إهداء
إلى أرواح الشهداء في القبة الخضراء على بارق نهر بباب الجنة (1)
إلى المرابطين والمجاهدين في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس
إلى أهل غزة الصامدين بإيمانِهم إذا وقعت الفتن (2)
إلى أطفال غزة الكبار الذين زلزلوا زلزالا شديدا
يا قابضينَ على الجِمارِ ووِردُهم
عند الصّباحِ وفي المساءِ دماءُ
عطَّرتُمُ الدنيا برَوحِ دمائكم
ولكم تفوحُ بطِيبِها الأشلاءُ
مليارُنا صفرٌ، وواحدُكم على
أرضِ الرِّباطِ كتيبةٌ و لواءُ
فلأيِّ شيءٍ نستمرُّ؛ وعُمرُنا
لا شيءَ فيهِ، وعندكم أشياءُ
ولكلِّ شيءٍ قد أتيتُ مسلِّمًا:
عِمتُمْ جلالاً أيها الشهداءُ (3)
ظ
__________
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداءُ على بارقِ نهرٍ ببابِ الجنةِ في قبةٍ خضراءَ يخرجُ عليهم رزقُهم من الجنةِ بكرةً وعشيًّا". [رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وحسنه الألباني]
(2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني رأيتُ كأنَّ عمودَ الكتاب انتُزع من تحتِ وسادتي فأتبعتُه بصري فإذا هو نورٌ ساطعٌ عُمدَ به إلى الشامِ، ألا وإنَّ الإيمانَ إذا وقعتِ الفتنُ بالشامِ". [رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني]
(3) من قصيدة: "عمتم جلالا أيها الشهداء" للشاعر المبدع/ أنس إبراهيم الدغيم (بتصرف)(1/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون).. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)..
أما بعد..
لقد نسي المسلمون وعد الله لهم في الذكر الحكيم باستخلافهم في الأرض: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } [النور:55] فتلاحقت هزائمهم النفسية أمام الضربات الموجعة المفجعة التي توالت عليهم منذ سقوط الخلافة عام 1924م وإلى يومنا هذا..
وبدت مظاهر الهزائم النفسية التي يحياها المسلمون واضحة جلية؛ مما طمأن أعداء الإسلام أن مؤامراتهم الخبيثة قد آتت أكلها؛ فقد غدا المسلمون كالقطعان السائبة يغير عليهم الذئاب من المشرق والمغرب يفترسون منهم ما يشاءون دون أن
يحرك أحد ساكنا!!(1/2)
وليس بخافٍ على أحد دور وكلاء أعداء الأمة المتحكمين في بلادنا؛ الذين عاونوا الأعداء في إخماد كل صيحة إسلامية تحاول إيقاظ الإيمان المخدر في نفوس العباد..
ولقد غاظهم أيما غيظ ثبات ثلة المجاهدين في أرض الرباط؛ على الرغم من تكالب الأعداء وتآمر الدنيا عليهم.. وأيم الله؛ إن هذا الثبات في ذاته لهو النصر المبين..!
هذا النصر الذي بدت تباشيره في أرض الرباط له أسباب وشروط.. وحري بالأمة في هذه الآونة أن تتوجه بكل فئاتها إلى دراسة وتحقيق أسباب النصر؛ فإن سنن الله الكونية نافذة، وعلى أهل الإيمان ألا يتأخروا في الأخذ بالأسباب..
إني أتوقُ إلى انتصارِ عقيدةٍ ... فيها لأنهارِ النجاةِ منابعُ
قالوا: ترومُ المستحيلَ؟ فقلتُ: ... بل وعدٌ مِنَ الرحمنِ حقٌّ واقعُ
واللهِ لو جرفَ العدوُّ بيوتَنا ... ورمَتْ بنا خلفَ المحيطِ زوابعُ
لظللتُ أؤمنُ أنَّ أمتَنا لها ... يومٌ مِنَ الأمجادِ أبيضُ ناصعُ
هذي حقائقُنا وليست صورةً ... وهميةً فيها العقولُ تُنازعُ
أنا لن أملَّ مِنَ النداءِ فربما ... أجدَى نداءٌ مِن فؤادي نابعُ (1)
وهذا كتاب "درة اليقين في أسباب النصر والتمكين".. جمعت فيه -بتوفيق من العلي الكبير- ما تيسر من أسباب النصر والتمكين؛ ورتبته على النحو التالي:
تمهيد: تناولت فيه السنن الربانية التي لا تتبدل إلى قيام الساعة.
وباب بعنوان: الثقة واليقين في وعد الله بنصر المؤمنين.
ثم شرعت في تفصيل أسباب النصر والتمكين على النحو التالي:
أولا: تحقيق الإيمان بالله الواحد.
ثانيا: الاعتصام بالله عز وجل.
ثالثا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعا: تحقيق الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من أعداء الله والدين.
خامسا: تجنب التنازع والشقاق، وتوحيد الكلمة.
سادسا: إحياء ثقافة الجهاد.
سابعا: تحقيق الزهد وقصر الأمل، والتخفف من الدنيا.
ثامنا: تأصيل الهوية الإسلامية.
__________
(1) من قصيدة "الأمل القادم" للشاعر/ عبد الرحمن العشماوي(1/3)
تاسعا: تحقيق الاستعانة بالله عز وجل.
ولا أزعم أنني استقصيت كل أسباب النصر والتمكين، ولكن هذا ما وفقني إليه المولى الكريم، والفضل كل الفضل للملك الوهاب، ثم للسادة العلماء الذين نقلتُ عنهم، فالله أسأل أن يجزل المثوبة لكل من نقلت عنه حرفا من السادة العلماء والشعراء.. وأن يجعل هذا الكتاب آية للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يعظم النفع به إلى يوم الدين، وأن يكتب لي به ثواب المجاهدين المخلصين.. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
فيا عباد الله..
ننامُ على الجراحِ.. نجوعُ.. نَعرى ... ولا يغتالُ صبري مُستبِدُّ
فما التنديدُ يُرجِعُ لي ترابًا ... ولكن يُرجِعُ الأوطانَ أُُسْدُ
إذا قاموا فـ"بسم اللهِ" صفًّا ... و"بسم اللهِ" صولتُها أشدُّ
أليسَ غدًا لناظرِهِ قريبٌ؟ ... غدًا سيمرُّ نحوَ القدسِ جُندُ
جميلة المصري
الإسكندرية في 11/ 5 / 1430هـ - 7 / 5 / 2009
واعتصموا بالله هو مولاكم:
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الحج:77-78]
اعتصم بالشيء: تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك، كما قال تعالى حكاية عن زليخا: { وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } [يوسف:32]، فالاعتصام: التمسك بما يعصم ويحفظ.(1/4)
والمعنى: اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم. وجملة (هو مولاكم) معلِّلة للأمر بالاعتصام بالله؛ لأن المولى يُعتصم به ويُرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته. والمولى: السيد الذي يراعي صلاح عبده.
(هُوَ مولاكم): أي مالككم وناصركم ومتولي أموركم. (نعم المولى): أي نِعم المدبر لشئونكم، حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم، فهو نعم المولى لمن تولاه، فحصل له مطلوبه، (وَنِعْمَ النصير): (النصير) صيغة مبالغة في النصر، أي الناصر هو؛ لمن استنصره فدفع عنه المكروه.. وقد أفلح من هو مولاه وناصره؛ إذ لا مثل له تعالى في الولاية والنصرة؛ فإن من تولاه لم يضع، ومن نصره لم يُخذل، وإذا نصر أحدا أعلاه على كل من خاصمه، بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عز وجل. وفي هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الاعتصام بالله تعالى وتحقيق مقام العبودية. وأما الكافرون فلا يتولاّهم تولي العناية ولا ينصرهم. (1)
قال ابن عباس ب: سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال القفال: اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون.
وقال سيد قطب /:
فالاعتصام بالله هو اليقين بأن (الإسلام) هو المنهج الكلي الشامل الذي يأخذ الحياة جملة، ولا يأخذها مزقا وتفاريق. والذي يتناول النفس والحياة من
أقطارها جميعا، ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة في قبضته فيحركها
كلها حركة واحدة متناسقة لا تصيب النفس بالفصام،
ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام.
[ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
__________
(1) مدارك التنزيل- روح المعاني - التحرير والتنوير- تيسير الكريم الرحمن(1/5)
فأما الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة؛ فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها؛ فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها في طريقه.
و"الاعتصام بحبل الله هو المحافظة على طاعته مراقبا لأمره". والمراد بمراقبة الأمر القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها، لا لمجرد العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر، كما قال طلق بن حبيب في التقوى: "هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وهذا هو الإيمان والاحتساب المشار إليه في كلام النبي خ كقوله: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا.."، و"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له.."؛ فالصيام والقيام هو الطاعة، و(الإيمان) مراقبة الأمر، وإخلاص الباعث هو أن يكون الإيمان الآمر لا شيء سواه، والاحتساب رجاء ثواب الله.
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل والله أعلم.
وأما الاعتصام به فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه؛ فإن ثمرة الاعتصام به هو الدفع عن العبد، والله يدافع عن الذين آمنوا.
فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يُفضي به إلى العطب ويحميه منه فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه
ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به
وتمكنه؛ فتفقد في حقه أسباب العطب؛ فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها(1/6)
ويدفع عنه قدره بقدره وإرادته بإرادته، ويعيذه به منه.] (1)
وقد ضمن الله لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته، قال تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج:40-41]
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي: وليُعينَنَّ الله مَن يقاتل في سبيله؛ لتكون كلمته العليا، وتكون كلمة عدو دينه السفلى، ولقد أنجز الله وعده. وسلط المهاجرين والأنصار على صناديد قريش وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم.
ونحو الآية قوله: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ } [محمد:7-8].
(إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي: إن الله لقوي على نصر مَن جاهد في سبيله من أهل طاعته، منيع في سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. [تفسير المراغي]
[وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هُدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف.. إن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه؛ يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله خ: { إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } [القصص:57]، فلما اتبعت هُدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.] [في ظلال القرآن]
__________
(1) مدارج السالكين(1/7)
وقال تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ . وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [الزخرف:43-44].
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ) [الاستمساك: شدة المسك، فالسين والتاء فيه للتأكيد. والأمر به مستعمل في طلب الدوام؛ لأنّ الأمر بفعل لمن هو مُتلبس به لا يكون لطلب الفعل بل لمعنى آخر؛ وهو هنا طلب الثبات على التمسك بما أوحي إليه، كما دلَّ عليه قوله: (إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ). وهذا كما يُدعى للعزيز المُكرَم، فيقال: أعزك الله وأكرمك، أي: أدام ذلك. والذي أُوحي إليه هو القرآن. وجملة: (إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ) تأييد لطلب الاستمساك بالذي أُوحي إليه وتعليل له.
والصراط المستقيم: هو العمل بالذي أُوحي إليه، فكأنه قيل: إنَّه صراط مستقيم، ولكن عدل عن ذلك إلى: (إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ) ليفيد أن الرسول خ راسخ في الاهتداء إلى مراد الله تعالى، كما يتمكن السائر من طريق مستقيم لا يشوبه في سيره تردد في سلوكه ولا خشية الضلال في بُنيانه. ومِثله قوله تعالى: { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } [النمل:79]
وهذا تثبيت للرسول خ وثناء عليه بأنه ما زاغ قيد أنملة عما بعثه الله به، ويتبعه تثبيت المؤمنين على إيمانهم.
(إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والاهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق، تكون بانيا على أصل أصيل، إذا بنى غيرك على الشكوك والأوهام، والظلم والجور.(1/8)
(وَإِنَّهُ) أي: هذا القرآن الكريم (لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي: فخر لكم، ومنقبة جليلة، ونعمة لا يُقدر قدرها، ولا يُعرف وصفها، ويذكركم أيضا ما فيه الخير الدنيوي والأخروي، ويحثكم عليه، ويذكركم الشر ويرهبكم عنه، (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) عنه، هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم، أم لم تقوموا به فيكون حجة عليكم، وكفرا منكم بهذه النعمة؟
وهنا عَرَّض بالمُعرِضين عنه والمجافين له بقوله: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)، مع التوجيه في معنى كلمة (ذِكر) من إرادة أن هذا الدِّين يُكسبه ويُكسب قومه حُسن السمعة في الأمم، فمَن اتبعه نال حظه من ذلك، ومَن أعرض عنه عُدَّ في عِداد الحمقى، مع الإشارة إلى انتفاع المتبعين به في الآخرة، واستضرار المعرضين عنه فيها.] (1)
فالاعتصام بالله: التمسك بكتابه، والتخلق بآدابه، والاعتبار بمواعظه، والرجاء في وعده، والخوف من وعيده، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه
كما قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً } [النساء:175] أي: فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم الله في رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاص لا يتفضل به على غيرهم، ولكنه يختص مَن يشاء بما شاء من أنواعهما. قال ابن عباس ب: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي: ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تُبلِّغهم السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة وفي الآخرة بالجنة والرضوان، وهذا الصراط المستقيم لا يهدي إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم واتباع سنة سيد المرسلين، والمراد أنه يوفقهم ويثبّتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم. [تفسير المراغي]
__________
(1) التحرير والتنوير-تيسير الكريم الرحمن(1/9)
وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63]
أي: فليتق الله من يفعلون ذلك منكم، فينصرفون عن رسول الله بغير إذنه، أن تصيبهم محنة وبلاء في الدنيا، أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع في الآخرة، بأن يطبع الله على قلوبهم، فيتمادوا في العصيان ومخالفة أمر الرسول، فيدخلهم النار وبئس القرار.
والآية تعم كل مَن خالف أمر الله وأمر رسوله، وجمد على التقليد من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب من الخطأ.
فاحذروا أن تخالفوا أمره وسنته وشريعته، بل عليكم أن تزنوا أقوالكم وأفعالكم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قُبل، وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي خ قال:
"مَن عمل عملا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ". (1)
نحن الذين قصدنا شطرَ عزتِنا ... فصار قرآنُنا للعزِّ يَحدونا
نحن الذين رشفنا مِن نَميرِ هدًى ... فليس إلا زلالُ الذكرِ يَروينا
رباهُ فاجعلْ كتابَ الحقِّ صارمَنا ... حتى نُقتِّلَ في الهيجا أعادينا
رباهُ فاجعلْ إلى الجناتِ قائدَنا ... كتابَك الحقَّ؛ ذي أسمى أمانينا (2)
- - -
ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم:
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ . وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } [آل عمران:100-101]
__________
(1) تفسير المراغي
(2) من قصيدة "حفاظ الذكر" للشاعر/ سعد العجمي(1/10)
[لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشئ في الأرض طريقها على منهج الله وحده، متميزة متفردة ظاهرة. لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله؛ لتؤدي في حياة البشر دورا خاصا لا ينهض به سواها. لقد وُجدت لإقرار منهج الله في الأرض، وتحقيقه في صورة عملية ذات معالم منظورة، تُترجَم فيها النصوص إلى حركات وأعمال، ومشاعر وأخلاق، وأوضاع وارتباطات.
وهي لا تحقق غاية وجودها، ولا تستقيم على طريقها، ولا تنشئ في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة، إلا إذا تلقت من الله وحده، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده.
هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات. وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة.. وهنا موضع من هذه المواضع، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة.. ولكنه ليس محدودا بحدود هذه المناسبة، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة، في كل جيل من أجيالها، لأنه هو قاعدة حياتها، بل قاعدة وجودها.
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها. ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم،
تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة
الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة.
كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها
صُعدا في طريق النماء والارتقاء. وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس،
وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب.(1/11)
هذا من جانب المسلمين. فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها. فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة. وأعداؤها يعرفون هذا جيدا. يعرفونه قديما ويعرفونه حديثا، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة، ومن قوة كذلك وعُدة.
وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين. وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يجندون من المنافقين المتظاهرين
بالإسلام، أو ممن ينتسبون زورا للإسلام؛ جنودا مجندة، لتنخر لهم
في جسم هذه العقيدة من داخل الدار، ولتصد الناس عنها،
ولتزين لهم مناهج غير منهجها، وأوضاعا غير
أوضاعها، وقيادة غير قيادتها..
فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعا واتباعا، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال.
ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)..
وما كان يفزع المسلم -حينذاك- أن يرى نفسه منتكسا إلى الكفر بعد الإيمان. وراجعا إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة. وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثَم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطا يُلهب الضمير، ويوقظه بشدة لصوت النذير.. ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير.. فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم، وآيات الله تتلى عليهم، ورسوله فيهم. ودواعي الإيمان حاضرة، والدعوة إلى الإيمان قائمة، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ)..(1/12)
أجل.. إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان.. وإذا كان رسول الله خ قد استوفى أجله، واختار الرفيق الأعلى، فإن آيات الله باقية، وهدي رسوله خ باقٍ.. ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون، وطريق العصمة بيِّن، ولواء العصمة مرفوع: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)..
أجل.. إنه الاعتصام بالله يعصم. والله سبحانه باقٍ. وهو سبحانه الحي القيوم. ولقد كان رسول الله خ يتشدد مع أصحابه رضوان الله عليهم في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يُفسح لهم في الرأي والتجربة في شئون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة، كشئون الزرع، وخطط القتال، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي، ولا بالنظام الاجتماعي، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان.. وفرق بين هذا وذلك بيِّن. فمنهج الحياة شيء، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر. والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة..
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي خ فقال: يا رسول الله! إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة؛ ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله خ. قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما وجه رسول الله خ؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسُري عن النبي خ وقال: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم. إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين".(1/13)
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر، قال: قال رسول الله خ: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا. وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني".
هؤلاء هم أهل الكتاب. وهذا هو هَدي رسول الله خ في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور، أو بالشريعة والمنهج.. ولا ضير وفق روح الإسلام وتوجيهه من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة، علما وتطبيقا.. مع ربطها بالمنهج الإيماني؛ من ناحية الشعور بها، وكونها من تسخير الله للإنسان. ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية، وتوفير الأمن لها والرخاء. وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية.
شكره بالعبادة، وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية..
فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني، وفي تفسير الوجود، وغاية الوجود الإنساني، وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضا.. أما التلقي في شيء من هذا كله، فهو الذي تغير وجه رسول الله خ لأيسر شيء منه. وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته؛ وهي الكفر الصراح..
هذا هو توجيه الله سبحانه، وهذا هو هدي رسوله خ.. فأما نحن الذين نزعم أننا مسلمون، فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا خ عن المستشرقين وتلامذة المستشرقين! وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاء وهؤلاء، ومن الفلاسفة والمفكرين: الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان! وأرانا نتلقى نظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة! وأرانا نتلقى قواعد سلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن، الذي انتهت إليه الحضارة المادية المجردة من روح الدين.. أي دين..(1/14)
إن الإسلام منهج. وهو منهج ذو خصائص متميزة؛ من ناحية التصور الاعتقادي، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها. ومن ناحية القواعد الأخلاقية، التي تقوم عليها هذه الارتباطات، ولا تفارقها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها. فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية. ومما يتناقض مع طبيعة القيادة أن تتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي..
ولخير البشرية جاء هذا المنهج يوم جاء. ولخير البشرية يدعو الدعاة لتحكيم هذا المنهج اليوم وغدا. بل الأمر اليوم ألزم، والبشرية بمجموعها تعاني من النظم والمناهج التي انتهت إليها ما تعاني. وليس هناك منقذ إلا هذا المنهج الإلهي، الذي
يجب أن يحتفظ بكل خصائصه كي يؤدي دوره للبشرية وينقذها مرة أخرى.
