وابن الجوزي، زاد المسير 5/237.
(2) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/112، 113.
(3) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية 1/141. والبغوي، معالم التنزيل 16/235.
(4) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/151 . والبداية والنهاية 1/141.(1/18)
ومما يحسن التنبه له في هذا المقام أن الله (سبحانه وتعالى) أمرنا باتباع إبراهيم (عليه السلام) فمن اتباع ملته سلوك طريقه في دعوته، وبالأخص مع الآباء بطريق العلم والحكمة، واللين والسهولة، والانتقال من رتبة إلى رتبة، والصبر على ذلك وعدم السآمة منه، والصبر على ما ينال الداعي من أذى المدعو بالقول والفعل، ومقابلة ذلك بالصفح والعفو، بل بالإحسان القولي والفعلي(1).
ومن التأسي بإبراهيم(عليه السلام) البراءة من المشركين، كما كانت حاله ومن معه من المؤمنين. ولكن هناك أمر استثني من الاتباع، وهو استغفار إبراهيم (عليه السلام) لأبيه، فقد قال الله (سبحانه وتعالى) في هذا الشأن: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة: 4]، أي لكم في إبراهيم (عليه السلام) وقومه أسوة حسنة، تتأسون بها، إلا في استغفار إبراهيم (عليه السلام) لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه(2).
الدروس المستفادة
من الأمور المهمة أن يستفيد الداعية المعاصر من هذا الأنموذج الدعوي، ولعل هذه الاستفادة تتمثل بالنقاط الآتية:-
__________
(1) انظر: السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/113.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 4/349 .(1/19)
1- أن يدرك الداعية المعاصر أن البر بالوالد أو الوالدة لا يقتصر على تلبية حاجاتهما والإنفاق عليهما، بل الأهم من ذلك السعي لنجاتهما في الآخرة، وذلك بدعوتهما إلى الله (سبحانه وتعالى). فالدعوة من أعظم وجوه الإحسان التي يكافئ بها الولد إحسان الوالد(1).
2- أن دعوة الوالد تحتاج إلى خطاب خاص ينبع من صلة القرابة، تكون مصبوغة بالشفقة والرحمة والأدب، كما كانت حال إبراهيم (عليه السلام) مع والده.
3- الحرص على الإقناع العقلي للوالد، الذي يدعوه لترك ما عنده من الشر، والإقبال على ما تركه من الخير.
4- التدرج المناسب في عرض الدعوة ومتابعة مراحلها.
5- التواضع مع الوالد في الخطاب الدعوي، فلا يظهر الداعية أنه أعلم من أبيه أو أصلح منه أو أنجح منه، وإن كان الولد كذلك، ولكن يختار العبارات التي تكون سبباً في قبول الوالد للدعوة، وعدم الاستنكاف عنها.
6- أن تحمل الدعوة طابع الترغيب، وإن احتاج الأمر إلى الترهيب يكون بلطف وأسلوب لبق كما فعل إبراهيم (عليه السلام).
7- اصطحاب الحلم في هذه الدعوة، وأن يقابل الكلمة الخبيثة في حال صدورها بالطيبة، والجبين المقطب بالبسمة الحانية، والنبرة الصاخبة، بالعبارة الهادئة، فإن الوالد لما له من حق على ولده يستحق أكثر من ذلك، فكيف إذا كان الأمر أمر الدعوة إلى الله.
8- إذا لم يستجب الوالد لدعوة الولد، فإن للولد في إبراهيم (عليه السلام) أسوة وتسلية، فالأسوة تكون في البراءة في حين تبين عدواة الوالد لله، كأن يموت الوالد مشركاً، ويتيقن الولد ذلك. والتسلية تكون في عدم الأسى والحزن على الوالد والحال كذلك، فإبراهيم الخليل (عليه السلام) هكذا كانت نهاية والده.
المبحث الثاني
دعوة الأولاد
النموذج الأول
أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) بدعوة بناته
النص الدعوي
{
__________
(1) انظر: محمد أحمد العدوي، دعوة الرسل إلى الله تعالى ص44 . ود. فضل إلهي، الاحتساب على الوالدين ص30.(1/20)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب: 59 ]
الداعي: هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
المدعو:
المدعو في هذه الآية هن نساء المؤمنين بعامة، وخص منهن زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) وبناته (رضي الله عنهن) وهن مدار الحديث في هذا الأنموذج. وله من البنات عليه الصلاة والسلام أربع من خديجة (رضي الله عنها) وهن: فاطمة (رضي الله عنها) ولدت قبل البعثة بخمس سنين، وهي أصغر بناته، وتوفيت بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) بيسير، وكانت وفاتها لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، زوجة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). ورقية (رضي الله عنها) تزوجها عثمان بن عفان (رضي الله عنه) توفيت ورسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ببدر. وأم كلثوم (رضي الله عنها) تزوجها عثمان (رضي الله عنه) حين توفيت رقية وتوفيت في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) سنة تسع من الهجرة. وزينب (رضي الله عنها) زوجة أبي العاص بن الربيع وهي أكبر بناته توفيت سنة ثمان من الهجرة.(1)
موضوع الدعوة: هو حجاب المرأة المسلمة عن الأجانب.
المنهج:
يتمثل هذا الموقف الدعوي بأمر إلهي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يأمر أزواجه وبناته ليتميزن عن المرأة في الجاهلية، فإنه كانت عادة العربيات في الجاهلية التبرج وكشف الوجوه فأراد الله (سبحانه وتعالى) لنساء المؤمنين التميز والبعد عن أفعال الجاهلية، والأسلوب الدعوي الظاهر من هذا النموذج يتمثل بالنقاط الآتية:-
1- الأمر
__________
(1) انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14/155، 156. و ابن الأثير، أسد الغابة 5/456، 467، 519-524، 612. وابن حجر، الإصابة في تمييز حياة الصحابة 4/304، 312، 377-380، 489.(1/21)
ففي هذا النص الدعوي يأمر الله (سبحانه وتعالى) رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يأمر النساء المؤمنات وبخاصة أزواجه وبناته (رضي الله عنهن) لشرفهن بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ y7إ_¨urّ-X{ وَبَنَاتِكَ دن!$|،دSur الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ £`خkِژn=tم مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ y7د9¨sŒ #'oTôٹr& أَنْ z`ّùuچ÷èمƒ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } والجلباب هو الرداء فوق الخمار قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد ابن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد(1). وقال الجوهري (ت 393هـ): الجلباب الملحفة(2). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (رضي الله عنه): أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وقال عكرمة: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها. وعن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: لما نزلت هذه الآية { يُدْنِينَ £`خkِژn=tم مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ y7د9¨sŒ #'oTôٹr& أَنْ z`ّùuچ÷èمƒ فَلَا يُؤْذَيْنَ } خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها(3).
2- التعليل
جاء التعليل بعد ذلك لهذا الحجاب فقال سبحانه ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر لسن بإماء ولا عواهر. وقال مجاهد: يجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة(4). وإن تعليل الأمر الدعوي من الجوانب الهامة في الدعوة، وذلك ليدرك المدعو الحكمة من هذا الأمر، ليكون أكثر استجابة له، وأسرع مبادرة لتنفيذه.
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3/519.
(2) الصحاح 1/101 مادة [جلب].
(3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3/519.
(4) المرجع السابق.(1/22)
ولم يرد في النص ما يوضح موقف بنات النبي (صلى الله عليه وسلم) من ذلك الخطاب، ولاشك أنهن (رضي الله عنهن) كما قال الله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة: 285] فهن العفيفات الطاهرات قدوة نساء المسلمين (رضي الله عنهن وأرضاهن).
الدروس المستفادة
1- إن بنات الداعية من أحق الناس بتوجيه دعوته إليهن.
2- لابد من الانتباه للأمور الخاصة التي توجه فيها الدعوة للبنات، وكما في النموذج السابق فإن موضوع الحجاب هو موضوع دعوي مهم للمرأة المسلمة في القديم والحديث.
3- مهما بلغ صلاح البنات فإنهن لن يكن كصلاح بنات رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكذلك مهما بلغ صلاح المجتمع فإنه لن يكون كمجتمع الصحابة (رضي الله عنهم) فلا بد من الاهتمام بالحجاب والحذر من الأشرار.
4- الحرص على التعليل في توجيه الدعوة للبنات كما جاء في الآية الكريمة.
5- اقتران التوجيه الدعوي بالترغيب أمر مهم في طيب النفوس واستجابة الدعوة.
6- اجتهاد الداعية في دعوة أهله يقوي دعوته للآخرين ويكون سبباً في قبول الدعوة(1).
النموذج الثاني
دعوة إبراهيم ويعقوب (عليهما السلام) لبنيهما
النصوص الدعوية
(1) { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة: 132 ].
(
__________
(1) انظر: د. فضل إلهي، الاحتساب على الوالدين ص 31 .(1/23)
2) { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة: 133 ].
الداعي:
يوجد في هذا النص داعيان:-
الأول: إبراهيم الخليل (عليه السلام) وقد سبق التعريف به(1).
