دَعْوة أهل السُّنة والجمَاعة
(على طريق إحياء الأمَّة)
الطريق إلى الجَنَّة
الطريق الذي به يتغير حال الأمة من حالة الذل والضعف والهوان ـ كما يريد لها الأعداء ـ إلى حالة العز والقوة والمجد كما يريد لها الله عزَّ وجلّ
تأليف فضيلة الشيخ
عبد المجيد بن يوسف الشاذلي
تقديم فضيلة الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
http://www.alshazly.net/
الطبعة الإلكترونية الأولى
أبريل 2007
سئل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يا أبا عبد الرحمن، ما الصراط المستقيم ؟ قال: تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد (طرق) وعن يساره جواد (طرق). وعليها رجال يدعون من مر بهم، هلمّ لك هلمّ لك، فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار ومن استقام إلى الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة.
ثم تلا ابن مسعود: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1).
( الاعتصام الجزء الأول)
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } (2).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } (3).
لمن هذا الكتاب؟
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 153.
(2) سورة الأنعام، الآية: 122.
(3) سورة الأنفال، الآية: 24.(1/1)
إننا نتوجه في خطابنا هذا ليس فقط إلي العلماء العاملين الذين أضاءوا لهذه الأمة طريقها.. وليس فقط إلي الربانيين الذين يربون أمتهم علي صغار مسائل العلم قبل كبارها.. وليس فقط إلي الدعاة الذين حملوا مشعل هذه الرسالة يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله، متحملين في سبيل هذا البلاغ ما يقابلهم به شياطين الإنس من قتل أو سجن أو تشريد أو تعذيب بأشنع وسائل التعذيب.. ولكن نتوجه به إلي الأمة كلها.. علمائها وربانييها.. دعاتها وصفوتها..
دهمائها وعامتها. فإن النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم...
نتوجه به إلي كل من آمن بهذا الدين...
إلي كل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ورسولًا...
إلى كل من يشتاق لرؤية الله عز وجل وينعم برحمته وكرمه وفضله في جنات النعيم... لكل هؤلاء نتوجه إليهم بهذا الخطاب.. لعل الله أن ينفعنا وينفعهم به... إنه نعم المولى ونعم المجيب.
} - -
تقديم:
الحمد لله الذي سهل طريق العبادة ورفع عن الأمة الآصار والأغلال كما أراده، وهدى من شاء من خلقه وأصلح فؤاده… وأحمده على جزيل فضله وإمداده… وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والإرادة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي اصطفاه وفضله بالرسالة إلي جميع عباده - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأحفاده وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:(1/2)
فقد تصفحت هذه الرسالة وقرأت الكثير منها، فرأيتها مناسبة لهذا الزمان في دعوة الأمة إلي التمسك بالكتاب والسنة، ونبذ الخلافات المذهبية والمحدثات العقدية التي سببت اضطراب الأمن وخوف الأكثر من المخلوق لا من الخالق، ووقوع الفتن والاضطرابات والزعازع، وتسليط الأعداء وحرصهم على إبادة الإسلام والقضاء على كل من ينتمي إلى الدين ويتسمى بأسماء المسلمين، ولا شك أن أعداء الله أعداء لأوليائه المؤمنين فمتى رجع أهل هذا الدين إلى تحكيم الشريعة والتمسك بالكتاب والسنة ولزوم وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ »، فإن النصر حليفهم كما حصل لأسلافهم، أما إذا تفرقوا وفارقوا دينهم، وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، ونبذوا الكتاب والسنة وراءهم واعتاضوا عنه بالقوانين الوضعية، وأعرضوا عن تحكيم الشريعة فيما شجر بينهم، فلن يأمنوا أن ينزع الله عنهم فضله وخيره، وأن يسلط عليهم عدوهم يسومونهم العذاب.
نسأل الله العفو والعافية والحياة الطيبة، والله أعلم، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم. ...
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (1).
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 102.(1/3)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } (1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (2).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
فقد حذرنا الله تعالى من فتنة الحياة الدنيا، قال تعالى:
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (3).
يعلمنا ربنا ـ تبارك وتعالى ـ عن وهن أمر الحياة الدنيا وحقارتها، إذ أنها مجرد لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد. ويزيد ربنا ـ تبارك وتعالى ـ أمرها إيضاحًا فيمثلها بالمطر الذي يأتي بعد قنوط الناس لينبت الزرع الأخضر النضر الذي يعجب الزراع ثم يهيج ذلك الزرع فيُرى مصفرًا، ثم يصبح حطامًا يبسًا.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 1.
(2) سورة الأحزاب، الآيتان: 70-71.
(3) سورة الحديد، الآية: 20.(1/4)
وكذلك الدنيا بزينتها تعجب الكفار فيحرصون عليها؛ { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ َ } (1)، ويزداد حرصهم عليها كلما بعدوا عن التوحيد والإيمان وانغمسوا في الشرك والشهوات والمعاصي وهم في ذلك بخلاف المؤمنين الموحدين الذين باعوا دنياهم بأخراهم: { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } (2)، { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } (3).
ولما كانت الدنيا كذلك ـ كما وصفها الله تعالى ـ خضرة نضرة ثم تصفر، ثم تكون حطامًا يبسًا، وأن الآخرة كائنة بعدها لا محالة حذّر تبارك وتعالى من أمرها، وأنها إما إلي العذاب الشديد ـ والعياذ بالله ـ وإما إلى المغفرة من الله والرضوان، وصدق الله تعالى: { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ - وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } (4).
نعم... أخي المسلم...
فما بعد هذه الحياة الدنيا إلا... { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } (5).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 96.
(2) سورة التوبة، الآية: 111.
(3) سورة البقرة، الآية: 207
(4) سورة هود، الآيات: 105- 108.
(5) سورة الشورى، الآية: 7.(1/5)
وعن هذا السعير يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من حر جهنم »، قالوا: إن كانت لكافية يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: « فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها » (1).
وعن أقل الناس معاناة لحرها يقول - صلى الله عليه وسلم -: « أهون أهل النار عذابًا أبو طالب وهو منتعل بنعلين »، وفي رواية البخاري: « على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه » (2).
وعن أهل هذه النار وعن قيودهم وأغلالهم يقول الله عز وجل: { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ } (3).
ويقول جل وعلا: { إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ - فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } (4).
ويقول سبحانه وتعالى: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ - ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ } (5).
وعن طعامهم وشرابهم يقول سبحانه وتعالى:
{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ - طَعَامُ الْأَثِيمِ - كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ - كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } (6).
وعن الزقوم يقول - صلى الله عليه وسلم -: « لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه » (7).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم (واللفظ لمسلم ) جـ2، ص 535.
(2) رواه البخاري جـ11، ص 425 فتح الباري ( دار الريان للتراث )، ومسلم 1/ 110 (دار الكتب العلمية ).
(3) سورة إبراهيم، الآيتان: 49 – 50.
(4) سورة غافر، الآيتان: 71 – 72.
(5) سورة الحاقة، الآيات: 30-32.
(6) سورة الدخان، الآيات: 43 – 46.
(7) الترمذي جـ4 باب 4 ص707، حديث (2585 ).(1/6)
ويقول جل وعلا: ِ { وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } (1).
ويقول تبارك وتعالى:
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ - يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } (2).
وعن غلظ أجسادهم لزيادة إحساسهم بالعذاب يقول - صلى الله عليه وسلم -: « ما بين منكبي الكافر مسيرة أيام للراكب المسرع » (3).
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: « ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث »(4).
وعن حسرتهم وصراخهم وبكائهم يقول الله عز وجل: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } (5).
ويقول جل وعلا: { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } (6).
ويقول سبحانه وتعالى: { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } (7).
ويقول جل وعلا: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } (8).
وعن تمنيهم الموت الذي لا يجدونه: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } (9).
وعن الفريق الفائز يقول جل وعلا: { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا - عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } (10).
__________
(1) سورة محمد، الآية: 15.
(2) سورة إبراهيم، الآيتان: 16 - 17.
(3) البخاري جـ 11، ص 323، ومسلم جـ 2، ص 538.
(4) مسلم جـ2، ص 538.
(5) سورة الفرقان، الآية: 27.
(6) سورة الزمر، الآية: 56.
(7) سورة الفرقان، الآية: 13.
(8) سورة فاطر، الآية: 37.
(9) سورة الزخرف، الآية: 77.
(10) سورة الإنسان، الآيتان: 20 - 21.(1/7)
ويقول سبحانه: { يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } (1).
ويقول تعالى: { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ - كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } (2).
ويقول سبحانه: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ - فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } (3).
ويقول جل وعلا: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (4)، والزيادة: هي لذة النظر إلى وجهه الكريم تبارك وتعالى، وهي لا تدانيها لذة ولا تقارن بها متعة حتى الجنة نفسها.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: « إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتمخطون، ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة (5)، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء » (6).
ويصف - صلى الله عليه وسلم - دار هذا الفريق فيقول - صلى الله عليه وسلم -: » إنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها ـ طينتها ـ المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، ومن يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم « (7).
__________
(1) سورة الزخرف، الآية: 71.
(2) سورة الصافات، الآية: 48- 49.
(3) سورة الرحمن، الآية: 56 – 58.
(4) سورة يونس، الآية: 26.
(5) عود يتبخر به.
(6) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم جـ 2 ص 532.
(7) مجمع الزوائد جـ 10 ص 396 رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح.(1/8)
ويقول عنها جل وعلا: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } (1).
وصدق الله تعالى إذ يقول في الحديث القدسي(2): » أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر »، مصداق ذلك في كتاب الله: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } (3).
وعن أدنى أهل الجنة منزلة وأقلهم نعيمًا واستمتاعًا يقص - صلى الله عليه وسلم - خبره: «... فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها » (4).
وإن الله تبارك وتعالى ليدعونا إلى الجنة: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (5).
وإن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ـ المبلغ عن ربنا ـ يقول لنا:
« هل من مشمر إلى الجنة ؟ »
ونحن نقول ـ ولابد أن تقول معنا: لبيك يا ربنا لبيك...
نحن المشمرون إلى الجنة إن شاء الله.
ولكن هل نحن على الطريق المؤدي إلى الجنة؟
من أجل ذلك كان هذا الكتاب... لنعرف معًا ونسلك سويًا الطريق... الطريق إلى الجنة؟
وقد يتساءل القارئ... وهل نحن في حاجة إلى أن نعرف الطريق إلى الجنة؟
ونحن بدورنا نتساءل... وهل الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم يوحي بأنهم يعرفون ويسلكون الطريق إلى الجنة؟
__________
(1) سورة محمد، الآية: 15.
(2) رواه مسلم جـ2، ص 530.
(3) سورة السجدة، الآية: 17.
(4) رواه مسلم جـ1، ص 96.
(5) سورة آل عمران، الآية: 133.(1/9)
هذا ما يتناوله ـ أخي القارئ ـ الكتاب الذي بين يديك... إنه يتناول أهم وأخطر القضايا التي تمس المسلم في عقيدته وتصوراته وسلوكياته وأخلاقياته.. يربط دنيا المسلم بآخرته... إنه الطريق... الطريق إلى الجنة.
ولكل طريق منارات وعلامات... وإليك هذه العلامات وتلك المنارات والإشارات الهادية على الطريق:
الإسلام: توحيد ننجو به من الشرك.
الإسلام: هوية تجمع الأمة.
الإسلام: صبغة تصطبغ بها.
الإسلام: شريعة تحكم حياتها.
الإسلام: عقيدة أهل السنة ننجو بها من البدع والضلالات.
الإسلام: مسئولية فردية ومسئولية جماعية تضامنية.
أخي القارئ.. لقد وردت تلك المنارات والعلامات وفق الترتيب أعلاه... حتى يتحقق النفع منها ـ بمشيئة الله تعالى ـ حيث يتناول الكتاب مجموعة من القضايا الجوهرية التي تمس حياة المسلم في الواقع المعاصر (الهوية والصبغة والشريعة )... لذلك تم وضعها بين دفتي التوحيد والعقيدة... ويؤكد هذا أهمية أن تدخل إلى فصول الهوية والصبغة والشريعة من باب التوحيد أولاً ثم تغلق ذلك بالعقيدة، لينتهي بك المطاف في نهاية الكتاب لتحدد ماذا عليك أن تفعل من واقع مسئوليتك تجاه دينك... سواء مسئوليتك الفردية أو مسئوليتك الجماعية التضامنية.
والله الهادي إلى سواء السبيل.(1/10)
الفصل الأول
الإسلام: توحيد ننجو به من الشرك
الفصل الأول
الإسلام : توحيد ننجو به من الشرك
توحيد الأئمة وسلف الأمة وما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وهو:
أ- إفراد الله بالربوبية:
قال تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } (1). فالمسلم مطالب بأن يصف الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا بلا تعطيل، وأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
ب- إفراد الله بالعبادة:
الحكم لله بلا شريك:
قال تعالى: { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } (2). وهو تحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه من الشرائع والقوانين.
النسك لله بلا شريك:
قال تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (3).
الولاية لله بلا شريك:
قال تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } (4).
وهذا معناه أن يتولى المسلم الله، ويتولى في الله، فتكون ولايته لله سبحانه وتعالى أصل، وولايته للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين تَبَع. فلا يتولى غير المسلمين ولا يتولى المسلمين إلا في الله، وبالتالي فلا يخرج عن ولاية الإسلام إلي ولاية القومية ( نعرات الجنس )، أو الوطنية ( تخوم الأرض ) ؛ وإذا فعل ذلك عالمًا مختارًا فقد اتخذ من دون الله وليًا، وهذا شرك ينتفي به الإسلام.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 164.
(2) سورة الأنعام، الآية: 114.
(3) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163.
(4) سورة الأنعام، الآية: 14.(2/1)
وقد تكلم الإمام ابن القيم حول هذا المعنى في ”المدارج“ عند منزلة الرضا فقال(1):
« الرضا بالله ربًا: أن لا يتخذ ربًا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره، وينزل به حوائجه. قال تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } (2).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: « سيدًا وإلهًا »، يعني: فكيف أطلب ربًا غيره وهو رب كل شيء؟ وقال في أول السورة: { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (3) يعني: معبودًا وناصرًا ومعينًا وملجأ... وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.
وقال في وسطها: { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } (4) أي: أفغير الله أبتغي مَن يحكم بيني وبينكم، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه ؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلي غير كتابه؟ وقد أنزله مفصلاً مبينًا كافيًا شافيًا.
وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل ؛ رأيتها هي نفس الرضا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولًا، ورأيت الحديث يترجم، عنها ومشتق منها...
ثم يقول ابن القيم بعد ذلك:
« وهذه المقامات الثلاثة هي أركان التوحيد ألا يتخذ سواه ربًا ولا إلهًا ولا غيره حكمًا ». أ هـ.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (5):
« أما بعد: فاعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (6).
__________
(1) مدارج السالكين، جـ2، ص 189 وما بعدها، دار إحياء الكتب العربية.
(2) سورة الأنعام، الآية: 164.
(3) سورة الأنعام، الآية: 14.
(4) سورة الأنعام، الآية: 114.
(5) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جـ2، ص 66 وما بعدها.
(6) سورة الذاريات، الآية:56.(2/2)
والعبادة هي: التوحيد لأن الخصومة بين الأنبياء والأمم فيه، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } (1).
والتوحيد ثلاثة أصول:
توحيد الربوبية.
توحيد الألوهية.
توحيد الذات والأسماء والصفات.
الأصل الأول: توحيد الربوبية:
وهو الذي أقر به المشركون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أدخلهم في الإسلام وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستحل دمائهم وأموالهم، وهو توحيد الله بفعله، والدليل عليه قوله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } (2).
وقوله تعالى: { قل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } (3).
والآيات الدالة على هذا كثيرة جدًا أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر.
الأصل الثاني: توحيد الألوهية:
وهو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعانة، والاستعاذة، والمحبة، والإنابة، والنذر، والذبح، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والتذلل، والتعظيم.
__________
(1) سورة النحل، الآية:23.
(2) سورة يونس، الآية: 31.
(3) سورة المؤمنون، الآيات: 84 – 89(2/3)
فدليل الدعاء قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (1).
ولكل نوع من هذه الأنواع دليل من القرآن (2)
__________
(1) سورة غافر، الآية: 60.
(2) وأنواع العبادة التي أمر الله بها، مثل الإسلام والإيمان والإحسان، ومنه الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله. والدليل قوله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن: 18 ]، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر. والدليل قوله: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون: 117 ]. وفي الحديث: «الدعاء مخ العبادة ». والدليل قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر:60 ] ودليل الخوف قوله تعالى: { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران:175]. ودليل الرجاء قوله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف:110 ] ودليل التوكل قوله تعالى: { َ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة:23 ]، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق:3 ]. ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء:90]. ودليل الخشية قوله تعالى: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } [البقرة:150 ] ودليل الإنابة قوله تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ } [ الزمر:54 ]. ودليل الاستعانة قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة:5 ]. وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله»، ودليل الاستعاذة قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ - مَلِكِ النَّاسِ } ، ودليل الاستغاثة قوله تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } الآية، ودليل الذبح قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } ، ومن السنة: « لعن الله من ذبح لغير الله »، ودليل النذر قوله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرا } . ( الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ).(2/4)
.
وأصل العبادة: تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (1).
وقال تعالى: { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (2).
وقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (3).
وقال تعالى: { (( مقدمة - - ( - - عليه السلام - قرآن كريم ((- رضي الله عنهم - - ( - - { - رضي الله عنه -( - - - } - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله (( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - - (((- رضي الله عنهم -(( - - صدق الله العظيم ( { ((( - (- رضي الله عنه - تمهيد - - ( مقدمة ( - } ( - - - فهرس - ( { (( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - (( - ( تمهيد - عليه السلام - - ( - ( فهرس - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام - قرآن كريم ( - (( مقدمة ((( - (- رضي الله عنه - - ( - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - - - رضي الله عنه -(( - - رضي الله عنه -((( - ((( - - ( - - - - صدق الله العظيم ( { - (( - - ( فهرس - - ( } (4).
__________
(1) سورة الجن، الآية: 18.
(2) سورة الأعراف، الآية: 158.
(3) سورة الأنبياء، الآية: 25.
(4) سورة الرعد، الآية: 14.(2/5)
وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } (1).
وقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (2).
وقوله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (3).
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتاب ”المورد العذب الزلال“ نقلاً عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في شرح أصل دين الإسلام فقال:
« الأول: أن تعلم أن أصل دين الإسلام وأساسه، وعماد الإيمان ورأسه، هو توحيد الله تعالى الذي بعث به المرسلين وأنزل به كتابه الحكيم المبين. قال تعالى: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ - أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِير } (4). وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله.
فإن أصل دين الإسلام ألا يُعبد إلا الله وألا يُعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع. وقد قال شيخنا رحمه الله إمام الدعوة الإسلامية، والداعي إلي الملة الحنيفة:
« أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه والنهي عن الشرك في عبادة الله والتغليظ فيه، والمعاداة فيه وتكفير من فعله، والمخالف في ذلك أنواع »، ذكرها رحمه الله.
وهذا التوحيد له أركان ومقتضيات وفرائض ولوازم، لا يحصل الإسلام الحقيقي على الكمال والتمام إلا بالقيام بها علماً وعملاً، وله نواقض ومبطلات تنافي ذلك التوحيد. فمن أعظمها أمور ثلاثة:
__________
(1) سورة الحج، الآية: 62.
(2) سورة الحشر، الآية: 7.
(3) سورة آل عمران، الآية: 31.
(4) سورة هود، الآيتان: 1-2.(2/6)
الأول: الشرك بالله في عبادته، كدعوة غير الله ورجائه والاستعانة به والاستغاثة والتوكل، ونحو ذلك من أنواع العبادة. فمن صرف منها شيئًا لغير الله كفر ولم يصح له عمل. وهذا الشرك هو أعظم محبطات الأعمال، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (1).
وقوله: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } (2). ففي هذه الآية نفي للشرك وتغليظه والأمر بعبادة الله وحده. ومعنى قوله: { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } أي: لا غيره، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر عند العلماء.
الأمر الثاني: انشراح الصدر لمن أشرك بالله، وموادة أعداء الله، كما قال تعالى: { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلى قوله: { أَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (3). فمن فعل ذلك فقد أبطل توحيده، ولو لم يفعل الشرك بنفسه. قال الله تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (4).
الأمر الثالث: موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد أو اللسان أو المال، كما قال تعالى: { فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ } (5) ». انتهى بتصرف.
ثم نرجع إلي تتمة كلام الشيخ في ”الدرر السنية“.
الأصل الثالث: توحيد الذات والأسماء والصفات:
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 88.
(2) سورة الزمر، الآيتان: 65 – 66.
(3) سورة النحل، الآيتان: 106 -107.