لقد أحرزت البشرية انتصارات شتى في جهادها لتسخير القوى الكونية. وحققت في عالم الصناعة والطب ما يشبه الخوارق -بالنسبة للماضي- وما تزال في طريقها إلى انتصارات جديدة.. ولكن ما أثر هذا كله في حياتها؟ ما أثره في حياتها النفسية؟ هل وجدت السعادة؟ هل وجدت الطمأنينة؟ هل وجدت السلام؟ كلا..! لقد وجدت الشقاء والقلق والخوف، والأمراض العصبية والنفسية، والشذوذ والجريمة على أوسع نطاق..!
وهذه البشرية هي التي يعمل ناس منها على حرمانها من منهج الله الهادي. وهم الذين يسمون التطلع إلى هذا المنهج "رجعية"..! ويحسبونه مجرد حنين إلى
فترة ذاهبة من فترات التاريخ.. وهم بجهالتهم هذه أو بسوء نيتهم
يحرمون البشرية التطلع إلى المنهج الوحيد الذي يمكن أن يقود
خطاها إلى السلام والطمأنينة، كما يقود
خطاها إلى النمو والرقي
ونحن الذين نؤمن بهذا المنهج نعرف إلى ماذا ندعو. إننا نرى واقع البشرية النكد، ونشم رائحة المستنقع الآسن الذي تتمرغ فيه. ونرى هنالك على(1/15)
الأفق الصاعد راية النجاة تلوح للمكدودين في هجير الصحراء المحرق
والمرتقى الوضيء النظيف يلوح للغارقين في المستنقع؛ ونرى أن
قيادة البشرية إن لم تُرَد إلى هذا المنهج فهي في طريقها إلى
الارتكاس الشائن لكل تاريخ الإنسان،
ولكل معنى من معاني الإنسان!
وأولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج ويتفرد، ولا يتلقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم؛ كيما يظل المنهج نظيفا سليما. إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى. والله أرحم بعباده أن يدعهم لأعداء البشر، الداعين إلى الجاهلية من هنا ومن هناك!
وهذا ما أراد الله سبحانه أن يلقنه للجماعة المسلمة الأولى في كتابه الكريم؛ وما حرص رسول الله خ أن يعلمها إياه في تعليمه القويم..] [في ظلال القرآن]
قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام:153] فعلم بهذا أن صراطه سبحانه هو العمل بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والإيمان بكل ما جاء به رسوله خ من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، والشرائع والأحكام، ظاهرا وباطنا، خلافا لأهل النفاق.
وقد دلت الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - ، والتابعين لهم بإحسان، على أن السبل التي نهى الله عن اتباعها، هي البدع والشبهات والشهوات المحرمة، والمذاهب والنحل المنحرفة عن الحق، وسائر الأديان الباطلة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود ت قال: خط رسول الله خ خطا بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما". وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)".(1/16)
ومما يحسن التنبيه عليه: أنه عز وجل ذكر في ختام الآية: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ... } { .. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الأنعام:151]. وفي ختام الآية: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... } { .. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام:152] . وفي ختام الآية: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ... } { .. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153]
قال بعض علماء التفسير: الحكمة في ذلك والله أعلم؛ أن مَن تدبر كتاب الله عز وجل، وأكثر من تلاوته، حصل له التعقل للأوامر والنواهي، والتذكر لما تشتمل عليه من المصالح العظيمة، والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، وبذلك ينتقل إلى التقوى: وهي فعل الأوامر وترك النواهي، اتقاء لغضب الله وعقابه، ورغبة في مغفرته ورحمته والفوز بكرامته.
وهذا معنى عظيم، وذلك من أسرار كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لكونه تنزيلا من حكيم حميد، لا تخفى عليه خافية، ولا يعجزه شيء، وهو العالم بأحوال عباده ومصالحهم، لا إله غيره ولا رب سواه، وقد أخبر سبحانه أنما أوحى الله به إلى نبيه خ هو روح تحصل به الحياة الطيبة، ونور تحصل به البصيرة والهداية، كما أخبر أن رسوله الكريم يهدي إلى صراطه المستقيم، الذي أوضحه في الآيات الثلاث التي ذكرنا آنفا، وذلك في قوله عز وجل: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } [الشورى:52-53](1/17)
فأوضح سبحانه أن الوحي الذي أوحاه إلى نبيه خ من الكتاب والسنة (روح) تحصل به الحياة الطيبة السعيدة الحميدة، ونور تحصل به الهداية والبصيرة، كما قال عز وجل: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام:122]
فأخبر سبحانه أن الكافر ميت منغمس في الظلمات، لا خروج له منها إلا إذا أحياه الله بالإسلام والعلم النافع، وقال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال:24] فأخبر سبحانه أن الاستجابة لله وللرسول هي الحياة، وأن مَن لم يستجب لله وللرسول فهو ميت مع الأموات، وقال عز وجل: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97] فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة أن مَن عمل صالحا من الذكور والإناث، وهو مؤمن بالله ورسوله؛ أحياه الله حياة طيبة، وهي الحياة التي فيها راحة القلب والضمير، مع السعادة العاجلة والآجلة، لاستقامة صاحبها على شرع مولاه سبحانه، وسيره على ذلك إلى أن يلقاه عز وجل، ثم أخبر سبحانه أنه يجزيهم في الآخرة أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، فجمع لهم سبحانه بين الحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة الكاملة في الآخرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم..(1/18)
ومعلوم أنه لا يحصل هذا الخير العظيم، إلا لمن اعتصم بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله خ قولا وعملا وعقيدة، واستمر على ذلك حتى يلقى ربه عز وجل، كما قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران:102-103] أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين أهل الإيمان: بأن يتقوا الله في جميع حياتهم، حتى يموتوا على ذلك، وأمرهم بالاعتصام بحبله، وهو دينه الذي بعث به نبيه خ، وهو الإسلام وهو التمسك بالقرآن والسنة، ونهى عن التفرق في ذلك لما يفضي إليه التفرق من ضياع الحق، وسوء العاقبة، واختلاف القلوب.
- - -
كونوا أنصار الله:
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [الصف:14]
جاء هذا الخطاب تذكيرا بأسوة عظيمة من أحوال المخلصين من المؤمنين السابقين وهم أصحاب عيسى ؛ مع قلة عددهم وضعفهم.
فأمر الله المؤمنين بنصر الدين، وهو نصر غير النصر الذي بالجهاد؛ لأن ذلك تقدم التحريض عليه في قوله تعالى: { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [الصف:11] ووَعَدهم عليه بأن ينصرهم الله..(1/19)
فهذا النصر المأمور به هنا نصر دِين الله الذي آمنوا به؛ بأن يبثُّوه ويَثْبُتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهل الكتاب، قال تعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [آل عمران:186] وهذا هو الذي شبه بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى ؛، فإن عيسى لم يجاهد مَن عاندوه، ولا كان الحواريون ممن جاهدوا، ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض، ثم دبَّ إليه
التغيير حتى جاء الإسلام فنسخه من أصله.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر الشديد النصر. والتشبيه لقصد التنظير والتأسي؛ فقد صدق الحواريون وعدهم، وثبتوا على الدين، ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب.
(من أنصاري إلى الله): شبه دعاؤهم إلى الدين وتعليمهم الناس ما يرضاه الله لهم بسعي ساعين إلى الله لينصروه، كما يسعى المستنجَد بهم إلى مكان مستنجِدهم لينصروه على مَن غلبه.
(نحن أنصار الله): أي نحن ننصر الله على من حادَّه وشاقَّه، أي ننصر دينه.
و(الحواريون): جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو، وهي كلمة مُعرَّبَة عن الحبشية (حَواريا) وهو الصاحب الصفي، وليست عربية الأصل ولا مشتقة من مادة عربية. ومعنى الحواري: الغسّال. و(الحواريون): اسم أطلقه القرآن على أصحاب عيسى الاثني عشر، ولا شك أنه كان معروفا عند نصارى العرب أخذوه من نصارى الحبشة. ولا يعرف هذا الاسم في الأناجيل.
وقد سمى النبي خ الزبير بن العوام حواريَّهُ على التشبيه بأحد الحواريين، فقال: "لكل نبي حواريٌّ وحواريي الزبير". [متفق عليه](1/20)
واعلم أن مقالة عيسى ؛ المحكية في هذه الآية غير مقالته المحكية في آية آل عمران: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران:52]، فإن تلك موجهة إلى جماعة بني إسرائيل الذين أحسَّ منهم الكفر لما دعاهم إلى الإيمان به. أما مقالته المحكية هنا فهي موجهة للذين آمنوا به طالبا منهم نصرته.
وفرع على قول الحواريين: (نحن أنصار) الإخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين: طائفة آمنت بعيسى وما جاء به، وطائفة كفرت بذلك، وهذا التفريع يقتضي كلاما مُقدَّرا وهو: فنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني إسرائيل وكفر بعض.
والمقصود من قوله: (فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) التوطئة لقوله: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) والتأييد النصر والتقوية، أيد الله أهل النصرانية بكثير ممن اتبع النصرانية بدعوة الحواريين وأتباعهم.
وإنما قال: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا) ولم يقل: فأيدناهم؛ لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم؛ إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير، ومُثِّل بهم، وأُلْقوا إلى السباع في المشاهد العامة تفترسهم. والحكم على المجموع في مثل هذا شائع، كما تقول: نصر الله المسلمين يوم بدر مع أن منهم مَن قُتل. والمقصود نصر الدين.
والمقصود من هذا الخبر وعد المسلمين الذين أُمروا أن يكونوا
أنصارا لله بأن الله مؤيدهم على عدوهم.
