مقدمة هذا كتاب يتعرض لحاضر المسلمين ومستقبلهم، ويشارك فى إنعاشهم من الغيبوبة الطويلة التى ألمت بهم! إنها إغماءة مقلقة حقا، ظنها أعداء الإسلام بوادر موت، ولكننا خبراء بأمتنا وتاريخها وكبواتها ونهضاتها، ومن أجل ذلك قررنا اعتراض العلل المؤذية ومتابعة جراثيمها هنا وهناك حتى تعود العافية ونستأنف نشاطنا العتيد.. ملهم هذا الكتاب وصاحب موضوعه الأستاذ الإمام حسن البنا، الذى أصفه ويصفه معى كثيرون بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة.. فقد وضع جملة مبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضى من أسباب العوج والاسترخاء بيد آسية، وعين لماحة، فلا تدع سببا لضعف أو خمول.. وعملى كان تأصيل هذه المبادئ وشرحها على ضوء تجاربى المستفادة خلال أربعين عاما فى ميدان الدعوة، قضيت بعضها مع الإمام الشهيد، وبعضها مع الرجال الذين رباهم، وبعضا آخر مع مؤمنين أحبوا دينهم، وجاهدوا فى سبيله، وقاوموا ببأس شديد جميع القوى التى أغارت عليه وحاولت إطفاء نوره، وتنكيس رايته.. إن الظروف التى بدأ فيها حسن البنا دعوته ما تزال قائمة مع خلاف طفيف حينا وكثيف حينا آخر. وهذه الظروف تنشأ من منبعين رئيسين: الاستعمار العالمى الذى اكتسح بتفوقه المدنى والعسكرى كل شبر من أرض الإسلام، وحاول أن يغير معالمها جملة وتفصيلا لمصالحه الخاصة.. والمنبع الآخر ـ وهو الأخطر والأخبث يجئ من الأدواء التى استشرت فى الكيان الإسلامى نفسه، نتيجة فساد عام فى أحواله المادية والأدبية، العلمية والعملية، الفردية والاجتماعية، التربوية والسياسية.. والواقع أن الاستعمار العالمى انحدر إلى أقطار فقدت القدرة على الحياة الصحيحة،
ص _006(1/1)
واسترق جماهير كان نسبها إلى دينها أبعد شىء عن الصدق، وقطَّع أوصالا كانت ميتة أو شبه ميتة. كان قلب العالم الإسلامى مذهولا أو مشلولا، والروس يمزقون جناحه الشرقى فى التركستان وسيبيريا. وكان قلب العالم الإسلامى مذهولا أو مشلولا ، والأمريكان يشنون حرب إبادة على مسلمى الفليبين وكان هذا القلب على بلائه وعنائه، وأجنحته الغربية تهشِّم وتستذل. ثم أطبق الظلام على أرضه جمعاء، واستفاقت عناصر المقاومة بعد ما فقدت الأمة الكبيرة كل شىء تقريبا، وتوزعت جهود المقاومين على جبهات عديدة مضنية. كان ذلك فى مبادئ القرن الرابع عشر وأواسطه، ولا ريب أن الأخلاف العانين كانوا يحصدون ثمرات انحراف قديم، وإسفاف غبرت عليه أيام كالحة! ومن الخطأ القول بأن حسن البنا أول من رفع راية المقاومة فى هذا القرن الذليل. لقد سبقه فى المشرق العربى، والمغرب العربى، وأعماق الهند وإندونيسيا، وغيرهما، رجال اشتبكوا مع الأعداء فى ميادين الحرب والسياسة والتعليم والتربية، وأبلوا بلاء حسنا فى خدمة دينهم وأمتهم. وليس يضيرهم أبدا أنهم انهزموا آخر الأمر، فقد أدوا واجبهم لله ، وأتم من بعدهم بقية الشوط الذى هلكوا دونه.. إن حسن البنا استفاد من تجارب القادة الذين سبقوه، وجمع الله فى شخصه مواهب تفرقت فى أناس كثيرين. كان مدمنا لتلاوة القرآن يتلوه بصوت رخيم، وكان يحسن تفسيره كأنه الطبرى أو القرطبى، وله مقدرة ملحوظة على فهم أصعب المعانى ثم عرضها على الجماهير بأسلوب سهل قريب.. وهو لم يحمل عنوان التصوف، بل لقد ابعد من طريقة كانت تنتمى إليها بيئته. ومع ذلك فإن أسلوبه فى التربية وتعهد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب فى الله كان يذكر بالحارث المحاسبى وأبى حامد الغزالى... وقد درس السنة المطهرة على والده الذى أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبى باقتضاب فأفاده ذلك بصرا سديدا بمنهج السلف والخلف. ووقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه(1/2)
صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا ص _007
ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب. ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورط فيما تورط فيه. ولعله كان أقدر الناس على رفع المستوى الفكرى للجماهير مع محاورة لبقة للابتعاد عن أسباب الخلاف ومظاهر التعصب.. وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامى، وتتبع عوامل المد والجزر فى مراحله المختلفة، وتعمق تعمقا شديدا فى حاضر العالم الإسلامى، ومؤامرات الاحتلال الأجنبى ضده... ثم فى صمت غريب أخذ الرجل الصالح يتنقل فى مدن مصر وقراها، وأظنه دخل ثلاثة آلاف قرية من القرى الأربعة الآلاف التى تكون القطر كله.. وخلال عشرين عاما تقريبا صنع الجماعة التى صدعت الاستعمار الثقافى والعسكرى، ونفخت روح الحياة فى الجسد الهامد.. ثم تحركت أمريكا وإنجلترا وفرنسا، وأرسلت سفراءها إلى حكومة الملك فاروق طالبين حل جماعة الإخوان المسلمين. وحلت الجماعة وقتل إمامها الشاب الذى بلغ اثنتين وأربعين سنة من العمر، وحملته أكف النساء مع والده الشيخ الثاكل إلى مثواه الأخير، فإن الشرطة كانت تطاردنا ـ نحن المشيعين ـ حتى لا نقترب من مسجد " قيسون " الذى بدأت منه الجنازة!! وتحدثت مع ولده "سيف الإسلام " حديثا لم أنسه!! كان الابن المفزع مغيظا لأن الجسد قطِّع لحما فما تنضام القطع بعضها إلى بعض إلا "بالشاش " ثم بالكفن ولولا ذلك لتبعثرت.!! تذكرت قول الشماخ يرثى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد طعنه علج طعنة مزقت أمعاءه، وجعلت الدم يخرج ممزوجا بالطعام. جزى الله خيرا من أمير وباركت يد الله فى ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ليدرك ما قدمت بالأمس يُسبق قضيت أمورا، ثم غادرت بعدها بوائج فى أكمامها، لم تُفتق يعنى أن عمر خلف بعد مماته دواهى كانت على عهده كامنة، ولم تتحرك إلا بعد ما ولى. * * * ص _008(1/3)
ولست فى موطن رثاء للإمام، ولا تأريخ لحياته. إننى هنا أعرض المبادئ التى كان يجمع الناس عليها، والأسلوب الناجح الذى أحدث به يقظة إسلامية عظيمة. فإن الظروف التى بدأ فيها جهاده لا تزال قائمة لم يتغير منها إلا الشكل! الاستعمار السياسى هو هو وإن اتخذ ضغطه أسلوبا غير مباشر، ومادام الختل واللف يغنيان فلا معنى للمصارحة وما تستتبعه من إثارة! والاستعمار الثقافى دائب على سرقة القلوب والقيم، واجتياح العقائد والشرائع وحيله كثرت وتشعبت حتى بات يخاف على الأجيال المقبلة! واضمحلال العقل الإسلامى واضح فى أغلب ميادين الفقه! وعدد كبير من المشتغلين بفقه العبادات أو المعاملات يحسن النقل التقليدى أكثر مما يحسن الوعى والاجتهاد، ويغلب عليه ضيق الأفق ولزوم مالا يلزم أما الفشل فى شئون الدنيا فأمره مخجل حتى إن ما نأكله من طعام أو ما نأخذه من دواء أو ما نرتديه من لباس يصنعه لنا غيرنا وأما صناعات السلاح وما يحمى الشرف ويصون الإيمان فشىء لا ناقة لنا فيه ولا جمل، كما يقول العرب الأقدمون. لقد بدأ حسن البنا عمله من الصفر، وشرع دون ضجيج يحى الإسلام المستكن فى القلوب، ويوجهه للعمل ويكفى الإمام الشهيد شرفا أنه صانع الشباب الذين نسفوا معسكرات الإنجليز على ضفاف القناة ومازالوا بهم حتى أغروهم بالرحيل! ويكفيه شرفا أنه صانع الشباب الذين ما اشتبكوا مع اليهود فى حرب إلا ألحقوا بهم الهزيمة وأجبروهم على الهرب... إن ذلك هو ما جعل الاستعمار مصرا على معاداة هذه المدرسة، وإلحاق الأذى بها حيثما ظهرت.. لقد بدأت العمل مع حسن البنا وأنا طالب فى الأزهر، من خمس وأربعين سنة تقريبا، والحالة العامة يومئذ جديرة بالتسجيل: الحكم منفصل عن العلم، وهو انفصال مبكر فى تاريخنا للأسف، كما أشرت إلى ذلك فى بعض كتبى. ص _009(1/4)
والتعليم قسمان مدنى ودينى، وهو عمل استعمارى بارع لضرب الدين والدنيا والتعليم الدينى منقسم على نفسه، فالفقهاء شىء، والمتصوفة شىء آخر. والمتصوفون فرق لها رايات وشارات مختلفة. والفقهاء توزعوا على المذاهب الأربعة، ويرفض أحدهم الصلاة وراء الآخر إلا مضطرا. ثم نشب خلاف زاد الطين بلة بين هؤلاء جميعا وبين أهل الحديث. ودخلت الوهابية المعركة باسم أنصار السنة، فاستعرت الحرب بينها وبين هذه وتلك. وولدت الأحزاب السياسية بعيدة عن الهوس الدينى جاعلة الوطنية شعارها، وانقسمت هذه الأحزاب بين ضالع مع القصر الملكى ومؤيد للتيار الشعبى. ثم تسللت الشيوعية مستغلة الفقر السائد، وعارضة ما لديها من فنون الإغراء.. وظهر مستغلون فى مجال العمل السياسى، وآخرون يقصرون نشاطهم على العمل الاجتماعى وحده وسط هذا البلاء والتمزق الشامل كان حسن البنا يدعو إلى الإسلام دينا ودولة، ويتخلص بلباقة من الآصار الموروثة والأهواء الوافدة. كان يحارب التقاليد الغبية بنفس العزم الذى يحارب به الغزو الفكرى. وأشهد أنه محق ذاته فى مرضاة الله وبذل النصح للعامة والخاصة، وكان يضن بالدقيقة من يومه أن تضيع فى غير مصلحة الإسلام والمسلمين.. والأصول العشرون التى وضعها والتى أشرحها هنا ليست الكلمة الأولى والأخيرة فى الطرق الثقافية لخدمة الأمة الإسلامية.. إنها مقترحات ـ وأصطنع هنا أسلوب حسن البنا ـ مقترحات مجربة للم الشمل، وعلاج العثرات، فمن كان لديه أحسن فليعرضه، أو نقد فليذكره، ولنتعاون جميعا على إعلاء كلمة الدين والنصح لهذه الأمة. المسلمون الآن عبء ثقيل على الإسلام، وهم لا يستحقون الحياة إلا إذا أنصفوا الوحى النازل بين ظهرانيهم، وخلصوه من تخليطهم وجهلهم المعيب قرنا بعد قرن. ص _010(1/5)
لقد تملكنى ـ وأنا أؤلف هذا الكتاب ـ شعور بأنه لا قداسة إلا للوحى الأعلى، ولا مكانة إلا للرجال الذين أحسنوا الفقه فيه والعمل به حيث أقامهم القدر.. يجب أن تغربل الأفكار والمذاهب والأعراف والتقاليد التى سادت تاريخنا، فقدمها لا يعطيها حق البقاء! والاحترام للحق وحده! لما قرأت كلمة الشخص الذى قال فى مجلس معاوية: أمير المؤمنين هذا، فإن هلك فهذا ـ يعنى يزيد ـ فمن أبى فهذا ـ يشير إلى سيفه ـ قلت : منافق مرتزق، يطلب دنيا لنفسه ولقبيلته! والفقيه الذى يصور الشريعة من خلال هذه الكلمة ليس أحسن حالا منه إن الفلك قذف بعدة قرون ميتة أمام الحكم العباسى، وقذف بعدة قرون هالكة أمام الحكم التركى.. فما ذنب الإسلام حتى يحمل المخلفات الثقافية والسياسية لهذه القرون؟ وقد شاء الله أن أعد كتابى هذا فى مطالع القرن الخامس عشر الهجرى وأعداؤنا يحفرون لنا القبور التى تطوينا ، وأمتنا ـ عفا الله عنها ـ لا تزال تتعثر فى تفاهاتها. إن الإسلام يجب أن يبقى وأن يقود. فالحق عندنا وحدنا، وعلينا أن ندرك نفاسة ما أكرمنا الله به، وأن نحسن نفع أنفسنا ونفع الناس به. هناك تحديات تواجه الدعوة الإسلامية، بل تواجه الرسالة الإسلامية ذاتها، أقلها من الخارج وأكثرها من الداخل!! نعم فإن الآفات التى تنخر فى الكيان الإسلامى أشبهت الأمراض المتوطنة وقد ألحقت به معاطب مخوفة، ثم انتهت به خواتيم القرن الرابع عشر الهجرى إلى حال تسوء الصديق وتسر العدو.. عندما تعرض المذاهب العلمانية برامجها السياسية والاقتصادية تحسن التفاهم مع الطبيعة البشرية، وتحسن تقديم الحكم بريئا من نزوات الاستبداد الفردى، وتقديم المجتمع بعيدا عن شهوات الشح والأثرة والتظالم البغيض. أما نحن فماذا نقدم للناس؟ شورى هى حبر على ورق ، وتراحم هو حديث منابر، وشعائر توقف فيها نبض الحياة، فلا هى حب لله ولا هى حنان على الناس إننا منتمون إلى الإسلام ومنكرون له فى آن واحد، منتمون له(1/6)
بالميراث وخارجون عليه ماديا وأدبيا ولست أتحامل على الجيل المعاصر، ولا على الجيل الذى سبقه. إن موجة الجزر بدأت قبل ذلك، ثم شدت فى انسحابها الأجيال المتأخرة إلا قليلا ممن تشبث بالحق فى مصادره المعصومة، واستمات كيما تبقى أعلام الإسلام قائمة... ص _011
قلت لصديق يحدثنى عن التاريخ الإسلامى : اسمع يا أخى، إن الأمويين والعباسيين والعثمانيين لم يقدموا صورة صادقة للخلافة الإسلامية، وتتفاوت نسبة الدمامة فى الصورة التى قدموها تفاوتا يسيرا! وقد عد أئمتنا عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس بعد الراشدين الأربعة، ثم ماذا؟ ملك عضوض يعمل لنفسه ولله معا، وعمله لله هو الغطاء الذى يدارى به نهمته إلى الجاه والمال. قد وجد من كان عمله لله أرجح، ثم بدأ هذا الصنف يقل حتى انفرد بالسلطان من لا يعمل إلا لنفسه وحسب. سبحان الله إن الإنسان الكبير الذى قال: "ابغونى فى ضعفائكم! هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ " قامت باسمه نظم تستهلك الشعوب وتفتات على الجماهير، وتزدرى كل ذى رأى، وتسجن أئمة الدين أو تقتلهم كما يسجن المجرمون ويقتل السفاحون!! هل تنجح دعوة للإسلام سنادها الداخلى هذا المجون؟ بل هل يبقى الدين نفسه، مع تلك الأوضاع المقلوبة والحقوق المغصوبة؟ اسمع يا أخى أنا لا أعتبر التتار هم مسقطى الخلافة فى بغداد، إن الخلافة أسقطتها من قبل قصور مترعة بالإثم متخمة بالملذات الحرام أنا لا أعد الصليبيين هم مسقطى دولتنا فى الأندلس، إن المترفين الناعمين هم الذين أنزلوا راية الإسلام عن هذه الربوع الخضرة، إن ملوك الطوائف فى الأندلس لم يكونوا أبناء شرعيين لطارق بن زياد، ولا لغيره من الأبطال الذين باعوا لله أنفسهم فأورثهم الأرضين. إننا نحن قبل غيرنا العقبة الأولى أمام دين عظيم إن التحدى الأولى يجئ من داخل أرضنا ثم تجئ من بعده تحديات الأعداء التقليديين. وقد نقلت فى بعض ما كتبت حديثا يجب أن نتدبره مثنى وثلاث ورباع، عن ثوبان ـ(1/7)
رضى الله عنه ـ أن النبى - صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زُوى ـ جُمع ـ لى منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ـ معادن الأرض وثرواتها ـ وإنى سألت ربى لأمتى ألا يهلكها بسنة عامة ـ قحط شامل ـ وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ـ أجنبيا ـ فيستبيح بيضتهم. وإن ربى قال: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء فإنه لا يردّ! إنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم ص _012(1/8)
بسنة عامة! وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها أو مِن بين أقطارها ـ يعنى أهل القارات المعمورة ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبى بعضهم بعضا " . والحديث ظاهر فى أن مصائبنا من أنفسنا قبل أى شىء، وأنها تجىء ابتداء من فساد الحكم كما قال عليه الصلاة والسلام فى نهاية هذا الحديث. "وإنما أخاف على أمتى الأئمة المضلين " ـ أى الحكام الفاسدين. فإذا وقع ذلك فى دار الإسلام فينبغى أن ننظر إلى ما وراء هذه الدار لنرى مسافة الخلف بيننا وبين غيرنا ممن لا يدين ديننا. عن المستورد القرشى ـ رضى الله عنه ـ أنه قال عند عمرو بن العاص : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ يقول : تقوم الساعة والروم أكثر الناس فقال له عمرو: أبصر ما تقول قال: أقول ما سمعت من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عمرو: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالا أربع. إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين وضعيف ويتيم. وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك الحق أن هذا وصف رصين أمين لأقطار كثيرة وراء دارنا، أعنى دار الإسلام. وقد أسأل نفسى: إذا كان المرء يبيت فى دمشق أو بغداد أو استامبول عواصم الخلافات الثلاث الكبرى غير آمن على ماله أو دمه، ويبيت فى لندن أو باريس أو واشنطن مستريح الطرف والقلب، فمن يعطيه ربك قيادة الإنسانية، ويقر الأمور فى يده ؟! قال لى محدثى: أنت غضبان، وفى أحكامك قسوة أو حيف! دعك من الكلام فى عوج الحكام، وحدثنا عن التحديات التى تعترض الدعوة الإسلامية فى الخارج.. قلت: أنا أحب علاج العلل من جذرها، وما ذكرت قصة الحكم إلا لأنها نموذج للانحراف عن الخط الإسلامى، وإلا فالانحراف أصاب أغلب التقاليد الاجتماعية التى تؤثر فى أخلاقنا ومسالكنا. قال لى: لننظر إلى التحديات الخارجية! قلت: لعل أول هذه التحديات جهلنا بالآخرين! إننا لم نكلف أنفسنا(1/9)
مد البصر إلى ما وراء حدودنا مع أننا أصحاب دعوة عالمية. نعم لم نحاول أن نعرف كيف يفكر أو ص _013
كيف يعيش اليهود والنصارى وغيرهم فى بلادهم، وما هى الأطوار النفسية والاجتماعية التى تمر بهم؟ والغريب أن القوم هم الذين تعرفوا علينا ودرسوا بلادنا وخبروا شئوننا، وكشفوا حتى عما فى تربتنا من معادن وفى برنا وبحرنا من خيرات. إن علماء المشرقيات أو المستشرقين نقبوا فى تراثنا الماضى، وفى واقعنا المعاصر، ومنذ عدة قرون وهم دائبون فى البحث، ونحن مغرقون فى الجهل حتى عرفونا معرفة استيعاب. أما نحن فقابعون فى أماكننا لا ندرى ماذا يحدث فى أوربا، ثم ماذا يحدث فى أمريكا واستراليا بعد اكتشافهما. ولا ندرى ما ثورات التحرر التى وقعت فى انجلترا وفرنسا وغيرهما. ولا ندرى ما يخطط اليهود لمستقبلهم ومستقبل الدنيا معهم. ولا ندرى أدوار الصراع بين الدين والعلم فى الغرب، والصدع الذى أصاب الكنيسة فى هذا النزاع الوحشى. ومن المضحك أن "نلسون " وهو يطارد نابليون فى البحر الأبيض المتوسط رسا بأسطوله فى الإسكندرية، وسأل محافظ الثغر عن قائد الحملة المنتظرة؟ ودهش المحافظ الساذج، ونفى علمه بنية الفرنسيين، وتساءل: هل يجرؤ أحد على التعرض لأملاك السلطان؟ إن الموظف الكبير لا يدرى شيئا عما يقع فى دنيا الناس! وهو مثل الجماهير قد تفق فى حلق الشارب وإنماء اللحية، وتحسب أنها استكملت عرى الإيمان بالوفاء للشكل، والمحق للموضوع. إن تربية اللحية لا وزن لها مع انعدام تربية النفس والعقل، ومع فراغ القلب واللب..! وأمر آخر ساء موقفنا فيه جبرا هو عدم إفادتنا من العلم المادى الذى وثب وثبات فسيحة فى اكتشاف أسرار الفطرة وإحسان تطويعها لمطالب الناس. بدأ هذا العلم مسيرته المظفرة بعدما قهر كهنوت الكنيسة، وتجاوز العجز الإسلامى فى بلاده الهاجعة!! العقل الإنسانى وحده أخذ يتحسس طريقه فى البحث والدرس حتى نجح، ثم أغراه النجاح فطفر من أفق إلى أفق حتى(1/10)
غزا الفضاء. ص _01 ص
صحيح أنه استفاد من إشراقة الإسلام الأولى حين غمرت حضارته الدنيا، ومؤرخو الحضارة الإنسانية يؤكدون ذلك. ولكن المسلمين نسوا وظيفتهم، ورسالتهم، واستطاع الجهلة فى بلادهم أن يملكوا أزمة السلطة، فما الذى يربط العالم بهم؟ لقد انطلق العلم وحده وترك طابعه الذكى على كل ما حولنا. واستيقظ اليهود والنصارى قبل فوات الفرصة، واصطلحوا مع المدنية الجديدة كى ينتفعوا بها فى تحقيق مآربهم. ووصلنا نحن بعدما تحرك القطار، فإذا أعداء الأمس يتحركون ومعهم تفوق علمى ساحق ليحتلوا أرضنا، ويفرضوا طابعهم عليها. وشرع المسلمون يستجدون المعرفة الجديدة ليدعموا بها وجودهم المدنى والعسكرى، وهم يطرقون أبواب المجهول، علهم يعودون بشىء!! وجرح نفسى أن سمعت مفتيا فى إحدى الإذاعات يقول: إن تعلم اللغات الأخرى يجوز للضرورة، هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية. كأن تعلم اللغات محظور أصلا ، وما يباح إلا للضرورة! قلت إن ابن تيمية ليس جاهلا ليقول هذا الكلام، كيف ونبينا مرسل للعالمين ولغات الناس لا حصر لها؟ وعدت إلى كتاب "ابن تيمية": (اقتضاء الصراط المستقيم فى مخالفة أصحاب الجحيم) فرأيت الرجل فى واد، والمفتى فى واد آخر.. رأيت ابن تيمية يكره انحلال الشخصية العربية ويرفض أن يتكلم الرجل بكلام بعضه عربى وبعضه أعجمى اعتزازا بجنسية أخرى، كما تلمح ذلك فى بعض ضعاف الشخصية الذين ينسون عروبتهم وتغلب عليهم رطانات أخرى. وشتان بين القضيتين! إن لبس الحق بالباطل ما يجىء إلا من هذا القصور الفقهى. وتعلم اللغات الأخرى واجب لمنافع دينية ودنيوية لا حدود لها، وليس ذلك بداهة على حساب اللغة القومية! والناس يعرفون ذلك فى كل قارة، ولكن التدين المغشوش يفسد البداهة ويمسخ الفطرة.. وكأن القدر ـ ازدراء لهذا التدين ـ أبى إلا أن تكون النهضة العقلية العارمة بعيدة عنه، ولا نقول: منكرة له.. ص _015(1/11)
على أن التحدى الأعظم للإسلام كله هو فى يقظة كل القوى المعادية له، وتبييتها النية على اغتياله! أجل لقد صحت اليهودية والنصرانية والشيوعية والوثنية، وتملكتها رغبة مجنونة للقضاء على هذا الدين وانتهاز ما يسود بلاده من غفلة وفرقة لتوجيه الضربة الأخيرة. ولو قدرت على استنصات المسلمين فى المشارق والمغارب، وبعث شعورهم العازب، لصرخت فى آذانهم: احذروا : الإسلام فى خطر!! إن خصوم الدين الحق يتمتعون بقوى مدنية وعسكرية هائلة، ويرسمون سياساتهم فى أناة وذكاء، يرسمونها على قدر كبير من البرود والثقة.. وما أظن العالم يساوى شيئا إذا جحدت الخلائق ربها وأرخصت حقه ونسيت لقاءه.. وأماتت هذا الإسلام الجريح وأنكرت عليه حق الحياة!! ولا أعرف للبقاء فى الدنيا معنى إذا حدث ذلك! وأعود إلى ما ذكرت آنفا. إن تحديات الدعوة الإسلامية تجىء ـ قبل أى زحف خارجى ـ من داخل أرضه، وسوف تتلاشى هذه التحديات كلها يوم يعتنق المسلمون الإسلام، ويدخلون فيه أفواجا، حكاما وشعوبا. لقد ألفت هذا الكتاب عارضا فيه تجاربى ـ وهى حصيلة معاناة مرة إلى جانب توجيهات رجل موفق لا شبيه له فى تأليف الهمم والألباب وتحشيد الشيوخ والشباب لخدمة الإسلام ومد أشعته فى كل أفق.. أسأل الله ذا الجلال والإكرام أن ينفع به، وأن يجعله فى موازين الحسنات، وأن يغفر لى ما قدمت وما أخرت. إنه أهل التقوى وأهل المغفرة. محمد الغزالى القاهرة أول المحرم سنة 1 ص 01 هـ أول القرن الخامس عشر الهجرى ص _016(1/12)
هيمنة الإسلام على الحياة كلها جهود كثيرة تبذل لترضية المسلمين بإسلام آخر غير الذى تلقوه عن نبيهم، وعرفوه من كتابهم. إسلام منقوص الحقيقة والأطراف، منقوص العرى والوشائج، ينكر عليه المنكرون أن يتدخل فى شئون التشريع، أو يبت فى قضايا المجتمع، أو يقدم الولاء له على الولاء للعنصر أو التراب، أو يضع قواعد التربية مقرونة بشعائره وعبادته، أو يحذف من السلوك العام ما يخدش قيمه ويمس مثله الرفيعة، أو يلزم الأفراد بفرائضه اليومية و السنوية..الخ. إنه إسلام اسمى يستبقى شبحه إلى حين، ولعله يستبقى بضرورات لا تلبث أن تزول.. وأغلب الأقطار الإسلامية تتمسك بنسب متفاوتة من الإسلام الحق المعروف فى كتاب الله وسنة رسوله، وقد تقل هذه النسب كما وكيفا، وقد تزيد، ولكنا لم نرها إلى الآن مكتملة الصورة والحقيقة على نحو صحيح علميا وعمليا، فى أى بلد إسلامى. بل إن المسلمين الهنود لما أسسوا لهم دولة باسم "باكستان " قامت الدولة المنشودة على أساس هذا الإسلام "الشبح "، فلم يعرف للإسلام وجود فى عالم القانون أو الاقتصاد، بل إنه فى عالم العقيدة والعبادة سمح للقاديانية أن تسهم فى قيادة الدولة الجديدة (!) فلا عجب إذا دها باكستان ما دهاها، ولا عجب إذا أصابتها محن قصمت ظهرها.. ولا تزال الجهود المريبة فى أرجاء العالم الإسلامى لخلق أجيال تقبل هذا الإسلام المشوه وترتضى ما قام فى كنفه من تحليل الحرام، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ودفع الأمور كلها بعيدا من هدايات السماء.. ص _017(1/13)
ولا ريب أن الاستعمار العالمى وراء هذه الجهود المنكورة، فهو منذ احتل البلاد الإسلامية حرص على تعطيل الأحكام الشرعية، وطمس شارات الإسلام فى كل أفق، وتسميم الكيان الإسلامى كله ببطء وذكاء حتى يلقى حتفه بعد أمد غير بعيد. ولم يترك الاستعمار بلدا ما يسحب عساكره منه إلا بعد أن يضع مقاليد هذا البلد فى أيد تعمل له، وتضرب بسيفه، وتفكر بعقله. بل لعل الذين خلفوه كانوا أشد منه ضراوة وجراءة، فى الإجهاز على ما بقى من مراسم الإسلام، وشن حرب استئصال وحشية على الجماعات التى ظلت موالية له متمسكة به. وكانت النتيجة بعد تلك الغارة الحقود على رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن قبل العيش فى ظل إسلام مفتعل، ما فيه من عبث الناس أضعاف ما فيه من وحى الله!! وكاد جمهور كبير من أتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يألف استقرار الربا والزنا، وإهمال الصلاة والصيام، ومداهنة الملحدين والفسقة، ثم مطاردة أهل اليقين والجلادة والوفاء لهذا الدين العظيم.. وليس من الحق تحميل الاستعمار الأجنبى أوزار تخلفنا المادى والأدبى. نعم إنه يستديم ضعفنا ولكنه ليس سبب هذا الضعف! إننا نحن المسلمين الذين فرطنا فى ديننا وأسأنا إليه طورا بالإهمال الشنيع وطورا بالتأويل الفاسد وطورا بالتطبيق الغبى. ومن أعصار مديدة والشقة بيننا وبين الحق تتسع، بل إن العلاقة بين الإسلام وأمته ظلت تهن وترق حتى انقطعت فى أماكن كثيرة.. وانتهينا فى هذا القرن إلى أوضاع يجب أن نكشف سوءها ونفشى خبرها. فأجهزة الدعوة الإسلامية ميتة أو مشلولة فى أيام تبرجت فيها الدعوات وافتنت فى عرض نفسها. وأجهزة الشورى المصاحبة لنظم الحكم ميتة أو مشلولة فى أيام دللت فيها الجماهير وتوطدت الحريات السياسية. وأجهزة الاقتصاد القومى تحيا على هامش الدنيا، وليس للاقتصاد الإسلامى تفوق حضارى أو صناعى ينظمه بين الدول العشر الأولى أو الثانية، بل جمهور المسلمين ينتسبون إلى العالم الثالث،(1/14)
العالم المتخلف الباحث عن الحياة على استحياء أو استخذاء.. ص _018
إن ذلك المصير الكالح لأمة كانت طليعة عالمية قرابة ألف عام له أسبابه الجديرة بالدراسة.. وما نشك فى أن المسلمين أماتوا أجزاء من دينهم قبل المد الاستعمارى الحديث ـ لا تقل خطرا عن الأجزاء التى أماتها الاستعمار من دينهم بعد ما تمكن منهم واحتل أرضهم وفكرهم.. يقول الله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء فهل نظرنا؟ وما طرق النظر التى سلكناها؟ ولماذا أخذت هذه الطرق عند غيرنا فعرف الكثير عن أسرار الكون وقوانينه ولم نفد نحن شيئا؟ ويقول تعالى فى وصف المفلحين من أهل الإيمان : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. فماذا صنعنا لنبنى هذه الأخلاق ونؤسس مجتمعا يغالى بالعهود ويصون الأمانات، ويضبط أقواله وأعماله كلها وراء سياج من هذه الفضائل. إننا ظننا الأخلاق تنبت وحدها كما تنبت فى الحقول بعض الحشائش الطفيلية، فلم نبذل المعاناة الواجبة لإنشاء أجيال ذات وفاء لمسئولياتها الخاصة والعامة. ونقرأ قوله تعالى : وشاورهم في الأمر فإذا مفسرون يتطوعون لخدمة الاستبداد السياسى يقولون دون وعى، شاور ثم امض على ما رأيت فالشورى غير ملزمة!! لحساب من هذا التفسير؟ وهب مفسرا قديما سقط فيه، فلحساب من يروج له الرجال الجدد وهم يعلمون المعاطب الهائلة التى أصابت أمتنا من استبداد حكامها عبر تاريخ أغبر؟ ويجىء آخرون فيحشدون جملة من الآثار الصحيحة والواهية، ثم بعد شرح قاصر معتل يخرجون بهذه القاعدة " الفقير الصابر أفضل من الغنى الشاكر". ولو أنهم قالوها عزاء لفرد مصاب، أو عصابة من الناس منكوبة لهان الأمر، ولكنهم أطلقوها كلمة عامة حمقاء، وحاكموا إليها أغنياء الصحابة فجعلوهم يدخلون الجنة زحفا أو بعد لأى !! لماذا؟ لأن الثراء طعن فى التقوى!! فكيف يقوم كيان أمة على هذا العجز والتسول؟! كيف يؤخر عن الجنة من جهز جيش العسرة وأعلى راية الإيمان(1/15)
وهد ركن الطغيان، ليقدم عليه بائس أقعده العدم؟ ص _019
ويقول الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) فماذا فعل العرب لتذويب الفوارق بينهم وبين الترك والعجم والهنود والزنوج وغيرهم من الأجناس التى دخلت فى الإسلام؟ هل اجتهدوا فى تعليمهم اللغة العربية كما اجتهد الإنكليز فى نشر لغتهم بين الأجناس التى خضعت لهم؟ إن السلف الأول بذل فى هذا المضمار جهدا مقدورا، لكن الذين جاءوا من بعدهم لم يصنعوا شيئا يذكر.. وجل الأمثلة التى ضربناها يقوم على فساد معنى التدين أو فتور عاطفته، ولكن ينضم إلى ذلك فى أحيان كثيرة خروج غريب على أمر الله ومعالم دينه. فى عالم الأسرة يتم الزواج وفق مراسم الرياء وتقاليد الكبرياء الاجتماعية المقررة، وإلى أن تتيسر هذه المراسم لا حرج من اضطراب الغريزة وانسيابها بلا ضوابط من إيمان! لماذا يحاط الزواج بكل هاتيك الصعوبات، ولماذا الإغضاء عما يقع؟ وفى المنازعات العائلية لا نستطيع القول بأن نسبة طلاق السنة إلى طلاق البدعة تبلغ واحدا فى المائة.. ولا نستطيع كذلك أن نقول إن واحدا فى الألف من المطلقين يمتعون نسوتهم السابقات. ذلك فى العلاقات الاجتماعية، أما فى عالم السياسة فقد افتخر حاكم معاصر بأنه اعتقل ثمانية عشر ألف مسلم فى ليلة واحدة، وهذا جبروت لا تعرفه الدنيا الآن ولا فى البلاد التى تعبد البقر.. الحق أن المسلمين ابتعدوا عن دينهم مسافات شاسعة، وأن المكانة الهون التى انحدروا إليها نتيجة لازمة لما فعلوا بأنفسهم ورسالتهم. ولابد من عودة صادقة إلى الإسلام كله إذا أردنا أن نحيا ونرشد، عودة علمية وعملية، نظرية وتطبيقية، لا نفرط فى ذرة من ديننا، لا نتنازل عن شعبة من شعب الإيمان ولا عن كلمة من كلم القرآن.. إن الأديان القديمة اضمحلت وتلاشت بسبب هذا التفريط العارض، ولعله بدأ يسيرا ثم تفاحش مع الزمن حتى أتى على هذه الأديان من القواعد. ولن نسمح أبدا أن يرد ديننا هذا المصير، يترك هذا شيئا وذاك(1/16)
شيئا، ويتعلل هذا بالتطور، وذاك بالمصلحة، ولا تزال الأعذار تتوالى، والتعاليم تتهاوى حتى يصير الإسلام أثرا بعد عين ! ص _020
لن نقبل أبدا أن يتعرض الإسلام لهذا المسلك الكفور فى الأخذ والرد ، فأجزاء الدين كعناصر الدواء لا يتم الشفاء إلا بها كلها، ومن ثم فلا تنازل عن شيء منها. إن تحريف الكلم عن مواضعه آفة تصيب الأديان على امتداد الزمان . ولهذا التحريف مظاهر ثلاثة : 1ـ التدخل فى الوحى الإلهى بالحذف والزيادة، اتباعا للهوى أو غلوا فى الدين. 2ـ التأويلات الفاسدة والتفاسير الباطلة لما ورد من نصوص . 3ـ تعطيل العمل بطائفة من الأوامر والنواهى، وتوارث هذا العطل من جيل إلى جيل حتى نشأ خلوف قاصرة تظن ما أهمل قد نسخ وباد. ومن حسن حظنا ـ نحن المسلمين. كتابنا محفوظ بعناية الله، فالأصل الذى نحتكم إليه قائم دائم، ومن حسن حظنا أن الإجماع منعقد على أركان الإسلام والأجهزة الرئيسة التى تتفرع عنها بشعبه وقوانينه هنا وهناك. وإنه لسهل على المصلحين بعد ذلك أن يقاوموا المعطلين لحدود الله والمنحرفين عن صراطه المستقيم ، وأن يستمسكوا بالدين كله علما وتطبيقا، دراسة وسلوكا، نهج حياة خاصة أو عامة. وإلى هذا الشمول والترابط فى تعاليم الإسلام وجه الأستاذ حسن البنا إخوانه بقوله : " الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء ص _021
الكتاب والسُّنَّة معًا(1/17)
لا يعرف التاريخ إلا قرآنا واحدا منشور النسخ بين جماهير المسلمين من ليلة القدر الأولى إلى يوم الناس هذا. ولم يحدث خلاف على هذه الحقيقة خلال أربعة عشر قرنا مضت، فكتاب المسلمين واحد. وقد حاول بعض المستشرقين الصغار أن يختلق ريبة حول ذلك فزعم أن عند الشيعة مصحفا آخر، وهو زعم ساقط كان أقل من أن نثبته هنا ولكنا ترخصنا فى ذكره ليعلم من يجهل أن القرآن الذى يحفظه جميع المسلمين ويحتفظون بنسخه فى بيوتهم واحد واحد.
ولم يؤثر عن شيعى أو سنى أو خارجى أو صوفى أن لديه قرآنا آخر غير هذا الكتاب الفذ. إن المصحف يطبع فى القاهرة فيقتنيه مسلمو إيران والهند من الشيعة دون أى تردد عالمين بأن هذا هو الوحى الذى نزل على نبيهم.
وظاهر أن الأقدار ضاعفت أسباب الصيانة لهذا الكتاب حتى انفرد بهذه المكانة التى لم يظفر بها كتاب سماوى آخر.
ومع كثافة الأسانيد المتواترة التى دفعت بهذا الكتاب إلينا، فإن هناك نظرا آخر جديرا بالاحترام كله. إن حديث القرآن عن الله ولقائه ومطالبه من عباده يعلو كثيرا جدا عن نظيره فى الكتب الأخرى.
فتالى القرآن يشعر بأن الله واحد واسع، عظيم، أعلى، جدير بالحمد كله، والمجد كله، يستحيل أن ينسب إليه نقص أو يكون فوق كماله كمال.
وتالى العهد القديم يشعر بأن الله يذكر وينسى، ويخطىء ويصيب، ويفعل ويندم، ويأكل مع الناس، ويلاكمهم أحيانا..!
وتالى العهد الجديد يشعر بأن الله تجسد وقتل فى سياق غامض حافل بالتناقضات. وفى التوراة كما سجلها العهد القيم، لا توجد كلمة عن لقاء الله، ولا يوجد ذكر ليوم القيامة. الحديث كله عن الشعب المختار، وحقوقه فى هذه الدنيا وواجباته تجاه رب إسرائيل! فأى تدين هذا؟!