(4) سورة المجادلة، الآية: 22.
(5) سورة القصص، الآية: 86.(2/7)
كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (1). وقوله تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (2). وقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (3).
* واعلم أن ضد التوحيد: الشرك، وهو ثلاثة أنواع:
شرك أكبر ( مخرج من ملة المسلمين ).
شرك أصغر.
شرك خفي.
النوع الأول: الشرك الأكبر:
والدليل على الشرك الأكبر قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } (4).
وقوله تعالى: { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } (5).
وهو أربعة أنواع:
شرك الدعاء ( شرك النسك ):
والدليل على ذلك قوله تعالى:
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ - لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } (6).
شرك النية: وهي الإرادة والقصد (النفاق):
__________
(1) سورة الإخلاص.
(2) سورة الأعراف، الآية: 180.
(3) سورة الشورى، الآية: 11.
(4) سورة النساء، الآية: 116.
(5) سورة المائدة، الآية: 72.
(6) سورة العنكبوت، الآيتان: 65-66.(2/8)
والدليل عليه قوله تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (1).
شرك الطاعة ( التشريع ):
والدليل عليه قوله تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (2).
وتفسيرها الذي لا إشكال فيه هو: طاعة العلماء والعباد في معصية الله سبحانه، لا دعاؤهم إياهم، كما فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم لما سأله فقال: لسنا نعبدهم، فذكر له أن عبادتهم طاعتهم(3) في المعصية.
شرك المحبة (شرك الموالاة ):
والدليل قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } إلى قوله { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } (4).
__________
(1) سورة هود، الآية: 15 -16.
(2) سورة التوبة، الآية: 31.
(3) والطاعة نوعان:
نوع هو: قبول الحكم ( الشرع ) والإذعان له والدخول تحت أحكامه وعدم رده، وهو المقصود هنالك.
ونوع هو: الدخول في الأعمال ( والمخالفة فيه تكون بعمل المعصية، كمعصية آدم لما أغواه إبليس بها ).
والنوع الثاني ليس هو المقصود لأن المخالفة فيه لا تكون كفرًا إلا على مذهب الخوارج. وهو معلوم البطلان من الدين بالضرورة فيكون كلامه مقصوراً على النوع الأول.
(4) سورة البقرة، الآيات: 165 – 167.(2/9)
النوع الثاني: شرك أصغر ( غير مخرج من الملة ):
وهو الرياء، والدليل عليه قوله تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (1).
النوع الثالث: شرك خفي:
والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: « الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفاة السوداء في ظلمة الليل »، وكفارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: « اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم »(2).
* والكفر كفران:
كفر يخرج من الملة، وهو خمسة أنواع:
النوع الأول: كفر التكذيب: والدليل عليه قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } (3).
النوع الثاني: كفر الاستكبار والإباء: والدليل عليه قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } (4).
النوع الثالث: كفر الشك: وهو كفر الظن، والدليل عليه قوله تعالى: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا - وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا - قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } (5).
__________
(1) سورة الكهف، الآية: 110.
(2) القرطبي جـ 11، ص 72، ابن كثير: جـ 4، ص 344.
(3) سورة العنكبوت، الآية: 68.
(4) سورة البقرة، الآية: 34.
(5) سورة الكهف، الآيات: 35-37.(2/10)
النوع الرابع: كفر الإعراض: والدليل عليه قوله تعالى { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ } (1).
النوع الخامس: كفر النفاق: والدليل عليه قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } (2).
وكفر أصغر لا يخرج من الملة:
وهو كفر النعمة: والدليل عليه قوله تعالى: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } (3). وقوله تعالى: { إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (4).
* وأما النفاق فنوعان: (نفاق اعتقادي، ونفاق عملي ):
فأما الاعتقادي فهو ستة أنواع:
تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أو بغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أو المسرة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أو الكراهية لانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله من الشقاق والنفاق.
وأما النفاق العملي فهو خمسة أنواع:
إذا حدث كذب.
وإذا خاصم فجر.
وإذا عاهد غدر.
وإذا اؤتمن خان.
وإذا وعد أخلف.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ». انتهى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن القيم ـ نوَر الله ضريحه ـ في نوعي التوحيد(5):
« فصل عظيم النفع جليل القدر ينتفع به من عرف نوعي التوحيد...
__________
(1) سورة الأحقاف، الآية: 3.
(2) سورة المنافقون، الآية: 3.
(3) سورة النحل، الآية: 112.
(4) سورة إبراهيم، الآية: 34.
(5) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.(2/11)
التوحيد القولي العلمي الخبري.
التوحيد القصدي الإرادي العملي.
كما دل على الأول سورة: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، وعلى الثاني، { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وكذلك دل على الأول قوله: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } (1). وعلى الثاني: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } (2).
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهاتين السورتين في سنة الفجر وسنة المغرب ويقرأ بهما في ركعتي الطواف. لتضمنهما التوحيد العلمي والعملي.
والتوحيد العلمي: أساسه إثبات الكمال للرب ومباينته لخلقه وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل.
والتوحيد العملي: أساسه تجريد القصد بالحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والعبودية بالقلب واللسان والجوارح لله وحده.
ومدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه على هذين التوحيدين، وأقرب الخلق إلى الله أقومهم بهما علمًا وعملاً، ولهذا كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أقرب الخلق إلى الله وأقربهم إليه وسيلة أولو العزم، وأقربهم الخليلان وخاتمهم سيد ولد آدم وأكرمهم على الله، لكمال عبوديته وتوحيده.
فهذان الأصلان هما قطب رحى الدين وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور، والله سبحانه بيَّنهما غاية البيان بالطرق العقلية والنقلية والفطرية والنظرية والأمثال المضروبة.
ونوَّع سبحانه الطرق بإثباتهما كل التنويع بحيث صارت معرفة القلوب الصحيحة والفطر السليمة لهما بمنزلة رؤية العين المبصرة، التي لا آفة بها للشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء، فذلك للبصيرة بمنزلة هذه للبصر.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 136.
(2) سورة آل عمران، الآية: 64.(2/12)
فإن تسلط التأويل على التوحيد الخبري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهل، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمين لا ينفك أحدهما عن صاحبه، وإمام المعطلين المشركين فرعون فهو إمام كل معطل ومشرك إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين إبراهيم ومحمد عليهما السلام ». أ هـ.
فاحذر أخي المسلم من تسليط التأويل على معاني التوحيد التي ثبتت من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة وسلف الأمة.
واحذر أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والذين بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم.
واعلم أن المسلم في واقعنا هذا المعاصر إذا خوطب بشرع غير شرع الله، أو فرضت عليه ولاية غير ولاية الإسلام، وكان في حالة استضعاف ( يتعذر عليه الانتقال، ولا يستطيع تغيير الحال )، فأقل ما يتحقق به إيمانه أن يعلم الله من قلبه أنه كاره، ودلالة الكره في القلب هي الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل، ولا يعني ذلك اعتزال الحياة فهو داخل ولابد تحت مظلة الجاهلية بحكم الاستضعاف، ولكن الاعتزال معناه ترك مساندة القوى الباغية التي نحَّت شرع الله عن الحياة وعدم مشايعتها بالعمل، وهذا يستلزم بالضرورة إسقاط شرعية الأنظمة العلمانية، التي تفصل بين الدين والحياة، وكل مسلم مطالب بذلك وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل قال - صلى الله عليه وسلم -: « ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل » (1).
__________
(1) رواه مسلم جـ1، ص39.(2/13)
وبعد أن يروي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ تنحية النصارى لشريعة الإنجيل وتغيير الملوك لدين المسيح يوصينا إذا حدث فينا مثل ذلك أن يعلم الله من قلوبنا أننا لذلك كارهون (1).
وكره القلب سماه - صلى الله عليه وسلم - جهادًا ولا يكون كذلك إلا أن يكون كرهًا حقيقيًا خاليًا من الاستنامة والاستكانة وشرح الصدر بإيثار العافية.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «... فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع » (2).
__________
(1) روى معناه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا.
(2) رواه مسلم جـ2، ص137.(2/14)
الفصل الثاني
الإسلام: هوية تجمع الأمة
الفصل الثاني
الإسلام: هوية تجمع الأمة
معنى الهوية لغة:
هَوَى: أي أحب. والهوى بالقصر هو: العشق يكون في الخير والشر. والهوى: المهوي، واستهوته الشياطين: أي ذهبت بهواه وعقله وحيرته: { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } (1)، أي: تميل وتحن إليهم.
هَوَى الشيء: بمعنى سقط، وهوى فلان: سقط من علو إلى أسفل. ويقال للبئر العميق: «الهوية» من هَوى.
الهوية: من ( هوَ ) أي حقيقة الأشياء أو الأشخاص بصفاتهم الذاتية، ومنه بطاقة التعريف تسمى « هويّة ».
معنى الهوية اصطلاحًا (2):
بالنسبة للجماعة:
ـ هي محور استقطاب يجمع الأمة (3).
ـ وهي أرض مشتركة ( أو قاسم مشترك ) داخل الأمة بين مختلف إطارات العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والرياضي والخيري وغيرها من جوانب تكوين الأمة.
بالنسبة للأفراد:
هي مجموعة من القيم ترفع فاعليات الفرد وروحه المعنوية وتُعمق من إسهاماته في مجتمعه وتفاعله مع بيئته، ومن داخله تجمع شتات نفسه، وتتوحد بها توجهاته ويخرج بها من الحيرة والتهوك، ومن روح القطيع إلى روح الفريق، مع استقرار شخصيته وقوتها واستقلالها، أي تعطيه بناء فرديًا متماسكًا.
المناسبة بين المعني اللغوي والتعريف الاصطلاحي للهوية:
الهوية: من معنى هوى يهوَى بفتح الواو: من الحب والميل: أي عامل الحب والجذب.
الهوية: من معنى هوى يهوي بكسر الواو: الانحدار إلى الشيء وهو راجع إلى حبه والميل إليه.
والهوية: من ( هُو ): أي التعريف بالشيء أو الشخص.
وهوية أمة من الأمم: هي إخبار عن حقيقة هذه الأمة وصفاتها الذاتية المميزة لها كما أنها عامل جذب ( محور استقطاب ) يجمع الأمة حولها (4)
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية: 37.
(2) اصطلاح يطلق حديثًا.
(3) محور استقطاب: أي كقطب المغناطيس الذي يستقطب، أي يجذب برادة الحديد.
(4) الهوية: من نحن؟ وما نهواه؟ وما تهوى إليه أفئدتنا؟
نحن مسلمون، وما نهواه وتهوى إليه أفئدتنا الإسلام.
* الاصطلاح الشائع: «هوية»، ـ بضم الهاء ـ اشتقاق قياسي من اللفظ ( هوَ ).
* ولا بأس أن نقول «هَوية» ـ بفتح الهاء ـ: من مناسبة اللفظ للمعنى المستعمل فيه اشتقاق استعمالي.
* والاصطلاح حديث.(3/1)
.
ولكي يحقق محور الاستقطاب وصف الهوية التي تجمع الأمة وتوحدها لابد لهذا المحور ـ أو تلك الهوية ـ أن تكون واحدة، قوية، ومتميزة.
هوية واحدة: لا هويات متعددة، حتى لا تفترق الأمة حول هذه الهويات بتجمع كل طائفة من الأمة حول محور غير المحور الذي تجتمع عليه الطائفة الأخرى فيؤدي ذلك إلى التشرذم والشتات ومن ثَمَّ تفقد الهوية كونها هوية تجتمع عليها الأمة.
هوية متميزة: كما لابد للهوية أن تكون متميزة عن غيرها من الهويات ـ لا ممتزجة بها ـ هي شيء، وغيرها من الهويات شيء آخر مغاير لها وبائن عنها.
هوية قوية: لكل أمة من الأمم هوية ـ محور استقطاب وعامل جذب ـ تهواه هذه الأمة يختلف عن هوية غيرها من الأمم. وإذا أراد أحد أن يجمع أفراد وكيانات أي امة من الأمم على غير ما تحبه وتهواه من عوامل التجمع لا يفلح في ذلك ويقع في هذه الأمة الاغتراب من فقدان الانتماء واللامبالاة بالأمور العامة والعزلة عن شئون المجتمع.
أما إذا جمعت الأمة على ما تحبه وتهواه وما يجسد ذاتيتها الحقيقية من عامل ـ أو عوامل ـ الانجذاب من قومية أو وطنية أو دين أو مبادئ تراثية أو أي عوامل أخرى(1). فستظل هذه الأمة متماسكة حتى مع اختلاف بعض المشارب والتوجهات بين أقطارها. ويتحقق تماسك أي أمة من الأمم بثلاثة عوامل:
أولها: وجود الهوية الجماعية التي تحقق الانجذاب والاستقطاب حولها.
ثانيها: تحقيق المشاركة بين الأمة ورجال السلطة في الحكم.
__________
(1) فهوية أوربا ومحور استقطابها مثلاً يتكون من عدة عوامل: التراث الهيليني الروماني، التراث العبراني المسيحي، مبادئ عصر النهضة، مبادئ العالم الحر، حضارة الرجل الأبيض، عقيدة الغرب.(3/2)
ثالثها: استقرار القيم(1)التي يقوم عليها المجتمع وتتماسك بها شخصية الفرد وينضبط بها سلوكه.
وتأتي أهمية تحديد الهوية لأمة من الأمم من أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره قبل أن يحدد موقفه من نفسه مَن هو ؟... ومَن يكون ؟... وماذا يريد ؟... وبدون الحسم للهوية الذاتية لا يمكن تحديد أي موقف فعّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة. ولذلك فلابد أن نسأل أنفسنا من نحن ؟ وما هي هويتنا بالتحديد ؟.
فإذا حددنا هويتنا انتقلنا على ضوء ذلك إلي تحديد ماذا نريد؟ ومن ثَمَّ أين السبيل؟
إذن تحديد الهوية يعرفنا بأهدافنا التي نريدها والأسلوب الذي نتوصل به إلى هذه الأهداف ( الاستراتيجيات والتكتيكات ).
فما هي هويتنا ؟
لا شك أن هويتنا الأصيلة التي تجمعنا والقاسم المشترك الذي نتفق عليه ونلتقي عنده هو: « الإسلام »(2).
فهوية الفرد المسلم من كتاب الله تعالى:
__________
(1) الإفلاس في عالم القيم وانحلالها وتصادمها مع الفطرة يؤدي في النهاية إلى تلف الخامة البشرية، ومن ثم سقوط الحضارة، وقد تؤخر الهوية الجماعية القوية المتميزة هذا السقوط بعض الشئ لما تحققه من تماسك اجتماعي، ولكن فساد الخامة البشرية يحتم هذا السقوط في النهاية. وهذا ما يفسر التماسك الأوروبي مع وجود ظواهر الانهيار وإرهاصات زوال قيادة الغرب للبشرية.
(2) راجع كتاب: ”الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة“ لمؤلفه محمد محمد بدري ص51.(3/3)
{ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } (1).
وهوية الأمة الإسلامية يحددها قوله تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام، الآية:71-73.(3/4)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ - وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ - وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ - كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ(3/5)
الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (1).
وكذلك فإن هوية الأمة الإسلامية كما حددها حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أمة واحدة من دون الناس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « هذا كتاب من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس » (2).
وكذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم -: « المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم » (3).
وحبل الله هو القرآن، وهو الجماعة، والمعنى متآلف. والمطلوب هو التزام الكتاب والسنة والاجتماع عليهما والقتال دونهما.
روى مسلم في صحيحه عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
« لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس » (4).
وله أيضًا عن عقبة بن عامر مرفوعًا: « لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم علي ذلك » (5).
ذلك أن شرعية الكيانات في الإسلام لا تتحقق إلا من خلال الجماعة التي هي التزام الكتاب والسنة والاجتماع عليهما، والالتزام الفردي دون الاجتماع عليهما ككيان لا يحقق لمجموع الأفراد الذين يفتقدون هذا الاجتماع معنى الجماعة ولا صفة الشرعية ولا الهوية.
والاجتماع على غير الكتاب والسنة لا يحقق للداخلين فيه معنى الجماعة ولا صفة الشرعية ولا صفة الهوية الإسلامية.
__________
(1) سورة آل عمران، الآيات: 100-110.
(2) ابن هشام: السيرة النبوية، جـ 2، ص 106، ( مكتبة الكليات الأزهرية ).
(3) النسائي جـ 8، ص 24 رقم ( 4745 )، ( مكتبة المطبوعات الإسلامية ).
(4) مسلم جـ 2، ص 162.
(5) مسلم جـ 2، ص 163.(3/6)
والإسلام يحقق التماسك الاجتماعي من خلال تحقيق العوامل الثلاث السابق ذكرها وذلك على النحو التالي:
1- الهوية الجماعية: وتتمثل في الرابطة أو حبل الله كما أمر الله تعالى: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } (1).
2- المشاركة: من خلال الشورى الملزمة ضمن عمل أهل الحل والعقد وعمل أهل النظر والاجتهاد (2).
3- استقرار القيم: من خلال القيم الإسلامية: { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } (3).
ولقد حقق الإسلام منذ عصوره الأولى ـ بهذه العوامل الثلاث ـ تماسك الأمة وتماسك الفرد فأخرج خير أمة أخرجت للناس فكانت كما يحب الله عز وجل بنيانًا متماسكًا: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } (4).
كما كانت هذه الأمة كتلة واحدة بل جسدًا واحدًا أخبر عنهم - صلى الله عليه وسلم - : « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »، فكانوا بحق أمة واحدة تصديقًا لخاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم -: «... إنهم أمة واحدة من دون الناس »، « تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ».
فكيف أخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس خير أمة ؟
__________
(1) سورة آل عمران: 103.
(2) ما يطرح للشورى في عمل أهل النظر والاجتهاد ما ليس فيه نص ولا إجماع وشوراهم ملزمة بأغلبية الآراء، وعمل أهل الحل والعقد النظر في مصالح المسلمين، ودليل الإلزام النصوص القرآنية وحديث: حتى أستأمر السعود ـ ولعله يعنى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وغيرهما من الأنصار ممن يسمى سعدًا كما ذكروا في هامش ص 37 ـ والوقائع التاريخية من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
(3) سورة الأنعام، الآية: 161.
(4) سورة الصف، الآية: 4.(3/7)
لقد كان القرآن الكريم منذ العهد المكي يوضح للإنسان هويته الحقيقية الصادقة وهوية مجتمعه بل وهوية الكون الذي يتعامل معه.
يقول شهيد الإسلام سيد قطب(1):
« لقد كان القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله. كان يقول له: من هو ؟ ومن أين جاء ؟ ولماذا جاء ؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف ؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول ؟ من ذا الذي يذهب به ؟ وما مصيره هناك ؟ كان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه والذي يحس أن وراءه غيبًا يستشرفه ولا يراه ؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار ؟
كان يقول له كذلك كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ومع الكون أيضًا كما يبين له: كيف يتعامل العباد مع العباد ؟ ». أ هـ.
ولقد أخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس أمة ـ بل خير أمة ـ من خلال:
هوية واحدة متميزة: فقد عصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ اليوم الأول لدعوته هوية هذه الأمة أن تمتزج أو تشترك مع غيرها من محاور الاستقطاب وعناصر الجذب رغم وجود الدواعي الملحة والظروف المهيئة لتلك المحاور أن تستقطب الناس، بأن أوضح للناس منذ الوهلة الأولى أنه جاءهم ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وفهموا هم ذلك عنه حتى قال قائلهم مستنكرًا: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (2).
__________
(1) سيد قطب: معالم في الطريق، ص 25.
(2) سورة ص، الآية: 5.(3/8)
ويؤكد هذا المعنى شهيد الإسلام سيد قطب(1) ـ عند كلامه عن أحوال العرب عند مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبداية دعوته لهم ـ بأن أخصب بلادهم وأغناها في يد غيرهم من الأجناس فلم يُثرها - صلى الله عليه وسلم - دعوة إلى القومية العربية تستهدف تجميع قبائل العرب لاستخلاص أرضهم من المغتصبين. كما يخبر ـ رحمه الله ـ أن المجتمع العربي كان كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعًا للثروة وتحقيقًا للعدالة... قلة قليلة تملك المال والتجارة والترف وتتعامل بالربا فتتضاعف تجارتها ومالها... وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع، فلم يُثرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راية اجتماعية ليجمع حوله الغالبية العظمى من الناس في وجه طغيان المال والشرف والجاه.