والثاني: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليهم السلام) وهو نبي من أنبياء الله (سبحانه وتعالى)، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من نسله، بشر الله (سبحانه وتعالى) به إبراهيم (عليه السلام) وزوجته سارة بقوله: { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود: 71 ].ولقد ابتلاه ربه (سبحانه وتعالى) بفقد ابنه يوسف (عليه السلام) مدة من الزمن حتى ابيضت عيناه من الحزن، ففرج الله عنه كربته برجوع بصره ولقيا ولده. كان في الشام ثم رحل بعد إلى مصر مع بنيه ومات هناك.(2)
المدعو:
أولاً: أبناء إبراهيم الخليل (عليه وعليهم السلام)، وهم ثمانية نفر: إسماعيل (عليه السلام) وأمه هاجر. وإسحاق (عليه السلام) وأمه سارة، وهذان قد ثبتت نبوتهما، وستة آخرون يقال أن أمهم قنطورة تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة(3).
ثانياً: أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر ولداً(4)، منهم يوسف (عليه السلام) بعثه الله رسولاً نبياً.
__________
(1) راجع ص 8 .
(2) للاستزادة في سيرة يعقوب (عليه السلام) راجع -مثلاً-: ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك ص 200-219. وابن كثير، البداية والنهاية 1/192-197. ومحمد علي الصابوني، النبوة والأنبياء ص 267-269. ومحمد علي البار، الله والأنبياء في التوراة والعهد القديم ص 135-149.
(3) انظر: البغوي، معالم التنزيل 1/153.
(4) المرجع السابق. وانظر أسماءهم عند ابن حيان، البحر المحيط 1/579.(1/24)
موضوع الدعوة: الإسلام لله وتوحيده بالعبادة.
المنهج:
يمثل هذا النص الدعوي حرص الآباء على صلاح الأبناء وسلامة دينهم بعبادة الله وحده لا شريك. ويتمثل الأسلوب الدعوي في هذا المنهج بما يلي:-
1- التذكير بصلة القرابة
حيث دلت الآية الأولى أن كلاً من إبراهيم ويعقوب (عليهم السلام) بدأ وصيته لبنيه بقوله: (يا بني)، وإشعار المدعو بصلة القرابة مفيد في ألفة الداعي واستجابة الدعوة.
2- التذكير بالنعمة
فهذا كل من إبراهيم ويعقوب (عليهما السلام) يلفت نظر بنيه إلى هذا النعمة العظيمة قائلاً: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } أي اختاره لكم رحمة بكم وإحساناً إليكم(1).
3- الموعظة بما يترتب على النعمة
وبعد التذكير بين ما يترتب على ذلك وهو شكر هذه النعمة فجاء التوجيه { فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ tbqكJد=َ،-B } إيجاز بليغ، والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا، فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظاً وتذكيراً بالموت(2)، والمؤمن بحاجة إلى الاستمرار بالعمل حتى الموت بالالتزام بهذا الدين والإسلام لله بعبادته وحده لا شريك له، لأن الغالب أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه(3). وقال الزمخشري (ت 538هـ): المعنى لا يكن موتكم إلا على الإسلام... فإن الموت على غير الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت ألا يحل فيهم(4).
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2/93.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2/93.
(3) انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1/186. والسعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/142.
(4) الكشاف 1/191.(1/25)
وفي هذه الوصية إيماء إلى أن من كان منحرفاً عن الجادة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدد في كل آن بالموت(1).
وذكر ابن حيان (ت 745هـ) أن هذه الوصية فيها جملة من اللطائف وهي:-
1- الوصية، ولا تكون إلا عند خوف الموت، ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين حتى وصى به من كان متلبساً به إذ كان بنوه على دين الإسلام.
2- اختصاص بنيه ولا يخصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم.
3- أنه عمم بنيه ولم يخص أحداً، وهو من باب العدل.
4- إطلاق الوصية، فلم يقيدها بزمان ولا مكان، ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين.(2)
وفي النص الثاني نجد يعقوب (عليه السلام) في حال حضور الموت شغله الشاغل هو صلاح أبنائه، واستقامتهم على عبادة الله وحده لا شريك، وهذا المشهد بين يعقوب وأبنائه مشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما لقضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار ؟ ما الشاغل الذي يعني خاطره وهو في هذه الحالة. ما الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه ؟.. إنها الدعوة إلى التوحيد، إنها العقيدة. إنها القضية الكبرى، إنها الشغل الشاغل ليعقوب، إنها التركة وهي الذخر الذي تركه يعقوب لأبنائه(3)، فهو لا يغفل عن دعوة أبنائه إليها حتى في أحرج المواقف، موقف الاحتضار.
__________
(1) المراغي، تفسير المراغي 1/221.
(2) البحر المحيط 1/571.
(3) انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 1/110.(1/26)
ويتمثل الأسلوب الدعوي في هذا الموقف بطرح السؤال، فحين حضرت يعقوب (عليه السلام) علامات الموت وأماراته، جمع أبناءه، وتوجه إليهم بالسؤال قائلاً: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } يريد أن يطمئن على دينهم قبل أن يفارق الدنيا. وسؤال يعقوب لبنيه عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام، وأخذ الميثاق عليهم وليس الاستفهام حقيقياً، وربما كان هذا السؤال بعد أن دخل مصر ورأى ما فيها من المعبودات فسألهم هذا السؤال(1).
وجاء الجواب من الأبناء البررة مطمئناً لقلب الوالد المشفق قائلين: { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ y7ح !$t/#uن zO؟دd¨uچِ/خ) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } فإبراهيم هو جد يعقوب والجد أباً، وإسماعيل عم يعقوب، والعرب تسمي العم أباً(2). { إِلَهًا #Y‰دn¨ur وَنَحْنُ لَهُ tbqكJد=َ،مB } تأكيد للتوحيد وجمعاً بينه وبين العمل. وبهذا ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب، وكذلك هم ينصون نصاً صريحاً على أنهم (مسلمون)(3).
كما تتضمن دعوة الأبناء دعاء الله (سبحانه وتعالى) لهم، كدعاء إبراهيم لبنيه: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } [ إبراهيم: 35]. وكذلك: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة: 128 ]
الدروس المستفادة
1- الحرص على سلامة الأبناء في الدين أولى من الحرص على سلامتهم في الدنيا.
__________
(1) انظر : ابن حيان، البحر المحيط 1/572. وأبو السعود، إرشاد العقل السليم 1/391.
(2) انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2/94. وابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1/187. والبغوي، معالم التنزيل 1/154.
(3) سيد قطب، في ظلال القرآن 1/110.(1/27)
2- يحسن أن يقترن الخطاب الدعوي من الوالد للولد بما يشعر بهذه الصلة التي تمتزج بالشفقة.
3- رعاية الداعية لأبنائه لا يتوقف عند حصول صلاحهم فقط، بل يتعدى الأمر ذلك إلى فعل الأسباب المعينة على استمرار الصلاح إلى أن يموت الإنسان عليه.
4- إن الوصية عند الموت ليست فقط في الأموال ونحوها، بل هناك ما هو أهم من ذلك وهو الوصية للأبناء بالاستقامة على دين الله وحده لا شريك له.
5- لا مانع من توجيه الدعوة للأبناء في أمر هم قد فعلوه، ويكون هذا من باب التأكيد عليهم للمداومة عليه.
6- من الأساليب الدعوية توجيه الدعوة بشكل سؤال مطروح، كما فعل يعقوب (عليه السلام) مع بنيه.
7- الحرص على شمول الأولاد كلهم بالاهتمام الدعوي.
8- لا يغفل الداعية عن الدعاء لأولاده بالصلاح والاستقامة.
النموذج الثالث
دعوة نوح (عليه السلام) لابنه
النص الدعوي
{(1/28)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ { 42 } قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ { 43 } وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ { 44 } وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ { 45 } قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ { 46 } قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } [ هود: 42 - 47].
الداعي:(1/29)
هو نوح (عليه السلام) أول رسول أرسله الله (سبحانه وتعالى) إلى أهل الأرض، كما في قوله (سبحانه وتعالى): { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [النساء: 163]، وكما ثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة أن الناس إذا جاءوا إلى آدم قال: (( ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله))(1). وقد كان بينه وبين آدم عشرة قرون، كما دل على ذلك ما ورد في صحيح ابن حبان أن رجلاً سال النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: أنبي كان آدم ؟ قال: ((نعم )) قال: كم كان بينه وبين نوح ؟ قال: ((عشرة قرون))(2). لبث نوح (عليه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الإسلام بكل وسيلة ممكنة، فما آمن معه إلا قليل، فنجاه الله ومن معه في السفينة وأغرق الآخرين.(3)
المدعو
__________
(1) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الرقاق، رقم الحديث 6565. ومسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 193.
(2) صحيح ابن حبان، رقم الحديث 6190. وانظر: ابن حجر، فتح الباري 6/372.