ص _022(1/18)
والحديث عن يوم القيامة فى العهد الجديد إما أن يؤخذ عن طريق الرؤى فى المنام، أو الإشارات الروحية ليوم الدينونة.. والبون بعيد بين هذا الأسلوب الخافت وبين الهدير الذى يسمع دويه فى الوعد والوعيد، ومشاهد القيامة وصور الحساب والثواب والعقاب كما تكاثرت فى سور القرآن. والجانب الإنسانى الحر ظاهر فى القرآن الكريم. فأنت وحدك صانع مستقبلك، ومصور ملامحك. إن أحسنت لم يستطع أحد أن يعترض طريقك إلى الجنة. وإن أسأت لم يستطع أحد أن ينقذك من النار؟ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد. فلا وسطاء ولا شفعاء، ولا قرابين على نحو ما تصور الوثنية أو على نحو ما تصور الأديان السماوية التى انحرفت. والقرآن ـ بهذا الواقع المشرق ـ جدير بأن يكون الصوت الفذ المنبعث من السماء، فلو لم تدعمه أسانيد التواتر الغنية السخية لقال العقل: ما يصح عن الله إلا هذا. ومن هنا فنحن نوقن بأن القارات الخمس لا تحوى سجلا للوحى الأعلى إلا فى هذا الكتاب العزيز.. ومن هنا أيضا جاء خلود الرسالة التى بقى مصدرها الأولى خالدا: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقد اتفق المسلمون على أن القرآن هو المصدر الأول لتعاليم الإسلام، والمعجزة الباقية أبد الدهر لنبيه عليه الصلاة والسلام، كما اتفقوا على أن السنة المطهرة هى مصدره الثانى. ونقف وقفة قصيرة أمام هذا المصدر. هجوم على السنة: تواجه السنة النبوية هجوما شديدا فى هذه الأيام، وهو هجوم خال من العلم ومن الإنصاف. وقد تألفت بعض جماعات شاذة تدعى الاكتفاء بالقرآن وحده. ولو تم لهذه الجماعات ما تريد لأضاعت القرآن والسنة جميعا، فإن القضاء على السنة ذريعة للقضاء على الدين كله.. ص _023(1/19)
إن محاربة السنة لو قامت على أسس علمية لوجب ألا يدرس التاريخ فى بلد ما. لماذا يقبل التاريخ ـ على أنه علم ـ وتهتم كل أمة به، مع أن طرق الإثبات فيه مساوية أو أقل من طرق الإثبات فى الحديث النبوى؟ وأمر آخر نحب أن نثيره: لماذا تدرس سير العظماء وكلماتهم وتعرض للتأسى والإعجاب، ويحرم من ذلك الحق رسل الله وفى صدارتهم سيد أولئك الرسل مروءة وشرفا، وبيانا وأدبا، وجهادا وإخلاصاً؟! إن بعض البله يتصور الأنبياء أبواقا لأمين الوحى، يرددون ما يلقيه إليهم، فإذا انصرف عنهم هبطوا إلى مستوى الدهماء، وخبا نورهم. أى غفلة صغيرة فى هذا التصور؟! إن الأنبياء رجال أكابر؟ أكارم مصطفون من بين الألوف المؤلفة لصفاء فطرتهم، وزكاة أفئدتهم، ونفاسة معادنهم. والوحى الذى يمر بنفوسهم يتألق فى جوانبهم ويتأنق فى سيرهم ويضوع شذاه فى إيمانهم وصلاحهم، فإذا لم يكن هؤلاء قدوة فمن القدوة؟ الأدباء القوالون وحسب؟ الساسة الماكرون وحسب؟ القادة السفاحون وحسب؟ ما أغرب أحكام البشر!! إن الله فى كتابه أحصى أسماء ثمانية عشر نبيا من الهداة الأوائل، ثم قال للهادى الخاتم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) . فإذا برز للإنسانية إنسان كامل التقت فى سيرته شمائل النبوات كلها، وتفجرت الحكمة على لسانه كلمات جوامع، واستطاع ـ وهو الفرد المستوحش ـ أن يحشد من القوة ما يقمع كبرياء الجبابرة، ويكسر قيود الشعوب، ويوطىء الأكناف للحق المطارد.. إذا يسر الله للإنسانية هذا الإنسان العابد المجاهد الناصح المربى، جاء غر يقول : لا نأخذ منه ولا نسمع له. ثم يستطرد مخفيا غشه: حسبنا كتاب الله! وهل السنة إلا امتداد لسناه، وتفسير لمعناه، وتحقيق لأهدافه ووصاياه؟.. ص _02 ص(1/20)
عتاب وتصحيح للمفاهيم: على أننا نعتب على جماعات كثيرة تنتسب للسنة وتظهر التمسك بها، إذ إن مسلكها قد يكون من وراء انصراف بعض الناس عن السنن وشكهم فى جدواها. ونأخذ على هذه الجماعات أمرين: أولهما: أنها تخلط الصحيح بالسقيم، ولا تدرى بدقة ما يقبل ويرد من المرويات. وقد لاحظت عند تحديد الوضع الاجتماعى للمرأة أنه ما يجىء حديثان فى قضية تتصل بها إلا أخر الصحيح وقدم الضعيف! فزيارة المرأة للقبور ترويها أحاديث صحيحة، ولكن بعض أهل العلم يقدمون عليها حديثا ضعيفا يلعن زائرات القبور.. ورؤية المرأة للرجال ـ مع غض البصر ـ ترويها أحاديث صحيحة، ولكن بعض أهل العلم يطوون ما صح وينشرون آثارا واهية أن المرأة لا ترى رجلا ولا يراها رجل!! وقد وضعت تفاسير وذكرت مرويات لتقرير أن وجه المرأة عورة، وأن الإسفار عنه جريمة، وليس وراء هذا الزعم سنة صحيحة، ولا فقه قائم.. ولعل هذا القصور العلمى وراء الانهيار الاجتماعى أمام زحف المدنية الحديثة: خذ مثلا هذه القضية الاجتماعية الحساسة، قضية المهور، فإن الأحاديث الصحيحة وردت برفض المغالاة فيها. روى مسلم عن أبى هريرة قال: ( جاء رجل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إنى تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبى: على كم تزوجتها؟ فقال: على أربع أواق من فضة، فقال له النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: على أربع أواق!! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل!! ). وظاهر من تعليق الرسول أنه استكثر المهر. والأصل فى المهور التيسير، وسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى نسائه وفى بناته التيسير، والأحاديث فى ذلك كثيرة.. ولكن هذه الأحاديث الكثيرة طويت طيا وانهزمت أمام رواية جاءت أن امرأة جادلت عمر بن الخطاب فى زيادة المهور وهزمته مستشهدة بقوله تعالى: (و آتيتم إحداهن قنطارا). وهذه الرواية لم تأت بسند صحيح، بل فى رجالها انقطاع وضعف، ولو تجاوزنا ذلك ـ وما يجوز تجاوزه ـ فإن موضوع الآية ومعناها ليس(1/21)
محل الاستشهاد، إذ الآية ص _025
فى شخص يريد تبديل زوجة بأخرى ويريد أن يسترد من الزوجة المتروكة ما أعطاه إياها مهرا فرفض القرآن هذا المسلك الصغير، وبين أنه ما يجوز أخذ شىء من المرأة المهجورة ولو أمهرها قنطارا.. والعبارة تفيد المبالغة، ولو لم تفدها فالأمر يتصل بقضية أخرى غير إنشاء البيوت، وإعفاف الرجل والنساء، وإغلاق أبواب الحرام، وتفتيح أبواب الحلال، وحماية الأمة من التسول الجنسى ومقاذر الانحراف. وقد لاحظت أن هناك أحاديث ضعيفة تحكم المجتمعات الإسلامية وتهزم الأحاديث الصحيحة بل المتواترة. خذ مثلا رفض صلاة النساء فى المساجد، فقد فهم من أحاديث لم يروها رجال الصحيح ومع ذلك فقد أقر الرفض عمليا، وطويت الأحاديث المتواترة والصحيحة فى هذه القضية المتصلة بأهم عبادات الإسلام. والتصرف فى السنة بهذا الأسلوب لا يمكن أن يكون دينا قويا ولا صراطا مستقيما. أما الأمر الثانى الذى يؤخذ على المشتغلين بالسنن عموما، فهو: قصورهم الفقهى، وليست لهم قدم راسخة فى فقه الكتاب الكريم! ـ مع أنه الأصل ـ كما أنهم يأخذون الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها، ولا يضمون إليها ما ورد فى موضوعها من مرويات أخرى قد تؤيدها وقد تردها. خذ هذين المثلين مما عرض لى فى القاهرة وأنا مهموم بقضايا الدعوة: أولا: وقف خطيب يدعى السلفية يروى للناس أن والد الرسول فى النار، وكان ذلك لمناسبة احتفال المسلمين بالمولد النبوى!! وقلت للناس: هذا الحديث يخالف قوله تعالى: (و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). وقد ثبت أن جيل الرسول الكريم وصحابته كلهم لم يبعث أحد إلى آبائهم: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون). (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون). ومعنى هذا أن عبد الله وأمثاله لا يعذبون، ولا يدخلون النار. ويكفى هذا الخلاف لنقض الحديث فهو علة تقدح فى صحته. وعلماء المصطلح يردون المتن إذا خالف ما هو أصح وأوثق. وليس بعد حكم القرآن الكريم(1/22)
حكم. ولعل الراوى فهم أن تعذيب المشركين جميعا ص _026
هو الأساس، وأن استثناء أهل الفترة رحمة فوق العدل، فساق الحديث لتوكيد المعنى الأول!.. وعلى أية حال فإن رواية هذا الحديث فى خطبة جامعة وفى مناسبة الاحتفال بالمولد النبوى جلافة وجهالة غليظتان.. ثانيا: قال خطيب آخر يدعى التصوف: إن الله ليلة المعراج نزل لمحمد وأوحى إليه. وقلت للناس: ما روى فى ذلك كان رؤيا منام، ومع ذلك فقد رفضه الحفاظ وردوه ردا شديدا وعدوه من العثرات القليلة التى أخذت على راويه. وقد لاحظت أن المطابع وضعت فى أيدى الجماهير نسخا كثيرة من الموطأ ومن الصحيحين، وكثيرا ما يقرأ العامة أحاديث فوق مستواهم، والحديث إن لم يقدمه عالم فقيه، أو إذا لم يصحب بشرح يلقى ضوءا كاشفا على معناه، ربما كان مثار فتنة ولغط. وكم من أنصاف متعلمين أساءوا إلى السنة بضعف الفقه وقصور البصر... والخلاصة أن طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طاعة الله تبارك وتعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا). حقائق محترمة: وإن من زعم أن الرسول يجوز عصيانه فيما أمر به ونهى عنه، فهو كافر باتفاق المسلمين.. وقد بذلت جهود لم تبذل مثلها فى الوقوف على تراث بشر كى يعرف ماذا قال الرسول حقا.. وانتهت هذه الجهود بجملة حقائق محترمة. 1ـ أن فى السنة ما هو متواتر لفظا أو معنى، وهذا النوع من السنن يشبه القرآن الكريم فيما أتى به من أحكام، ولا يمكن رده، وهو كثير فى التراث النبوى وعليه تقوم الكثرة الكاثرة من الأحكام المقررة. وليس بصحيح أن المتواتر فى السنة ضيق النطاق، ربما كان ذلك فيما تواتر لفظه، أما ما تواتر معناه فهو أساس مقررات فقهية كثيرة. والواقع أن أخبار الآحاد من الناحية العملية لا تشكل مساحة كبيرة من السلوك الإسلامى المهم، فإن ما لا بد منه تكفلت به نصوص ثابتة بيقين.. 2ـ جمهور الأمة يقبل سنن(1/23)
الآحاد ويعدها دليلا على الحكم الشرعى الذى نتعبد ص _027
الله بإقامته. ومن الناس من عد هذه السنن مفيدة لليقين الذى يفيده التواترـ مادامت صحيحة ـ ولكن جمهور العلماء يقبل سنن الآحاد فى الأحكام العملية والفروع الفقهية، ولا ينقلها إلى ميدان العقيدة الذى يقوم الأمر فيه على القطع. ومعنى ذلك أن سنن الآحاد تفيد الظن العلمى وحسب.. 3ـ مع اتفاق الفقهاء على أن سنن الآحاد قرينة مقبولة فى إفادة الحكم الشرعى، فإن عددا من الأئمة يتجاوز هذه السنن إذا كانت هناك قرينة منها فى إفادة حكم الله. (فمالك) مثلا يرى عمل أهل المدينة أدل على السنة النبوية من حديث الآحاد مهما كانت صحته، (والأحناف) يرون أن حديث الآحاد لا ينهض على إثبات الفرضية وحده، ولا ينهض كذلك على إثبات الحرمة، ولكنه يثبت أحكاما أقل رتبة. وغالى بعضهم فجعل القياس القطعى أرجح من سنن الآحاد. ودراسة السنة علم له رجاله الخبراء، ولا يقبل فى هذا الميدان ما يرسله السفهاء من أحكام طائشة تجعل التطويح بالسنة الشريفة أمرا جائزا أو تجعل تكذيب حديث ما هوى مطاعا. إنه لا فقه بغير سنة ولا سنة بغير فقه، وقوام الإسلام بركنيه كليهما من كتاب وسنة. وفى ذلك يقول الأستاذ الإمام حسن البنا: (القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم فى تعرف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع فى فهم السنة إلى رجال الحديث الثقات) . * * * ص _028(1/24)
الحقائق لا الأوهام أساس الإسلام لبعض المتصوفين شطحات تحسب عليهم ويحذر المسلمون منها، قد تكون شطحات فكرية مثل ما روى عن محيى الدين بن عربى من توبة فرعون! فقد زعم أن فرعون رجع إلى الله صادقا ومات طاهرا!! ذلك أنه لما أدركه الغرق (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين). قال ابن عربى: قبل الله إيمانه وتوفاه مسلما!! وهذا كلام موغل فى الخطأ، بل موغل فى السخف. وقد أجمع فقهاء الأمة سلفا وخلفا على أن فرعون وأمثاله من أركان جهنم، وأن توبته عند الغرق لا تساوى شيئا.. وفى آيات كثيرة ما يحدد مصيره. (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود). وابن عربى رجل يصيب ويخطىء، والمخوف منه ومن غيره أن يفكر بالطريقة التى تحلو له، ثم يلتمس إلى تقوية فكره العليل فيقول جاءنى الرسول فى الرؤيا، واعتمد مؤلفاتى، وقال لى: انشرها على الناس..! ورؤيا ابن عربى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تصوب له خطأ ولا ترجح له ظنا، ونحن ننقد أقواله دون أى نظر إلى هذه الرؤى.. وأذكر أن مؤذنا بالريف المصرى كان يضم كلمة "سيدنا" إلى " أشهد أن محمدا رسول الله "، فلما جودل فى ذلك زعم أن الرسول أقره عليها فى المنام! وقلت للرجل: إن دين الله اكتمل فى اليقظة جهارا نهارا، وليس بانتظار رجل يثقل فى الطعام ثم يهرف فى المنام! المسلم رجل جيد العقل يلتمس الحق من مصادره وحدها، فإذا عرفه التزمه واحترمه واستقام على طريقه حتى يتوفاه الله، وليست للتخامين والأوهام مكانة فى فؤاده لأنه ـ كما أمره الله ـ لا يقفو ما ليس له به علم . ص _029(1/25)
ومع لزوم التقوى وإدامة العبادة يتكون من ضمير المؤمن حس ذكى ينفر من الشر والقبح، وينجذب إلى الخير والجمال، ويحب أقواما ويكره آخرين، وينصر قضايا ويهزم أخرى... وهذا الحس يخبو ويصفو مع قوة الإيمان وضعفه، وشدة السير إلى الله أو وهنه. وقد وردت بذلك آيات جعلت الإيمان حياة من موت، وضياء من ظلمة، وفرقانا من لبس، ورحمة من عناء! (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ). على أن المؤمن فى صباحه ومساءه ما يستغنى عن الأدلة الموجهة حسية كانت أو معنوية، إحساسه الخاص لا يقوم بإزاء القرائن الظاهرة والشواهد القاهرة.. ولقد جاء فى الأثر أن المؤمن ينظر بنور الله، وكثيرا ما تصدق هذه الفراسة. ولكن هل هذه الفراسة تصل إلى مجالس القضاء وتثبت بها قضايا ويدان بها خصوم؟ كلا، إنها حجة قاصرة، لا، بل هى حديث نفس تخطئ وتصيب، ومهما بلغت قوتها فلن تعدو روع صاحبها.. إنه ارتقاء عظيم أن تتجاوب نفس مع حقائق الكون، وقد شعرت بأقدار المؤمنين العارفين عندما رأيت رب العالمين يقرنهم بذاته وملائكته، ويكشف عن شهودهم لله الواحد، وإذعانهم لعدله المطلق: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم). هما ابنان لآدم، أحدهما لا يعرف إلا نفسه وهواه ومتقلبه فوق هذا التراب. والآخر طوى الملكوت كله فى فؤاده، وعرف نور السموات والأرض وارتبط به، واستعد للقائه، وادخر الكثير عنده.. ما أبعد الشقة بين الابن العاق والابن البار، ما أبعد الشقة بين المؤمنين والكفار!!. وبعد الشقة يجئ من الفرق بين رؤية محدودة محجوبة، ورؤية تنظم الآفاق وتخترق الأسوار وتشهد الواقع كما هو لا كما يرسمه الخيال.. لقد عرفوا الصدق بأنه مطابقة الخبر للواقع، ومن ثم فالإيمان الصادق ليس وجهة نظر لصاحبه وإنما هو إدراك الحق بلا مغالاة ولا تفريط، إدراك الحق كما هو. ص _030(1/26)
الإسلام يحترم العلم وحقائقه: ونحن نحترم العلم وحقائقه وننزل على حكمه، ونرفض كل تدين أو تقوى بينهما وبين المنطق العقلى جفوة.. قال لى أحد الشيوخ الكبار: كنت فى الهند، ووقفت عند راهب فى صومعته منصرف عن الدنيا، واستمعت إليه ينفخ فى الناى فسرق قلبى، وكان معى أمين الجامعة العربية فرنا إليه كما فعلت. كان سمته المستعلى على الحياة، ولحنه المنبعث من الأعماق يهزنا هزا، وما ملكنا أعيننا من أن تذرف الدمع، ولا أفئدتنا من أن تغزوها الرهبة. ولم أستغرب الواقعة المروية، ولا أثر الموسيقا فى صبغ النفوس بشتى المشاعر، وذكرت بيتا من قصيدة للعقاد يصف ذلك. تهزين أعطاف البخيل فيكرم ويصغى إليك المشمخر فيرحم بيد أنى تساءلت: ما خطب هذا الراهب المتحنث فى صومعته؟ من يعبد؟ أيعبد الله الأحد الذى لا إله إلا هو؟ أم يعبد إلها مثلثا له ثلاثة رءوس وثلاث زوايا وإن كان مثلثا واحدا؟ أم يعبد مظاهر الوجود فى الجرثومة الزاحفة والنجمة السارية؟ ترى ما الذى يملأ قلبه بالشجن؟ أيبكى مصيبة نزلت به خاصة؟ أم يبكى مآسى البشرية التى تزحم القارات؟ إننى لا أعرف دخيلة هذا الراهب، ورأيت أن أبدى ما عندى للشيخ الكبير فقلت له: مع أنى حاد العاطفة إلا أن الدليل العقلى أرجح عندى من صوت المزمر الحنون! وأنا أرفض قبول عقيدة خرافية تنساب مع صوت شجى. إن الهيام الروحى وراء وهم خادع كالهيام الجنسى وراء عشيقة محرمة؟ لابد من احترام صوت العقل أولا وآخرا، هذا ما تعلمناه من كتابنا العظيم. ألقيت محاضرة مطولة عن "أولى الألباب " فى القرآن الكريم. إن هذه الكلمة تكررت نحو خمس عشرة مرة. وفى كل موضع كان السياق يضم مجموعة من الشمائل، أو يشير إلى خلة من الخلال التى يعلو بها قدر الإنسان فكرا وخلقا معا. أولو الألباب هم أهل الخطاب وموضع الثقة وعليهم المعول فى قيادة الدنيا بالدين. وقد رأيت ناسا طيبين، شديدى الثقة بطيبتهم، يستمدون منها حكمهم على الأشخاص(1/27)
والأشياء، وربما صدرت لهم أحكام بالطيبة والخبث أو الحل والحرمة أو التقديم والتأخير لا مصدر لها إلا ذوقهم ومزاجهم!! ص _031
وهذا مسلك قد يصل بذويه إلى الزيغ أو الدجل. وعندما أتدبر أزمة الإيمان فى عالمنا المعاصر أو أزمة التدين خلال تاريخ الإنسانية الغابر، أشعر بأن أصل البلاء نجم عن أقوام يظنون حكمهم على الأمور هو حكم الله، ووصايا المرسلين.. وينبغى التوكيد باستمرار على أن الحكم الشرعى هو "خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين " ـ كما يعبر علماء الأصول ـ وأن استفادة هذا الحكم هى من الله ورسوله، أى من الكتاب والسنة، وأن الوسائل العلمية المحترمة هى الطريق الفذ لهذه الاستفادة. فليس لأحد أن يقول: نفث فى روعى كذا! أو ألهمت كذا، أو رأيت فى منامى كذا، أو روى قلبى عن ربى كذا!! فذلك كله فوضى مردودة. المحكم من القرآن أساس الاعتقاد والتشريع: والإيمان بالغيب ليس ثغرة ينفذ منها الخرافيون وعشاق الأوهام كى ينفثوا سمومهم، فدائرة هذا الإيمان محددة. وإذا كان فى الدين محكم ومتشابه فإن المحكم أم الكتاب وأساس الاعتقاد والتشريع، ودعامة النشاط الإنسانى أعظم أقطاره وأهمها! وإثبات المتشابه ليس إلا تتمة للمعارف التى ينبغى للعقل أن يلم بها وإن لم يعلم كنهها. والواقع أن الاشتغال بالمتشابه مرض نفسى ووظيفة سمجة للبطالين وهواة الجدل. كذلك توسيع دائرة المغيبات ومحاولة جعل الدين طلاسم فوق العقل، أو معميات ينكرها المنطق، إن ذلك كله ضرب من الكهانة يتقنه بعض الناس القاصرين وذوى النزعات الأسطورية، وما أكثرهم فى ميدان التدين. وقبل أن نسوق بعض الأمثلة نستلفت النظر إلى القاعدة العقلية "عدم العلم بشىء ليس علما بعدمه "، وأختها "ما يحكم العقل باستحالته غير ما يعجز عن دركه "!! إننى أعرف رحابة الكون الذى نعيش ـ نحن البشر ـ فى نقطة صغيرة منه، أو فوق هباءة اسمها الأرض. هل أعقل أن هذا الكون الضخم تزأر فيه رياح الخراب علوا وسفلا،(1/28)
فليس فيه من يعقل ويكلف إلا البشر وحدهم؟ لا أستسيغ هذا الزعم! فإذا حدثنى القرآن عن عالم آخر اسمه الملائكة، أو عالم آخر اسمه الجن، أو عوالم أخرى للأرواح الآيبة إلى ربها بعد رحلة الحياة الأرضية، فإننى ـ من ناحية المبدأ ـ أقبل. ص _032
ولما كنت على ثقة مطلقة من صدق البلاغ الذى جاءنى وعصمة المبلغ الذى نقل إلى، فإنى أومن بالملائكة والروح. وما أشبه ذلك من مغيبات. صحيح أنى لا أعرف كنه هذه الخلائق، لكن هل عدم معرفتى يحكم بالإعدام عليها؟ إن علماء المادة الآن يحارون فى كنهها، ويقفون دهشين أمام أسرارها وقوانينها، وهذا العجز عن المعرفة لم يسوغ إنكار الوجود. من أجل ذلك أومن بالغيب، وأضعه فى الدائرة المحكمة التى لا يعدوها. وهناك سؤال: هل الله غيب؟ يرى بعض المفسرين والفقهاء أنه من الغيب. وأشعر بغضاضة من ذلك، ورغبة فى توضيح الأمر. إن العالم أجمع يقوم بالله، ويستمد منه وجوده، فهل ما ترتكز عليه المحسوسات يسمى غيبا؟ نحن ندرك أن نبض قلوبنا، وتلاحق أنفاسنا، وحركات أمعائنا ليست طوع إرادتنا، ولا هى من طاقة داخلية نشرف عليها نحن ونلحظ سيرها. وعندما ننام، وتتلاشى شخصيتنا تبقى هذه الأعمال متواصلة بأمر الحى القيوم، فكيف يكون مصدر الإيجاد والإمداد غيبا؟! ربما كان ملحظ القوم أن حقيقة الذات فوق الفكر والحس، وهذا حق. وأيا ما كان الأمر فنحن نؤمن بالله وملائكته وبأشياء فى عالم الغيب والشهادة لا نعرف بدقة كنهها. ولكننا نسارع إلى توكيد أمر مهم، هو أن ما حكم العقل باستحالته ليس من قبيل الغيبيات التى يجب اعتقادها، مثل كون الواحد ثلاثة أو الثلاثة واحدا، فإن ما يحكم العقل باستحالته يدخل فى نطاق المعدوم الذى لا يمكن أن يقع، فكيف يخال حقا؟! إن دائرة الغيبيات لابد أن يبرز محيطها بجلاء حتى لا تستغل عاطفة التدين فى إشاعة الباطل، وترويج الخرافات. وقد لخص الأستاذ الإمام حسن البنا ما قلناه بشأن تعرف الأحكام الشرعية، ثم(1/29)
بشأن دائرة المغيبات فقال: للإيمان الصادق، والعبادة الصحيحة والمجاهدة، نور وحلاوة يقذفها الله فى قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى، ليست من أدلة الأحكام الشرعية.. ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه . ص _033
وقال: التمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب ـ المستقبل ـ وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته.. إلا ما كان آية من قرآن، أو رقية مأثورة . نقول : دعاء المريض لنفسه أو دعاء من معه له مطلوب، والجؤار بالدعاء لا يمنع من تلمس الدواء، والاستعانة بالأطباء، فإن ذلك أيضا مشروع. وقد وردت فى السنة المطهرة أدعية شتى، كما وردت فى القرآن الكريم سور يتحصن المصاب بتلاوتها، وهذه وتلك تسميان رقى، ولا يزال المؤمنون يسترقون من البلاء، ويدفعون العلل النازلة بما أودع الله فى كلماتها من خير وقبول.. وجاء فى بعض الآثار أن أحد الصحابة كان إذا رأى أولاده صغارا لا يقدرون على ترديد الدعاء كتبه فى ورقة وعلقه بأبدانهم.. ترى ما قيمة هذا التصرف؟ أغلب الظن أنه مسلك عاطفى دفع إليه فيض الحب للأولاد! والمسالك العاطفية الخاصة لا تؤخذ منها قدوة، ولا تعد من باب التشريع.. والغريب أن ذلك الأثر ـ على ضعفه ـ فتح باب المعلقات، وأغرى جماهير من السذج أن يتشبثوا بها طلبا للنجاة حتى كاد الأمر يتحول إلى شرك، وجاهلية. والمحفوظ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " . إن الإنسان يضعف كثيرا أمام الرغبة فى الشفاء أو فى استشفاف المستقبل، وقد رأيت مثقفين ينظرون فى طوالع النجوم وفى خطوط الأكف يريدون أن يعرفوا ما كتب لهم فى الغد القريب أو البعيد، وذلك كله نوع من البله، ودليل على نقص الإيمان.. وعلى المؤمنين أن يصونوا سيرتهم من هذا العوج، وأن يردوا عن الإسلام تهما كثيرة تتجه إلى الأديان كلها فى(1/30)
هذا العصر. ص _03 ص
بين النص والمصلحة جرت على الألسنة عبارة غامضة، أن عمر بن الخطاب ألغى بعض النصوص، أو أوقف العمل بها على نحو ما، لأنه رأى المصلحة فى ذلك! وهذا كلام خطير، معناه أن النص السماوى قد يخالف المصلحة العامة، وأن البشر لهم ـ والحالة هذه ـ أن يخرجوا عليه، ويعدموه. وكلا المعنيين كاذب مرفوض، فلا يوجد نص إلهى ضد المصلحة، ولا يوجد بشر يملك إلغاء النص..!! ولننظر إلى ما نسب لعمر فى هذا الشأن. قالوا: منع سهم الزكاة أن يُصرف للمؤلفة قلوبهم بحجة أن الإسلام استغنى عن تألفهم.. وفهم صنيع عمر على أنه تعطيل للنص خطأ بالغ، فعمر حرم قوما من الزكاة لأن النص لا يتناولهم لا لأن النص انتهى أمده! هب أن اعتمادا ماليا فى إحدى الجامعات خصص للطلبة المتفوقين، فتخلف فى المضمار بعض من كانوا يصرفون بالأمس مكافآتهم، فهل يعد حرمانهم إلغاء للاعتماد؟ إنه باق يصرف منه من استكملوا شروط الصرف. وقد رفض عمر إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل تألفا لقلوبهم أو تجنبا لشرورهم بعدما استطاع الإسلام أن يهزم الدولتين الكبريين فى العالم، فهل يظل على قلقه من أولئك البدو أمثال عباس بن مرداس والأقرع بن حابس؟ أبعد هزيمة كسرى وقيصر يبقى الإسلام يتألف حفنة من رجال القبائل؟ ليذهبوا إلى الجحيم إن رفضوا الحياة كغيرهم من سائر المسلمين..! إن مصرف المؤلفة قلوبهم باق إلى قيام الساعة يأخذ منه من يحتاج الإسلام إلى تألفهم، ويذاد عنه من لا حاجة للإسلام فيه. وعمر وغيره من الخلفاء والحكام أعجز من أن يعطلوا نصا، وأتقى من أن يتقدموا بين يدى الله ورسوله، ويجب أن تفهم التصرفات بدقة، ولا تساق التهم جزافا.. ص _035(1/31)
عمر لم يعطل حد السرقة: وقالوا: إن عمر عطل حد السرقة عام المجاعة.. ونقول: إن الجائع الذى يسرق ليأكل أو ليأكل أولاده لا قطع عليه عند جميع الفقهاء، فما الذى عطله عمر؟.. إن قطع السارق المعتدى الظلوم هو حكم الله إلى آخر الدهر، ولا يقدر عمر ولا غير عمر على وقف حكم الله. ولإقامة الحد شروط مقررة، فمن سرق دون نصاب، أو سرق من غير حرز لم تقطع يده، ولا يقال: عُطل الحد، بل يقال : لم يجب الحد! والذى حدث أيام عمر أن المدينة وما حولها تعرضت لقحط عام ، وفى عصرنا هذا نسمع بمجاعات فى آسيا وإفريقية يهلك فيها الألوف، وليس بمستغرب أن يخرج الناس من بيوتهم يطلبون القوت من أى وجه، وقد يحملهم ذلك على الخطف أو السرقة، فهل تعالج تلك الأحوال بالسيف؟ إن عمر درأ الحد بالشبهة ـ كما أمرت السنة الشريفة ـ ولا يعاب إذا توسع فى هذا الدرء، وقدر آلام الجياع فى تلك المحن المجتاحة.. ذاك تفسير ما روى عنه : إنا لا نقطع فى عام جدب. وقد نقلنا فى مكان آخر رفضه لقطع أيدى الغلمان الذين سرقوا ناقة لابن حاطب بن أبى بلتعة. وظاهر أن مسلكه إجراء استثنائى تجاه ظرف استثنائى، وأنه نفذ الحد عندما وجب، ودرأه بالشبهة عندما لم يقم.. عمر لم يحرم الزواج بالكتابيات: وقالوا: إن عمر حرم الزواج بالكتابيات معطلا بذلك قوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين). ونقول: إن الزواج باليهوديات والنصرانيات مباح على الصفة التى ذكر الكتاب العزيز، من شاء فعل، ومن شاء ترك، وفق رغبته، وقد تقوم حوافز على الفعل أو على الترك لا تغير الحكم الأصلى. فإذا رأى شخص أن ذلك الزواج وسيلة هداية إلى الحق فعل، وإذا رأى أحد أن ص _036(1/32)
ذلك يجعل سوق المؤمنات كاسدة ترك، ونصح غيره بالترك، وهذا ما فعله عمر. قال ابن جرير بعد ما حكى الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس فى المسلمات أو لمعنى آخر. ثم قال: تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر خل سبيلها! فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها؟ فقال عمر: لا أزعم أنها حرام، ولكنى أخاف على المؤمنات أن تزهدوا فيهن وتقبلوا عليهن، أو كما قال. ونظرة عمر موضع تقدير، وهى لا تلغى نصا كما رأيت ولكنها تستلفت النظر إلى مصلحة اجتماعية تجعل تناولنا للمباحات أدق وأرشد.. وللفقهاء بحوث فى جواز تقييد المباح، وفى عصرنا تجنح حكومات كثيرة إلى حظر الزواج من الأجنبيات على رجال السلكين السياسى والعسكرى ، وإنما تفعل ذلك حفاظا على أسرارها وأمانها.. ويرى الشاطبى أن تقييد المباح لا شئ فيه إذا كان من دائرة "العفو" أى مما سكت الشارع عنه، أما إذا كان هناك نص بالإباحة فلا مكان لقيد ما، حتى لا نحرم ما أحل الله.. وهذا نظر دقيق. وفى قضية الزواج باليهودية التى كرهها عمر نراه أكد أصل الحل والحرمة، ولكنه كره من رجل كبير مثل حذيفة بن اليمان أن يسئ إلى المؤمنات بما قد يضيرهن.. إن المصلحة لابد من رعايتها، ومعنى النص الشرعى أن المصلحة قد ارتبطت به أبدا، فهو دليلها وضمانها، وأى تعطيل له فهو خدش للمصلحة أو تطويح لها. ونحن نلحظ فى العقوبات الشرعية المنصوص عليها أنها تناولت عددا معينا من الجرائم، فالحدود المقررة تعد على الأصابع.. ويستطيع الحاكم فى جرائم لا تحصى أن يضمن المصالح بما شاء من عقوبات. هناك جرائم الربا والغصب والفرار من القتال والغش والخيانة وأكل مال اليتيم وكل أنواع المال والعرض والدم التى لا تتناولها الحدود أو ضروب القصاص، وهذه سيئات كثيرة، ودائرة التعزير تسعها، والقضاء يقدر على إرصاد ما يرى من عقوبات تحفظ مصالح الأمة وتقر الأمن هنا وهناك. إمضاء أمر الله نماء وبركة:(1/33)
إن المصلحة لا يمكن أن يحفظها تعطيل نص، فإن إمضاء أمر الله نماء وبركة. وفى الحديث ص _037
أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " حد يعمل فى الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا " . وعندما يشكل المجتمع بالوعد والوعيد والرغبة والرهبة وفق أوامر الله سبحانه، فإن الرخاء يعم والشؤم يستخفى، والمخاوف كلهن أمان.. والفقه الصحيح أن نتعرف على المصلحة حيث لا نص، وأن نجتهد فى تفهمها ثم فى تحقيقها ناشدين إرضاء الله وخير الأمة.. الإسلام مثلا لم يضع رسما محددا لأسلوب الحكم، وإنما وضع له أخلاقا ترعى وقيما تصان، فكيف نولى حاكما؟ وكيف نعزله؟ أو كيف نحاسبه ونراقبه؟ ما هى أجهزة الشورى؟ وكيف نستوثق من التقاء الآراء الناضجة فيها؟ وكيف تمضى فى مجراها دون إرهاب أو إغراء؟ للأمم فى هذه الميادين أن تجتهد فى وضع النظام الذى يحقق مصلحتها دون ما قيد. وأذكر أن أحد الناس سألنى ـ ورئيس الجمهورية يختار لبضع سنين ـ فقال: أليست هذه بدعة..؟! قلت: ما البدعة؟ قال: توقيت مدة الرياسة.. فإن الأصل اختيار الحاكم مدى الحياة! قلت له: التوقيت والإطلاق سواء من الناحية الفقهية، وتتواضع الأمم على ما تراه أكفل لحقوقها، فإذا آثرت أن يكون اختيار الحاكم لأمد معلوم فلها ذلك.. قال: كان اختيار الخليفة الأول مدى الحياة.. قلت: آثر الصحابة أحد الوجوه، ولا تحريم للوجه الآخر.. قال: ألا يكون سنة؟ قلت، لا.. لا سنة إلا بنص، ولا نص هنا. إن فعل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد يكون دليل إباحة، وقد يكون دليل أفضلية، ولا وجوب أو ندب إلا بدليل، أو بنص. وفى مجال المصالح المرسلة يستطيع الساسة المسلمون أن يصنعوا الكثير لأمتهم، على ألا يصطدموا بنص قائم، فإن هذه النصوص معاقد المصلحة العامة وإن عميت عن ذلك أنظار. وتتصل النصوص بنوعين من السلوك يغاير أحدهما الآخر، وذلك التغاير يرجع بدءا إلى الطبيعة البشرية. فهناك أعمال محتومة(1/34)
يباشرها الناس دون انتظار وحى ملهم ص _038
كالزواج مثلا، فإن البشر من بدء الخليفة اتجهوا إليه إجابة لغرائزهم وبقاء لنوعهم وتجميلا لمعايشهم.. فلما جاء الدين كان إرشاده لهذا النوع من السلوك: رفض الزواج بالمحارم، وبناء الأسرة على الاختيار لا على الإكراه، وتشريع آداب كثيرة فى العلاقات الجنسية وما ينشأ عنها. وقد تبايع الناس قبل مجىء الوحى، فلما بعث الله رسله هذب المعاملات التجارية وصانها من الغش والربا والاحتكار وغير ذلك من تطلعات الأثرة والجشع. فالتشريع فى ميدان المعاملات ـ كما قال فقهاؤنا ـ يقوم على رعاية المصلحة وضبطها، ثم إشراب هذه المعاملات رقابة الله وانتظار ثوابه. لكن هناك تشريعات أخرى تتصل بعبادة الله سبحانه. إننا قد نعرف ربنا بفطرتنا السليمة، بيد أن الأسلوب الذى نترجم به عن حبنا له وعن خضوعنا وإخلاصنا ليس من وضعنا نحن.. إنه من حق الله وحده، فهو الذى يعرفنا بأسمائه الحسنى وهو الذى يعلمنا كيف نصلى له، وكيف نصوم، وكيف نحج بيته العتيق! إن نصوص العبادات والمعاملات سواء فى ضرورة الاحترام والإنفاذ، ومن حسن الفقه أن نعرف المحور الذى تدور عليه التعليمات الدينية فى كلا المجالين. وفى ذلك يقول الإمام الشهيد "ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفى المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل فى العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعانى، وفى العادات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد" . الخلاف شؤم والفرقة عذاب: الخلاف شؤم والفرقة عذاب! ولم أر مصداق ذلك فى شىء كما رأيته فى تاريخ الأمة الإسلامية. إن المطارق التى هوت على أم رأسها، وجعلتها تجثو بين أيدى أعدائها، كانت من الداخل لا من الخارج! حدث ذلك فى تاريخها القريب والبعيد، وجنت الأمة من وراء انقساماتها الصاب والعلقم..! ص _039(1/35)
فكان لزاما على أولى الألباب أن يدرسوا هاتيك الأوضاع ويكشفوا عللها ويجنبوا المستقبل ما وقع فى الماضى. وفى تجوالى بأرجاء العالم الإسلامى رأيت اختلاف الفقهاء من ألف عام ويزيد، يقسم المسلمين طوائف متباعدة، ويغرى الرجل أن ينظر إلى أخيه شزرا فى قضية علمية خفيفة الوزن! وربما رفض الصلاة خلفه! ثم تنضم إلى الخلاف الفقهى قضايا شخصية ومنفعية تخص هذا أو ذاك، فإذا الإخاء الإسلامى يذوب والخصومات الخبيثة تضرى وينشغل المسلمون بعضهم ببعض. والكاسب الأول من هذا الخلاف المشئوم هو الشيطان وأحزابه، والخسار حظ المسلمين كلهم لا محالة.. الائمة الأربعة رجال لا لنظير لهم: درست سير الأئمة الأربعة فوجدت نفسى أمام رجال ليس لهم فى التاريخ الإنسانى نظائر. كبر غريب على الدنيا، ورغبة فى الله عميقة، وصلابة تنحسر دونها عوامل الرغبة، والرهبة. كانوا على تجردهم ملوكا، وقد هابهم أصحاب السلطان، وضاقوا بالتفاف الجماهير حولهم، وحاولت السلطات أن تستغل لمصلحتها جاههم الدينى.. وهيهات. ومع تقواهم لله، فإن توقد ذكائهم، وسعة علمهم، واستنارة آفاقهم كان نعتم العون لهم على خدمة الكتاب والستة. إن الشهرة التى رزقها هؤلاء الأئمة لم تأتهم حظوظا عمياء، كلا. إنها أتتهم عن جدارة، وما يقدر منصف على انتقاص المكانة التى هيأها الله لأولئك الفقهاء الأكابر. لماذا انقادت الأمة لهؤلاء الأئمة الأعلام : ويظهر لى أن العالم الإسلامى أعطى مقادته لأئمة الفقه ـ إلى عصرنا ـ ولم يعطها رجال الحديث لسببين: أولهما: أن الفقه المذهبى يعتمد على السنة كما يعتمد على القرآن الكريم مع بصر أحد بالمعانى والغايات. ص _0 ص 0(1/36)
والثانى: أن المحدثين ـ إلا قليلا ـ اهتموا بالأسانيد أكثر من المتون، وشغلتهم العنعنة عن الفقه الرحب، فلم يحسنوا تقرير الأحكام والمصالح.. والواقع أن الفقه بلا سنة كالسنة بلا فقه جهد باطل.. وبديه أن يكون للأئمة الكبار أتباع مخلصون، يدورون فى فلكهم. وبديه أيضا أن يكون هناك من لا يدور فى فلكهم ومن لا يراهم أولى منه بالصواب.. إلا أن الفقه المذهبى مر بأدوار بعدت به آخر الأمر عن منابعه الأولى. فقادة المذاهب كانوا يشرحون الكتاب والسنة، ويعدون شروحهم اجتهادا مقنعا لهم ولمن معهم.. ولكنهم ما رأوا قط أن الصواب حكر عليهم، ولا عادوا غيرهم فيما فهموه هم.. ثم جاء الأتباع أخيرا فأخذوا أقوال أئمتهم على أنها الأصل الذى يشرح، ونظروا إليها كأنها الدين الذى يتبع. ونشأ عن هذه جفوة بين مقلدى المذاهب المختلفة، كما نشأت جفوة بين كتب الحديث وكتب الفقه!! وهذا العوج الثقافى أضر كثيرا بأمتنا.. إننا نعلم أن لكل إمام نزعته العقلية ومنهجه الخاص فى الاستدلال، بيد أن أحدا منهم لم ير الآخرين دونه، كما أن شرف أى إمام فى ارتباطه بالكتاب والسنة معا. وقد ظهر أقوام من المشتغلين بالحديث يطعنون فى الأئمة كلا أو بعضا! وهذا حمق، ولو أنهم عابوا مقلدى المذاهب فى جمودهم وضيق باعهم لكان ذلك أرشد. وقد تتبعت نفرا من هؤلاء فوجدتهم بلاء على السنة.. قال أحدهم. إن أبا حنيفة ترك السنة الصريحة وخالف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . قلت: فيم؟ قال: يقتل المؤمن بالكافر! قلت: نعم يقول أبو حنيفة إن المسلم إذا قتل رجلا من أهل الذمة قتل فيه، ودليله على ذلك من القرآن (أن النفس بالنفس)، فلا فارق بين حر وعبد ولا مؤمن وكافر، وقد جعل الحديث فى المحاربين ومن لا عهد لهم. قال: هذا خطأ! قلت: خطأ أو صواب، كيف استسغت أن تتهم إماما بمخاصمة رسول الله وهو يستند إلى أساس دينه، إلى القرآن نفسه؟! ص _0 ص 1(1/37)
قال: ترك الحديث الثابت! قلت: تركُ الحديث الثابت إلى حديث آخر ثابت مقبول، وتركه إلى القرآن مرفوض؟! قال: كيف؟ قلت: صح فى السنة أن الفخذ عورة.. وصح كذلك أنها ليست بعورة، فهل الآخذ بأحد الأثرين تارك للسنة لأنه أهمل الآخر؟ إن ترجيح دليل ليس هجرا للسنة ولا تركا للدين، ولكن التطاول والجهل هما مظهر الخروج على السنة! وفى عصرنا هذا انتشر التعصب المذهبى كما انتشر الغباء فى فهم السنة، ومن ثم احتاج الأمر إلى إسهاب فى عرض الموضوع كله. * * * * ص _0 ص 2(1/38)
الخلاف الفقهى وتعدد المذاهب المسلمون متفقون على أن كتاب الله وسنة ورسوله هما مصدر التشريع، وأنهما المرجع الأوثق والأوحد لطالب الحق وناشد الرضوان الأعلى.. وليس بعد قول الله ورسوله مجال لاقتراح آخر، أو مسلك مغاير! فإذا كان الأمر كذلك، فما هذه المذاهب التى اعتنقها الناس وتوزعت عليها الأمة الواقع أن كلمة مذهب لا تعنى إلا "وجهة نظر فقيه ما فى فهم النص السماوى"! ووجهة النظر هذه لا عصمة لها ولا قداسة. إنها تفكير بشرى فى فهم الوحى الإلهى، فالتعويل على الوحى، والكرامة فى الانتماء إليه وحده.. ونتساءل: هل كل فكر فى فهم الوحى يقبل من صاحبه؟ والإجابة: إن التفاوت بين الناس فى الإدراك والاستنباط حقيقة معروفة، والتشريع أمر خطير، فلابد من صلاحية ذهنية وخلقية ترشح لهذا المستوى. نعم هناك حقائق شرعية يستوى الخاصة والعامة فى دركها، كأصول العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات. ومبادئ هذه المعرفة قد تكفى وتغنى فى ميادين كثيرة.. لكن الحياة أعقد من أن تسيرها المبادئ القريبة. وفى أيام السلام والقتال قد تجد شئونا تحتاج إلى العقول الكبيرة والتوجيهات العميقة، وهنا لابد من انتظار رأى الخاصة والإفادة من خبرتهم. وفى هذا يقول الله تعالى ناعيا على بعض القاصرين : (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم). ويقول جل شأنه منوها بمكانة الاخصائيين وضرورة الرجوع إليهم: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). . ص _0 ص 3(1/39)
وأهل الذكر، أو أهل الاستنباط ليسوا طبقة من الكهنة أو نفرا من أصحاب السلطة، بل هم رجال من صميم الناس توافرت لهم الإمكانات العلمية التى تجعلهم موضع الثقة. والمنابع التى تفد بهؤلاء دافقة على امتداد الزمان والمكان، فلا تحكير ولا استغلال.. قد تقول: هل يفكر هؤلاء لنا؟ ونسارع فنقول: بل نفكر معهم. واذا كان لهم سبتهم أو امتيازهم، فإن الله وهب لنا ما نقدر به على التمييز والموازنة. ومن راقه أن يتبع وجهة نظر لأحد هؤلاء العباقرة، أو أن يمشى وراءه باستمرار فله ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها.. وهنا يجىء السؤال الأهم: إذا كان مرجعنا نحن المسلمين هو الكتاب والسنة، فلماذا انشعبت هذه المذاهب، أو وجهات النظر ـ كما تعبر أنت ـ وفرضت نفسها على الأمس و اليوم؟ ونقول: إن اختلاف العقول أمر طبيعى، ومن العسير جمع الناس على مذهب واحد فى الفكر والاستنتاج. وتصور أن الأمة الإسلامية يمكن جمعها أو كان يمكن جمعها على وجهة نظر واحدة فى فهم النصوص الواردة، شىء مستحيل أو قريب من الاستحالة.. مقررات قبل بيان أسباب الخلاف المذهبى: وقبل أن نذكر الأسباب العادية لوجود المذاهب الفقهية، نحب أن نقرر أمورا ذات بال فى مجال الثقافة الإسلامية: 1ـ إن المتفق عليه كثير جدا، وإن التشبث به وحده كاف فى النجاة. فالإيمان بالله ولقائه والسمع والطاعة لما جاء عنه، وأداء الأركان المجمع عليها فى ميدان العبادات وترك المعاصى المجمع عليها فى ميدان المحظورات، وبناء النفوس على مكارم الأخلاق وأشرف التقاليد... إن هذا كله يقيم أمة لها مكانتها فى الدنيا والآخرة. ولكن جماهير من الدهماء، والأذكياء شغلتها للأسف الخلافات العارضة، ولم تحسن استثمار ما انعقد الإجماع عليه، وكادت تضيع الإسلام ذاته بهذا العوج الفكرى. ص _0 ص ص(1/40)
2- المذاهب الإسلامية الكبرى اختلفت فى الفروع، لا فى الأصل، وكان من الممكن أن يتعاون الأتباع فيما اتفقوا فيه، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا عليه، وهذا ما آثره أولو الألباب، ولكن المرضى بالشقاق عكروا الصفو ومزقوا الشمل. ولنضرب مثلا لما نقول: إن الإيمان بالله ينمو بالنظر فى الكون، والتأمل فى التاريخ، وهذا الإيمان أصل جامع لا ريب فيه، فلماذا لا نتعاون على تقويته، وتنميته، والإفادة منه فى المعاش والمعاد، بتكثير الوسائل التى ترسخه فى القلب؟ وتضخم آثاره فى الفرد والمجتمع؟ ولماذا لا نتجاوز فى ميدان العبادة قضية: هل على المأموم قراءة فى الصلاة أم تغنى عنه قراءة إمامه؟ فيرى من شاء جواز القراءة، أو وجوبها، أو امتناعها، ونترك له وجهة نظره فلا نضيع الوقت فى مجادلتها، ونوفر قوانا النفسية والفكرية فى البناء على الأركان الممهدة وهى كما أسلفنا كثيرة؟ 3- عند التأمل فى التركة الثقيلة من الخلافات التى ورثناها نجد أن بعضها أملاه الترف العقلى، وأن بعضا آخر لفظى لا محصل له، وأن منها ما أشعل ناره الاستبداد السياسى، واستبقاه عمدا إلى يومنا هذا... وأن منها ما يصح أن يكون مسرحا لنفر من الخاصة ويُعد شغل الجماهير به جرما، وأن منها ما جمده المقلدون المذهبيون لقصور شائن فى معرفتهم!. أسباب الخلاف الفقهى: ومع ذلك فإن الخلاف الفقهى فى الفروع كان، ويكون، وسيبقى، إلى آخر الدهر، لأسباب طبيعية مقبولة. ويجب ألا نتطير منه، وألا نحاول قتله أو تجاهله، ونحن نذكر أطرافا من أسباب الخلاف: 1ـ الطبيعة اللغوية.. هناك كلمات تفيد الشىء وضده. فإذا قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، فإن الفقهاء قد يختلفون فى تحديد معنى "قرء" أهو الحيض أم الطهر؟ ولا حرج عليهم إذا اختلفوا، فرأى بعضهم أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات، ورأى آخرون أنها تعتد بثلاثة أطهار! ومن ذلك اختلاف الفقهاء فى تفسير كلمة (أو لامستم النساء) ـ عند(1/41)
إحصاء ص _0 ص 5
دواعى التطهر ـ هل اللمس المراد أى لمس؟ أو هو لمس خاص؟ ونشأ عن ذلك القول بأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء لأن الآية تعنى الاتصال الجنسى، والقول الآخر أن اللمس ينقض الوضوء لأن المراد باللفظ العموم. ومن ذلك الخلاف بين الجمهور وبين الظاهرية فى كفارة الظهار.. فإن الظاهرية يرون وجوب الكفارة عند تكرار الظهار، وغيرهم يراه عند نقض الظهار الأول. وسبب الخلاف هو فى تفسير حرف الجر فى قوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) هل المقصود يعودون فيما قالوا بالإبطال، أو يعودون إلى ما قالوا بالتكرار.. لاسيما أن الآية اللاحقة تذكر "اللام" بمعنى إلى (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه). وقد يختلفون فى معنى الأمر الوارد فى النص: هل هو للوجوب أو للندب؟ كالأمر فى قوله: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله). فالأمر بالإشهاد للوجوب عند البعض، واحتج بما احتف به من تشديد، وذهب غيرهم إلى استحباب الإشهاد فقط. ولقائل أن يقول: إن السنة المطهرة توضح المراد فى هذه القضايا، فلا مكان للاختلاف. ومن المجمع عليه ـ كما أسلفنا ـ أن اتباع الرسول دين، وأن رفض كلامه مع الاستيقان من أنه قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعد انسلاخا عن الإسلام.. بيد أن السنن المروية منها المتواتر الذى لا يغيب عن مسلم، ومنها الآحاد التى يستحضرها بعض وتغيب عن آخر وقد يعرفها ولكنه يرجح عليها ما هو فى نظره أقوى منها وأحق بالقبول.. فهناك من يعطى المرأة حق مباشرة عقد الزواج إيثارا لظاهر القرآن الكريم الذى يقول: (حتى تنكح زوجا غيره). ص _0 ص 6(1/42)