__________
(1) سيد قطب: معالم في الطريق، ص 27 وما بعدها.(3/9)
كما يحكي ـ رحمه الله ـ أن المستوى الأخلاقي في جزيرة العرب كان في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى. فقد كان التظالم فاشيًا في المجتمع وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية بل من مفاخره. وكانت الدعارة في ـ صور شتى ـ من معالم هذا المجتمع. ورغم ذلك فلم يعلنها - صلى الله عليه وسلم - دعوة إصلاحية تتناول تطهير الأخلاق وتطهير المجتمع وتزكية النفوس. وكان في إمكانه - صلى الله عليه وسلم - ـ وقد أعاذه الله ـ إن سار في أي من هذه الدعوات إلى القومية العربية أو العدالة الاجتماعية أو الإصلاح الأخلاقي ألا يلقى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم من المعارضة والعنت والصعوبات التي واجهتهم.. ثم بعد أن يجتمع الناس حول أي من هذه الرايات، يعلنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وقد تبعه الناس وسمعوا له فأحرى أن يتبعوه في ذلك ويسمعوا له، ولكن الله سبحانه ـ وهو العليم الحكيم ـ لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه، إنما وجهه سبحانه إلى أن يصدع بـ «لا إله إلا الله» وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء...
بل وأعلنها - صلى الله عليه وسلم - راية ربانية تقوم على تعبيد الناس لربهم منذ اليوم الأول لدعوته... وإن كان استرداد الأرض من مغتصبيها والعدالة الإجتماعية وغيرها من أنواع العدل، والإصلاح الأخلاقي وغيره من الإصلاحات هو من مقاصد هذا الدين...
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (1).
__________
(1) يوسف، الآية: 108.(3/10)
2- فبعد أن حدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة هويتها الإسلامية التي يجتمع حولها المسلمون، وقرر أنهم أمة واحدة من دون الناس جرّد هذه الهوية من الالتباسات التي يمكن أن تحدث من تبني القضايا الرائجة عند الناس وقت الدعوة، التي يشاركه فيها غيره من غير أهل دعوته من دعاة الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي والتحرر السياسي، أو غيرها من القضايا التي ربما لا تكون رائجة وقت الدعوة ولكن من شأنها ـ إذا طرحت حسب الظروف السياسية والاجتماعية السائدة في وقت الدعوة ـ أن تجد مساندة من قوى كثيرة يهمها تحقيق هذا البرنامج الإصلاحي أو ذاك، وإن كانت مخالفة في الهوية والعقيدة وسائر التوجيهات لصاحب الدعوة وكذلك يكون من شأنها أن تجد قبولاً سريعاً لدى الناس لحاجتهم الماسة إليها لفرط معانتهم من التفسخ الأخلاقي والفوارق الطبقية والظلم الاجتماعي أو احتلال جزء من أراضيهم من قبل آخرين من غير جلدتهم وفرض التبعية عليهم.
وبتجريده - صلى الله عليه وسلم - الهوية من كل هذه الالتباسات ـ التي يصعب على صاحب الدعوة تجنبها ما لم يكن مستنًا بالهدى ـ امتنع أن يصير الإسلام بعد ذلك ـ مقوما من مقومات هويات أخرى عربية أو فارسية أو تركية، اجتماعية أو سياسية، وامتنع أن يتعدد الإسلام بتعدد الالتباسات ( من إسلام صحراوي وآخر ريفي وثالث صناعي أو إسلام اجتماعي وآخر فردي أو إسلام اشتراكي وآخر ليبرالي أو إسلام تركي وآخر مصري وثالث عربي... ورابع بربري... وآسيوي أو أوربي وشمالي أو جنوبي ) بتعدد الشرعيات والحضارات المقبولة في الدين !!!(3/11)
وامتنع أن يصير الإسلام فصيلاً من فصائل الإصلاح الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي في الأمة العربية أو غيرها من الأمم وتحققت للإسلام هويته الواحدة المستقلة عن غيرها، وأصبح للإسلام بذلك أمته الواحدة المتميزة عن غيرها من الأمم، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك شرعية التعدد في الهويات بامتزاج الهوية الإسلامية بغيرها من خارجها وأصبح للإسلام هوية واحدة متميزة هي: « الاجتماع على الإسلام والانتساب إلى الشرع »(1)، وهي شرعية واحدة لا تتعدد تقوم عليها أمة واحدة لا تتعدد ولا تتفرق بدعاوى الجاهلية.
3- كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام الهوية على التوحيد الخالص من إفراد الله سبحانه وتعالى بالنسك والحكم والولاء ـ بعد إفراده تبارك وتعالى بالربوبية ـ بقول الله جل وعلا: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (2).
وقوله تعالى: { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } (3).
وقوله عز وجل: { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } (4).
وقوله جل وعلا: { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً الآية } (5).
وبذلك أسقط شرعية أي وضع يقوم على التمرد على سلطان الله ـ عز وجل ـ بإشراك غيره معه في الولاء أو الحكم أو النسك أو الربوبية، وبذلك لا يكون لأي وضع علماني أو قومي ـ يقوم على أساس الاجتماع على غير الإسلام والانتساب إلى غير الشرع ـ شرعية إسلامية يستند إليها بدعوى أن القائمين عليه مسلمون !!..
4- كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أسقط شرعية الافتراق الديني والدنيوي بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) راجع كتاب الاعتصام للشاطبي.
(2) سورة الأنعام، الآية:162.
(3) سورة الأنعام، الآية: 114.
(4) سورة الأنعام، الآية:14.
(5) سورة الأنعام، الآية: 164.(3/12)
«وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة»، قالوا ومن هي يا رسول الله ؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». وفي رواية: «الجماعة» (1).
وبذلك أبطل - صلى الله عليه وسلم - تعدد الهويات من داخل الدين كما أبطلها من خارجه.
__________
(1) سبق تخريج الحديث والافتراق المقصود في الحديث ليس هو الافتراق في المسائل الاجتهادية فهذا واقع حتى في القرون المفضلة، الثلاثة الأولى. ولكن الافتراق الذي قال الله تعالى عنه: ( وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ( [الروم: 30-31 ]. الافتراق الذي صاروا به شيعاً أي جماعات بعضهم قد فارق البعض ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر بل على ضد ذلك.وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء ولذلك قال تعالى: (و َاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( [ آل عمران: 103] فبين أن التآلف إنما يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعني واحد، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلابد من التفرق وهو معنى قوله تعالى: ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ( [ الأنعام: 153]. والافتراق إما أن يكون راجعاً إلى أمر هو معصية غير بدعة ومثاله أن يقع بين أهل الإسلام افتراق بسبب دنيوي كما يختلف مثلاً أهل قرية مع قرية أخرى بسبب تعد في مال أو دم حتى يقع بينهم العداوة فيصيروا حزبين أو يختلفون في تقديم وال أو غير ذلك فيفترقون، ومثل هذا محتمل، وإما أن يرجع إلى أمر هو بدعة كما افترق خوارج من الأمة ببدعهم التي بنوا عليها الفرقة. كتاب: ”الاعتصام“ جـ 2، ص 191- 192.(3/13)
5- تحقيق مشاركة الأمة له - صلى الله عليه وسلم - في إدارة شئونها وحكمها وذلك من خلال الأطر المختلفة كمشاركة السعود(1) الخمسة بوصفهم ممثلين عن أحياء الأنصار، وأبو بكر وعمر بوصفهما ممثلين عن المهاجرين ومشاركة غيرهم من ممثلي القبائل.
روى البزار والطبراني عن أبي هريرة: أتى الحارث ُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأناها عليك خيلاً ورجالاً قال: « لا حتى أستأمر السعود » (2)، فكلهم قالوا: والله ما أعطينا الدنية في أنفسنا في الجاهلية فكيف وقد جاء الإسلام، فأخبر الحارث فقال: غدرت يا محمد.
واستشارهم في ( أُحُد ) بعد أن أخبرهم برؤياه التي تُنبئ بأن المدينة درع حصين ويعرض لهم رأيه أنهم لا يخرجون من المدينة وأن يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون بمقامهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت ـ وكان هذا هو الرأي ـ ولكن أشار عليه الكثير من المسلمين بخلاف ذلك فاستجاب لرأيهم(3).
كما استشارهم - صلى الله عليه وسلم - في بدر فأشاروا عليه بمجالدة المشركين وقالوا كلمتهم المشهورة: « والله لئن استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك »(4).
__________
(1) الفرق بين النقباء والسعود أن النقباء يمثلونه - صلى الله عليه وسلم - عند الأمة والسعود يمثلون الأمة عنده.
(2) سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن خيثمة، وسعد بن الربيع، وسعد بن مسعود.
(3) صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم ص241.
(4) المصدر السابق، ص199.(3/14)
وتعلم أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ منه - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر. يروي لنا التاريخ في غزوة مؤتة ما فعل أصحابه - صلى الله عليه وسلم - حين واجهوا ـ وهم ثلاثة آلاف مقاتل ـ جيشًا قوامه مائتا ألف فجعلوا يتشاورون حتى شجعهم عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ بقوله: انطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين: إما ظهور وإما شهادة، فاستقر الرأي إلى ما دعا إليه عبد الله بن رواحة رضي الله عنه(1).
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم كما أخبر الله تعالى عنهم: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (2).
6- فبذلك حقق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشاركة الأمة له من خلال ممثليها عن أطرها المختلفة التي أبقى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ وسواء كانت أطر ولاءات خاصة أو أطر عمل إسلامي ولكن داخل ولاء الإسلام العام وعقيدته الواحدة وشريعته الواحدة وهويته الواحدة سواء كانت الأطر عرقية أوظائف شرعية أو مصالح مشتركة. فالمهاجرين والأنصار مثال لأطر الوظائف الشرعية، وغفار وأسلم وجهينة أمثلة لأطر قبليات عرقية ورحم.
__________
(1) المصدر السابق، ص 375-376.
(2) سورة الشورى، الآية: 38.(3/15)
وتروي لنا السيرة قبيل فتح مكة كيف كان تشكيل جيش المسلمين الفاتح يقول العباس في حديثة عن فتح مكة وإسلام أبى سفيان: فلما ذهب لينصرف (أي أبو سفيان) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ـ حتى تمر به جنود الله فيراها »، قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أحبسه، قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه ؟ فأقول: سليم فيقول ما لي ولسليم؟ ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء ؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ومزينة ؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته الخضراء.
قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار ـ رضي الله عنهم ـ ولا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء !! قلت: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً !!، قال قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال فنعم إذن (1).
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: « من سيدكم يا بني سلمة ؟ » قالوا: الجد بن القيس على أنا نبخله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « وأي داء أدوأ من البخل، ولكن الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور ».
__________
(1) زاد المعاد في هدى خير العباد، جـ2، ص 182، ومختصر سيرة ابن هشام.(3/16)
وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري: أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فجاء فقال: « قوموا إلي سيدكم » أو قال: « خيركم »، فقعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: « هؤلاء نزلوا على حكمك ». قال: فإني أحكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم فقال: « حكمت بما حكم به الملك ».
وفي رواية أحمد عن عائشة رضي الله عنها: « قوموا إلي سيدكم »، فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عز وجل، قال: « أنزلوه »، فأنزلوه (1).
وأما نموذج أطر المصالح المشتركة: فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن أسماء بنت يزيد الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ أتت إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أصحابه فقالت: يا رسول الله إني وافدة النساء إليك، إن الله بعثك بالحق للرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، وإنا ـ معشر النساء ـ محصورات، قواعد بيوتكم، مقتضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وأنتم ـ معشر الرجال ـ فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهادة الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن الرجل إذا خرج حاجًا أو معتمرًا أو مرابطًا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الخير والأجر يا رسول الله ؟ فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجهه كله إلى أصحابه ثم قال: « هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها؟» فقالوا يا رسول الله، ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبي إليها ثم قال: « انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن طاعة الزوج ـ اعترافًا بحقه ـ يعدل ذلك كله، وقليل منكن من يفعله ».
__________
(1) انظر: الفتح جـ7 ص476، وذكر الحافظ أنه حسن جـ 2 ص53.(3/17)
وأيضًا فيما يرويه ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « لما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء(1) وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: « فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ » قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: « فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ». فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله، وأثنى، ثم قال: « يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتاكم ضلالاً فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله. وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: « ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ » قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال - صلى الله عليه وسلم -: « أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدّقتم آتيتنا مكذبًا فصدقناك ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت
__________
(1) الرحيق المختوم.(3/18)
شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ». فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرقوا... ». أ هـ.
ولابد في كل هذا أن يتقدم الولاء العام للإسلام والمسلمين عامة على الولاء الخاص للإطار الذي ينتمي إليه المسلم أو يُقْطع هذا الولاء الخاص ولا يتقدم إذا تعارض مع الولاء العام ولم يكن خادمًا له.
وبالإبقاء على التعدد عمق المشاركة وبتعميق المشاركة يتعمق الانتماء ولا توجد أي درجة من الاغتراب.
7- حقق - صلى الله عليه وسلم - التوازن بين الفرد والجماعة فقد ربَّى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على روح الفريق لا روح القطيع، ولا روح التشرذم والتدابر والتنازع والاختلاف:
روح الفريق في قوله: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (1).
يقول الإمام ابن كثير: « يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي » (2).
فالبصيرة واليقين والبرهان أولى سمات روح الفريق التي يتربى عليها الأفراد ويذم الله ـ تبارك وتعالى ـ أناسًا فقدوا البصيرة وتربوا على روح القطيع فيقول جل وعلا:
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } (3)، فلا يكون المسلم كالهمج الرعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا إلى ركن وثيق.
__________
(1) سورة يوسف، الآية: 108.
(2) الحافظ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم جـ2 ص 495-496.
(3) سورة البقرة، الآية: 171.(3/19)
وينهى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فيقول:
« لا يكن أحدكم إمّعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم » (1). حتى يكون المسلم أهلاً لما وصفه به - صلى الله عليه وسلم -: « يسعي بذمتهم أدناهم ».
وقد تحقق هذا في القرن النبوي حتى أجارت امرأة من المسلمين وأقرها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: « أجرنا من أجرت يا أم هانئ » (2).
وقد بعث - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن فسأله: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ » قال بكتاب الله، قال : « فإن لم تجد »، قال: فبسنة رسول الله، قال: « فإن لم تجد ؟ » قال: أجتهد رأيي ولا آلو (3). فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه يجتهد رأيه في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في مسألة الأسارى يقول فيها برأي خلافًا لرأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله عنه ويُقِرُّه القرآن الكريم على رأيه (4)، { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (5).
وحتى صبيان المسلمين ـ فضلاً عن كبارهم ـ يتربون على ذلك فهذا الصبي: عبد الله بن الزبير يلعب مع الصبيان في الطريق فيمر بهم عمر رضي الله عنه فيفر الصبيان هيبة من عمر إلا ابن الزبير فيسأله عمر رضي الله عنه: لِم لَم تهرب مع الصبيان ؟ فيقول الصبي كلمته التي حفظها له التاريخ: « لست جانيًا فأفر منك، وليس في الطريق ضيق فأوسع لك » (6).
__________
(1) الترمذي، رقم 62.
(2) الرحيق المختوم، ص 393، ( مكتبة فياض بالمنصورة ).
(3) الترمذي: جـ 3، ص607 رقم (1327)، مسند أحمد: جـ5، ص242، وأبو داود: رقم ( 3592 - 3593 ).
(4) الرحيق المختوم، ص219.
(5) سورة الأنفال، الآية: 68.
(6) عبد الله ناصح علوان: تربية الأولاد في الإسلام، جـ1 ص304-305.(3/20)
فأخذت شخصية كل فرد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - مساحتها في النمو دون عناصر ضاغطة عليها من الخارج تؤدي إلي ضمور عناصر هذه الشخصية أو تلف خامتها البشرية أو كونها شخصية تعتمد على التلقين والإيحاء والتقليد دون بصيرة، ورغم الفارق الضخم جداً بين شخصيته - صلى الله عليه وسلم - وبين شخصيات أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ بل والناس كافة لم تضمر شخصياتهم إلى جواره بل تُوفي - صلى الله عليه وسلم - وقد ترك معجزة عظمى من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - أصحابه نجومًا يُهتدى بهم ويُسترشد. فلم يُحدث فراغًا بموته - صلى الله عليه وسلم - بل ترك السماء مليئة بالنجوم.
نمو شخصية الفرد واستقلاليتها إذن أمر ضروري... ولكن بعيدًا عن روح التشرذم والتدابر والتنازع والاختلاف.
روى الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: وأُمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة وأغرنا عليهم وكانوا كثيرًا فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لِم تقاتلون في الشهر الحرام ؟ فقلنا: إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال بعضنا لبعض: ما ترون ؟ فقال بعضنا: نأتي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره. وقال قوم: لا بل نقيم. وقلت أنا في أناس من أصحابي: لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها، فانطلقنا إلى العير وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئًا فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه الخبر.. فقام غضبانًا محمر الوجه فقال: « أذهبتم من عندي جميعًا وجئتم متفرقين ؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لآبعثن عليكم رجلاً ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش »، فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير في الإسلام.
ويوصي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن:
« تطاوعا ولا تختلفا » (1).
__________
(1) البخاري: جـ4، ص 79، ومسند أحمد: جـ4، ص 412.(3/21)
8- صبغ - صلى الله عليه وسلم - الأمة بصبغة الإسلام وأقام التماسك الاجتماعي على أساس التمسك الفردي بالقيم:
ولأهمية الصبغة الإسلامية وتزكية الفرد بتمسكه بالقيم الإسلامية يدعو خليل الرحمن ربه تبارك وتعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } (1).
فكانت تزكيتهم بطاعة الله عز وجل وإخلاصهم له وتطهيرهم من الدنايا، فاستجاب الله تعالى له وامتن على المؤمنين بذلك فقال تعالى:
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } (2).
فكانت تزكيتهم مقدمة في امتنان الله عليهم على تعليمهم الكتاب والحكمة فقد كان القرآن ينزل مقرراً للقيم الأخلاقية ومربياً لهذه الصفوة التي استجابت لربها على تلك القيم: { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } (3).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 129.
(2) سورة البقرة، الآية: 151.
(3) سورة الإسراء، الآية: 106.(3/22)
كما كانت هذه العصبة مقتدية برسولها - صلى الله عليه وسلم - الذي كان خُلُقه القرآن، وتقص علينا السيرة بعضًا من تلك القيم الكلية التي استقرت في نفوس المسلمين الأوائل على لسان جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ مخاطبًا النجاشي ومخبرًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه وأمنا به واتبعناه على ما جاءنا من دين الله » (1).
فمجموعة القيم الإسلامية التي قال الله عز وجل عنها: { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الُمشْرِكِينَ } (2)، ترفع من فاعليات الفرد وروحه المعنوية وتعمق من إسهاماته في مجتمعه وتفاعله مع بيئته وتجعله فردًا متماسكًا: { وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } (3)، لا متهوكًا ولا حيرانًا، فلا تتفرق النفس داخل كيان الفرد مشدودة إلى أهواء شتى تتجاذبها أو تمزقها: { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } (4).
بل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: « لقد جئتكم بها بيضاء نقية »(5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: « تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك »(6).
__________
(1) الرحيق المختوم ص 90.
(2) سورة الأنعام، الآية: 161.
(3) سورة الأعراف، الآية: 170.
(4) سورة الأنعام، الآية: 71.
(5) رواه أحمد جـ 3، ص 387.
(6) اتحاف المهرةٍٍ، جـ 1 ص 182.(3/23)
وهذه القيم إنما صبغت الأمة بصبغة الإسلام وأدت إلى استقامة سلوك الفرد من خلال ربط التوجيه بالحدث والعلم بالعمل والتلقي للتنفيذ من خلال شمولية التوجيه الرباني على أساس خُلُق بشري نظيف، فقد اختار الله تبارك وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من خيار الناس في الجاهلية فهو ـ سبحانه ـ كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته ـ أعلم بمن هو مستحق للهداية وصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (1).
حافظ - صلى الله عليه وسلم - على التأصيل من خلال خطاب شديد التأثير على الوجدان:
فكتاب الله تبارك وتعالى يجمع بين وصفين أنه فرقان فرّق الله سبحانه به بين الحق والباطل، أحكمه الله سبحانه وتعالى وفصل آياته حتى قال تعالى في وصفه { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } (2).
والوصف الثاني هو تأثيره الشديد على الوجدان، قال تعالى: { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } (3).
وقال جلَّ وعلا: { و َإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (4).
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك أمة من شدة توضيحه الحق لهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. ويقول أبو ذر رضي الله عنه: « ولقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا »(5).
__________
(1) مسلم جـ4، ص598.
(2) سورة النحل، الآية: 89.
(3) سورة الزمر، الآية: 23.
(4) سورة المائدة، الآية: 83.
(5) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، جـ 2، ص 131.(3/24)
كما كان - صلى الله عليه وسلم - يعظهم حتى تذرف عيونهم ويخشع قلوبهم ويخطبهم كأنما ينذرهم جيشًا مصبحهم وممسيهم... فلبى - صلى الله عليه وسلم - فيهم قوة الشعور الديني مع قوة البصيرة الدينية التي تعطي مفاهيم صحيحة لا تسمح بدعاوى الجاهلية من روابط العرق وتخوم الأرض ولا بفصل الدين عن الدولة في أية صورة من الصور، ولا في أي عصر من العصور (1).