(3) للاستزادة في سيرة نوح (عليه السلام) راجع -مثلاً-: ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك ص112-120. وابن كثير، البداية والنهاية ص 100-120. ومحمد علي الصابوني، النبوة والأنبياء الأنبياء ص 147-160. ومحمد النجار، تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ص 63-75. وسعد صادق محمد، الأنبياء في القرآن ص 65- 78.(1/30)
هو ابن نوح (عليه السلام) وهو الابن الرابع واسمه يام، وقيل: اسمه كنعان. وكان كافراً عمل عملاً غير صالح، خالف أباه في دينه ومذهبه، فهلك مع من هلك.(1)
موضوع الدعوة: الإيمان والنجاة من الكفر
المنهج:
بعد أن حق الأمر ودنت ساعة الهلاك تلاطم الكون بالمياه المغرقة الذي التقت فيه مياه الأرض بمياه السماء، في منظر لم تشهد البشرية له مثيلاً وكان المؤمنون وهم قليل قد ركبوا في السفينة { }'دdur "حچّgrB بِهِمْ فِي مَوْجٍ ةA$t6إfّ9$$x. } وبقي الكافرون وهم الأكثر- ولا عبرة بالكثرة- تتقاذفهم الأمواج، وفي هذا الجو الرهيب والوقت العصيب، يتطلع نوح (عليه السلام) إلى ابنه فيراه قد فر إلى جهة لم يكن قد وصلها الماء، { } وَنَادَى نُوحٌ ¼çmsYِ/$# وَكَانَ فِي 5Aح"÷ètB } قال ابن عطية: أي في ناحية، فيمكن أن يريد في معزل في الدين، ويمكن أن يريد في معزل في بعده عن السفينة(2). وقال أبو السعود (ت 951هـ): أي في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وأخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب بـ(اركبوا) واحتاج إلى النداء المذكور، وقيل في معزل عن الكفار، فقد انفرد عنهم، وظن نوح أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة.(3)
قال الرازي (ت 604هـ): ذكروا في معنى ذلك وجوهاً:
الأول: أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق.
الثاني: أنه كان في معزل عن أبيه وأخوته وقومه.
الثالث: أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنه فظن نوح (عليه السلام) أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم.(4)
ويتمثل الأسلوب الدعوي في هذا الموقف بما يلي:-
1- النداء بصلة القرابة
__________
(1) انظر : ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/447. وابن كثير أيضاً، البداية والنهاية ص113. والشوكاني، فتح القدير 2/499.
(2) المحرر الوجيز 3/174.
(3) إرشاد العقل السليم 4/210.
(4) التفسير الكبير 17/185.(1/31)
إن ذلك الموقف الذي شهده الأب والابن، أب في السفينة مع من آمن به قد نجاهم الله، وابن يصارع الغرق بين الأمواج، توجه الأب بالنداء للابن قائلاً (يا بني) فلعل تلك الكلمة تلامس قلبه، وتكون سبب نجاته، ليس في الدنيا فحسب، في الدنيا والآخرة.
2- الأمر والنهي
بعد التذكير بتلك الصلة، جاء الأمر بالركوب، والنهي عن البقاء مع الكافرين، فقال: { ارْكَبْ $sYyè¨B وَلَا تَكُنْ مَعَ z`ƒحچدے"s3ّ9$# } يحتمل أن يكون نهياً محضاً مع علمه أنه كافر، ويحتمل أن يكون خفي عليه حاله فناداه ألا يبقى -وهو مؤمن- مع الكفرة فيهلك بهلاكهم، والأول أبين(1). فالكفر هو سبب هلاك القوم، ناداه إلى الإيمان في هذا الموقف العصيب، ولكن الابن الجاحد المعاند لا يلبي دعوة الرحمة ولا يجيب داعي الإيمان، بل يعاند ويمضي في ركاب الشيطان قائلاً: { سَآَوِي إِلَى 5@t6y_ سة_كJإء÷ètƒ مِنَ الْمَاءِ } وهذا يدل على أن الابن كان متمادياً في الكفر مصراً عليه، مكذباً لأبيه فيما أخبر عنه(2). قال تلك المقولة ناسياً أن هذا الماء ليس سيلاً عادياً تصده التلال وتعصم منه الجبال، وإنما هو القضاء المبرم والقدرة النافذة،وأمر الله الذي لا يعصم منه عاصم (3).
3- اللجوء إلى الله (سبحانه وتعالى)
__________
(1) ابن عطية، المحرر الوجيز 3/174.
(2) انظر: الرازي، التفسير الكبير 17/186.
(3) انظر: محمد النجار، تاريخ الأنبياء ص 72، 73.(1/32)
في بعض الأحيان لا تفلح جهود الداعية مهما بلغت في استجابة المدعو، فيكون هنا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن، لما رأى نوح نهاية الأمر وهلاك الكافرين ومنهم ابنه ساورته أحاسيس العطف على ابنه والأسف العميق على نهايته، نادى ربه قائلاً: { إِنَّ سة_ِ/$# مِنْ 'ج?÷dr& وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ } أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ y7د=÷dr& } أي الذين وعدت إنجاءهم، لأني وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال: { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ } .(1)
وهذا الموقف الدعوي فيه تسلية للأتقياء والدعاة إلى الله في حال فساد أبنائهم بعد بذل الجهد معهم وفعل الأسباب في صلاحهم، فإن الله (سبحانه وتعالى) أحكم الحاكمين الذي لا يظلم أحداً في حكمه.
الدروس المستفادة
1- أهمية اقتران الخطاب الدعوي من الوالد للولد بالإشعار بصلة القرابة ممزوجة بالشفقة والرحمة.
2- الحرص على الإقناع والتعليل في التوجيه الدعوي.
3- أهمية الحوار الدعوي بين الوالد والولد.
4- التوجه إلى الله (سبحانه وتعالى) ودعائه بسلامة الولد وصلاحه.
5- اغتنام الفرص في دعوة الأبناء وتوجيههم.
6- عدم اليأس في دعوة الأبناء مهما بلغ بهم الفساد والبعد عن الله تعالى.
7- ليس عيباً على الوالد الداعية أن يضل أبناؤه إذا اجتهد في دعوتهم.
8- قد يحتاج الأمر إلى تحذير الولد من عاقبة فعله في الدنيا والآخرة، كما حذر نوح (عليه السلام) ابنه مآل الكافرين في الدنيا والآخرة.
9- تسليم الأمر لله (سبحانه وتعالى) في توجه الولد ومصيره.
10- إن عدم استجابة الولد لدعوة الوالد ليست بالضرورة دليلاً على فشل الدعوة.
النموذج الرابع
دعوة لقمان (عليه السلام) لابنه
النص الدعوي
{
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/448. وانظر : محمد محمود حجازي، التفسير الواضح 2/126..(1/33)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { 16 } يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ { 17 } وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ { 18 } وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [لقمان: 16-19].
الداعي:
هو لقمان الحكيم، ولقد اختلف السلف في لقمان هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة، على قولين، الأكثرون على الثاني، وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقيل في وصفه غير ذلك، وقال ابن كثير (ت 774هـ) في نسبه: هو لقمان بن عنقاء بن سدون (1).
المدعو:
هو ابن لقمان، قال السهيلي (ت 581هـ): اسمه تاران(2)، وقال الكلبي: مشكم. وقال النقاش (ت 414هـ): أنعم. وقيل ماتان. قال القشيري (ت465هـ): كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما(3).
موضوع الدعوة
1- التوحيد
2- الصلاة
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
4- حسن الخلق: تقدير الناس واحترامهم، وعدم الكبر، المشي المعتدل، عدم رفع الصوت فوق الحاجة.
المنهج
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 3/444، 445. وانظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14/41.
(2) غوامض الأسماء المبهمة ص 140.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14/43. وأبو السعود، إرشاد العقل السليم 7/71.(1/34)
تمثلت هذه الدعوة بشكل وصايا متتابعة من الأب الحكيم إلى ابنه، وصايا بأسلوب رقيق تحمل شفقة الأب تجاه ابنه، فهو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف، ويتمثل أسلوب الدعوة في هذا الموقف بما يلي:-
1- النداء بصلة القرابة
حيث كان لقمان يبتدئ وصيته في كل مرة بقوله (يا بني) ، وهذا النداء جدير بأن يجعل الابن يصغي لما يقوله الأب المشفق عليه.
2- البداءة بالأهم
ولهذا أوصاه أولاً بتلك القضية الكبرى (قضية التوحيد ) التي عليها مدار النجاة، أوصاه بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.
3- النهي والتعليل
النهي هنا هو النهي عن الشرك، حيث قال: { لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ } ثم قال معللاً ذلك النهي ومحذراً: { إِن x8ِژإe³9$# لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } أي هو أعظم الظلم(1). كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: لما نزلت { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):((إنه ليس بذلك، ألا تسمع لقول لقمان لابنه: { ّ¢سo_ç6"tƒ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِن x8ِژإe³9$# لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ))(2).
4- التدرج في بقية فقرات الوصية
__________
(1) انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3/445.