وإسناد العقد إليها حقيقة لا يوهنها ما جاء من أخبار مخالفة. ويرى كثيرون بطلان مباشرة المرأة لعقد الزواج للحديث الوارد "أيما امرأة أنكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل " . وهناك من يرى الجلد وحده هو حد البكر إذا زنى، مكتفيا بالنص القرآنى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) ويرى آخرون ضم النفى أو السجن سنة إلى ذلك أخذا بحديث وارد فى الموضوع. وهناك من يرى أن أحكام صلاة الخوف، وتوحيد الإمامة فى شخصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما ذلك خاص به لقوله تعالى : (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) الخ. ويرى آخرون وحدة القيادة والإمامة فى جبهة القتال على اختلاف الزمان والمكان محتجين بآثار مروية.. وهناك من يقتل المسلم قصاصا ممن قتلهم من المسلمين أو الذميين لعموم قوله تعالى (أن النفس بالنفس)، وقوله بعد (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). ويرى آخرون أن المسلم لا يقتل فى الكافر مستشهدين بما ورد فى ذلك عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم .. وأعرف فى عصرنا بعض العلماء الذين يرون أن آية النور فى حد الزنا نسخت حد الرجم الذى كان مقررا فى السنوات الأولى بعد الهجرة، ولم أر من قال ذلك إلا نفرا من المعتزلة والخوارج. وهم يستشهدون بآية النساء فى نكاح الإماء وجواز ذلك للأحرار من الرجال: (بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن ـ أى تزوجن ـ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب). ـ يعنى الحد ـ والرجم لا ينصف، فلابد أن الحد هو الجلد، وجمهور المسلمين ضد هذا الرأى..! ص _0 ص 7(1/43)
وقد ألف أحمد بن حنبل رسالة فى الرد على من يستغنون بظاهر القرآن عن السنن المفسرة له، وهذا يتأدى بنا إلى الحديث عن سبب مهم من أسباب الخلاف الفقهى. 2- أحاديث الآحاد ودورها فى التشريع: كتب الإمام ابن تيمية رسالة جليلة فى أسباب الخلاف بين أعلام الأئمة كان فيها قمة من قمم العلم والنصفة. صور وجهات النظر المتباينة بأمانة وإحاطة دون أن يكون لرأيه الخاص أثر فى تشويه رأى معارض. نعم، أجمل أسباب الخلاف، وحدد نتائجه، فى حياد نزيه، ولمن شاء أن يقرأ رسالته "رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ليستفيد منها فوائد جليلة... وقد ذكر عشرة أسباب للخلاف الفقهى ودور أحاديث الآحاد فى تعدد المذاهب، ونحن نقتطف منها ما يشرح القضية، متصرفين فى العبارة على نحو يقرب المعنى إلى القراء المعاصرين. أ- ربما لا يبلغ الحديث الفقيه المجتهد، فإن الأحاديث كثيرة والإحاطة بها متعذرة. وقد كان أبو بكر لا يعلم السنة فى ميراث الجدة حتى أخبره من يرويها. وكان عمر لا يعلم سنة الاستئذان حتى اطلع عليها من أبى موسى الأشعرى وغيره، وكان لا يدرى حكم المجوس فى الجزية حتى ذكر له عبد الرحمن بن عوف حديث "سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . ومن لم يبلغه حديث ما ربما اعتمد على ظاهر آية أو على حديث آخر، أو على قاعدة عامة، أو لجأ إلى القياس... إلى غير ذلك. وعندى أن الأحناف لم يجيزوا الجمع بين الصلاتين فى السفر ـ وأحيانا فى الحضر ـ لأن السنن فى ذلك لم تبلغهم، وأسانيدها قائمة. ب ـ قد يبلغ الحديث الفقيه، ولكنه يرفض سنده لعلل قادحة فيه، وربما بلغ غيره بسند أجود فيأخذ به. والخلاف بين العلماء فى تقويم الرجال، وبالتالى قبول المتون أمر شائع. جـ من الفقهاء من يشترط فى قبول خبر الواحد شروطا لا يوافقه غيره عليها، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على كتاب الله وسنة رسوله، أو اشتراطه أن يكون المحدث فقيها، فإن جودة الحفظ لا تغنى عن حدة الذهن، أو اشتراطه فى كل أمر شأنه(1/44)
العموم أن يجىء من طرق كثيرة فإن انفراد واحد وحسب بحديث فى قضية عامة مشهورة قد يثير التهمة. ص _0 ص 8
د ـ اعتقاد ضعف الحديث لفكرة خاصة، فإن كثيرا من الحجازيين مثلا يرون ألا يحتجوا بحديث رواته عراقيون أو شاميون إن لم يكن لهذا الحديث أصل بالحجاز. ومع أن الحجاز هو البيئة الأولى للسنن الأولى فإن هذا الاعتداد بالأسانيد الحجازية وحدها رأى خاص. هـ ـ أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه. وذلك كنسيان عمر لحديث التيمم من الجنابة حتى ذكره به عمار بن ياسر... وكأن عمر رضى الله عنه لم يفهم من القرآن إلا أن التيمم يرفع الحدث الأصغر وحده. وعدم العلم بدلالة الحديث، مثل ما ورد "لا طلاق فى إغلاق " : هل الإغلاق هو الإكراه؟ أم هو استغلاق الذهن وانسداد أبواب الفهم لسبب عارض، كالغضب الشديد أو سبب مستمر كالجنون أو العته..؟ وقد اختلفت الفتاوى باختلاف الأفهام فى الكلمة. و ـ وقد يكون اللفظ مشتركا أو مجملا، أو مترددا بين الحقيقة والمجاز، فإن بعض الصحابة فهم من قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)، أن المراد حبل أبيض وحبل أسود، حتى عرفهم الرسول بأنه بياض النهار وسواد الليل. وربما كانت دلالة النص خفية لا يلحظها كل ذهن. قال أحد الدعاة لعامل يغالى فيما له من مطالب، ويفرط فيما عليه من واجبات: أنت من المطففين الذين تناولتهم الآية: (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )، والتشابه بين المسلكين موجود. ز- اعتقاد الفقيه أن لا دلالة فى الحديث على ما يراد.. والفرق بين هذا وما قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، أما هنا فقد عرف الجهة وردها لسبب قائم عنده.. وقد ذكر ابن تيمية مصطلحات فنية من علم أصول الفقه تعنى المتخصصين، ونرى أن نستبدل بها أمثلة أوضح، فإن اختلاف العلماء فى دلالة الكلام ميدان واسع : خذ مثلا حديث "إنما الأعمال بالنيات "(1/45)
. هل المقصود كمالها أم صحتها؟ ص _0 ص 9
وحديث " لا يدخل الجنة نمام " . هل يمتنع دخوله على التأبيد، أم لا يدخلها مع الأفواج الأولى، ويقضى فى جهنم ردحا من الزمن؟ وحديث " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ". هل يكون كافرا، أم الإيمان موجود مشلول؟ فإذا تجاوزنا هذه القضايا المفردة إلى قضايا أعم وأهم وجدنا الرأى يختلف اختلافا بعيد المدى. تحدث ابن تيمية عن القتال الذى يدور بين المسلمين والكفار، فتساءل: ما سببه؟ هل العدوان سبب المقاتلة أم مجرد الكفر...! الأول قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهم. والثانى قول الشافعى وربما علل به بعض أصحاب أحمدوشرح ابن تيمية فى رسالته الآثار السيئة المترتبة على القول الثانى، والتى ترجح رفضه، ثم قالى مؤيدا الرأى الأول : "وقول الجمهور هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار فإن الله سبحانه يقول : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) فقوله الذين يقاتلونكم تعليق للحكم بأنهم يقاتلوننا فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال. ثم قال: (وَلا تَعْتَدُوا ) ، والعداوة مجاوزة الحد، فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان. ويدل عليه قوله بعد هذا : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فدل على أنه لا يجوز الزيادة. ثم قال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). والفتنة أن يفتن المسلم عن دينه كما كان المشركون يفعلون، فلما كانت لهم سلطة حينئذ يجب قتالهم حتى لا يفتنوا أحدا، وهذا يتحقق بعجزهم عن القتال... ولم يقل جل شأنه: وقاتلوهم حتى يسلموا... الخ. ثم قال: وادعت طائفة أن هذه الآية منسوخة... وبعد أن حكى قولهم قال: إن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل، وليس فى القرآن ما يناقض هذه الآية، بل فيه ما يوافقها، فأين النسخ؟ ص _050(1/46)
أقول: ونحن نستغرب من بعض المفسرين ولوعهم بذكر النسخ حتى ليكاد يكون ذلك مرضا عند السيوطى غفر الله له، فقد حكم بنسخ عدة مئات من الآيات متعلقا بآراء ومرويات تافهة. من ذلك ما حكاه من نسخ قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) قال ابن تيمية فى تسخيف هذا القول : وجمهور السلف والخلف على أنها ليست مخصوصة ولا منسوخة، بل يقولون: إنا لا نكره أحدا على الإسلام، وإنما نقاتل من يحاربنا. وقد ذكرنا الأسئلة التى ذكرناها فى تعرف دلالات الكلام، ووجوه الأحكام، ليدرك القراء من أين يجىء الفقهاء بآرائهم، ولماذا يختلفون مع أنهم جميعا يستقون من الكتاب والسنة. ح ـ وقد تتساوى الدلالات المختلفة فى إفادة معان كثيرة، ويصعب ترجيح وجهة على أخرى. قال ابن تيمية: "مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفى الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز، إلى أنواع المعارضات الأخرى وهو باب واسع فإن تعارض الدلالات وترجيح بعضها على بعض بحر ضخم ". نقول: وينضم إلى هذا أن تختلف المرويات اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فقد وردت كلمات الأذان ببضع عشرة صيغة، وترجح لدى كل فقيه سند، أو سبق إلى علمه، وظاهر أن رسول الله أقرها كلها. ومثل ذلك كثير. قال الشيخ عبد الجليل عيسى: ثبت فى الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرا، وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة. وذلك أن الناس فى صلاة الجنازة على قولين، منهم من لا يرى فيها قراءة بحال كما قال كثير من السلف وهو مذهب أبى حنيفة ومالك، ومنهم من يرى القراءة فيها سنة كقول الشافعى وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره. ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة، ومنهم من يقول : بل هى سنة مستحبة ليست واجبة. وهذا أعدل الأقوال الثلاثة، فإن السلف فعلوا هذا وهذا وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم، كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وبغير قراءة، كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة(1/47)
وتارة بغير جهر وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح وتارة برفع اليدين فى المواطن الثلاثة وتارة بغير رفع وتارة يسلمون تسليمتين، وتارة تسليمة ص _051
واحدة وتارة يقرءون خلف الإمام بالسر وتارة لا يقرءون، وتارة يكبرون على الجنازة سبعا وتارة خمسا وتارة أربعا. كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من يفعل هذا. كل هذا ثابت عن الصحابة، كما ثبت عنهم أن فيهم من يرجع فى الأذان وفيهم من لم يرجع فيه، ومنهم من يوتر الإقامة وفيهم من كان يشفعها، وكلاهما ثابت عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم . فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا وقد يكون فعل المرجوح أولى للمصلحة كما يكون ترك الراجح أولى أحيانا لمصلحة أهم. ـ قد يكون الفقيه ـ مع جودة حفظه واستنتاجه ـ قد أخطأ فى تقرير المقدمات التى انتهت بالنتيجة التى أرتاها، وذلك مثل من يقول : لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد! مع أن قبول شهادته محفوظ عن على وأنس وشريح وغيرهم رضى الله عنهم.. ويقول آخر: أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث، وتوريثه محفوظ عن على وابن مسعود، وفيه حديث حسن عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم . ويقول آخر: لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أثناء الصلاة ـ وإيجابها محفوظ عن أبى جعفر الباقر.. ـ وأخيرا من الفقهاء من يرد الحديث الصحيح إذا خالف القياس الجلى، ومنهم من يرده إذا كان عمل أهل المدينة المنورة على خلافه، فإن عملهم أدل على السنة من خبر الواحد ـ كما ذكرنا عن مالك ـ. وقد رأى ابن تيمية أن ذلك خطأ، وأن الحديث أولى بالتقديم من القياس ومن عمل أهل المدينة. قال ابن تيمية: ومن ذلك دفع الخبر الذى فيه تخصيص لعموم الكتاب، أو تقييد لمطلقه، أو تضمن زيادة عليه، اعتقادا منه أن التخصيص، والتقييد والزيادة نسخ ـ وهذا رأى أبى حنيفة ـ. والسنة لا تنسخ القرآن، فيبقى الحكم كما تقرر فيه وبصرف النظر عن هذه الأحاديث...(1/48)
وللأحناف فى ذلك كلام طويل يرجع إليه فى كتبهم من شاء... ص _052
أخبار الآحاد ووزنها العلمى كنا فى دراستنا الأزهرية لا نعرف إلا قولا واحدا هو أن أحاديث الآحاد لا تفيد القطع وأن العمل بها هو فى فروع الشريعة وحدها. وقد صور الأستاذ المحدث المحقق أحمد شاكر هذا الرأى فى تعليقه على المحلى لابن حزم عندما قال: "أما الظن ـ الذى هو بمعنى الطرف الراجح ـ فهو معتد به قطعا، بل أكثر الأحكام الشرعية دائر عليه ". وهو البعض الذى ليس فيه إثم أى البعض المفهوم من قوله تعالى (إن بعض الظن إثم). إن خبر الآحاد معمول به فى الأحكام، ولا يفيد بنفسه إلا الظن. والعمل به فى الفروع مذهب الأئمة الأربعة جميعا. وابن حزم سبق أن قال : إن الجاهل يسأل العالم عن الحكم فيما يعرض له فإذا أفتاه، وقال له هذا حكم الله ورسوله، عمل به أبدا. قال الشيخ أحمد شاكر: ومعلوم أن هذه رواية أحادية من العالم بالمعنى ولا تفيد إلا الظن وقد أوجب قبولها. وكذلك أمر الله بإشهاد ذوى عدل، فإن شهدا وجب على الحاكم الحكم بما شهدا به، وشهادتهما لا تفيد إلا الظن، بل كونهما ذوى عدل لا يكون إلا بالظن.. وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إنكم تختصمون إلى، وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له، فمن قضيت له من مسلم فإنما أقطع له قطعة من النار" . وهذا صريح فى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم بالظن الحاصل عن البينة، إذ لو كان بالعلم لما كان المحكوم به قطعة من النار، ألا ترى أنه يجوز أن تكون البينة التى حكم بها باطلة فى نفس الأمر؟ ص _053(1/49)
ثم قال الشيخ أحمد شاكر ـ مستغربا من ابن حزم دعوى الاعتماد فى الفروع على اليقين وحده : " إنه فى هذا الكتاب ـ يعنى المحلى ـ يستدل بأخبار الآحاد، وبعموم ألفاظها وألفاظ القرآن، والكل لا يخرج عن الأدلة الظنية فاعرف قدر هذه الفائدة السنية ". نعم: قرأنا رأيا لابن الصلاح أن أحاديث الآحاد تفيد اليقين، ولكن هذا الرأى لم يكن له رواج ولا وجاهة. فلما اتصلنا بعلماء آخرين من الحنابلة وغيرهم وجدنا أن الرأى المرجوح عندنا هو الفكر السائد عندهم ما يأبهون لغيره!! حديث الآحاد لديهم حجة فى الأصول والفروع والعقائد والشرائع على سواء. إن بين المذهبين خندقا بعيد القاع..!. وقد كان لذلك أثر رديء فى مسالك الأفراد والجماعات خصوصا بين العوام وأشباههم. وأجلت الفكر هنا وهنا، فرأيت أن مدرسة الأزهر تحتضن المذاهب الأربعة بقوة، وتغض من قيمة الحديث إذا خالف أحكامها مع أن الحديث قد يكون جديرا بالترجيح لثبوته وضعف الدليل المقابل له، ورأيت أهل الحديث يشبهون أهل الظاهر، فى ضعف الرأى وقلة الفقه وسوء الموازنة بين شتى الأدلة. خبر الآحاد لا يفيد القطع: ونعود إلى أخبار الآحاد لنتساءل: هل تفيد القطع حقيقة؟ وهل هى فى قوة الحديث المتواتر؟ والإجابة التى نرتضيها: لا.. المتواتر يفيد، أما حديث الآحاد فيعطى الظن العلمى أو العلم الظنى، ومجاله الرحب فى فروع الشريعة لا فى أصولها. ويدفعنا إلى ذلك أمور: ا- الفرد قد ينسى أو يخطىء، فهو بشر، وقد تفاوتت كلمات الرواة فى نقل حادثة واحدة تبعا لذلك. وأوضح مثال لذلك ما جاء فى البخارى فى "باب سؤال جبريل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان والإسلام والإحسان ". ففى بعض الروايات قال جبريل للنبى ـ صلى الله عليه وسلم : وما الإسلام؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى ص _05 ص(1/50)
الزكاة، وتصوم رمضان ". قال: ما الإحسان..؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه ..الخ ". قال الحافظ ابن حجر: فإن قيل إنه لم يذكر الحج مع أنه من أهم أركان الإسلام، أجيب بأنه ذكره لكن بعض الرواة، إما ذهل عنه أو نسيه، والدليل على ذلك الروايات الأخرى لهذا الحديث، ففى رواية أنس بزيادة "وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا". وفى رواية عطاء الخرسانى ذكر الحج ولم يذكر الصوم، وابن عباس لم يذكر فى روايته لهذا الحديث غير الشهادتين، وذكر التميمى فى رواية لهذا الحديث جميع ما ذكر متفرقا فى الروايات الأخرى وزاد بعد قوله والحج "وأن تعتمر وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء". قال ابن حجر: فتبين مما ذكرناه أن بعض الرواة ضبط ما لم يضبط غيره. ووقوع الخطأ أو النسيان فى مرويات الآحاد أمر لا ريب فيه، ولذلك فمن المجازفات الزعم بأن خبر الواحد يفيد اليقين. جاء فى البخارى أن عبد الله بن عبيد الله بن أبى مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان رضى الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهم، وإنى جالس بينهما، أو قال جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبى، فقال عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ". فقال ابن عباس رضى الله عنهما: قد كان عمر رضى الله عنه يقول بعض ذلك!! ثم حدث قال: صدرت مع عمر رضى الله عنه من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ قال فنظرت، فإذا صهيب، فأخبرته، فقال: ادعه لى، فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل فالحق بأمير المؤمنين... فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكى ويقول : وا أخاه! وا صاحباه! فقال عمر رضى الله عنه: ياصهيب أتبكى علىّ وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه!! قال ابن عباس رضى الله عنهما: فلما مات(1/51)
عمر ذكرت ذلك لعائشة رضى الله عنها فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه... ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه " وقالت: حسبكم القرآن، ( ولا تزر وازرة وزر أخرى( . ص _055
قال ابن عباس رضى الله عنهما عند ذلك: والله هو أضحك وأبكى..!. قال ابن أبى مليكة: والله ما قال ابن عمر رضى الله عنهما شيئا!! وظاهر من هذا السياق أن ابن عمر عرف خطأه فسكت، وسمع تعقيب ابن عباس وهو يؤيد أم المؤمنين، فى خبرها وفقهها فلم يجد ما يقول!! وهناك قصة أخرى من مرويات البخارى تؤكد وقوع الخطأ والنسيان فى مرويات الآحاد. عن شقيق بن سلمة قال: كنت جالسا عند عبد الله ـ ابن مسعود ـ وأبى موسى ـ الأشعرى ـ فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال عبد الله: لا يصلى حتى يجد الماء!! فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كان يكفيك ـ وفى رواية ألم تسمع قول عمار لعمر بن الخطاب ـ : بعثنى أنا وأنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء.. فتمرغت فى الصعيد كما تتمرغ الدابة! فذكرت ذلك للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه. قال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بذلك؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار! كيف تصنع بهذه الآية ـ فى سورة المائدة (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا)- فما درى عبد الله ما يقول... فقال: إنا لو رخصنا لهم فى هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم الصعيد! فقلت لشقيق فإنما كره عبد الله لهذا؟ وفى رواية وإنما كرهتم هذا لذا؟ قال: نعم. وهذا السياق يحتاج إلى تأمل طويل، إن(1/52)
الفقهاء جميعا يرفضون فتوى ابن مسعود، ويستغربون أن يستظهر لفتواه برأى عمر، والقضية بت فيها القرآن الكريم بجواز التيمم لمن فقد الماء حقيقة أو حكما. ص _056
ولا معنى لتخوفه من أن البعض سوف يتيمم عند البرد، فقد فعل ذلك عمرو بن العاص وأقره النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما نشره القرآن لا يطويه أحد لوهم عارض.. الحق أن عبد الله أخطأ، وذاك سر قولنا: إن خبر الواحد لا يفيد اليقين، ولا تؤخذ منه العقائد. وإذا كان قمة السند أعنى الصحابى ينسى فمن دونه أولى. وهاك من مرويات البخارى مثلا آخر. كم اعتمر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ؟ : عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ جالس إلى حجرة عائشة ـ رضى الله عنها ـ وإذا أناس يصلون فى المسجد صلاة الضحى! قال: فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة!! ثم قال له: كم اعتمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أربع، إحداهن فى رجب! فكرهنا أن نرد عليه.. قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين فى الحجرة، فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمر أربع مرات، إحداهن فى رجب! قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر فى رجب قط . وظاهر أن عبد الله بن عمر كان واهما عندما أخبر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمر فى رجب! كما أن إنكاره صلاة الضحى، واعتدادها بدعة أمر يدعو للدهشة، إذ هى سنة صحيحة من روايات كثيرة!! ونحن نؤكد أن خبر الواحد قديما وحديثا ما كان يفيد إلا الظن. والإمام أبو حنيفة له وجهة نظره المعقولة عندما استبعد خبر الواحد فى إيجاب أو تحريم محرم، واعتبر أن ذلك يحتاج إلى القطع، ويمكن الاحتجاج بخبر الواحد فى نطاق المندوب والمكروه ـ كما يعبر الأصوليون ـ ومع ذلك ففى عصرنا قوم يريدون بخبر الواحد(1/53)
إثبات العقائد!! العقائد التى يكفر منكرها..! ص _057
وهذا ضرب من الغلو الممجوج، وقد ينتهى بالصد عن سبيل الله! وقد رأيت ناسا يتسمون أهل الحديث، صلتهم بالقرآن واهية، قال لى أحدهم: إننا نعتقد أن والد الرسول فى النار كما روى مسلم!! قلت: ما دخل الاعتقاد فى هذا؟ إن القرآن حكم بنجاة أهل الفترة، ومسلم روى فى الرضاع المحرم حديثا رفضه الأحناف والمالكية، ومن حقهم وحق غيرهم رفض ما قال عن عبد الله. وأخبار الآحاد تناقش فى ضوء الكتاب، وسائر السنن، ثم يقرر الحكم بعد ذلك!! 2 ـ نحن فى شئون الدنيا نستوثق للحقوق بجعل شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين، فكيف نهبط بنصاب الثقة فى شئون الدين؟ وإذا كان خبر العدل لا يثبت عشرة دنانير فكيف يثبت عقيدة قد تطيح عند جحدها بالرقاب؟ 3 ـ رأينا من أسباب الخلاف الفقهى أن خبر الواحد ربما لم يصل إلى الأكابر، أو وصل إليهم ثم نسوه! فهل هذه القناة المحدودة تصلح مجرى لنقل العقائد الرئيسة التى يهلك من جهلها؟ إن المفروض ابتداء أن تأخذ هذه العقائد طريقا مستوعبة شاملة، لا يبقى معها جهل ولا غفلة. إن أخبار الآحاد تشبه فى عصرنا حديثا صحافيا مع رئيس الدولة، أما مصادر العقيدة والحقوق العامة فهى تشبه الدستور الذى ولد فى الساحات العريضة، وتيسرت مواده لكل مطلع.. ص ـ المتواتر مصون كلا وجزءا، أما أخبار الآحاد فقد تضمنت ما رفضه الأئمة والراسخون فى العلم، ككون المعوذتين ليستا من القرآن، أو أن سورة الأحزاب كانت فى طول سورة البقرة ثم نسخت.. أو أن إرضاع الكبار يحرم كرضاع الصغار، أو أن لحديث الغرانيق أصلا ما ـ ولو أصلا ضعيفا ـ أو أن الصائم يتناول البرد ولا يفطر. إن هذه المرويات حبر على ورق عند رجال الإسلام مع ورودها فى كتب السنن!! والحق أن حديث الآحاد دليل محترم ما لم يكن هناك دليل أقوى منه وأولى بالقبول. قد يرى المالكية أن عمل أهل المدينة أدل على السنة الشريفة منه، وقد يرى الحنفية(1/54)
أن القياس أدل على الدين منه، أو أن ظاهر القرآن أولى بالقبول منه.. ما نناقش الآن هذه الفروض والآراء، وإنما نثبت وحسب الوزن العلمى المجرد لخبر الواحد كما يبدو لنا. ص _058
وأهل الحديث يرفضون هذا الكلام، ويجعلون حديث الآحاد حجة لا تقاوم. وقد يرى بعضهم أن السنة تنسخ القرآن ، وهو رأى شاذ مرفوض. ويقوم تفكيرهم على حجة قريبة سهلة : إذا ثبت أن الرسول قال فلا اجتهاد لأحد ولا افتيات على المعصوم. بل قالوا: إن الحديث الضعيف فيه رائحة وحى، أما القياس فهو فكر بشر، وما يقدم فكر على وحى..! وقالوا: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ، كان يرسل الأمراء ـ وهم آحاد ـ ويبعث برسله إلى الملوك ـ وهم آحاد ـ فينقلون عنه العقائد والشرائع جميعا، فكيف تقع الريبة فى خبر الواحد الثقة بعد هذا؟! وفى هذا الكلام جانب من الصواب لا يمارى فيه مسلم. فإذا ثبت أن النبى قال، فلا رأى إلا السمع والطاعة! ولكن أنى لنا الثبوت؟ إن الريبة فى قيمة السند، هل يهب لنا يقينا أم لا؟ وذلك موضوع النزاع. وترجيح الحديث الضعيف على القياس مردود، فإن هذا القياس يقوم على تعدية حكم شرعى ثابت فى قضية ما إلى مشابهة أخرى كتحريم الإجارة وقت النداء يوم الجمعة قياسا على تحريم البيع وقت النداء، فأين هوى البشر هنا؟ وإذا كان البعض يشم من الحديث الضعيف رائحة الوحى، فإن آخرين يشمون منه روائح الوضع فلا لوم عليهم. أما أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرسل الأمراء والمعلمين وهم آحاد، ويكونون حجة على غيرهم فهذا حق والحكومات لا تزال تبعث السفراء آحادا، ونحن لا نزال نعين الأساتذة يدرسون للطلاب آحادا. وخبر الواحد هنا له احترامه، لأن الملابسات التى تحيط به توفر ضمانات شتى، فإن سفير الدولة إن أخطأ فى البلاغ لحقه ألف مصحح، وكذلك المدرس بين تلامذته. وقد قلنا: إن خبر الواحد مقبول فى فروع الشريعة ومقبول فى نقل ما تواتر أصله. وعلى أية حال فإن العقائد فى ديننا،(1/55)
لم تتلقها الأمة بأسانيد مفردة أو مزدوجة، بل تلقتها بالتواتر المؤسس للثقة المطلقة. وما توجد فى مصادرنا الثقافية عقيدة عبرت إلى الأخلاف عن طريق آحاد، ومن زعم ذلك فهو مختلق. *** ص _059
مدرسة الرأى، ومدرسة الأثر ، ومدارس أخرى: فى أول عهدنا بدراسة التشريع استمعنا إلى هذه العبارة، مدرسة الرأى ومدرسة الأثر! قلت فى نفسى: ما هذه القسمة؟ هل هناك فقهاء يطرحون النص ويتبعون رأيهم؟ وهل هناك فقهاء يلتزمون النص، دون إعمال فكر؟ الواقع أن هذا العنوان يحتاج إلى تفسير، وسأضرب مثلا يتضح منه المعنى المراد. فى زكاة الزروع والثمار جاءت هذه الأحاديث، و هى صحيحة: روى البيهقى عن أبى موسى الأشعرى ومعاذ بن جبل حين بعثهما النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر". وأخرج الطبرانى عن عمر قال : " إنما سن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزكاة فى هذه الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر". ونقل عن الشعبى أنه قال: كتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهل اليمن: إنما الصدقة فى الحنطة والشعير والتمر والزبيب. على هذه الآثار اعتمد الأئمة فى فتواهم بتحديد الأصناف التى تحق فيها الزكاة، ورأوا أنه لا زكاة فى غيرها من الزروع والثمار.. ورأى أبو حنيفة وغيره أن هذه الأصناف كانت تمثل المحصولات الرئيسة فى جزيرة العرب، وأن ما عداها من ثمر لم يكن مالا له خطر.. فإذا كانت الأرض تنبت من الحبوب والفواكه ثروات زراعية لها قيمة كبيرة فإن الزكاة تجب فيها بيقين، مثلما تجب فى الشعير والزبيب. واستصحب أبو حنيفة فقه الآية الكريمة : (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) إلى قوله تعالى.. (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) ومن ثم أوجب الزكاة فى التفاح والموز وسائر الفواكه، والفول والعدس والأرز وسائر الحبوب، والبرتقال واليوسفى(1/56)
وسائر الموالح، والبن والشاى.. الخ. وهذا الكلام وجيه من ناحيتين: الأولى: أنه يحفظ حق الفقراء، فى كل قطر. ص _060
والأخرى: أنه يمثل عالمية الإسلام، فهو دين يشمل القارات الخمس ويتناول ما بث الله من خيرات، وليس دينا بدويا يقف عند حدود الجزيرة العربية. ففقهاء الرأى نظروا إلى الملابسات المحيطة بالحديث، وفسروه فى ضوئها، وفى ضوء الآية القرآنية المحكمة، وهم جعلوا الآية حاكمة على الحديث، ومحددة لمعناه. وذلك يلقى ضوءا على الفروق بين المدرستين، فليست مدرسة الرأى ملغية لأثر وارد كما رأيت، وإنما هى تجمع بين نصوص كثيرة، وترجح ما ترى أنه الأصوب فى نظرها.. أما مدرسة الأثر فتكاد تكون إمضاء لظاهر النص مع بعد عن الحرفية التى أخذت على ابن حزم وأزرت بفكره فى قضايا كثيرة، وإن كان هذا البعد يتلاشى فى بعض القضايا. فى تاريخ التشريع وجدنا مدرسة الرأى ومدرسة النص. والذى أراه أن الأمر يتبع الطبيعة العقلية للناس، فهناك نصيون فى كل مجال، وهناك أهل الفحوى والتأمل العميق. وقد تكشفت هذه الطباع فى العهد النبوى نفسه، ولا تزال تفجؤنا فى عصرنا هذا أمور فى العبادات والمعاملات ينقسم النظار فيها إلى أهل نص وأهل معنى.. فى موسم الحج كان جمهور العلماء يفتى بأنه لا يجوز رمى الجمرات إلا بعد زوال الشمس. وهم يحتجون لذلك بفعل رسول الله مع أن مجرد الفعل لا يعطى حكم الوجوب! قد يكون دليل الندب أو الإباحة. ومع ذلك فان المتشددين مضوا فى طريقهم، وكثر القتلى فى ميدان الرمى لشدة الزحام وهم لا يبالون! ورأيت "مالك بن نبى" رحمه الله يريد الرمى، ويؤجل من الزحام القاتل، فوقف بعيدا عن المرمى بمسافة شاسعة وأخذ يرمى! قيل له ما تفعل؟ قال أنفذ قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" لا معنى للموت تحت الأقدام هنا، هذا ما أقدر عليه! ويقول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ـ وهو من(1/57)
الفقهاء المعدودين فى عصرنا ـ ص _061
"لا أدرى ما الذى جعلهم يتشددون فى عدم رمى الجمار قبل الزوال فى أيام التشريق، وفى حديث " إذا رميتم ـ أى جمرة العقبة ـ وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شئ إلا النساء". وقد ركب رسول الله راحلته فجعل الناس يسألونه، فما سئل عن شئ قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. فرفع الحرج عن الناس فى جميع ما قدموه أو أخروه من بقية مناسك الحج حتى سأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت فقال: افعل ولا حرج!" . والحديث صحيح وهو نص صريح فى جواز تقديم رمى الجمار قبل الزوال أو تأخيرها عنه فيجوز رميها فى أية ساعة شاء من ليل أو نهار. وفى حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سئل عن شئ يوم النحر قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج .. قال الشيخ عبد الجليل عيسى: عدد بعضهم الأشياء التى سئل عنها رسول الله حتى أوصلها إلى 2 ص صورة. ثم قال: أليس هذا دليلا على أن كل فعل طلب من المكلف ولم يرد عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شئ يحدد كيفيته أو ترتيب بعضه على بعض، يكون الأمر فيه واسعا ؟ يفعل كل مكلف ما يغلب على ظنه أنه هو المطلوب، ولا حرج عليه بعد ذلك لأنه لو كان هناك تكليف لوجب على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبينه للناس.. وأرى أن هناك هنات قد يقع فيها أتباع المدرستين. فأهل الرأى قد يتجاوزون أحاديث صحاحا لا معنى لتركها ولا سناد من فكر أو مصلحة لذلك. فالأحناف مثلا يرون الخمر محرمة لذاتها، ما أسكر منها وما لم يسكر، وهى لديهم النىء من عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، أما أنواع العصير الأخرى فإن المحرم منها هو القدر المسكر!! أما القدر الذى لا يسكر فليس بحرام.. ربما كان مكروها فقط!! وهذا كلام يرفضه العقل والنقل، فإن الخمر ما غطى العقل من أى مادة صلبة أو سائلة، وليست بين رب السماء وعصير العنب خصومة خاصة. إن كل شراب مسكر، أو كل عقار مغيب للعقل فهو حرام قل أو كثر(1/58)
والتحليل العلمى للمسكرات والمخدرات يكشف عن تشابه مطلق لفعلها وأثرها فى الإنسان، فلم التفريق بين المماثلات؟ ص _062
والأحاديث الواردة فى أن الخمر تتخذ من مواد كثيرة، أحاديث قائمة، ومحاولة تأويلها لا تستساغ. وهناك من المنسوبين لمدرسة النص من لا توازن له، فهو يجعل المكروه حراما والمباح مكروها، وقد يرى النافلة فريضة.. وهو يعرف بعض النصوص ويجهل غيرها، وما يعرفه ربما لم يحسن فهمه ولا سوقه فى موضعه الواجب. كانت ملكة انجلترا تزور جزيرة العرب، ونشرت لها صور وهى تلقى أحسن استقبال.. ورأيت رجلا عابدا ينظر إلى الأمراء والرؤساء من شتى الدول وهم يصافحونها..!! وسمعته يقول: أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف يصافحون امرأة أجنبية؟! فقلت مداعبا: لعلهم يرون مصافحة الأجنبيات من الصغائر التى يكفرها تجنب الكبائر..! فقال بحماقة: من الصغائر؟! هذه من الكبائر ولكنكم تسوغون المنكر..! قلت ـ وأنا لا أزال أتضاحك ـ لو كانت هذه المصافحة مع ريبة لكانت لمما تسعه المغفرة، فكيف والريبة لا موضع لها بتة؟ ثم قلت: لست ممن يستحبون التقاليد الغربية فى مصافحة الأجنبيات لسبب ولغير سبب، لكن إذا صافح الرجل امرأة أجنبية فى موقف غلبه فليس هناك ما يعد جريمة!! قال: كيف تقول ذلك، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيما رواه الطبرانى: " لأن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له "؟! قلت: ما علاقة هذا الحديث بالمصافحة؟! إن المس لم يذكره القرآن إلا وهو يريد الاتصال الجنسى، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ). وقال فى كفارة الظهار: ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ) ص _063(1/59)
وقد يطلق المس على التحكك السافل أو المزاحمة الخسيسة التى يفعلها بعض الرعاع. وأيا ما كان الأمر فلا علاقة للحديث بالمصافحة. ذلك وقد لوحظ أن بعض الطلاب أعلن حربا على الأجراس لحديث " لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس ". ولا ريب أن المقصود جرس يتخذ للعبادة كما تفعل النصارى، فأما جرس الهاتف، أو جرس المنبه أو جرس محطات السكك الحديدية أو جرس البيوت الذى يستخدم فى الاستئذان، فلا حرج فيه. وبعض هؤلاء الطلاب كان ينتزع الأجراس من أبواب الشقق لسوء فهمه فى الحديث.. والآفة جاءت من الوقوف القاصر عند ظاهر النص. * * * مدرسة الموازنة والترجيح بين مدرستى الأثر والرأى: ظل الانفصال بين مدرستى الرأى والأثر أمدا، وقام بعض الفقهاء بدراسة القواعد الفقهية ومبادئ الخلاف مثلا بين الشافعية والحنفية، ولكن الفواصل الفكرية بين شتى المذاهب لم تضعف خصوصا بعد إغلاق باب الاجتهاد وتجميد الفقه المذهبى فى الأربعة الكبار. وفى هذه الآونة كانت مراجع السنة قد استغرقت وشاعت، وكانت الحضارة الإسلامية قد شرقت وغربت وانهزمت وانتصرت، وأفادت تجارب خطيرة من العدو والصد يق. ونشأت مدرسة الموازنة والترجيح فى القرن السابع على أيدى ابن تيمية وتلامذته، وهى مدرسة استوعبت الأخبار المروية وأدركت وجوه الحكمة والمصالح التى تتغياها الشريعة، أى أنها أفادت من الرأى والأثر معا وإن كان انتصارها للأثر أظهر، ودفاعها عنه أذكى وأقدر. ص _06 ص(1/60)
وابن تيمية حنبلى المذاهب ولكن اجتهاده جعله يستقل بآراء انفرد بها، لم يقل بها الأئمة الأربعة كإبطاله للطلاق البدعى وآثاره. ورأى الرجل أحب إلىَّ وأصح حجة من غيره وأحفظ لكيان الأسرة فى عصرنا هذا. والغريب أن ناسا من أتباع ابن تيمية كرهوا منه هذا المذهب، واتهمه آخرون بأن الشيعة أثروا فى تفكيره.. وابن تيمية أقوى شخصية من أن يتأثر بأحد، وهو على أية حال مجتهد يخطىء ويصيب، ويؤجر على ما انتهى إليه. إن الأئمة الأوائل ـ وخصوصا الأربعة الكبار ـ كانوا روادا فى تأسيس الفقه الإسلامى، والرائد قد يشغله الاكتشاف عن الموازنة والتقدير، ولعل من يجىء بعده يكون أقدر على التنظيم والمراجعة، والموازنة والاختيار. وذاك ما بدا فى مدرسة ابن تيمية وأتباعه الأقدمين.. وفى القرنين الثالث عشر والرابع عشر نشأت مدارس أخرى. هناك مدرسة أشبه أن تكون امتدادا لمدرسة الأثر عرضت الفقه الإسلامى من الكتاب والسنة مباشرة، وأفادت من الجهد العقلى لرجال المذاهب التقليدية، وضمت إلى ذلك جهد الفقهاء الظاهرين، وانتفعت من مدرسة ابن تيمية، وأحيت أسماء كانت مغمورة فى ميدانى الأثر والرأى جميعا، والقاسم المشترك بين رجال هذه المدرسة عرض الفقه من أصوله الأولى. يمثل هذه المدرسة: الصنعانى فى "سبل السلام " والشوكانى فى "نيل الأوطار"، والسيد سابق فى "فقه السنة"، وصديق خان فى مؤلفاته، والألبانى فى رسائله. وعندى أن هذا الجهد يقوم على الاختيار الشخصى، والتنسيق أو التلفيق بين وجهات النظر المختلفة، وأصحابه مقدرون فيما صنعوا، لعلهم أحسن تصويرا للإسلام من مؤلفى "المتون " المذهبية. وهم أيضا يخطئون ويصيبون. وانتماؤهم للسنة لا يجعل التسليم بقولهم واجبا، بل إن بعضهم قد يخالف بعضا فى كثير من الأحكام. *** ص _065(1/61)
وهناك مدرسة أخرى أقرب إلى مدرسة الرأى، وإن كان عنوانها سلفيا، هى مدرسة الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا، ويتبعهما الشيخ محمود شلتوت ومحمد عبد الله دراز ومحمد البهى ومحمد المدنى وقبلهم الشيخ المحقق محمد الخضرى ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة. هذه المدرسة لها ملامح بينة، فهى ـ وإن قامت على النقل ـ إلا إنها تروج للعقل وتقدم دليله وترى العقل أصلا للنقل.. وهى تقدم الكتاب على السنة، وتجعل إيماءات الكتاب أولى بالأخذ من أحاديث الآحاد.. وهى ترفض مبدأ النسخ وتنكر إنكارا حاسما أن يكون فى القرآن نصى انتهى أمده. وترى المذهبية فكرا إسلاميا قد ينتفع به ولكنه غير ملزم، ومن ثم فهى تنكر التقليد المذهبى وتحترم علم الأئمة. وتعمل أن يسود الإسلام العالم بعقائده وقيمه الأساسية، ولا تلقى بالا إلى مقالات الفرق والمذاهب القديمة أو الحديثة. وقد حاولت هذه المدرسة أن تقود الأزهر، وتفرض وجهتها على المسلمين، ولكن التيارات العاصفة كانت أقوى منها فوقفتها أو جرفتها. وبديه أن يكون فى اجتهادات رجالها أخطاء. فتفسير الشيخ محمد عبده للملائكة ـ كما ذكره تلميذه رشيد رضا ـ يرفضه الكافة. وتبرم الشيخ أبو زهرة بحكم الرجم كذلك!! وفى فتاوى الشيخ محمود شلتوت ما يحتاج إلى مراجعة!! ويبقى ـ بعد هذا الإلماح إلى المدارس الفقهية فى تاريخنا العلمى ـ أن نقول: إن الإسلام صائغ أولئك الرجال كلهم، وهم لم يصوغوه. وإن مصادر الإسلام معصومة لأنها من عند الله، ولكن التفكير فيها والاستنباط منها غير معصوم لأنه من عند الناس. وإن الانتفاع بكل فقيه مخلص ذكى يدعم مسيرتنا العلمية، ولا يضيرها أبدا، ويجب أن تنتفى الحساسية والكراهية للأشخاص. وإن وجود هنات فى رأى هذا أو سيرة ذاك لا تهدم عبقريته أو تخدش تفوقه إن كان صاحب عبقرية وتفوق... ص _066(1/62)
الاجتهاد الفقهى علامة صحة وهو شرف لتاريخنا من حق الفقهاء، أن يختلفوا ـ كما رأينا ـ لتفاوت أنظارهم فى شتى الأدلة، ويجب أن نقبل نتائج هذا الاختلاف دون تشنج أو تشاؤم، ولا يجوز أدن نرتب عليه شقاقا ولا تحزبا ولا تحاقدا. إن صاحب الرسالة ـ عليه الصلوات والتسليمات ـ أمضى نتائج الاجتهاد وقبلها، وصح فى السنة الشريفة أن من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، أى أن كل مجتهد مأجور فمن السفه الاستطالة فى عرض فقيه، والنيل منه. ومن الممكن طرح القضايا على بساط البحث العلمى، وبذل الجهد فى تعرف الخطأ والصواب، ويغلب أن تتساوى وجهات النظر، وأن يكون الكل أمام ملحظ محترم يصعب تجاهله. ويمكن أن نقول هنا: إن حقائق الأشياء ثابتة فى الأمور العلمية، فهل هى كذلك فى الأمور التعبدية؟ أعنى أنه إذا قيل: إن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، فالأمر هنا متردد بين الخطأ والصواب لا غير، فالقول بدورانها علم وبتوقفها جهل، والمخطىء سواء عذرناه أم لم نعذره مخالف للواقع ونيته إلى الله. والقاضى عندما يصدر حكمه على متهم، قد يدينه أو يبرئه، وفق الأدلة التى توضع بين يديه، أى أنه يخطىء أو يصيب وفق الواقع وحده، ولكن حكمه نافذ حسب الأدلة الظاهرة ونيته إلى الله. هل الأمور العبادية علي هذا الغرار؟ فمسح الرأس كله ركن عند الله، ولكن المجتهد ـ وفق ما رأى من أدلة ـ قال بأن مسح بعض الرأس يكفى، فهو مخطىء فى اجتهاده ولكن له أجره! ص _067(1/63)
كذلك يقول بعض العلماء ـ أو جلهم ـ وإن كان تعرف حقيقة الحكم عند الله متعذرا، ومن ثم لا نجزم بصواب مجتهد أو خطئه. ومن العلماء من يرى هذه الأمور العبادية اعتبارية، وأن مراد الله فيها هو السمع والطاعة، وأن كل ما يصل إليه وفق فكره وجهده هو المطلوب منه، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، وتبعا لذلك يرى أن كل مجتهد مصيب. وسواء كان كل مجتهد مصيبا، كما يرى البعض أو مأجورا كما أجمعت الأمة، فإن تجريم مجتهد أو التحامل عليه منكر كبير. احترام المخالف ديدن العلماء: والفقهاء المجتهدون وإن اختلفت آراؤهم يحترم بعضهم بعضا ويحترم حريته فى مخالفته، وقد رأينا مالك بن أنس يرفض حمل الناس على مذهبه فى كتابه الموطأ ويقول: إن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تفرقوا فى الأمصار وقد يكون لديهم ما فاته. وقد أنكر عبد الله بن مسعود إتمام الصلوات الرباعية أيام التشريق، لما بلغه أن عثمان فعل ذلك، وقد رئى ابن مسعود بعدها يصلى وراء عثمان متما فلما كلم فى صنيعه هذا قال أكره الخلاف..! وقد كان أحمد بن حنبل يرى أن الحجامة تنقض الوضوء، فسئل عمن رأى الإمام احتجم وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ، هل يصلى الإمام خلفه؟ فقال رضى الله عنه: كيف لا أصلى خلف مالك وسعيد بن المسيب؟! وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون انتقاض الوضوء من خروج الدم، ولكن أبا يوسف رأى هارون الرشيد احتجم وصلى ولم يتوضأ ـ لأن مالكا أفتى الخليفة بأن لا وضوء عليه إذا هو احتجم ـ فصلى أبو يوسف خلفه ولم يعد الصلاة. ورووا أن الشافعى ترك القنوت فى صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الأحناف فى أحد مساجد بغداد وذلك رعاية لأدب الإسلام، ورغبة عن الخلاف.. وربما قيل: إن القنوت أمر ثانوى، أما قراءة الفاتحة فى الصلاة وراء الإمام، فالشافعى يراها ركنا ولا يرى ذلك أغلب الأئمة، وما نظن الشافعى إلا قرأها سرا فى هذه الجماعة. ونقول: إن القيمة الذاتية لاجتهاد الشافعى فى وجوب القراءة(1/64)