أي أنه خاطب العقل و الوجدان معاً فسلم أصحابه رضي الله عنهم من ضلال العُبَّاد الذي سببه الجهل، وضلال العلماء الذي سببه قسوة القلب وجفاف الروح(2).
قال تعالى معلما عباده كيف يدعونه: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } (3).
المغضوب عليهم: هم من تركوا العمل بالحق بعد علمه.
والضالون: هم من جهلوا الحق فعملوا بخلافه.
حقق التوازن بين الترسيخ الرأسي والانتشار الأفقي:
__________
(1) إن فصل الدين عن الدولة ليس ظاهرة حديثة، إنما هو سمة من سمات الجاهلة في أغلب العصور، يقول الله عز وجل على لسان قوم شعيب عليه السلام: { قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود: 87 ].
(2) المنهج من شأنه إذا اتبع أن يمنع الضلال.
(3) سورة الفاتحة، الآيتان: 6 – 7.(3/25)
حقق - صلى الله عليه وسلم - التوازن بين الترسيخ الرأسي بالدعوة والتربية والانتشار الأفقي بإزالة العوائق وفتح الطريق أمام الدعوة بالجهاد فلا يتسع نطاق الأمة أكثر من طاقة استيعاب الصفوة ولتغيير الواقع بقوة البرهان وقوة السلطان بأمة تربت على الحق تدفع عنه الباطل، وبشوكة يزع الله بها ما لا يزع بالقرآن (1)، فحقق مشاركة الأمة في الدفع والتغيير ومشاركتها في السلطة بعد التمكين: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
__________
(1) حدثنا أبو غسان المسمعي وابن مثنى قالا: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: « ألا إن ربي أمرني، أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلي أهل الأرض، فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، إن الله أمرني أن أحرق قريشًا، فقلت رب إذاً يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزة قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا == نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط، متصدق، موفق، ورجل رحيم، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعًا، لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفي له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل ـ أو الكذب والشنظير الفحاش ». ( رواه الإمام مسلم: حديث خلقت عبادي كلهم حنفاء).(3/26)
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } (1)، { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً } (2).
وهكذا أخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال هذه المرتكزات خير أمة أخرجت للناس استطاعت أن تصمد في وجه المرتدين عقب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل وتمكنت بعد ذلك من هزيمة البيزنطيين في فلسطين والانتصار علي الفرس في القادسية وفتح مصر علي يد عمرو بن العاص و القضاء علي الدولة الساسانية وفتح أرمينيا وجورجيا والانتصار على الأسطول البيزنطي في معركة ذات الصواري، كل هذه الملاحم التي توشح صدر الإسلام في فجره، وقعت فيما بين التحاق النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى وحتى مقتل عثمان وتولي علي بن أبي طالب رضي الله عنهما(3).
في كل هذا، كان الإسلام هو هوية هذه الأمة ومحور استقطابها الذي صنعها أمة عظمى من قبائل متفرقة متناحرة يحكمها في أفضل بلادها ولاة من قبل فارس والروم. ونرى أثر ذلك عندما كان الإسلام هوية الأمة، فقد كان الفرد المسلم من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع بل يرى أنه وحده أساس الانتماء وأنه وحده رابطة الولاء، ولذلك لم تكن لديه قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش على أرضه ـ بل ويحكمه ـ مسلم من بلد آخر فصفة الإسلام تجُبُّ ما عداها ورابطة الدين تُغني عما سواه.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 251.
(2) سورة الحج، الآية: 40.
(3) الدكتور أحمد القديري: «الإسلام وصراع الحضارات» كتاب الأمة رقم (44)، ص 64.(3/27)
ويقص علينا التاريخ أن المسلم كان يخرج من طنجة حتى ينتهي به المطاف إلى بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هوية وطنية وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو كلمة التوحيد، فكلما حل أرضاً وجد له فيها أخوة في الإيمان وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية.
كما يحكي لنا كيف سار ابن بطوطة من شاطئ المحيط الأطلسي إلى شاطئ المحيط الهادي ولم يُعتبر في أي قطر مر به أجنبيًا بل وأتيحت له الفرصة حيث حل أن يصبح قاضيًا أو وزيرًا أو سفيرًا ولم يُراقب في حركاته وسكناته ولم يسأله أحد عن هويته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه، فقد كان أفراد الأمة في تحركهم من بلد إلى بلد آخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلى تأشيرات دخول أو خروج لأن الإسلام بلْوَر هويتهم الحقيقة ومنحهم الجنسية الإيمانية وزودهم بروح الأخوة والمودة (1).
وكانت الأمة تقاوم الغزو الغربي الصليبي مقاومة إسلامية وتنظر إليه على أنه غزو من قبل الكفار لبلاد الإسلام تنبغي مجاهدته وإزالته وتقاوم ما وسعتها المقاومة عملية تنحية الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية محلها على أساس أن هذا كفر يخرج من الملة إذا رضيت به.
فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية لم يقاتلوها بوصفهم مصريين إزاء فرنسيين ولكن بوصفهم مسلمين يقاتلون الكفار، وقد كان علماء الدين هم قادة هذه المقاومة، ولذا انصب غضب نابليون على الأزهر بوصفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي.
وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان الحلبي الذي قتل كليبر لم يكن مصريًا بل مسلمًا دفعه إسلامه إلى قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلى أرض الإسلام.
وقد أدرك أعداء هذه الأمة هويتها مما جعلهم يتزلفون إليها بادعاء الإسلام أو المحبة لأهله كما فعل نابليون عند دخوله مصر.
__________
(1) محمد محمد البدري، الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة ص 52-53.(3/28)
كيف انحرفت الأمة عن هويتها وفقدت تماسكها الاجتماعي؟
يرجع انحراف الأمة إلى سببين:
خلل في التوجيه العلمي الشرعي من أهل الجدل واللسان أدى إلى ضعف قوة الالتزام والافتراق الديني عند المسلمين.
خلل في التوجيه السياسي عند أهل الأيدي والقتال أدى إلى ضعف قوة الاجتماع والافتراق الدنيوي عند المسلمين.
يتحدث ابن تيمية عن هذا الانحراف فيقول(1):
«... ومن أعظم أسباب بدع المتكلمين من الجهمية وغيرهم قصورهم في مناظرة الكفار والمشركين فإنهم يناظرونهم ويحاجونهم بغير الحق والعدل لينصروا الإسلام ـ زعموا ـ بذلك. فيسقط عليهم أولئك لما فيهم من الجهل والظلم، ويحاجونهم بممانعات ومعارضات، فيحتاجون حينئذ إلى جحد طائفة من الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والظلم والعدوان لإخوانهم المؤمنين بما استظهر عليهم أولئك المشركون. فصار قولهم مشتملاً على إيمان وكفر وهدى وضلال، ورشد وغي، وجمع بين النقيضين وصاروا مخالفين للكفار والمؤمنين كالذين يقاتلون الكفار والمؤمنين، ومثلهم في ذلك مثل من فرط في طاعة الله وطاعة رسوله من ملوك النواحي والأطراف حتى سلط عليه العدو تحقيقًا لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } (2).
يقاتلون العدو قتالاً مشتملاً على معصية الله من الغدر والمثلة والغلول والعدوان، حتى احتاجوا في مقاتلة ذلك العدو إلى العدوان على إخوانهم والاستيلاء على نفوسهم وأموالهم وبلادهم وصاروا يقاتلون إخوانهم المؤمنين بنوع مما كانوا يقاتلون به المشركين وربما رأوا قتال المسلمين آكد، وبهذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الخوارج حيث قال: « يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ».
__________
(1) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى.
(2) سورة آل عمران، الآية: 155(3/29)
وهذا موجود في سيرة كثير من ملوك الأعاجم وغيرهم وكثير من أهل البدع وأهل الفجور فحال أهل الأيدي والقتال يشبه حال أهل الألسنة والجدال ». انتهى كلام الشيخ، فرحم الله شيخ الإسلام.
وحقًا:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها.
ومن يقرأ جيدًا تاريخ الإسلام يدرك أن الخلل في أنظمة الحكم أفسد القوة الاجتماعية للمسلمين والخلل في المفاهيم والتوجيهات الإسلامية أفسد القوة الالتزامية للمسلمين، وإذا فسدت قوة الاجتماع وقوة الالتزام بالافتراق الدنيوي والافتراق الديني هوى كيان الأمة ودخلت في أطوار الانحلال والانحدار والتفكك ولا أمل في إصلاح حال المسلمين إلا بالخروج من شرعيات الضرورة التي استمرت عشرة قرون في سياسات الملك وأوضاع السلطة وأنظمة الحكم إلى شرعية الاستقرار وهذا ضروري لإصلاح وضع الأمراء أهل الأيدي والقتال والعودة إلى المفاهيم والتوجهات الصحيحة في حركة العلماء، ومن يدرك هذا يفهم ما جاء في تحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته من بني قنطوراء، وبنو قنطوراء هم الترك الذين صار إليهم أمر الشوكة في الإسلام من القرن الثالث الهجري حتى سقوط الخلافة الإسلامية (1)
__________
(1) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كنت جالساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. فسمعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: « إن أمتي يسوقها قوم عراض الأوجه صغار الأعين كأن وجوههم الحجف (*) ثلاث مرات حتى يلحقوهم بجزيرة العرب، أما السابقة الأولى: فينجو من هرب منهم، وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما الثالثة فيصطلمون (**) كلهم من بقي منهم، قالوا: يا نبي الله من هم؟ قال: « هم الترك »، قال: « أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين »، قال: وكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من البلاء من أمراء الترك (***).
(*) الحجف: الحجفة: الترس.
(**) يصطلمون: الاصطلام: الصلم: القطع، أي يحصدون.
(***) مسند أحمد 5/348، 349.
ـ عن ابن مسعود مرفوعًا: اتركوا الترك ما تركوكم، وقال: « أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء ».
ـ ينظر في ذلك: قتال الترك وقتال العجم، صفحات 93- 99، كتاب أشراط الساعة، يوسف بن عبد الله بن يوسف الوابل، دار طيبة، مكتبة ابن الجوزي 1409 هـ، 1989 م.(3/30)
.
جاء في أطلس تاريخ الإسلام عن ملوك الترك والأعاجم(1):
« قد مررنا في دراستنا بدول عظيمة بدأت بدايات جليلة كالسامانيين والغزنويين والأيوبيين والأتراك العثمانيين ولكنها كلها كانت ثقيلة اليد على الناس شديدة الطمع في أموالهم قليلة الاهتمام بدمائهم لهذا توقف معظمها بعد مسير قليل. وتحولت إلى استبداديات صغيرة يتحارب أفرادها على الملك لأنه كان الوسيلة الكبرى لكسب المال ».
وهكذا كان ملوك الأعاجم والترك الذين حموا الإسلام من الخارج هم الذين استنفدوا قوة مجتمعاته من الداخل إلى أن نفدت كل قدرة على العطاء ووقفت هذه المجتمعات جامدة أو تدهورت في بنائها الداخلي من حيث نظم الحكم والإدارة والاجتماع والاقتصاد والعمران فكان هذا هو الخلل عند أهل الأيدي والقتال.
ويصف ابن تيمية جانبًا من الخلل عند أهل الألسنة والجدال الذي أضعف قدرة الأمة على المواجهة عند تعرضها للغزو العلماني في زماننا هذا فيقول رحمه الله(2):
« وقد لُبسَ على طوائف من الناس أصل الإسلام حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركًا وأدخلوا في التوحيد والإسلام أمورًا باطلة ظنوها من التوحيد وهي تنافيه وأخرجوا من الإسلام والتوحيد أمورًا عظيمة لم يظنوها من التوحيد وهي أصله، فأكثر هؤلاء المتكلمين لا يجعلون التوحيد إلا ما يتعلق بالقول والرأي واعتقاد ذلك دون ما يتعلق بالعمل والإرادة واعتقاد ذلك ». أ هـ.
فغاب بذلك عن هؤلاء مفهوم الإيمان الصحيح بكونه: إذعان لحكم المخبر وقبوله، وكذا غاب مفهوم التوحيد بشعبتيه توحيد الاعتقاد وتوحيد العمل. فأثبتوا توحيد الاعتقاد ( الربوبية ) ولم يثبتوا توحيد العمل ( الألوهية ) بأركانه الثلاثة ( إفراد الله بالحكم والولاء والنسك ).
__________
(1) د. حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام.
(2) الفتاوى الكبرى جـ 5، ص 212- 213، طبعة دار القلم ـ بيروت.(3/31)
فبذلك ضعفت مقاومة الأمة عند مواجهتها للعلمانية واستطاعت العلمانية أن تتسرب إلى ديار الإسلام وتجد لها شرعية لسيطرتها فيها بدعوى أن القائمين عليها مسلمون !!!
ومع تفاقم جرثومة الإرجاء بقصر الإيمان على تصديق الخبر بالقلب أو باللسان أو بهما معًا دون قبول الحكم، وانتشارها ليس فقط بين عوام الناس بل بين أهل الألسنة والجدال ومع دخول العلمانية إلى ديار الإسلام وإعلان العلمانيين في بداية الأمر أنهم مسلمون وأن العلمانية لا تتنافى مع الإسلام هنا تبددت الهوية بتعدد الشرعية والتبس الأمر على الناس.
ثم مع غياب مفاهيم الولاء والبراء الصحيحة، صرح العلمانيون بعد ذلك بأنه لا يجب الإلتقاء على أساس الدين بل عندهم الولاء والبراء على غايات أخرى كالوطنية والقومية.
فمع جرثومة الإرجاء وغياب مفاهيم الولاء والتوجه الصوفي في الأمة وهجمة العلمانية الشرسة ووجود بعض ظواهر الاغتراب هنا تميعت الأمور، واختلطت المفاهيم وحدث الإلتباس لدى الناس حول مفهوم العقيدة وهي: ( تحقيق العبودية لله بقبول شرع الله ورفض ما سواه ) ومفهوم الشرعية وتميع الاجتماع الشرعي وتميعت مفاهيم السمع والطاعة ومفاهيم عصمة الدم والمال.
وفي ظل هذا الالتباس والتميع استطاعت العلمانية أن ترسخ أقدامها دون أن يتحدد موقف المسلم منها ودون أي مقاومة تُذكر من الأمة.(3/32)
وفي نهاية القرن التاسع عشر، طرح العلمانيون فكرة الالتقاء والانتماء والتجمع على فكرة القومية العربية (1) ( الرابطة أو الجامعة العربية ) بديلاً عن الرابطة الإسلامية ثم لم يكتفوا بذلك بل أرادوا للأمة مزيدًا من التشرذم، فطرحوا بعد الحرب العالمية الأولى فكرة الوطنيات المختلفة التي كانت سائدة في التاريخ القديم السابق على الإسلام كالوطنية المصرية القديمة ( الفرعونية ) والآشورية والبابلية والفينيقية والفارسية والهندية والطورانية وغيرها من الوطنيات والقوميات الجاهلية (2) التي بدأت تنخر في عظام الأمة لتسلمها إلى مزيد من ترسيخ العلمانية وإبعاد الأمة عن هويتها.
ثم لم يكتفوا بكل هذا بل يحاولون الآن جعل ( الفرانكفونية ) والشرعية الدولية والشرق أوسطية هي الرابطة ــ أو الروابط ــ التي يجتمع حولها الناس، ومسح أي هوية سابقة لهذه الأمة لتمريغ أنفها في التراب وإذلالها وجعلها تابعة ــ في هذه الهوية ــ لأحفاد القردة والخنازير.
فما كانت نتيجة غياب الهوية الإسلامية عن الأمة ؟
عند غياب الهوية الإسلامية ــ كهوية حقيقية راسخة ذات جذور ــ في بلد مسلم يحدث اغتراب ( فراغ سياسي وفقدان انتماء ) لضعف الاجتماع على غيرها من الهويات المستعارة لهذه الأمة وعدم قدرة هذه الهويات على ملء الفراغ الذي تركته الهوية الإسلامية وهذا يؤدي إلى:
1- حكم الأراذل:
عند حدوث الاغتراب يفقد شرفاء الأمة وحكماؤها سيطرتهم على الأمة ؛ لأن المجتمع يصبح همجًا رعاعًا أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح نتيجة تعدد محاور الاستقطاب في الأمة فلا تجتمع الأمة حول أهل الشرف والمكانة والرأي الراجح، بل قد تجتمع حول بعض المضللين والدجالين وأراذل الناس أو يتبعثر الناس حولهم.
2- التبعية للخارج:
__________
(1) راجع د. محمد محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية ص 202 - 208.
(2) المرجع السابق ص 236 وما بعدها.(3/33)
لقيام دول أو دويلات صغيرة نتيجة التفتيت ولانفصالها عن مشروعها الحضاري الإسلامي الكبير وهذا يؤدي إلى الدخول في التبعية للكيانات الكبيرة لملء الفراغ السياسي وحمايتها داخلياً وخارجياً لعدم وجود الرصيد الشعبي الناتج عن ضعف القواعد الشعبية وذبذبة ولاءها وقبولها لكل هوية حيث لا هوية لها.
3- الفساد:
ويتولد بالضرورة مع وجود التبعية وحكم الأراذل، كما أن انتشار الفساد يدعم حكم الأراذل ويمهد للتبعية، وهذا يفسر الدائرة الخبيثة النكدة التي تحياها الأمة الإسلامية والتي تجمع بين النواتج الثلاث.
كيفية الخروج بالأمة من هذه الحالة الحرجة الخطيرة ؟
يقول بعض السلف الصالح من هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين:
« لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ».(3/34)
وقد مر بنا كيف صلح أولها وأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبائل متفرقة متناحرة متقاتلة قد تفشى فيها الظلم الاجتماعي والفساد الأخلاقي والاستبداد السياسي، ونخرت الجاهلية في بنيانهم وعقولهم حتى عبدوا الحجر والوثن، أخرج منهم - صلى الله عليه وسلم - أمة ــ بل خير أمة أخرجت للناس ــ وكذلك، لتخرج ــ إلى الناس ــ الأمة من هذه الحالة الحرجة التي هي فيها إلى الأمة الخيرة لا بد من الاستنان به - صلى الله عليه وسلم - في: إحياء الهوية الإسلامية: بتجريدها وقيامها على التوحيد الخالص ومنع الافتراق الديني والدنيوي وذلك بإحياء الهوية الإسلامية في قلوب أبناء هذه الأمة بتقوية الشعور الديني والانتماء للإسلام واستخراج هذه الهوية من اللاشعور وإزاحة ما ران عليها من الغبش وإخراجها إلى واقع الكثيرين من المنتسبين إلى هذا الدين وإقامتها على التوحيد الخالص وتجريدها عن غيرها من القضايا الرائجة والمصالح القومية كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الناس إلى التوحيد الخالص دون تبني قضايا العدالة الاجتماعية أو القومية العربية أو الإصلاح الأخلاقي لذاتها، فحرر هذه الهوية عن غيرها من عناصر الجذب ومحاور الاستقطاب الأخرى بين الناس.
وعندما تخلت بعض فصائل الحركة الإسلامية في بداية هذا القرن عن تجريد دعوتها إلى التوحيد الخالص وتبنت القضايا الرائجة في ذلك الوقت من عدالة ــ تصنيع ــ استقلال ــ تمصير... إلخ. حدث قدر من الإلتباس عند الناس فلم يتضح الفرق بين الحركة الإسلامية وفصائل العمل الوطني فالكل يتبنى نفس القضايا ولكن هذا من منطلق إسلامي وذاك من منطلق وطني وليس هناك ما يمنع الناس من التجمع حول هذا أو ذاك.
فالكل منتسب إلى الإسلام ولا يطعن في إسلامهم الاتجاه نحو هؤلاء أو هؤلاء.(3/35)
ونتج عن هذا اللبس وعدم الوضوح العقدي في طرح الحركة الإسلامية لقضيتها واختلاطها بغيرها ـ والذي أعطى أعداءها الفرصة لسحب البساط من تحت أقدامها بتبني هؤلاء الأعداء لنفس أهداف الحركة الإسلامية بل وتحقيقها ولو في الظاهر ـ أن فقدت الحركة الإسلامية التفاف الناس حولها وقدرتها على الاستقطاب ومكنت أعداءها من توجيه الضربات إليها تلو الضربات كخطة لحرب دين الله في الأرض، والأمة تقف مكتوفة الأيدي ولا تحرك ساكنًا ولا تدري حقيقة ما يحدث.