والظاهرُ: هو الغالب، يقال: ظهر عليه، أي غلبه، وظهَر به أي غلب بسببه، أي بإعانته فمعنى (ظاهرين) أنهم منصورون؛ لأن عاقبة النصر كانت لهم؛ فتمكنوا من الحكم في اليهود الكافرين بعيسى ومزقوهم كل ممزق.(1/21)
وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم، ما داموا متناصرين على الحق، مجتمعين عليه، غير متفرقين عنه ولا متخاذلين، كما وقع لسلفهم، اتفقوا فملكوا،
وإلا فإذا تفرقوا هلكوا.
فأنتم يا أمة محمد، كونوا أنصار الله ودعاة دينه، ينصركم الله كما
نصر مَن قبلكم، ويظهركم على عدوكم. (1)
فيا عباد الله..
إن راية القرآن لم تهزم قط، ومَن هُزم من أمراء المسلمين في هذا التاريخ الطويل؛ إنما هُزموا لأنهم كانوا يستظلون برايات المطامع والأهواء، والعصبيات والأحقاد، ما استظلوا براية القرآن، وكانوا يضربون بسيف البغي والإثم والعدوان، وما ضربوا بسيف محمد..! إنه ما ضرب أحد بسيف محمد
ونبا في يده سيف محمد أبدا..
فبينما نحن معشر المسلمين أمة قاهرة ظاهرة في الأرض لنا الملك والسلطان والسيف والصولجان؛ ولنا الكلمة العليا؛ إن قلنا أصغت الدنيا لقولنا؛ وإن
أمرنا خضعت الأمم لأمرنا وسلطاننا.. فلما تركنا أمر ربنا، وخالفنا قواعد ديننا، وتنكبنا الطريق المستقيم الذي رسمه الله لنا، وخط لنا خطوطه
واضحة بينة قوية وأمرنا بالسير فيه وسلوكه، لما سلكنا هذا السبيل
المعوج صرنا إلى ما صرنا إليه من الفرقة والشتات والذل والهوان.
وهل في الدنيا والآخرة شر وداء وبلاء إلا وسببه الذنوب
والمعاصي وترك الأوامر والنواهي.
وها إنَّا و إنْ كنا غفلنا ... فإنَّا بعدَ صحوتِنا نقولُ:
هوَ الإسلامُ دينُ اللهِ يبقى ... ويحملُ صرحَهُ جيلٌ فجيلُ
وإنَّا في العقيدةِ قد غُرِسنا ... كما غُرِستْ بطيبتِنا النخيلُ
مع الهادي وصُحبتِه هوانا ... وشرحُ الحبِّ أمرٌ يستحيلُ
مهاجرةً وأنصارًا سنحيا ... رعيلُ الفتحِ يتبعُهُ الرعيلُ
الزموا الطاعة فإنها حصن المجاهد:
__________
(1) التحرير والتنوير - تيسير الكريم الرحمن - محاسن التأويل(1/22)
تلكم هي وصية الأمراء والحكام لخلفائهم ولقادة الجيوش على مدار التاريخ.. قال الحليمي: ويوصي الإمام أمير السرية والجند بتقوى الله وطاعته والاحتياط والتيقظ، ويحذرهم الشتات والفرقة والإهمال والغفلة، ويأخذ على الجند أن يسمعوا ويطيعوا أميرهم ولا يختلفوا عليه وينصحوا له، ولا يخذل بعضهم بعضا، وإن أظفرهم الله على العدو لا يَغُلُّوا ولا يخونوا.. ا.هـ
وهذا عمر بن الخطاب ت يوصي سعد بن أبي وقاص ت وجنده في حرب العراق قائلا: [فإني آمرك ومن معك من أجناد المسلمين بتقوى الله علي كل حال؛ فإن تقوي الله أفضل العُدة علي العدو، وأقوي المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليكم من عدوكم. وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله. ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدتنا كعدتهم؛ فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة. وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سُلط عليهم شرٌ منهم، كما سُلط علي بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. واسألوا الله العون علي أنفسكم كما تسألونه النصر علي عدوكم.. أسأل الله ذلك لنا ولكم.] [العقد الفريد](1/23)
وتاريخ الأمة حافل بالأخبار الزاكية حينما كان الاعتصام بالله وبسنة رسوله خ هو روح الحياة، ففي عهد الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم حين كان الدين مقاما في الدولة، كانت تُثل (1) عروش ممالك الدنيا ودولها شرقًا وغربًا، وتلفظ بركاتها وكنوزها وخيراتها في أيدي المسلمين، فكانوا سادة العالم وأرباب خيراته وغلاته.. وهذا عدي بن حاتم ت يقول: كنت عند رسول الله خ فجاءه رجلان: أحدهما يشكو العَيْلَة(2)، والآخر يشكو قطع السبيل. فقال رسول الله خ: "أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العِيرُ إلى مكة بغير خفير، وأما العَيْلَة فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدُكم بصدقته لا يَجدُ مَن يقبلها منه". [رواه البخاري]
يقول راوي الحديث عدي بن حاتم ت: فلقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئا حتى تبلغ هذا البيت، ولم يدرك ت تحقق النبوءة الثانية وهي فيضان المال، ولكنه كان يحلف بالله لتكونن. [سير أعلام النبلاء]
وبالفعل كانت بعد عدي بن حاتم ت في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز؛ حيث فاض المال في عهده حتى لم يوجد من يأخذ الصدقة.. عن عمر ابن أسيد قال: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح حتى يرجع بماله كله، قد أغنى عمر الناس. [سير أعلام النبلاء]
__________
(1) ثلَّ الشيء: هدمه وكسره. (2) العيلة: الفقر.(1/24)
إن ما بشر به النبي خ من ظهور الأمن حتى رأي عدي بن حاتم راوي الحديث صدق بشارته، ورأى المرأة من العراق حاجَّة تؤم مكة تقطع الصحارى والقفار الموحشة وحيدة لا تخاف حتى تصل البيت، إنما كان ذلك الأمن المطمئن حين أقيمت شعائر الدين في دولة الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، وما ذلك إلا لظهور دولة الإسلام المقيمة لدين الله، فكان الأمن الذي لا يعرفه العالم اليوم ولا يشهد له مثيلاً، ولقد تعاقبت دول في تاريخ الإسلام وتفاوتت في إقامة الدين إلا أنا نرى بشهادة التاريخ أن الأمن كان حليف كل دولة أقامت دين الله بين أمصارها وأفرادها، وجعلته نظام حكمها، ونراه يقل ويضمحل إلى أن يتلاشى حين يقل ويتراخى موقف الحكام من إقامة الدين وربما ينقلبون على دينهم، فيقلب الله عليهم الأمن خوفا..
أما فيضان المال في عهد عمر فليس لكثرة الفتوح في عهده، فالفتوح في عهده كما هي في عهد مَن سبقه، وليس ذلك ناتج عن حسن تخطيط لاقتصاد الدولة، وإنما كان السبب الأول والأخير هو إقامة دين الله وشعائره في عهد عمر؛
فقد أحيا / مواقيت الصلاة بعد أن أميتت، ورد المظالم، وعزل
العمال الظلمة، وأقام الدين إقامة شهدت له بها الرعية كلها
برها وفاجرها، وشهد له بها التاريخ إلى يومنا الحاضر.
فكان ذلك الرغد من العيش بسبب ذلك.(1/25)
أما عند ترك إقامة الدين أو التخلف والتقهقر عنها فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب تلك الأمة المسلمة التي تنكرت لدينها بإلباسها لباس الجوع والخوف، وتنكيد عيشها، وثل عروش ملكها، وينزل سبحانه وتعالى بها من أليم عقابه وشدة بأسه ما لا ينزله بالدول الكافرة ابتداءً، وذلك أن هذه الدولة المسلمة عرفت ثم أنكرت وآمنت ثم غفلت، ووصلت إلى الأمن والعز والرغد بدين الله وطاعتها لله ثم جحدت بعد ذلك؛ فيذيقها الله بذلك ما لا يذيق الكافرين وذلك أن الله سبحانه وتعالى "يعاقب على الكفران بالنعمة ما لا يعاقب على الكفر، وعلى الكنود ما لا يعاقب على الجحود". [ردة ولا أبا بكر لها للندوي]
قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال:53]
وهذا رسول الله خ يبين لنا أن إقامة الدين سبب لحفظ ملك الأمة الإسلامية وعزها، وأن الله سبحانه وتعالى يُمكِّن به الحاكم المسلم ويؤيده، وأنه لا ينزع الملك منه إلا إذا ترك إقامة الدين، وأن مَن يتخلى عن إقامة الدين يبعث الله له من يسومه سوء العذاب: عن معاوية بن أبي سفيان ت أن رسول الله خ قال: "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحدٌ إلا كَبَّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين". [رواه البخاري وأحمد]
وعن عبد الله بن مسعود ت قال: قال رسول الله خ: "أما بعد يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث عليكم من يَلحاكم كما يُلحى هذا القضيب". [رواه أحمد وصححه الألباني](1/26)
قال العلامة الألباني / في "السلسلة الصحيحة" تعليقًا على الحديث: (يلحى): أي يقشر. وهذا الحديث علَم من أعلام نبوته خ، فقد استمرت الخلافة في قريش عدة قرون، ثم دالت دولتهم بعصيانهم لربهم، واتباعهم لأهوائهم، فسلط الله عليهم من الأعاجم مَن أخذ الحكم من أيديهم، وذل المسلمون من بعدهم، إلا ما شاء الله. ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية أن يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إلى دينهم، ويتبعوا أحكام شريعتهم، ومن ذلك أن الخلافة في قريش بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه، ولا يحكموا آراءهم وأهواءهم، وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، وإلا فسيظلون محكومين من غيرهم، وصدق الله إذ قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]. والعاقبة للمتقين. ا.هـ
ولقد صدق ابن المعتز حين قال:
المُلك بالدينِ يبقى ... والدينُ بالمُلك يقوى
وهكذا حين يقام الدين على مساحة أكبر من الأرض ولو لم تستوعب الأرض جميعا؛ فيحصل من التمكين وهناءة العيش وبركته.. والذئب حين رعى الغنم في عهد عمر بن عبد العزيز ليس ذلك بكذب ولا أساطير، وإنما حقيقة من حقائق التمكين حين يُقام الدين، تشهد لها نصوص القرآن، وصحاح السنة، وسجلات التاريخ. فقد ذكر ابن سعد في "الطبقات"، وأبو نعيم في "الحلية" عن مالك بن دينار قال: "لما ولي عمر بن عبد العزيز / قالت رعاة الشاء في رءوس الجبال: مَن هذا الخليقة الصالح الذي قام على الناس؟ قال: فقيل لهم: وما أعلمكم بذلك؟ قالوا: إنه إذا قام خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شائنا". (1)
__________
(1) وقد ساق هذه الحادثة بالسند الإمام الآجري في كتابه "أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز"، وحكم عبد الله العسيلان محقق الكتاب على السند بالصحة (2) عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين (بتصرف)(1/27)
وذكر ابن كثير بالإسناد عن حماد بن زيد عن موسى بن أعين الراعي -وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة- قال: كانت الأسد والغنم والوحوش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب، فقلت: إنا لله! ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك، قال: فحسبناه فوجدناه قد هلك في تلك الليلة. (1)
وهذا الملك العادل نور الدين صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهدا في الفرنج، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، محبا للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضا للظلم، صحيح الاعتقاد، مؤثرا لأفعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحدا في زمانه..