كالقيمة الذاتية لرأى ص _068
غيره فى كراهيتها ، أو جوازها، كلاهما اجتهاد يلزم صاحبه وحده، ولا يلزم به غيره من المجتهدين.. والأجر منحة إلهية لكلا المذهبين، الخطأ فيهما والصواب، فلم التنطع وإثارة الفرقة؟ هل نحن أغير على الدين من صاحب الدين؟ لقد أدركنا فى طفولتنا عصرا مجنونا كانت تقام فيه ثلاث جماعات أو أربع للوقت الواحد! كان أتباع كل مذهب يرفضون الصلاة وراء إمام على غير مذهبهم. هؤلاء الناس صنعت عقولهم ثقافة مسمومة، لا تكون على ظهر الأرض إلا أمة تافهة شريرة، وسنتحدث عن هؤلاء عند نقدنا للتعصب المذهبى، وقبل ذلك نزيد قضية الخلاف الفقهى وضوحا فننتقل انتقالة كبيرة. المعاصى والكبائر معروفة فى ديننا، والبعد عنها شيمة المؤمنين، عامتهم وخاصتهم، وثبوت حرمتها قائم على القطع فإن التحريم ليس هوى فرد أو توافق مجتمع. إنه خطاب الله سبحانه بالكف عن كذا، أو كذا، أى لابد من نص يستند إليه التحريم... وهنا قد يقع بين الفقهاء خلاف لا فى أصل النص، بل فى الدائرة التى يتناولها بعد تحديد مفهومه. فالخمر حرام، ومن قال بإباحتها فهو مرتد عن الإسلام، ومن شربها عالما فهو فاسق. وقد سبق أن أشرنا إلى كلام الحنفية فى أن الخمر تصنع من العنب، وأن اللغة تجعل الخمر من العنب وحده، وأن ما أسكر من الأشربة يحرم بالقياس على الخمر، وأن القدر غير المسكر من هذه الأشربة الأخرى لا يحرم ـ كما يقولون. وقد ضعفنا هذا الاجتهاد أو رفضناه. وبقى أن نسأل: ما حكم من شرب هذا القدر غير المسكر أو أباحه؟ والجواب: هو مخطئ ولكن لا يكفر ولا يفسق ولا يجوز لعنه كما يلعن شارب الخمر وعاصرها وبائعها وشاربها.. إلخ. ومثال آخر الربا حرام بيقين، قليله وكثيره، والإجماع على هذا انعقد، ومنعا للوقوع فى الربا جاء فى السنة "والبر بالبر مثلا بمثل، هاء وهاء" ، أى أن التبادل يجب أن يتم حالا دون تفاوت! ص _069(1/65)
والتأمل فى صورة هذه المعاملة، صورة استبدال قدح قمح بآخر دون زيادة ودون تأخير، أمر يدعو إلى الغرابة، إن المرء قد يبادل قمحا رديئا بآخر جيد! فيختلف الكم حتما ! لا، هذا مرفوض، فهو ربا. إن أردت الجيد فاشتره بثمن خاص، وبع ما لديك بثمن ما، ولا مبادلة إلا مثلا بمثل ويكون التقايض حالا.. وظاهر أن هذا الاحتياط الشديد جاء سدا لذريعة الربا، وإغلاقا لأبوابه من بعد.. ولكن وردت أحاديث أخرى تجعل الربا في النسيئة، لا فى الزيادة المعجلة، وقد أخذ بهذا المعنى عبد الله بن عباس وغيره، فهل يعدون مبيحين للربا؟ لا...! وقد ذكر ابن تيمية جملة من الاجتهادات التى أخذ بها أصحابها معتمدين على أسباب الخلاف التى أشرنا إليها ـ صدر هذا البحث ـ ورتب على ذلك أن لا تثريب عليهم ويغفر الله لنا ولهم. ومع رفضى الشخصى لبعض هذه الآراء فإنى لا أستبيح أصحابها ولا أنال منهم. قال ابن تيمية: إنه قد صح عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه " . وصح عنه من غير وجه أنه قال ـ لمن باع صاعين بصاع يدا بيد ـ "أوه عين الربا" كما قال البر بالبر ربا إلا هاء وهاء . وهذا يوجب دخول نوعى الربا ـ ربا الفضل وربا النسيئة ـ ثم إن الذين بلغهم قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إنما الربا فى النسيئة " فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يدا بيد ـ مثل ابن عباس رضى الله عنهما ـ وأصحابه، أبى الشعثاء وعطاء وطاووس، وسعيد بن جبير، وعكرمة وغيرهم ـ من أعيان المكيين الذين هم صفوة الأمة علما وعملا ـ لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحدا منهم بعينه، أو من قلده ـ بحيث يجوز تقليده ـ تبلغهم لعنة آكل الربا، ـ نعم لا يلعنون ـ لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلا سائغا فى الجملة. وكذلك ما نقل عن طائفة من فضلاء المدنيين من إتيان المحاش مع ما رواه أبو داود عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من أتى امرأة فى دبرها فهو كافر بما أنزل(1/66)
على محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ!. ص _070
وكذلك قد ثبت عنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه لعن فى الخمر عشرة : عاصر الخمر، ومعتصرها، وشاربها.. الخ. وثبت عنه من وجوه أنه قال: "كل شراب أسكر فهو خمر" وقال: "كل مسكر خمر" وخطب عمر رضى الله عنه على منبره بين المهاجرين والأنصار، فقال: "الخمر ما خامر العقل ". وأنزل الله تحريم الخمر. وكان سبب نزولها، ما كانوا يشربونه فى المدينة ولم يكن لهم شراب إلا الفضيخ، لم يكن لهم من خمر الأعناب شىء. قال ابن تيمية: ومع ذلك كان رجال من أفاضل الأمة ـ علما وعملا ـ من الكوفيين يعتقدون، أن لا خمر إلا من العنب وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه إلا بمقدار ما يسكر، ويشربون ما يعتقدون حله قال فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم من العذر الذى تأولوا به أو لموانع أخرى. وكذلك لا يجوز أن يقال إن الشراب الذى شربوه ليس من الخمر الملعون شاربها، فإن سبب القول العام لابد أن يكون داخلا فيه، ولم يكن بالمدينة خمر من عنب ـ عند نزول الوحى ـ. ثم إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد لعن البائع للخمر، وقد باع بعض الصحابة خمرا حتى بلغ عمر رضى الله عنه فقال: "قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها، وأكلوا أثمانها "؟ ولم يكن يعلم أن بيعها محرم ولم يمنع عمر ـ رضى الله عنه ـ علمه بعدم علمه، أن يبين جزاء هذا الذنب، ليتناهى هو وغيره عنه بعد بلوغ العلم به. وقد لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العاصر والمعتصر، وكثير من الفقهاء يجوزون للرجل أن يعصر لغيره عنبا، وإن علم أن من نيته: أن يتخذه خمرا. فهذا نص فى لعن العاصر، مع العلم بأن المعذور تخلف الحكم عنه لمانع. ص _071(1/67)
وكذلك جاء لعن الواصلة والموصولة فى عدة أحاديث صحاح، ثم من الفقهاء من يكرهه فقط . وقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الذى يشرب فى آنية الفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم" ومن الفقهاء من يكرهه كراهة تنزيه. وكذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار" . يجب العمل به فى تحريم اقتتال المؤمنين بغير حق، ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا فى النار لأن لهم عذرا وتأويلا فى القتال، وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله. ومضى ابن تيمية يقول: وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل، فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم تعمل يداك. ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنياه، إن أعطاه رضى، وإن لم يعطه سخط. ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا: لقد أعطى بها أكثر مما أعطى". فهذا وعيد عظيم لمن منع فضل مائه، مع أن طائفة من العلماء يجوزون للرجل أن يمنع فضل مائه. فلا يمنعنا هذا الخلاف أن نعتقد تحريم هذا محتجين بالحديث ولا يمنعنا مجىء الحديث أن نعتقد أن المتأول معذور فى ذلك، ولا يلحقه هذا الوعيد. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لعن الله المحلل والمحلل له " ، وهو حديث صحيح قد روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير وجه، وعن أصحابه رضى الله عنهم، مع أن طائفة من العلماء صححوا نكاح المحلل مطلقا. ص _072(1/68)
ومنهم من صحح إذا لم يشترط فى العقد، ولهم فى ذلك أعذار معروفة. فإن قياس الأصول عند الأول، أن النكاح لا يبطل بالشروط، كما لا يبطل بجهالة أحد العوضين. وقياس الأصول عند الثانى: أن العقود المجردة عن شرط مقترن لا تغير أحكام العقود. ولم يبلغ هذا الحديث من قال هذا القول. هذا هو الظاهر، فإن كتبهم المتقدمة لم تتضمنه. ولو بلغهم لذكروه آخذين به، أو مجيبين عنه، أو لعله بلغهم وتأولوه أو اعتقدوا نسخه، أو كان عندهم ما يعارضه. وكذلك استلحاق معاوية رضى الله عنه زياد بن أبيه المولود على فراش الحارث بن كلدة، لكون أبى سفيان كان يقول : إنه من نطفته، مع أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال : " من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه: فالجنة عليه حرام " . وقال : " من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا". وقضى أن الولد للفراش، وهو من الأحكام المجمع عليها ـ ومع ذلك ـ خالفه معاوية. ونحن نعلم أن من انتسب إلى غير الأب الذى هو صاحب الفراش، فهو داخل فى كلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مع أنه لا يجوز أن يعين ـ باللعن ـ أحد من دون الصحابة فضلا عن الصحابة فيقال: إن هذا الوعيد لاحق له، لإمكان أنه لم يبلغهم قضاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن الولد للفراش، واعتقدوا: أن الولد لمن أحبل أمه، أو اعتقدوا: أن أبا سفيان هو المحبل لسمية أم زياد. فإن هذا الحكم قد يخفى على كثير من الناس، لاسيما قبل انتشار السنة. بهذا العقل المتفتح، والقلب المتسامح ينظر ابن تيمية إلى ما وقع بين الأئمة من خلاف، ويرفع عنهم الملام.. ثم خلفت خلوف تحاول هدم القمم، ونتلمس لها الأخطاء من بعيد.. وتريد أن تجعل الإسلام بلا تاريخ علمى، ولا مفكرين كبار... وتنظر إلى هذه الخلوف المسعورة، فترى مزيجا من الجهل والكبر لا يستحق إلا المقت والازدراء. ص _073(1/69)
التعصب المذهبى للرأى الفقهى مكانته العلمية، ولمن شاء أن يأخذ به، وأن يدعو إليه غيره.. ونحن قد نؤثر رأيا على رأى لأن اقتناعنا بهذا أكثر من اقتناعنا بذاك، أو لأن هذا الرأى أدنى إلى تحقيق المصلحة العامة، وأرفق بعباد الله. والشىء الذى نرفضه ويرفضه جمهور العقلاء أن يحسب أحد الناس أن رأيه دين، وأن ما عداه ليس بدين، وأن يجمد على ما عنده جمودا قد يضر بالإسلام كله ويصدع وحدته. وتنفيرا من هذا المسلك نقرأ قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). وقد قرأت ورأيت من أمراض التعصب المذهبى ما يثير الاشمئزاز ويدعو إلى الدهشة... وكأن الذين خاضوا هذه المعارك الجدلية يقصدون قصدا إلى تمزيق المسلمين، وإهانة معارضيهم فى الفكر بعلل مختلقة. تعصب ممقوت: قال الشيخ عبد الجليل عيسى : سئل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ، فقال "فض الله فاه "؟ يرمى لكلب أو حنفى!! وسئل متعصب حنفى: هل يجوز للحنفى أن يتزوج امرأة شافعية؟ فقال: "فض الله فاه " هو الآخر: لا يجوز لأنها تشك فى إيمانها... يعنى هذا الأحمق أن الشافعى يجيز للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، تبركا. فهذا الاستدراك أو الاستثناء بالمشيئة جعله شكا يخرج من الملة!! ص _07 ص(1/70)
أرأيت هذا السفه؟ وجاء حنفى آخر فزاد الطين بلة وقال: يجوز الزواج بها قياسا على الكتابية! ورأيت حنابلة يأبون إلا ذبح النسك فى منى أيام التشريق، ويرفضون مذهب الشافعى فى الذبح بمكة قبل ذلك، ويقبلون أن تنتن آلاف الذبائح، ويحتاج تنظيف منى منها إلى المال والرجال.. ذلك لديهم أرجح من إطعام الألوف من فقراء مكة.. أوائل ذى الحجة.. وحنابلة آخرون يرون زكاة الفطر لا تكون إلا شعيرا أو قمحا، ويرفضون باستعلاء مذهب أبى حنيفة فى إخراج القيمة مالا للفقراء. وتصور عواصم المسلمين تشحن بأرادب الشعير حتى لا يعمل الناس بمذهب أبى حنيفة.. لم هذا التعصب المذهبى؟! لقيت متعصبين كثيرين، ودرست عن كثب أحوالهم النفسية والفكرية، فوجدت آفتين تفتكان بهم: الأولى: العجز العلمى، أو قلة المعرفة! هؤلاء يحفظون نصا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى وهم يحسبون ما أدركوه الدين كله. ولو أن هؤلاء اكتفوا بمنزلة المتعلم التابع ما عابهم ذلك كثيرا، فليس كل مسلم مطالبا بمعرفة جميع الأقوال الواردة والدلالات المحتملة. المصيبة أن يشتغلوا مفتين أو موجهين وهم بهذا المستوى الهابط! نقل الشيخ عبد الجيل عيسى عن ابن إسحاق الشاطبى فى "الموافقات " هذه الكلمة الصائبة: " إن تعويد الطالب ألا يطلع إلا على مذهب واحد، ربما يكسبه نفورا أو إنكارا لكل مذهب مادام لم يطلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة فى الاعتقاد فى فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم فى الدين وخبرتهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه ". حدث لى مرة أن أفتيت بجواز حج المرأة وحدها فى الرفقة المأمونة، فإذا طالب مكفوف يمسك بيدى وهو يرتعش من الغضب يقول: كيف تفتى بهذا الحكم المخالف للسنة؟! قلت: إنما أنقل مذهبى الشافعى ومالك رضى الله عنهما. قال: هما يخالفان السنة! قلت هما لا يخالفان السنة. إن حديث نهى المرأة عن السفر إلا مع محرم لها، فهمه هذان الإمامان على أنه عند اضطراب الأمن(1/71)
وخوف الفتنة. ص _075
واستدلوا على صحة فهمهم بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنبأ بأن الإسلام سوف يظهر، وأن الدعار والفتانين سوف يختفون حتى تسير الظعينة من اليمن إلى العراق لا تخشى إلا الله.. وسفر الظعينة هذه المسافة الشاسعة لا يبشر الرسول به إذا كان حراما..! وعندما كنت مسئولا عن المساجد فى مصر جاءتنى شكايات، ووقعت فتن، من بعض المصلين لأن الإمام لم يصل فى صبح الجمعة بسورتى السجدة والإنسان، كما يرى الشافعى. إن القصور العلمى عند أولئك وأمثالهم هو مثار الشغب والفوضى. والآفة الثانية فى التعصب المذهبى: سوء النية، ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنسانى المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط. كنت فى مجلس قرآن ختم القارئ فيه التلاوة بقوله صدق الله العظيم. فإذا جالس ينتفض كأنما لسعته عقرب يقول: هذه بدعة... قلت له: لا أبحث معك أنها بدعة أو سنة، وإنما أسألك: ما هذا الفزع؟ لكأنما سقط على رأسك حجر!! الأمر ما يعالج بهذه العاصفة. اجلس. ورأيت فى أحد مساجد القاهرة رجلا تأخرت به السن يوشك أن يضرب نفرا من الطلاب الذين صلوا ورءوسهم عارية. أخذت على يديه، وأفهمته بشق النفس أن الرأس ليس عورة، وأن الصلاة صحيحة، وأن مسلكه خطأ، فما تركهم إلا مغلوبا على أمره، غير مقتنع بما قلت. هذا الصنف من الناس لم يهذب نفسه بالأخلاق التى بعث صاحب الرسالة ليتمم مكارمها.. إن صور العبادة عنده غطاء لقلب غليظ، وغرائز فجة. وهو يجد متعة فى قضايا الخلاف ليثور ويفور، وظاهر أمره الغضب للدين، وهو فى الحقيقة ينفس عن طبيعة معتلة، وتربية ناقصة أو مفقودة. أرأيت إلى الشخص الذى قال لرسول الله: اعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! إنه ـ والله ـ ما يغار على عدالة، ولا يأبى على جور. إنه طالب ظهور عن طريق الغيرة على القيم، يريد أن يقال عنه: استلفت معلم الإنسانية إلى ما فاته، وأدرك ما لم يدركه، وهو(1/72)
صاحب الرسالة العظمى. إنه هو وأمثاله كما قال رب العالمين: (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه). ص _076
ولقد تألم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الكلام، وقال لصاحبه: "ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل "! انشغال بسنن وشكليات عن عظائم الأمور: والواقع أن بين المتعصبين لبعض الآراء والمذاهب ناسا حظهم من الإيمان بالغ التفاهة.. ولذا اجتمعت الآفتان معا على افتراس الأمة الإسلامية المغلوبة على أمرها بين المحيطين الأطلسى والهادى. شعرت بذلك عندما اشتغلت ـ من عشرين سنة ـ بالإجابة عن الأسئلة الدينية فى برامج الإذاعات الموجهة بالقاهرة. لاحظت أن أسئلة كثيرة تجئ عن حكم سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة. كان النزاع محتدا ما بين أتباع مالك، وجماعة أنصار السنة فى هذه البقاع النائية وخصوصا بين مجموعة الأقطار المتكلمة بالفرنسية. قلت: سبحان الله! هؤلاء قوم فقدوا اللغة العربية والتاريخ الإسلامى، والولاء الجامع على هذا الدين، وأظلهم حكم أجنبى لا يرجو لله وقارا ولا يحترم من حدوده حدا، بل لا يقيم للإسلام ركنا، ولا يحل حلالا ولا يحرم حراما. وجملة الحكومات هناك إما صليبية على كثرة مسلمة، وإما مسلمة باللفظ، ولا تهتم من تعاليم الإسلام بشىء، ومع ذلك كله فالنزاع يحتدم حول سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة.. هل هذه مشكلة المشكلات؟! إن الشافعى الذى يجعل قبض اليدين سنة يصف هذه السنة بأنها هيئة، أى يجعلها شكلا للصلاة ويرى أن ترك الهيئة سهوا أو عمدا لا يستتبع سجود سهو. فهل نافلة خفيفة على هذا الغرار تنسى الدعائم والمعالم، وتشغل الجماهير عن أعمدة الإسلام التى انهارت أو تكاد..؟ إن ما حدث فى ظل الاستعمار الفرنسى حدث مثله فى ظل الاستعمار الإنكليزى. ولقد رأينا المسلمين الهنود الذين أنشئوا باكستان غلبتهم قضايا تافهة، قصمت ظهر الدولة التى أنشئوها، وبددت قواهم فى خصومات مذهبية لا طائل تحتها، ولعلهم(1/73)
يستفيدون من تجارب الأمس ما يصون مستقبلهم المهدد. نظرت إلى شئون الناس فى أقطار أخرى، فرأيت ما يستحق التسجيل. إن الشعوب تختلف على نطاق واسع فى تقدير مصالحها وفى رسم السبل التى تحققها. ص _077
ففى انجلترا عمال ومحافظون وغيرهم، وفى الولايات المتحدة جمهوريون وديمقراطيون وغيرهم، وفى شتى الأقطار أحزاب تختلف على التافه والجليل. ربما اختلفوا فى نظام الجمارك أو فى نظام المقابر، أو فى نظام الحكم المحلى أو فى نظام تأميم المرافق الكبرق. ومع هذه الاختلافات فإن ولاءهم لأوطانهم ثابت، وانشغالهم بالدفاع عنها وإعلاء رايتها يجمعهم على عجل من كل ناحية، وتطوى مسافات الخلف بين الكل فإذا هم صف واحد لنفع بلدهم ورفع شأنها. إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك..! ولم أر ناسا حبستهم الجزئيات وغلبتهم على رشدهم مثل صرعى التعصب المذهبى عندنا. وأظن السبب فى ذلك أسلوب تعليم العوام. إن المدرس يقول فى ثقة: حكم الله كذا فى هذه القضية، رأى الدين كذا فى ذلك الموضوع.. فيظن المستمع أن ما سمع هو حكم الله ورسوله. وما ينبغى أن يذكر حكم بهذا الجزم إلا ما قطع به، أما الاجتهادات المذهبية فينبغى أن يقول المفتى: أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا، ويترك مجالا للرأى الآخر فلا يحرمه من الانتماء إلى الإسلام. وعلى الأتباع أن يستبينوا قيمة ما يؤدون وما يدعون، فلا يظنوا الإسلام حكرا على مسالكهم وحدها. واختيار المسلم لمذهب ما، لا يجوز أن يتحول إلى لجاجة ومغاضبة، فإن ذلك يفسد النية ويمزق الأمة ويوهى الصلة بالله سبحانه وتعالى. والموضوع كله لا مكان فيه لمكابرة واستطالة، إنه أهون من ذلك كثيرا. سألنى صيدلى عن حكم من أدرك الإمام راكعا ولم يقرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟ قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضاءها، فاختر لنفسك ما يحلو. قال: أعرف ذلك ولكن(1/74)
أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة..! قلت له: ما جدوى ذلك عليك؟ ولماذا تتكلف ما لا تحسن وتترك ما تحسن..؟ قال: ما معنى ما تقول؟ ص _078
قلت: أنت صيدلى، وجميع الأدوية فى دكانك من صنع الصهيونيين أو الصليبيين أو الشيوعيين، فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان، ميدان صناعة الدواء، واشتغلت باللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عند الله وعند الناس؟ إنك للأسف تسهم فى سقوط الأمة وتجعلها غير جديرة بالحياة. قال: إننى أبحث فى حكم شرعى ولا أشتغل باللغو. قلت: الحكم الشرعى كما قرره أهل الذكر بين أمرين، خذ منهما ما شئت، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون. إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو فى حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به. أما أن تؤلف رابطة عنوانها "جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة" فهذا سخف. ما قيمة هذا الرأى أو ذاك حتى يحشى به عقول الناس؟ إن المسلمين المعاصرين نسوا ضياع التركستان والقرم، ولم ينسوا الخلاف على الجهر بالبسملة أول الفاتحة. لحساب من تستثار المشاعر المشبوبة وراء رأى فقهى؟ إن كان خطأ أو صوابا، فهو مأجور. وماذا يبقى من مشاعر الناس بإزاء العقائد الأولى، والوحدة الجامعة، والتماسك فى وجه أعداء لا ينامون حتى يقضوا علينا..؟ إن التعصب لرأى أحد الفقهاء غباء، اعمل به إن شئت، ولا تستحمق إذا رأيت غيرك بعمل بضده. وإذا وجد مجال لبحث وجوه النظر وقيم الأدلة ـ لمن يقدرون على ذلك ـ فلا حرج! ثم يصير كل إلى ما يرى. إننى استيقنت من أن التعصب الشديد لمسألة ثانوية يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها. وأذكر صحفيا ممن شهدوا القبض على الجماعة التى احتلت الحرم المكى هذه السنة، قال لى: عندما أخذنا صورا لهم رأيت بعضهم يتململ، فقلت له: مالك؟ قال لا تصورونا فالتصوير حرام! قلت له: ترى أن التصوير حرام، وقتل الأبرياء فى المسجد وامتهان قداسته مباحان!! هذه هى عقلية المتشبثين(1/75)
ببعض الأفكار والفتاوى، وذلك مبلغهم من العلم، يعمون عن العظائم ولا يرون إلا ما يضخمون من وجهات نظر، قد يكون خطؤها أجلى من صوابها. ص _079
ذلك وقد ظهر نوع آخر من التعصب! جماعة يتسمون أهل الحديث، يفهم أحدهم فى الخبر المروى فهما معينا، فإذا خالفته فى فهمه اتهمك بأنك تخالف السنة، أو تخاصم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا بلاء جديد شديد نشير إليه فى الفصل اللاحق إن شاء الله. ص _080
حوار جاد حول التقليد والاجتهاد أحب للمتحدثين فى الإسلام ـ وأنا منهم ـ أن يرزقوا سعة العلم وعمق الفقه. إن فقر العلم كفقر الدم لا يعين على نشاط ولا يجود معه إنتاج، وغزارة العلم مع ضحالة الفقه تضليل للسعى وضياع للثمرة. وكثيرا ما أستشعر الضيق فى مواجهة صنفين من الناس، صنف حار العاطفة قليل الدراية، وصنف ظاهر الجحود لأنه لا يدرى شيئا، أو يدرى الأمور على نحو بعيد عن الحقيقة. وعصرنا هذا عصر حضارة ذكية الفكر عارمة الهوى.. وليس يجدى فى تقويمها إلا أصحاب بصائر نيرة وقلوب عامرة، لهم من رحابة الاطلاع والأفق ما يسدد حكمهم ويقنع خصمهم. وقد آلت إلينا فى هذا العصر مواريث عقلية ونقلية ضخمة، تمثل جهد آبائنا فى خدمة الإسلام وعلومه، كما أن غيرنا لديه أشياء كثيرة يستريح إليها ولا يتنازل عنها بسهولة. ترى هل أحسنا الإفادة مما ورثنا؟ ثم هل عرضناه ـ بعد ـ العرض الذى يهيئ له القبول؟ رأيى لا. وبيننا وبين الخدمة الناجحة للإسلام أمد بعيد. وسأسوق بعض المجادلات التى دارت بينى وبين قوم يشتغلون بالقضايا الفقهية، لعل فى سوقها ما يكشف الغاية التى أريد. حدث فى مدينة الإسكندرية أن قتل رجل ولديه، ويظهر أنه فعل ذلك إسقاطا لنفقتهما، بعدما طلق أمهما! وحكم القضاء الوضعى بإعدام الرجل، وأحال أوراقه إلى المفتى للتصديق، ورفض المفتى التصديق على الحكم لأن الشريعة تأبى ذلك، ولكن القضاء الوضعى مضى فى طريقه وقتل الأب القاتل. ص _081(1/76)
وثار لغط كثير حول القانون والشريعة فى هذه القضية. وقال لى أحد الناس لماذا تصمت فى هذا الموضوع؟ قلت: إن هواى مع الإمام مالك فى القصاص من هذا الأب المجرم! قال : إن المفتى ذكر فى اعتراضه الحديث الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله قال: " لا يقتل الوالد بالولد " قلت: هذه هى القاعدة، والآباء يشقون ليسعد أبناؤهم، بل قد يموتون فى سبيلهم، فإذا حدث أن غلبت على الوالد نزوة غضب أو ساعة طيش فقتل ابنه عوقب بغير القتل، لأن ما وقع منه لا يتصور ـ غالبا ـ أن يكون تعمد إهلاك، أو قصدا واعيا لإزهاق روح أعز الناس عليه. فإذا تبين من التحقيق أن الأب شاذ، وأنه تعمد ذبح ابنه عن إصرار وروية، وجب القصاص. وقاتل ابنيه فى قضية الإسكندرية الآنفة استدرجهما ثم حملهما إلى أعماق البحر المتوسط بعيدا عن الشاطىء، ورمى بهما بين الأمواج، وعاد ليفر من أداء النفقة الواجبة لمطلقته ولهما معها!! إن الإمام مالكا يحكم بالقصاص منه، ويحمل الحديث على صور القتل العارضة، التى لا تحمل طابع التعمد والعدوان الدنئ!! قال لى صاحبى: إن غبارا لحق بسمعة الشريعة فى هذه القضية. أما كان ينبغى على المفتى أن يرى رأى مالك فى هذا الحدث؟ قلت: إنه حنفى المذهب، وله وجهة نظره، ولكن أبا حنيفة فى بعض قضايا القتل رجح ظاهر القرآن على نصوص السنة، وقضى بقتل المسلم بالكافر إعمالا لقوله تعالى: (أَنَّ النَفْسَ بِالنَّفْسِ)، وحمل الحديث الذى يفيد عدم قتل المسلم بالكافر بأنه يعنى كافرا لا عهد له ولا ذمة ولا أمان! أما من عاش فى ذمة المسلمين فلا يهدر دمه ويجب الاقتصاص له. وقد كان المفتى قادرا على تقليد مالك، أو التمشى مع منطق الأحناف إلى نهاية الطريق وهو منطق يرجح القصاص من الأصل فى عدوانه على الفرع؟ لأن وجهة نظرهم تقديم ظاهر القرآن على حديث الآحاد. والطريف أن الأحناف والمالكية اتفقوا فى قضية مسترق النظر، ورأوا أن ما جاء بها من سنن هو للترهيب والتغليظ وحسب. ص(1/77)
_082
إن بعض الناس قد يضع عينه فى ثقب باب مثلا ليطلع على عورات البيت ويستكشف محارمه، وهذا بلا ريب سلوك دنىء، وقد حذر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه، وبين أن رب البيت لو فقأ عين هذا المتلصص ما كان عليه من بأس. وفى ذلك روى أحمد والنسائى عن أبى هريرة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من اطلع فى بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص ". وبظاهر الحديث أخذ الحنابلة والشافعية، أما أبو حنيفة ومالك فحملا الحديث على الترهيب وإشعار سارق النظرات أنه يفعل ما يهدر حقه وكرامته. قالا: لأن الأخذ بالظاهر يخالف الأصول العامة، إذ إن هذا المرء لو اقتحم البيت، وارتكب جريمة الزنى ـ وهو بكر ـ أو ارتكب من المنكر ما دون الزنا وهو متزوج، ما فقئت عينه شرعا، بل يجلد أو يعزر حسب حالته، فكيف يكون المراد أن تفقأ عينه على الحقيقة، ومم يقتص منه؟ يمكن تأديبه بعقاب مناسب، وإذا حدث أن فقأ عينه رب البيت لزم تعويضه عن العاهة التى أحدثها. والمفهوم من كلام الأحناف والمالكية أن صاحب البيت الذى دافع عن محارمه يعزر فلا يقتص منه! ولكنه يؤاخذ فيحكم عليه بغرم مالى! قال لى محدثى: وماذا تقول أنت فى هذا الخلاف؟ قلت: لم أكون رأيا مكتملا فيه! ولا أستطيع الآن ترجيح رأى على آخر! أنا قصدت فقط استعراض وجهات النظر فى فقهنا الإسلامى، وكان بجانبنا شاب يكاد يتمزق من الغيظ، فعندما وصل الكلام إلى هذه المرحلة صاح يقول: تفاضلون بين أقوال الرجال وسنة رسول الله، وتتناولون الأحاديث الصحيحة بهذا الأسلوب السيىء؟! إن هذا عمل يكاد ينتهى بأصحابه إلى الكفر! هذا تقديم بين يدى الله ورسوله، هذا.. خصلتان مهمتان للشباب المسلم: قلت للشاب الهائج: على رسلك.. إنك قبل أن تخوض فى هذه الأمور باسم السلف يجب أن تستجمع خصلتين مهمتين: أدب النفس وحسن الفقه.. ولن نقبل ممن فقد الأدب والفقه كلاما فى هذه القضايا..! أما الأدب فأساسه ألا نتلمس للبرآء(1/78)
العيب، وألا نتشهى إلصاق التهم بالناس، وإذا غلبنا سوء الظن بالآخرين استغفرنا الله للمخطئ كما نستغفر لأنفسنا.. ص _083
وعندما اختلف الصحابة السائرون إلى بنى قريظة: أيصلون العصر فى بنى قريظة كما أمرهم الرسول بذلك صراحة، أم يرعون حق الوقت ويصلون فى الطريق كما فهم غيرهم، لم يقل الأولون للآخرين: خالفتم أمر رسول الله وكرهتم تنفيذه لأنكم أصحاب أهواء ولأنكم.. لم يقولوا لإخوانهم كلمة سوء، ولما بلغ الأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يلم أحدا أو يخطئه، ووقف الكل جبهة واحدة ضد اليهود! إن أدب الإسلام كان صبغة عامة، ولو كنت ـ والخطاب للشاب الهائج ـ أنت وأمثالك فى هذا الميدان لصنعتم مأساة فى الطريق، وربما سفكتم الدم الحرام... ولندع الكلام عن أدب النفس واللسان لنرى فقه الموضوع الذى يفوت القاصرين. قال الإمام ابن تيمية: وفى الصحيحين عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال لأصحابه عام الخندق: " لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة، فأدركتهم صلاة العصر فى الطريق. فقال بعضهم: لا نصلى إلا فى بنى قريظة، وقال بعضهم: لم يرد منا هذا.. وصلوا فى الطريق.. فلم يعب الرسول ـ لما بلغه الخلاف ـ واحدة من الطائفتين ". قال ابن تيمية يشرح فقه القضية: الأولون تمسكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخلة فى العموم ـ يعنى أنهم رأوا إضاعة وقت العصر من مفهوم النص النبوى. والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم ـ إذ المقصود المبادرة إلى اللحاق باليهود قبل أن يتهيئوا للقتال. وهى مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافا مشهورا: هل يخصص العموم بالقياس ـ أم لا ـ؟ قال ابن تيمية: ومع هذا فالذين صلوا فى الطريق كانوا أصوب فعلا..!! هكذا يقول كبير العلماء السلفيين فى العصور الأخيرة. ولست هنا أرجح رأيا على رأى، وإنما يعنينى أن يتأدب ويتفقه من يخوضون فى هذه القضايا وأشباهها ثم ليختلفوا نظريا ما شاءوا. أما أن(1/79)
يتهجم نفر من الطلاب، أو بعض البوابين والبقالين على الأئمة الكبار، وينالوا من قيمهم الدينية والعلمية فهذا سفه منكور...!! إن جعل أمتنا بلا تاريخ ولا قادة عمل أخرق.. وتقدير الرجال الذين خدموا الثقافة ص _08 ص
الإسلامية لا يعنى نسبة العصمة لأحدهم، كما أن نقدهم ليس كلأ مباحا لكل من فك الخط، أو حفظ جملا من الأحاديث أو حتى حفظ ألوفا من السنن.. إن نقد الأئمة لا يتصدى له إلا من قارب مستواهم على الأقل.. وكان نقده بيانا للحق كما وقر فى نفسه دون أن يجعل الحق حكرا على فهمه هو، ودون أن يحرم عباد الله الصالحين أجورهم على ما اجتهدوا، أخطئوا أم أصابوا. قال محدثى: قد يكون الحق معك، بيد أننا ينبغى أن نرفق بمن يرفضون تقليد الأئمة ويعتمدون على أنفسهم فى فقه الكتاب و السنة! قلت: إننى لا أتعصب لمذهب معين، ولكنى أحترم القيمة العلمية للفقه المذهبى، وأقدر الرجال الكبار الذين تناقلوه فى تاريخنا الثقافى، وأرد الزعم الغريب بأنه قسيم لفقه السنة وأن كلا الطرفين بعيد عن الآخر. كأن المحدثين ألصق برسول الله وأغير على سنته! وكأن الأئمة الأعلام بعداء عن السنة يشقون لهم فى ميدان المعرفة الدينية طريقا آخر.. هذا غير صحيح . وربما غاب عن أحدهم أو عن بعضهم حديث ما ، فذاك لا يغض من جملة الحقائق التى قررها. ثم إن إنشاء فقه جديد يستمد مباشرة من الكتاب والسنة ـ كما يقال ـ جهد لا نعترضه عند من تكتمل ثقافتهم وتنضج ملكاتهم ، وليس لهؤلاء أن يعدوا أفهامهم هى مراد الله ورسوله ، فإنهم قد يوافقون أحكاما سبق أن قررها غيرهم من العلماء ، وقد يقررون أحكاما جديدة لا عصمة لها بداهة كما أنه لا عصمة لأقوال غيرهم. وقد رأيت الحصيلة الأخيرة لجهود هؤلاء فوجدت تشكيلة من فقه المذاهب القديمة أساسها التلفيق ، ورأيت أحكاما جديدة يدعى من بلغوها أنها الدين وهى لا تزيد عن أنها آراء لأصحابها يؤجرون عليها إن شاء الله أصابوا أم أخطئوا. مشكلة(1/80)
هؤلاء أنهم يفهمون فى الأثر المروى فهما ما ، فإذا خالفهم غيرهم قالوا : خالف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم . لا يا قوم إنه خالف فهمكم لمروياته، وقد يكون فهمكم شرا مستطيرا على السنة وصاحبها والدين ومستقبله ، فمن حق أولى الألباب أن يأخذوا على أيديكم ويحذروا الناس منكم..!! قال لى صاحبى : أوضح لنا ما تقول ، قلت : ألف بعضهم رسالة يزعم فيها أن شن الحرب على الأعداء يتم دون دعوة إلى الإسلام واستند إلى فهمه المنكور لحديث البخارى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغار على بنى المصطلق وهم غارون ، أى اجتاح أرضهم ص _085(1/81)
على غرة، وأن الدعوة إلى الإسلام كانت فى صدر الإسلام... ثم؟ ثم أصبح المسلمون قطاع طريق عند هذا الأحمق الذى يدعى أنه يقرر فقه السلف! أصبحوا يغيرون على أعدائهم هكذا دون نذير..!! والحقيقة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا وتريث وأمل الخير فى الناس، فلما وجدهم جمعوا الجموع لقتاله لم ينتظر حتى يستكملوا عدتهم فأخذهم على غرة..!! وأخذ بعضهم ينشر أن الزكاة لا تؤخذ إلا من الحبوب التى تدخر، قلت له: إن أبا حنيفة يوجبها فى الفواكه والموالح والأزهار والشاى والبن، وكل ما تنتج الأرض من قطن ومطاط وقصب. الخ. قال: السنة: ما نقول، وأبو حنيفة فى ميدان السنة ليس بشىء! قلت: السنة أن نترك زارع الشاى يكسب من فدانه ألف جنيه لا زكاة فيها، ونأخذ من زارع الشعير الذى لا يكسب من فدانه خمسين جنيها زكاة؟! قال: نعم، هذه هى السنة..! قلت ساخرا: بدعة أبى حنيفة خير من سنتكم، إنكم وبال على الإسلام بهذا الأسلوب. إن أبا حنيفة اعتمد فى مذهبه على قرآن محكم... وما اعتمد على هوى! ربما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ الزكاة من الفواكه لأنها فى عهده أو فى أرضه لا تمثل ثروة محترمة، أما اليوم والحصائل الزراعية مال خطير فما يمكن تركها.. وأبو حنيفة أرعى للسنة منكم، وأدرى بملابسات الأحكام. إنكم تحفظون مئات الأحاديث دون وعى، والقليل الذى حفظه أبو حنيفة أحسن الاستفادة منه...! هناك رجل يملك مائة بندقية ولا يحسن إصابة الهدف بواحدة منها، وربما أراد الضرب فقتل بريئا، أو قتل نفسه... خير منه من يملك بندقية واحدة يحسن استخدامها. ذاك مثلكم ومثل أبى حنيفة الذى تتطاول عليه...! عندما كنت مديرا للمساجد، وصيت الخطباء فقلت: إذا رأيتم من دخل المسجد أثناء الخطبة يصلى ركعتى التحية فلا تجلسوه، وإذا رأيتموه جلس دون صلاة فلا تنهضوه للصلاة. قال لى أحدهم: السنة أن يقوم ليصلى ويستلفته الإمام إلى ذلك! قلت ذاك ما رآه الإمامان الشافعى وأحمد فى(1/82)
الحديث المروى فى هذه القضية. ص _086
أما الإمامان مالك وأبو حنيفة فيقولان يجلس ليسمع الخطبة، ولا ينشغل عنها بشئ.! يقول مالك: هكذا وجدنا الناس يفعلون فى المسجد النبوى، متوارثين ذلك عن الصحابة والتابعين، فعملهم أدل على السنة من حديث البدوى الذى صح أن الرسول أمره بالصلاة، لعل هذا الأمر كان ثم نسخ! وقال أبو حنيفة: تلك وقعة حال كان الرجل فقيرا يرتدى أسمالا بالية فاستوقفه الرسول وحث على الصدقة ليستدر العطف عليه، والأصل أن الخطيب يتحدث ليستمع الجميع إليه لا ليشتغل الداخلون عنه بالصلاة. قال لى محدثى: إن ظاهر الحديث مع أحمد والشافعى. قلت: نعم وظاهر الحديث مع السائرين إلى قريظة ألا يصلوا فى الطريق! ومع ذلك فإن ابن تيمية رجح الصلاة فى الطريق، ونحن فى توصيتنا لعلماء المساجد نرفض التعصب المذهبى ونمنع فتنا سخيفة. من تابع أبا حنيفة ومالكا فليتبعهما، ومن تابع الشافعى وأحمد فليتبعهما..! ومازلت أوصى الخطباء بذلك، وأرفض الزعم بأن نصف الأئمة خالف السنة الواردة، قد يكون خالف فهمنا للسنة الواردة وله حقه غير منكور، وللجميع أجرهم إن شاء الله. وأخيرا قلت لمحدثى: إن دقة الفقه لا تتاح لكل مسلم صالح. إنها هبة يؤتيها الله من شاء. أرأيت الخلاف الذى نشب بين عمر وبعض الصحابة حول الأقطار المفتوحة؟ كان هذا البعض يريد تخميسها وفق آية الأنفال، ولو استجاب عمر له لوقف الفتح الإسلامى، وتحول الفاتحون إلى إقطاعيين، وانهار بناء الإسلام.. ولكن عمر رضى الله عنه جعل التخميس الذى نصت عليه الآية فى الأمتعة والأسلحة والأغذية وشتى المنقولات المغنومة، أما الأرض المفتوحة فبقيت لأصحابها ووضعت عليها ضرائب معقولة لمصلحة الدولة. هذا هو الفقه وإن خالف ظاهر النص.. إننا لا نسمح أن يجئ نفر من الدهماء ليرفع خسيسته على حساب كبار الأئمة. وعندما تختفى القمم الفقهية من تاريخنا خلال أربعة عشر قرنا فمن يبرز بعد ذلك؟! أين الأدب الذى علمنا(1/83)
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأخذ به فى قوله: ص _087
"ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه " ؟ . إن المجتهد ـ أخطأ أم أصاب ـ معذور ومأجور، فلم التطاول والإيذاء؟ ثم من ألزم الجماهير برأى معين لواحد من هؤلاء الأكابر؟ ليكن أفقنا واسعا وخلقنا أوسع. *** ص _088
نحو سلفية واعية الاصطلاح الشائع أن المذاهب الفقهية لا تعدو أن تكون وجهات نظر محترمة فى العبادات والمعاملات، وأن الوحدة الجامعة بين أتباعها لا ينكرها أو يخدشها عاقل، وأنه لا يجوز إطلاق كلمة فرقة على الحنفية أو الحنبلية مثلا، فإن التبعية المذهبية ما كانت لتميز أحدهما عن جماعة المسلمين. أما اصطلاح فرقة، فيتناول فى تاريخنا أصحاب الاختلاف العقائدى أو السياسى، فيقال فرقة المعتزلة أو المرجئة، أو الشيعة إلى آخره. ولا مشاحة فى الاصطلاح، وعذر الذين فرقوا بين المذاهب والفرق أن التنازع فى الأصول غير التنازع فى الفروع، وأن النتائج الكبيرة هنا غير النتائج المحدودة هناك. وأريد أن أقف وقفة تأمل فى هذه القضية، إنه من فضل الله على سلفنا الأول أنه لم يتقعر فى بحوث ما وراء المادة، ولم يحاول استكناه الغيبيات، بل كان جيلا مستقيم الفطرة سوى النظرة أحسن علاقته بالله فى العبادة الخاشعة وأحسن علاقته بالناس فيما التزمه من خلق حسن وعدالة مطلقة، وقد أعانه ذلك على إبلاغ رسالة الإسلام، فشرق وغرب، وتألق وتأنق واندكت أمام عزماته الصعاب والعقبات. ولو أنه اشتغل بالفلسفة اللاهوتية، والمناظرات الكلامية ما خرج من جزيرة العرب، بل لأرسلت له فارس أو الروم كتيبة من كتائبها تركته شذر مذر بين الرمال والتلال.. فلما ذهبت الأجيال الزاكية، وولى رهبان الليل وفرسان النهار، خلقت البطالة ناسا يحسنون اللغو ويطيلون الفكر العابث والنظر الشرود. وأوجد الفراغ مجالس كلامية كثيرة كان لها فى تاريخنا وكياننا أثر ردىء. ونستطيع القول بأن العراك الذى نشب كان(1/84)
جهادا فى غير عدو، أو كان حربا عمياء أذكى نارها المراء والغباء. فالخوارج حين كفروا العصاة كانوا جهلة بطباع البشر، وعجزة عن فهم الأسباب الدخيلة والأصيلة فى الانحراف عن الطريق القويم. ص _089
والمرجئة حين هونوا من قيم الصالحات، ومقارفة السيئات كانوا جهلة بحق الله وما أوجب على عباده! وكانوا عجزة عن صياغة المجتمعات وتحصينها ضد التحلل والعطب. ودعك من المتقعر السمج الذى تساءل: كيف كلم الله موسى تكليما؟ أكان الكلام بلفظ وصوت، أم ماذا؟ والسمج الآخر الذى تساءل: كيف اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ وكيف انعقدت مودة بين الله وعبده؟ ثم دعك من تقليد المعتزلة لليونان فى نمط تفكيرهم البالى. لقد اقتفوا أثر أرسطو فى فهم الألوهية، ومعروف أن أرسطو أوغل فى تنزيه إلهه حتى قطع علائقه بالأرض وما فيها، لأنه أكبر من ذلك! وجرده من أن تكون له صفة فوق الذات، لأن مقتضى التوحيد أن يعلم بذاته ويرحم بذاته ويقدر بذاته، فلا تكون له صفات العلم والرحمة والقدرة. وهذا التفكير لا وزن له من ناحيتى العقل والنقل، ولكن المتأثرين بالغزو الثقافى تبنوه وشغلونا به، وأقحموه إقحاما على تفكيرنا النظيف. ماذا لو بقى منهج السلف يخط أصول الإيمان كما ورثناه عن نبينا وصحابته؟! واشتغل الجمهور بما يرفع مستواه فى معاشه ومعاده؟! تلك صورة للهيجان العقائدى الذى اكتنف تاريخنا العلمى أول الأمر، ثم تلاشى منه وبقى منه ما بقى. على أن هناك خلافات قد تنشأ من التدبر الذاتى للنصوص وقد نظرت فى هذه الخلافات فوجدت ما بها من نزق واستطالة أكثر مما بها من ذكاء وتعبد لله. فقضايا خلق الأفعال، والتحسين والتقبيح كان يمكن علاجها بأفضل من الأسلوب الذى مزق الشمل وقسم الأمة. نعم من شيوخنا من رأى أكثر الخلافات لفظيا لا ثمرة له، فالذين أنكروا رؤية الله مثلا أنكروا رؤية مادية لها جهة وتحيز وانحصار! والذين أثبتوها لم يقرروا لها هذه الخواص ولم يقيسوا غائبا على شاهد.(1/85)
والذين قالوا بالصلاح والأصلح لم يحسنوا اختيار العبارة المهذبة، وهم إنما عنوا وصفه بالحكمة والرحمة كما قال تبارك اسمه عن نفسه: ( كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه). وهذا الجدل بعيد عن دائرة العقيدة عند أولئك المعقبين. ص _090
يقول الشيخ محمد المدنى: إنها نظريات كلامية لا عقائد تعتمد على اليقين الذى يحف أصول الإيمان، فإن المسلمين متفقون على أن الله موصوف بكل كمال منزه عن كل نقص. ثم تأدى الجدل بعلماء الكلام إلى تساؤل: هل يجب على الله فعل الصلاح والأصلح أم لا يجب؟ فمن الناس من ينظر إلى الصلاح والأصلح على أنها كمال وجمال، ويرى إيجاب ذلك على الله ـ لأنه أوجب على نفسه الرحمة ـ وهو متصف أبدا بكل كمال... ومن الناس من يقول : لا يجب على الله شىء لأن الإيجاب تقييد، والله جل وعلا ليس عليه قيد، ولا يمكن أن نوجب عليه شيئا، ومن ثم يرفضون القول بأنه يجب على الله فعل الصلاح والأصلح. كلا الفريقين عند التأمل يقصد إلى تقرير الكمال الأعلى، وإلى تنزيهه ـ سبحانه وتعالى ـ عما لا يليق به... ولكن اختلفوا فى إدراك هذا الشىء بالذات. هل هو من قبيل الكمال من جانب الله؟ أو هو يعد نقصا فى جانبه؟ فلا يثبته مؤمن إلا وهو معتقد أنه كمال، ولا ينفيه مؤمن إلا وهو معتقد أنه نقصان. نقول هذا اعتذار لبق عن المعارك التى أدارها الكلاميون قديما، وهى معارك كنا والله فى غنى عنها، اختلقها الترف العقلى ونماها وشغلت بها الجماهير عن خير الدنيا والآخرة، وبقيت فى كتب العقائد ذكريات مؤسفة. وها قد سلخ الإسلام من عمره المديد أربعة عشر قرنا، وعانت أمته أياما عصيبة لانطلاقها بغير قواها وإلى غير وجهتها. ونحن ما نقلق من كثرة المذاهب الفكرية فى شئون الأدب والحياة، ولا من كثرة هذه المذاهب فى ساحات العبادة والمعاملة، مادام المفكرون المجتهدون من أهل الذكر وذوى الأصالة العلمية والخلقية. وإنما نكره التفرق فى المعتقد،(1/86)