(2) الجامع الصحيح، كتاب التفسير، رقم الحديث 4776.(1/35)
الفقرة التالية من الوصية تقرر الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل، ولكنه لا يعرضها هكذا مجردة، إنما يعرضها مقرونة بلفت النظر إلى علم الله الشامل وقدرته الكاملة على كل شيء(1)، ثم عقب بجملة من الوصايا النافعة فقال: { يَا بُنَيَّ !$pk®Xخ) إِنْ تَكُ مِثْقَالَ 7p6xm مِنْ خَرْدَلٍ } أي أن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل { Nù'tƒ بِهَا اللَّهُ } أي يحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط ويجازى عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر كما قال تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ { 7 } وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7،8] ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء أو غائبة ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض فإن الله يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولهذا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ضژچخ7yz } أي لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت { ضژچخ7yz } بدبيب النمل في الليل البهيم(2). وبعد تلك الوصايا المتعلقة بجوانب العقيدة يعقب بأهم جوانب العبادة وهي الصلاة، ومن ثم الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها، { ¢¢سo_ç6"tƒ أَقِمِ الصَّلَاةَ ِ } أي بحدودها وفروضها وأوقاتها { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ حچs3ZكJّ9$# } أي بحسب طاقتك وجهدك { ِژة9ô¹$#ur عَلَى مَا أَصَابَكَ } علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى، فأمره بالصبر وقوله: { إِنَّ y7د9¨sŒ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } أي أن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور(3).
__________
(1) انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 5/2789.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3/446
(3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 3/447.(1/36)
وهذه الجملة من الوصية انتظمت توحيد الله.. وشعور برقابته.. وتطلع إلى ما عنده.. وثقة في عدله.. وخشية من عقابه.. ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والتزود لتلك المعركة مع الشر بالزاد الأصيل، زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة، ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله، من التواء النفوس وعنادها، وانحراف القلوب وإعراضها، ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي، ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء. إن ذلك من عز الأمور، وهو قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم.(1) فتضمنت الوصية تكميل النفس وتكميل الغير، فتكميل النفس بفعل الخير وترك الشر، وتكميل الغير بالأمر والنهي (2).
ثم يذكر لقمان في وصيته لابنه الهدي المشروع في مقابلة الناس قائلاً: { ¢ںwur تُصَعِّرْ x8£‰s{ لِلنَّاسِ ں } يقول: لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقاراً منك لهم واستكباراً عليهم، ولكن ألن جانبك وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث: ((ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة والمخيلة لا يحبها الله))(3) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (رضي الله عنه) في قوله: { وَلَا تُصَعِّرْ x8£‰s{ لِلنَّاسِ } قول لا تتكبر فتحتقر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك، وكذا روى العوفي وعكرمة عنه، وقال مالك عن زيد بن أسلم (رضي الله عنه): { وَلَا تُصَعِّرْ x8£‰s{ لِلنَّاسِ } لا تتكلم وأنت معرض.
__________
(1) انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 5/2790.
(2) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/159.
(3) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/63 . ولفظه : ((ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء، والخيلاء لا يحبها الله عز وجل)).(1/37)
وقوله: { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ $·muچtB } أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً، لا تفعل ذلك يبغضك الله ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي مختال معجب في نفسه فخور أي على غيره. ومع النهي عن مشية المرح أمره بمشية الاعتدال
{ وَاقْصِدْ فِي y7حô±tB } .
ثم ينتقل إلى موضوع آخر في الوصية { ّôظàزّî$#ur مِنْ صَوْتِكَ } أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ولهذا قال: { ّ¨bخ) uچs3Rr& دN¨uqô¹F{$# لَصَوْتُ خژچدJutù:$# } قال مجاهد وغير واحد إن أقبح الأصوات لصوت الحمير أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى وهذا التشبيه بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم. (1)
5- الشمول
هذه الوصايا من لقمان الحكيم لابنه تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها. وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، أو تركها إن كانت نهياً.(2) فقد جمع لقمان لابنه في هذا الموقف بين العقيدة والعبادة والأخلاق، فإن تحقيق العبودية لله (سبحانه وتعالى) والخلاص من الشرك يندرج تحته أمور كثيرة من تقوى الله (سبحانه وتعالى). والعلم بإحاطة الله (سبحانه وتعالى) بعباده تستلزم مراقبته وخشيته. كما أن إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما في قوله سبحانه: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45].
الدروس المستفادة
1- الحرص على التذكير برابط الصلة في الخطاب الدعوي بين الوالد والولد وتكرار ذلك وتوكيده.
__________
(1) انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3/447. وسيد قطب، في ظلال القرآن 5/2790.
(2) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/160.(1/38)
2- الحرص على الموضوعات الدعوية المهمة التي يحتاجها الولد.
3- الحرص على الإقناع والتعليل في التوجيه الدعوي.
4- التركيز على الدعوة إلى محاسن الأخلاق التي يحتاجها الأولاد.
5- استخدام أسلوب التمثيل الذي يكون معيناً على قبول الدعوة والانتفاع بها.
6- الإيجاز في التوجيه الدعوي.
7- التدرج في الموضوعات الدعوية.
المبحث الثالث
دعوة الأخ
دعوة موسى لهارون (عليهما السلام)
النص الدعوي
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف: 142 ].
الداعي:
هو نبي الله موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) الذي ابتعثه الله نبياً إلى بني إسرائيل، واختصه الله (سبحانه وتعالى) بكلامه من غير واسطة، وهو من أولي العزم من الرسل، ولقد ولد في مصر ونشأ وترعرع في بيت الطاغية فرعون في وقت كان فرعون شديد الحرص على قتل كل مولود ذكر في بني إسرائيل، وفي ذلك عبرة وعظه، ولقد نجا الله (سبحانه وتعالى) على يديه بني إسرائيل من الاستعباد والظلم الذي نالهم من الفراعنة، فخرج موسى ببني إسرائيل إلى سيناء بعد أن أهلك الله (سبحانه وتعالى) فرعون وقومه، ولقد لقي موسى (عليه السلام) من بني إسرائيل العنت والمشقة في دعوتههم إلى الله (سبحانه وتعالى)، وكانت وفاته (عليه السلام) في سيناء (1).
المدعو:
__________
(1) للاستزادة في سيرة موسى (عليه السلام) راجع -مثلاً-: ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك ص 231-256. وابن كثير، البداية والنهاية ص 237-319. ومحمد علي الصابوني، النبوة والأنبياء ص 181-203. محمد النجار، تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ص 173-227. ومحمود شلبي، حياة موسى ص 31-199.(1/39)
النص الدعوي المذكور يفيد أن الداعي نبي والمدعو كذلك نبي فهو هارون (عليه السلام) الذي أرسله الله (سبحانه وتعالى) نبياً إلى بني إسرائيل مع موسى استجابة لدعوة موسى (عليه السلام) { وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي { 29 } هَارُونَ أَخِي } [طه: 29، 30] وهو أخوه لأبيه وأمه. ولقد كان فصيح اللسان قوي الجنان { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [القصص: 34].(1)
موضوع الدعوة: الصلاح وعدم اتباع سبيل المفسدين، وهم العصاة.
المنهج:
هذا الموقف الدعوي جرى بين أخ وأخيه وكل منهما نبي من أنبياء الله (سبحانه وتعالى)، ولكن الأمر الذي يحسن التنبه له في هذا الموقف أن الداعي صاحب فضل كبير على المدعو، فلم ينفع أحد أخاه، كما نفع موسى أخاه هارون وذلك حين دعا الله أن يشركه معه في النبوة فاستجيبت الدعوة وتحققت النبوة، والدعوة كانت بمناسبة ذهاب موسى لميقات ربه واستخلافه لهارون على بني إسرائيل. والأسلوب الدعوي المتمثل في هذا الموقف على النحو التالي:-
1- النصيحة المباشرة، فالدعوة جاءت بشكل نصيحة مباشرة من الأخ لأخيه.
2- البلاغة والإيجاز
كانت تلك الكلمات الدعوية بالغة في الإيجاز واسعة في المعنى، فقوله: { ôxد=ô¹r&ur } أي اتبع طريق الإصلاح فيما يجب من أمور بني إسرائيل، والإصلاح يكون في كل شيء للنفس وللغير.
3- الأمر والنهي
__________
(1) انظر: محمد على الصابوني، النبوة والأنبياء ص 291-293.(1/40)
جمعت هذه الوصية بين الأمر والنهي، فالأمر بقوله: { ôxد=ô¹r&ur } ، فإن قيل: لما كان هارون نبياً، والنبي لا يفعل إلا الإصلاح، فكيف وصاه بالإصلاح؟ فالجواب: أن المقصود من هذا الأمر التأكيد، كقوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260] (1). والنهي بقوله: { وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } وهم الذين يعملون بالمعاصي(2). ومن دعاك منهم للإفساد فلا تتبعه ولا تطعه(3). واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم ومساعدتهم عليها ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقترافها.(4)
ومن جانب آخر فإن موسى (عليه السلام) لما وجه الدعوة لأخيه يعلم أن هارون (عليه السلام) نبي مرسل من ربه معه، ولكن المسلم للمسلم ناصح، والنصيحة حق واجب للمسلم على المسلم، ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل. وقد تلقى هارون النصحية ولم تثقل على نفسه، فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم، وتثقل على نفوس المتكبرين الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم(5).