لذا لابد للحركة الإسلامية من تجريد الهوية في دعوتها وطرح قضيتها دون التباسها بغيرها. كما لابد لها أن ترتكز على التوحيد الخالص، توحيد الأئمة وسلف الأمة وما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وتوحيد أهل السنة والجماعة وليس توحيد المتكلمين وأهل البدع، توحيد الألوهية: المتضمن والمستلزم لتوحيد الربوبية ـ بأركانه الثلاثة : من إفراد الله ـ سبحانه ـ بالحكم، وإفراده ـ جلَّ وعلا ـ بالولاء، وإفراده ـ تبارك وتعالى ـ بالنسك. مما يمنع اشتراك اللادينية ـ العلمانية ـ مع الإسلام في الاستقطاب بوصفها شريعة غير شريعة الله وبوصفها رابطة يجتمع عليها الناس غير رابطة الإسلام. وبالتالي فمن رضي بالعلمانية فقد رفض شريعة الله ولا يجتمع في قلب امرئ واحد الإيمان بالله وتوحيده مع الإقرار بشرعية التمرد على الله بالرغبة عن شرع الله إلى غيره وبالرغبة عن ولاية الإسلام إلى غيرها من القوميات أو الوطنيات.
فجمعت العلمانية بين وصفين: وهما الاجتماع على غير الإسلام والانتساب إلى غير الشرع أو بمعنى آخر جمعت العلمانية بين:
اتخاذ غير الله وليًا ـ بالتجمع والموالاة على غير الإسلام.
ابتغاء غير الله حكمًا: بقبول شرع غير شرع الله والانتساب إليه وهذا القدر من الوضوح ـ من وضع العلمانية على ميزان الشرع ـ كاف لرفض العلمانية كشريعة غير شريعة الله ورابطة ولاء غير رابطة وهوية الإسلام.(3/36)
وقد أدى عدم وضوح هذا المفهوم للحركة الإسلامية المعاصرة في بدايتها على سرعة انفضاض كثير من الناس عنها وتأييدها ـ بل ومساندتها ـ للأنظمة العلمانية أو على أقل تقدير: عدم رفضها ومقاومتها مع أول عرض قريب لاح لها في الأفق ومع أول مغنم غنمته ـ أو توهمت اغتنامه ـ من تحقيق بعض آمالها الوطنية من تمصير أو تصنيع أو عدالة اجتماعية أو استقلال ـ بزعم تلك الأنظمة.
كما لابد للحركة الإسلامية من إسقاط شرعية الافتراق الديني والدنيوي. وإنه لا شرعية إلا لمن كانوا على ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فالخوارج والروافض ومن جرى مجراهم ليس لهم شرعية تجمع أو اجتماع(1).
وبصفة عامة فإنه مع ملاحظة الدروس المستفادة من هديه - صلى الله عليه وسلم - في إخراج الأمة وملاحظة ما حدث بعد ذلك من انحراف عن هذا المنهج يتضح حاجتنا في واقعنا المعاصر إلى تصحيح المفاهيم في أربعة مجالات:
المجال الأول: مجال التوحيد والعقيدة:
ويترتب على هذا التصحيح ما يلي:
القضاء على ظاهرة الشرك في الحكم والولاء والنسك (2) وإخراج من أراد الله له النجاة من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد لتتحقق له النجاة الأخروية من الخلود في النار.
سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الموجبتان ؟ فقال: « من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار » (3).
إسقاط شرعية الافتراق الديني.
إسقاط شرعية الأنظمة العلمانية.
تطهير الأمة من عبادة القبور ومظاهر الشرك والبدع.
المجال الثاني: مجال مشاركة الأمة:
وهذا يترتب عليه:
__________
(1) مستفاد من: الإمام الشاطبي، الاعتصام.
(2) يشمل النسك الظاهر وأعمال القلوب من التوكل والإنابة والتفويض والإخبات والحب والخوف والرجاء والرضا والتسليم، والرغبة والرهبة والسكينة الاطمئنان بذكر الله والتعظيم وغيرها.
(3) رواه مسلم جـ 1 ص 52.(3/37)
احترام حقيقي وأكثر لحقوق الإنسان وفقاً لما شرعه الله تبارك وتعالى وتكريمه سبحانه لبني آدم : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر } (1).
إفساح مساحة أكبر ( أوسع ) لنمو شخصية الفرد العادي.
التخلي عن أساليب القولبة والتلقين والتحول عن روح القطيع إلى روح الفريق مع تعميق الارتباط بالجماعة.
تحقيق مشاركة الأمة في التغيير ومشاركة الأمة بعد التمكين من خلال مشاركة أهل الحل والعقد وأهل النظر والاجتهاد ومن خلال دور الصفوة في ملئ الفراغ السياسي وتحقيق التلاحم بين الجماهير والسلطة الشرعية.
إسقاط شرعية الافتراق الدنيوي.
المجال الثالث: تحقيق التوازن في الخطاب الديني بين العقل والوجدان:
ويترتب عليه:
المحافظة على قوة الشعور الديني مع قوة التأصيل العلمي الشرعي وقوة البصيرة الدينية لرفض العلمانية ( اللادينية ) والقومية والتبعية لمعسكرات الشرك الدولية وأي التباسات أخرى تطرأ على مفهوم الإسلام.
المجال الرابع: تحقيق التوازن بين الاحتفاظ بالهدف والثبات على المبدأ، وبين ما تقتضيه الضرورات الواقعية من المرونة والتكيف مع الواقع:
ويترتب عليه:
تجريد الهوية من الالتباسات ليتحقق للإسلام هويته المستقلة التي تقوم عليها أمته المتميزة وأن أي قدر مطلوب من التكيف مع الواقع لابد وألا يتعارض مع هذا الهدف.
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 70.(3/38)
الفصل الثالث
الإسلام: صبغة تصطبغ بها الأمة
الفصل الثالث
الإسلام: صبغة تصطبغ بها الأمة
قال تعالى: { صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } (1).
جاءت هذه الآية مع غيرها جوابًا لمن قالوا: { كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (2).
فكانت صبغة الله: هي ملة إبراهيم حنيفًا.
ودين الله الذي ارتضاه تبارك وتعالى لعباده.
وفطرته التي فطر الناس عليها.
وسمى ربنا ـ تبارك وتعالى ـ دينه صبغة لأنه ـ والله أعلم ـ ظهر أثره على المتدينين به ظهور الصبغ على المصبوغ وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب.
ظهر أثره ظهور الصبغ على المصبوغ في سمتهم وهَديهم... في أخلاقهم وسلوكهم... في تجارتهم وتعاملاتهم... في صناعتهم وزراعتهم... بل في كل سلوك إنساني يصدر منهم حتى كانت هذه الصبغة الربانية وذاك اللون الإلهي دينهم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه رضوان الله عليهم هم الأنموذج الأول لأثر هذه الصبغة فقد سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: «كان خُلقه القرآن»(3).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: « حدثنا الذين كانوا يقرؤننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا » (4).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن » (5).
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 138.
(2) سورة البقرة، الآية: 135.
(3) أحمد جـ 6، ص 91، 163 ابن كثير، جـ 5، ص 44 جـ 8، ص 214، والبداية والنهاية جـ 6، ص 41.
(4) الإمام ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ 1 ص 3 مقدمة التفسير.
(5) ابن تيمية، مقدمات في فهم التفسير.(4/1)
والقرآن ـ كما أخبر ربنا تبارك وتعالى عنه ـ في شموليته:
{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (1).
ويقول أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: « ولقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يقلب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا » (2).
فتركهم - صلى الله عليه وسلم - على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ولقد صدق اليهودي لما قال لسلمان رضي الله عنه: « لقد بُعث لكم رسول علمكم كل شيء ( المأكل ـ الملبس ـ النوم ) حتى الخِراء » (3).
فقد كان هذا ترجمة عملية لأمر الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (4) .
نعم لقد ظهر أثر هذه الصبغة الإلهية على المسلمين الأُوَل ـ كما سبق ـ وتداخلت في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب فطهرت قلوبهم من الدنس والشك والظلم والحسد والتوكل على غير الله عز وجل وغيرها من أمراض القلوب.
وصُبغت بالصبغة الربانية ـ ملة إبراهيم ودين الإسلام ـ فانغمست في حب الله ورسوله وحب عباده المؤمنين وخشية الله والإنابة إليه والإيمان به وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضى بقضائه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه والتوكل عليه وحده وغيرها من أقواله وأعمال القلوب فصلحت قلوبهم بهذه الصبغة.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: « إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة » (5).
والأمانة عين الإيمان ـ وعلى هذه القلوب نزل القرآن فأخذوه مأخذ الجد لا مأخذ الجدل، وورد في الأثر: « عُلمنا الإيمان ثم عُلمنا القرآن ».
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 38.
(2) الإمام ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ 2، ص 131.
(3) سيد سابق، فقه السنة، جـ 1 ص 23.
(4) سورة الأنعام، الآية: 162.
(5) فتح الباري، جـ 13، ص 42، رقم 7086.(4/2)
لقد كان الرجل حين يدخل هذا الدين ينزع عن نفسه كل صبغة اصطبغ بها ويمحو عنها كل لون تلون به، إلا ما وافق هذه الصبغة الربانية وذاك اللون الإلهي.
وعن هذا الجيل يقول شهيد الإسلام سيد قطب(1):
« لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية كان يشعر في اللحظة التي يجئ فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدًا جديدًا منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية.
وكان يقف من كل ما عهده في الجاهلية موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد »...
كان يتلقى هذا الهدي وذاك الأمر ليعمل به فور سماعه كما يتلقى الجندي في الميدان « الأمر اليومي » ليعمل به فور تلقيه تمامًا كما أخبر ربنا تبارك وتعالى عن قول المؤمنين: { أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } (2).
فكان هذا الشعور ـ شعور التلقي للتنفيذ ـ ييسر لهم العمل ويخفف عنهم ثقل التكاليف ويخلط القرآن بذواتهم ـ يصطبغون به ـ فيحولونه في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف وإنما تتحول آثارًا وأحداثًا تحول خط سير الحياة كل الحياة (3).
إن هذا الدين صبغة تصبغ حياة المسلمين كلها.
صبغة في العقيدة والأخلاق... صبغة في الحضارة واللغة...
صبغة في العلوم والمعارف... صبغة في الآداب والاجتماع...
صبغة في التجارة والاقتصاد... صبغة في السياسة والحكم...
صبغة في الدعوة والإعلام... صبغة في العادات والتقاليد...
صبغة في كل نواحي الحياة...
صبغة تصبغ المدارس والجامعات... البيوت والطرقات... المزارع والصناعات... النوادي والمؤتمرات... المتاجر والمجتمعات.
صبغة في كل مكان...
__________
(1) سيد قطب: معالم في الطريق: ص 18 وما بعدها.
(2) سورة النور، الآية: 51.
(3) المصدر السابق، ص 18.(4/3)
صبغة تخرج لهذا الكون خير أمة أخرجت للناس، أنفع الناس للناس يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر يأخذون بهم في السلاسل ليدخلوهم الجنة.
صبغة تخرج العالم المسلم الذي يتخلق بأخلاقيات هذه الصبغة في ابتكاراته واختراعاته، لا ذاك الذي يتلاعب بخلق الله في وراثاتهم وتناسلهم تلاعبه بالفئران، ولا ذاك الذي يُسخّر علمه في إبادة خلق الله أطفالًا وشيوخًا، نساءً وشبانًا، عجزة ومقعدين.
صبغة تخرج التاجر المسلم الأمين الصدوق الذي امتنع عن تطفيف الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم، امتنع عن الغش، عن اليمين الكاذبة، تحرى الكسب الحلال خوفًا من أن ينبت لحمه من سحت فيكون مصيره النار، بل نصح للمسلمين في بيعهم وشرائهم ولم يرض لهم إلا ما يرضى لنفسه.
صبغة تخرج الصانع المسلم الذي يتقن لعلمه ( أن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ). الصانع الذي لا يغش لا يهمل لا يضيع مال المسلمين سدى.
صبغة تخرج البيت المسلم الذي تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة من ذكر الله الدائم فيه كما حكت كتب السلف عمن كان يتناوب قيام الليل مع زوجه وخادمه يُحيي أحدُهم ثلث الليل الأول وثانيهم ثلثه الثاني وثالثهم ثلثه الأخير.
البيت الذي خيم عليه المودة والرحمة بين الزوجين، التوقير للكبير والرحمة فيه للصغير، البيت الذي يربي أجيالًا من النشء على الإسلام والإيمان.
صبغة تخرج المدرسة المسلمة التي تربي تلاميذها ـ ليكونوا مسلمين صالحين ـ على منهج للتربية مدروس ومفصل ومؤصل، وللمدرسين بها خبرة وعلم يمارسون الإسلام ويتخلقون بخلق القرآن في سلوكهم وتعاملهم ومظهرهم وسائر شئونهم.
صبغة تخرج الشارع المسلم حيث تُراعى فيه حرمات الله ولا يقع فيه ما يخالف فيه أمر الله وتوجيهاته إلا مُستنكرًا حيث يخلو منه المرأة المتبرجة والشباب المتسكع الذي صناعته معاكسة الغاديات والرائحات....(4/4)
الشارع المسلم الذي خلا من الكلمة البذيئة تلقى هنا وحديث عن الفاحشة يسري هناك أو شتائم قذرة تأتي من بعيد أو كلمة تخدش الحياء تُسمع من قريب، بل يكون سمته ولونه صورة معبرة عن أخلاقيات المجتمع المسلم ومبادئه ومفاهيمه وقيمه سواءً في ذلك أخلاقيات الجنس أو أخلاقيات البيع والشراء أو السلام والتحية أو آداب المرور وآداب الجلوس أو آداب العلاقة بين الصغير والكبير أو بين السائر والجالس... إلخ.
صبغة تخرج لنا الناس كلاً في مجاله وقد تغير واصطبغ بصبغة هذا الدين القويم، فصار قدوة حتى يصبح الفرد أمة يقتدى به، قال تعالى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (1). فقد كان إبراهيم عليه السلام إمامًا يقتدى به.
بل هذه الصبغة تجعل الأرض تخرج خيراتها وكنوزها ليُنتفع بها كما أخرجت لمن قبلنا. فقد رُوى أنه وجد في خزائن بني أمية حبة من القمح في حجم التمرة مكتوب عليها: « هذا ما كان يخرج في زمن العدل » بل حتى الجمادات والأشياء التي لا تعقل تنصاع لهؤلاء الذين صُبغوا بصبغة الله كما انصاعت لمن قبلنا، فهذه الشمس حُبست عن الغروب لرجل صالح من قوم موسى عليه السلام ليتمكن من فتح بيت المقدس (2).
وختامًا نقول:
لقد ظهرت هذه الصبغة في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى قال عنهم نصارى الشام: « والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا » (3).
كما كانت سببًا للنصر.. يقول الأستاذ سيد قطب(4):
__________
(1) سورة النحل، الآية: 120.
(2) يوشع بن نون فتى موسى عليه السلام، ابن كثير البداية، دلائل النبوة الحسية.
(3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.
(4) سيد قطب: دراسات إسلامية، انتصار محمد.(4/5)
« انتصر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - يوم صنع أصحابه ـ عليهم رضوان الله ـ صورًا حية من إيمانه تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، يوم صاغ من كل منهم قرآنًا حيًا يدب على الأرض، يوم جعل من كل فرد نموذجًا مجسمًا للإسلام يراه الناس فيرون الإسلام.
إن النصوص وحدها لا تصنع شيئًا، وإن المصحف لا يعمل حتى يكون رجلاً، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا.
ومن ثَمَّ جعل محمد - صلى الله عليه وسلم - هدفه الأول أن يصنع رجالًا لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبًا، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة.
أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن الكريم. وكان عمل محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يحول الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون.
لقد انتصر محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم أن صاغ من فكرة الإسلام شخوصًا وحول إيمانهم بالإسلام عملاً وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئاتًا وألوفًا. لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله عز وجل ». أ هـ.
واصطبغ بها من جاء بعدهم فكانت سببًا لدخول الناس في دين الله أفواجًا ولانتشار الإسلام ووصوله إلى المحيط الهندي ودول جنوب شرق آسيا وإلى أواسط أفريقيا وغيرها من البلاد.
يقول الشيخ عبد الله ناصح علوان (1):
__________
(1) عبد الله ناصح علوان، تربية الأولاد في الإسلام، جـ 2 ص 624.(4/6)
« وصل الإسلام إلى كل هذه الأمم بواسطة تجار مسلمين ودعاة صادقين أعطوا الصورة الصادقة عن الإسلام في سلوكهم وأمانتهم وصدقهم ووفائهم ثم أعقب ذلك الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة فدخل الناس في دين الله أفواجًا وآمنوا بالدين الجديد عن اقتناع وإيمان ورغبة. ولولا أن يتميز هؤلاء التجار الدعاة بأخلاقهم ويعطوا القدوة بين أولئك الأقوام بصدقهم وأمانتهم ويُعرفوا لدى الغرباء بلطفهم وحسن معاملاتهم لما اعتنق الملايين من البشر هذا الإسلام ولما دخلوا في هديه ورحمته ». أ هـ.
ومعنى هذا أن يتحول الإسلام في واقعنا إلى مشروع حضاري شامل، وبهذا مع الهوية الإسلامية يوجد أساس المشروع الحضاري الإسلامي الذي يمكن أن يعطي تجمعًا عقائديًا يُخرجنا من الكيانات الصغرى التي فرقتها الوطنيات المحدودة إلي مواجهة التكتلات العالمية من خلال مشروعنا الحضاري المواجه لمشاريعهم الحضارية في عصر لا حياة ولا مكان فيه للكيانات الصغيرة وفي عصر يحرص فيه الاستعمار الصليبي الصهيوني على التفتيت إلى أقصى مداه.(4/7)
الفصل الرابع
الإسلام: شريعة تحكم حياة الأمة
الفصل الرابع
الإسلام: شريعة تحكم حياة الأمة
الشريعة ( القانون الإلهي ) :
لغة:
الشريعة: من شرع بمعنى سن: ابتدأ، أظهر ( بَيَّن ـ وأوضح ).
والشريعة في كلام العرب:
1- مشروعة الماء وهي مورد الشاربة ( مورد الماء ) التي يشرعها الناس فيشربون منها ويسقون.
2- وهي الطريق الأعظم.
3- وهي الصراط المستقيم.
اصطلاحًا:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
« الشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه (1) السلف من العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات « (2).
قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } (3).
1- { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } :
يبين الله سبحانه وتعالى أن المرء لا مناص له من أن يتبع أحد أمرين:
ـ إما شريعة الله التي جعل الله سبحانه وتعالى عليها رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ـ وإما أهواء الذين لا يعلمون.
وقد نهى سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن إتباع أهواء الذين لا يعلمون تشريعًا للأمة من بعده.
فعلى المسلم ألا ينحرف عن شيء من الشريعة ( القانون الرباني ) إلى شيء من الأهواء ( القانون الوضعي ـ العادات والتقاليد المخالفة لقانون الله ـ أو غير ذلك من الأهواء ).
__________
(1) عندما يكون عملهم راجع إلى النقل المتصل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون من السنة العملية.
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جـ 17.
(3) سورة الجاثية، الآيتان: 18- 19.(5/1)
قال تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (1):
يقول الحافظ بن كثير في تفسيره لهذه الآية(2):
» ينكر تعالى على مَن خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذه من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكِّم سواه في قليل أو كثير ». أ هـ.
وقد صرح ـ رحمه الله ـ بالإجماع على هذا المعنى فقال(3):
« فمن ترك الشرع المنزل على محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمه عليه؟، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ». أ هـ.
ويؤكد هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول(4):
« والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه، كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء ».
2- { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئا ً } (5):
فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه شيئًا من الله صاحب الشريعة الذي بيده ملكوت كل شيء.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 50.
(2) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم جـ2، ص67.
(3) ابن كثير، البداية والنهاية، جـ13، ص119.
(4) مجموع الفتاوى، جـ3، ص267.
(5) سورة الجاثية، الآية: 19.(5/2)
3- { وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } (1):
وإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وأن أعظم الظلم الشرك بالله: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (2)، كان وضع التشريع في غير من خلق ورزق شركًا وظلمًا وهو أشنع أنواع وضع الشيء في غير موضعه.
فهؤلاء المشركون الظالمون بعضهم ولي لبعض فهم يتساندون فيما بينهم ضد أصحاب الشريعة، كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم في غير موضع من كتابه الكريم:
{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } (3).
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً } (4).
كما أخبر سبحانه وتعالى أنهم أولياء الشيطان وهو وليهم: { - ((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - ( المحتويات ( - (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات قرآن كريم ((( { ( - - - } (5).
وأنبأنا سبحانه وتعالى أنهم حزب الشيطان وأنهم الخاسرون وأنهم يلهمون أولياءهم بزخرف من القول: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (6).
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } (7).