والتحزب فى أصول الديانة، ونؤثر دراسة العقائد من منهجها القرآنى ونبعها النقى كما تدفق به الوحى الأعلى، ونهض عليه سلفنا الصالحون. مفاهيم قاصرة لمعنى السلفية: والسلفية ليست فرقة من الناس تسكن بقاعا من جزيرة العرب وتحيا على نحو اجتماعي معين. ص _091
إننا نرفض هذا الفهم ونأبى الانتماء إليه. إن السلفية نزعة عقلية وعاطفية ترتبط بخير القرون، وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله، وتحشد جهود المسلمين المادية والأدبية لإعلاء كلمة الله دون نظر إلى عرق أو لون. وفهمها للإسلام وعملها له يرتفعان إلى مستوى عمومه وخلوده وتجاوبه مع الفطرة وقيامه على العقل. وقد رأيت أناسا يفهمون السلفية على أنها فقه أحمد بن حنبل رضى الله عنه، وهذا خطأ.. ففقه أحمد أحد الخطوط الفكرية فى الثقافة الإسلامية التى تسع أئمة الأمصار وغيرهم مهما كثروا. ورأيت ناسا يفهمون السلفية على أنها مدرسة النص، وهذا خطأ فإن مدرسة الرأى كمدرسة الأثر فى أخذها من الإسلام واعتمادها عليه. وقد كان من هؤلاء من تسموا أخيرا بأهل الحديث، وسيطرت عليهم أفكار قاصرة فى فهم الأخبار المروية، وأحدثوا فى الحرم فتنة منكورة. والحديث النبوى ليس حكرا على طائفة بعينها من المسلمين، بل إنه مصدر رئيسى للفقه المذهبى كله. ورأيت ناسا تغلب عليهم البداوة، يكرهون المكتشفات العلمية الحديثة ولا يحسنون الانتفاع بها فى دعم الرسالة الإسلامية وحماية تعاليمها، ويرفضون الحديث فى التليفزيون مثلا لأن ظهور الصورة على الشاشة حرام، ويتناولون المقررات الفلكية والجغرافية وغيرها بالهزء والإنكار، وهؤلاء فى الحقيقة لا سلف ولا خلف، وأدمغتهم تحتاج إلى تشكيل جديد. ورأيت ناسا يتبعون الأعنت الأعنت، والأغلظ الأغلظ، من كل رأى قيل، فما يفتون الناس إلا بما يشق عليهم وينغص معايشهم، ويؤخر مسيرة المؤمنين فى الدنيا، ويأوى بهم إلى كهوفها المظلمة. وهؤلاء أيضا لا سلف ولا خلف. إنهم أناس فى انتسابهم(1/87)
إلى علوم الدين نظر، وأغلبهم معتل الضمير والتفكير. ورأيت ناسا يتبعون إلغاء الرقيق بعيون كئيبة! قلت لهم: ألا تعرفون أن هؤلاء العبيد هم أحرار أولاد أحرار اختطفتهم عصابات النخاسة من أقطارهم، وباعتهم كفرانا وعدوانا ليكونوا لكم خدما، وهم فى الحقيقة سادة؟! ص _092
ما السلفية التى تقر هذا البلاء؟ وما هؤلاء العلماء الذين ضاقوا بسياسة الملك فيصل فى تحريرهم، وإلغاء بيعهم وشرائهم؟ إن الرجل الشهيد أولى بالله منهم. ورأيت ناسا يقولون: إن آية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) مرحلية. فإذا أمكنتنا اليد! لم نبق على أحد من الكافرين. قلت: ما هذه سلفية. هذا فكر قطاع طرق لا أصحاب دعوة شريفة حصيفة، وأولئك لا يؤمنون على تدريس الإسلام لجماعة من التلامذة بله أن يقدموا فى المحافل الدولية والمجامع الدولية. إن العالم الإسلامى الآن متخلف حضاريا، ومضطرب أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، وبينه وبين الأمم القائدة الصاعدة أمد بعيد. هذه الأمم تعلم ظاهرا من الحياة الدنيا، وتفتقر إلى جيل من البشر يذكرها بالله ولقائه. والإسلام وحده هو المالك لهذه الحقائق الهادية. ولكى تؤدى أمته رسالتها يجب عليها أمران: الأول: أن تطوى مسافة التخلف الحضارى، والاضطراب الإنسانى الذى يشينها ولا يزينها. والثانى: أن تتقدم بشرف وكياسة لتقول للناس كلهم: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا). ولكى ننجح فى عملنا يجب أن نقتفى آثار سلفنا. والسلفية هنا عنوان كبير لحقيقة كبيرة أساسها العقل الحر المكتشف الدءوب. إن هذا العقل عندما ركب عن البحث فى الذات العليا وحقيقة الصفات، كان يحترم نفسه عندما توقف. والعلم المعاصر نجح أيما نجاح عندما بحث فى المادة التى بين يديه ولم يبحث فى ربها ـ سبحانه ـ فأنى له البحث فيما لا يملك ولا يقدر؟! من أجل ذلك نرفض النظريات الكلامية، ونقبل المذاهب الفقهية، ونضع الشبكة القانونية(1/88)
التى يتطلبها انتقال الحياة من طور إلى طور. ص _093
من أجل ذلك نهش للتقدم العلمى ونطوعه لنصرة مبادئنا ومثلنا. ومن أجل ذلك نرى ضرورة إزاحة البله وذوى العقد النفسية من قيادة الفكر الدينى، فإنهم غشاوات على البصائر، وحجب على الضمائر. إننا محتاجون إلى فقهاء يستطيعون النظر فى سياسة المال والحكم، ويرفضون أن يسبقهم الإلحاد إلى اجتذاب الشعوب الفقيرة فى هذه الميادين الخطيرة. ومحتاجون إلى فقهاء يهيمنون على شئون التربية والإعلام برحابة الإسلام وبشاشته لا بالتزمت والتكلف. إن الفقه الإسلامى كما قدمه سلفنا حضارة معجزة، أما الفقه الإسلامى كما يقدمه البعض الآن فهو يميت ولا يحيى. *** ص _09 ص(1/89)
المذاهب الفقهية وسلطات الدولة لو كان الفقه مقصورا على شئون العبادات لمضى فى طريقه مقطوع العلاقات بالدولة ورجالها، إذ إن المصلى حر فى أن يسر بالبسملة أو يجهر بها وفق ما يؤثر من مذهب، حر فى أن يسر بالتأمين أو يجهر به، إلى غير ذلك من عبادات خاصة آثر فيها وجهة ما.. لكن الأمر قد يتصل بالأموال والأعراض والدماء، ولا يمكن أن تبقى الحكومات بمعزل عن خلاف الفقهاء فى هذه الميادين، فلا بد أن تتبنى مذهبا معينا، وتهمل غيره. هل تستقل المرأة بعقد زواجها ويجىء أمر الولى فى المرتبة الثانية، أم يحظر مباشرة المرأة لعقد الزواج؟ هل تقبل توبة السارق قبل إقامة الحد، أم لا يجوز قبولها؟ وما النصاب الذى يجوز فيه القطع؟ هل يقام الحد فى شراب لم يسكر ـ غير الخمر ـ أم لا؟ بل إن الحكومة قد تتدخل فى أمور لها فيها مندوحة، كضرب النقاب على وجه المرأة مع ضعف الإسناد الفقهى له. وبدهى أن يتنافس أتباع المذاهب المختلفة فى جعل الدولة إلى جانبهم. وقد حكى التاريخ أشياء مثيرة عن حماسة الأتباع ومسالك ذوى السلطان ربما زاغت عن النهج وخدشت قيم علماء أكابر. وقد يحتاج علاجها الآن إلى حكمة وتؤدة حتى تتحرر الحقائق العلمية وتؤمن المصالح العامة. إن المذاهب المنتشرة الآن هى الأربعة المعروفة، مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل، وقد نمت وامتدت على أنقاض مذاهب أخرى ليست ـ من الناحية العلمية ـ أقل منها قيمة كمذهب الليث بن سعد، وسفيان الثورى، والأوزاعى، وابن جرير الطبرى، وأبى ثور، وداود الظاهرى، وآخرين. والواقع أن الأربعة الذين رزقوا الشهرة نماذج جليلة للتقوى والعلم، وليس ص _095(1/90)
خلودهم مصادفة ارتفع بها ناس مغمورون، كلا كلا، فإن التأمل فى سير أولئك الأئمة يملأ الأفئدة مهابة وإعزازا، ويعلل لماذا التقت الجماهير حولهم وارتضت الأخذ عنهم..؟ وقد تضخمت هذه المذاهب على مر الزمان وكثرت التآليف فيها. ولا نستطيع القول بأن هؤلاء الأئمة الأعلام مسئولون عن كل ما صنعه المتأخرون تأثرا بهم أو بناء على ما تمهد من قواعدهم.. كما نرفض حصر الفقه الإسلامى فى اجتهاد أولئك الأربعة الكبار أو إغلاق أبوابه بعدهم. فإن فضل الله لم يحتكره نفر من العلماء مهما علت منازلهم، ومصالح الشعوب تتجدد على اختلاف الزمان والمكان، وتحدث لها فتاوى وأقضية ينهض بها المستأخرون كما نهض بأمثالها المستقدمون. ثم إن أحدا من الأئمة الكبار لم يزعم لنفسه العصمة فيما روى أو فيما رأى. فإذا كشفت الأدلة المقنعة أن فيما ذهب إليه خطأ ما فإن التنبيه إلى هذا الخطأ يصبح مطلوبا. وغنى عن الذكر أن ذلك لا يحتاج للأدعياء والأغمار، وإنما يهدى إليه الراسخون الأتقياء. الاجتهاد الفقهى إذن مطلوب إلى قيام الساعة وله رجاله ومواطنه. بيد أن رفع الخلاف لابد منه كى تمضى الحياة فى طريقها، وكذلك منع الفوضى، عندما تشتجر الآراء، وتكثر وجهات النظر، وهنا تتدخل الدولة. فإذا رأى أبو حنيفة أن المسلم يقتل فى الذمى، ورأى غيره أن المسلم يعزر وحسب، فلن تبقى القضية معلقة إلى الأبد. إن حكم القاضى أو رأى الوالى يحسم الأمر. وكذلك إذا رأى ابن تيمية أن الطلاق البدعى لغو، ورأى غيره إمضاءه، فإن الدولة لن تترك هذا الخلاف نظريا إلى الأبد، فإن الأمر يتعلق ببقاء الأسرة، وصحة النسب، واستئناف العشرة، ولها أن ترفع هذا الخلاف، وأن تقر هذا الطلاق فى سجلاتها أو تمحوه وينتهى الأمر. إن هذا التدخل كان الحل الممكن، ولكنه فى نظرنا لم يكن الحل الأمثل. وسير تاريخنا العلمى والتشريعى فى هذا المجرى سببه الانفصال المبكر بين العلم والحكم فى تاريخنا السياسى، فلم يكن(1/91)
الخلفاء ولا نوابهم مجتهدين ولا راسخى القدم فى الثقافة الإسلامية، ونشأت عن هذا أمور تستحق التأمل. توزعت المذاهب الشهيرة أقطار المسلمين ضربة لازب، فأصبح هذا القطر حنفيا ص _096
والآخر مالكيا.. الخ، وحسب الدهماء أن ذلك النسب دين، وهذا وهم كبير.. هذا الارتباط بين قطر ما، وفقه ما، حرم المسلمين فيه من أحكام قد تكون أرفق، أو أرشد مما ألفت.. اقتراح بتأليف لجنة للنظر فى التراث الفقهى: والواجب أن يكون الفقه ـ من منابعه الأولى ـ بين يدى الدولة، وأن تكون المذاهب السابقة تجارب محترمة لأهل الذكر، وللدولة أن تختار رأيا وتؤخر غيره، وأن ترجح تجربة على تجربة. وقرأت كلاما حسنا للشيخ محمد عيد عباس اقترح فيه تأليف لجنة علمية تدير النظر فى تراثنا الفقهى كله على أساس: أ ـ تقرير الأحكام المتفق عليها بين فقهاء الإسلام، أى التى لم يثر حولها الخلاف. ب ـ فى المسائل المختلف عليها اختلاف تنوع، يؤخذ بجميع الآراء ما دامت ثابتة فى الشريعة، ولا معنى للاقتصار على واحد منها، ومخاصمة غيره. ج ـ فى المسائل المختلف عليها اختلاف تضاد، ينظر فى دليل كل مذهب، ويؤخذ بأقوى الآراء وأرجحها دون تعصب لمذهب. د ـ فى المسائل التى يصعب ترجيح رأى من الآراء فيها، وتتساوى أدلتها فى القوة، يجوز الأخذ بأى رأى منها، ويحسن تقديم ما يحقق مصلحة عامة للمسلمين. هـ ـ يترك من الآراء ما ظهر بطلانه أو ضعفه. ويسمى هذا المذهب مذهب الكتاب والسنة وجميع الأئمة. إن هذا الكلام فى جملته حسن، وهو يتسم بالإنصاف والإخلاص، وكان المفترض أن يشتغل بهذا مجمع البحوث الإسلامية فى القاهرة، وغيره من المجامع الدينية فى العواصم الكبرى. إلا أننا نرى ـ مع هذا ـ أن الحصيلة النهائية لا تلزم مجتهدا بينه وبين ربه، فإن الحقائق العلمية لا تصح أو تبطل بكثرة الأصوات. والمصلحة قد تتغير على امتداد الزمان والمكان، والطبيعة النفسية للمجتهد لا يمكن تغييرها. ما الحكم إذا تزوج(1/92)
رجل امرأة فى أثناء العدة؟ العقد باطل، ويفرق بينهما فورا. ص _097
فإذا انتهت العدة، فما الرأى؟ الفقهاء على أنه يعود خاطبا مع الخطاب. ويرى عمر أنها تحرم عليه أبدا لأنه تعجل ما لا يحل له!! طبيعة الصرامة فى نفس الرجل جعلته يحمى حدود الله بهذا التحريم!! هو رأيه. إننا ما نزال نرى أن الخلاف المذهبى لا بد منه، ولكن التعصب للمذهب والارتباط به على أنه هو الدين شىء لا معنى له، ولا تسليم به. وننظر الآن إلى واقع المسلمين وصلتهم بشتى المذاهب. يعد المذهب الحنبلى أقل المذاهب أتباعا فى العالم الإسلامى، ربما لم تزد نسبة معتنقيه على نصف فى المائة، وقد اعتذر شاعرهم عن ذلك بأبيات رقيقة. يقولون لى: قد قل مذهب أحمد وكل قليل فى الأنام ضئيل فقلت لهم: مهلا غلطتم بزعمكم ألم تعلموا أن الكرام قليل؟! وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز، وجار الأكثرين ذليل وأغلب الحنابله الآن فى نجد والحجاز، وقد كانوا فى القرن الرابع يكثرون فى بغداد. قال ابن الأثير: " استفحل أمرهم بها سنة 323 وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعامة، وإن وجدوا نبيذا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلات الغناء، واعترضوا ـ ما لا يقرون ـ من أنواع البيع والشراء كما اعترضوا مشى الرجال مع النساء والصبيان. وإذا رابهم شىء من أحد سألوا عن الذى معه: ما هو؟ فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة". قال ابن الأثير: "... وزاد شرهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد، فكان إذا مر بهم شافعى المذهب أغروا به أولئك العميان فيضربونه بعصيهم حتى كاد يموت ". قال أحمد تيمور باشا ـ وعنه هذا النقل ـ : ولا ريب أن إثارة هذه الفتن لم تكن إلا من عصبية عامتهم وغوغائهم. وهذا صحيح، فإن أحمد رضى الله عنه كان تلميذا للشافعى رضى الله عنه، وعندما علم أحمد بوفاة أستاذه حزن أشد الحزن وقال عنه: كان كالشمس للدنيا والعافية(1/93)
للبدن. وتنتشر المذاهب الثلاثة الباقية بنسب متقاربة بين جماهير المسلمين، ويغلب المذهب المالكى على شمالى إفريقيا وغربيها ووسطها، ويغلب المذهب الشافعى على جنوبى آسيا من إندونيسيا حتى اليمن، ويغلب المذهب الحنفى على أقطار آسيا الوسطى حتى تركيا، وللمذاهب الثلاثة أتباع كثر فى مصر والشام وغيرهما. ص _098
السياسة والمذاهب الفقهية: وقد احتكر الأحناف أعصارا طويلة القضاء فى ظل الدولتين العباسية والعثمانية. وحدث أن القادر بالله أحد الخلفاء العباسيين نقل القضاء إلى فقيه شافعى فوقعت الفتن فى بغداد، واضطربت فيها الأمور، واستغرب الناس عدول أمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم ـ أى المناصب ـ واستعمالهم ـ أى إسناد الأعمال إليهم ـ واضطر الخليفة إلى جمع الأشراف والقضاة، وأعلن عزل القاضى الشافعى. وأعاد الأمر إلى حقه وأجراه على قديم رسمه ـ هكذا يقول المقريزى ـ وحمل الحنفية على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز. والغريب فى هذه القصة أن الحنفية عاملوا من تسبب فى نقل القضاء عنهم معاملة شاذة، لم يقضوا له حقه ولم يردوا عليه سلاما. وهذا عمل محقور وخلق منكور! ترى هل الحنفية بهذا الحرص على القضاء يتأسون بإمامهم الذى مات فى السجن كارها أن يتولى القضاء لنظام سياسى ينحرف عنه ويضيق برجاله؟! أم هى الدنيا وزخرفتها؟ أم هو التعصب لنوع من الفكر أو نهج من الحياة يراد تغليبه على أية حال؟ إن الأحزاب السياسية قد تفرح لتوليتها الحكم، وفرض مبادئها على المجتمع، غير أن ذلك لا يعنى إحراج المعارضة وانتقاص حقها، وكف السلام عنها. فى كثير من الأحيان ألحظ أن التعصب يوحى بتصرفات عشوائية، وقد رأيت عشاق الأندية الرياضية يبتهجون أو يكتئبون لنتائج مبارياتهم، فأبحث عن علة عقلية وراء هذه المشاعر فلا أجد. هل تنتقل البلاهة من عالم كرة القدم إلى عالم الفقه والتشريع؟ الذى أراه أن التعصب المذهبى(1/94)
مرض نفسى أو أنانية خاصة أكثر مما هو حماسة دينية ومصلحة عامة. فى القرن الخامس تولى إمارة المؤمنين بالمغرب والأندلس على بن يوسف بن تاشفين، وكان الرجل تقيا متحمسا، اشتد إيثاره لأهل الفقه والتقوى، فكان لا يقطع دونهم أمرا، وبسط نفوذهم فى دولته، فجعل مشاورة الفقهاء طابعا عاما. وألزم القضاة ألا يبتوا حكما فى صغير الأمور وكبيرها إلا بمحضر أربعة من الفقهاء. ص _099
ولم يكن يقرب منه ويحظى عنده إلا من علم مذهب مالك، فنفقت فى زمنه كتب المذهب، وعمل بمقتضاها، ونبذ ما سواها. قال المراكشى فى كتابه المعجب: "كثر ذلك حتى نسى النظر فى كتاب الله وسنة رسوله فلم يكن أحد يعتنى بهما كل الاعتناء". وهذا أيضا من المناكير البالغة! وأول ما نسأل عنه: هل يتبع أولئك مالكا رضى الله عنه الذى أبى حمل الناس على كتابه الموطأ، احتراما لما قد يكون بين يديهم من علم عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبلغه فى المدينة. ما معنى نسيان النظر فى الكتاب والسنة وإدمان النظر فى آراء الرجال؟ إن تاريخنا العلمى كان فى القاع عندما وصل إلى هذه المرحلة. فشرف الفقه هو فى انتمائه إلى كلام الله ورسوله. وإذا وهت صلة الفقه بالكتاب والسنة فإن أحكامه ستكون سوادا فى بياض. إنها ستكون كورق النقد الذى لا رصيد له. والواقع أن عددا كبيرا من الفقهاء المتأخرين حشوا مؤلفاتهم بنظرات غير سديدة وأقوال غير مفيدة بل تصور بعضهم أمورا مستحيلة ووضع لها باسم الله أحكاما، وهى لا تزيد فى قيمتها المعنوية عن خيالات ألف ليلة وليلة. ومن المستيقن أن أئمة المذاهب أبرياء من هذا اللغو، بل إن الرجال المعتد بهم فى كل المذاهب يستعلون على هذه الهنات. ومهما تجاوزنا ما ورد فى بعض المؤلفات المتأخرة فسيبقى البون واضحا بين الفقهاء الأوائل والمتأخرين. ولما كانت هناك حركة لإحياء الفقه الإسلامى، وجب استلفات الأنظار إلى أن الاستمداد والتأسى يكونان من رجالنا الأولين(1/95)
لا من أصحاب المتون والشروح أيام الجمود والاضمحلال. أخشى أن يكون ما ألمعت إليه من صور التعصب الكريه سببا فى أن يقول قائل: هذه ثمرات الاجتهاد الفقهى والتشعب المذهبى. فلنلغ هذه المذاهب كلها، ولنسترح من الانتماء إليها. الاجتهاد ضرورة إسلامية وإنسانية: إن اختلاف وجهات النظر فى التشريعات الفرعية حقيقة إنسانية وإسلامية لا محيص عنها، ونشوء مدارس كبرى وصغرى على محاور قانونية مختلفة أمر لا غضاضة فيه ولا شرمنه. ص _100(1/96)
ولو أن القرآن نزل أمس وبعث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ به منذ البارحة لما كان هناك بد من تفاوت الأنظار فى أحكام الوضوء والصلاة لأن ذلك أمر طبيعي كما شرحنا. إن المخوف هو التعصب البليد، والتحزب السىء، وتحول الحرية الفكرية إلى فوضى واسعة، وذاك ما حدث للأسف، وما جعل العلماء يتجهون إلى إغلاق أبواب الاجتهاد، وضبط الأفهام الكثيرة فى مذاهب أربعة. وعلاج الحرية الواسعة يكون بتنظيمها لا بمصادرتها. وقد كنت ـ أول أمرى ـ لا أرى حرجا من إغلاق باب الاجتهاد فى فقه العبادات وحده، وقلت: تكفى بعض صور مما استراح إليه الأئمة، ولا حاجة إلى ما وراءها ولو كان مقبولا. إذا كان للأسد عشرون اسما فما جدوى معرفتها كلها؟ تكفينى عدة أسماء! وإذا كانت وجوه القراءة للكتاب العزيز سبعا أو عشرا فلم أجهد نفسى فى استيعابها؟ تكفينى قراءة واحدة. إن التوسع فى هذا المجال ربما كان شغل الإخصائيين، أما الجماهير فينبغى أن تذاد عنه وأن تساق إلى ميادين الكدح وسباق الحياة المدنية العارم، فإن تخلفنا فى هذا المجال أزرى بنا ـ هكذا كنت أحدث نفسى ـ ورأيت فى تركات الأئمة من الأقوال ما يكفى ويشفى، دون التعصب لمذهب معين. أما فقه المعاملات الذى جمد ـ وهذه مصيبة ـ من عشرة قرون، فإن تجميده عجز فى دنيا الناس وقصور فى دين الله على سواء. والضرورات صارخة بأن الإسلام يحتاج اليوم إلى جهود ذكية دءوب فى الفقه الدولى والفقه الدستورى والفقه الإدارى، وإلى ملاحقة ما تجدد فى عالم المال والتجارة وشئون العمل والعمال.. الخ. وقد تغيظت لأن بعض المنسوبين إلى العلم الدينى حاول الاجتهاد، فذهب إلى دورات المياه ودور العبادة، يستعرض عضلاته العلمية هناك.. مسكينة أمتنا. إن الاجتهاد فى بعض الأحكام العبادية ممكن. وقد صرت إلى هذا الرأى بعدما قرأت رسالة للفقيه المعاصر الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود عنوانها "جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية"،(1/97)
والعنوان يشير إلى الموضوع، فإن مواقيت الحج حددتها السنة، وقد جد فى عالم المواصلات ما لا معنى للتغابى عنه. والمسلمون يعمرون قارتين كبيرتين وينتشرون فى بقية القارات، وبينهم وبين البيت ص _101
العتيق أقطار فيح، ومساحات هائلة، فماذا يصنع حجيجهم الوافدون من المشارق والمغارب على متون الطائرات، وظهور السفن، وهم لا يمرون بهذه المواقيت؟ يقول الشيخ الجليل: والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامى الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح، فى تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم ما وقع فى هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام. وحاجة تعيين ميقات فى جدة للقادمين على الطائرات، آكد من هذا كله. ولو كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمون هذا البيت للحج والعمرة لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكون ذلك من مقتضى أصوله ونصوصه. والحكمة فى وضع المواقيت موضعها، أنها جعلت بمسالك الناس إلى مكة، فهى كالأبواب إلى أم القرى وفيها يعمل الحاج عمله فى تنظيم دخوله فى إحرامه، وما يتبع ذلك من التنظيف والاغتسال وتقليم الأظافر، والطيب، ثم التخلى عن المخيط، ولبس الإحرام المشبه بالأكفان إزارا أو رداء ثم تعليم العوام كيفية الدخول فى النسك. وهذه الأعمال تتطلب وقتا ومكانا، فشرع تعيين المواقيت لها. أوما علمتم أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حجة الوداع نزل بذى الحليفة ميقات أهل المدينة، ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثانى، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثانى اغتسل وتطيب. قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ فى كتابه "إعلام الموقعين ": "فصل فى تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة، والأحوال(1/98)
والنيات، والعوايد "، قال : " وهذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا يطاق، مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتى به، لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد فى المعاش والمعاد، وهى عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وإن نسب إليها " انتهى. وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغيير نصوص الدين وأصوله كما سبق إليه بعض الناس... كلا. ص _102(1/99)
إنما يعنى به: تغير الفتوى فى فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير فى الشريعة نفسها، فما جعل عليكم فى الدين من حرج، وذلك ما وقع من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى بعض الصور. من ذلك: ما روى الإمام أحمد وأبو داود، والدارقطنى، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم فى ليلة باردة شديدة البرد فى غزوة ذات السلاسل، قال فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، وصليت بأصحابى صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر له أصحابى ما صنعت، فقال لى: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، ذكرت قول الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فتيممت وصليت. فضحك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يقل شيئا، مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهى حقيقة فى تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إن الأصل: وجوب الغسل لواجد الماء. ومثله ما روى النسائى، وابن ماجة، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رويجلا ضعيفا فى أبياتهم زنا بامرأة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اضربوه حده. فقال سعد: إنه أضعف من ذلك. فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة "، ففعلوا. فقد عرف كيف تغيرت فتوى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا من حالة الشدة إلى حالة التيسير، إذ الأصل فى جلد الحد، تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده. ونظرا لضعف حاله، جعلها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ. وله نظائر كثيرة. وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على أنفسهما، أو على ولديهما، وليس كل حامل أو مرضع تفتى بهذا. وهذا هو عين الفقه، لو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية. والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رجل ثاقب الفكر يبحث عن الحق بإخلاص، ويستعين على معرفته(1/100)
بثروة طائلة من الخبرة بكتب الأولين، فإذا اهتدى إلى حكم ينفع الأمة جهر به دون وجل وجادل عنه بأصالة. وقد قرأت له جملة من الرسائل التى تعرض الفقه الإسلامى عرضا يناسب العصر، لا استرضاء للمعاصرين، ولكنها رحابة أفق فى فهم الدين..! ص _103
أما الاجتهاد فى آفاق المعاملات، فكما أسلفنا القول هو ضرورة إسلامية وإنسانية. ولن نملك زمام الحياة العامة، ولن نثبت صلاحيتنا للقيادة وصلاحية ديننا لنفع العالم إلا إذا أجدنا فى هذه المجالات، وبهرنا العيون فى النواحى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن قبل ذلك وبعده فى النواحى العبادية.. ومع الاجتهاد الفقهى لا بد من الموافقات والمخالفات بين المجتهدين، فإذا توافقنا فبها ونعمت، وإذا تخالفنا تعاونا فيما اتفقنا عليه وعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.. إن الخلاف لا يفسد للود قضية، ولا يقطع وشيجة، وجل ما رأيت من شقاق يعود إلى أمراض نفسية كامنة، وسنرى أن الشهوات الأدبية أخطر وأعنف من الشهوات المادية.. إن التقوى تقوم على أمرين: عدم الطغيان وإيثار الآخرة من ناحية، وخشية الله ومجاهدة النفس من ناحية أخرى... وهذا معنى قوله تعالى: (فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى). وقد رأيت ناسا يشتغلون بالتعليم والدعوة ـ وأعوذ بالله أن أكون منهم ـ يمضون فى ميدان التدين فاقدين هاتين الناحيتين، وهم على استعداد لإشعال نار الخلاف والفرقة على نحو يأكل الأمة الإسلامية أكلا ويمكن أعداءها من خناقها. وما السبب فى هذا؟ قضايا فرعية يعلو فيها الصياح، وعلاجها الطبيعى يتم بالهمس والتريث!! وذلك طبعا إلى جوار المعرفة القاصرة، وحفظ شىء ونسيان أشياء، والاغترار بالقليل الموجود والاستخفاف بالكثير المفقود. ويستحيل أن تدخل هذه الخلال فى جو فقهى إلا أفسدته، ثم ارتدت النتائج على أمتنا بلاء وضياعا... ص _10 ص(1/101)
الخلافات الموروثة .. قيمتها وأثرها تسللت إلى ميدان العقيدة والعبادة قضايا طفيلية ما أنزل الله بها من سلطان، ومع خفة وزنها العلمى فقد انشغل بها العقل الإسلامى طويلا، وتركت ذيولا أطول فى تفريق الكلمة وتباعد القلوب.. إن تصور فكرة ما على أنها من جملة العقائد شىء خطير.. لماذا؟ لأن جحد العقيدة الحقة جريمة أفدح من جريمة الخيانة العظمى، فالذى ينكر الألوهية لا يقوم له عمل، ولا تثبت له وجاهة! مثل ـ بل أشد ـ ممن يخون وطنه وقومه.. إننا نرفض الاعتراف بأى فضل لمن يقترف جريمة الخيانة الوطنية، وتطوى صفحته طيا حافلا بالإزراء والمهانة.. كذلك ننظر ـ نحن المؤمنين ـ إلى الملحد الذى ينكر ربه.. إن إنكاره هذا يطيش بميزانه فى الحياة والممات، فما نرفع له قدرا ولا نثبت له أجرا، مهما عمل.. (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) وقد نقدم على القائد الذى خان، جنديا صغيرا أمينا ونعرف له شرفه ووفاءه. من هنا تجئ خطورة القضايا المتطفلة التى حشرت نفسها فى مجال العقيدة، وما هى من العقيدة فى قليل ولا كثير. فإن اعتناق هذه القضايا على أنها عقائد مكينة يرفع خسيسة أناس صغار، ويرجح كفتهم مع فراغها من الصالحات. تصور أن إنسانا ما يدرس فى كتب العقائد أن الحرام رزق وأن الجنة والنار مخلوقتان الآن، فيظن ذلك من عناصر الإيمان ومبانى العقيدة، فيطوى فؤاده على هذه الحقائق، ص _105(1/102)
ويحسب بذلك أنه استكمل دينه.. ثم... يفرط فى كثير من الصالحات ويستهين بكثير من الفضائل لأنها ـ فى الوزن ـ دون ما اعتقده، ولأن إهمالها لا يضره ضررا بالغا بعد ما جمع معاقد الإيمان من هذه القضايا الطفيلية وأضرابها.. رأيت ناسا يعتقدون أنه لا مجاز فى اللغة العربية كلها، ويرون ذلك من "السلفية"! وآخرين ينكرون دوران الأرض ويرون ذلك من التقوى والتحفظ! ورأيتهم بهذه المعتقدات السخيفة يفضلون أنفسهم على طوائف من المجاهدين والمثقفين.. وبديه أن أصل الإيمان وفرعه بريئان من هذا الشرود، وأن القضايا الطفيلية التى تقرأ فى كتب العقائد ـ أو يختلقها الآن بعض السخفاء ـ لا يجوز الاعتداد بها أو جعلها مناط تقديم وتأخير. قرأت رسالة لأستاذ كبير فى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.. وموضوع الرسالة أن أبا الحسن الأشعرى رجع إلى مذهب السلف فى قضايا العقيدة، وترك منهج التأويل.. والارتباط بالسلف هدف المصلحين فى عصرنا، لأن آباءنا الكبار امتلكوا زمام العالم بجدارة، وكان ارتقاؤهم العقلى والأدبى والتشريعى والسياسى هو الذى منحهم الصدارة، فكيف يجدد الأبناء مسيرة الآباء؟ إنه بداهة بالعودة إلى منهاج السلف. السلفية فى إطارها الصحيح: لكن ما يسمى الآن سلفية ويقترح سبيلا للعودة شىء غريب حقا، لأنه يتضمن جملة ضخمة من القضايا الطفيلية التى كان ينبغى أن تموت مكانها، ولا تكلف الأجيال بدراستها.. وإذا جاز تناولها بالشرح فبين بعض الإخصائيين، أو عند شرح طائفة من الأحاديث المروية، أو عند ذكر الأقوال فى تفسير آية من الآيات. أما إيهام الجماهير بأن هذه القضايا عقائد من لب الإيمان، وأن تجاوزها خروج على الدين، فذلك باطل. ولو مات المسلم وهو لم يدر من هذه القضايا حرفا ما حاسبه الله على شىء. ما الذى فعله أبو الحسن الأشعرى حتى تاب من عوجه وصار سلفيا؟ قال مؤلف الرسالة: إنه آمن بأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم ـ بعد موتهم ـ تصلان(1/103)
إليهم. ص _106
وأن الساحر كافر كما قال الله تعالى (!) وأن السحر كائن موجود فى الدنيا. ويرى الصلاة على كل من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم، وتنقل المواريث بينهم. وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله. وأن الأرزاق من قبل الله تعالى، حراما كانت أم حلالا. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه. وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم. وأن السنة لا تنسخ بالقرآن " كذا ". ثم قال فى الهامش: يعنى أن القرآن لا ينسخ السنة إلا مع سنة وأن الأطفال الموتى أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد... إلخ. إن الأشعرى كان زائغا حتى اعتنق هذه الأفكار.. وقد تدبرت هذه الكلمات ثم حكمت بأنها بعيدة عن ميدان العقيدة. ربما تضمن بعضها أحكاما فرعية كثر فيها القيل والقال، وربما كان بعضها خطأ محضا، وربما تساوى السلب والإيجاب فى أغلبها.. ونحن نعرف أن القرآن الكريم نسخ بعض السنن كما حدث فى عهد الحديبية، إذ تنزل الوحى بعدم رد النساء المهاجرات. بل إن الاتجاه إلى الكعبة المشرفة تم بقرآن نسخ السنة العملية. ومع ذلك فإن العبارات المنقولة توهم أن القرآن وحده أعجز من أن ينسخ سنة، وهذا شىء عجيب.. والموضوع كله من مباحث علم أصول الفقه، فكيف ينقل رأى أصولى مرجوح أو مرفوض إلى شعب الإيمان وأصول الدين؟!.. إن السلفية عودة إلى الإيمان السهل السائغ البعيد عن التقعر، البرىء من المماحكات، وليست السلفية قنطرة لترويج بعض الآراء أو حبالة ينصبها البله فى المجتمع لاصطياد الأغرار. *** ص _107(1/104)
فرق ضالة: فى الأمة الإسلامية الآن فرق تذكرنا بمذاهب الباطنية وفلسفاتها الدخيلة التى نجحت قبل ألف عام. هناك النصيرية، والدروز، والإسماعيلية ـ الأغاخانية ـ وأمثال أولئك جميعا ممن ينتمون إلى الإسلام انتماء غامضا. وقد يزعمون أنهم مسلمون شيعة! بيد أن جماهير الشيعة ترفضهم وتتنكر لهم.. إنهم سلالات باطنية تلبس الإسلام على خليط من الأفكار التى لا سناد لها، وهم فى نظرى ضحايا الإهمال الغريب من الدولة والأمة معا.. لماذا تمر القرون الطوال وهؤلاء الناس معزولون داخل دار الإسلام على هذا النحو المتوارث؟ أكثر من ألف عام والحكم الإسلامى غير مكترث بالتجميد الأدبى لألوف مؤلفة من الناس تعيش فى صميمه لا هم منه ولا هم من عدوه..!! إن هذا الخطأ لابد أن يوضع له حد، ولا بد من التعفية على آثاره.! ولدت الباطنية ونمت فى الفراغ الحقيقى الذى كان موجودا بين الحكام والشعوب. أغلب الحكام كان جائرا جاهلا، وإن لبس برد الخلافة أو لاذ بمن يلبس هذا البرد.. وتعلقت القلوب بمنقذ، من آل البيت، ينسخ الجور ويؤنس المستوحشين. وحول هذا الأمل الحبيب تكونت فى الظلام عصابات، لم تجد لها فى وضح النهار مكانا. وحول قليل من الحق تكونت مذاهب مستوردة من الهندوكية والمجوسية واليونانية وغيرها، فكان التفكير الباطنى وكانت شعبه العديدة. نصوص من القرآن يتم تفريغها من محتواها الصحيح لتحل محله أوهام المستغلين وخيالات ما أنزل الله بها من سلطان... واتسعت دائرة المخدوعين المستغلين وخصوصا فى القرنين الثالث والرابع. وبلغ من سطوة الباطنية أدن إحدى فرقهم انتزعت الحجر الأسود من مكانه فى الكعبة المشرفة، فلم يعد إلا بعد نيف وعشرين سنة بشفاعة فرقة أخرى... وإذا كان ذلك عجيبا فإن رد الفعل أعجب لدى الحاكمين والمحكومين على سواء. ولقد استيقنت ـ وأنا أقرأ هذه الصحائف السود ـ أن نظام الحكم من قديم كان القشرة العفنة فى كياننا كله. ص _108(1/105)
ولقد نهض عدد كبير من العلماء بدحض الفكر الباطنى وفضح خرافاته حتى انصرف عنه جمهور العقلاء، وانكسرت حدته السياسية انكسارا تاما. لكن حكام المسلمين ـ فى غيبوبتهم الفكرية ـ لم يكملوا ما بدأه العلماء المجاهدون، بل لقد خيل إلى أنهم جمدوا ـ عن عمد ـ بقايا الباطنية، مع أن قضاياها أمست بلا موضوع. وجمهور المنتسبين إلى هذه الفرق انقطع عن المنابع التى كانت تمده فى القديم، وبقيت نسبته إلى الإسلام أبرز فى وعيه من النسبة إلى أفكار أخرى.. والخطوة التالية والواجبة أن يستلحق الكيان الإسلامى الكبير هذه الطوائف التى اقتطعت منه لظروف مؤسفة، يستطيع بالتعليم الموصول والإعلام الدائم أن يجعل راية الكتاب والسنة ترفرف عليها وعلى جميع المسلمين.. نعم، فليس لهذه الطوائف دين تنتسب إليه إلا الإسلام ـ كما يقولون ـ وليست لها فلسفات عقلية أو اجتماعية تمثل مذهبا مستقلا فى الحياة، وربما كانت الروابط التى تمسك أبناءها روابط قبلية، أو عصابات جنسية.. وخطأ الجماعة الإسلامية فى الحفاظ على كيانها الكبير لا يجوز أن يستمر بعد اليوم.. لقد دخل الصليبيون الأندلس فلم يبقوا فيه إلا مذهبا واحدا هو "الكثلكة".. وسيطر الإسلام على ما يسمى الآن " الشرق الأوسط " وبقى فيه أربعة عشر قرنا، ومع ذلك فإن الطوائف الكثيرة لا تزال تكون فيه عصبة أمم..!! ربما كان ذلك شاهدا على ما انفرد به الإسلام من سماحة مستغربة فى التاريخ البشرى الحافل بفنون التعصب.. ولكن هذه السماحة لا يسوغ أن تتحول إلى فتوق تأتى عليه من القواعد، وتأذن للخيانات والمخادعات أن تنال منه. وعلى الجماعة الإسلامية أن تدافع عن وجودها بالوسائل العادية التى فاتتها من قديم، أى أن عليها تذويب هذه الفرق كلها فى الكيان العام. ص _109(1/106)
الشيعة وأهل السنة: من الخلافات الموروثة، ما بين الشيعة وأهل السنة من فجوات، ملأتها الدماء فى بعض الأعصار!! وزادها البهت والافتراء بين الحين والحين..! وما أنكر أن أسبابا علمية وعاطفية تخفى أو تظهر وراء هذا الخلاف.. بيد أن للسياسة ومطالب الحكم أسبابا أضرى وأنمى. وقد تحدثت فى كتب أخرى عن حقيقة ما بين الفريقين من الناحية العلمية، ولا مجال هنا لتفصيل أو زيادة.. وأعترف بأن لى أصدقاء من الشيعة أعزهم وأحبهم. ومن أجل ذلك أعرض هذه المبادئ لدفع الأمور إلى طريق التصالح والإخاء: أ ـ يتفق الفريقان فى مؤتمر جامع على أن القرآن الكريم هو كتاب الإسلام المصون الخالد، والمصدر الأول للتشريع، وأن الله حفظه من الزيادة والنقص وكل أنواع التحريف، وأن ما يتلى الآن هو ما كان يتلوه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه، وأنه ليس هناك فى تاريخ الإسلام كله غير هذا المصحف الشريف. ب ـ السنة هى المصدر الثانى بعد القرآن الكريم، والرسول أسوة حسنة لأتباعه إلى قيام الساعة، والاختلاف فى ثبوت سنة ما أو عدم ثبوتها مسألة فرعية. ج ـ ما وقع من خلاف بين القرن الأول يدرس فى إطار البحث العلمى والعبرة التاريخية، ولا يسمح بامتداده إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم، بل يجمد من الناحية العملية تجميدا تاما، ويترك حسابه إلى الله وفق الآية الكريمة: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). د ـ يواجه المسلمون جميعا مستقبلهم على أساس من دعم الأصول المشتركة ـ وهى كثيرة جدا ـ وعلى مرونة وتسامح فى شتى الفروع الفقهية ووجهات النظر المذهبية الأخرى. إننى لا أستطيع خلال سطور، أن أحل مشكلة تراخت عليها العصور، لكننى أستلفت النظر إلى أن أوهاما وأهواء تملأ الجو بين الشيعة وجماعة المسلمين لا يسيغ العقلاء بقاءها. ص _110(1/107)
ولو وضع كل شىء فى حجمه الطبيعى، وأغلقت الأفواه التى تستمرئ الوقيعة والإفك لتلاشت أنواع من الفرقة لا مساغ لوجودها. وإنى إذ أرسل هذه الكلمات إلى إخوانى فى كل قطر، أستشعر الخطر الذى يكتنف المسلمين هنا وهناك، وكثافة القوى التى تتجمع فى هذه الأيام للإجهاز عليهم واستئصال شأفتهم. لقد اتفقت أحزاب أهل الكتاب وأحزاب الوثنية، وأحزاب الماديين، جميعا على استئصال شأفتنا فإلى متى نتفرق؟ لماذا يتباعد أتباع المذاهب الفرعية؟ لماذا تجتر خلافات بين السلف وتمنح القدرة على الحياة والأذى؟ فى سبيل وحدة الأمة على الحق لا على الهوى، ودفعا على الصراط المستقيم. قال الإمام الشهيد : " كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه. وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع. ولكننا لا نعرض للأشخاص فيما اختلفوا فيه بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا". وقال: "لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر فى أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع فى تعرف أدلة إمامه، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمى إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر".. وقال: "الخلاف الفقهى فى الفروع لا يكون سببا فى التفرق فى الدين، ولا يؤدى إلى خصومة أو بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمى النزيه فى مسائل الخلاف فى ظل الحب فى الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم أو التعصب ". وقال: "كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذى نهينا عنه شرعا. ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التى لم تقع، والخوض فى معانى الآيات القرآنية التى لم ص _111(1/108)
يصل إليها العلم بعد، والكلام فى المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم، وما جرى بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته، وجزاء نيته، وفى التأويل مندوحة". وقال: "معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام. وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا ما وسح رسول الله وأصحابه (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا). *** ص _112(1/109)
معنى الابتداع وأنواع البدع الابتداع فى الدين نزعة تسيطر على نفر من المتدينين، وتزين لهم أن يخترعوا من عند أنفسهم أفعالا وأحوالا ثم يجعلوها ضميمة أو جزءا من الدين الإلهى ويطلبون إلى الناس الأخذ بها، كما يأخذون ما جاء من عند الله سواء بسواء. وقد رفض الإسلام "الابتداع " رفضا قاطعا للأسباب الآتية: ا ـ إذا أقررنا هذه الضميمة الجديدة إلى الدين، ورأينا الدين الأصيل محتاجا إليها حقا، فمعنى ذلك أن الله أنزل الدين ناقصا، وهذا باطل، قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وقال رسول الله : " إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" . 2 ـ إقرار هذه الإضافات التى صنعها الناس يعنى إعطاء البشر حق التشريع فى العقائد والعبادات وما إليها.. وهذا الحق انفرد به رب العالمين: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وفى القرآن الكريم حملات شداد على من يحلون ويحرمون وينسبون إلى الله ما لم يأذن به: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم). والزيادات المخترعة مرفوضة سواء ابتدعها أفراد أو مجامع، إذ لا حق لأحد ابتداء أن ينشئ شريعة من عنده، فإن ما ينشئه هو الهوى والضلال. 3 ـ انشغال العقل الدينى بالتحوير فى الدين أضر إضرارا بالغا بشئون الدنيا، إذ إن ص _113(1/110)
المتدينين بددوا طاقتهم العقلية فى اختراع ما لا قيمة له ولا خير فيه، والأصل فى شئون الدين الاتباع وفى شئون الدنيا الابتداع ـ لحديث أنتم أعلم بشئون دنياكم ـ ولكن هؤلاء المخبولين قلبوا الآية فطوروا تعاليم الدين وجمدوا شئون الدنيا، وكان ذلك سببا فى تخلف الأمم وضياع رشدها.. ص ـ التعلق بالبدع المحدثة يتم على حساب السنن الأصيلة نفسها، والذين يخترعون أشياء ليعبدوا الله بها يتحمسون لها وتكون أقرب إلى هواهم من التعاليم الثابتة عن الله ورسوله، والجهد الذى يبذل فى أداء هذه المبتدعات قلما تبقى معه طاقة للقيام بما أمر الله ورسوله، فما تنهض بدعة إلا على أنقاض سنة. 5 ـ طبيعة الدين العموم، فقد وضع الدين كى ينتظم البشر كلهم، والأثر النفسسى الخاص لتألف ما لا ينهض حجة لتعميمه، وأذكر أن أحد المتأدبين أرانى صلوات على رسول الله كتبها واستجادها ورأى نشرها بين الجماهير، فلما قرأتها رأيت فيها عاطفة حارة، فقلت: عاطفة مقدورة، ورأيت فيها جملا غامضة ومتكلفة فلم أقف عندها طويلا، وإنما قلت للمؤلف استبق ذلك كله لنفسك ولا تشغل به الناس. قال: كيف؟ قلت: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم الناس كيف يصلون عليه فى أحاديث صحيحة، ونفذ المسلمون ذلك بعد تحيتهم لله فى كل قعود أخير من الصلوات الخمس، فلا مكان بعد ذلك لما ألفت! قال: إنه يترك أثرا حسنا فى النفس. قلت: فى نفسك أنت، وليس من حقك أن تكلف الناس بما استحسنت ووقتهم ملك الله أولا، وملكهم هم أخيرا، وليس لك أن تستغله فى أمر من عند نفسك. إن الصلاة الواردة لا تستغرق نصف دقيقة ينصرف الناس بعدها إلى معاشهم ومعادهم، وإذا كان ما ألفته يعجبك فاقرأه وحدك، ولكن لا تجعل قراءته فريضة ولا نافلة، فإن الفرائض والنوافل وضع إلهى ولا مجال لبشر هنا أن يلزم أو يستحب، فليس لأحد من خلق الله أن يقول لعباد الله: شرعت لكم كذا وكذا، ضموه إلى صلواتكم وزكواتكم ليكون إلى الله قربى.(1/111)
وما الفارق بين شخص يضع حديثا وينسبه إلى رسول الله، وآخر يضع مسلكا أو تقليدا أو عملا ما ثم يزعم أنه دين مستقيم وطريق إلى الآخرة؟ كلاهما قد اقترف أقبح الكذب. ص _11 ص