__________
(1) الرازي، التفسير الكبير14/185.
(2) انظر: الرازي، التفسير الكبير 14/185. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 7/177. والسعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/87.
(3) الزمخشري، الكشاف 2/145.
(4) أحمد مصطفى المراغي، تفسير المراغي 9/569.
(5) انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 3/1368.(1/41)
وهذه الدعوة الموجهة إلى نبي من أنبياء الله إنما هي من باب التنبيه والتذكير، وإلا فهارون (عليه السلام) نبي شريف كريم على الله له وجاهة وجلالة، صلوات الله وسلامه عليه وسائر الأنبياء (1). وعلى هذا الأساس فإن الأتقياء والصلحاء من الناس عامة، ومن الإخوة خاصة بحاجة إلى التذكير والتنبيه اقتداءً بذلك الموقف الدعوي بين موسى وهارون (عليهما السلام).
الدروس المستفادة
1- استشعار أن الدعوة من المنافع المهمة التي ينفع فيه المرء أخاه.
2- توجيه الدعوة إلى الأخ الأكبر سناً مطلوب من الداعية في حال الحاجة إلى ... ذلك.
3- لا مانع من توجيه الخطاب الدعوي لمن هو عامل به وذلك من باب التأكيد والمزيد.
4- إن درجة صلاح الأخ مهما بلغت ليست مغنية عن توجبه الخطاب الدعوي إليه.
5- اختيار الكلمات المناسبة للأخ، وبالأخص إذا كان الأخ ذا مكانة، كما اختار موسى (عليه السلام) تلك الكلمة الموجزة البليغة (وأصلح) في مخاطبة أخيه.
المبحث الرابع
أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم) بدعوة أزواجه
النصوص الدعوية
(1) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً { 28 } وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب: 28، 29].
(2) { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب: 59 ]
الداعي: هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
المدعو:
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2/244.(1/42)
هن زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) التسع اللاتي مات عنهن، خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة (رضي الله عنهن). وثلاث من سائر العرب: ميمونة وزينب بنت جحش(1) وجويرية (رضي الله عنهن). وواحدة من بني هارون: صفية (رضي الله عنها). علماً بأن أول زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) توفيت في السنة السابعة من البعثة وقيل العاشرة.(2)
موضوع الدعوة: موضوع الدعوة في النص الأول هو الرضى بالله ورسوله وما يترتب على ذلك من العمل الصالح والإعراض عن الحياة الدنيا وزينتها. وأما في الثاني فهو الاحتشام والحجاب عن الرجال الأجانب.
المنهج
__________
(1) وزينب (رضي الله عنها) قريبة من قريش؛ لأنها تنتسب إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وقبيلة قريش هم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ... وأمها قرشية وهي أميمة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . (انظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب 12/449. وعمر كحالة، معجم قبائل العرب 1/21، 3/947)
(2) انظر : القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14/111- 113، 14/155. والشوكاني، فتح القدير 4/275. وابن سيد الناس، عيون الأثر 2/393-406. وابن القيم، زاد المعاد 1/105-114. ود. أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة 2/643-653. والندوي، السيرة النبوية ص 357-362.(1/43)
هذا الموقف الدعوي هو أمر من الله (سبحانه وتعالى) لرسوله (صلى الله عليه وسلم) بتوجيه الدعوة إلى أزواجه، ومن خلال هذا الأمر يظهر الأسلوب الدعوي وهو التخيير، ففي النص الأول المتعلق بتخيير زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) نجد الموقف الدعوي الحكيم تخيير بين أمرين: الحياة الدنيا وزينتها ومفارقة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أو إرادة الله والدار الآخرة والبقاء مع الرسول (صلى الله عليه وسلم). إنها دعوة إلى الإعراض عن الحياة الدنيا، ولكن بأسلوب جميل، أسلوب التخيير دون الإلزام والإجبار، إنه يخير نساءه (عليه الصلاة والسلام) بين الدنيا والآخرة، كما تروي لنا عائشة (رضي الله عنها) جانباً من هذا التخيير، فتقول: ((... فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة، فقال: إني ذاكر لك أمراً، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك. قالت: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك. ثم قال: إن الله قال: يا أيها النبي قل لأزواجك إلى قوله عظيماً. قلت: أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة))(1).
إذاً كل زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) اخترن هذا الخيار، اخترن حب الله ورسوله على الحياة الدنيا وزينتها.
وقيل في سبب التخيير أن بعض زوجاته سألنه شيئاً من عرض الدنيا، وقيل زيادة في النفقة، وقيل آذينه بغيرة بعضهن على بعض(2). وفي رواية لمسلم قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لعمر: ((هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ))(3). وسؤال المرأة زوجها النفقة وإن توسعت في ذلك إنما هو أمر مباح، ولكنها التربية النبوية لزوجات المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
__________
(1) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المظالم والغصب، رقم الحديث 2468.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14/106. وابن الجوزي، زاد المسير 6/376.
(3) صحيح مسلم، كتاب الطلاق، حديث 2703.(1/44)
كما لا بد ن أن نلمح إلى حاله هو (عليه الصلاة والسلام) الذي اقتصد في العيش ابتغاء ما عند الله، وفي القصة المذكورة يبين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه ) شيئاً من حال النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث يقول: ((دخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال(1) حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف فسلمت عليه... ثم رفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة(2) ثلاثة فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله وكان متكئاً فقال: أوفي شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا))(3).
من هنا لا بد أن نعلم أن الحال التي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يريد من زوجاته أن يكن عليها نجده هو أكمل حال فيها.
وفي التخيير فائدة دعوية جميلة وهي أن المختار يكون لديه الاستعداد لما يترتب على هذا الخيار من لوازم بعد ذلك، وأنه ترك المرغوب عنه عن طواعية واختيار فلا تتعلق به نفسه.
__________
(1) بكسر الراء ويجوز ضمها، يقال : رَمَلَ الْحَصِير إِذَا نَسَجَهُ , والمراد ضلوعه المتداخلة بمنزلة الخيوط في الثوب المنسوج، وكأنه لم يكن فوق الحصير فراش ولا غيره بحيث لا يمنع تأثير الحصير. (ابن احجر، فتح الباري 5/117. وانظر : الزبيدي، تاج العروس 7/350. والجوهري، الصحاح 4/1713 مادة [رمل] ).
(2) الإهاب : الجلد مالم يدبغ. (الجوهري، الصحاح 1/89 مادة [أهب] ).
(3) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المظالم والغصب، رقم الحديث 2468.(1/45)
إن المنهج الدعوي في هذا موقف النبي (صلى الله عليه وسلم) مع زوجاته فيه تنبيه للزوج المعاصر الداعية في حسن المعاملة مع الزوجة فهو سبب في قبول الدعوة، فهذا النبي (صلى الله عليه وسلم) وعد زوجاته في طلاقهن بالتسريح بإحسان وهو التسريح من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر وانشراح بال(1).
وأما النص الثاني المتعلق بالحجاب، فقد سبق الحديث عنه في الكلام على دعوة الأبناء، ولكن مما يجب التنبه له هنا في هذا الإطار هو الحرص على سلامة الزوجات بتوجيههن ودعوتهن مهما بلغن من التقى والصلاح والعفاف، فإنهن لن يصلن إلى ما كان عليه زوجات رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ومما ينبغي ذكره أيضاً أن عائشة (رضي الله عنها) قد فهمت التوجيه جيداً فهي تدعو النساء بشأن الحجاب: فقد دخل نسوة من بني تميم على عائشة (رضي الله عنها) وعليهن ثياب رقاق فقالت عائشة: إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات وإن كنتن غير مؤمنات فتمعتينه(2). وأدخلت امرأة عروس على عائشة (رضي الله عنها) وعليها خمار قبطي معصفر فلما رأتها قالت: لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا. وثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (( نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)).(3)
الدروس المستفادة
1- العناية بتوجيه الدعوة إلى الزوجات.
2- شمول الزوجات بتوجيه الدعوة إليهن في حالة وجود أكثر من زوجة.
3- مهما بلغ صلاح الزوجات فلا يستغنين عن توجيه الدعوة لهن.
4- مهما بلغ صلاح المجتمع فلا يغفل الزوج عن صيانة زوجاته من أعين الفسقة.
5- الاعتناء بحسن الخطاب الدعوي مع الزوجات.
__________
(1) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/214.
(2) هكذا في أكثر من نسخة، ولعلها : فتمتعن به .
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14/156. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، رقم الحديث 2128.(1/46)
6- استخدام التمثيل عند الحاجة في الخطاب الدعوي للزوجات.
المبحث الخامس
سائر الأقربين
النموذج الأول
أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم ) بدعوة أهله
النص الدعوي
{ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [طه: 132 ].