__________
(1) سورة الجاثية، الآية: 19.
(2) سورة لقمان، الآية: 13
(3) سورة الأنفال، الآية: 73.
(4) سورة الأنعام، الآية: 129.
(5) سورة البقرة، الآية: 257.
(6) سورة المجادلة، الآية: 19.
(7) سورة الأنعام، الآية: 112.(5/3)
4- { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } : فهو وليهم وهم أولياؤه يوالونه بالطاعة والإيمان وهو يواليهم بالنُصرة والهداية والرحمة والجزاء. كما قال ربنا تبارك وتعالى: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } (1).
وقال سبحانه:
{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (2).
وأخبر تعالى أنهم حزبه وأنهم المفلحون وأنهم المنتصرون:
{ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (3).
{ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (4).
فأين ولاية من ولاية ؟! وأين حزب من حزب ؟!
أين ولاية ضعاف مهازيل لا يغنون عنك من الله شيئًا من ولاية جبار السموات والأرض ؟!
أين جهال لا يعلمون... من العليم الخبير الذي وسع كل شيء علمًا ؟! أين لأصحاب أهواء مشركون يتولى بعضهم بعضًا.. من أصحاب شريعة يتولاهم الله عز وجل ؟!!
وختامًا:
فإن الذين يصدونكم عن شرع الله ويفتنوكم ويحملونكم على غيره وينفرون عنه ويُنّفرونكم عنه: { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } (5)، { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ - فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } (6)، قد أخبرنا الله عنهم أنهم متصفون بأعظم الظلم ( الشرك )، ويظلم مَنْ عَدَل عن شرع الله إلى غيره... وأنهم أهل جهل وهوى... وأنهم ليسوا أولياء لله بل أولياء الشيطان.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 196.
(2) سورة البقرة، الآية: 257.
(3) سورة المجادلة، الآية: 22.
(4) سورة المائدة، الآية: 56.
(5) سورة الأنعام، الآية: 26.
(6) سورة المدثر، الآيتان: 50 – 51.(5/4)
والمؤمن إما أن يتبع شرع الله ولا يستجيب لصد هؤلاء عنه ـ حين قبل ولاية الله ونصرته وحفظه ـ وإما أن يستجيب لفتنتهم ويتابعهم رضا واستكانة لما هم عليه من إعراض عن شرع الله ورغبة عنه إلى غيره فيكون منهم ويخرج بذلك عن ولاية الله إلى ولايتهم وإلى ما هم عليه من الشرك والظلم والجهل والهوى والبعد عن الله عز وجل، وهم لن يغنوا عنه من عذاب الله ولن ينال هو أو هم إلا الخزي والخذلان من الله عز وجل في الدنيا والآخرة... ! ومن ثَّم فليس إلا أحد الطريقين.
فاستمسكوا ـ عباد الله ـ بشرع الله وولايته واحذروا هؤلاء الصادين عن شرع الله الداعين إلى غير شرعه فإنهم ـ والله ـ دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، وإن حملوكم على غير الشريعة فكونوا مع الشريعة حيث كانت، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « خذوا العطاء مادام عطاءً، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة، ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون عليكم، إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم » قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: « كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام نُشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله » (1).
فادفعوا هؤلاء ما استطعتم فإن عجزتم عنهم وحملوكم على غير شرع الله فليعلم الله من قلوبكم أنكم كارهون كرهًا حقيقيًا لا استكانة فيه ولا استنامة ولا شرح صدر ولا خداعًا للنفس بالأماني وليس ـ والله ـ وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في باب يزيد بن مرثد، جـ5، ص165، مجمع الزوائد جـ 5، ص 238.(5/5)
ودلالة الكره الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل ـ كما مر ذكره ـ واحذروا يوم أن يقف الناس أمام الله عز وجل فيقول: { الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْء } ، فيجيبونهم: { لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } ، ثم يصدقهم وليهم الكذوب ـ الشيطان ـ بقوله: { إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (1).
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية: 22.(5/6)
الفصل الخامس
الإسلام: عقيدة أهل السنة
ننجو بها من الضلالات والبدع
الفصل الخامس
الإسلام: عقيدة أهل السنة
ننجو بها من الضلالات والبدع
عقيدة السلف: السنة المحضة، سنة أهل الإتباع، القرون الثلاثة الأولى.
قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (1).
2- { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (2).
3- { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } (3).
4- { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } (4).
5- { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } (5).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة »، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: « ما أنا عليه أنا وأصحابي » (6)، وفي رواية: « الجماعة » (7)، وفي رواية: « وهي الجماعة » (8)، وفي رواية أخرى: « السواد الأعظم » (9) أي: السنة المحضة.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 159.
(2) سورة الروم، الآيتان: 31 – 32.
(3) سورة هود، الآيتان: 118 – 119.
(4) سورة آل عمران، الآية: 103.
(5) سورة الأنعام، الآية: 153.
(6) الترمذي (2642 ).
(7) أخرجه ابن ماجه واللالكائى وابن أي عاصم عن عوف بن مالك.
(8) أحمد، جـ 3، ص 145.
(9) ابن أبي عاصم، جـ 1، ص 36.(6/1)
ومن أفضل ما كتب في أصول أهل السنة والجماعة كلاماً مجملاً وأصولاً ثابتة وعقيدة موروثة: ما ذكره الدكتور ناصر عبد الكريم العقل (1) ـ نقلاً عن السلف ـ وها هي كما كتبها غفر الله له في كتاب " مجمل أصول أهل السنة والجماعة في العقيدة ":
العقيدة لغة:
من العقد، والتوثيق، والإحكام والربط بقوة.
واصطلاحاً:
الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده.
فالعقيدة الإسلامية تعني:
الإيمان الجازم بالله تعالى ـ وما يجب له من التوحيد والطاعة ـ وبملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، والأخبار والقطعيات: علمية كانت أو عملية.
السلف :
هم صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى في القرون الثلاثة المفضلة، ويطلق على من اقتدى بهؤلاء وسار على نهجهم في سائر العصور: سلفي، نسبة إليهم.
أهل السنة والجماعة:
هم من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وسُموا أهل السنة: لاستمساكهم وإتباعهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسُموا الجماعة: لأنهم الذين اجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا في الدين واجتمعوا على أئمة الحق ولم يخرجوا عليهم، واتبعوا ما أجمع عليه سلف الأمة.
ولما كانوا هم المتبعين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقتفين للأثر سموا (أهل الحديث ) و( أهل الأثر ) و ( أهل الإتباع ) ويسمون ( الطائفة المنصورة ) و ( الفرقة الناجية ).
أولاً: قواعد وأصول
في منهج التلقي والاستدلال
1- مصدر العقيدة هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة وإجماع السلف الصالح.
__________
(1) د. ناصر عبد الكريم العقل، أستاذ مشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين، الرياض، وله مؤلفات عديدة منها:
ـ من تشبه بقوم فهو منهم.
ـ مفهوم أهل السنة والجماعة.
ـ مجمل أهل السنة والجماعة في العقيدة.(6/2)
2- كل ما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب قبوله والعمل به، وإن كان آحادًا في العقائد وغيرها.
3- المرجع في فهم الكتاب والسنة هو النصوص المبينة لها وفهم السلف الصالح، ومن سار على منهجهم من الأئمة، ثم ما صح من لغة العرب لكن لا يُعارض ما ثبت من ذلك بمجرد احتمالات لغوية.
4- أصول الدين كلها، قد بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لأحد أن يُحدث شيئًا زاعمًا أنه من الدين.
5- التسليم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطنًا، فلا يُعارض شيء من الكتاب أو السنة الصحيحة بقياس ولا ذوق ولا كشف ولا قول شيخ ولا إمام ونحو ذلك.
6- العقل الصريح موافق للنقل الصحيح ولا يتعارض قطعيان منهما أبدًا وعند توهم التعارض يُقدم النقل.
7- يجب الالتزام بالألفاظ الشرعية في العقيدة وتجنب الألفاظ البدعية التي أحدثها الناس. والألفاظ المجملة المحتملة للخطأ والصواب يستفسر عن معناها فما كان حقًا أثبت بلفظه الشرعي وما كان باطلاً رد.
8- العصمة ثابتة للرسول - صلى الله عليه وسلم - والأمة في مجموعها معصومة من الاجتماع على ضلالة وأما آحادها فلا عصمة لأحد منهم، وما اختلف فيه الأئمة وغيرهم فمرجعه إلى الكتاب والسنة فما قام عليه الدليل قبل مع الاعتذار للمخطئ من مجتهدي الأمة.
9- في الأمة محدَّثون مُلهمون كعمر بن الخطاب والرؤيا الصالحة حق بشرط موافقتها للشرع ـ وليست مصدرًا للعقيدة ولا للتشريع.
10- المراء في الدين مذموم، والمجادلة بالحسنى مشروعة، وما صح النهي عن الخوض فيه وجب امتثال ذلك ويجب الإمساك عن الخوض فيما لا علم للمسلم به وتفويض علم ذلك إلى عالمه سبحانه.
11- يجب الالتزام بمنهج الوحي في الرد، كما يجب في الاعتقاد والتقرير، فلا ترد البدعة ببدعة ولا يقابل التفريط بالغلو، ولا العكس.
12- كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثانياً: التوحيد العملي الاعتقادي(6/3)
1- الأصل في أسماء الله وصفاته:
إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تمثيل ولا تكييف، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، كما قال تعالى: ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? (1)، مع الإيمان بمعاني ألفاظ النصوص وما دلت عليه.
2- التمثيل والتعطيل في أسماء الله وصفاته كفر، أما التحريف الذي يسميه أهل البدع تأويلًا فمنه ما هو كفر كتأويلات الباطنية، ومنه ما هو بدعة ضلالة كتأويلات نفاة الصفات، ومنه ما يقع خطأ.
3- وحدة الوجود أو اعتقاد حلول الله تعالى في شيء من مخلوقاته أو اتحاد به كل ذلك كفر مخرج من الملة.
4- الإيمان بالملائكة الكرام إجمالًا، وأما تفصيلًا فبما صح به الدليل من أسمائهم وصفاتهم وأعمالهم بحسب علم المكلف.
5- الإيمان بالكتب المنزلة جميعها وأن القرآن الكريم أفضلها وناسخها وأن ما قبله طرأ عليه التحريف وأنه لذلك يجب إتباعه دون ما سبقه.
6- الإيمان بأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم وأنهم أفضل ممن سواهم من البشر ومن زعم غير ذلك فقد كفر وما صح فيه الدليل بعينه منهم وجب الإيمان به معينًا ويجب الإيمان بسائرهم إجمالاً وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم وآخرهم وأن الله أرسله للناس جميعًا.
7- الإيمان بانقطاع الوحي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ومن اعتقد خلاف ذلك كفر.
8- الإيمان باليوم الآخر وكل ما صح فيه من الأخبار وبما يتقدمه من العلامات والأشراط.
9- الإيمان بالقدر، خيره وشره من الله تعالى، وذلك: بالإيمان بأن الله تعالى علم ما يكون قبل أن يكون، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون إلا ما يشاء، والله تعالى على كل شيء قدير، وهو خالق كل شيء فعَّال لما يريد.
__________
(1) سورة الشورى، الآية: 11.(6/4)
10- الإيمان بما صح الدليل عليه من الغيبيات كالعرش والكرسي والجنة والنار ونعيم القبر وعذابه والصراط والميزان وغيرها دون تأويل شيء من ذلك.
11- الإيمان بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم يوم القيامة كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة.
12- رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة في الجنة وفي المحشر حق ومن أنكرها أو أوَّلها فهو زائغ ضال وهي لن تقع لأحد في الدنيا.
13- كرامات الأولياء الصالحين حق وليس كل أمر خارق للعادة كرامة بل قد يكون استدراجًا. وقد يكون من تأثير الشياطين والمبطلين والمعيار في ذلك موافقة الكتاب والسنة أو عدمها.
14- المؤمنون كلهم أولياء الرحمن وكل مؤمن فيه من الولاية بقدر إيمانه.
ثالثاً: التوحيد الإرادي الطلبي
(توحيد الألوهية)
1- الله تعالى واحد أحد لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وهو رب العالمين المستحق وحده لجميع أنواع العبادة.
2- صرف شيء من أنواع العبادة كالدعاء والاستغاثة والاستعانة والنذر والذبح والتوكل والخوف والرجاء والحب ونحوها لغير الله تعالى شرك أيًا كان المقصود بذلك، ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلاً، أو عبدًا صالحًا أو غيرهم.
3- من أصول العبادة أن الله تعالى يُعْبَد بالحب والخوف والرجاء جميعًا وعبادته ببعضها دون بعض ضلال، قال بعض العلماء: « من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ».
4- التسليم والرضا والطاعة المطلقة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بالله حَكَمًا من الإيمان به ربًا وإلهًا فلا شريك له في حكمه وأمره. وتشريع ما لم يأذن به الله والتحاكم إلى الطاغوت واتباع غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتبديل شيء منها كفر، ومن زعم أن أحدًا يسعه الخروج عنها فقد كفر.(6/5)
5- الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر، وقد يكون كفرًا دون كفر. فالأول التزام شرع غير شرع الله أو تجويز الحكم به. والثاني العدول عن شرع الله في واقعة معينة لهوى مع الالتزام بشرع الله.
6- تقسيم الدين إلى حقيقة يتميز بها الخاصة وشريعة تلزم العامة دون الخاصة وفصل السياسة أو غيرها عن الدين باطل. بل كل ما خالف الشريعة من حقيقة أو سياسة أو غيرها فهو إما كفر وإما ضلال بحسب درجته.
7- لا يعلم الغيب إلا الله وحده. واعتقاد أن أحدًا غير الله يعلم الغيب كفر، مع الإيمان بأن الله يطلع بعض رسله على شيء من الغيب.
8- اعتقاد صدق المنجمين والكهان كفر وإتيانهم والذهاب إليهم كبيرة.
9- الوسيلة المأمور بها في القرآن هي ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات المشروعة والتوسل ثلاثة أنواع:
أ ـ مشروع: وهو التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته أو بعمل صالح من المتوسل أو بدعاء الحي الصالح.
ب ـ بدعي: وهو التوسل إلى الله تعالى بما لم يرد في الشرع كالتوسل بذوات الأنبياء والصالحين أو جاههم أو حقهم أو حرمتهم ونحو ذلك.
جـ ـ شركي: وهو اتخاذ الأموات وسائط في العبادة ودعاؤهم وطلب الحوائج منهم والاستعانة بهم ونحو ذلك.
10- البركة من الله تعالى يختص بعض خلقه بما يشاء منها فلا تثبت في شيء إلا بدليل.
وهي تعني كثرة الخير وزيادته أو ثبوته ولزومه وهي في الزمان كليلة القدر.
وفي المكان كالمساجد الثلاثة.
وفي الأشياء كماء زمزم.
وفي الأعمال فكل عمل صالح مبارك.
وفي الأشخاص كذوات الأنبياء، ولا يجوز التبرك بالأشخاص لا بذواتهم ولا آثارهم إلا بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وما انفصل من بدنه من ريق وعرق وشعر إذ لم يرد الدليل إلا بها، وقد انقطع ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم - وذهاب ما ذكر.
11- التبرك من الأمور التوقيفية فلا يجوز التبرك إلا بما ورد به الدليل.
12- أفعال الناس عند القبور وزيارتها ثلاثة أنواع:(6/6)
الأول: مشروع وهو زيارة القبور لتذكر الآخرة وللسلام على لأهلها والدعاء لهم.
الثاني: بدعي ينافي كمال التوحيد وهو وسيلة من وسائل الشرك وهو قصد عبادة الله تعالى والتقرب إليه عند القبور أو قصد التبرك بها (1) أو إهداء الثواب عندها والبناء وتجصيصها وإسراجها وإتخاذها مساجد وشد الرحال إليها ونحو ذلك مما ثبت النهي عنه أو مما لا أصل له في الشرع.
الثالث: شركي ينافي التوحيد وهو صرف شيء من أنواع العبادة لصاحب القبر كدعائه من دون الله والاستعانة به والطواف والذبح والنذر له ونحو ذلك.
13- الوسائل لها حكم المقاصد وكل ذريعة إلى الشرك في عبادة الله أو الابتداع في الدين يجب سدها. فكل محدثة في الدين بدعة وكل بدعة ضلالة.
رابعًا: الإيمان
1- الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فهو قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.
فقول القلب: اعتقاده وتصديقه، وقول اللسان: إقراره، وعمل القلب: تسليمه وإخلاصه وإذعانه وحبه وإرادته للأعمال الصالحة. وعمل الجوارح: فعل المأمورات وترك المنهيات.
2- من أخرج العمل من الإيمان فهو مرجئ ومن أدخل فيه ما ليس منه فهو مبتدع.
3- من لم يقر بالشهادتين لا يثبت له اسم الإيمان ولا حكمه لا في الدنيا ولا الآخرة.
4- الإسلام والإيمان اسمان شرعيان بينهما عموم وخصوص من وجه، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، ويسمى أهل القبلة مسلمين.
5- مرتكب الكبيرة التي دون الكفر والشرك لا يخرج من الإيمان فهو في الدنيا مؤمن ناقص الإيمان وفي الآخرة تحت « مشيئة الله» إن شاء غفر له إن شاء عذبه، والموحدين كلهم مصيرهم إلى الجنة وإن عذب منهم بالنار من عذب ولا يخلد أحد منهم فيها قط.
6- لا يجوز القطع لمعين من أهل القبلة بالجنة أو النار إلا من ثبت النص في حقه.
7- الكفر الوارد ذكره في الألفاظ الشرعية قسمان:
أكبر مخرج من الملة، وأصغر غير مخرج من الملة ويسمى أحيانًا بالكفر العملي.
__________
(1) بمعنى طلب البركة بها لا منها .(6/7)
8- التكفير من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة فلا يجوز تكفير مسلم بقول أو فعل ما لم يدل دليل شرعي على ذلك، ولا يلزم من إطلاق حكم الكفر على قول أو فعل ثبوت موجبه في حق المعين إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع (1)، والتكفير من أخطر الأحكام فيجب التثبت والحذر من تكفير المسلم.
خامساً: القرآن والكلام
1- القرآن كلام الله حروفه ومعانيه منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وهو معجز دال على صدق من جاء به - صلى الله عليه وسلم - ومحفوظ إلى يوم القيامة.
2- الله تعالى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، وكلامه تعالى حقيقة بحرف وصوت والكيفية لا نعلمها ولا نخوض فيها.
3- القول بأن كلام الله معنى نفسي أو أن القرآن حكاية أو عبارة أو مجاز أو فيض، وما أشبهها ضلال وزيغ وقد يكون كفرًا والقول بأن القرآن مخلوق كفر.
4- من أنكر شيئًا من القرآن أو ادعى فيه النقص أو الزيادة أو التحريف فهو كافر.
5- القرآن يجب أن يفسر بما هو معلوم من منهج السلف ولا يجوز تفسيره بالرأي المجرد فإنه من القول على الله بغير علم وتأويله بتأويلات الباطنية وأمثالها كفر.
سادسًا: القدر
1- من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى، ويشمل:
الإيمان بكل نصوص القدر ومراتبه (العلم، الكتابة، المشيئة، الخلق) وأنه تعالى لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
2- الإرادة والأمر الواردان في الكتاب والسنة نوعان:
أ- إرادة كونية قدرية (بمعنى المشيئة ) وأمر كوني قدري.
ب- إرادة شرعية (لازمها المحبة) وأمر شرعي.
وللمخلوق إرادة ومشيئة ولكنها تابعة لإرادة الخالق ومشيئته.
3- هداية العباد وإضلالهم بيد الله، فمنهم من هداه الله فضلاً ومنهم من حقت عليه الضلالة عدلًا.
__________
(1) « إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان »، جزء من حديث شريف، مسلم جـ2، ص 132 .(6/8)
4- العباد وأفعالهم من مخلوقات الله تعالى، الذي لا خالق سواه فالله خالق لأفعال العباد وهم فاعلون لها على الحقيقة.
5- إثبات الحكمة في أفعال الله تعالى إثبات تأثير الأسباب بمشيئة الله تعالى.
6- الآجال مكتوبة والأرزاق مقسومة والسعادة والشقاوة مكتوبتان على الناس قبل خلقهم.
7- الاحتجاج بالقدر يكون على المصائب والآلام ولا يجوز الاحتجاج به على المعايب والآثام بل تجب التوبة منها ويلام فاعلها.
8- الانقطاع إلى الأسباب شرك في التوحيد. والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ونفي تأثير الأسباب مخالف للشرع والعقل، والتوكل لا ينافي الأخذ الأسباب.
سابعاً: الجماعة والإمامة
1- الجماعة: ـ في هذا الباب ـ هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان المتمسكون بآثارهم إلى يوم القيامة، وهم الفرقة الناجية وكل من التزم بمنهجهم فهو من الجماعة وإن أخطأ في بعض الجزئيات.