أخطاء نستلفت النظر إليها ونحذر منها: إن المتدينين عندما يهن إيمانهم ويذهب رشدهم يرتكبون واحدا من ثلاثة: الأمر الأول: أن يعطلوا النصوص ويميتوا أمر الله، وهذا عصيان جرىء. الأمر الثانى: أن ينقلب ترتيب التكاليف فى أذهانهم فيقدموا الصغير ويؤخروا الكبير وتضطرب أوزان الأمور، فتراهم يتجاهلون العظائم ويتقعرون فى التوافه، كهذا الذى سأل الحسن البصرى عن الصلاة فى قميص به دم البعوض! فقال له الحسن : ممن أنت؟ قال: من العراق! قال: تسألون عن دم البعوض، وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله؟! وقد صور أبو الطيب المتنبى هذا الاعوجاج النفسى فى فهم الدين بقوله: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟! يا أمة ضحكت من جهلها الأمم! وذلك فى قوم يحسبون قمة التدين إزالة شعر واستبقاء شعر. والأمر الثالث: أن يستحسنوا ويستقبحوا من عند أنفسهم لا من عند الله، ويختلقوا بدعا كثيرة فى شئون الدين وأصوله وفروعه، تعمل فى الدين عمل السرطان فى الجسم، ما تزال تنمو حتى تجهز عليه.. والابتداع، وإن كان مرفوضا جملة وتفصيلا، إلا أنه متفاوت الخطر والضرر، إذ هو كالعصيان لا يقبل شىء منه أصلا ولكن منه صغائر وكبائر، وللصغائر حكمها وللكبائر حكمها.. ومن هنا فالحرب التى توجه ضد البدع الصغيرة دون الحرب التى تعلن على البدع الكبيرة، والفزع من مرض كالزكام لا يبلغ الفزع من إحدى الحميات التى يغلى منها الدماغ. وقد رأيت بعض المعنيين بالسنة يسوى بين الأمرين، ويعامل المبتدع الصغير بنفس الشراسة التى يعامل بها المبتدع الكبير، متعللا بالحديث "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار". قلت له: أرأيت قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا). إننى لا أستطيع تطبيق الآية على مقترفى(1/112)
الصغائر، وإن كانت لونا من العصيان. ص _115
وإذا كانت البدع متفاوتة الشر فلنعرف أقسامها كما ذكرها العلماء حتى نحسن الخلاص منها بالتى هى أحسن.. ونكتفى هنا بما تعم فيه البلوى. من البدع ما هو حقيقى ومنها ما هو إضافى: الأول مثل الطواف ببعض الأضرحة على نحو ما يفعل الحجيج بالكعبة المشرفة. وظاهر أن جوهر هذه البدعة لا صلة له بالدين. البدعة الإضافية: أما البدع الإضافية، فهى أشياء دينية الأصل أتى بها على هيئة لم يقل بها الدين. فقراءة آيات من سورة الكهف مثلا حسن يوم الجمعة، لكن جعل هذه القراءة من شعائر صلاة الجمعة، وجمع الناس على سماع السورة أو بعضها قبل الصلاة لم يقع قط على عهد الرسول والسلف الأول. ومثل تأليف أوراد خاصة لتلاوتها فى أوقات معينة وبأعداد معينة.. بحجة أنها ذكر لله مثلا أو صلاة على رسوله.. البدع التَّركية: ومن البدع ما هو فعلى وتركى، والقاعدة الكاشفة لذلك أن ما تركه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع وجود الداعى وانتفاء المانع، فتركه سنة وفعله بدعة!! كان الناس يموتون، ولم يتجاوز الأمر عند موتهم الدفن بعد صلاة الجنازة ثم قبول العزاء على نحو عابر لا افتعال فيه. وربما كلف جيران الميت بإعداد الطعام لأهله، فإن مصابهم شغلهم عن إعداده لأنفسهم. لكن مسلمى اليوم رأوا أن يجتمعوا عقب الوفاة فى أندية أو سرادقات يستمعون فيها إلى القرآن، ويستقبلون فيها الوفود، وتوزع فيها السجائر والأشربة، ويتكلف فيها أهل الميت ما يبهظهم. والجماهير ترى أن قراءة القرآن فى حشد يضم المعزين لا بد منه. ولكن العلماء مجمعون على أن الرسول وصحابته لم يفعلوا هذا مع وجود الداعى له وهو الموت وطلب الثواب وانتفاء المانع، فالأمن مستقر والتجمع سهل... ص _116(1/113)
وما دام الأمر كذلك فالترك سنة والفعل بدعة. وكم سن أشياء لم يفعلها السلف الأول حرص المسلمون اليوم على إقامتها وإدامتها وكأنها دين، بل قد تكون عندهم أهم وألزم من الدين الثابت الصحيح!! والأستاذ حسن البنا رأى ـ فرارا من الاصطدام بحراس البدع الإضافية والتركية ـ أن يدخل الموضوع فى دائرة الخلاف الفقهى : والخلاف الفقهى يتحمل وجهات النظر المتباينة. ومن ثم لم ير حرجا من ترك مؤذن يضم الصلاة على رسول الله إلى ألفاظ الأذان! ولم ير حرجا من ترك الأسر الكبيرة والصغيرة تتكلف فوق طاقتها لأداء مراسم التعزية المخترعة.. والواقع أن صنيعه رضى الله عنه كان سياسة موقوتة لتجميع الأمة على أمهات الدين وقواعده المهددة، فقبل المكروه اتقاء للحرام، من باب ارتكاب أخف الضررين.. والحق أن البدع صغراها وكبراها لا يمكن إقرارها. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه " ، وإن كان العلاج يحتاج إلى بصرة وأناة.. إن شر هذه المحدثات بعيد المدى فى المجتمع الإسلامى، وأذكر أن موظفا فى فى دائرة عملى كان يغلبه النوم أحيانا كثيرة، وعرفت أنه ينتمى إلى إحدى الطرق الصوفية، فطلبت منه أن يطلعنى على الورد المقرر، فلما استبنته وجدته يفرض ترديد عدد من أسماء الله الحسنى، وبعض الكلمات والآيات بما يبلغ مليون كلمة كل ليلة، فعرفت سر نوم المسكين وأشفقت أن يفقد يوما ما عقله.. وهذا الصنف من الناس يوشك أن يختفى لغلبة الحياة العصرية بصبغتها المعروفة... ولكن الذين يريدون الأوبة إلى الدين يجدون فى طريقهم هذه الأوراد فينتقلون من ضلال إلى خبال... وفى ذلك يقول الإمام الشهيد: "وكل بدعة فى دين الله لا أصل لها: استحسنها الناس بأهوائهم ـ سواء بالزيادة فيه أو ص _117(1/114)
النقص منه ـ ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التى لا تؤدى إلى ما هو شرمنها". "والبدعة الإضافية والتركية والالتزام فى العبادات المطلقة، خلاف فقهى لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان ". *** ص _118
الحب والبغض فى الله ومعنى الولاية والسنة فى زيارة القبور وبناء المساجد احترام العظماء واجب، ولا أعنى بالعظماء أصحاب الثروة ولا أصحاب السلطة، فهؤلاء فيهم من يوقر وفيهم من يحتقر! وإنما أعنى بالعظماء أصحاب العلم الغزير، والشمائل السنية، واليقين الحى، والجهاد المخلص! إنما أعنى الطلائع الإنسانية المعجبة التى تلمح فى صفوفها الأئمة والشهداء والمضحين فى صمت، والفانين فى طاعة الله، وقد يكونون أغنياء أو فقراء، مرضى أو أصحاء عسكريين أو مدنيين، حكاما أو محكومين! قد تكون فيهم الأم الحانية فى سكينة والزوجة الوفية على استحياء.. إن المواهب الربانية كثيرة بين العباد، واحترام هذه المواهب وإجلال أصحابها دين.، والتنكر للسفلة ورفض مسالكهم والإزراء على أشخاصهم واجب ، ومهما كانت الظروف التى تحيط بهم، ودوافع الرغبة والرهبة التى تنبعث من قتلهم، فإن الانسياق معهم جرم، وإحسان الحديث عنهم زور..! من طبائع الأشياء إذا ذقت ثمرة ناضجة أن تقول: هذه حلوة! وإذا ذقت حنظلة قبيحة أن تقول: هذه مرة..!! وإذا حكم امرؤ على الحلو بأنه مر ودعا إلى نبذه، أو بالعكس حكم على المر بأنه حلو ودعا إلى إساغته فهو مدلس مخرف! يجب ـ باسم الله ـ أن يأخذ كل شىء قدره ووضعه! فالحب فى الله والبغض فى الله من الإيمان، "وليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه "! وقد أثنى رب العزة على الصالحين من خلقه، ونوه بأخلاقهم ومسالكهم: ص _119(1/115)
(و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) (و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا * و كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) والثناء على الصالحين قانون مطرد تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل، وتخلد به تقوى العابدين، وشجاعة الأبطال. قال الله تعالى عن "نوح " (وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين). والحقيقة أن نجاح الرسالات الكبرى يقوم على أمرين متعادلين: التفوق فى زعيم، والحب والإخلاص فى أتباع!! وفى ظنى أن القارئ الواعى المستجيد أخ للمؤلف المبتكر وأن الجندى المطواع المتفانى أخ للقائد الفاتح، وهذا يفسر لنا الحديث الصحيح "المرء مع من أحب " . فى صدر تاريخنا الإسلامى، كان المؤمن يدخل على الخليفة ليوقره احتسابا ـ أو ليذكره إذا نسى ـ وكان المجاهدون فى الجبهات البعيدة ينتظرون دعوات المؤمنين فى صلواتهم الجامعة. كان التحاب فى الله هو الرباط الوثيق بين الجماهير، وهو الذى استبقى قافلة الإسلام على مر الأيام ثم انحلَّت عروة الحكم على عهد مبكر، وسارت الجماهير وراء من تثق فيهم، منحتهم ولاءها العميق! رأينا البخارى يضيق به حاكم بلده فيخرج منه لينشر علمه فى بلد آخر.. سبحان الله، حاكم تافه يطارد قمة القمم فى علوم السنة!! وكان الجزاء الإلهى أن أبا عبد الله البخارى كرمته الأمصار والأعصار منذ ظهر إلى بقية الدهر (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب). ومات ابن حنبل فخرجت بغداد كلها وراء جنازته، ترى كم من معز مشى وراء جثمان الخليفة الذى جلده؟ إنهم مرتزقة القصر وحدهم! وقد التفت الجماهير حول رجالات الإسلام من فقهاء أناروا الطريق بالمعرفة ومن ص _120(1/116)
عُباد حببوا الله إلى الناس، وشرحوا صدورهم بذكره.. ولا شك فى أن أئمة التعليم والتربية ظفروا بحفاوات شعبية بالغة، أغنتهم عن تقدير الساسة ومغانم الحكم.. وما سعى واحد منهم إلى شئ من هذه المكانة ـ وإلا حبط عمله ـ وإنما هى عواطف الحب فى الله بين العاملين لله فى كل ميدان.. * * * تصحيح للمفاهيم: وعواطف العامة قد يشوبها من التصورات ما يحتاج إلى التعليق أو النقد. فالبطولة عندهم قلما تخلو من خوارق العادات.. هم يقولون: إن مريم كان يأتيها رزقها من السماء، وكان كافلها يدهش وهو يرى أنه لا عمل له بعدما قامت الملائكة بعمله.. وهم يقولون: إن الملائكة تنزلت لقراءة القرآن فى بيت أسيد بن حضير، ولو مضى الأنصارى العابد فى تلاوته لتكاثرت فى دروب المدينة حتى يراها الناس.. ولهم نقول كثيرة فى هذا المجال تطوع لهم أن ينسبوا إلى العلماء والأولياء حشدا من الخوارق لا آخر له..!! وقد كثر الحديث عن كرامات الأولياء وضرورة الإيمان بها إلى حد مستغرب، ويكاد الدهماء يبطشون بمن ينكر خارقا نسبوه إلى أحد رجالهم، بل إن أغلب كتب العقائد جعلت "الإيمان " بهذه الخوارق من معالم الصراط المستقيم.. وهذا الكلام كله يحتاج كما قلنا إلى نقد يكشف ما فيه. فتصور أن الولاية لا تتم إلا مع الخوارق الملغية لقانون السببية باطل!! إذ الولاية هى الإيمان والتقوى فحسب. قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون). فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولى، رجلا كان أو امرأة.. إن زوجة ترعى بيتها وتربى أولادها وتسعد زوجها ناشدة بهذا كله وجه ربها هى من الأولياء، وإن رجلا فى ديوانه الرسمى يحرس مصالح الناس ويعجل قضاءها ويهش لأصحابها مع وفائه بحقوق الله من صلاة وزكاة هو من الأولياء.. وليس من الضرورى بتة أن يقع له أى خارق من خوارق العادات!! إن اشتراط ص _121(1/117)
الكرامة لاكتمال الولاية أو لصحتها ضرب من الهزل، وليس لهذا التفكير أى أصل دينى.. ربما تقع الخوارق ـ التى يعجب بها العامة ـ لأناس فقدوا أصل الإيمان والاستقامة. وقد قرأت عن أناس لا يمتون إلى الإسلام بصلة أخبارا مثيرة من رؤى جاءت كفلق الصبح، ومن إخبار بمغيبات صدقتها الأيام، إلى غير ذلك، فكان تعليقى الأوحد: لا كرامة لمن انقطعت بالله علاقته واضطربت فى الحياة مسيرته! فالكرامة قبل كل شئ وبعده عقل مؤمن وخلق قويم! ولا وزن لمن فقد ذلك ولو مشى على الماء أو امتنع عن الطعام الشهور الطوال.. ويحزننى أن الفكر الدينى عند العامة وأشباههم من أنصاف المتعلمين كاد يجن بالكرامات المادية، وأولع بإحصاء المئات منها لمعارف ونكرات حتى سقط قانون السببية أو كاد، وكان لذلك أوخم الآثار على الحضارة الإسلامية. بل إن ذلك أفسد القيم الخلقية عند الكثيرين، واسمع إلى هذه النادرة: ارتكب أحدهم جريمة مزرية، وشعر الجمهور فطارده ليقبض عليه، وكان واثقا من الظفر به لأنه يقترب من شاطئ النهر، ولكن المطاردين فوجئوا بصاحبهم يتجاوز اليابسة ويمشى بقدميه على الماء، فوقفوا مشدوهين، ونظر إليهم المجرم الولى يقول: هذا عطاؤه، وذاك قضاؤه. يعنى هذا المشى الخارق عطاؤه، وذاك الجرم السابق قضاؤه!! ودلالة القصة ظاهرة وأثرها خطر. ورأيت وأنا شاب رجلا على كوم من التراب فى ريفنا المصرى، كان رث الهيئة مرقوع الملابس ظاهر البطالة! وقال لى أحد الناس: هذا الشيخ فلان من أولياء الله! فتجاوزته دون اكتراث، فقال لى الرجل لائما: ألم يقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "رب أشعث أغبر ذى طمرين لو أقسم على الله لأبره"؟. فقلت له: ويحك، ما دخل هذا الحديث فى صاحبك القذر؟ إن الحديث يستلفت النظر إلى أن المواهب العظيمة لا يزرى بها الفقر، فرب كادح مغبر الجبين أشرف من مترف معطر الملابس، لأن هذا الكادح ـ كما رووا عن الإمام الشافعى: ص _122(1/118)
عليه ثياب لو تباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بمثلها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا لو كان صاحبك وليا لاحترف بدل أن يتبطل، ولنظف جسده بدل أن يتوسخ، أى ولاية هذه؟! ولا أنكر أنه قديما وحديثا وجد ناس بلغوا شأوا فى اليقين والتقى، وأن خوارق العادات وقعت لهم، أنعم الله عليهم بها فأحسوا فضله الأعلى وسط أنواء عصيبة كادت تعصف بهم. لكن ما علاقة الآخرين بذلك؟ وما يفيدون منه؟ إن الأنبياء أنفسهم لا يملكون ضرا أو نفعا لأحد، فكيف بمن دونهم؟ (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا). بيد أن السلبية والذنبية صفات تغلب على بعض الناس، فهم يحبون أن يحيوا على حساب الآخرين، ويكفيهم مجرد الانتساب دون معاناة سبب من الأسباب.. قالوا: عندما احتل الإنكليز القاهرة فى القرن الماضى، ذهب حشاش إلى قبر الإمام الشافعى يلومه كيف عجز عن رد هؤلاء المغيرين؟ فقال له حشاش آخر معتذرا: إذا كان الأكبر منه، الإمام الحسين نفسه عجز عن ردهم فما يفعل هو؟! الغريب أن هذا الكلام أو قريبا منه تردد على ألسنة الدهماء فى القرن السابع يوم استولى التتر على بغداد! (أتواصوا به بل هم قوم طاغون). إن الإسلام بعيد بعيد عن هذا الهراء. ويتأدى بنا البحث إلى الكلام عن القبور وساكنيها من عامة وخاصة، من أبرار وفجار.. صلة المسلم بالمقابر: إن هذه المقابر لا تضم إلا الرفات الفانى من كيان الإنسان، أما الأرواح فإنها ذهبت إلى مستقرها بعيدا عن هذه الدار.. ومع ذلك فإننا نرتبط عاطفيا ببقايا من نحب مطمورة تحت هذه الأحجار..! ص _123(1/119)
نعم فى هذه القبور أحباؤنا وأقرباؤنا ومن عشنا معهم آمادا طالت أو قصرت، وكما قال المعرى: وقبيح بنا وإن بعد العهد هوان الآباء والأجداد إننا بزيارة القبور نسترجع ذكريات، وقد "نسكب العبرات، وندرك أين المصير مهما حيينا.. وقد كلفنا بزيارة القبور لترق الأفئدة، وندعو لمن سبقنا بالمغفرة. وقد نزور قبرا معينا لنستحيى بزيارته معانى البطولة، ونعلن وفاءنا وتقديرنا لصاحبه على نحو ما قال الشاعر لسحابة حافلة تعبر الأفق: أمِّى الضريح الذى أسمِّى ثم استهلى على الضريح ليس من العدل أن تشحِّى على فتى ليس بالشحيح وزيارة القبور بداهة ليست عبادة لها... وأعرف أن بعض الناس تربطهم بسكان القبور بعض مشاعر الرجاء.. وأعرف أن هذه المشاعر نفسها ـ أو أحر منها ـ موجودة عند رواد القصور، وأذناب الحاكمين، وهى مشاعر مرفوضة جملة وتفصيلا ما دامت توهن أمل الإنسان فى الله، وترده إلى غيره من الأحياء أو الأموات. نحن نغار على عقيدة التوحيد، ولا نسيغ شركا ونقبل آخر، وكم يحزننا أن يكون قلب امرئ ما فارغا من الله مملوءا بغيره ممن بقوا أو هلكوا. والاستعانة على قضاء الحاجات تكون بالله تبارك اسمه، ولا يجوز أن يتجه مسلم إلى قبر ليطلب من صاحبه عونا، فلماذا نترك الملك الأعلى ونتعلق بعبد من عباده؟ وماذا يملك هذا المقبور لأمثاله من الناس؟ إنه لأمر مؤسف أن يشيع بناء القبور على المساجد مع ما ورد من تحريم ذلك، حتى وهم الناس فى بلادنا أن المسجد ما يكون إلا على قبر لأحد الأولياء، يعتقد العوام أنه مهوى القلوب وملتقى السائلين!! ومعرفتى بالمساجد تجعلنى أندد بأمور رأيتها.. زرت أحد المساجد بمحافظة البحيرة، فرأيت القبر يتوسط المسجد توسطا منكرا، بحيث تكون صفوف المصلين أمامه وخلفه عند امتلاء المسجد! قلت: إن المساجد لله، وهذا المسجد للقبر! فرض القبر نفسه على مساحته بهذا الوضع الغريب.. ص _12 ص(1/120)
وقد تكون القبور فى حجر خاصة متصلة بالمسجد اتصالا مباشرا أو داخلة فيه! وهنا نرى انقساما بين المصلين فى الصلوات الجامعة! فالبعض يصلى فى المقبرة، والبعض الآخر يصلى فى ساحة المسجد! وقد تتعدد الجماعات فى الوقت الواحد، وتتشابك تكبيرات الانتقال، ولا يفصل بين انتهاء الصلاتين إلا دقيقة أو دقيقتان!! وحاولنا منع هذا التعدد، لكن الرعاع أثاروا ضجة كبيرة جعلت وزارة الأوقاف تتراجع اتقاء الفتنة!! وأذكر أن الجمعية الشرعية عندما بنت مسجدها الكبير بالعاصمة، طلبت منى إزالة ضريح ولى الله "المدبولى" وضم أرضه إلى المسجد ليتسع وليمكن إقامة مئذنة تواجه بعض المعابد..! ولبيت الطلب على عجل، ونقلت ما يُسمى رفاتا ـ على المجاز ـ إلى مجمع الأولياء بالمقابر.. وهنا حدث ضدى شغب بعيد المدى لم يطفئه إلا وزير الأوقاف الذى كان حسن الظن بدينى! إن تشييد الأضرحة وكسوتها وتزيينها بالمعادن النفيسة واستقدام الزوار إليها أمر شاع فى أمتنا، ولا أصل له. وأعرف بقالا فى العاصمة بنى مسجدا، وبعد إتمامه استصدر رخصة أن يدفن فيه، وتم له ما أراد! وأصبح من أولياء الله! إن علاج ذلك الانحراف يحتاج إلى حكمة، وإلى خطة طويلة المدى.. ويمكن من الآن منع تعدد الجماعات فى الوقت الواحد، وصرف المصلين إلى الجماعة الكبرى فى المسجد نفسه، كما يمكن عمل أبواب خاصة للمقابر الملحقة بالمسجد تيسر للزوار الوصول إليها دون حرج.. وفى القضية كلها يقول الأستاذ حسن البنا: "محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرت من طيب عملهم قربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون فى قوله سبحانه (الذين آمنوا وكانوا يتقون )، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فى حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم ". ص _125(1/121)
ثم يقول الإمام الشهيد: " وزيارة القبور أيا كانت سنة، وهى مشروعة بالكيفية المأثورة. ولكن الاستعانة بالمقبورين ـ أيا كانوا ـ ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور، وسترها، وإضاءتها، والتمسح بها، والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات. كبائر يجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال، سدا للذريعة.. ". بيد أن هناك أناسا يتأولون ويتسامحون ويرون ترك الأمور تجرى فى أعنتها، وهذا خطأ، ولا أتهم نياتهم فالقلوب إلى الله، ولكنى أناشدهم الله أن يحفظوا حقائق الإسلام عتيدة وشريعة على سواء، وأن يلتزموا ما صح من تعاليمه، وأن ينبذوا الخرافات والبدع التى أزرت بجوهره، وعرقلت مسيرته.. وهناك آخرون يحسنون الهدم أكثر مما يحسنون البناء. لقينى أحدهم وقال لى مغاضبا: بلغنا أنك صليت فى مسجد الصنم! فقلت دهشا: أى صنم؟! قال : فى مسجد الحسين!! لو قدرت على جلد هذا السفيه لجلدته.. إننى نظرت إليه فى تغيظ ثم قلت: مسعر فتنة أنت، ما يجد الشيطان خيرا منك فى إذكاء العناد وتمزيق الأمة! نعم صليت فى المسجد مع جمهور كثيف، يوحد الله ويرجو رضاه ويخشى بأسه! فيهم كثيرون أطيب منك قلبا، وأسرع إلى ميادين الجهاد يبذلون دمهم فى ذات الله..! ورفضت استئناف الكلام، فما جدوى الكلام مع امرئ مسعور يريد دمغ الناس بالشرك بدل أن يحببهم فى الحق، وما أكثر هؤلاء الدعاة الفاشلين ص _126(1/122)
التوسل .. ما يجوز منه وما لا يجوز الخلاف فى جواز التوسل وعدم جوازه شائع بين الدهماء، وقد استفحل أمره مع التخفف العقلى لأمتنا فى القرون الأخيرة، وانشغال الكثيرين بالتوافه، وغفلتهم عن معاقد الإيمان وعظائم الأعمال.. بل لقد كانت دولة الإسلام تنتقص من أطرافها وشرائعه تطوى من أصولها، والرعاع فى دار الإسلام مشدودون إلى جدال حام غضوب : هل فلان ولى أم لا؟ وهل نتوسل به أم لا؟ وظاهر من ملاحظة تلك الأحوال الغريبة أن الأمة كانت قد فقدت خصائصها العلمية والخلقية، وأمست غير صالحة ألبتة لقيادة أو ريادة، والجنون فنون.. معانى الوسيلة فى الشرع والعرف: تتبعت معانى " الوسيلة " فى الشرع والعرف، فوجدتها لا تعدو هذه الصور الخمس: ا ـ التوسل إلى الله بذاته وأسمائه الحسنى: على نحو ما جاء فى الحديث: "اللهم إنى أسألك بأنك أنت الله الذى لا إله إلا هو الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". ومثل ما ورد فى حديث حفظ القرآن الكريم: "أسألك بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبى حفظ كتابك كما علمتنى". ومثل: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك ". وقرأت لأحد الصالحين دعاء بدأه بهذه الجمل: "اللهم إنى جئت منك إليك، ولا شىء أعز منك عليك، فكن شفيعى لديك.. الخ ". وهذا النوع من التوسل لا شىء فيه يقينا، بل هو قمة التوحيد! ص _127(1/123)
2- التوسل إلى الله بطاعته، وما قدمنا من عمل صالح نرجو به وجهه الكريم. وهذا هو المراد من قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون). وفى السنة حديث طويل عن ثلاثة انسد عليهم غار كانوا قد لجئوا إليه، ولم ينجهم منه إلا توسل كل منهم بأحسن ما قدم من عمل. وذلك مصداق قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة "!. 3 ـ التوسل بدعاء الصالحين، ومن نتوسم فيهم درجة الإحسان! ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض ثابت من عهد نوح الذى قال لربه : ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا). وسواء كان الدعاء عن حضور أو عن ظهر الغيب، وسواء كان من الأعلى للأدنى أو الأدنى للأعلى فهو مأثور مأجور لما له من دلالة حسنة. إن الملائكة حملة العرش تقول فى ورد دائم: ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم). والذين يعرفون العظيم يتوجهون له بالثناء والاعتذار إذا رأوا سفيها يسئ إليه، فلا جرم تهتف الملائكة برب العالمين داعية راجية كلما أخطأ البشر وشردوا عن الطريق، ثم ثابوا إلى رشدهم...! والخلف يدعون للسلف إشارة إلى وحدة المؤمنين فى مجال العبودية وإن اختلف الزمان والمكان: ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ). والأمة الإسلامية تدعو لنبيها فى كل أذان وصلاة مترجمة بهذا الدعاء أو بهذه الصلاة عن حبها له وشعورها بما أسدى حين علم وجاهد وهدى.. وكان السلف من الأصحاب رضوان الله عليهم إذا تخلف المطر وخيف القحط ص _128(1/124)
يتوسلون برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيرفع ذراعيه إلى السماء ويناشد الله رحمته فيجئ الغيث.. وقد توسل الصحابة بعد وفاة الرسول بعمه العباس ـ كأن فيه رائحة النبوة ـ فأقبل العم الصالح يدعو وهو خجل حتى نزل المطر.. إنه لا حرج أن تقول لمؤمن تحسن به الظن: ادع الله لى، أو ادع الله معى. إن هذا النوع من التوسل لا حرج فيه كما رأيت. * * * توسل مختلف عليه: ص ـ التوسل بذات الرسول وما له عند الله من مكانة، وقد وجدت رأيين فى ذلك: أولهما: أنه لم يرد، وأن نماذج الدعاء فى الكتاب والسنة وهى كثيرة لم تتضمن شيئا من ذلك بل تضمنت دعاء مباشرا لله جل شأنه، والاتباع فى هذا الميدان أولى.. الثانى: أنه ورد توسل بشخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حديث الرجل الذى أصيب بالعمى، واستشفع بالنبى إلى ربه فى دعاء تعلمه منه ـ أو من غيره ـ فلما دعا الرجل ربه بهذه الصيغة رجع إليه بصره.. قالوا : وهذا اللون من التوسل وإن لم يروه الصحيحان فقد جاء من طرق تزيد على العشرة مما يشهد له! كلا الرأيين له ملحظ محترم عند من يقول بهما، ومن الممكن اعتبار هذا الخلاف فى شكل الأداء لا فى حقيقة الوجهة.. إلا أن خصاما شديدا وقع بين الفريقين كاد يتحول إلى قطيعة مزمنة! والسبب عندى يحمل وزره الفريقان معا. الفريق الأول وصف الثانى بالشرك، والثانى وصف الأول بكراهية الرسول. وتراشقوا جميعا بالتهم، فلم يكسب الإسلام إلا فرقة سيئة بين بنيه. وزاد الطين بلة أن الفريق الثانى قاس على ذات الرسول! من يراهم أهل صلاح وولاية، فاتسعت الدائرة لتشمل المعارف والنكرات، ثم رأيناه يتجاهل أو يتجاوز ما لا شك فيه من صيغ الدعاء، ويقصر سؤاله لله على الصيغ التى فيها قولان، وهذا جهل منكور!! ص _129(1/125)
وكان يجب على هؤلاء ألا يقيسوا على رسول الله شخصا آخر، فلا قياس فى العبادات، وكان يجب أن يتقربوا إلى الله أولا بما صح فى كتابه وسنة رسوله، وإذا صحت لديهم صيغة فلتكن بعض ما يقال أو آخر ما يقال... وبقى أن ننصح هواة الاتهام بالشرك أن ينظفوا سرائرهم وألسنتهم من سوء الظن، وألا يبنوا أحكاما على أوهام... * * * توسل مرفوض باتفاق العلماء : 5 ـ التوسل إلى الله بدعاء المقبورين. وهذا مرفوض باتفاق العلماء، فإن مناجاة نبى أو ولى فى قبره، وعرض الحوائج عليه رجاء قضائها شرك. ما يمنع أولئك الحمقى من سؤال الله وهو أقرب إليهم، وأقدر على إجابتهم؟ إن الانصراف عنه إلى غيره عمى وزور.. والغريب أن ناسا عندنا يرسلون شكاوى مكتوبة إلى ضريح الإمام الشافعى، وآخرين يفزعون إلى قبور بعض الأولياء متذللين يطلبون منها ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين.. حكى بعض الظرفاء أنه كان جالسا فى مزار مشهور، فجاء رجل يطلب من الولى الميت النجدة! لأن امرأته تلد والولادة متعسرة! وانصرف، وإذا رجل يجىء بعده ليطلب مساعدة ابنه الذى دخل الامتحانات العامة! وهنا قال له الظريف الجالس: إن الولى ليس هنا، فقد ذهب لتوليد حامل تعسر وضعها!! والواقع أن دعاء المقبورين أضحى مهزلة سخيفة، وأن الاعتذار عن هذا المسلك لا يسمع من أحد. وأستلفت النظر إلى شىء قد يشتبه مع هذا الدعاء المرفوض، وهو ليس منه! وأعنى به أدب المناجاة. فإن من المتأدبين من ينادى الليل، أو القمر، أو ريح الصبا، أو خليله، أو ما أشبه بذلك، وهو لا يقصد نداء وإنما يريد مناجاة ما يبثه مشاعره، ويشرح لديه ذات نفسه..! والذى يناجى الليل أو البدر لا يعبدهما بداهة، بل الذى نادى قبر معن بن زائدة ص _130(1/126)
وقال له: ويا قبر معن أنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا لم يعبد القبر ولم يفكر فى ذلك.. وكذلك الذى ناجى الرسول الكريم بقوله: يا خير من دفنت فى القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه النبل والكرم وعندى أن قصيدة شوقى التى بدأها بقوله: إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله فى عرفات تضمنت مناجاة من هذا القبيل، وقد يكون خيال الشاعر وفيض حبه قد أضفيا على كلامه شيئا من المبالغة، ولكن ذلك فى رأيى لا يجعله موضع اتهام. يقول شوقى: إذا زرت بعد البيت قبر محمد وقبلت مثوى الأعظم النضرات وضاء شعاع تحت كل ثنية وضاع أريج تحت كل حصاة وفاضت من العين الدموع مهابة لأحمد بين الستر والحجرات..! فقل يا رسول الله، يا خير مرسل أبثك ما تدرى من العبرات شعوبك فى شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف فى عميق سبات بأيمانهم نوران: ذكر وسنة فما بالهم فى حالك الظلمات؟! وقد سبق إلى مثل هذه المبالغات البوصيرى، فتجاوز الحد فى الإطراء، ولكن هذه الهنات لا تسوغ اتهام الرجلين بالشرك، كما يفعل أناس لا خبرة لهم بآفاق الأدب وأساليب البيان، وإن كنا نؤثر البعد عما يثير الريب، ونعلن غيرتنا عن كل ما يمس عقيدة التوحيد، ونرى فى كلام هؤلاء الشعراء ما يستحق الضبط. ونعود إلى التوسل بذات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين يدعو المسلم ربه. إن الخلاف بين المجيزين والمانعين، كاد يشبه الخلاف بين دينين، ولم أر لذلك سببا معقولا. وفى المسافة بين الفعل ورد الفعل، ندَّت أحكام عن الصواب، فرأينا ابن تيمية يكره زيارة قبر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . لماذا؟ إن زيارة القبور كلها سنة، فلم يشذ هذا القبر وحده؟! ص _131(1/127)
لا ريب فى أن ابن تيمية فعل ذلك سدا لذريعة التوسل الذى يأباه.. وقد سلقه خصومه بألسنة حداد، ونالوا منه منالا رديئا.. ونظن أن هذه المعركة التافهة يجب أن تخمد نارها، وأن ينظر إليها دون تشنج ورغبة فى التهم. يقول الأستاذ الإمام: "والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه موضع خلاف فرعى فى كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة" . أى أنه يوصف بالخطأ والصواب كالقضايا الفرعية فى فقه العبادات... ولا صلة له بالكفر والإيمان أو الشرك والتوحيد. ص _132(1/128)
تقاليد المسلمين غير تعاليم الإسلام قد تكون تقاليد المجتمع صورة مطابقة أو مقاربة لتعاليم الإسلام، وذاك ما وقع إجمالا فى القرن الأول، قرن الأصحاب الذين حملوا الإسلام وبلغوه إلى المشارق والمغارب. ثم جاء بعد ذلك التابعون، وأتباع التابعين فثبتوا الدعائم وأبرزوا المعالم، واندفع بهم المد الإسلامى إلى الأمام.. ولا يزال هذا المد يشق طريقه إلى مستقبله المربوط بقيام الساعة، وإن عرا التيار وَهَنٌ، وشاب صفوه كدر! وتقاليد المسلمين خلال التاريخ الطويل لا يمكن اعتبارها صورة دقيقة لتوجيهات السماء. إن هذه التقاليد قد تنحرف قليلا، وقد يذهب بها الانحراف إلى أن تكون تشويها للإسلام أو ميلا شديدا عن نهجه! ولنذكر أمثلة خفيفة أو خطيرة لبعض التقاليد الشائعة.. قال لى رجل صالح: فى مساجد ليبيا وتركيا توضع مسابح لختم الصلاة، يستعملها من ليست فى أيديهم سبح! لماذا نرى يديك عاطلتين من ذلك؟! قلت: أوثر ختم الصلاة بيدى، وأكره أن أحمل أى شىء وأنا أتقلب فى معايشى. وأمثل أساليب الذكر أن يكون الله فى ضميرى، فإذا ترجم اللسان عن ذلك بلفظ، أو لفظين، فلا ضرورة لعدد، وما أحسب التكرار ذكرا له وزن، أو له فى التسامى النفسى والاجتماعى أثر! وقال لى آخر: لقد جاء فى السنن استحباب الصلاة فى النعال، فلماذا تتركون هذه السنن؟ قلت: قد أصلى فى النعل وأنا فى حقل أو فى طريق، أما فى المسجد فلا! لماذا؟ إن أسفل النعل ربما حمل وساخة أو نجاسة معفوا عنها! لكن هذه المقادير المعفو عنها إذا تكاثرت وتراكمت داخل المسجد حولته إلى مزبلة كريهة الرائحة، فكيف أبيح للجماهير دخول المساجد لتلويثها على هذا النحو؟! قال: كان الصحابة يصلون فى المسجد بنعالهم. قلت: لم يكن المسجد مفروشا بشيء، وكانت البيئة الرملية أغلب، وهى تعين على النظافة.. ص _133(1/129)
ومن هنا نمنع المنتعلين من دخول المسجد حتى يخلعوا نعالهم فلا يوسخوا السجاد أو الحصير، والإسلام مبنى على النظافة. وسألنى سائل: أترى هذه الملابس الفرنجية تصلح للمسلمين؟ قلت: إن الإسلام أباح لنا أنواع الأزياء ما دمنا بعيدين عن السرف والخيلاء. قال: هذه ملابس ضيقة، وأفضل منها ملابسنا الفضفاضة البيضاء! قلت: ما تقول صفة ملابس الصحراء، اللون الأبيض مستحب لأنه يرد أشعة الشمس بخلاف غيره، والسعة تمنع العرق فى المناطق الحارة، وامتداد غطاء الرأس على القفا للوقاية من حدة الشمس ووقدة الحر. والزعم بأن هذا الطراز من الأزياء إسلامى وغيره كفرانى غير صحيح. إن الله لا يكلف سكان المناطق الباردة أو المعتدلة أن يلبسوا عمائم لها ذنب أو لا ذنب لها، حسب اللباس أن يستر العورات ويزين صاحبه، وليكن ما يكون فى تفصيله وتقسيمه... وسمعت متحدثا دينيا يوجب بغضب أن تكون زكاة الفطر تمرا أو شعيرا، أو ما شابه ذلك، ويرفض أن تكون نقدا كما قال أبو حنيفة، وشممت من لهجته أنه لو لقى أبا حنيفة لتناوله بالإساءة. قلت: هذا مفكر بدوى النزعة يوجب على لندن وباريس إذا دخلتا فى الإسلام أن تستوردا قناطير من الشعير أو التمر للصدقة على الفقراء.. ماذا فى إخراج الزكاة مالا يصلح الفقير به شأنه؟ ويقضى حاجاته كلها؟ إن فرض تقاليد الصحراء على الناس كلهم باسم الإسلام ضرب من البلاهة! الإسلام كرم المرأة: وأعرف مبعوثا حدث بينه وبين أسرته نزاع انتهى بزواجه من امرأة نمساوية حيث يتعلم! وسبب النزاع أن الأب عرض على ابنه الزواج من فتاة يعرف أهلها معرفة جيدة! قال الابن: إنى لم أر هذه الفتاة من قبل، وتقاليدنا تقيم حجبا غليظة بين الجنسين حتى لا يرى أحدهما الآخر، فلنرها أولا.. قال الأب: لكن أهلها يرفضون أن تراها، فربما لم تعجبك، فكيف تراها وتتركها؟! ثق فى اختيارنا لك! ص _13 ص(1/130)
واحتد الجدل، وانتهى الأمر بأن تزوج الولد بالطالبة النمساوية. هل هذه تقاليد إسلامية، أم عادات أنشأها الناس من عند أنفسهم، ثم جعلوها دينا؟ وباسم الحجاب، قامت تقاليد تزدرى المرأة وتؤخرها، وترفض منحها الحقوق المادية والأدبية التى أقرها لها الإسلام، فماتت إنسانيتها على مر القرون، وتولى كبر ذلك كله متدينون جهلة يحسبون التقوى تجهيل المرأة وإذلالها... إن أى مطالع للقرآن الكريم والسن الصحاح يرى المرأة جزءا حيا من مجتمع حى، فهى تتعلم وتتعبد وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتجاهد ـ إذا شاءت ـ فى البر والبحر، وتؤخذ منها البيعة على معاقد الإيمان والأخلاق، وتعارض الحكم أو تؤيده.. إلخ. ودخل التحريف على تعاليمنا وتقاليدنا، فإذا المرأة كل على قولاه أينما يوجهه لا يأت بخير!! وقال لى صديق: إنه عندما أمر الملك فيصل بتعليم البنات تحولت أسر عن البلد الذى أنشئت فيه أول مدرسة! وكرهت أن ترى هذه البدعة المنكرة!.. ولا يزال نفر من علماء الدين يكرهون وجه المرأة، ويحملونها مسئولية خروج آدم من الجنة كما زعم اليهود فى كتبهم! ويرون الدين إمساك النساء فى البيوت حتى يتوفاهن الموت، وحرمانهن من أى نشاط عام.. وأعتقد أن هؤلاء العلماء القاصرين لو كانوا على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لطالبوه بطرد السيدتين اللتين حضرتا بيعة العقبة الكبرى، وقالوا له: ما للنساء وهذه الشئون.؟! ولو كانوا موجودين عند فتح مكة لقالوا له: حسبك بيعة الرجال، وهم يعلمون نساءهم! أما استخراج النساء للبيعة فقد يكون سببا فى غرورهن وجرأتهن! بل أعتقد أن هؤلاء العلماء ـ على المجاز لا على الحقيقة ـ لو كانوا مع نبى الله سليمان وهو يكتب خطابه لبلقيس (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين)، لقالوا له: عدل هذه الصيغة فإنها تعترف بتوليها منصب الملك، اكتب بعزلها أولا ثم تفاهم مع الرجال وحدهم! هذه العقلية المختلة فرضت نفسها طويلا على دين الله، وبعد أن أعانت(1/131)
أقدار حسنة على زلزلة سلطانهم رأيناهم يستميتون فى إحراج المرأة المسلمة وتعكير مستقبلها بفتاوى مكذوبة على الإسلام. ص _135
سمعت فى برنامج مذاع هذا الحوار بين صاحب البرنامج والمفتى المستضاف: ما رأيكم فى اختلاط الرجال والنساء؟ وهل تجوز الخلوة؟ قال المفتى: الخلوة مرفوضة شرعا، لحديث لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.. والاختلاط الشائع الآن فى بعض المجتمعات مرفوض لخروجه على الآداب الإسلامية.. وسرتنى الإجابة لدقتها وصدقها، وأغرانى ذلك بمتابعة السماع. سئل المفتى: فهل تجوز الخلوة بامرأتين؟ فأجاب: إننى ألحق الاثنتين بالواحدة، وأرى أن الحرج ينتفى كلما زاد العدد! ولم أر بأسا فيما قيل، والحفاظ على الأعراض مطلوب..! وعاد السائل يقول للمفتى: ما معنى رفع الحرج كلما زاد العدد؟ وأجابه الرجل فى هدوء: الإمام فى المسجد، والأستاذ فى المدرسة، لا يعتبر أيهما مختليا بالأعداد الكبيرة الذاهبة إلى المسجد أو المدرسة!! وهنا انقلب السائل إلى مصحح ومرشد فقال للمفتى: لا، ما يجوز أن يراهن هذا ولا ذاك إلا وعلى وجههن النقاب!! قال لى صديق يسمع الحوار: هذا مذهب أحمد بن حنبل، ويظهر أن المفتى لا يعرفه! قلت: قرأت فى المغنى لابن قدامة أن أحمد رضى الله عنه قبل حديث أسماء أن المرأة إذا بلغت المحيض لا يحل أن يرى منها إلا هذا وهذان، يعنى الوجه والكفين. وقرأت فى المبدع فى الجزء السابع فى باب النكاح أنهم ـ يعنى الحنابلة ـ متفقون على أن وجه المرأة ليس بعورة !! إن مذهب أحمد مظلوم فى هذه القضية، وهؤلاء المتحدثون جهلة بفقه الإسلام فى الموضوع كله. والغريب أنهم صدروا هذا الكلام إلينا، ومعه كلام آخر أن الأرض لا تدور، وأن علم الجغرافيا زائغ، وراج هذا اللغو للأسف بين طلابنا فكان نكبة أصابت النهضة الإسلامية إصابة فادحة. قال: هل يعجبك الاختلاط الشائع المستورد من الغرب؟ قلت كلا، وأنا أعلم عن ص _136(1/132)
مآسى الانحلال الجنسى الكثير فى أوربا وأمريكا. إننى لا أستبدل بتقاليد الإسلام تقاليد الغرب، ولكنى أستلفت النظر إلى أن الفكر الدينى الجهول لن يقدم الحل البديل ما دام يعمى عن حقائق الإسلام، ويريد أن يفرض غباءه ـ باسم الله ـ على عباد الله. إن نتيجة هذا الخبال هى هزيمة الإسلام وانتصار الفسق الاستعمارى عليه.. فى سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأينا عجبا يوم حنين. لقد انهزم الطلقاء، وأسلموا سيقانهم للريح، وثبتت مع المؤمنين الراسخين بضعة نسوة قاتلن بشرف وبسالة، ودافعن عن نبيهن أشرف دفاع.. ورآهن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهن كالآساد حوله. واقترحت أم سليم ـ بعد انتهاء المعركة ـ أن يقتل الرسول الفارين، ولكن الرسول عفا. قال المقريزى يصف قتال النساء فى معركة حنين: "وكانت أم عمارة فى يدها سيف صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها، وهى يومئذ حامل بعبد الله بن أبى طلحة. وكانت أم سليط ، وأم الحارث ـ حين انهزم الناس ـ تقاتلان. وأم عمارة تصيح بالأنصار: أية عادة هذه!! ما لكم وللفرار!! وشدت على رجل من هوازن فقتلته وأخذت سيفه. ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم مصلت السيف بيده، وقد طرح غمده ينادى: يا أصحاب سورة البقرة! فكر المسلمون وجعلوا يقولون: يا بنى عبد الرحمن! يا بنى عبد الله! يا بنى عبيد الله! يا خيل الله. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سمى خيله خيل الله. وأم سليم بنت ملحان تقول: لا يا رسول الله ما رأيت هؤلاء الذين أسلموا وفروا عنك وخذلوك. لا تعف عنهم إذا أمكنك الله منهم، نقتلهم كما نقتل هؤلاء المشركين. فقال: يا أم سليم. قد كفى الله، عافية الله أوسع " . ولننظر فى أدب وتوقير إلى امرأة ألبسها الله تاج الإيمان والكرامة، حضرت معركة أحد وأبلت بلاغ حسنا، وفقدت فى هذه المعركة ابنها وزوجها وأخاها. وبقيت على فداحة مصابها راسخة الإيمان، محبة لله ورسوله، تقول بعد ما نجى الله رسوله(1/133)
من القتل بأيدى الكفار: كل مصيبة بعده جلل ـ تعنى تافهة. ص _137
خرج زوجها عمرو بن الجموح، وكان أعرج، واتجه إلى أحد وهو يقول: اللهم لا تردنى إلى أهلى خزيان، وارزقنى الشهادة! وقتل البطل المؤمن وهو يرد غارة الشرك على الموحدين، وأجاب الله دعوته!! وكان قد قتل من قبل أخوها عبد الله بن حرام ـ والد الصحابى الراوية جابر بن عبد الله، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهند زوجة عمرو بن الجموح: " إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح، يا هند مازالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن؟ ". ثم مكث رسول الله حتى قبر الشهداء، ثم قال : يا هند قد ترافقوا فى الجنة، عمرو ابن الجموح، وابنك خلاد، وأخوك عبد الله!! قالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى معهم قال المقريزى: وكانت أم عمارة نسيبة بنت كعب قد شهدت أحدا هى وزوجها وابنها، ومعها شن لتسقى الجرحى ـ قربة قديمة ـ فقاتلت وأبلت بلاء حسنا يومئذ ـ وهى حاجزة ثوبها على وسطها ـ حتى جرحت اثنى عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، وذلك لأنها كانت بين يدى رسول الله وابناها عبد الله وحبيب ابنا زيد ابن عاصم من زوج آخر غير زوجها غزية بن عمرو الذى حضر معها هذه المعركة. فلما انهزم المسلمون فى أحد جعلت هى تباشر القتال (!) وتذب عن رسول الله بالسيف، وترمى بالقوس. ولما أقبل ابن قميئة عليه اللعنة يريد قتل رسول الله، كانت فيمن اعترض له (!) فضربها على عاتقها ضربة صار لها فيما بعد غور أجوف فى كتفها، وضربته هى ضربات، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان، وقال: ما التفتُّ يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دونى"! وقال لابنها عبد الله : " بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان! ومقام ربيبك ـ يعنى زوج أمه ـ خير من مقام فلان وفلان، ومقامك(1/134)
خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل بيت "! فقالت أم عمارة: ادع الله أن نرافقك فى الجنة! قال: اللهم اجعلهم رفقائى فى الجنة. قالت: ما أبالى ما أصابنى من الدنيا.. ولست بهذا النقل أدعو إلى تجنيد النساء ليشاركن فى القتال، كلا، فلدينا ألوف وألوف من ذوى اللحى والشوارب يجب أن ينهضوا بواجبهم، فإذا فنوا خلفهم النساء ص _138
وإنما أتساءل: أين التقاليد التى مكنت النساء قديما من إحراز هذا الشرف؟ فكن فى معارك الإسلام الكبرى بطلات وأمهات وزوجات أبطال؟ لقد اختفت هذه التقاليد لتحل محلها تقاليد أخرى، أساسها أن المرأة متعة فى البيت لفحل يغدو عليها ويروح.. وحسب. ولا صلة لها بعلم ولا عبادة ولا جهاد ولا إصلاح..!! ومن دعا إلى شىء من هذا أسرعت الرمم القديرة على الثرثرة إلى اتهام دينه ومروءته، ثم زعمت أنها تفعل ذلك باسم الإسلام. لا تقاليد الشرق المجحفة تعجبنى، ولا تقاليد الغرب المسرفة تسرنى.. الغرب غلبته نزعات حيوانية أزرت بالرقى الثقافى للمرأة. والشرق غلبته نزعات أنانية كادت تودى بإنسانية المرأة.. ويوم يرزق الإسلام فقهاء أحسنوا درسه وعرضه، فسوف ينجح المجتمع كله فى تصحيح أوضاعه المائلة. ولقد أنشأ الأستاذ الإمام قسما للأخوات المسلمات، رأسته أخيرا السيدة زينب الغزالى الجبيلى، التى جاهدت جهادا صادقا فى بناء نهضة إسلامية واعية.. ومع ذلك، فإن الكارهين للسفور مع كمال الحشمة لم ينقطع لهم لغوا! ويجب أن تمضى القافلة غير آبهة لهؤلاء البله!! هل قاتل أولئك النسوة من وراء نقاب؟ ورأيت فى كتب السنة طرفة تستحق التسجيل. فقد اختير لإمامة المصلين شاب حدث فقير، ويظهر أنه كان فى ثوبه قصر لم يلتفت إلى نتائجه، فكان إذا سجد ربما انكشف شىء من مؤخرته.. ولم يعجب إحدى المصليات هذا الوضع فقالت بصوت عال : واروا عنا سوأة إمامكم!! والمعروف أن النساء يصلين خلف الصفوف، فهل لمحت المرأة ما لمحت من وراء نقاب ! ص _139(1/135)