الداعي: هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
المدعو: الأهل، والمراد بهم قومه عامة، أو أهل بيته خاصة.(1)
موضوع الدعوة: الصلاة.
المنهج
في هذه الآية توجيه من المولى (سبحانه وتعالى) لنبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) بالعناية بأهله وأمرهم بالصلاة، والأسلوب الدعوي الظاهر من هذا النص هو ما يلي:-
1- الأمر بالصلاة
فالدعوة هنا هي أمرهم بالصلاة، وقد يكون الأمر للترغيب، كما في صلاة النافلة، أو للإلزام في الصلاة الواجبة. والأمر بالشيء أمر بجميع ما لا يتم إلا به فيكون أمراً بتعليمهم ما يصلح الصلاة وما يفسدها وما يكملها(2).
2- القدوة الصالحة
كون الداعية قدوة صالحة للمدعوين مما يفيد في استجابتهم للدعوة، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكمل قدوة لهذه الأمة. وكما جاء في الآية الأمر بالصلاة فإن من كمال الأمر وتمام الدعوة أن يكون هو قدوة صالحة لهم، ولذا قال الله (سبحانه وتعالى) له: { ِژة9sـô¹$#ur عَلَيْهَا } وكون الداعي قدوة في ذلك هو وعظ بلسان الفعل، فإن الوعظ بلسان الفعل أتم منه بلسان القول.
__________
(1) انظر : ابن الجوزي، زاد المسير 5/335.
(2) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/203.(1/47)
وجاء في صحيح البخاري ما يدل على إيقاظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي وفاطمة (رضي الله عنهما)، فقد أخبر علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طرقه وفاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلة فقال: (( ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلنا ذلك ولم يرجع إليَّ شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً))(1).
قال ابن حجر (ت 852هـ) في شرحه للحديث: قال الطبري: لولا ما علم النبي (صلى الله عليه وسلم) من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه، في وقت جعله الله لخلقه سكناً، ولكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون، امتثالاً لقوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ دo4qn=¢ء9$$خ/ } الآية.(2)
كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يوقظ عائشة (رضي الله عنها) للوتر، كما في صحيح البخاري عن عائشة (رضي الله عنها ) قالت: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني))(3).
ويتأكد إيقاظ النبي (صلى الله عليه وسلم) لأهله في رمضان، كما في البخاري أيضاً عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.(4)
__________
(1) الجامع الصحيح، كتاب التهجد، رقم الحديث 1127.
(2) جامع البيان 16/169 . وانظر : فتح الباري 3/11.
(3) الجامع الصحيح، كتاب الوتر، رقم الحديث 997.
(4) الجامع الصحيح، كتاب صلاة التراويح، رقم الحديث 2024.(1/48)
كما اقتدى به أصحابه (رضي الله عنهم ) فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية(1). ففي موطأ الإمام مالك عن زيد ابن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة،
ثم يتلو هذه الآية { وَأْمُرْ أَهْلَكَ دo4qn=¢ء9$$خ/ ِژة9sـô¹$#ur عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } .(2) وقراءة عمر (رضي الله عنه) للآية لتأكيد قصده بالامتثال(3).
الدروس المستفادة
1- كون الداعية قدوة لأهله فيه أثر كبير لقبولهم دعوته.
2- يجدر بالداعية الذي له نصيب من قيام الليل أن يحث أهله على هذا الخير.
3- عناية الداعية بنفسه واجتهاده في طاعة ربه والتقرب إليه يحتاج إلى صبر ومصابرة، وذلك معين له في قيامه بالدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى).
4- ينبغي للداعية أن تغلب شفقته على أهله في أمور الآخرة على شفقته عليهم في أمور الدنيا.
النموذج الثاني
أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم ) بدعوة عشيرته الأقربين
النص الدعوي
{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ { 214 } وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ { 215 } فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ { 216 } وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [الشعراء: 214-217 ].
الداعي: هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 11/174.
(2) الموطأ، كتاب الصلاة، رقم الحديث 257.
(3) الباجي، المنتقى شرح موطأ الأمام مالك 1/213 .(1/49)
المدعو: هم عشيرته الأقربون، وهم قريش، وقيل بنو عبدمناف. وقيل بنو هاشم. ووقع في صحيح مسلم ((وعشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين))(1).
موضوع الدعوة: الإسلام ونبذ الشرك بالله
المنهج:
هذا الموقف هو أمر من الله (سبحانه وتعالى) بتوجيه الدعوة للعشيرة الأقربين بأسلوب الإنذار، والإنذار بمعنى الإبلاغ ، ولا يكون إلا في التخويف(2).
كان ذلك الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد تسلية الله (سبحانه وتعالى) لرسوله بذكر شيءٍ من قصص الأنبياء قبله وما تبعها، ثم أجاب عن سؤال المنكرين، أمره بعد ذلك بما يتعلق بالتبليغ والرسالة، فرتب له طريق الإنذار بدءاً بالأقرب فالأقرب والرفق بالمؤمنين، ثم ختم وصاياه له بالتوكل عليه وحده.(3)
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 13/96. والشوكاني، فتح القدير 4/120. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 208.
(2) الجوهري، الصحاح 2/825، مادة [نذر] .
(3) انظر : الرحيلي، التفسير المنير 19/235.(1/50)
وإنذار العشيرة الأقربين هو جزء من الإنذار العام لأمته، وأما عن كيفية هذا الإنذار الذي أمر به للعشيرة 0فقد وردت أحاديث عدة تروي لنا كيفية قيام النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذا الأمر ومن ذلك ما ورد عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: لما أنزل الله عز وجل { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ڑْüخ/uچّ%F{$# } أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) الصفا فصعد عليه، ثم نادى: يا صباحاه. فاجتمع الناس إليه بين رجل يجئ إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا. وأنزل الله { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1].(1)
وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: لما نزلت { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ڑْüخ/uچّ%F{$# } قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الصفا فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم))(2).
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/307، واللفظ له. والبخاري، الجامع الصحيح، كتاب تفسير القرآن، رقم الحديث 4770.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 304.(1/51)
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال لما نزلت هذه الآية { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ ڑْüخ/uچّ%F{$# } دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قريشاً فعم وخص فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبدمناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها))(1).
وإذا جئنا نتأمل هذا النداء وصلته بنسب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإن نسبه هو: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر - وهو الملقب بقريش وإليه تنسب القبيلة- بن مالك بن النضر...(2)
نجد أن كل من له صلة برسول الله (صلى الله عليه وسلم) من طريق عبدالمطلب أو طريق هاشم أو طريق عبدمناف أو طريق كعب أو عن طريق فهر، كلهم شملهم هذا النداء، بل ويتكرر النداء في حق بعضهم كلما كانت القرابة أشد، فعل سبيل المثال فإن النداء لفاطمة (رضي الله عنها) شملها النداء لكل البطون لأنها منهم.
ويتضح هذا من التثيل التالي:-
وفي شكل آخر يتضح التدرج الهرمي لنداء رسول الله (صلى الله عليه سلم) لتلك البطون، كما يلي:-
مخطط هرمي
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/360 واللفظ له. ومسلم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 204.
(2) انظر : ابن إسحاق، السيرة النبوية ص1 . وابن هشام، السيرة النبوية ص1 . والمباركفوري، الرحيق المختوم ص55-61.(1/52)
ومن باب البداءة بإنذار العشيرة الأقربين ما قاله (صلى الله عليه وسلم) في خطبته في حجة الوداع: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله))(1). قال النووي (ت 677هـ): (( في هذه الجملة إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل بها قبض، وأنه لا قصاص في قتلها، وأن الإمام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام، وأما قوله صلى الله عليه وسلم (تحت قدمي) فإشارة إلى إبطاله))(2).
الدروس المستفادة
1- الأقربون من الداعية مهما كانت درجة القربة لهم حق الدعوة عليه.
2- العناية بدعوة الأقربين فيها اقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم).
3- كلما ازدادت القربة زاد التوكيد في توجيه الدعوة إليهم، فدعوة الوالدين آكد من دعوة الأخوة، ودعوة الأخوة آكد من أبناء العم، وهكذا...
4- التوكل على الله (سبحانه وتعالى) في دعوة العشيرة الأقربين.
5- الداعية الذي بلغ دعوته إلى عشيرته يكون أعذر إلى ربه سبحانه.
النموذج الثالث
دعوة إسماعيل (عليه السلام) لأهله
النص الدعوي
{ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } [ مريم: 55 ].
الداعي
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، رقم الحديث 1218.
(2) النووي، شرح صحيح مسلم 8/182.(1/53)
هو إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليهما السلام)، وهو والد عرب الحجاز كلهم (1). ولقد كان رسولاً نبياً كما وصفه ربه بقوله: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } [مريم: 54]. ومن نسله جاء نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم). ولقد أثنى الله (سبحانه وتعالى) عليه في مواضع عدة من كتابه. هاجر به والده مع أمه هاجر إلى مكة، ولما كبر إسماعيل تزوج امرأة من جرهم.(2)
المدعو:
هم الأهل من زوجة وأبناء ونحوهم من القرابات، وقيل في معنى الأهل في هذه الآية: الأمة، وجرهم وهم قوم إسماعيل(3).