2- لا يجوز التفرق في الدين، ولا الفتنة بين المسلمين، ويجب رد ما اختلف فيه المسلمون، إلى كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه السلف الصالح.
3- من خرج عن الجماعة، وجب نصحه، ودعوته، ومجادلته بالتي هي أحسن، وإقامة الحجة عليه، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحق شرعًا.
4- إنما يجب حمل الناس على الجُمل الثابتة بالكتاب، والسنة والإجماع، ولا يجوز امتحان عامة المسلمين بالأمور الدقيقة، والمعاني العميقة.
5- الأصل في جميع المسلمين سلامة القصد، والمعتقد، حتى يظهر خلاف ذلك والأصل حمل كلامهم على المحمل الحسن، ومن ظهر عناده وسوء قصده فلا يجوز تكلف التأويلات له.
6- فرق أهل القبلة الخارجة عن السنة، متوعدون بالهلاك والنار وحكمهم حكم عامة أهل الوعيد، إلا من كان منهم كافرًا في الباطن. والفرق الخارجة عن الإسلام كفارًا في الجملة وحكمهم حكم المرتدين.(6/9)
7- الجمعة والجماعة من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة، والصلاة خلف مستور الحال من المسلمين صحيحة وتركها بدعوى جهالة حاله بدعة.
8- لا تجوز الصلاة خلف من يظهر البدعة أو الفجور من المسلمين مع إمكانها خلف غيره، وإن وقعت صحت ويأثم فاعلها، إلا إذا قصد دفع مفسدة أعظم. فإن لم يوجد إلا مثله، أو شر منه جازت خلفه، ولا يجوز تركها. ومن حكم بكفره فلا تصح الصلاة خلفه.
9- الإمامة الكبرى تثبت بإجماع الأمة أو بيعة ذوي الحل والعقد منهم، ومن تغلب حتى اجتمعت عليه الكلمة وجبت طاعته بالمعرف ومناصحته وحرم الخروج عليه إلا إذا ظهر منه كفر بواح، فيه من الله برهان.
10- الصلاة والحج والجهاد واجبة مع أئمة المسلمين وإن جاروا.
11- يحرم القتال بين المسلمين على الدنيا أو الحمية الجاهلية وهو من أكبر الكبائر، وإنما يجوز قتال أهل البدعة والبغي وأشباههم إذا لم يمكن دفعهم بأقل من ذلك وقد يجب بحسب المصلحة والحال.
12- الصحابة الكرام كلهم عدول. وهم أفضل هذه الأمة والشهادة لهم بالإيمان والفضل أصل قطعي معلوم من الدين بالضرورة ومحبتهم دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق مع الكف عما شجر بينهم وترك الخوض فيه بما في قدرهم. وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وهم الخلفاء الراشدون وتثبت خلافة كل منهم حسب ترتيبهم.
13- ومن الدين محبة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوليهم، وتعظيم قدر أزواجه أمهات المؤمنين، ومعرفة فضلهن، ومحبة أئمة السلف، وعلماء السنة، والتابعين لهم بإحسان ومجانبة أهل البدع والأهواء.
14- الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وهو ماض إلى قيام الساعة.
15- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة من أعظم شعائر الإسلام وأسباب حفظ جماعته وهما يجبان بحسب الطاقة، والمصلحة معتبرة في ذلك.
أهم خصائص
أهل السنة والجماعة وسماتهم(6/10)
أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة فإنهم على تفاوتهم فيما بينهم لهم خصائص وسمات تميزهم عن غيرهم منها:
1- الاهتمام بكتاب الله حفظًا وتلاوة وتفسيرًا، والاهتمام بالحديث، معرفة وفهمًا وتمييزًا لصحيحة من سقيمة (لأنهما مصدر التلقي ) مع إتباع العلم بالعمل.
2- الدخول في الدين كله، والإيمان بالكتاب كله، فيؤمنون بنصوص الوعد ونصوص الوعيد، وبنصوص الإثبات للصفات ونصوص التنزيه، ويجمعون بين الإيمان بقدر الله، وإثبات إرادة العبد، ومشيئته وفعله كما يجمعون بين العلم والعبادة، وبين القوة والرحمة وبين العمل بالأسباب والزهد.
3- الإتباع، وترك الابتداع، والإجماع ونبذ الفرقة والاختلاف في الدين.
4- الاقتداء، والاهتداء بأئمة الهدى العدول المقتدى بهم في العلم والعمل والدعوة ـ الصحابة ومن سار على نهجهم ـ ومجانبة من خالف سبيلهم.
5- التوسط: فهُم في الاعتقاد وسط بين الغلو وفرق التفريط، وهم في الأعمال والسلوك وسط بين المُفَرطين والمُفْرطين.
6- الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق وتوحيد صفوفهم على التوحيد والإتباع وإبعاد كل أسباب النزاع والخلاف بينهم.
ومن هنا لا يتميزون على الأمة في أصول الدين باسم سوى السنة والجماعة، ولا يوالون ولا يعادون على رابطة سوى الإسلام والسنة.
7- الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، وإحياء السنة، والعمل لتجديد الدين بإحياء السنن ونفي البدع والمحدثات، وإقامة شرع الله وحكمه في كل صغيرة وكبيرة.
8- الإنصاف والعدل: فهم يراعون حق الله ـ تعالى ـ لا حق النفس أو الطائفة، ولهذا لا يغالون في موال، ولا يجورون على مُعَاد، ولا يغمطون ذا فضل فضله أيًا كان.
9- التوافق في الأفهام والتشابه في المواقف رغم تباعد الأقطار والأعصار وهذا من ثمرات وحدة المصدر والتلقي.
10- الإحسان والرحمة وحسن الخلق مع الناس كافة.(6/11)
11- النصيحة لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
12- الاهتمام بأمور المسلمين ونصرتهم، وأداء حقوقهم، وكف الأذى عنهم.
(انتهى كلام الدكتور ناصر العقل ).(6/12)
الفصل السادس
مسئولية الفرد عن انتكاسة الأمة
الفصل السادس
مسئولية الفرد عن انتكاسة الأمة
مقدمة:
بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب » (1).
المستحيل الممكن !!!
لعل القارئ يسأل:
هل لهذه الأمجاد التي قامت ثم تهاوت من عودة بعد غلبة أعداء المسلمين عليهم، وإحاطتهم بهم إحاطة السوار بالمعصم، مع ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والتخلف وغيبة الوعي وتلوث المفاهيم وافتراق ديني ودنيوي، واختراقات شتى لعدوهم في مجتمعاتهم ومؤسساتهم، وتبعية يفرضها عدوهم عليهم، وهوة سحيقة من التخلف التقني والاقتصادي والاجتماعي والعسكري عليهم أن يجتازوها، هل يمكن أن يتحقق ذلك، وهل سيتركهم عدوهم يفعلون ذلك لو أرادوه؟
__________
(1) الجامع الصغير للسيوطي، عن (مسند الإمام أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان وابن حبان في صحيحه، والمستدرك للحاكم، صحيح).(7/1)
جاء في دلائل النبوة للبيقهي (1)، عن دلالة صدق الوحي في قوله تعالى: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى - وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى - وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } (2)، عن موسى بن علي بن رباح قال سمعت أبي يقول: « كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو يومئذ على مصر وعبد الله بن عمرو بن العاص جالساً معه فتمثل مسلمة ببيت من شعر أبي طالب فقال: لو أن أبا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد قد جاء بخير كثير، فقال عبد بن عمرو: ويومئذ قد كان سيدًا كريمًا قد جاء بخير كثير، فقال مسلمة: ألم يقل الله عز وجل { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى - وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى - وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } (3)، وقال عبد الله بن عمرو: أما اليتيم فقد كان يتيماً من أبويه، وأما العيلة فكل ما كان بأيدي العرب إلى القلة ».
ويروي البيهقي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: « رأيت ما هو مفتوح على أمتي بعدي كفرًا كفرًا (4)، فسرني فنزلت: { وَالضُّحَى - وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى - وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (5) » (6) .
ويروي البيهقي أيضًا في نفس السياق: عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (7)، قال: شرف لك ولقومك، وفي قوله: { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } (8): فيه شرفكم.
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقى، دار البيان للتراث بالقاهرة، 7/62-64
(2) سورة الضحى، الآيات: 6-8.
(3) سورة الضحى، الآيات: 6-8.
(4) أي قرية قرية.
(5) سورة الضحى، الآيات: 1 – 5.
(6) وجاء الحديث من عدة طرق أخرى بعضها موقوف وبعضها مرسل وبعضها مرفوع.
(7) سورة الزخرف، الآية: 44.
(8) سورة الأنبياء، الآية: 10.(7/2)
ونعود مرة أخرى إلى السؤال:
هل لهذه الأمجاد التي قامت ثم تهاوت من عودة؟
هل يمكن ذلك مع ما نعيشه اليوم من ضعف وتخلف وغيبة الوعي وهيمنة الأعداء... أعداء الله وأعداء الرسول وأعداء المسلمين ؟.. هل يمكن أن نحقق رفعة الأمة بعد انتكاسها؟.
الجواب: نعم.
وخلافة راشدة على منهاج النبوة:
الإنسانية كلها في أمس الحاجة إليها وليس المسلمون فقط.
إن أول الطريق... الطريق إلى التمكين في الدنيا والطريق إلى الجنة في الآخرة هو أن يدرك الفرد المسلم ... الفرد العادي... وليس الزعماء والنشطاء... مدى مسؤوليته هو بذاته أمام الله عز وجل عن انتكاسة هذه الأمة... ومدى مسئوليته عن رفعتها... مفهوم فاسد أدى إلى انتكاسة هذه الأمة:
إن المفهوم السائد الآن ـ خطأ شائعًا ـ أن الدين علاقة بين العبد وربه، وأن مسئولية الفرد هي عن نفسه فقط، وأنه غير مسئول مسئولية اجتماعية أو تضامنية مع المسلمين الآخرين، وعليه أن يبحث عن رزقه في أي مكان يجده ويعبد الله بالصلاة والصيام والحج منعزلاً عن كل ما يحيط به، وبمعزل عن كل ما يعج به العالم من أحداث، وألا يتمعر وجهه لله تعالى قط، رغم هول ما يحدث فالشأن ليس شأنه هو... بل شأن الزعماء والرؤساء والنشطاء... فهل الأمر كذلك؟.
نقول: لا.
إن هذه المفهوم السائد الشائع هو أقصى ما يتمناه أعداء الإسلام... إن هذا المفهوم هو سبب انتكاسة الأمة... وتصحيح هذا المفهوم هو بداية الطريق لرفعة الأمة.
ولنرى ما يقوله الإمام الشاطبي في ذلك عن التكاليف العينية والكفائية (1):
« فأما المقاصد الأصلية، فهي التي لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة، وإنما قلنا إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية لأنها قيام بمصالح عامه مطلقة لا تختص بحال دون حال ولا بصورة دون صورة ولا بوقت دون وقت، ولكنها تنقسم إلى ضرورية عينية وإلى ضرورية كفائية.
__________
(1) الموافقات، كتاب المقاصد الجزء الثاني، بتصريف يسير، ص 176.(7/3)
التكاليف العينية والكفائية:
فأما كونها عينية: فعلى كل مكلف في نفسه فهو مأمور بحفظ دينه إعتقادًا وعملاً، ويحفظ نفسه قيامًا بضرورية حياته، ويحفظ عقله حفظاً لمورد الخطاب من ربه إليه ويحفظ نسله التفاتاً إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ورعياً له عن وضعه في وضعية اختلاط الأنساب العاصفة بالرحمة على المخلوق من مائه وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة. ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ولحيل بينه وبين اختياره، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ محكوماً عليه في نفسه، وإن صار فيها حظ فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي.
وأما كونها كفائية: فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها، إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحق به في كونه ضرورياً، إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص ؛ لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط وإلا صار عينياً، بل بإقامة الوجود وحقيقته أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته وما هيئ له من ذلك، فإن الفرد الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله فضلاً عن أن يقوم بقبيلة فضلاُ عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض، فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض ». أ هـ.
ومعنى هذا الكلام :
أن الخطاب بالكفائي متوجه إلى جميع المسلمين فردًا فردًا.
أن الفرد الكفائي أهم من العيني لأن العيني لا يقوم إلا بالكفائي.(7/4)
القيام بالفرض الكفائي قيام لمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها مباشرة، قادرون على إقامة القادرين. فالقادر مطلوب بإقامة الفرض وغير القادر مطلوب بتقديم وإعانة ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة والإعانة من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (1). ا.هـ.
وإن كان جماع الدين أصلان أن يعبد الله وحده وأن يعبد بما شرع على ألسنة رسله في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، فعبادة الله سبحانه وتعالى تكون بالتكليفات الشرعية وذلك على أربعة أنحاء:
* تكليف عيني: عبادي أو عادي.
* تكليف كفائي: عبادي أو عادي.
العبادي هو التعبدات التي تفتقر إلى نية التعبد، وهي حق خالص لله سبحانه وتعالى، والعادي هو المعاملات بين العباد والعادات الراجعة إلى محاسن الشيم ومكارم الأخلاق وهو راجع إلى حق الله وحق العبد لا يفتقر إلى نية التعبد، ووجه العبادة فيه هو الرجوع إلى شرع الله وما أمر فيه والموالاة على هذا الشرع.
فالتكليف العيني العبادي:
كأداء الصلاة والصيام والتكليف الكفائي العبادي كإقام الصلاة وإقام الصلاة غير أداء الصلاة، فأداء الصلاة لا يحتاج فيه الإنسان إلى معونة غيره فصار عينياً، ولكنه رغم ذلك يحتاج إلى الاجتماع مع غيره في الجمع والجماعات. أما إقام الصلاة فمسئولية تضامنية لا يستطيع الفرد القيام بها بمفرده ولا بد له من معونة غيره فيها فإقام الصلاة يقتضي: إتخاذ المساجد ووضع القراء والعلماء والمفتين لها والعناية بها، وإقام الصلاة يقتضي إجبار المكلفين على فعلها وقتال من تركها أو عند في تركها، و إقامة الحكام والقضاة والملوك وترتيب الأجناد لذلك، وكإيتاء الزكاة وسائر التكليفات الشرعية المتعلقة بحق الله الخالص.
__________
(1) الموافقات، الجزء الأول ( بتصريف ) ص 179 طبعة دار المعرفة – بيروت.(7/5)
والتكليف العيني العادي والكفائي:
مثل بر الوالدين، وصلة الرحم، ورعاية الجار، وإغاثة الملهوف، وإعانة الرجل على دابته، وإماطة الأذى عن الطريق، كل ذلك يفعله الإنسان بمفرده، دون حاجة إلى معونة غيره، وأما إقامة الأحكام الشرعية من قطع يد السارق , وجلد أو رجم الزاني , وقتل القاتل , وقتال المحاربين المفسدين في الأرض والقضاء بين الناس بالعدل الذي أمر الله به في شرعه، فكل ذلك لم يخاطب به الإمام أو الأمير أو القاضي أو القائد بمفرده وإنما خوطب به الذين أمنوا , يقول اله سبحانه وتعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (1)، { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2)، ويقول سبحانه { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } (3)، ويقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (4)، فالخطاب للجماعة ولا يمكن ذلك بمباشرة كل فرد في هذا التكليف، وإنما يكون بإقامة السلطة الشرعية التي تقوم بذلك، وإقامة هذه السلطة هو مسئولية تضامنية يحتاج فيها الإنسان إلى غيره ولا يمكن أن يقوم بها بمفرده.
__________
(1) سورة النور، الآية: 2.
(2) سورة المائدة، الآية: 38.
(3) سورة المائدة، الآيتان: 33-34.
(4) سورة البقرة، الآية: 178.(7/6)
يقول سبحانه وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (1).
يقول ابن كثير في تفسيرها: « يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } (2) ».
وأقول: ذكر الله سبحانه وتعالى « الفرد » في قوله: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أي: في نكوثه عن القيام بواجبة، وذكر « القوم » في الاستبدال وهم الجماعة وذلك دليل على أن النصرة بالجماعة من خلال جهد الفرد وقيامه بواجبه.
المسئولية الفردية والاجتماعية والتضامنية:
وإذا كان للفرد العادي:
1- مسئولية فردية لا يحتاج فيها إلى غيره ويؤديها منفردًا، كأداء الصلاة.
2- ومسئولية فردية لا يحتاج فيها إلى غيره, ولكن يؤديها في جماعة مع الآخرين من المسلمين، مثل إقام الصلاة.
3- ومسئولية تضامنية كإقامة الدولة المسلمة التي تقيم الملة والشريعة وتحفظ البيضة وتجاهد الأعداء وتضع إطار الولاء والبراء لجهد الأفراد حتى لا يخرج عنه حسبما شرع ربنا سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة المائدة، الآيات:54-56.
(2) سورة محمد، الآية: 38.(7/7)
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « المسلمون أمة واحدة، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم , وهم يد على من سواهم », وهذه المسئولية يحتاج فيها الفرد إلى غيره ويتعاون ويتضامن فيها مع غيره من باب التعاون على البر والتقوى , وهو مسئول عنها أمام الله كمسئوليته التي لا يحتاج فيها إلى جهد غيره معه إننا كأفراد مسئولون عن توثيق عرى الأخوة فيما بيننا, يسعى كل منا إلى غيره من أجل ذلك , حتى نعتصم بحبل الله جميعًا وهو الجماعة, ولا نتفرق كما أمرنا سبحانه وتعالى , ومسئولون عن جهاد عدونا: { حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } (1).
يقول ربنا عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } (2)، ويقول عز وجل: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (3).
أقول: إذا كان الفرد العادي مسئولاً عن كل ذلك , فإنه مسئول أيضًا عن كل ذلك , فانه مسئول أيضًا عن فعل غيره , بالنصيحة وتغيير المنكر ودفع الظلم.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 193.
(2) سورة الصف، الآيات: 2-4.
(3) سورة الفتح، الآية:29.(7/8)
يقول سبحانه وتعالى: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } (1)، يقول ابن جرير في تفسيرها: « حدثني المثنى قال حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّة } ً (2)، قال: أمر المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب ».
ويذكر ابن كثير في تفسيرها أحاديث كثيرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال موقوفة عن أبي حذيفة وعن النعمان بن بشير كلها تدور على هذا المعنى ومنها:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث عن عبيد الله بن جرير عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ثم لم يغيروا إلا عمهم الله بعقاب » (3).
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ».
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة , فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها , وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم , فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً لم نؤذ من فوقنا فإذا تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً , وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا ».
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 25.
(2) سورة الأنفال، الآية: 25
(3) يقول ابن كثير: مما رواه أيضًا عن وكيع عن إسرائيل وعن عبد الرازق عن معمر وعن أسود عن شريك ويونس كلهم عن أبي إسحاق السبيعي به وأخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع به.(7/9)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان رجل يلقي الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك , ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده , فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم بعض ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ - كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ... } إلى قوله: { فَاسِقُونَ } (1) , ثم قال: « كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً , ولتقصرنه على الحق قصراً , أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم » (2). معنى تأطرونهم: أي تحملونهم على الحق. وتقصروهم: أي تحبسونهم عليه.
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } (3)، وإنكم تضعونها على غير موضعها, و إني موضعها , و إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه » (4).
__________
(1) سورة المائدة، الآيات: 78-81.
(2) رواه أبو داود والترمذي.
(3) سورة المائدة، الآية: 105.
(4) رواه أحمد (ابن كثير تفسير الآية).(7/10)
يقول - صلى الله عليه وسلم -: « إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم » (1).
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: « يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها »، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ ؟ قال: « بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن »، فقال قائل: وما الوهن ؟ قال: « حب الدنيا وكراهة الموت ».
ما هو المخرج ؟ ما هي بداية الطريق ؟
وأقول ختامًا لهذا... أو نتساءل ـ مسئولية الخروج من المهانة التي يعيشها المسلمون الآن مسئولية مَن؟
مسئولية الخروج من الأنفاق المظلمة والطرق المسدودة والتبعثر في المتاهات متاهات الشتات مسئولية مَن ؟
إنها مسئولية الجميع فردًا فردًا... إن الإسلام مسئولية فردية وعمل جماعي... ليس في الإسلام اتكالية ولا إحالة أحد المسئولية على غيره... ولا لا مبالاة ولا ( أنا مالية )... إنما الإسلام دين الانتصار للحق بالقوة... دين التنظيم الاجتماعي للحياة... وليس ديناً فردياً منعزلاً عن الحياة والناس... وليس فقط علاقة خاصة بين العبد وربه لا شأن لها بالآخرين ولا للآخرين بها شأن... إنه دين الإيجابية والجدية والمثابرة والجهاد والمصابرة والرباط... وتلك مسئولية كل فرد وليست مسئولية بعض الأفراد دون الآخرين. بل لابد لكل فرد من المسلمين من تحديد موقفه مما حوله بإيجابية تخرج به عن السلبية.. صراع مرير تنوء به الجبال بين أعداء الإسلام وأعوانهم من العلمانيين والإباحيين والملحدين من المنافقين الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا من جهة، وبين الصابرين المحتسبين الدعاة إلى الله على بصيرة من المسلمين الذين عزموا العزمة ومضوا على الطريق... الطريق إلى الجنة من جهة أخرى.