أقام الحدود، وفتح الحصون، وكسر الفرنج مرارا عديدة، واستنقذ
من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد
استحوذوا عليها من معاقل المسلمين
قال ابن الأثير: لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم؛ فكان يقتات منها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال، فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا ولو مات جوعا..!
وكان يكثر اللعب بالكرة، فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك،
فقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على
الكر والفر وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد(1/28)
وذكر ابن الأثير أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة؛ إذ رأى رجلا يُحدِّث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه؟ فإذا هو رجل معه رسول من جهة القاضي، وهو يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي! فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك أقبل مع خصمه ماشيا إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم.. فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي حتى انفصلت الخصومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل.. فلما تبين ذلك قال السلطان:
إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دُعي إليه؛ فإنما نحن معاشر الحكام؛ أعلانا وأدنانا متبعون لرسول الله خ ولشرعه، فنحن قائمون
بين يديه طوع مراسيمه، فما أمرنا به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا
أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته
ذلك الذي ادعى به ووهبته له!
وقد كان / مهيبا وقورا، شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر؛ فكانوا يقفون بين يديه..! ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له، ومشى خطوات، وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون..
وإذا أعطى أحدًا منهم شيئا مستكثرا يقول: هؤلاء جند الله، وبدعائهم
نُنصَر على الأعداء ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم،
فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا!(1/29)
وقد سمع جزء حديث وفيه: "فخرج رسول الله خ متقلدا السيف"؛ فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه خ، وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم، ولا يفعلون كما فعل رسول الله خ؟ ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله خ .
وقال الفقيه أبو الفتح الأشري: بلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج، فسمعوهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم (يعنون نور الدين) له مع الله سر؛ فإنه لم يظفر ويُنصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا ويُنصر بالدعاء وصلاة الليل؛ فإنه يصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله ويدعوه، فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا.. (فهذا كلام الكفار في حقه)!
وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمنا لقيام الليل، يصوم كثيرا، ويمنع نفسه عن الشهوات، وكان يحب التيسير على
المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والأيتام
والأرامل، وليست الدنيا عنده بشيء. رحمه الله
وبل ثراه بالرحمة والرضوان (1)
جمع الشجاعةَ والخضوعَ لربِّهِ ما أحسنَ المحرابَ في المحرابِ!
وذكر د. علي الصلابي أن [الله تعالى أيد العثمانيين على الأعداء، ومنَّ عليهم بالفتح؛ فتح الأراضي وإخضاعها لحكم الله تعالى، وفتح القلوب وهدايتها لدين الإسلام. فعندما استجاب العثمانيون لشريعة الله جلبت لهم الفتح، واستنزلت عليهم نصر الله.
إن عز العثمانيين وشرفهم العظيم الذي سطر في كتب التاريخ يرجع إلى تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله خ، ويتبين ذلك بوضوح في سيرة سلاطين العثمانيين من أمثال: عثمان الأول، ومراد، ومحمد الفاتح.. لقد عاشوا في بركة ورغد من الحياة الطيبة، وما نالوا ذلك إلا بإقامة دين الله..
__________
(1) البداية والنهاية(1/30)
لقد انتشرت الفضائل في زمن محمد الفاتح وانحسرت الرذائل؛ فنشأ جيل فيه نبل وكرم وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل العقيدة والشريعة، متطلعا إلى ما عند الله من الثواب.. لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته وحكامه إلى تعاليم الإسلام.] [الدولة العثمانية (بتصرف)]
وهذه وصية محمد الفاتح لابنه وهو على فراش الموت، والتي تعبر أصدق التعبير عن منهجه في الحياة، وقيمه ومبادئه التي آمن بها والتي يتمنى من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها: ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لأني تارك خلفا مثلك. كن عادلاً صالحا رحيما، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو و(3) الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها..
وسِّع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين .
وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، واحْذُ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله، ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو وأكثر من قدر
اللزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك. [الدولة العثمانية](1/31)
هكذا كانوا رضوان الله عليهم يعظمون الشرع، وينصرون الدين، ويجتهدون في التأسي برسول الله خ في جل أعمالهم.. فسادوا الدنيا، وفتحوا الممالك شرقا وغربا، وبسطوا سلطان الشريعة في أرجاء المعمورة؛ فسعدت الخليقة، وعاشت زمنا رغدا في ظل عدلهم..
وفي معركة "عين جالوت" كان التتار يتفوقون على الجيش المصري بقيادة "قطز" في سبع مزايا حيوية: التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعُدة، وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية.. هذا التفوق له نتيجة متوقعة واحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروم والفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل.
ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، وعلى رأس الأسباب التي أدت إلى هذا النصر أن شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام وجهوا إرشاداتهم الدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص، وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًا طاهرًا من الذنوب. وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد.
يقول فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي /: إن الدين بالنسبة لنا نحن المسلمين ليس ضمانا للآخرة فحسب؛ إنه أضحى سياج دنيانا وكهف بقائنا.. ومِن ثَم فإنى أنظر إلى المستهينين بالدين في هذه الأيام على أنهم يرتكبون جريمة الخيانة العظمى؛ إنهم - دروا أو لم يدروا - يساعدون الصهيونية والاستعمار على ضياع بلداننا وشرفنا ويومنا و غدنا..!! [حصاد الغرور]
فيا عباد الله..
ماذا سوى عودةٍ لله صادقةٍ ... عسى تُبدَّلُ هذي الحالُ و الصورُ
عسى يعودُ لنا ماضٍ به ازدهرت ... كل الدُنا واهتدى من نورِهِ البشرُ
على أساسِ الهدى كانت مدائنُنا ... وفي سبيلِ العُلا لم يُثنِنا سفَرُ
لم نفتخرْ أبدًا بالطينِ أبنيةً ... كلا.. ولكننا بالعدلِ نفتخرُ(1/32)
إذا تطاولَ بالأهرامِ منهزمٌ ... فنحنُ أهرامُنا سَلمانُ أو عمرُ
أهرامُنا شادها طه؛ دعائمُهُ ... وحيٌ مِن اللهِ لا طينٌ ولا حَجَرُ
أهرامُنا في ذُرا الأخلاقِ شامخةٌ ... هيَ السماحةُ وهي المجدُ والظفرُ غيثُ النبوةِ يسقيها فتزدهِرُ
أهرامُنا في رُبَى التوحيدِ راسخةٌ
من قصيدة "دم المصلين في المحراب ينهمر" للشاعر/ أحمد التويجري
- - -
للخطيئة أثرها في النصر والهزيمة:
لقد تحوَّل نصر المؤمنين إلى هزيمة في أُحُد لمخالفة نفَر من أصحاب رسول الله خ لأمر من أوامره دون قصد منهم، وكان الدرس أليما والعقاب قاسيا، ولذا لا نعجب لِما حل بالمسلمين في هذه الأيام العصيبة من تمزيق الشمل وذهاب الشوكة، قال تعالى: { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران:165-166]
أي: لا ينبغي لكم أن تعجبوا مما حل بكم في هذه الواقعة، فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم في بدر، فقد كان نصركم في تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين في هذه.
فلماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه، وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أُحد وتسألون عن سببه.
وفائدة قوله: (قد أصبتم مثليها..) التنبيه إلى أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحد فأنتم هزمتموهم مرتين، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة.
وقد كان سبب تعجبهم أنهم قالوا: كيف ننصر الإسلام الذي هو الدين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله، ومع ذلك ينصرون علينا؟!
وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بجوابين:
- قوله: (قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا).
- قوله: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي: إن هذا الذي وقع إنما وقع بشؤم معصيتكم لأنكم عصيتم الرسول في أمور كثيرة:(1/33)
(ا) إن الرسول خ قال: المصلحة في البقاء في المدينة، فلا نخرج إلى أُحد، فأبيتم إلا الخروج، وكان الرأي ما رآه الرسول حتى إذا ما دخلها المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل.
(ب) إنكم فشلتم وضعفتم في الرأي.
(ح) إنكم تنازعتم وحصلت بينكم مهاترة كلامية.
(د) إنكم عصيتم الرسول خ وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكون من ورائكم.
ولا شك أن العقوبات آثار لازمة للأعمال، والله تعالى إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية كما قال: { إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [آل عمران: 125].