إن الحجاب الذى ورد فى الإسلام هو تنظيم للتردد على البيت النبوى بعد ما لوحظ أن البعض يجلس دون سبب، وبعد ما لوحظ أن أحد أجلاف البدو قال فى صفاقة غريبة: لو مات محمد تزوجت فلانة من نسائه! فلم يكن بد من تشريع صارم يمنع هذه الهنات، ويقمع أصحاب هذه التطلعات. أما الاستئذان فى البيوت الإسلامية كلها، فله نظام شرحته سورة النور، كما شرحت السورة ما يؤذن فى رؤيته من الزينة الظاهرة، وما يحظر وراء ذلك، ولا مكان للخلط. وفى العلاقة بين أجهزة الحكم وجماهير المسلمين، وقعت فوضى رهيبة عند تفسير أحكام الشريعة الغراء، حتى كادت الحقيقة العقلية لكلمة "الشورى" تتلاشى. وذكر الذاكرون اسما " لأهل الحل والعقد " بحثنا عن مفهومه فلم نجده إلا مع الغول والعنقاء والخل الوفى!! وأوجد الحكم الفردى فقها ليس له أصل دينى قائم، وفقهاء لا يستحقون ذرة من ثقة..!! وقد قرأت مشروع دستور وضعه واحد من هؤلاء، فرأيت "الخليفة" المنتظر يستمتع بسلطات دونها بمراحل سلطات القيصر الأحمر فى موسكو أو ساكن البيت الأبيض فى واشنطن. قلت: وثيقة تضم إلى غيرها من القمامات الفكرية فى حياتنا السياسية الغابرة والحاضرة على سواء!! إن القيمة الإنسانية لحكام العرب والمسلمين لا تحتاج فى تقويمها إلى ذكاء، فهم ـ إلا من عصم الله ـ اغتنوا من فقر على حساب شعوب بائسة، وغلوا فى الأرض بعد إشاعة الدمار العقلى والخلقى بين السواد الأعظم من الناس ويعلم سكان المشارق والمغارب أن الحكم عند المسلمين مغنم تتلمظ له أفواه، وأن الحاكمين ـ إلا من عصم ـ يختفون حتما فى أى انتخاب حر، كما يختفى الكابوس عند اليقظة. ومع ذلك فقد وجد فقهاء يفسرون الشورى بأنها لا تلزم الحاكم! ويرون أن أهل الحل والعقد ينبتون من تلقاء أنفسهم كما تنبت الذنيبة فى حقول الأرز، فهم نبات شيطانى لا يزرعه أحد... ص _1 ص 0(1/136)
هؤلاء يخدمون هدفا واحدا، أن الأمة قطيع يقوده حاكم فذ، له من أسباب الرغبة والرهبة ما يطوع له كل شئ. فهم باسم الإسلام يعطونه سيف المعز وذهبه.. وبديه أن الإسلام براء من هؤلاء المرتزقة، وأن فتاواهم وأفكارهم ليس وراءها فقه ولا إيمان... فى تقرير الحق وحده، واستبعاد الملابسات التى تضلل عنه، وتجاوز الأعراف التى تسيِّر العوام على غير هدى، يقول الإمام الشهيد: "العرف الخاطىء لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعانى المقصود بها اللفظ والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظى فى كلى نواحى الدنيا والدين، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء " . ص _1 ص 1(1/137)
الانحرافات النفسية والبدنية الإخلاص روح الدين، وآية الصدق؟ وسياج العمل، وضمان قبوله فى الدنيا والآخرة.. وهو عنصر نادر بين الناس، لأننا نقصد بالإخلاص تجريد القصد لله وحده، وابتغاء وجهه الكريم.. وأغلب الناس يدورون حول أنفسهم فيما يعملون أو يتركون، وينشدون مصالحهم الخاصة، أو منافعهم العاجلة. أساس الإخلاص ذكر الله، والتمهيد للقائه، وانتظار البشرى السارة عندما يقع هذا اللقاء تصديقا لقوله تبارك اسمه: ( واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين). ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخلص إنسان عرف الله، ودعاه، ودعا إليه.. وقد حدد موقفه من الدنيا فى هذا المبدأ: ما لى وللدنيا؟ ما أنا فى الدنيا إلا كرجل قال تحت ظل شجرة، ثم مضى لشأنه. وحدده لما شارط نساءه ألا يتطلعن إلى متاع الدنيا ما دمن عنده، وإلا فليذهبن إلى أهلهن (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما). وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا المسلك خالف اليهود الذين عبدوا الدنيا وحدها وجحدوا ما وراءها، وخالف الكهان الذين أكلوا أموال الناس بالباطل، ووعدوا الناس بنعيم الآخرة لينفردوا هم بنعيم الدنيا... ومع ذلك كله، فإن الإخلاص لله والتجرد للقيم الإسلامية قد يكثران فى القاعدة ولكنهما يقلان عند القمة! قد يكثران بين الكادحين والمحترفين ولكنهما يقلان بين مدمنى الحديث عن الدين وعلومه ومثله.. والفساد السياسى فى العالم الإسلامى يعتمد على رجال دين باعوا ذممهم للشيطان، ص _1 ص 2(1/138)
وهذا بلاء قديم حاربه الأئمة الواعون والدعاة الصادقون، فإن شهوة الملق عند شيخ منافق أوغل فى الفساد من شهوة الزنى عند شاب طائش... والآفات النفسية المهلكة معروفة لدى علماء التربية. ومن الإنصاف ألا نجعلها حكرا على الكبار، فقد رأيت فقراء متكبرين وأغنياء متواضعين! ورأيت رؤساء مخلصين وعوام مداهنين! ورأيت ناسا فى ساحات العمل للدنيا يستحقون الاحترام، وناسا آخرين يزحمون ساحات العمل الأخروى يستحقون الطرد إن القلب السليم هو المحور الفذ للقبول، والله وحده يعلم أين يكون.. وقد كنت أحسب أن التزوير أشيع فى ميدان التدين، ثم رأيت أنه فى ميدان السياسة بارز الآثار، فأدركت أن الأمر ليس أمر مقارنة بين ميدان وميدان وإنما هو معالجة لعلل القلوب، وتقليب لأغوار النفس الإنسانية حتى لا يهرب داء عن أيدى الأطباء.. كان علماؤنا الأوائل موفقين عندما قسموا المعاصى إلى معاصى قلوب ومعاصى جوارح، أو بتعبير معاصر: معاص بدنية ومعاص نفسية... إن المعاصى البدنية شهوات محدودة الخطر ـ على قبحها وسوء مغبتها ـ فالإسراف فى الطعام مثلا، يسلب المرء عفته. وربما كانت للبدن تطلعات أشد ضراوة، ومع ذلك فهى أدنى من جنون العظمة أو عبادة الذات التى تقود إلى الفرعنة وقسوة القلب وإهلاك الحرث والنسل فى سبيل المجد الشخصى!!. إن الشعوب دفعت الألوف المؤلفة من أرواح بنيها، والقناطير المقنطرة من كسبها وكدها، لتلبى طموح زعيم مغرور أو رئيس مغامر، مقل فى مواهبه الرفيعة مكثر فى مطامعه السيئة! ومعاصى القلوب، أو الرذائل النفسية تسيطر على أصحابها فلا يعرفون منها متابا، لأنهم لا يحسون دمامتها. وتأمل فى موقف إبليس بعد ما عصى الأمر بالسجود، لقد مضى فى تحديه يقول لله: أهذا آدم الذى فضلته على؟ (أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا). والاغترار بالنفس أو الدوران حول الذات لا يبدو فى طلب الرياسة بالأساليب القذرة وحسب،(1/139)
كلا، إنه قد يبدو فى تنقص رجل معروف أو اعتناق رأى شاذ، أو ص _1 ص 3
المكابرة فى حوار، أو ما شابه ذلك من مواقف لأناس يعملون فى الميدان الدينى أو الميدان المدنى على سواء.. وقد ورد أن هؤلاء أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). وفى ميدان التدين، تعتبر الطاعات التى يقوم بها هؤلاء ستارا لنيات مغشوشة أو ترجمة معكوسة لما يكمن فى عقولهم الباطنة.. روى التاريخ أن أمية بن أبى الصلت كان فى الجاهلية كثير الثناء على الله والدعاء إلى وحدانيته، فلما ظهر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من أول الكافرين به! والرافضين رسالته! لم يا رجل تكفر به؟ إنه يثنى على الله بألفاظ أعذب مما كنت تقول، ويودع فى السرائر شعورا غامرا بمجده، فما يصرفك عنه؟ الواقع أن الحسد أكل ضمير أمية وكشف القناع عن إيمانه المزعوم. لقد كان يؤمن بنفسه لا بربه، ويذكر باسمه فى الجاهلية ليذكره الناس على أنه الرائد العبقرى لدعوة التوحيد. وسمع من أهل الكتاب أن نبيا سوف يبعث فتطلع إلى منصب النبوة، ورشح نفسه لذلك بأبيات من الشعر معتقدا أنها ستعطف عليه القلوب وترغم السماء على اختياره! فلما ترامى إليه أن الله اصطفى محمدا غضب من الله؟ وحارب مصطفاه، وندم على قصائده التى صاغها فى حمده..!! هذا تدين مدخول لا قيمة له. والغريب أن نماذج من أمية بن أبى الصلت تزحم ميادين العمل الدينى، وتلحق به أفدح الخسار. خذ مثلا هذا الكذوب الذى قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدما قسم بعض الغنائم على الناس ـ اعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فتغير وجه النبى لهذا التطاول، وقال للرجل: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل! إننا لا نستلفت النظر إلى سوء أدب هذا المرء، فهو ظاهر، وإنما نستلفت إلى ما وراء هذا السفه من استطالة وشموخ، فالذى يعلم الزعماء لابد أن يكون أعظم(1/140)
منهم، والذى يتهم سلوكهم لابد أن يكون أنزه وأزكى! وذلك ما يريد المعترض أن يبرز فيه وأن يتزكى به، كأنه يقول لمعلم القيم: أنت لا تدرى فاسمع منى. ص _1 ص ص
ولعله يعود بعد ذلك إلى أهله ليقول فى كبرياء: لقد ألقيت على محمد درسا يستحقه ! وهذا الغبى لو كان طالب حق لسأل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أسباب التفاوت فى الأعطية، وسيسمع الإجابة: إنى أعطى الرجل ـ وغيره أحب إلى ـ مخافة أن يكبه الله فى النار. إنى أعطى قوما أتألفهم وأكل آخرين إلى ما فى قلوبهم من إيمان. إن بعض الناس يقاد من بطنه فهو يلقى إليه طعاما، والبعض الآخر يقاد من عقله فحسبه معه الآيات وروابط القلوب ولقد عرض عمر أن يقتل هذا المنافق المتطاول، ولكن الرسول أبى، واكتفى بوصف دقيق لهذا الصنف من الناس كى يحذره المؤمنون.. إنهم ناس سيطرت عليهم علل نفسية خبيثة، وبدل أن يستشفوا منها استبقوها وستروها بمزيد من الهمهمة والركوع والسجود. وعندما يكون المرء بخيلا مثلا، فعلاج شحه أن يتعلم الكرم ويتعوده فيصبح على مر الأيام إنسانا طبيعيا، أما أن يلجأ إلى الصلاة الطويلة كى تخفى نقيصته فذاك لا يجديه، وسيبقى بخيلا ولو صلى آناء الليل وأطراف النهار.. وهؤلاء المرضى بالشذوذ والحقد يكثرون من التلاوة وصور العبادة، وينتهزون الفرص التى تتنفس فيها طباعهم فيضربون ضربتهم، وقد كانوا كثرا فى جيش على بن أبى طالب، ولكنهم شغلوا عليا عن هدفه حتى انهزم، وكانت صيحتهم لا حكم إلا لله! وكان تعليق على: "كلمة حق أريد بها باطل " إن المتدينين من هذا الصنف الغاش بلاء على الدين، وعقبة أمام امتداده. كان ابن عمر يراهم شرار الخلق، وقال: "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت فى الكفار فجعلوها على المؤمنين "! وذلك لرداءة فقههم وعوج منطقهم! وفى التنبيه إلى غائبهم فى فهم النصوص وسوء تطبيقهم لأحكامها جاء الحديث عن على رضى الله عنه: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "(1/141)
سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". ص _1 ص 5
أى لا يعلق بخلقهم وعملهم شىء من لب الدين إنما هى صور عبادة، وصوت قراءة، إلى جانب فظاظة فى الأخلاق، وقساوة فى الأفئدة وقباحة فى الأعمال!! وليس هذا من الدين فى قليل ولا كثير... قلوب قاسية: قسوة القلب وعماه لعنة إلهية تهبط على رءوس الناقضين للمواثيق، المارقين من التقوى، اللاعبين بالإيمان. قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية).. ومظهر القسوة فى سلوكهم اعتداد بالشخصية لا يعرف التواضع، وميل إلى اتهام الغير لا يقبل العذر، وفرح بافتضاح المخطئين ملىء بالشماتة! وتلك كلها خلال تنافى الإيمان، فالإيمان إنكار للذات، وحب للغير، وستر على المخطئ، وسعى لإقالته من عثرته، وسرور غامر بتوبته. الإيمان سعادة بالرخاء يشيع بين الناس، وألم للكوارث التى يقطب لها الجبين، ولو كان هذا أو ذاك خبرا ينقل لا علاقة لشخصك به.. لقد عنانى أمر العلل النفسية أو معاصى القلوب لأنى اكتويت بنارها، ورأيت من أدعياء التدين ما يدعو للجزع.. اتهمنى أحد الناس بإنكار السنة! قلت: ويحك! ما تقول؟ قال: رفضت حديث مسلم فى تعذيب "عبد الله " والد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ! قلت: ثم ماذا؟ قال: ورفضت حديث البخارى فى المعراج الذى يقول : دنا الجبار فتدلى، وقلت: الذى دنا الملك جبريل.. ثم ماذا؟ قال: ورفضت حديث البخارى أن الرسول أغار على بنى المصطلق وهم غارون بحجة أن إعلان الحرب لم تسبقه دعوة إلى الإسلام، مع أن الحديث نص على أن الدعوة ألغيت، وأن الحرب تعلن دون دعوة.. ثم ماذا؟ قال: وأنكرت حديث أنس "ما من يوم يجىء إلا والذى يليه شر منه"، وهو من رواية البخارى.. قلت: أبقى لديك شىء؟ قال: لا وماذا بعد هذه التهم التى تكشف حقيقتك، وتسقط مكانتك؟ ص _1 ص 6(1/142)
قلت: إن لى من ستر الله ما يحمينى إن شاء الله وعليك ـ أنت وأمثالك ـ من خذلان الله ما يطفىء ناركم، ويقى الناس أحقادكم.. لقد ذكرت تهمة كبيرة، ولم تجىء عليها بدليل.. إن رد حديث ما لعلة فيه، أو لدليل آخر من الكتاب والسنة لا يسمى تكذيبا للسنة. إنه دفاع عن السنة وتصحيح للتراث، سبق إليه جمهور الأئمة، ولا أطيل بعرض الأمثلة، وإنما أكتفى برد ما قلته عنى! أما حديث مسلم فى تعذيب أبى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد رجحنا عليه الآية (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقد روى مسلم أن صلاة السفر ركعتان وصلاة الخوف واحدة! وذهب الجمهور إلى غير ذلك، فرأى أن صلاة الخوف ركعتان فى الرباعية والصبح، وثلاث فى المغرب، مرجعا السنن الأخرى إلى الآية.. ولم يتهم الذين ردوا حديث الركعة الواحدة بشىء!! أما القول بأن الذى دنا وتدلى هو الله ـ سبحانه ـ فإن ذلك خلط من الراوى "شريك عن أنس بن مالك "، وقد تعقب العلماء البخارى فى هذه الرواية وردوها ولم يتهم أحدهم بشيء.. وأما القول بأنه لا دعوة إلى الإسلام قبل إعلان الحرب فرأى منكر، توهمه أحد الرواة وليس من قول الرسول. وقد صحت الأحاديث والتطبيقات الإسلامية بضرورة الدعوة قبل القتال. من أجل ذلك قلنا: إن حديث البخارى يجىء فى المرحلة الأخيرة من المعركة، ولا يصح سوقه فى وصف الدور الأول منها. وأخيرا حديث أنس "لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه " . لقد رجحنا عليه حديث: "مثل أمتى كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أم آخره " ، وحديث: "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من عاداهم حتى يأتى أمر الله " ، وسنن كثيرة.. وأريد أن أسأل: ما غرامكم فى القول بأن الأمة الإسلامية فى هبوط مستمر، وأن كل يوم يجد يقربها إلى الهاوية؟ وما غرامكم فى القول بأن المحاربين المسلمين قطاع طريق يغيرون على الناس فيأخذونهم على غرة؟ وما غرامكم فى القول بأن الله هو ص _1 ص 7(1/143)
الذى نزل بالوحى على نبيه لا جبريل؟ وما غرامكم فى ملء المجالس بأن والد محمد فى النار؟! إنكم فى الفقه أصفار! لا فى العير ولا فى النفير. وهذا الجهل مقبحة محدودة، أما المقبحة التى لا تحد فهى اشتهاؤكم لذم الناس، والتماس العيب للأبرياء. إنكم تطلقون كالزنانير الهائجة تلسعون هذا وذاك باسم الحديث النبوى والدفاع عن السنة! ونحن نعرف أن آباءكم قتلوا عليا باسم الدفاع عن الوحدة الإسلامية، وقتلوا عثمان باسم الدفاع عن النزاهة الإسلامية، وقتلوا عمر باسم الدفاع عن العدالة الإسلامية، فيا أولاد الأفاعى إلى متى تتسترون بالإسلام لضرب الرجال الذين يعيشون له ويجاهدون لنصرته؟! ولحساب من تكنون هذه الضغائن عليهم، وتسعون جاهدين للإيقاع بهم وتحريش السلطات عليهم ..؟! فى عصرنا هذا نبغ كثير من الصحافيين والإعلاميين فى دراسة النفس البشرية والغوص وراء أسباب السلوك ووصف الإنسان عاريا عن الحجب أو التزاويق التى يستخفى وراءها.. وقل أو انعدم التعويل على المجادلات اللفظية أو أخذ الطريق على الخصوم بالصياح المفتعل.. إن كثيرا من الخصومات الفكرية القديمة فى علم الكلام كان مظهرا للعلل النفسية أكثر مما هو لخدمة الإسلام.. وقد رأيت ناسا من هذا الصنف يعملون فى الميدان الدينى، نجحوا فى الهدم ولم ينجحوا فى البناء، وقطعوا الطريق على أناس صالحين، وفشلوا فى إرشاد نفس حائرة. ذكرت هؤلاء المعلولين من الناس، وأنا أقرأ كلمة جيدة للأستاذ مصطفى أمين يقول فيها: "عرفت جبناء يخافون من أشباحهم ويرتعدون رعبا إذا رأوا فأرا يجلس على كرسى، وتسيب مفاصلهم أمام غضب عمدة أو تهديد مأمور! ص _1 ص 8(1/144)
وعرفت شجعانا تطول قامتهم أمام العواصف. يثبتون فى مواجهة الأعاصير. يذهبون إلى الموت وكأنهم يذهبون إلى حفلة شاى! وكنت ألاحظ دائما أن الجبان لا يؤمن إلا بنفسه. إلهه فى داخله. يتعبد له ويصلى له ولا يشرك به أبدا. ولهذا فهو خائف على رزقه، وخائف على وظيفته، وخائف على حياته. يعيش طوال حياته خائفا، من كل شىء، لا يطمئن إلى شىء ولا يثق بشىء. ولهذا فهو يرى الجبن هو المخبأ الذى يتحصن فيه من أخطار الحياة! ولم أر فى حياتى جبانا وصل إلى المقدمة. لابد أن يتعلق بذيل صاحب سلطة، أو صاحب جاه. وهو ليست لديه الشجاعة أن يتقدم خطوة، فهو إذا قدم ساقا أخر ساقا، ولهذا يبقى فى مكانه طويلا، وإذا دفعته الأيام إلى الأمام عاش صغيرا فى المكان الكبير، وتصرف كما يتصرف الصغار. يدس ولا يواجه. يضرب من الخلف ولا يقاتل من أمام. يهمس ولا يرفع صوتا. لأنه أجبن من أن يعلن رأيه. وهو فى أغلب الأحيان لا رأى له فهو يقبل على الشمس إذا أشرقت ويدير لها ظهره إذا غربت. وخوفه يجعله يتضاءل. ويرى خصومه يكبرون ويتعاظمون. ولو كان شجاعا لرأى الناس بأحجامهم الحقيقية. وهو له قامة تساوى قامة الناس، ولكن فى داخله دودة الجبن التى تجعله يحس أنه دودة صغيرة، ولهذا يتضاءل ويصغر وينكمش... والشجاع لا يخاف إلا الله. إذا حارب حارب فى النور، وإذا آمن برأى أعلنه ولم يكتمه، وإذا اعتنق عقيدة قاتل من أجلها. والذين فى قلوبهم الإيمان يشعرون بقوة هائلة، تقتحم الأهوال وتواجه الأعاصير وتحتمل المحن والخطوب. والإيمان يصنع من القزم عملاقا، والجبن يحول العملاق إلى قزم صغير! الإيمان يمنح الإنسان جيشا يحارب معه. والجبن يجرد الإنسان من كل سلاح، فيستسلم قبل أن يدخل المعركة، ويرفع الراية البيضاء عندما تطلق الرصاصة الأولى". إن أمراض القلوب شىء بالغ العفن، وهى بين المشتغلين بالقضايا الدينية قذى لا يطاق!! وقد تخصص هؤلاء فى الشؤون الخيالية، والنواحى الجانبية. أما(1/145)
قضايا الأمة الكبرى فلا اكتراث بها. إن تزوير انتخابات واغتصاب إرادة الجماهير شىء لا يستحق التفكير الطويل! إن سرقة ثروة بلد وتبديدها فى ملذات فرد شىء لا يستحق التفكير الطويل! ص _1 ص 9
إذن ما الذى يستحق التفكير؟ وتحمل راية الجهاد من أجله؟ القول بنجاسة ريق الكلب وعرقه، القول بأن الكلب الأسود شيطان يقطع الصلاة، ولو كان هؤلاء الناس موجودين مع فتية أهل الكهف لاشتبكوا معهم فى معركة حامية لماذا يصحبون معهم كلبا؟! ولا يزعجنا شىء كانتقال هذه الغباوة إلى بعض المتعلمين فى شتى العواصم! مزيج من الجهالة والكبرياء أساسه الانشغال بلا شىء والذهول عن أهم شىء. وهؤلاء المرضى المعتوهون يفهمون فى المرويات فهما ما، ثم يقولون: هذا هو النص! ما نراه نحن هو رأى الله ورسوله، أى حكم الله ورسوله! ومعنى ذلك أنك حين تقاومهم تقاوم الإسلام نفسه وتحارب الله ورسوله. وهذا هو البلاء المبين.. ونقول جادين: إن الإسلام لن يحكم، ولا يجوز أن يحكم إذا كان أولئك العميان قادة قافلته والمتحدثين باسمه، فإن أمراضهم النفسية والفكرية تمحق دين الله ودنيا الناس على سواء.. الإسلام نور وهؤلاء ظلمة، إنه طهر وهؤلاء قذى!! إن المسلم الحقيقى رجل سوى التكوين الفكرى والخلقى، معافى من الأدواء التى تجر التخلف والانحلال. وفى هذا المعنى يقول الإمام الشهيد: "العقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال فى كليهما مطلوب شرعا، وإن اختلفت مرتبتا الطلب " . *** ص _150(1/146)
المستوى الثقافى للأمة الإسلامية من خصائص الإسلام الأولى أنه دين يقوم على العقل، ويحترم منطقه، ويبنى الإيمان على التفكير الصائب والنظر العميق.. والتوافق بين صريح المعقول وصحيح المنقول أمر مقرر فى ثقافتنا التقليدية على اختلاف مدارسها. وكما يقول العقاد: التفكير فريضة إسلامية... ودعوة القرآن الكريم إلى النظر مطلقة لا يحدها حد ما دام ذلك النظر ممكنا، وما دام يؤدى إلى نتيجة صحيحة: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء).. إن دائرة النظر رحبة تستوعب كل شىء ولا قيد عليها إلا ما ينفى الخطأ ويضمن اليقين.. كان يستلفتنى ـ وأنا أتدبر القرآن ـ هذا التعانق بين الفكر والشعور أو بين العقل والعاطفة أو بين الإيمان والسلوك! خذ مثلا هذه الآية الكريمة : (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور). هذه سفن تشق عباب الموج حاملة أثقالا من السلع والمعادن والمؤن ينتظرها الناس من شاطىء لشاطىء، ألا يحتفى بهذا الفضل؟ ألا يشكر سائق هذه النعماء؟ ألا يورث ذلك إيمانا حسنا يلقى السراء بالشكر والضراء بالصبر؟ إن سير السفن فى الماء، أو فى الهواء، حافلة بالقناطير المقنطرة من الخيرات التى كرم الله بها بنى آدم، شىء يدل على القدرة العليا أولا، وعلى الفضل الأعلى أخيرا، فلم لا يكترث الناس لذلك ويعرفون صاحبه ويستكينون لحكمه ويحسنون الإيمان به؟ وقد أحصيت فى القرآن الكريم "أولى الألباب " فوجدتها تكررت خمس عشرة مرة. وأولو الألباب هم أصحاب العقول، كأن العقل هو لب المرء وما عداه قشر.. ص _151(1/147)
ولسنا هنا بصدد شرح الكلمة فى المواطن التى جاءت فيها، ولكننا ننبه إلى أمر خطير: أن العقل مناط التكليف، وأن الذكاء أساس الوعى، وأن الدين لا يكمل مع القصور فى العقل والقلة فى الذكاء، وأنه لابد من ملكات إنسانية رفيعة لكى تعرف الله وهديه، وتفقه توجيهه ووحيه. وأن الهمل قد يسقطون دون مستوى الخطاب، وأن الشعوب البلهاء قد تشد الدين نفسه إلى أسفل، بدل أن يصعد بها إلى أعلى! وهنا الطامة. العقل أثمن ما وهبه الله لعباده وهو لا يولد تاما ناضجا، وإنما يتم وينضج بوسائل شتى تعالج بها معادن الرجال والنساء، فإذا لم تتوافر تلك الوسائل كان التخلف والقصور، واختفى أو ندر أولو الألباب الذين يقدرون على الإفادة من الدين.. نعم، إن الإزراء على الدين كثيرا ما يقع لسوء الحكم ـ أعنى الاستنتاج ـ أو لعوج الفهم، وذاك ما جعل أبا العلاء يتشاءم ويغرق عندما يقول: اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر دين لا عقل له ويحزننى أن أذكر هنا أن أعدادا كثيفة من المنتمين إلى الدين فقيرة إلى سعة الإدراك والنفاذ إلى الأعماق، وعمل هؤلاء فى ميادين الدعوة يضر أكثر مما ينفع.. وقد أجمعت الأمم على أن تصحيح العقل وترشيد حكمه لابد فيه من مراحل تعليمية ابتدائية ومتوسطة وعالية قد تستغرق بضعة عشر عاما.. ثم إن المعارف المستفادة صنوف شتى، فهناك علوم الكون والحياة، وأسرة العلوم الرياضية، وأسرة العلوم الإنسانية.. والمسلم إنسان يضم إلى معرفة كل نافع من شئون الدنيا معرفة أخرى جليلة القدر غزيرة الأجر: كتاب ربه وهدى نبيه.. وهذا النوع من الثقافة الدينية يصور فلسفته فى الحياة ومنهجه الفذ بين المناهج التى اختطتها جماهير الناس.. وعندى أن علماء الإسلام يجب أن تكون لهم أقدام راسخة فى كل مجالات المعرفة، وأن تكون إحاطتهم بالمذاهب الجائرة أكثر من إحاطة أهلها.. ومنزلة علوم الكون والحياة فى إنجاح الجهاد الإسلامى لا ريب فيها، ومن أجل ذلك فإن التفوق فيها(1/148)
أولى من معرفة فروع شتى فى فقه العبادات والمعاملات! إن صيانة الأصل أرجح و أهم.. ص _152
وهناك أنواع من العلم ليس أحد أولى بها من أحد، لماذا نتركها لغيرنا ولا نجود نحن فيها أو ننقلها إلى ربوعنا؟ إنه لا حرج على المسلمين لو ساحوا فى أرجاء القارات، واطلعوا على أحوال الخلائق وراقبوا أحوال الشعوب والحكومات، ثم انتقوا مما يرون الأساليب الإدارية والنظم الحضارية التى تخدم مثلهم وتحقق أهدافهم... وأرى أن ذلك أوجب بعدما تعفنت الأوضاع السياسية والاقتصادية لدينا فى عصور الجمود والتخلف. تلك العصور التى غلبت على تاريخنا وأوهنت كياننا ثم أسقطت خلافتنا ومزقتنا كل ممزق. مصارحة: وأجدنى قد بلغت فى الحديث مرحلة توجب المصارحة، فإن النفاق فى محاسبة النفس لا يحدث توبة للفرد ولا نهضة للجماعة! لقد سلخ الإسلام من عمره المديد أربعة عشر قرنا، وبلغ مرحلة فى يومه هذا توجب على أولى الألباب أن يتوقفوا ويتساءلوا: ماذا عرانا؟ وكيف الخلاص؟ أجل، ما الأحوال داخل دار الإسلام، ووراء حدودها المترامية بعد هذه الرحلة الشاقة؟ إننا نوقن أننا على الحق! الله واحد لا شريك له! أين هذا الشريك إن وجد؟ محمد حق! إنه على قمم البشرية طيبة نفس، وإشراق عبادة، وسناء خلق، ونزاهة جهاد! وإذا لم يكن محمد رسولا يجيد تعريف الناس بربهم واقتيادهم إليه بالأسوة الحسنة فمن ـ من الأولين والآخرين ـ يصلح لاصطفاء السماء وإمامة الخلائق؟! إن المغفلين الذين خدعتهم أجهزة الزور يحسبون أننا نتبع محمدا عن تقليد ساذج! إن بقاءنا على الإسلام هو تقديرنا للحقيقة مهما أحاط بها من ملابسات رديئة... والآن بعد هذا التوكيد لصلتنا بديننا أسأل نفسى وقومى: أكنا أوفياء لهذا الدين خلال الأعصار الماضية؟ أكنا عند أمره ونهيه عندما جاءت القرون الأخيرة فإذا قوى الشر تجتاح الحدود وتستبيح البيضة وتقتحم عقر الدار..؟ ص _153(1/149)
لقد كان النظام الإسلامى أشبه بسكران يترنح ذات اليمين وذات اليسار، يسقط حينا ثم يقوم من الوحل معفرا بالأقذار فلا يتقدم خطوة إلا تراجع خطوات، مثيرا للضحك حينا وللاشمئزاز أحيانا..! ما عملنا بديننا فى الداخل، ولا شرفنا سمعته أو دعونا إليه فى الخارج! ويجئ سؤال آخر: ماذا كانت عليه أحوال غيرنا؟ لقد انطلق وراء عقله يشق الطريق ببأس شديد، ويحطم الخرافات الدينية التى آدته دهرا، وثابر على أعباء الرقى حتى بلغ فى خمسة قرون مكانة غزا فيها الفضاء بعدما كاد يملك ناصية الأرض! وجاءته النصرانية معتذرة عن موقفها منه وعرضت عليه خدماتها، فقبل العذر، وصالحها على خدمة هواه. وواجهنا نحن موقفا شديد التعقيد، كنا فى السفح وهو فى القمة، كانت طاعتنا لله تتمثل فى عبادات مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، أو فى عبادات تافهة كبرناها ألف مرة عن حجمها الحقيقى لتملأ الفراغ النفسى والاجتماعى الناشئ عن غيبة الدين الحق..!! فلما تلاقى الجمعان صرنا هباء وصرنا سدى!! إننا ـ نحن المسلمين والعرب ـ خنا ديننا خيانة فاحشة، فلم نحسن النظر فى شىء مع صراخ الوحى حولنا ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) وكانت النتيجة أن جاء من وراء الحدود ـ حدود دار الإسلام ـ من استخرج النفط من أرضنا، ومن أقام الجسور على أنهارنا، ومن صنع لنا حتى الإبرة التى نخيط بها ملابسنا... ما كنا نحسن من شئون الدنيا شيئا نسديه لأنفسنا أو ندعم به إيماننا! ولنترك ذلك، فإن أحدا لا يكابر فى هذا التخلف، ولا فى ضرورة الإفادة العملية ممن سبقونا فى آفاق الحضارة المنتصرة. ولننتقل إلى ميدان آخر.. لقد جأرت بالشكوى فى هذا الكتاب وفى كتب أخرى من تخلفنا الفقهى والعملى فى الشئون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن انحسار الفقه الإسلامى داخل حدود ضيقة إن تجاوزت بيوت الماء، فإلى ساحة المسجد، وقد تتدخل فى شئون الحارة أو القرية.. أما دواوين السلطة،(1/150)
ومشكلات المال، ومفاصل الحياة الحقيقية للمجتمع والدولة، فإن الفقه لا علاقة له بها.. ص _15 ص
ونتج عن ذلك أن الاستبداد السياسى غربد دون حذر، وأن الخلل الاقتصادى شاع دون علاج. وأن الأعصاب التى تشد الكيان الإسلامى استرخت ثم انقطعت، وتاه المسلمون بعضهم عن بعض. وأن الشخصية المعنوية للأمة الإسلامية ولرسالتها الكبرى تلاشت فى طول الدنيا وعرضها. الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها: ثم ازداد قتام المأساة الهائلة بوجود فقهاء ـ أعنى ناسا منسوبين إلى الفقه ـ يذرفون الدمع لأن التصوير الشمسى انتشر، أو لأن التلفزيون دخل كل بيت، وتقاسموا بالله لا يظهرون أبدا فى هذا الجهاز! فإذا حدثت هؤلاء أو حدثت من هو أنظف فكرا عن الدساتير التى تقيد الحاكمين والقوانين التى تطمئن العاملين، نظر إليك بغباوة هائلة، وأشعرك أنك تتحدث معه فى غير الإسلام. وتسمع بغاما بين هذه القطعان المنسوبة إلى الإسلام، أن الموسيقا حرام، وأن صوت المرأة عورة، وأن هذه القضايا هى مشكلات الساعة، بل هى ـ مع سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة ـ مشكلات الأزل والأبد!! وقد تجاوزنا هذا الهراء كله لنضع أمتنا على طريق النهوض الصحيح، واحتاج ذلك بداهة إلى دعم مؤسسات الشورى ونزع أنياب الاستبداد، وفرض رقابة صارمة على تداول المال بين الأيدى.. ولم يكن بد من الانتفاع من تجارب غيرنا لأن فقهنا المجمد من قرون لا يلبى الحاجات الطارئة.. وهنا وجد من يقول: لا نأخذ فكرا من أحدا! قلت: لا نستورد العقائد ولا الأخلاق، ولكن الخطط التى تخدم أهدافا مشتركة لا معنى لنبذها إذا كانت تفيدنا.. قالوا: ما تعنى؟ قلت: الظلم قبيح عند الناس كلهم، فإذا تحصنت أمة منه بطريقة حسنة فإن دينى لا يمنع نقل هذه الطريقة!! ص _155(1/151)
قالوا: وضح مقصدك فهو غامض. قلت : لقد رأيت فى أوربا وأمريكا دولا شتى تشرع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم، وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والأثرة والطغيان وكما قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فإذا وجدنا مجتمعات بشرية حصنت نفسها من هذه المآسى، فلماذا لا نقتدى بها أو نقتبس منها؟ فى تلك الطرائق المجربة خير نحن بحاجة إليه..!! قال لى البعض: هذا ما نخافه منك، إنك تستورد الإصلاح من منابع بعيدة عن ديننا وتراثنا، ونحن أغنياء عن مقترحاتك تلك..! قلت: تمنيت لو كانت غيرتك هذه فى موضعها. إننى معتز بدينى ولله الحمد، ولكن ليس من الاعتزاز بالدين أن أرفض الجهاد بالصواريخ والأقمار الصناعية لأنها بدعة. إن التفتح العقلى ضرورة ملحة لكل من يتحدث فى الفقه الإسلامى. إننا فى صمت نقلنا تسجيل كل مولود فى دفاتر خاصة، واستعنا بذلك على تحصينه من الأمراض، وإلحاقه بمراحل التعليم، واقتياده للجيش لكى يتم تدريبه وإعداده للقتال، وذاك إجراء نقلناه من دول أخرى دون حرج، فلماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التى قررها دينه؟ إن النقل والاقتباس فى شئون الدنيا، وفى المصالح المرسلة، وفى الوسائل الحسنة، ليس مباح فقط، بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب.. لقد رحبت بالصيحات التى تعلو بالإسلام وحده فما لنا غيره من دين، وانضممت بفؤادى وجوارحى إلى الذين يعادون الغزو الثقافى ويعترضون مساربه الجلية والخفية. ولعلى من أوائل الذين تصدوا لهذا الاستعمار الخبيث، وفضحوا خباياه. بيد أنى شعرت بجزع عندما رأيت بعض الناس يصف "الديمقراطية" بالكفر، فلما بحثت عما معه لكفالة الجماهير وكبح الاستبداد الفردى وجدت عبارات رجراجة يمكن إلقاؤها من منبر للوعظ! ورفضت هذه التهويمات، فقال لى أحد الأذكياء: لقد وضع الشيخ النبهانى دستورا على النحو الذى تريد! فقلت له على عجل: لقد قرأته،(1/152)
والفرق بينه وبين الدستور المدنى الذى حكم مصر من سنة 1923 إلى سنة 1953 بعيد بعيد. ص _156
إن هذا الدستور الموصوف بالإسلام يحقق من مبادئ الشورى وإحقاق الحق وإبطال الباطل وضمان الحريات والمصالح العامة 10 فى المائة.. أما الدستور المستورد المبادئ فهو يحقق 90 فى المائة من الأهداف الإسلامية. إنه لمما يثير الآلام أن عددا من المتدينين لم يزل يستقى ثقافته من كتابات ظهرت وشاعت أيام الاضمحلال الفكرى فى تاريخنا، أو أيام الموالاة للظلمة، أو على أحسن وصف أيام البعد عنهم والخروج بالصمت عن لا ونعم إننى عندما أدافع عن الحق لا أفضل العصا الوطنية على المدفع الأجنبى، فإن التعصب للجهل والقصور بلاهة وسخف وأعلن أن هواى أبدا مع كتاب الله وسنة رسوله. أما فكر الرجال بعد ذلك فلا قداسة لأحد. من أجل ذلك، شعرت بشىء من التوقف لما قال الأستاذ محمد قطب فى الجزء الثانى من كتاب التربية الإسلامية : " وكل الدعوات الزائفة التى تلتهم الناس فى الجاهلية ـ والشباب بصفة خاصة ـ لا اعتبار لها ولا وزن عند المسلم الذى يتربى على منهج التربية الإسلامية، لأنه يزنها بميزان الله ـ أعنى الإسلام ـ فلا يجدها ذات وزن! وحتى حين تتلبس هذه الدعوات بالإسلام فإنها لا تخدع المسلم الحق ـ أو لا ينبغى أن تخدعه ـ لأن كتاب الله يحمل إليه توعية كاملة فى هذا الشأن.. شأنه فى كل أمر من أمور الحياة الأساسية: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) والذين يقولون فى دعاواهم: نأخذ من الإسلام كذا، ومن الديمقراطية كذا، ومن الاشتراكية كذا.. ونظل مسلمين، يقول الله فى أمثالهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم(1/153)
القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون). وهكذا تنضبط مشاعر المسلم وعواطفه، وتنضبط حركته كذلك فى خضم التيارات ". ص _157
إننى مع احترامى الكبير للأخ الداعية المخلص محمد قطب، أرى أن هذا الكلام يحتاج إلى ضوابط. الديمقراطية مثلا ليست دينا يوضع فى صف الإسلام. إنها تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم ننظر إليه لنطالع كيف توافرت الكرامة الفردية للمؤيد والمعارض على سواء، وكيف شيدت أسوارا قانونية لمنع الفرد أن يطغى، ولتشجيع المخالف أن يقول بملء فمه: لا.. لا يخشى سجنا ولا اعتقالا.. إنها تنظيم سياسى لا يجعل إعلان الحروب مسلاة حاكم متفرعن يطلب المجد لشخصه، أو إنفاق المال العام هواية متلاف يطيع هواه، ولا يخشى حسابا.. إن ديننا يقول: "لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوى غير متعتع "، فكيف يتحول هذا الكلام النبيل إلى نصوص قانونية ملزمة تجعل رجل الشارع يقاضى ساكن البيت الأبيض؟ إن الاستبداد كان الغول الذى أكل ديننا ودنيانا، فهل يحرم على ناشدى الخير للمسلمين أن يقتبسوا بعض الإجراءات التى فعلتها الأمم الأخرى لما بليت بمثل ما ابتلينا به! إن الوسائل التى نخدم بها عقائدنا وفضائلنا هى جزء من الفكر الإنسانى العام لا علاقة له بالغاية المنشودة، وقد رأينا أصحاب الفلسفات المتناقضة يتناقلون الكثير فى هذا المجال دون حرج.. الحرج كله أن ندع ديننا، وأن نزهد فى أصوله وقيمه، إيثارا لوجهة أخرى مجلوبة من الشرق أو الغرب، ولذلك قلت فى كتابى "حصاد الغرور" ناعيا على المفتونين بالمذاهب الأخرى: هب أن ثورة قامت فى جنوب اليمن تجعل الحياة الصينية أو الروسية مثلها الأعلى، أتكون هذه الثورة نهضة إسلامية؟ أم تكون نجاحا للفكر الشيوعى العالمى؟! إنها انسلخت عن الإسلام وارتدت غيره يقينا، ووجودها نصر للشيوعية وهزيمة للإسلام. إن الشعوب الإسلامية لا تبدأ نهضة صحيحة، تكون امتدادا(1/154)
لتاريخها، وإبرازا لشخصيتها أو نماء لأصلها وتثبيتا لملامحها. إلا إذا جعلت الإسلام هدفها وسياجها.. ومن الغلط تصور أنى أحرم الاستفادة من تجارب الآخرين ومعارفهم!! كيف وهؤلاء الآخرون ما تقدموا إلا بما نقلوه عن أسلافنا من فكر وخلق ووعى وتجربة..؟! إن دولة الخلافة الراشدة اقتبست فى بناء النظام الإسلامى من مواريث الروم والفرس دون غضاضة.. ص _158
وعندما آكل أطعمة أجنبية أنا بحاجة إليها فالجسم الذى نما هو جسمى، والقوى التى انسابت فى أوصاله هى قواى!! المهم عندى أن أبقى أنا بمشخصاتى ومقوماتى!! المهم أن أبقى وتبقى فى كيانى جميع المبادئ التى أمثلها والتى ترتبط بى وأرتبط بها، لأنها رسالتى فى الحياة، ووظيفتى فى الأرض. هذا هو مقياس النهضة، وآية صدقها أو زيفها، فهل فى العالم الإسلامى نهضات جادة تجعل الإسلام الحنيف وجهتها والرسول الكريم أسوتها؟ نعم، توجد جماعات تسعى لذلك، ندعمها بكل ما أوتينا من قوة. إننا هنا شديدو الحرص على جعل البناء الجديد ينهض على هاتيك الدعائم.. وإذا كنا نستورد من الخارج ثمرات التقدم الصناعى، وننتفع من خبرات غيرنا فى آفاق الحياة العامة، فليكن ذلك فى إطار صلب من شرائعنا وشعائرنا.. العقل ومكانته: والعقل المستنير هو وحده الذى يبصر أدوات النجاح ويقربها، ويؤسفنى أنه عنصر نادر بين نفر من المشتغلين بالقضايا الإسلامية.. إنه ليس من العقل أن نغمض العين على مقابح الحكم الفردى عندنا وننظر بازدراء إلى الضمانات التى توافرت لصلاح الحكم فى بلاد أخرى. إنه ليس من العقل أن نجمد الجهاز الفقهى عندنا قرونا طويلة، ثم ننعى على الذين اجتهدوا وتصبب عرقهم وهم يضبطون سياسة الحكم والمال فى بلادهم.. إننا مكلفون أمام الله أن نخترع الوسائل التى نعلى بها شعائرنا، سواء هدى إليها غيرنا أم لم يهتد، فإذا فرطنا، وتقدم غيرنا فمن العجز أن ناع هذه الوسائل لأننا وصلنا إليها مسبوقين!! وهذه الوسائل المجلوبة ـ قلت(1/155)
أو كثرت ـ لا تخدم إلا مجموعة محدودة من شعب الإيمان السبعين، فلنشمر عن ساعد الجد ونخدم بقية الشعب بحماس مضاعف!! بيد أننا لا نحسن هذه الخدمة بالقصور العقلى ولا بالضحالة العلمية.. إن الإيمان بالله ـ وهو أصل الأصول ـ يقوم على يقظة الفكر لا خموله، وعلى رحابة الأفق لا ضيقه.. ص _159
والرجال والنساء فى أقطارنا مازالوا أكثر العالم الثالث..!! فى قيمة العقل وأثره، يقول الإمام الشهيد : " الإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر فى الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح والنافع من كل شىء "والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها " . درست القرآن الكريم فعرفت ربى معرفة حسنة وأحببته وأعززته، ثم نظرت إلى الحياة والأحياء ـ بعد هذه الدراسة ـ نظرة تصل المخلوق بالخالق، والعالم أجمع بمدبره الأوحد، حتى لأتخيل الطاقة التى تدير الآلات وترفع الطائرات بعض آثار القدرة التى تدير الكون كله من عرشه إلى فرشه. وماذا يرجو الناس من كتاب دين أكثر من ذلك؟ حسب القرآن أدن عرفنى بالله الواحد، وأعدنى للقائه، وأفهمنى أنه بالصلاح والاستقامة ـ وحدها ـ أصنع مستقبلى عنده!! بيد أن لفيفا من الباحثين استلفته من إعجاز القرآن شىء آخر. إن كلمات القرآن فى وصف الكون دقيقة مثيرة، فهى تومئ بلباقة إلى أسرار علمية وسنن فطرية لم يعرفها الناس إلا فى هذا العصر.. وتبين بالموازنة المنصفة أن حديث القرآن عن بناء الكون وقوانينه ووظائفه ينسجم مع الحقائق العلمية انسجاما لم يعرف له شبيه فى كتاب آخر.. الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم: وبدأت أكترث للإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، فنقلت عن العلامة الدكتور محمد أحمد الغمراوى فصلا عن عجائب الوحى فى وصف السحب والأمطار والرعد و البرق.. وشعرت وأنا أقرأ كلام الأستاذ الكبير أن البحث لا غلو فيه ولا افتعال، وأن العقل المؤمن يطل من وراء العبارات الرصينة. ثم جاء العلامة الدكتور "موريس بيكاى"،(1/156)
فأبرز جوانب من الإعجاز العلمى تفرد ص _160
بها القرآن العربى لم تعرف فى كتاب ينتسب إلى السماء، بل إن كتبا أخرى للأديان تطرق إلى كلامها عن خلق العالم قدر كبير من العوج والوهم. وكتاب الدكتور "موريس بيكاى" ـ وهو طبيب مستشرق ـ ترجم من الفرنسية ويشيع الآن بين القراء. ثم قرأت كتابا عن " خلق الإنسان بين الطب والقرآن " للدكتور الذكى التقى العلامة محمد على البار ، فبهرنى ما وجدت من تطابق بين حقائق العلم التى قررها بالصور الدقيقة وبين آيات الكتاب العزيز، وزدت إيمانا على إيمان. والحق أن الكتاب يترك فى نفس القارئ إعجابا عميقا بالقرآن، وتصديقا مطلقا للنبى الخاتم صلوات الله وسلامه عليه. وقد دعا ذلك صديقنا الأستاذ عبد المجيد الزندانى إلى إعداد ندوات "تليفزيونية" لإبراز ما فى الكتاب من كشوف وحقائق. والأستاذ الزندانى من المشغولين أو المشغوفين بالإعجاز العلمى للقرآن الكريم! وهو يكافح لنصرة الإسلام وإنجاح دعوته فى جنوب الجزيرة العربية، ولا أدرى أيغلب العقبات الهائلة التى تعترضه أم تغلبه؟! وقد كتب ثمانى صفحات من الأسئلة التى أجاب عنها الدكتور محمد على البار فى مؤلفه القيم أذكر قليلا منها.. 1ـ لقد أوضح الطب الحديث أن "المنى" الماء الدافق الذى يخرج من الإنسان إنما تفرزه الخصية.. ومع أن الخصية بعد الولادة تكون خارج الجسم إلا أن تكونها فى الجنين فى منطقة بين الصلب والترائب.. كما أن تغذيتها بالدماء والأعصاب واللمف فى "الأوعية البلغمية" يستمر حتى عند البالغين من بين الصلب والترائب! وكذلك فإن عملية تدفق هذا الماء إنما تتم بواسطة أعصاب تأتى من بين الصلب والترائب وبالذات من الأعصاب السمبتاوية! وهذه الاكتشافات العلمية قد تمت فى القرن العشرين للميلاد.. فهل هناك فى كتاب الله ما يشير إلى ذلك؟ 2ـ عرف الطب الحديث مكونات المنى، وعرف أن الإنسان لا يخلق من المنى كله ص _161(1/157)
بل يخلق من الحيوانات المنوية فقط "من حيوان منوى واحد فقط بعد التقائه ببويضة المرأة"، فهل ترى ذكرا لهذه الحقيقة فى القرآن الكريم وفى السنة المطهرة؟ 3ـ لقد اكتشف الطب فى القرن العشرين أن الحيوانات المنوية زوجان، فمنها ما يحمل شارة الذكورة ومنها ما يحمل شارة الأنوثة.. وأنه إذا لقح حيوان منوى يحمل شارة الذكورة بويضة المرأة كان الجنين ذكرا بإذن الله.. وإذا لقح البويضة حيوان منوى يحمل شارة الأنوثة كان الجنين أنثى بإذن الله.. وعليه فإن تحديد الذكورة والأنوثة إنما هو من الرجل وليس للمرأة دخل فى ذلك. فهل هناك نص فى كتاب الله أو فى سنة رسوله ذكر هذه الحقيقة قبل أن تعرف بألف وأربعمائة عام؟ ص ـ كان الأطباء إلى القرن السابع عشر الميلادى يعتقدون أن المرأة ليس لها دور مطلقا فى تكوين الجنين ما عدا التغذية والتدفئة، وشبهوها بالأرض، وأما البذرة فمن الرجل.. وما بذره ينمو فى هذا المهاد. ثم ظهرت بعد ذلك نظرية أخرى مناقضة للأولى تقول إنه ليس لمنى الرجل من دور فى تكوين الجنين سوى تنشيط ما هو موجود فى رحم المرأة. ثم فى القرن التاسع عشر وبداية العشرين تأكد بما لا يقبل الشك... أن الجنين الإنسانى يتكون مناصفة بين الأب والأم.. وإن كان للأم... دور آخر فى التغذية والرعاية والتدفئة والتنمية فهل يا ترى سبق القرآن الكريم والسنة المطهرة إلى هذه الحقيقة؟ نرجو توضيح ذلك. 5 ـ ظل العلماء والأطباء إلى أوائل القرن التاسع يظنون أن الجنين الإنسانى يكون مصغرا فى المنى وأنه لا يتقلب فى أدوار وأطوار مختلفة وإنما ينمو فقط فى الرحم.. ثم قدم "دولن " نظريته بأن البويضة الملقحة تتكاثر وتنقسم لتكون الجنين الإنسانى طورا بعد طور ومرحلة بعد مرحلة.. ولكن هذه النظرية أهملت حتى قام شيلدن وشوال باكتشاف الخلية الحية وأنها أساس بناء الكائن الحى.. ومنذ ذلك الحين تقدمت الأبحاث وأكدت بما لا يدع مجالا للشك أن النطفة الأمشاج "وهى خلية(1/158)
واحدة من اجتماع نطفة الذكر ونطفة المرأة" تنقسم انقسامات عديدة وتمر بمراحل مختلفة وأطوار متباينة حتى تصبح فى شكل إنسان. ص _162