الموضوع: الصلاة والزكاة، وهما أشرف العبادات.
المنهج
هذا الموقف هو بيان حال إسماعيل (عليه السلام) في دعوته لأهله، وهو ثناء جميل من الله (سبحانه وتعالى) على عبده في هذا الموقف الدعوي، ويتمثل الأسلوب الظاهر من النص بما يلي:-
1- الأمر
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3/126.
(2) للاستزادة في سيرة إسماعيل (عليه السلام) انظر - مثلاً -: ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك ص 189. وابن كثير، البداية والنهاية ص191-193. ومحمد علي الصابوني، النبوة والأنبياء ص 262- 264.
(3) ابن الجوزي، زاد المسير 5/240. والرازي، التفسير الكبير 21/199.(1/54)
وهو أمرهم بالصلاة والزكاة، سواء كان أمر ترغيب في النوافل، أو أمر إلزام في الفرائض، فكان يأمر أهله بالصلاة المتضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة المتضمنة للإحسان إلى العبيد، فكمل نفسه وكمل غيره وخصوصاً أخص الناس عنده وهم أهله لأنهم أحق بدعوته من غيرهم(1). وهذا داخل في وقاية الأهل من النار كما في قوله (سبحانه وتعالى): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]. والاشتغال بأمر الأهل هو من باب الاشتغال بالأهم، وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هم أقرب الناس إليه(2).
وقال الرازي: ((والأقرب في الأهل أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع فيدخل فيه كل أمته من حيث لزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة، هذا إذا حمل الأمر على المفروض من الصلاة والزكاة، فإذا حمل على الندب فيهما كان المراد أنه كما كان يتهجد بالليل يأمر أهله أي من كان في داره في ذلك الوقت بذلك وكان نظره لهم في الدين يغلب على شفقته عليهم في الدنيا، بخلاف ما عليه أكثر الناس. وقيل: كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم))(3).
__________
(1) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5/118.
(2) انظر : الألوسي، روح المعاني 16/105.
(3) التفسير الكبير 21/199.(1/55)
والداعية الذي يسعى إلى هذا المنهج من حث الأهل على الخير له فضل عظيم، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ((رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))(1).
وفي حديث آخر عن أبي سعيد وأبي هريرة (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات))(2).
2- القدوة الحسنة
مع ذكر الله (سبحانه وتعالى) عن إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة بين حاله في نفسه حيث قال: { وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } أي رضياً زاكياً صالحاً(3). وهذا يعني أنه قد كمل نفسه فيه، فكان قدوة لمدعوية.
الدروس المستفادة
1- اعتناء الداعية بأهله دليل على إخلاصه.
2- العناية بدعوة الأهل إلى العبادات المهمة.
3- قيام الداعية بدعوة أهله هو جانب من جوانب الثناء عليه، وفيه تحقيق لمرضاة الله (سبحانه وتعالى).
الخاتمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:-
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، رقم الحديث 1308 واللفظ له. والنسائي في سننه، كتاب قيام الليل، رقم الحديث 1611. وابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، رقم الحديث 1336.
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة رقم الحديث 1309. وابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، رقم الحديث 1335. واللفظ له.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 11/78.(1/56)
فبعد الوقوف على عدد من النماذج الدعوية التي ساقها القرآن الكريم في دعوة الأقربين، وبيان ما فيها من الأساليب، يجدر التأمل فيها والسير على نهجها، وذلك طلباً للنجاة من النار التي أخبر الله (سبحانه وتعالى) عنها بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]. فإن الحريص على سلامة أقاربه في دينهم يتطلب منه تحري المنهج السليم في دعوتهم إلى الله (سبحانه وتعالى).
ففي شأن الأب يجد الداعية التوجيه القرآني في كيفية مخاطبتة بالدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى)، وكيف يكون موقف الابن الداعية إلى الله (سبحانه وتعالى) في حال الصد والإعراض صيانة لحق الأبوة وواجب الدعوة. وليدرك الداعية أن من أعظم وجوه البر بالأب هو رعايته في أمر دينه بدعوته إلى المولى (سبحانه وتعالى).
كما يجد أيضاً ذلك المنهج الحكيم في كيفية مخاطبة الأبناء بالدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى)، تلك المخاطبة الممزوجة بالرحمة والشفقة عليهم، وفيه أيضاً تسلية للداعية في حال صد الابن وإعراضه وعدم استجابته لداعي الإيمان الصادر من الوالد الحنون المشفق على ولده من المصير المخزي. كما لا بد أن يستشعر الداعية وقوفه يوم القيامه حين يسأله ربه عن هذه الرعاية.
ويجد الداعية أيضاً منهجاً حكيماَ في مخاطبة آخرين من الأقارب، كالإخوان، والأزواج، ونحوهم من العشيرة الأقربين الذين جاء الحث على تبليغهم الدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى) لما لهم من الحق الخاص على الداعية، وفي هذا سير على نهج سيد الدعاة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي لم يدخر وسعاً في دعوته لعشيرته الأقربين.(1/57)
ولذا فإنه حري بالداعية الحريص على نفع أقاربه السير على هذا المنهج الحكيم، والتغلب على تلك العواطف التي تمنع الداعية من توجيه دعوته إلى أقاربه، فإن بعض العلاقات الأسرية يشوبها شيء من النزاع والخلاف، وربما الانقطاع، فيكون ذلك سبباً في منع الدعوة عنهم. وإن الداعية المخلص يتجاوز كل تلك الخلافات ويبذل دعوته إلى أقاربه، فإن سيد الدعاة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) لم تمنعه عداوة أبي لهب من أن يبلغه الدعوة.
وإن مما يوصي به الباحث في ختام هذا البحث ما يلي:-
1- الحرص على دعوة الوالدين لما لهم من الحق على الأولاد وسلوك المنهج القرآني في مخاطبتهم في الدعوة، وذلك بتأمل ما عندهم من النقص في جوانب الدين، فإن كانا غير مسلمين تكون دعوتهم إلى الإسلام، وإن كان مسلمين تتم دعوتها في جوانب التقصير سواء كانت ترك واجبات، أو وقوع في محرمات.
2- إن نفع الأبناء ليس مقصوراً على التربية البدنية، بل أعظم من ذلك التوجيه الدعوي القائم على المنهج القرآني. ويكون ذلك بتعليمهم كتاب الله، وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وغرس العقيدة السليمة فيهم، وأمرهم بالصلاة وتعليمهم العبادات على الوجه الصحيح. فإن المسؤولية الدعوية تقع في الدرجة الأولى على الوالدين، فإذا أغفل الوالدان واجبهما في ذلك ربما كان ذلك سبباً في انحراف الأبناء عن الطريق المستقيم.
3- لابد أن يحرص الداعية على نفع إخوانه وأخواته بالتوجيه إلى الخيرات والتحذير من المنكرات، ولو كانوا أكبر وأصلح. فإن رابطة النسب لها من الحقوق ما لها، وأعظم هذه الحقوق ما يتعلق بالدين من دعوتهم إلى الله (سبحانه وتعالى)، وقد يكون الأخ أكبر من الداعية أو أصغر فيختار الأخ الداعية لكل ما يناسبه من نوع الخطاب الدعوي، ولا يغفل عن الكلمة الطيبة والهدية النافعة، التي تقرب الأخ لأخيه وتكون سبباً في قبول الدعوة.(1/58)
4- الأزواج لهم حقوق على أزواجهم ومن أهم هذه الحقوق التوجيه الدعوي المتسم بمنهج القرآن الحكيم. فإن الزوجين أكثر معرفة بحال بعضهما، فيجتهد كل منها بدعوة زوجه، ويكون بينهما تعاون على الخير، لأنهما يعيشان مع بعضهما، فيوقظ الزوجه زوجه للصلاة -مثلا- ويحثه على الخيرات، ويحذره من المنكرات، ونحو ذلك من الجوانب الدعوية التي تكون متيسرة للزوجين دون غيرها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قائمة مراجع البحث
1- إبراهيم (عليه السلام) في التوراة --دراسة عقدية في ضوء القرآن الكريم- سليمان الراجحي، رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود1420-1421هـ.
2- إبراهيم (عليه السلام) ودعوته في القرآن الكريم، أحمد البراء الأميري، ط1(دار المنارة، جدة، 1406هـ).
3- الاحتساب على الوالدين، د. فضل إلهي، ط1 (إدارة ترجمان الإسلام، باكستان، 1418هـ).
4- إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود)، أبو السعود، نشر(دار إحياء التراث، بيروت )، د.ت.
5- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، نشر(درا إحياء التراث العربي، بيروت)، د. ت.
6- الإصابة في تمييز حياة الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ط1(مطبعة السعادة، مصر، 1328هـ).
7- أضواء البيان، الشنقيطي، طبع على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبدالعزيز(1403هـ).