(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، وهو القادر على التخلي عنكم إن خالفتم وعصيتم، وهو سبحانه قد ربط الأسباب بالمسببات، ولا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر.. فوجود الرسول خ بينكم وأنتم قد خالفتم سنن الله في البشر لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن.
(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) أي: وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أُحد، فهو بإذن الله وإرادته وقضائه السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها؛ فكل عسكر يخطئ الرأي، ويعصي قائده، ويُخلِّي بين العدو وبين ظهره، يُصاب بمثل ما أُصبتم به، أو بما هو أشد وأنكى منه. والأمر القدري إذا نفذ، لم يبقَ إلا التسليم له، وأنه سبحانه قدَّره لحِكَم عظيمة وفوائد جسيمة.
وقد رتَّب الله تعالى الأسباب والمسببات في هذا العالم على نظام، فإذا جاءت المسببات من قِبَل أسبابها فلا عجب، والمسلمون أقل من المشركين عددا وعُددا؛ فانتصار المسلمين يومَ بدر كرامة لهم، وانهزامهم يوم أُحُد عادة وليس بإهانة.(1/34)
وفي ذلك تسلية للمؤمنين، وعبرة تشرح لهم ما تقدم من قوله: { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } [آل عمران:137].
(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: ليظهر علم الله بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه، واستفادتهم من المصايب حتى لا يعودوا إلى أسبابها، وليعرفوا سنن الله عند ما يظهر فيهم حكمها. [تفسير المراغي- السعدي-ابن عاشور]
والآيات في سورة آل عمران تقرر أن الهزيمة في غزوة أحد [كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [آل عمران:155]
كما تقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا -وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به- بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران:146-148](1/35)
وفي توجيه للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة توجيهها للتطهر والاستغفار: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران:133-135]
ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم: الاعتداء والمعصية: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [آل عمران:112]
وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة، كما نجد الكلام عن التقوى وتصوير حالات المتقين يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة، ويربط بين جو السورة كلها -على اختلاف موضوعاتها- وجو المعركة. كما نجد الدعوة إلى ترك الربا، وإلى طاعة الله والرسول، وإلى العفو عن الناس، وكظم الغيظ والإحسان.. وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية. والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي الهام.] [في ظلال القرآن]
وقال سبحانه: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173](1/36)
يقول فضيلة الشيخ/ الشعراوي /: [لا ينبغي أن نبحث في هذه الجندية: أصادق هذا الجندي في الدفاع عن الإسلام أم غير صادق؟ إنما ننظر في النتائج: إنْ كانت له الغلبة فإن طاقة الإيمان فيه كانت مخلصة، وإنْ كانت الأخرى فعليه هو أن يراجع نفسه ويبحث عن معنى الانهزام الذي كان ضد الإسلام في نفسه، لأنه لو كان من جُند الله بحق لتحقق فيه: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، ولا يُغلب جند الله إلا حين تنحل عنهم صفة من صفات الجندية.
وتأمل مثلاً ما حدث في غزوة "أُحد" حيث انهزم المسلمون؛ وإنْ كانت كلمة الهزيمة هنا ليست على سبيل التحقيق لأن المعركة كانت سجالاً، وقد انتصروا في أولها، لكن النهاية لم تكُنْ في صالحهم؛ لأن الرماة خالفوا أمر رسول الله خ، والهزيمة بعد هذه المخالفة أمر طبيعي.
وهل كان يسرُّك أيها المسلم أنْ ينتصر المسلمون بعد مخالفتهم أمر رسولهم؟ والله لو انتصروا مع مخالفتهم لأمر رسولهم لهانَ كل أمر لرسول الله خ بعدها، ولقالوا: لقد خالفنا أمره وانتصرنا..! إذًا فمعنى ذلك أن المسلمين لم ينهزموا، إنما انهزمت الانهزامية فيهم، وانتصر الإسلام بصِدْق مبادئه.] [تفسير الشعراوي](1/37)
ولما كان [أمر القلوب غيب مما يستأثر الله به ولا يطلع الناس عليه، شاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر وبالوسيلة التي يدركها البشر.. فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين ليتكشف المخبوء في القلوب ويتميز الخبيث من الطيب، ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين: { وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران:176-179]
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة.. فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور، أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل، ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة!(1/38)
هناك دائما الشبهة الكاذبة أو الأمنية العاتبة: لماذا يا رب؟! لماذا يُصاب الحق وينجو الباطل؟! لماذا يُبتلَى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟! ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل ويعود بالغلبة والغنيمة؟! أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟! وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟! وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة وفيها فتنة للقلوب وهزة؟!
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أُحد في دهشة واستغراب: أنى هذا؟!
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير والبيان الأخير. ويريح الله القلوب المتعبة ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية، ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله: أمس واليوم وغدا.. وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية:
إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك، وبقاءه منتفشا فترة من
الزمان ليس معناه أن الله تاركه، أو أنه من القوة بحيث لا يُغلب،
أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا..
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان ليس معناه أن الله مجافيه أو ناسيه! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه..
كلا.. إنما هي حكمة وتدبير.. هنا وهناك.. يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام، وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد
العذاب باستحقاق..! ويبتلى الحق ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم
الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت.. فهو الكسب للحق،
والخسار للباطل مضاعفا هذا وذاك! هنا وهناك!
(وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).. إنه يواسي النبي خ ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره; وهو يرى المغالين في الكفر يسارعون فيه ويمضون بعنف واندفاع وسرعة كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه!(1/39)
وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية.. فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية; كأنه يجهد لنيل السبق فيه! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف أو من يهتف له من الإمام إلى جائزة تُنال!
وكان الحزن يساور قلب رسول الله خ حسرة على هؤلاء العباد; الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار وهو لا يملك لهم ردا وهم لا يسمعون له نذارة! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر من الشر والأذى يصيب المسلمين ويصيب دعوة الله وسيرها بين الجماهير التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية.. فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا.. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم. فيطمئن الله رسوله خ ويواسي قلبه ويمسح عنه الحزن الذي يساوره.
(وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا).. وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئا. والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان. إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو، وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو. ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول خ وعاتق المسلمين جملة.. فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله، وهم أضعف من أن يضروا الله شيئا.. وهم إذن لن يضروا دعوته. ولن يضروا حملَة هذه الدعوة مهما سارعوا في الكفر ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى.
إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين، وينتفشون غالبين وهم أعداؤه المباشرون؟ لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ)..(1/40)
يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله; وأن يحملوا وزرهم كله، وأن يستحقوا عذابهم كله، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق! (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)..
ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)..
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم. دلائله مبثوثة في صفحات الكون وفي أعماق الفطرة.. ثم إن الدعوة إلى الإيمان قائمة على لسان الرسل، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة ومن جمال التناسق ومن صلاحية للحياة والناس..
أجل.. كان الإيمان مبذولاً لهم فباعوه واشتروا به الكفر على علم وعن بينة، ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة. ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا.
فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء. ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا، ولم يجعل في الباطل قوة. فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته
بهذه القوة الضئيلة الهزيلة مهما انتفشت ومهما
أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين!
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).. أشد إيلاما - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام!
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)..(1/41)
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور والشبهة التي تجول في بعض القلوب والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم; ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية; يحسبون أن الله -حاشاه- يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان فيُملي له ويُرخي له العنان! أو يحسبون أن الله سبحانه لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل فيدع للباطل أن يحطم الحق ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم يَدَع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين يَلِّجون في عُتوهم، ويسارعون في كفرهم وطغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!
وهذا كله وهم باطل، وظن بالله غير الحق والأمر ليس كذلك. وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن.. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه.. إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة، وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد:
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا).. ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة بالابتلاء الموقظ لابتلاهم.. ولكنه لا يريد بهم خيرا؛ وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء!(1/42)
(وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).. والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد الله به الخير. فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم - ولو وقع الابتلاء
مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير
اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين.
ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين أن يميزهم من المنافقين الذين اندسوا في الصفوف تحت تأثير ملابسات شتى ليست من حب الإسلام في شيء.
فابتلاهم الله هذا الابتلاء في أُحد بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم
ليميز الخبيث من الطيب عن هذا الطريق:
(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)..
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله سبحانه، وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان ومظهر الإسلام؛ بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان ومن روح الإسلام. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشئ في الأرض واقعا فريدا ونظاما جديدا.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر:
يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة..(1/43)
وكل هذا يقتضي أن يُصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يُضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تُسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله سبحانه أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة!
كذلك ما كان من شأن الله سبحانه أن يطلع البشر على الغيب الذي استأثر به؛ فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس مصمما على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار. وهو مصمم هكذا بحكمة. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض. وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب. ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم. لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه ويصل كيانه بكيان هذا الكون. وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها ألا يحرك يدا ولا رجلاً في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقا مشغولاً بهذه المصائر بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض!
من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يُطلع الناس على الغيب.
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم وتجريده من الغبش وتمحيصه من النفاق، وإعداده للدور الكوني العظيم الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟
(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ).. وعن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة،
وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد.. عن طريق هذا
كله يتم شأن الله، وتتحقق سنته، ويميز الله الخبيث
من الطيب، ويمحص القلوب ويطهر النفوس..
ويكون من قدر الله ما يكون..