فهل هناك ذكر فى القرآن الكريم والسنة المطهرة لهذه الحقائق العلمية التى لم تكتشف إلا فى القرن التاسع عشر، ولم تتأكد إلا فى أوائل القرن العشرين؟ 6ـ كشفت العلوم الطبية الاختلاف الهائل والبون الشاسع ما بين كل خلية من خلايا الرجل وكل خلية من خلايا المرأة " ويبلغ عدد الخلايا 55 مليونا فى جسم الإنسان ". فالبويضة مثلا مستديرة كالقمر وعليها هالة أو تاج مشع، بينما الحيوان المنوى مثل الصاروخ وله رأس مدبب وقلنسوة غليظة وله ذيل يستطيع به الحركة السريعة.. وبينما البويضة ساكنة لا تكاد تتحرك... إذا بالحيوان المنوى ينطلق كالصاروخ دون غايته أو يهلك. حتى الحيوانات المنوية التى تحمل شارة الذكورة أكثر إقداما وعزما وأشد عرامة وحركة من أخواتها الحيوانات المنوية التى تحمل شارة الأنوثة. فهل هناك فى كتاب الله شىء يشير إلى ذلك؟.. ويشير إلى دور المرأة ودور الرجل كما تمثله البويضة والحيوان المنوى؟ هذه أسئلة تتعلق بالنطفة وحدها.. وهناك عشرات الأسئلة التى تتعلق بأطوار الجنين حتى يولد... وكلها أجاب عنها الدكتور محمد على البار بأسلوبه العلمى الإسلامى. ولى كلام أحب أن أؤكده هنا بإزاء الإعجاز العلمى للقرآن الكريم.. أحيانا أجد مع الجهاز الذى اشتريه كتيبا يصف طريقة استخدامه وصيانته، ويشرح لى أنواع القوى والمفاتيح التى تعيننى على الانتفاع بهذا الجهاز على خير وجه.. إننى لا أشك فى أن الذى أشرف على كتابة هذه السطور هو الذى أشرف على صنع الجهاز نفسه.. هذا الشعور يتملكنى وأنا أقرأ القرآن الكريم، وأستمع إلى حديثه عن الأرض والسماء وما بينهما، إننى أستيقن أن صانع هذا العالم هو منزل ذلك الوحى. إن القرابة قائمة بين الحياة، وبين الكتاب الذى يوجهها ويشرف على مبتدئها ومنتهاها، نعم ربهما واحد، الذى(1/159)
خلق هو الذى قال..! هل أسدى العلم الحديث يدا فى هذا المجال؟ نعم! كنت أقرأ الآية الكريمة!وأنه ص _163
( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى)، فأظن التعبير على المجاز، وأن علاقة الرجل بزوجته هى التى سوغت الإسناد، وأن الأنثى مسئولة أو شريكة فى تحديد نوع المولود.. ثم تبين أن الإسناد حقيقى، وأن الأم لا صلة لها بولادة البنات أو البنين، وأن نطفة الرجل وحدها هى التى تقوم بذلك، فإن الحيوانات المنوية هى التى تحدث التذكير أو التأنيث!! إن سبق القرآن فى إثبات ذلك إعجاز لا يسوغ جحده ولا تهوين نتائجه. ومع ذلك فإنى أحب التصريح بأن القرآن ليس كتاب كيمياء ولا فيزياء ولا طب ولا فلك، وأن بعض الذين اشتغلوا بالإعجاز العلمى أساءوا إلى القرآن بأوهام تبعوها وتكلفات قرروها ومبالغات أقرب إلى الجهل منها إلى العلم. والقرآن كتاب عقائد وأخلاق وعبادات ومعاملات، وحديثه عن الأحياء وتاريخهم هو قبل كل شىء للإيقاظ والهداية، وحديثه عن الكون وآياته هو لدعم الإيمان وأخذ العبرة وترشيد السلوك: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون). ويمكن القول: إنه يستحيل وقوع تفاوت بين الإسلام والعلم، أى أن الحقائق المقطوع بها فى ميدان الدين يستحيل أن يوجد ما يكذبها فى ميدان العلم. وكذلك يستحيل أن توجد حقيقة علمية يقال إن فى الإسلام ما يناقضها. وإذا بدا شىء من ذلك للنظر السطحى فلا بد أن يكون هناك تزوير فيما نسب للدين أو فيما نسب للعلم.. إن الدين الحق والعلم الحق يتصادقان ولا يتكاذبان!! إن الخلاف قد يقع بين ظن علمى وظن دينى، أو بتعبير آخر بين نظرية دينية ونظرية علمية. وقبل أن نضرب الأمثال لذلك نوضح هذه المصطلحات التى سقناها. يقصد بالظن الدينى المعنى الذى يحتمله نص قد يحتمل أيضا معنى آخر، وللناظر أن يرجح بالقرائن ما يتبادر له. ص _16 ص(1/160)
ووقوع الخلاف هنا ممكن، وهو فى حقيقته بين أفهام البشر.. لنفرض أن فرويد يرى الغريزة الجنسية أساس السلوك، فإن غيره يرى الأكل هو الباعث الأول على الحركة، وغريزة الأكل أهم عنده من غريزة الجنس. وهناك من يرى الشعور الإيجابى بالنفس أعتى من الغريزتين السابقتين! ما الذى يلزمنا ـ دينا أو علما ـ بواحد من الآراء؟ توجد شائعات علمية تدرس على أنها حقائق مسلمة.. فقصة أن المادة لا تفنى ولا تستحدث باتت قصة سخيفة، وإن ظلت تدرس لطلابنا حتى اليوم! ولو فرضنا جدلا أن الفناء الظاهرى هو تحول المادة إلى طاقة، فإن هذا التحول لون من العدم يكفى فى تفسير الآية (كل من عليها فان) (كل شيء هالك إلا وجهه). ومن الذى قطع بأن الطاقة لا تتلاشى؟ أو قطع بأن البشر يقدرون على إعادتها سيرتها الأولى، مادة محسوسة؟ لكى يقال: هذه حقيقة علمية لا بد من أمرين: إقامة دليل دامغ على صحتها، ثم إقامة دليل آخر على استحالة غيرها.. وأين هذه الأدلة؟ ومن الشائعات العلمية نظرية دارون فى أصل الأحياء، ومع أن جمهورا من العلماء عذ كلام "دارون " مقترحات مرفوضة فى تفسير بدء الخلق، فإن الكتب الدراسية عندنا لا تزال تقدم النظرية للطلاب على أنها حقيقة علمية لا ريب فيها.. *** إن علماء الكون والحياة يحترمون أنفسهم، وقلما يوجد بينهم من يغالى بوجهة نظره ليجعل منها نظرية مسلمة. بيد أن المآرب الصغيرة قد تتدخل لنشر الفوضى الفكرية باسم العلم والعلم براء. ويحدث مثل ذلك فى ميدان الدين! سمع أحد المتعالمين طالبا يقرأ فى كتابه أن المطر ينزل من السحب؟ فهاج وماج، واعترض ما سمع. وأراد اغتصاب الكتاب!! قال له رجل قريب: ما أغضبك؟ قال: القرآن يقول: إن المطر من السماء!! ص _165(1/161)
قال له: هاك ثلاث آيات من القرآن الكريم تخطئك: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله) ـ (أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) ـ (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا). دع الكتاب للطالب! وتوبوا أنتم من هذا الجهل!! وألف أحدهم كتابا زعم أن فيه أربعين دليلا من الدين على أن الأرض لا تدور، ولو كانت فى كتابه أربعون شبهة لساغ الرد عليها، ولكن ما قيل ليس شبهات عاقل بل خيالات حشاش! وقصة عدم دوران الأرض دفعتها قوة مالية حتى وصلت إلى عواصمنا فى طباعة أنيقة! واعتقادى أن هناك أصابع تبشيرية وراء هذا النشاط الجهول.. إن ديننا ـ نحن المسلمين ـ صلب القواعد، دقيق التعاليم.. وقد قام علم أصول الفقه ليكون ضابطا قانونيا صارما فى تبيان حكم الله.. ويرى مفكرون كثيرون من بينهم الشيخ مصطفى عبد الرازق أن هذا العلم مفخرة الحضارة الإسلامية التشريعية.. وقد قرر علماؤنا أن الحكم القاطع لابد فيه من أمرين: أن يكون السند متواترا، وأن يكون المتن نصا.. فالآية الكريمة: (قل هو الله أحد) تفيد حكما قطعيا، لأنها رويت بطريق التواتر ـ فهى قرآن ـ ولأن المعنى لا يحتمل إلا وجها واحدا، هو وحدانية الله لسبحانه.. وهتاف المؤذن "الله أكبر" حكم قاطع لأن المعنى واحد لا غير، ولأن حديث الأذان متواتر.. وفى الستة الشريفة أحكام تواترت معنويا، وإن لم تتواتر لفظيا، لها صفة القطع إذا كانت نصا لا يتطرق إليه الاحتمال.. ص _166(1/162)
وقد يكون الكلام متواترا لا شك فى ثبوته، ولكنه لا يفيد القطع لأنه يحتمل معانى عدة فقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) من قبيل الدلالات الظنية وإن كان قطعى الثبوت.. وأحاديث الآحاد فى جملتها ظنية الثبوت حتى يعززها التواتر اللفظى أو المعنوى.. وهذا مبحث فنى له مراجعه التى يسهل الاطلاع عليها.. والمهم هو أن نعرف موقفنا إذا تعارض نظرى فى الدين مع نظرى فى العلم، أعنى إذا تعارض ظنى هنا وهناك. والجواب أن ولاءنا لما لدينا من كتاب وسنة، أى أننا نرجح ما عندنا حتى يبت الزمن فى النظرية العلمية: فإما ثبت بطلانها، وإما تحولت إلى حقيقة راسخة وعندئذ قدمناها على الظنى الذى لدينا ولا حرج بتة من هذا التقديم. قال الإمام الشهيد: "وقد يتناول كل من النظر الشرعى والنظر العقلى ما يدخل فى دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا فى القطعى، فلن تصطدم حقيقة صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظنى منهما ليتفق مع القطعى، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعى أولى بالاتباع حتى يثبت العقلى أو ينهار" . *** ص _167(1/163)
الدائرة الإسلامية يقول المناطقة: لكى يكون التعريف صحيحا يجب أن يكون جامعا مانعا. ومعنى أنه جامع أن يشمل جميع أفراد المعرف فلا يترك واحدا، ومعنى أنه مانع ألا يسمح بدخول نوع آخر لا علاقة له بالمعرف. ونحن نريد أن نحدد الدائرة التى تعنيها كلمة "مسلم " فلا يخرج منها أحد له ذرة من دين، ولا يدخل فيها أحد مبتوت الصلة بهذا الدين. تعنى حقيقة الإسلام عدة أمور: أ- معرفة الله على وجه صحيح فهو سبحانه لا شريك له، وليس كمثله شىء، منزه عن كل نقص، منعوت بكل كمال. ب- الاعتراف بحقوقه على خلقه، فهو الرب المعبود، الذى يطاع أمره وينفذ حكمه! والعلاقة بيننا وبينه بعد معرفته هى الخضوع له والسمع والطاعة لما يجىء منه! ج- مظهر هذا الخضوع هو اتباع النبى الخاتم الذى أتم به كل الرسالات، وأظهر على لسانه مراده من عباده إلى آخر الدهر.. ولنستطرد قليلا فى شرح الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإن هذا الرسول الكريم هو الذى عرفنا بحقيقة الدين منذ الأزل بعدما عفَّرها الأولون بالتراب حتى محوا معالمها. وهو الذى كرم إخوانه السابقين، وكشف عنهم تهما شائنة تتصل بأخلاقهم وأعراضهم.. وهو الذى شق بسيرته الماجدة طريق الكمال الإنسانى، فإذا هو خلال الستين عاما التى قضاها فى الدنيا نور يضىء الظلمة، وطهر يمحو الجاهلية، ورحمة تنشر البر والنماء، وقدرة ترفض الضعف وتدعم الحق وتقهر الجبروت..!! ما عرفت هديا للعقل ولا صدى للفطرة ولا نداء للإنسانية إلا رأيت معنى ذلك ومبناه فى دين محمد وسيرة محمد، ولذلك آمنت به.. ص _168(1/164)
ثم أدركت لماذا تكون الإسلام من كلمتين " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ". المسلم الحق إنسان يؤمن بالله ويعمل الصالحات. يزكى بذلك نفسه ويمهد للقائه بربه. وهو يتعاون مع إخوانه المؤمنين على بناء مجتمع مؤمن صالح ينقل هذه الحقائق من السلف إلى الخلف، ويوسع نطاقها فى الحياة بالدعوة والأسوة. وهو متهئ فى أى وقت لافتداء دينه بدمه إذا أبى الفتانون إلا إحراجه واجتياح دينه ومجتمعه، فالمسلم يحيا لربه قبل أن يحيا لنفسه. على أن الإسلام ـ فى النفس أو فى المجتمع ـ يصح ويقل، ويقوى ويضعف، بل يحيا ويموت! والمجتمع الراسى على عقائده قد يصمد للأهواء والفتن أمدا طويلا، وقد تهتز الدعائم فينفرط عقده ويسقط علمه.. وكذلك النفس الإنسانية، إن المرء قد يكون صلب الإيمان متين الخلق فيخرج ناصع الجبين من شتى العواصف، وهناك من يصبح مؤمنا ويمسى كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا.. ونريد هنا أن نرسم الخط الأخير الذى يفصل بين الحق والباطل، والذى يرتد عن الإسلام من اجتازه.. والحق أن العلماء تريثوا كثيرا وهم يرسمون.. هذا الخط، واتأدوا فى إصدار حكمهم بالتكفير لأن الأمر جد خطير..! وهم عندما يحكمون بارتداد مسلم لا يفعلون ذلك إلا بعد ما ييئسون من كل تأويل أو اعتذار. ونستطيع على ضوء ما شرحنا من حقيقة الدين أن نعرف متى يقع الانسلاخ منه.. فإذا كان الإسلام معرفة حسنة بالله، فإنه يخرج منه من زعم أن لله ابنا، أو ندا. أو زعم أن له خصائص البشر أو حل فى جسد. وإذا كان الإسلام التزاما بمبدأ السمع والطاعة لله رب العالمين، فإنه يخرج منه من جحد أى واجب كالصلاة والصيام مثلا، أو استباح أى محرم كالربا والزنا والخمر. وإذا كان الإسلام اتباعا لصاحب الرسالة الخاتمة وتصديقا لما جاء به، فإنه يخرج منه ص _169(1/165)
من استهان بالرسول، أو حقر كتابه، أو أنكر ما هو معروف من دينه بالضرورة، أو زعم أنه رسول خاص بالعرب، أو أن أمد رسالته انتهى.. والأمثلة التى ضربناها نماذج يحتاج الأمر بعدها إلى تفصيل.. إن المسلمين متفقون على أن أصل الإيمان بالله الواحد لابد منه للبقاء على الإسلام، وزيادة الإيمان أو نقصانه لا أثر لها بعد ذلك. وكذلك التصديق بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن الريبة فى الرسول كفر صراح يخرج من الملة. أما فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه ـ وهو عنوان الخضوع ومبدأ السمع والطاعة لله ـ فإن للعلماء الراسخين تفصيلات عاقلة عادة فى هذا الموضوع. اتفقوا على أن رفض التشريع ارتداد، كأن يرفض أحد جلد الزانى أو قطع السارق استنكارا للعقوبة واستبشاعا لها.. أو كأن يرفض أحد إقام الصلاة وصيام رمضان، لأن هذه الأركان تعطل الإنتاج كما يزعم بعض الرعاع. ولم يقل أحد من المتقدمين أو المتأخرين: إن رفض النصوص القطعية يبقى صاحبه فى الإسلام. أما ترك فرض أو فعل كبيرة مع الشعور بالإثم، فإن صاحب هذا المسلك يعد مسلما عاصيا ولا يوصف بالكفر. وأساس ذلك قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ونرى أن هذه الآية تحتاج إلى بعض التدبر لنفقه فحواها.. ولنسأل أولا عما دون الشرك الذى يمكن أن تتناوله المغفرة... هل جحود الألوهية ـ كما يرى الماديون ـ دون الشرك؟ كلا إنه أسوأ حالا وشر مقالا، فالمشرك يرى أن الله موجود، ولكنه يضيف إلها ثانيا أو ثالثا، أما المعطلة فلا يقولون بإله أصلا ولا تنتظر لهم مغفرة أبدا.. هل الاعتراف بالألوهية مع إعلان الحرب عليها دون الشرك؟ كلا، إن إبليس يوقن بوجود الله، ولكنه مع إصرار سابق ولاحق يقول لله : لا طاعة لك عندى، فهل ذلك دون الشرك؟! إنه مثله أو أقبح منه! ص _170(1/166)
إن ما دون الشرك هو عصيان الموحدين الذين يغلبهم الهوى، ويصيبهم العمى فلا يلزمون الصراط المستقيم. وربط مستقبلهم بالمشيئة العليا يرجع إلى أن الله وحده هو الذى يعلم ملابسات انحرافهم، ومبلغ نشاطهم أو كسلهم فى جهاد أنفسهم. وطالما أكدنا أن المشيئة لا تعنى الفوضى، وإنما تعنى هيمنة رب العباد على العباد فهو بهم خبير، ولظروفهم مقدر : (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم). وأرى أن تحديد معنى الجحود والإصرار والإدمان لا بد أن يشترك فيه لفيف من علماء الفقه والنفس والاجتماع، فالأمر أكبر من أن يطرح على بساط البحث النظرى أو الجدل الكلامى.. وفى تاريخنا القديم حاول البعض أن يدخل فى هذه القضية بغباء، فأساء إلى نفسه وإلى الحقيقة.. نعم حاول الخوارج بنزق أن يرسموا خط الخروج عن الإسلام، فكفروا مسلمين صالحين، ومالوا بقواهم على خيرة الناس فأحرجوهم وأوهنوا قواهم.. وكان رد الفعل تطرفا غبيا، فظهر المرجئة يدخلون فى دائرة الإسلام أصحاب الشهوات الجامحة والأفكار الضالة. والغريب أنى وجدت فى هذا العصر الصنفين معا وأصحاب المنطقين الشاردين!! إننا نشكو إلى الله حكاما يخذلون الإسلام ويمالئون الشيوعية أو الصليبية العالمية، وقبل ذلك نشكو إلى الله متدينين كذبة قست قلوبهم على عباد الله، وذهبوا بأنفسهم مذهبا مستعليا فهم يرمون بالكفر والفسق من شاءوا، لا سناد لهم إلا فقها قليلا وترتيلا كثيرا.. قشور من العبادة على باطن خرب، وأثرة مفرطة، وتطاول غريب لا يحترم علما ولا سابقة.. المسلم الحق طبيب يأسو الجراح، ويرحم الضعاف، ويرشد الحيارى، ويتلطف مع الضالين حتى يثوب بهم إلى طريق الله. وهؤلاء جعلوا ما عرفوا من الدين تكأة للنيل من غيرهم والارتفاع على أنقاضهم.. كان رسول الله يأسى لعناد الكافرين ويحزن لإصرار الضالين، ويتمنى من أقصى فؤاده لو اهتدوا إلى الحق.. ص _171(1/167)
وهؤلاء يجعلون من خطأ غيرهم مددا للغرور وسببا إلى احتقار الجاهلية والجهال.. الرسول يقول لمن بلغ عن معصية عاص : هلا سترته بثوبك. وهؤلاء يجدون فى المعصية فرصة للتشفى وضرب الجانى ويشعرون بفرح خبيث لسقوطه.. ذكرت فى أمراض القلوب نموذجا لأولئك المتدينين المتكبرين، وكيف عاب بعضهم على رسول الله قسمته لمال جاءه، تألف به بعض الناس لمصلحة الدعوة الإسلامية، ثم قرأت فى مسلك أحدهم ما جعلنى أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة.. جاء فى الحديث: " فقال رجل: كنا نحن أحق بهذا المال من هؤلاء! فبلغ النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ـ فقال : ألا تأمنونى وأنا أمين مَنْ فى السماء؟ يأتينى خبر السماء صباحا ومساء! فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله..!! فقال: ويلك، أو لست أحق أهل الأرض أن أتقى الله؟! ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا، لعله أن يكون يصلى. قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس فى قلبه. فقال رسول الله، إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم. ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية إن الإسراع فى اتهام الناس وتلويث سمعتهم ليس دينا، والحكمة فى معالجة الأخطاء مطلوبة، وفى الحديث: "إن الله يحب الرفق فى الأمر كله " . ولا يعنى هذا أبدا ترك الجرائم تسرح فى المجتمع، كما لا يعنى إطفاء مشاعر الغضب لله والغيرة على حدوده، ذاك شأن غير ما نحن بصدده.. ص _172(1/168)
قلت يوما لرجل تعود السكر: ألا تتوب إلى الله؟ فنظر إلىَّ بانكار ودمعت عيناه، وقال: ادع الله لى..!! تأملت فى حال الرجل ورق له قلبى. إن بكاءه شعور بمدى تفريطه فى جنب الله، وحزنه على مخالفته، ورغبته فى الاصطلاح معه. إنه مؤمن يقينا، ولكنه مبتلى! وهو ينشد العافية ويستعين بى على تقريبها.. قلت لنفسى: قد يكون حالى مثل هذا الرجل أو أسوأ. صحيح أننى لم أذق الخمر قط، فإن البيئة التى عشت فيها لا تعرفها، لكنى ربما تعاطيت من خمر الغفلة ما جعلنى أذهل عن ربى كثيرا، وأنسى حقوقه. إنه يبكى لتقصيره، وأنا وأمثالى لا نبكى على تقصيرنا، قد نكون بأنفسنا مخدوعين.. وأقبلت على الرجل الذى يطلب منى الدعاء ليترك الخمر، قلت له: تعال ندع لأنفسنا معا.. ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). إننى أطلب من المشتغلين بالدعوة أن يتقوا الله فى الناس، وأن يتفقهوا فى الدين فإن من يرد الله به شرا يحرمه الفقه فى الدين، ولو كان ثرثارا يخطب فى كل ناد. * * * ألف الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوى رسالة جيدة عن "ظاهرة الغلو فى التكفير" نوصى بقراءتها، وقد أراحنا من الكتابة فى الموضوع، ونقتطف هذه النقول عنه نفعا لمن يطالعون كتابنا هذا. قال أرشده الله وأيد به: وجوب التفرقة بين النوع والشخص المعين: وهنا أمر يجب أن نستلفت النظر إليه، وهو ما قرره المحققون من العلماء من وجوب التفرقة بين الشخص والنوع فى قضية التكفير. ومعنى هذا أن نقول مثلا: الشيوعيون كفار. أو الحكام العلمانيون الرافضون لحكم الشرع كفار، أو من قال كذا أو دعا إلى كذا فهو كافر، فهذا وذاك حكم على النوع. فإذا تعلق الأمر بشخص معين، ينتسب إلى هؤلاء أو أولئك، وجب التوقف للتحقق ص _173(1/169)
والتثبت من حقيقة موقفه، بسؤاله ومناقشته، حتى تقوم عليه الحجة. وتنتفى الشبهة، وننقطع المعاذير. وفى هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه ويقال: من قال هذا هو كافر. لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها". وهذا كما فى نصوص الوعيد، فإن الله تعالى يقول: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا). "فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد. فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار، لجواز ألا يلحقه الوعيد، لفوات شرط، أو ثبوت مانع. فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم.. وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم. وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع " قال: "وهكذا الأقوال التى يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ". قال "وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها". "وقد تكون عرضت له شبهات يعذره الله بها". قال: "ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعين "فإذا كان كل هذا الاحتياط واجبا فى شأن المصرحين بالكفر، فكيف يجترئ مسلم على تكفير الجماهير التى تشهد أن " لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" وإن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟ إن الإيمان قد يجامع شعبة أو أكثر للكفر أو الجاهلية أو النفاق. وهذه الحقيقة قد خفيت على كثيرين فى القديم والحديث، فحسبوا أن المرء إما أن يكون مؤمنا خالصا أو كافرا خالصا، ولا واسطة بينهما، إما مخلصا محضا أو منافقا محضا. وقريب منه من يقول: إما مسلم محض أو جاهلى محض. ولا ثالث لهذين الصنفين. ص _17 ص(1/170)
وهذه طريقة كثير من الناس. حيث يركزون النظر على الأطراف المتقابلة دون الالتفات إلى الأوساط. فالشىء عندهم إما أبيض فقط أو أسود فقط، ناسين أن هناك من الألوان ما ليس بأبيض خالص ولا بأسود خالص، بل بين بين. ولا عجب أن نجد فئة من الناس، إذا وجدت فردا أو مجتمعا لا يتحقق بصفات الإيمان الكامل، بل توجد فيه خصائص النفاق، أو شعب الكفر، أو أخلاق الجاهلية، سارعت إلى الحكم عليه بالكفر المطلق، أو النفاق الأكبر، أو الجاهلية المكفرة، لاعتقادهم أن الإيمان لا يجامع شيئا من الكفر أو النفاق بحال. وأن الإسلام والجاهلية ضدان لا يجتمعان. وهذا صحيح إذا نظرنا إلى الإيمان المطلق "أى الكامل " والكفر المطلق، وكذلك الإسلام والجاهلية والنفاق. أما مطلق إيمان وكفر، أو مطلق إيمان ونفاق، أو مطلق إسلام وجاهلية، فقد يجتمعان. كما دلت على ذلك " النصوص " وأقوال السلف رضى الله عنهم. ففى الصحيح أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأبى ذر رضى الله عنه: إنك امرؤ فيك جاهلية هذا وهو أبو ذر فى سابقته وصدقه وجهاده. وفيه : "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق". وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال: "القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب ". وقد روى مرفوعا، وهو فى مسند أحمد مرفوع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الذى قاله حذيفة يدل عليه قوله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان). فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب، فلما كان يوم أحد، غلب نفاقها، فصاروا إلى الكفر أقرب. "وروى عبد الله بن المبارك ـ بسنده ـ عن على بن أبى طالب قال: ص _175(1/171)
إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء فى القلب، فكلما ازداد العبد إيمانا ازداد القلب بياضا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله. وإن النفاق يبدو لمظة سوداء فى القلب، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب. وايم الله، لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شقتتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود وقال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء البقل. قال شيخ الإسلام: وهذا كثير من كلام السلف: يبينون أن القلب قد يكون فيه إيمان ونفاق. والكتاب والسنة يدلان على ذلك. قال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر شعب الإيمان ـ وذكر شعب النفاق، وقال من كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها، وتلك الشعبة قد يكون معها كثير من شعب الإيمان. وقال الإمام الشهيد: لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض برأى أو بمعصية إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة؟ أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر... * * * ص _176(1/172)
التكفير الرغبة فى تكفير الناس، وانتقاص أقدارهم، وترويج التهم حولهم، مرض نفسى بالغ الخبث، وأصحابه يتناولهم بلا ريب الوعيد الإلهى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)..! والتصاق هؤلاء المرضى بالإسلام، أو تصدرهم فى ميدانه لا يغنى عنهم شيئا، فإنهم فى الحقيقة غرباء عليه، أو عقبات أمامه، أو غبش فى مرآته.! محمد ـ صلوات الله عليه ـ رفيق رحيم، وهؤلاء غلاظ قساة.. محمد يحض على ستر العيوب، ويأخذ بأيدى العاثرين لينهضوا من كبوتهم، وهؤلاء يكشفون العيوب، أو يختلقونها إن لم توجد، ثم ينتصبون ـ باسم الله ـ قضاة يقطعون الرقاب، ويستبيحون الحقوق! وليس لله فيما يفعلون نصيب، ولا لدينه مكان! لقد آذانى أن أجد فى مجال الدعوة فتانين من هذا النوع الهابط، اتخذوا الإسلام ستارا لشهوات هائلة، ولو وقعت أزمة الأمور بأيديهم لأهلكوا الحرث والنسل! كنت أقرأ للأستاذ عبد الرحمن أبى الخير كتابه "ذكرياتى مع جماعة المسلمين " " التكفير والهجرة"، فامتلأت نفسى بمشاعر شتى من الحزن والغضب والألم، وأدركت أن النجاح الذى يلقاه أعداء الإسلام فى تطويق حركاته لا يعود لذكائهم قدر ما يعود لغبائنا.. كان أولئك الذين تسموا بـ "جماعة المسلمين " شديدى الرغبة فى إهانة رجال الإسلام وافتراء الإفك عليهم. ألف أحدهم كتابا عن الإخوان المسلمين، وزعم فيه أن حسن البنا ماسونى!!! قال الشيخ عبد الرحمن: "استلفتت هذه العبارة نظرى، فاستوقفت قارئها ـ وهو المؤلف ـ فأصر عليها، وذكر مبرراتها، ولم تكن سوى عبارات قالها الأستاذ الإمام ص _177(1/173)
للصحفيين الأجانب ـ فى أحد لقاءاته بهم ـ لا دلالة فيها على شىء، ونصحته بالعدول عما كتبه. قال الشيخ عبد الرحمن: وكم جلب على هذا النصح لقد بت ليلتها غير آمن على نفسى، إذ نهرنى الشيخ شكرى ـ زعيم الجماعة ـ رغم كبر سنى ورغم ما يكنه لى فى نفسه من تقدير... لقد نهرنى قائلا: تنصحه؟ لا تقل ذلك! كيف تنصحه..؟ قال الشيخ عبد الرحمن: فسحبت نصيحتى على الفور، وآثرت الصمت والاستماع دون مناقشة إلى أن انتهى المتحدث من اتهام الإمام الشهيد بأنه كان ماسونيا . أهذا جو إسلامى أم جو عصابات ؟ أهذا ميدان دعوة إلى الله أم ميدان للصد عن سبيله؟ وفى موضع آخر من الكتاب الذى يحكى الذكريات الأسيفة، يقول المؤلف: نشرت الجمهورية نبأ تنفيذ حكم الإعدام فى الأستاذ صالح سرية ، وكارم الأناضولى المتهمين فى قضية اقتحام الكلية الفنية العسكرية، فسألت "أبا مصعب" أن نصلى عليهما صلاة الغائب على اعتبارهما شهيدين من شهداء الحركة الإسلامية! فرفض " أبو مصعب "، وصرح بأنه لا يصلى عليهما. وكنت مندهشا لذلك فلست أعلم لهما موقفا عدائيا منا، بل لقد بهرنى فهمهما الواعى للإسلام وما يلقى من مؤامرات. وكم هزنى شمول النظرة لدى كارم الأناضولى، وإحساسه بطبيعة الحرب المسعورة التى شنتها الجاهلية ضد الحركة الإسلامية! وقلت: أى أبا مصعب بارك الله فيك، لماذا لا نصلى عليهما؟ قال: لأننا قد بلغناهم الحق فرفضوه! متى بلغتموهم؟ فى سجن مزرعة طرة وغيره! علام اتفقتم وفيم اختلفتم؟ قال العلامة أبو مصعب: اختلفنا فى مسألة أقوال الصحابة وأقوال الفقهاء، فهم يأخذون بهذه الأقوال ونحن لا نعول عليها!! ثم ماذا؟ لقد رفضا أن يبايعا الجماعة! ونحن جماعة الحق، ومن عدانا فليس بمسلم !! نقول: إن قضية العمل بقول الصحابى، أو اتباع إمام مجتهد، من القضايا الثانوية فى الفقه الإسلامى، ولم يقل أحد طوال أربعة عشر قرنا إن ذلك من أصول العقيدة أو ص _178(1/174)
من فروعها.. ولا عده أحد من شعب الإيمان السبعين.. فكيف يكون الرأى فى هذه القضية ـ سلبا أو إيجابا ـ مخرجا من الملة أو مدخلا فيها؟! ماذا نقول!؟ وكيف ينسلخ عن الإسلام من خالفنا فى رأى؟ أو فى أسلوب عمل، فنعلن عليه الحرب حيا، ونمتنع عن الصلاة عليه ميتا؟ لكن هكذا علم المهندس شكرى أتباعه!! يقول الشيخ عبد الرحمن أبو الخير: لقد اتفقنا فى الأصول، ثم اختلفنا منذ اليوم الأول فى الفرعيات. ما هذه الفرعيات التى اختلف الشيخ عبد الرحمن فيها مع زعيم الجماعة؟ هى: ا ـ سحب الكفر على عصور التاريخ الإسلامى منذ القرن الرابع للهجرة. 2 ـ كون جماعتنا هى الجماعة المسلمة الوحيدة فى العالم. 3 ـ تكفير الإخوان المسلمين كشخصية معنوية فى ميدان الحركة الإسلامية.. نقول: العجب من تسمية هذه القضايا الخطيرة فرعيات، وهى تدور على محور مشترك من تمزيق الأمة وتاريخها وإكنان البغضاء لعباد الله الصالحين، من سابقين ولاحقين.. لقد وصف القرآن نماذج الإيمان الرفيع بأنهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم). وهؤلاء الناس على العكس أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين!! إنه لم يقبل هدنة فى مهاجمة حسن البنا، على حين كان متلطفا فى الحكم على قادة السياسة العربية المعاصرة فى مصر وليبيا، ويستطيع القارئ مراجعة ذلك فى الكتاب المذكور!! وأى دارس للنفس البشرية يلمح عقدة "النقص والطموح " فى نفس هذا الداعية البائس، غفر الله له، وتقبل دمه فى التائبين!!.. *** فى بحث سابق تحدثنا عن القلوب وأمراضها، وأرى أن هذا البحث يجب أن يمتد ويطول، فإن العوج النفسى منتشر بين البشر انتشارا ذريعا. ص _179(1/175)
واكتشاف جراثيمه قد يحتاج إلى البصر الدقيق المتفرس، ولكنه يسهل بين العوام ويصعب بين المتدينين، فإن الشعائر الرتيبة قد تنسج حجابا سميكا على طبائع الناس، ولكنها لا تمحو رذائلهم إلا إذا جاهدوا أنفسهم جهادا شديدا. وكيف يجاهد نفسه معجب بها راض عنها! وفقر الثقافة الإسلامية من دعاة أطباء القلوب نقص رهيب.. وكان المفروض أن ينهض التصوف بهذا الجانب كما فعل رجاله القدامى، ولكن أغلب الطرق تضم مجانين وملتاثين لا حصر لهم.. وأشهد أن حسن البنا كان مربيا صادق الفراسة ناجع الدواء، وكانت طهارة باطنه لا يساويها إلا رحابة أفقه وذكاء فكره.. قلت له يوما ـ وأنا طالب محتد المشاعر ـ لماذا لا نكره فلانا وفلانا؟ فقال لى على عجل وهو ينظر إلى بجد : لا يكن فى قلبك سواد لأحد، اكره عملهم وتمن الهدى لهم.. وحملقت فيه كأنى لا أفهم، فأعاد النصح بحنان وعطف: لماذا يكون فى قلبك حقد على الناس؟ لقد عرفت فيما بعد، بعض أسرار العظمة فى نفس الرجل الضخم، ورأيت من مواريث النبوة فى أخلاق حسن البنا أنه غزير الحب للناس، وأنه يأسى لمخطئهم ويتمنى له المتاب.. ألم يقل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أعقاب نكبة أحد : اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون؟ ألم يقل الله لنبيه ـ وقد برَّح به الحزن لضلال الضالين ـ (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا).. إن الذى لا يحسن التنقيب فى جنبات نفسه لاكتشاف عللها لا يصلح لا داعيا ولا مربيا.. والذى يحرص على اتهام الناس بالكفر والإغضاء عن جهادهم والشماتة فى أخطائهم هو امرؤ مريض الفؤاد.. وقد لاحظت فى المهندس شكرى أمرا جديرا بالنظر ـ لأنه منذ أخذ وحوكم وقتل ـ اتصل به رجال مريبون من سماسرة النظم العلمانية الحاضرة.. يقول الشيخ ص _180(1/176)
عبد الرحمن أبو الخير فيهم: ".. جاءوه على هيئة حكماء من الكبار، وكان الشيخ شكرى فى بنائه النفسى يسره أن يأتيه كبراء الجاهلية إما على هيئة مستمعين للبلاغ! وإما فى هيئة أصدقاء ناصحين ".. وقد تساءلت : لم هذا السرور؟ وماذا يقول لهم؟ إنه مسكين بنى خطته على قتل الإسلام وهو لا يدرى. أقول للطاغوت دعنى أعمل.. "أنا لا أشكل عقبة فى طريقك، فحجبى للنساء عن الجامعات والمدارس، أقول للطاغوت ها أنذا أريحك من مشاكل تعليمهم وانتقالاتهم!! وهجرتى لا تشكل خطرا انقلابيا عليك، إننى أسهم بذلك فى تخفيف مشاكل الإسكان! وبترك الوظائف أريحك من المرتبات. التى تدفعها لنا.. "ص 8 ص . ترك التعلم، وإيثار الهجرة، والبعد عن الوظائف، هذه السخافات الصغيرة وجدت جيشا من النساء والرجال يتبناها، بينهم جامعيون وجامعيات، وأعداد من الهمل الفارغين يمثلون مأساة إسلامية. ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه إننى أقرر بضيق أن أمثال شكرى كثيرون فى القارة الهندية وجزيرة العرب ووادى النيل.. إلخ. ناس عملهم قليل، ودعاواهم عريضة. وينبغى أن يعرف الفارق بين بقاء الرجل فى غمار الناس وبين وجوده فى أماكن القيادة، الرجل العادى يكفيه أى قدر من المعرفة يصحح له شئون دينه ودنياه. أما القيادة فلها نصاب آخر ينمو بقدر أعبائها وامتداد أطرافها.. لا بأس أن يكون الرجل حنبليا فقط مادام عمله بين بيته والمسجد، أما أن يكون بهذه المثابة ثم يطلب الصدارة فى ميدان الثقافة الإسلامية فهذا سفه وقادة الأمة الإسلامية فى الميدان العلمى والاجتماعى لابد أن تكون أسهمهم ضخمة فى العلوم الدينية التقليدية، وأطوارها خلال القرون الأولى، وكذلك فى العلوم الأدبية والإنسانية والفلسفية، بل لا بد أن تمتد أبصارهم إلى رحاب الإنسانية فى شتى القارات فيعرفوا ما هنالك فى القديم والحديث.. إننى أرفض الفتوى من محدث لا يعرف التفاسير! فكيف يقود الأمة رجل خفيف البضاعة إلا من(1/177)
قراءات قريبة؟! إنه كالفلاح الذى لا يعرف من الدنيا غير حقله والنهير الذى يرويه. ص _181
وقد سيطر الجهل والغرور على هذا النفر من المتدينين، فإذا تجمُّع الشيخ شكرى بعد مقتله يتحول إلى سبعة عشر تشكيلا عليها سبعة عشر أميرا، بعضهم ينتظر له النجاح فى امتحانات الثانوية العامة!! أرأيت هذه الفوضى فى ميدان الدعوة؟ أعرف أن وراءها أصابع أجنبية! بيد أن اللوم يرتد إلينا قبل كل شىء.. كيف؟ إننا تحدثنا بشىء من الإسهاب عن الخلاف الفقهى وطبائعه ونتائجه، غير أن الأمر أحيانا يخرج عن دائرة هذا الخلاف، ويمسى علامة على انهيار خلقى لا على تفاوت فكرى! سمعت من يقول: إن الشرك تطرق إلى تفكير حسن البنا! شرك؟! نعم، فإنه جعل التوسل بالرسول إلى الله من القضايا الفرعية! قلت: إذا دعا مسلم ربه توسلا إليه بنبيه يكون مشركا؟! إذا تشددت وتحفظت وتطيرت فقل: يكون مخطئا لأنه ترك الأصح إلى الأضعف فى صيغ الدعاء المأثور.. إن الداعى على هذا النحو مسلم يقينا، والإمام الشهيد ما أخطأ قط فى قوله: إن هذه الصيغة من التوسل لا تحوى كفرا ولا شبه كفر! أما الزعم بأن الشك تطرق إلى تفكير حسن البنا فهو سفالة مقبوحة!! ولغط آخرون من خصوم الأئمة الأربعة بكلام يثير الدهشة. قالوا فى ثورة الإخوان المسلمين على الحكم النصيرى : إن هذا الصراع سواء فى نتائجه المحتملة، كيف؟ الإخوان مذهبيون، واذا حدث أن انتصروا فذلك يعنى أن الأحناف مثلا سوف يحكمون، وأبو حنيفة ليس خيرا من "أسد" النصيرى الحق أنى ما تصورت ناسا يتسمون بالسلفيين يبلغون هذا القاع من الإسفاف، وأدركت أننى أمام خيانة عظمى، وأن خصوم التوحيد وأعداء الله ورسوله قد نالوا من أمتنا منالا هائلا!! تحقير لأبى حنيفة فى الأولين، وتحقير لحسن البنا فى الآخرين، وتبقى أمتنا بلا تاريخ. ثم ينطلق الأقزام والأمساخ يعرضون أفكارهم على الأمة اليتيمة، لتجرى وراءهم إلى الهاوية.. إننى أحذر من الثقافة المسمومة التى(1/178)
تقدم للشباب الغض، وأذكر أننى ـ بعد احتلال ص _182
طائفة من الشباب للحرم المكى ـ قلت لرجل مسئول: هؤلاء ضحايا فكر معوج وتعليم مغشوش، وقد رأيت أشباها لهم فى عواصم إسلامية كثيرة، يلقنهم الجهل والغلو رجال لهم أسماء ولا مسميات وراءها... رأيت فى عين أحدهم نية القتل وأنا أذكر له بهدوء أن المفتى عندنا من خمسين سنة ألف رسالة عنوانها " القول الوافى فى إباحة التصوير الفوتوغرافى"، وأننا لو فرضناه مخطئا فالخلاف الفقهى فى قضية ما، يخرجها من دائرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فلا معنى لهذه السخائم الكامنة ضد التصوير والمصورين..! لكن الشاب كانت تبرق عيناه بنظرات الفتك، فعلمت أننى مع ولد عديم التربية، التحق بجماعة دينية لأنه لم يجد عصابة لقطع الطرق يلتحق بها، فهو فاتك فى ثياب واعظ! ومع ذلك فهو ضحية متحدثين فى الدين فقدوا الإنصاف والاتزان، يختارون من الأقوال الفقهية ما يلائم أذواقهم ـ وقد تكون سقيمة ـ ثم يعرضون ما يختارون على أنه الدين الأوحد، مع أن ما اختاروا هو الرأى الأضعف، ولو كان رأيا صحيحا ما جاز عرضه إلا على أنه رأى وحسب، وليس عقيدة ينشأ عنها كفر وإيمان.. *** إن تاريخ المسلمين العلمى أشرف كثيرا من تاريخهم السياسى، وإن مجهود الأئمة والمربين، من مجتهدين ومقلدين هو الذى حفظ الإسلام برغم ما أصاب أجهزة الحكم فيه من عطب بالغ.. نعم فى تاريخنا العلمى ما يستحق النقد والغربلة، ولكنه فى صميمه تاريخ فكر دءوب وسعى مخلص وبحر متلاطم الموج من المواهب والمدارك الجديرة بالدرس. ولم تجتمع الأمة فى تاريخها العلمى على ضلالة، ولم تعرف قداسة إلا لكلام المعصوم عليه الصلاة والسلام. ويوم يجىء رجل من وادى النيل أو صحراء نجد ليهيل التراب على ذلك التراث كله، فهو يقطع شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة والمرتقبة.. وهو يخدم بذلك ـ عن وعى أو غباء ـ الغارة الاستعمارية على دار الإسلام. وهنا نستلفت النظر بقوة إلى أن(1/179)
ما يدبر للإسلام بليل، أقسى وأنكى مما يلقاه فى وضح النهار.. إن المؤامرات تحاك بخبث لتدمير يومنا وغدنا، وليست أداة ذلك الحكومات العميلة ص _183
وحدها، أو الانقلابات العسكرية المصنوعة.. بل أداة ذلك اختراق أجهزة الدعوة فى نقطة ما، والنفاذ منها إلى داخل الجماعات الإسلامية ليتم ـ على نحو ما ـ عمل أخرق، يطيح بالنشاط الإسلامى ويوصد أمامه أبواب الحياة.. من أجل ذلك نهيب بالشباب المسلم أن يكون يقظا، وبالموجهين المسلمين أن يضبطوا كلماتهم وأحكامهم فلا يعطوا العدو فرصة للوثوب من خلالها.. احذروا من يجسم الشكل ويوهى الموضوع.. احذروا من يثير الفرقة ولا يبالى الجماعة.. احذروا من يصعد بالفروع إلى الأصول أو يهبط بالأصول إلى الفروع.. احذروا من يبسط لسانه فينا ولا يقول كلمة أبدا فى أعدائنا.. لقد رأيت من لم يكتب حرفا ضد الصهيونية أو الصليبية أو الشيوعية أو العلمانية.. ومع ذلك ألف كتبا ضد مسلمين ربما كانوا مخطئين أو مصيبين.. ما أخرسك هنا وأنطقك هناك؟! إن لم تكن العمالة لعدو الله فنحن أغنياء عن الحمقى الذين تهيجهم الصغائر ولا تهيجهم الكبائر!! أو الذين هم أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين..! آية الخوارج فى كل عصر ومصر...! *** ص _18 ص(1/180)
خاتمة قد أعطى نفسى الحق فى مخالفة أى فكر دينى سابق أو لاحق، ولكنى لا أعطيها أبدا حق الشذوذ أو الخروج على الإجماع.. إننى أوثر السير مع الجماعة الكبرى، وأحب وحدة الصف والهدف، وأرى أن الفرقة هزيمة وعذاب وشؤم، وأرفض أن تكون القضايا الصغرى سببا فى تنافر الأفئدة، وأوصى أن نتشبث بمعاقد الدين وعراه الوثقى. إن رب العالمين يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر، فهلا تعلمنا من ذلك تجاوز الهنات إذا احترمت الأمهات؟ إن التعاليم العشرين التى وضعها حسن البنا ـ رضى الله عنه ـ تضمنت خيرا كثيرا، وألحقت جماعته بالركب الإسلامى الكبير، ولم تفردها بسمة شاذة، ولم تجعل منه رجلا لطائفة منفصلة عن سواد الأمة. إنه إمام بين عدد من الأئمة الذين ظهروا خلال القرون الأربعة عشر يخدمون الكتاب والسنة، ويستمدون شرفهم من الولاء المطلق لله ورسوله، والحفاوة المطلقة بكل من يلقون فى هذا الميدان الطهور، وإن اختلفت الملامح النفسية والفكرية.. وقد تعلمت من حسن البنا الإنصاف للغير مهما خالف فى الرأى. نعم، عندما أخالف أحدا فى حكم ما فلا يجوز أن أهمل ما لديه من صواب كثير، ومواهب قد أفاءها الله عليه، يجب أن أحترم ذلك فيه، بل يجب أن أحترم ما وراء خطئه من غيرة دينية، تربطنى به وإن أنكرت قوله... إن الذى أقلق حسن البنا، ويقلق كل مصلح بعده، أصحاب الأهواء الجامحة والمعارف الضحلة عندما يستبد بهم جنون العظمة، ويريدون فرض قماءتهم على الناس باسم الدين!! ولعل إخراجى لهذا الكتاب يرجع إلى ضرورة الحفاظ على الإسلام من هوس أولئك الأغرار، إلى جانب أن الجمهور فقير إلى حقائق إسلامية كثيرة حرم منها دهرا.. والمسلمون ينهضون بالعلم لا غير. ص _185(1/181)
مقررات عشرة: ذلك وقد أعطيت نفسى الحق فى إضافة عشرة مقررات أخرى أحسب أننا بحاجة إلى إشاعتها. وشرحها وارد فى كتبى الأخرى وفى مؤلفات الرجال الذين يكدحون فى الحقل الإسلامى الرحب. لا أدرى أأصبت فى هذه الإضافة أم أخطأت؟ وحسبى أن الحق قصدت..!! * * * وهذه هى الإضافات التى أرى المجتمع الإسلامى محتاجا إليها: ا ـ النساء شقائق الرجال، وطلب العلم فريضة على الجنسين كليهما، وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وللنساء ـ فى حدود الآداب الإسلامية ـ حق المشاركة فى بناء المجتمع وحمايته. 2 ـ الأسرة أساس الكيان الخلقى والاجتماعى للأمة، والمحضن الطبيعى للأجيال الناشئة، وعلى الآباء والأمهات واجبات مشتركة لتهيئة الجو الصالح بينهما. والرجل هو رب الأسرة، ومسئوليته محدودة بما شرع الله لأفرادها جميعا. 3 ـ للإنسان حقوق مادية وأدبية تناسب تكريم الله له، ومنزلته الرفيعة على ظهر الأرض، وقد شرح الإسلام هذه الحقوق ودعا إلى احترامها. ص ـ الحكام ـ ملوكا كانوا أم رؤساء ـ أجراء لدى شعوبهم، يرعون مصالحها الدينية والدنيوية ووجودهم مستمد من هذه الرعاية المفروضة، ومن رضا السواد الأعظم بها، وليس لأحد أن يفرض نفسه على الأمة كرها، أو يسوس أمورها استبدادا.. 5ـ الشورى أساس الحكم، ولكل شعب أن يختار أسلوب تحقيقها، وأشرف الأساليب ما تمحض لله، وابتعد عن الرياء والمكاثرة والغش وحب الدنيا. 6 ـ الملكية الخاصة مصونة بشروطها وحقوقها التى قررها الإسلام، والأمة جسد واحد لا يهمل منها عضو، ولا تزدرى فيها طائفة، والأخوة العامة هى القانون الذى ينتظم الجماعة كلها فردا فردا، وتخضع له شئونها المادية والأدبية. ص _186(1/182)
7 ـ أسرة الدول الإسلامية مسئولة عن الدعوة الإسلامية، وذود المفتريات عنها، ودفع الأذى عن أتباعها حيث كانوا، وعليها أن تبذل الجهود لإحياء الخلافة فى الشكل اللائق بمكانتها الدينية. 8 ـ اختلاف الدين ليس مصدر خصومة واستعداء، وإنما تنشب الحروب إذا وقع عدوان أو حدثت فتنة أو ظلمت فئات من الناس. 9 ـ علاقة المسلمين بالأسرة الدولية تحكمها مواثيق الإخاء الإنسانى المجرد، والمسلمون دعاة لدينهم بالحجة والإقناع فحسب، ولا يضمرون شرا لعباد الله. 10 ـ يسهم المسلمون مع الأمم الأخرى ـ على اختلاف دينها ومذاهبها ـ فى كل ما يرقى ماديا ومعنويا بالجنس البشرى، وذلك من منطلق الفطرة الإسلامية والقيم التى توارثوها عن كبير الأنبياء، محمد عليه الصلاة والسلام. تلك هى المبادئ العشرة التى أقترح إضافتها، والتى أتقدم بها مع التعاليم العشرين لمجدد القرن الرابع عشر الإمام الشهيد حسن البنا، رضى الله عنه. ولمن شاء أن يقبل أو يرفض... وآخر ما ندعو به: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).(1/183)