8- الأنبياء في القرآن، سعد صادق محمد، ط1 (دار اللواء، الرياض، 1402هـ).
9- أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي، نشر(دار الكتب العربية الكبرى، مصر )، د.ت.
10- البحر المحيط، ابن حيان، نشر (مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض). وكذلك ط1( دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ).
11- تاج العروس، الزبيدي، ط1 (المطبعة الخيرية، مصر، 1306هـ).
12- تاريخ الأنبياء في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية، محمد النجار، ط2(مكتبة المعارف، الرياض، 1403هـ).(1/59)
13- التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، نشر(الدار التونسية للنشر، تونس)، د. ت.
14- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ط1 (دار الفكر، 1400هـ).
15- التفسير الكبير، الرازي، ط1 (دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ).
16- تفسير المراغي، المراغي، ط4 (مصطفى الحلبي، مصر، 1389هـ).
17- التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، الرحيلي، ط1(دار الفكر، بيروت، 1411هـ).
18- التفسير الواضح، محمد محمود حجازي، ط10(دار الجيل، بيروت، 1413هـ).
19- تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، ط1(دار الفكر، بيروت، 1404هـ).
20- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، نشر(الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1410هـ).
21- جامع البيان في تفسير القرآن. الطبري، نشر(دار الحديث، القاهرة، 1407هـ).
22- الجامع الصحيح، البخاري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط1 (المطبعة السلفية، القاهرة، 1400هـ ).
23- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، نشر (دار الكتب العلمية، 1413هـ).
24- جواهر الحسان في تفسير القرآن (تفسير الثعالبي)، الثعالبي، نشر(مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت)، د.ت.
25- حياة موسى، محمود شلبي، ط2 (دار الجيل، بيروت، 1407هـ).
26- دعوة الرسل إلى الله تعالى، محمد أحمد العدوي، نشر(مطبعة مصطفى الحلبي، مصر)، د. ت.
27- الرحيق المختوم، المباركفوري، ط3 (دار الوفاء، المنصورة، 1407هـ).
28- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع والمثاني، الألوسي، ط4 (دار إحياء التراث، بيروت، 1405هـ).
29- زاد المسير، ابن الجوزي، ط1 (المكتب الإسلامي)، د. ت.
30- زاد المعاد، ابن القيم، ط3 (مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ).
31- سنن ابن ماجه، ابن ماجه، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر(المكتبة الإسلامية، استانبول)، د. ت.(1/60)
32- السنن، أبو داود، إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، ط1 (دار الحديث، بيروت، 1388هـ). وكذلك تحقيق عبدالقادر أحمد عطا، نشر (مكتبة الرياض الحديثة)، د.ت.
33- السنن، الدارمي، نشر(دار الكتب العلمية، بيروت)، د. ت.
34- السنن، النسائي، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي، ترقيم أبي غدة، ط2 (مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، 1406هـ).
35- سيرة إبراهيم الخليل (عليه الصلاة والسلام) في القرآن المجيد والأحاديث الصحيحة، هشام فهمي العارف، ط1(دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1417هـ).
36- السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، ط6 (مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1415هـ).
37- السيرة النبوية، ابن إسحاق، تحقيق محمد حميد الله، بدون ناشر.
38- السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزميليه، نشر(دار المعرفة، بيروت).
39- السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي، ط4 (دار الشروق، بيروت، 1402هـ ).
40- شرح صحيح مسلم، النووي، ط2 (دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1392هـ).
41- الصحاح، الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط3 (دار العلم للملايين، بيروت، 1404هـ).
42- صحيح ابن حبان، ابن حبان، ترتيب ابن بلبان الفارسي، ط1 (دار الكتب العلمية، 1407).
43- صحيح مسلم، الإمام مسلم، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نشر (رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1400هـ).
44- العهد القديم (دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط)، د. ت.
45- عيون الأثر، ابن سيد الناس، ط1(دار التراث، المدينة المنورة، 1413هـ ).
46- غوامض الأسماء المبهمة والأحاديث المسندة في القرآن، عبدالرحمن السهيلي، ط1(دار الفكر العربي، بيروت، 1988م).
47- فتح الباري، ابن حجر، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، تصحيح وتعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، نشر(رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض)، د. ت.(1/61)
48- فتح القدير، الشوكاني، نشر(دار الفكر)، د.ت.
49- في ظلال القرآن، سيد قطب، ط12 (دار الشروق، بيروت،1406 هـ).
50- الكشاف، الزمخشري، ترتيب وضبط وتصحيح محمد عبدالسلام شاهين، ط1(دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ).
51- الله والأنبياء في التوراة والعهد القديم، محمد علي البار، ط1 (دار القلم. دمشق، 1410هـ).
52- المحرر الوجيز، ابن عطية، تحقيق عبدالسلام عبدالشافي محمد، ط1( دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ).
53- المسند، الإمام أحمد بن حنبل، ط5 (المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ).
54- معالم التنزيل (تفسير البغوي)، البغوي، تحقيق محمد عبدالله النمر وآخرين، نشر(دار طيبة، الرياض، 1411هـ).
55- معجم قبائل العرب،عمر رضا كحالة، ط6(مؤسسة الرسالة، بيروت،1412هـ).
56- معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، نشر(دار إحياء التراث العربي، بيروت)، د. ت.
57- الملل والنحل، الشهرستاني، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، نشر(دار الفكر)، د. ت.
58- المنتقى شرح موطأ الأمام مالك، الباجي، ط1 (مطبعة السعادة، مصر، 1332هـ).
59- الموطأ، الإمام مالك، ط6 (دار النفائس، بيروت، 1406هـ).
60- النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، ط1( عالم الكتب، بيروت، 1405هـ).
فهرس محتويات البحث
تقديم ... 2
المبحث الأول: دعوة الأب - دعوة إبراهيم(عليه السلام) لأبيه ... 8
المبحث الثاني: دعوة الأولاد ... 18
النموذج الأول: أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم ) بدعوة بناته ... 18
النموذج الثاني: دعوة إبراهيم ويعقوب (عليهما السلام) لبنيهما ... 21
النموذج الثالث: دعوة نوح (عليه السلام) لابنه ... 26
النموذج الرابع - دعوة لقمان لابنه ... 31
المبحث الثالث: دعوة الأخ- دعوة موسى لهارون (عليهما السلام) ... 37
المبحث الرابع: أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم ) بدعوة أزواجه ... 41
المبحث الخامس: سائر الأقربين ... 45
النموذج الأول: أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم ) بدعوة أهله ... 45(1/62)
النموذج الثاني: أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وسلم ) بدعوة عشيرته الأقربين ... 48
النموذج الثالث: دعوة إسماعيل (عليه السلام) لأهله ... 52
الخاتمة ... 55
قائمة مراجع البحث ... 58
ملخص البحث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فإن هذا البحث يهدف إلى إبراز نماذج دعوة الأقربين الواردة في القرآن، كدعوة الآباء والأولاد والأخوة والزوجات والعشيرة ونحوهم، وقد تم عرض بعض النماذج الدعوية فيه، ففي دعوة الوالد نجد دعوة إبراهيم لأبيه. وفي دعوة الأولاد نجد دعوة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) لبناته، وكذلك دعوة نوح وإبراهيم ويعقوب لأبنائهم، ومن ثم دعوة لقمان لابنه. وفي دعوة الأخ نجد موقف موسى مع هارون (عليهما السلام). وأما في دعوة الأزواج فنجد دعوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لزوجاته. وفي دعوة سائر الأقربين نجد دعوة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) لعشيرته الأقربين تنفيذاً لأمر به (سبحانه وتعالى) وغير ذلك.
ولقد عرض البحث لمنهج القرآن الكريم في دعوة هذا الصنف من الناس وما فيه من الأساليب الدعوية، فهو المنهج الحكيم، والطريق المستقيم، ففي شأن الوالد يجد الداعية التوجيه القرآني في كيفية مخاطبة الوالد بالدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى)، وكيف يكون موقف الابن الداعية إلى الله (سبحانه وتعالى) في حال الصد والإعراض صيانة لحق الأبوة وواجب الدعوة.
كما يحد أيضاً ذلك المنهج الحكيم في كيفية مخاطبة الأبناء بالدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى)، تلك المخاطبة الممزوجة بالرحمة والشفقة عليهم، وفيه أيضاً تسلية للداعية في حال صد الابن وإعراضه وعدم استجابته لداعي الإيمان الصادر من الوالد الحنون المشفق على ولده من المصير المخزي.(1/63)
ويجد الداعية أيضاً منهجاً حكيماَ في مخاطبة آخرين من الأقارب كالإخوان ولأزواج ونحوهم من العشيرة الأقربين الذين جاء الحث عليهم في تبليغهم الدعوة إلى الله (سبحانه وتعالى) لما لهم من الحق الخاص على الداعية. كما أنه قد ورد في البحث الدروس المستنبطة من كل نموذج ليستفيد الداعية المعاصر منها لتطبيق المنهج القرآن في دعوته للأقربين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/64)