__________
(1) رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر.(7/11)
الطريق... الطريق إلى التمكين... الطريق إلى الجنة؟ كيف؟
لابد للأمة أن تخرج من حالة السلبية أو الحياد.. ولابد أن تغير الموقف في الصراع الدائر بين الإسلام وأعدائه إلى موقف الانحياز الكامل إلى الإسلام... ولابد من مساندة شعبية مؤثرة ومشاركة فعالة... ولابد من ضغط عام ضاغط يحسب له كل حساب... وهذا أول طريق الفتح والتمكين... وهاكم خطوة على هذا الطريق.. الطريق إلى الجنة.(7/12)
الموضوع ... الصفحة
تقديم : د/ عبد الله الجبرين ............................................................................. ... 5
المقدمة ...................................................................................................... ... 6
الفصل الأول: الإسلام توحيد ننجو به من الشرك
............................................................... ... 11
.......................................................... ... 19
................................................... ... 27
....................................................... ... 29
............................................... ... 32
الباب الثاني: أنواع التوحيد
الفصل الأول: التوحيد في الإعتقاد (توحيد الصفات) ............................................ ... 35
الفصل الثاني: مسائل القدر ............................................................................ ... 39
الفصل الثالث: التوحيد في العبادة ...................................................................... ... 47
الباب الثالث: أركان التوحيد العملي
الفصل الأول: نفي النسك عن غير الله عز وجل .................................................... ... 73
الفصل الثاني: قبول شرع الله ونفي ما سواه ......................................................... ... 98
الفصل الثالث: إفراد الله بالولاية ..................................................................... ... 119
الباب الرابع: ضلالات الطوائف المخالفة للسنة في قضية التوحيد
الفصل الأول: ضلالاتهم في باب الصفات ......................................................... ... 131
الفصل الثاني: ضلالاتهم في مسائل القدر ........................................................... ... 139(8/1)
الفصل الثالث: اغفالهم للتوحيد العملي (توحيد العبادة) ........................................ ... 145
الخاتمة ............................................... ................................................... ... 153(8/2)
إننا نتوجه في خطابنا هذا ليس فقط إلى العلماء العاملين الذين أضاءوا لهذه الأمة طريقها . . . وليس فقط إلى الربانيين الذين يربون أمتهم على صغار مسائل العلم قبل كبارها . . . وليس فقط إلى الدعاة الذين حملوا مشعل هذه الرسالة { يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ } (1)، محتملين في سبيل هذا البلاغ ما يقابلهم به شياطين الإنس من قتل أو سجن أو تشريد أو تعذيب بأشنع وسائل التعذيب . . .
ولكن نتوجه به إلى الأمة كلها . . . علمائها وربانييها . . . دعاتها وصفوتها . . . دهمائها وعامتها . . . فإن النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم .
نتوجه به إلى كل من آمن بهذا الدين . . . إلى كل من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - بنيًا ورسولاً.
إليهم جميعًا نتوجه برسالتنا هذه . . . إن طريق الجنة يتطلب فيما نحسب ـ في ظل أوضاعنا الراهنة أن تكون دعوتنا إلى الإسلام دعوة إلى:
توحيد ننجو به من الشرك .
هوية تجمع الأمة .
صبغة تصطبغ بها .
شريعة تحكم حياتها .
عقيدة أهل السنة والجماعة ننجو بها من البدع والضلالات .
الإسلام مسئولية فردية ومسئولية جماعية تضامنية .
وأنه لا مندوحة للأمة عنها أو عن بعضها .
فإلى المنادين بالإسلام كصبغة ـ سمت وهدي ظاهر دون أن يكون هوية أو عقيدة أو شريعة ـ نقول لهم :
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 39.(9/1)
إن أعداء الإسلام لن يتركونا كمسلمين نتمسك بهدينا وسمتنا إلى ما لا نهاية بل رأيناهم في بلغاريا يحاربون ويقتلون المسلمين أو المنتسبين إلى هذا الدين ولو لم يحققوا منه شيئًا إلا اسمه والانتساب إليه والتسمي بأسماء المسلمين . . . وجدنا عدونا يحاربهم حتى لمجرد أن أسماءهم أسماء إسلامية فضلاً عن التمسك بالسمت والهدي ، وقد رأيناهم في البوسنة والهرسك يُقتلون لمجرد الانتساب إلى العروق الإسلامية وسمعنا عن أبشع المجازر والمذابح والانتهاكات لكل من انتسب إلى هذه العروق وصدق الله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } (1) .
ثم إننا لسنا مطالبين فقط بالتزام الكتاب والسنة في سلوكنا الفردي ، بل مطالبون أيضًا الإجماع عليهما ، والعمل لتكون كلمة الله هي العليا و { حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } (2)، ولا يتحقق لنا ذلك إلا بالهوية الإسلامية التي تجمعنا على الإسلام . والهوية لا تقوى على الثبات والمواجهة في هذه الصراعات التي نعيشها في واقعنا المعاصر إلا إذا قامت على عقيدة . والعقيدة لابد لها من تحقيق العبودية لله بقبول شرعه ورفض ما سواه وبالتالي فلابد من الشريعة ومن ثَمَّ فلا يمكن الاحتفاظ بالسمت والهدي بدون تمكين ولا يتحقق التمكين مع الهروب من الشرائع .
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 217.
(2) سورة الأنفال، الآية: 39.(9/2)
وعلى أحبائنا الذين أقلقهم تنحية شريعة الله تعالى وكلمته سبحانه عن الحياة وأقضت مضاجعهم بسقوط آخر معقل من معاقل الشريعة وهي دولة الخلافة الإسلامية (1) فنادوا بتحكيم الشريعة كقوانين إلهية بعيدًا عن قوانين ودساتير الطاغوت التي ما أنزل الله بها من سلطان فطالبوا بذلك ودعوا إليه دون التوحيد والعقيدة والهوية والصبغة ـ نقول لهم :
أحبائنا الكرام: إن الشريعة لابد لها من صبغة لأن شريعة الله ليست هي مجرد مجموعة قوانين تحكم حياة الناس فقط، ولكنها صبغة كاملة تصبغ الحياة ولابد للقائمين على أمر هذه الشريعة من صبغة يصطبغون بها وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا أولاً.
وثانيًا: إن الصراع الأبدي بين الخير والشر ، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان إنما هو صراع لتكون كلمة الله هي العليا أي: شريعته هي المهيمنة والمسيطرة والسائدة وأن تكون كلمة الذين كفروا السفلى ، أي: شريعتهم وشركهم هو المقهور والذليل .
وهذا لا يحققه شياطين الإنس ، ولا يتحقق حتى إذا طالب به ودعا إليه كل الفضلاء والصالحين من هذه الأمة ولا حتى إذا طالبت به كل جماهير الأمة أو أغلبها ـ بمجرد المطالبة ـ وهذا أنموذج الجزائر ماثل أمام أعيننا حين اختارت الغالبية العظمى من الشعب الجزائري الشريعة ، لتحكم حياتها ، عندها تحالفت كل قوى الشر لتحول دون أن تكون كلمة الله هي العليا ، بل وأعلن الرئيس الفرنسي أن الأمر لو احتاج إلى جيش فرنسي ينزل الجزائر لمنع هذا الأمر لفعل .
__________
(1) واقع تاريخي لنشأة الحركة الإسلامية المعاصرة ، وبصرف النظر عن انحرافات الخلافة العثمانية .(9/3)
فلابد إخواننا الأحباب ـ لإستقرار الشريعة في مجتمع ـ لابد من أمة ترى أنه لامناص لها من الالتزام بالكتاب والسنة والإجماع عليهما وأن هذه هي هويتها التي لا ترضى عنها بديلاً فلا تجتمع على غيرها. أمة ترفض العلمانية ـ اللادينية ـ وفصل الدين عن الدولة وترفض ولاء الكافرين والتبعية لمعسكرات الشرك الدولية من منطلق عقيدة التوحيد ، وترى أن القبول لذلك كفر يخرجها من الملة ـ وهو كذلك في دين الله عز وجل ـ فتستبسل في التمسك بعقيدتها وهويتها وشريعتها مهما كانت الضغوط التي تتعرض لها . وإذا وجدت تلك الأمة فهذا هو ملء الفراغ السياسي الذي يصرف عنها كيد أعدائها ليأسهم من تغريبها عن دينها وهويتها وشريعتها ، وهذا معنى تحقيق قوله تعالى: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } (1)، فالشريعة لا تستقر في مجتمع بدون عقيدة واضحة وهوية واحدة مجردة من الالتباسات ، ومجانبة للشرك والأهواء .
وإلى قومنا ومثقفينا الذين ينادون بالإسلام كهوية ـ تراثًا وثقافة ـ تجمع الأمة في مواجهة الفرانكفونية ( التراث والثقافة الإفرنجية) دون التأكيد على أن يكون مع هذه الهوية ، الشريعة أو العقيدة والتوحيد أو الصبغة نقول :
إنكم تبحثون عن سراب أو عن قبض الريح لأن الهوية إنما هي رابطة تجمع، لا روابط تفريق، يجتمع كل مجموعة من الناس حول رابطة منها ويرفضون الاجتماع حول غيرها.
وذلك أن الاجتماع على التراث والثقافة الإسلامية فقط كهوية ـ دون أن ترتكز هذه الهوية على التوحيد الخالص ـ سيسمح بامتزاج النظم الحياتية الإسلامية مع هذه الهوية فيسمح بالاشتراكية والديمقراطية والرأسمالية وغيرها وبالتالي يكون هناك إسلام اشتراكي له هويته وآخر رأسمالي له رابطته وثالث ديمقراطي له محور استقطابه ورابع ليبرالي ... و وغيرها من الذاهب الأرضية اللادينية .
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 3.(9/4)
في ظل هذا الالتباس ينادي أناس بالإسلام ـ كتراث وثقافة ـ من وجهة النظر العربية أو التركية أو الفارسية أو الشرق أوسطية أو غيرها فيكون هناك إسلام عربي وإسلام تركي وإسلام فارسي وإسلام شرق أوسطي وكذلك آخر بربري وريفي وصحراوي .. إلخ، فيتعدد الإسلام وبالتالي تتعدد الهويات فيفقد الإسلام بذلك قدرته على الاستقطاب وتبدد هوية المسلمين . فلذا كي تصلح الهوية الإسلامية كمحور واحد لاستقطاب المسلمين لا بد لها أن ترتكز على التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة بتصديق خبر الرسول جملة وعلى الغيب والتزام شريعة الرسول جملة وعلى الغيب مما يعني أنه لابد للهوية من توحيد وعقيدة وشريعة . ولابد للشريعة من صبغة كما ذكرنا .
وإلى هؤلاء المخلصين الذين يدعون إلى الإسلام كتوحيد وعقيدة دون الصبغة والشريعة والهوية ، إن ذلك إخواني الأحباب سيؤول بنا إلى كوننا مجرد فرقة عقائدية من فرق المسلمين . وإذا كان عدونا لا يتركنا ـ كما مر بنا ـ لمجرد انتسابنا إلى الإسلام فكيف مع تمسكنا بالإسلام كعقيدة صحيحة ؟.
فلابد إذا لحماية هذه العقيدة الصحيحة مع اجتماع الأمة عليها ومناصرة أهل هذه العقيدة عليها وهو ما يتطلب الهوية الإسلامية التي تجمع الأمة والصبغة التي تصطبغ بها والشريعة التي تحكم حياتها .
لذلك نقول: إن الحركة الإسلامية المعاصرة ما كان ينبغي لها أن تحصر دعوتها في عقيدة يعتقدها الناس وإن كانت صحيحة ـ ولا سمت وهدي ظاهر ـ وإن كان حسنًا ـ ولا في هوية يجتمع الناس حولها كمقوم من مقومات اجتماعهم وعنصر من عناصر ارتباطهم ـ وإن كانت قادرة على ذلك ـ ولا في مجموعة قوانين ـ وإن كانت إلهية ـ تحكم حياتها دون شمولية التوجيه الرباني .(9/5)
وإذا كان لابد للحركة الإسلامية أن توجه دعوتها إلى شمولية التوجيه الرباني ، فإنه من الناحية العملية التطبيقية في واقع الممارسة اليومية لا ينبغي لها أن تحصر نفسها في إطار عمل خيري أو حزبي أو رياضي أو كشفي أو تربوي أو تعليمي أو فقهي أو أي عمل آخر ذي مقاصد محدودة بل تخرج عن هذه المحدودية إلى هدف أسمى وغاية أعظم وهو إحياء الأمة بالقرآن وحول هذا المعنى يقول الإمام الشهيد حسن البنا (1):
« أيها الإخوان: أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبًا سياسيًا ولا هيئة موضوعة لأغراض محدودة المقاصد ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله وصوت داو يعلو مرددًا دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس وإذا قيل لكم إلام تدعون ؟ فقولوا ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه . فإن قيل لكم هذه سياسة فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام . وإن قيل لكم أنتم دعاة ثورة فقولوا نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به ، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق عودتنا فقد أذن الله أن ندافع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين .
وإن قيل لكم إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات فقولوا: { آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } (2). فإن لجوا في عدوانهم فقولوا: { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } (3) ». أهـ.
ينفي رحمة الله عن الحركة الإسلامية محدودية المقاصد ولكن روح يسري في الأمة فيحييها بالقرآن وقد مر بنا كيف أن القرآن يجمع شقي الإحياء وهما:
قوة الشعور الديني .
التأصيل الشرعي .
__________
(1) حسن البنا: مجموعة رسائل الإمام الشهيد: ص 144 .
(2) سورة غافر، الآية: 84.
(3) سورة القصص، الآية: 55.(9/6)
إحياء القلوب بإثارة الوجدان كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عنه { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه } (1).
{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (2) .
وهذا هو الشق الأول ، والشق الثاني من شقي الإحياء أن القرآن يحق الحق ويبطل الباطل ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . يؤصل ويفصل ، يقول تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (3) .
وقد استطاعت الحركة الإسلامية المعاصرة أن تثير الشعور الديني وتستجيش المشاعر الإسلامية عند الكثيرين ولكنها ما زالت تتعثر وتتنكب الطريق في تأصيلاتها الشرعية .
ولذلك كانت هذه الرسالة خطوة في جانب التأصيل ومشعلاً يضيء لهذه الأمة بعضً من الظلمات الحالكة التي تحيط بها في طريقها إلى ربها .
رسالة جمعت بين أقوال أئمة من قرون مختلفة وعصور متباينة وأماكن متعددة ومدارس شتى أضاءوا لهذه الأمة طريقها .
أئمة بهداهم نقتدي وعلى دربهم نسير ، ما منعهم من اختلاف اجتهاداتهم وتنوع مشاربهم ومآخذهم للنصوص أن يكونوا أمة واحدة: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون } ِ (4) .
__________
(1) سورة الزمر، الآية: 23.
(2) سورة المائدة، الآية: 83.
(3) سورة هود، الآية:1.
(4) سورة الأنبياء، الآية:92.(9/7)
وإن هذه الأمة لها هدف واضح وغاية واحدة في الدنيا وهي العمل لتمكين دين الله في الأرض { حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } (1)، وإننا لنهيب بإخواننا رجالات الحركة الإسلامية وأبنائها أن يكونوا على منهج واحد متمثلاً في:
شمولية الدعوة المنبثقة عن شمولية التوجيه الرباني.
الخروج عن محدودية المقاصد إلى رسالة الإحياء .
وبالتالي: إذا تحققت وحدة المنهج ـ وقد تحققت قبلها وحدة الهدف ـ فقد تحققت وحدة العمل الإسلامي وإن تعددت أطره وتنوعت مدارسه وتوجهاته . وإن هذه الأمة الواحدة لتدعوا أبناءها أن يخرج منهم صفوة رائدة تعزم العزمة وتمضي على الطريق تتحمل التضحيات تثبت على المبدأ وتحتفظ بالهدف ، تخرج عن محدودية المقاصد إلى روح يسري في الأمة فيحييها بالقرآن ، يتمثل فيها قول الله تعالى:
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2).
صفوة لا تنسى أنها أمة من أمة الإسلام، جزء منها، وبعض من كل تعمل لله من أجل هذه الأمة ومصلحتها لا من أجل نفسها وطائفتها وكيانها متبرئة في ذلك عن الوصف الذي ذمة الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (3) . متبرئة من هذا الوصف وممن اتصفوا به كما برأ ربنا تبارك وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - منهم ، وتقول أم المؤمنين (أم سلمة) رضي الله عنها: « إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب » (4).
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 39.
(2) سورة آل عمران، الآية:104.
(3) سورة الأنعام، الآية: 159.
(4) الاعتصام للشاطبى جـ1، ص 60 .(9/8)
صفوة تخرج عن وصف التشيع المذموم المتبرئ منه شرعًا في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (1)، إلى وصف جماعات العمل الإسلامي المحمودة شرعًا والتي أمر الله جل وعلا بها في قوله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2)، والتي أخبر عنها - صلى الله عليه وسلم - في قوله: « ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة » (3).
ولكي تحقق ذلك لابد لها من أن:
تقدم ولاءها العام للمسلمين على ولائها الخاص لطائفتها إذا تعارضا.
يكون ارتباطها كإطار عمل وليس إطار انتماء.
تحافظ على وحدة الهوية والعقيدة مع غيرها من جماعات أهل السنة والجماعة.
صفوة تحذر في ممارساتها اليومية من التلبس بشيء من أوصاف التشيع المذموم فلا تقدم ولاءها الخاص لإطارها على الولاء العام ولا تنسى أن إطارها إطار عمل وليس إطار انتماء ولا تتفرق في الهوية أو العقيدة .
__________
(1) سورة الأنعام، الآية: 159.
(2) سورة آل عمران، الآية: 104.
(3) رواه النسائي، وفي صحيح البخاري باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، وهم أهل العلم». وقد ذكر ابن حجر في شرح هذا الباب في فتح الباري إحدى روايات الحديث وهي رواية عمر بن هانئ بلفظ: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك»، النسائي جـ6، ص 214 رقم (3561).(9/9)
صفوة مؤمنة حَبَّبَ الله إليها الإيمان وزيّنه في قلوبها وكره إليها الكفر والفسوق والعصيان فضلاً منه سبحانه ونعمة. عسى الله أن يحقق بها وعده الذي وعد عباده المؤمنين: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1).
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
لماذا هذا الكتاب ؟
لعل القارئ يسأل:
هل لهذه الأمجاد التي قامت ثم تهاوت من عودة بعد غلبة أعداء المسلمين ،عليهم ، وإحاطتهم بهم إحاطة السوار بالمعصم ، مع ما عليه المسلمون اليوم من الضعف والتخلف وغيبة الوعي وتلوث المفاهيم وافتراق ديني ودنيوي ، واختراقات شتى لعدوهم في مجتمعاتهم ومؤسساتهم ، وتبعية يفرضها عدوهم عليهم ، وهوة سحيقة من التخلف التقني والاقتصادي والاجتماعي والعسكري عليهم أن يجتازوها ، هل يمكن ، يتحقق ذلك ، وهل سيتركهم عدوهم يفعلون ذلك لو أرادوه؟
والإجابة .... نعم .... ولكن كيف؟
من أجل ذلك كان هذا الكتاب . . . دعوة أهل السنة والجماعة . . . على طريق إحياء الأمة . . . الطريق إلى الجنة.
في هذا الكتاب :
__________
(1) سورة النور، الآية: 55.(9/10)
في ظل هذا الالتباس ينادي أناس بالإسلام – كتراث وثقافة – من وجهة النظر العربية أو التركية أو الفارسية أو الشرق أوسطية أو غيرها فيكون هنالك إسلام عربي وإسلام تركي وإسلام فارسي وإسلام شرق أوسطي وكذلك آخر بربري وريفي وصحراوي .. إلخ، فيتعدد الإسلام وبالتالي تتعدد الهويات فيفقد الإسلام بذلك قدرته على الاستقطاب وتتبدد هوية المسلمين . فلذا كي تصلح الهوية الإسلامية كمحور واحد لاستقطاب المسلمين لابد لها أن تركز على التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة بتصديق خبر الرسول جملة وعلى الغيب والتزام شريعة الرسول جملة وعلى الغيب مما يعني أنه لابد للهوية من توحيد وعقيدة وشريعة. ولابد للشريعة من صبغة.(9/11)