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله وهي تتحقق في الحياة.. وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة..] [في ظلال القرآن]
متى نقضتم عهد الله سلط عليكم عدوكم:(1/44)
عن ابن عمر ب قال: أقبل علينا رسول الله خ فقال: "يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا.. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم.. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القَطْر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا.. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم.. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم". [رواه ابن ماجه واللفظ له، والبزار والبيهقي، وقال الألباني في صحيح الترغيب: صحيح لغيره]
[فمتى أخلَّ المجاهد بشيء من صفات العبودية، أو تجرد عن شيء من مظاهر الإيمان، أو تلبس بفعل من أفعال المخالفين، صار مشابها للأعداء بوجه من وجوه الشبه، وتلبس بشيء من صفاتهم، وهذا يؤدي إلى شيء من الظلام والران على قلبه، ويؤدي إلى إصابته بشيءِ من الرعب والجبن والذلة والخذلان، وعند ذلك يصير راغبا في الفرار، لسكونه إلى الدنيا،
وحرصه على الحياة ونحو ذلك!
وبقدر عظم المخالفة وصغرها يكون تأثير هذه الصفات الذميمة فيه،
وبذلك لا ينال النصر والظفر.
ألا تتأمل قصة حنين؟ عندما قال أحد المسلمين: لن نُغلَب اليوم من قلة، وكانوا اثني عشر ألفا.. فهزمهم الله لإعجابهم بكثرتهم، وعدم شهودهم أن النصر من عند الله سبحانه..! لأن هاتين الصفتين من صفات الكفار، فلما تلبس المسلمون بهما، أثَّر ذلك في قلوبهم رعبا، نتج عنه الفرار.
قال تعالى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [التوبة:25](1/45)
فليفهم أولو الألباب أنَّ معية النصر والتأييد خاصة بالمتقين.
وقد كان المجاهدون السابقون حذِرين من الذنوب والمعاصي، لأنهم يعلمون أثرها السيء على سير المعركة، وأنها قد تقود للهزيمة.
ذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه أن أحد المسلمين زمن السلطان الظاهر بيبرس كان يجاهد غازيا على فرس له، وكان من عادة فرسه النهوض والإقدام والسير للميدان. وفي بعض الأيام طلب من فرسه الإقدام، فتأخر، فبقي كلما يضربه ليتقدم إلى العدو يتأخر، فعجب من ذلك.. ولما فكر في السبب عرف أنه كان قد اشترى لفرسه علفا بدرهم زائف! أي أنه أطعم فرسه علفا حراما، ولذلك أثَّر هذا على فرسه، فتلكأ عن السير للجهاد..!
وحكى بعضهم أن بعض عساكر المسلمين حاصروا حصنا من حصون الكفار، فاستعصى عليهم فتحه! فقال أميرهم: ما تأخر الفتح عنكم إلا لسبب، فانظروا ماذا ارتكبتم من البدع، أو تركتم من السنن؟ فنظروا، فإذا هم قد أهملوا سنة السواك!!
فانظر هذا التأثير في ترك سنة من السنن، وقِس عليه تأثير ارتكاب المحرمات، وانتهاك الحرمات، وتناول الحرام في المطعم والملبس ونحو ذلك، لتعلم من
أين أُتي الذين خذلهم الشيطان، وأوقعهم في الفرار والعصيان.
واحترز أيها المجاهد من تأثير المخالفة لشرع الله في قلبك، وإضعافها لهمتك، وغلبتها على عزمك ونيتك. وطهر قلبك من لوث المخالفات، وأوقد في ظلمات وساوسه سراج اليقين والتوكل، وأقدم إقدام من يعلم أنَّ الموت لا بد من نزوله على كل حال، وأنه لا يمنع من الموت الفرار إلى مرتفعات وقمم الجبال، ولا يدفع عنه الاعتزاز بحيل الرجال.(1/46)
قال تعالى: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:78] ، ومَن قَدَّر الله أن يموت قتيلا، فلن يجد إلى غير ذلك سبيلا، قال تعالى: { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } [آل عمران:154]] [مشارع الأشواق]
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" أنه لما مات الملك العادل نور الدين [بويع مِن بعده بالمُلك لولده الصالح إسماعيل؛ وكان صغيرا، وجعل أتابكه (1) الأمير شمس الدين بن مقدم؛ فاختلف الأمراء وحادت الآراء، وظهرت الشرور، وكثرت الخمور؛ وقد كانت لا توجد في زمنه، ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئا منها ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت؛ حتى أن ابن أخيه "سيف الدين غازي بن مودود" صاحب الموصل لما تحقق موت نو الدين؛ نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب؛ ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان.. فإنا لله وإنا إليه راجعون..
وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم؛ لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئا من المناكر والفواحش! فلما مات مرح أمرهم، وعاثوا في الأرض فسادا.. وتحقق قول الشاعر:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هيَ الخمرُ ولا تسقني سرًّا وقد أمكن الجهرُ
وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين، فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند "بانياس"؛ فضعف عن مقاومتهم؛ فهادنهم مدة، ودفع إليهم
أموالا جزيلة عجلها لهم..!
__________
(1) أتابك: لقب تركي أطلقه السلاجقة على بعض رجال البلاط والوزراء والقادة. يعني: القائد أو الحاكم العسكري.(1/47)
ولولا أنه خوَّفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه! ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الأمراء وخاصة ابن مقدم؛ يلومهم على ما صنعوا من المهادنة، ودفع الأموال إلى الفرنج؛ وهم أقل وأذل! وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج..] ا.هـ
وإذا تأملنا في أسباب النصر المظفر للمسلمين في معركة حطين؛ نجد أن الله عز وجل قد وفق صلاح الدين لبعض الأعمال الكبيرة قبل المعركة؛ هيأ بها الأمة لحصول النصر؛ فقد كان / حريصا على تطهير المجتمع المسلم من المعاصي..
وقد انتشرت في الأمة حينذاك انحرافات سلوكية، فكانت الخمور والخمارات، وكان الفساد مستشريا، يُضعف في الأمة إيمانها، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله، وارتفاع رحمته، وبُعد نصره سبحانه وتعالى الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجَّه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة أسباب الفساد، فأغلق الحانات، ومنع شرب الخمور، وعاقب المخالفين، وطهَّر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله عز وجل من خلال المجاهرة بالمعاصي..
وقد كتب القاضي العادل إلى القاضي الفاضل إلى صلاح الدين يحثه على تطهير البلاد من الفساد: "إن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته، ولا تُفرج
الشدائد إلا بالرجوع إليه، والامتثال لأمر شريعته، المعاصي في
كل مكان بادية، والمظالم في كل موضع فاشية.."
ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها: "إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره؛ لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به.." (1)
__________
(1) من محاضرة "تأملات في الهزائم والانتصارات" للدكتور/ علي بن عمر بادحدح(1/48)
وما تسلط التتار على دولة الإسلام إلا بعد أن تم نقض عهد الله ورسوله.. فإنه لما [دخلت سنة ست وخمسين وستمائة أخذت التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.
وقد استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى. وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا، كما ورد في الأثر: "لن يغني حذر عن قدر"، وكما قال تعالى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ) [نوح:4] وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتُضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص
بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر
السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله
إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم.
فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!(1/49)
وقد أشار الوزير ابن العلقمي على الخليفة بالخروج إلى هولاكوخان، والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكوخان حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزل الباقون عن مراكبهم ونُهبت وقُتلوا عن آخرهم، وأُحضر الخليفة بين يدي هلاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله.
ثم مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومَن التجأ إليهم
وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا لهم
أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.(1/50)
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها
إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة..
وقد اختلف الناس في كمية مَن قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان الرجل يُستدعى به من دار الخلافة من بني العباس؛ فيخرج بأولاده ونسائه فيُذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة؛ فيُذبح كما تُذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.
وقُتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقُتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد.
وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة.
ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوما؛ بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام.
فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء
والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده
ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من
القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى،(1/51)
الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.] (1)
فيا عباد الله..
ألا فابنوا على التقوى قواعدَكم فما يُبْنَى على غيرِ التُّقى متداعِ
- - -
وعزة الله للأواب عنوان:
ولما كان للخطيئة أثرها في النصر والهزيمة فلا بد من توبة الأمة الإسلامية، وعودتها إلى الله عز وجل، وبعدها عن المعاصي؛ فإنما تنصر الأمة بالطاعة.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } [الأنفال:20]
أمرهم بطاعة الله ورسوله شكرا على نعمة النصر، واعتبارا بأن ما يأمرهم به خيرٌ عواقبه، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسول خ؛ وذلك بعد أن أراهم آيات لطفه وعنايته بهم، ورأوا فوائد امتثال أمر الرسول خ بالخروج إلى بدر، وقد كانوا كارهين الخروج.
وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول خ على ما تهواه أنفسهم، وضرب لهم مثلاً لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة، وما نجم عن طاعتهم الرسول خ ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغُنم الوفير لهم مع نزارة الرزء، ومن التأييد المبين للرسول خ والتأسيس لإقرار دينه (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) [الأنفال:7-8] وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لما أطاعوه وانخلعوا عن هواهم، وكيف هزَم المشركين؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله، والمشاقة ضد الطاعة تعريضا للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول خ.
__________
(1) البداية والنهاية (باختصار)(1/52)
ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس ألا وهو: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) [الأنفال:15] وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال:17]، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه، فذلك المقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال:1]، وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها، ولذلك افتتحت بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا..)؛ فافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيُلقى إلى المخاطبين قصدا لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم..
والتعريف بالموصولية في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) للتنبيه على أن الموصوفين بهذه الصلة مِن شأنهم أن يتقبلوا ما سيؤمرون به، وأنه كما كان الشرك مسببا لمشاقة الله ورسوله في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال:13]، فخليق بالإيمان أن يكون باعثا على طاعة الله ورسوله.. وعلى المؤمنين أن يؤدوا مطلوب الإيمان. ومطلوب الإيمان -أيها المؤمنون- أن تنفذوا التكاليف التي يأتي بها المنهج من الله عز وجل، ومن المبلِّغ عنه سيدنا رسول الله خ في الأوامر والنواهي.
(وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ): والتولي هو الإعراض، والأمر هنا بعدم الإعراض، وما دمتم قد آمنتم فلا إعراض عما تؤمنون به. والملحظ الجميل أنه سبحانه لم يقل: ولا تولوا عنهما. قياسا بالأسلوب البشري. لكنه قال: (وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي أنه سبحانه وتعالى قد وحد الكلام في أمرين اثنين: طاعة الله وطاعة الرسول؛ ولأن الرسول مُبلِّغ عن الله فلا تقسيم بين الطاعتين؛ لأن طاعة الرسول هي طاعة لله تعالى.(1/53)
أو نقول: إن التولي لا يكون أبدا بالنسبة إلى الله، فلا أحد بقادر على أن يتولى عن الله؛ لأن الله لاحقه ومدركه في أي وقت. (1)
وهنا لا بد من التذكير بضرورة التوبة والإنابة، وليس المقصود توبة الأفراد فحسب؛ بل توبة الأمة بعامة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد, وفي مغفرته للتائبين هي هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد, وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد؛ يفتح الله لها, ويرفع من شأنها, ويعيدها إلى عزتها, وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها, والمنكرات التي أشاعتها من شرك, وبدع, وحكم بغير ما أنزل الله, وموالاة لأعداء الله, وخذلان لأوليائه, وتقصير في تبليغ دعوة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وترك للصلوات, ونحو ذلك مما هو مُؤذن بالعقوبة وحلول اللعنة، كالربا والفسوق والمجون ونقص المكاييل.. وغير ذلك.
ولا يتنزل النصر علي أمة ماجنة عابثة لاهية غافلة شاردة بعيدة عن الله ورسوله. إنما يتنزل النصر على أمة لا تغوص في مستنقع المعاصي الآسن، ولا تتمرد علي منهج ربها، أمة لا تقلب الموازين, ولا تسير ضد السنن الربانية.
فإذا تابت إلى ربها؛ متعها الله بالحياة السعيدة, وجعل لها الصولة
والدولة, ورزقها الأمن والأمان, ومكن لها في الأرض..
قال تعالي: { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98]
__________
(1) التحرير والتنوير - تفسير الشعراوي(1/54)
ومعني الآية: أن قوم يونس ؛ لما أظلهم العذاب, وظنوا أنه قد دنا منهم, وأنهم قد فقدوا يونس قذف الله في قلوبهم التوبة, وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء, وبدأوا ينظرون في المظالم التي ارتكبوها، حتى إن الرجل منهم كان يهدم جدار بيته؛ لأن فيه حجرا قد اختلسه من جار له.
فلما علم الله منهم صدق التوبة؛ كشف عنهم العذاب. وعذاب الخزي في الحياة الدنيا يمكن أن تراه مُجسَّداً فيمن افترى وتكبَّر على الناس، ثم يراه الناس في هوان ومذلة، هذا هو عذاب الخزي في الدنيا، ولا بد أن عذاب الآخرة أشد وأخْزَى. (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي لم نعاجلهم بالعقوبة؛ فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى انتهاء أعمارهم.
وقال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا . فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا . أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا } [الطلاق:8-10]
تحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله؛ فإن الصغير يُثير الجليل، فذكَّر سبحانه المسلمين بما حلَّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله؛ لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة؛ فيُلقي بهم ذلك في مَهواة الضلال.
وهو بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد
الدين، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين.
ونقف لحظة أمام هذا التحذير فنرى أن الله أخذ القرى واحدة بعد واحدة كلما عتت عن أمر ربها ورسله..(1/55)
و(كأيِّن) اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بـ(مِن)، و(كأيِّن) بمعنى: (كَم) الخبرية. والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لجزائهم على عُتوهم عن أمر ربهم ورسله؛ فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى، وأنها غير مطردة في جميعهم.
ونجد أن هذا التحذير يساق هنا بمناسبة الطلاق وأحكامه، فيرتبط الطلاق وحكمه بهذه السنة الكلية. ويوحي هذا الارتباط أن أمر الطلاق ليس أمر أُسَر أو أزواج. إنما هو أمر الأمة المسلمة كلها. فهي المسئولة عن هذا الأمر. وهي المسئولة فيه عن شريعة الله. ومخالفتها عن أمر الله فيه -أو مخالفتها عن أمر الله في غيره من أحكام هذا النظام، أو هذا المنهج الإلهي المتكامل للحياة- هي عتو عن أمر الله، لا يؤاخذ به الأفراد الذين يرتكبونه، إنما تؤاخذ به القرية أو الأمة التي تقع فيها المخالفة، والتي تنحرف في تنظيم حياتها عن نهج الله وأمره؛ فقد جاء هذا الدين ليطاع، ولينفذ كله، وليهيمن على الحياة كلها. فمن عتا عن أمر الله فيه -ولو كان هذا في أحوال الأفراد الشخصية- فقد تعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبدا.
وتلك القرى ذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا.. ذاقته في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير.
ولقد ذاقت هذا الوبال قرى وأمم وشعوب عتت عن منهج الله في الأرض. ونحن نشهد وأسلافنا شهدوا هذا الوبال. ذاقته فسادا وانحلالا، وفقرا وقحطا، وظلما وجورا، وحياة مفزعة لا أمن فيها ولا سلام، ولا طمأنينة فيها ولا استقرار. وفي كل يوم نرى مصداق هذا النذير! وذلك فوق العذاب الشديد الذي ينتظر العتاة عن أمر الله ونهجه في الحياة حيث يقول الله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) .. والله أصدق القائلين.(1/56)
إن هذا الدين منهج نظام جماعي؛ جاء لينشئ جماعة مسلمة ذات نظام خاص. وجاء ليصرف حياة هذه الجماعة كلها. ومن ثم فالجماعة كلها مسئولة عنه، مسئولة عن أحكامه. ولن تخالف عن هذه الأحكام حتى يحق عليها هذا النذير الذي حق على القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله.
ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فخافوا أيها المؤمنون عقاب الله؛ فأنتم أصحاب العقول الراجحة، والفطر السليمة، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم، وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
وفي نداء المؤمنين بوصف (أُولِي الْأَلْبابِ) إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني، ولأن فوائدها حقيقية دائمة، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة.. (1)
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعود إلى الله منيبة تائبة؛ ليرضى عنها, ويرفع عنها
ما هي فيه من الذلة والمهانة والتبعية لأعدائها. ويرد عليها مقدساتها
السليبة, ويحقن دماء أبنائها التي سالت في كل وادٍ..
قال تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } [النساء:141]
إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه، قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين؛ من أخذ الأهبة وإعداد العُدّة؛ لن يغلبهم الكافرون، ولن يكون لهم عليهم سلطان، وما غُلب المسلمون على أمرهم
إلا بتركهم هدي كتابهم وتركهم أوامر دينهم وراءهم ظِهريًّا، فذلوا بعد
عزة، وأجلب الكفار عليهم بخيلهم ورجلهم ودخلوا عليهم فى
عقر دارهم، وامتلكوا بلادهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد..
ولو استقام المؤمنون واعتصموا بحبل الله لما نال الكافرون منهم منالاً،
__________
(1) التحرير والتنوير - أضواء البيان - في ظلال القرآن - تفسير المراغي(1/57)
ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالاً (1)
يا أمتي مزقي الأغلالَ وانتفضي ... فالمجدُ لا يمتطيهِ اليومَ وَسْنَانُ
عودي إلى اللهِ فالأبوابُ مُشْرَعَةٌ ... وعزَّةُ اللهِ للأوَّابِ عُنْوانُ
واستبشري فشعاعُ الفجرِ منتشرٌ ... وإن تجاهلَ نورَ الفجرِ عُمْيَانُ
وإن تراكمَ غَيْمُ الظلمِ واحتجبتْ ... شمسُ النَّهار فللإشراقِ إبَّانُ
أَمَا لنا في كتابِ اللهِ مِن عظةٍ ... فقد دعانا لنصرِ الحقِّ قرآنُ
} - { } - {
فيا عباد الله..
الاستقامة عين الكرامة.. ولا يستقيم على شريعة الله إلا مَن جمع بين القول والعمل الصالح، والعقيدة الصحيحة، والالتزام الكامل بدين الله..
وكلما قصَّر العبد بشيء من طاعة الله، وأخل بجزءٍ من عبادته،
وفرط بنوعٍ من الواجبات، كان ذلك قدحًا في استقامته،
والناس في ذلك بين مكثر ومقل..
يقول د. محمد بن موسى الشريف: [هناك مقولة قديمة، سليمة جليلة، تتناقلها الأفواه، وتتلقفها الآذان جيلاً بعد جيل، وطبقة بعد طبقة ألا وهي: (الاستقامة عين الكرامة)، يعني أن الاستقامة على دين الله تعالى حتى الممات لهي الكرامة الحقيقية، وكل ما عداها فهو تبع وإضافي، وكنت وأنا في صدر الشباب وأوائله أتلقف هذه المقولة من فم أحد مشايخي حفظهم الله ورحم ميتهم، وأتعجب منها، وأرى أن فيها مبالغة، فالاستقامة كانت عندي من أوائل علامات الطريق وبيناته، ولم تكن موضع نقاش أو نظر، لكن لما تقاذفتني أمواج الحياة، ومرت بي السنون الطوال عقب تعهدي بهذه المقولة أيقنت عظمها وجلالها، ورأيت أنها جديرة بالتقدير
والنظر والتعهد، وأن الاستقامة نعمة جليلة ومنة عظيمة.
__________
(1) سبيل المتقين لعودة الأقصى وفلسطين - تفسير المراغي - التحرير والتنوير(1/58)
وما أجمل أيام البدايات، وما أحلى تلك الساعات، فتذكرها يفعل في النفوس الأفاعيل، وينفي عنها كثيرا من الأضاليل، وينقيها من التخاذل والأباطيل، ومَن منا لا يذكر كيف كانت همته وعزيمته، وكيف كانت عبادته واستقامته، وقد كان السلف يمدحون المستقيم على العبادة الجليلة والتقرب الكثير بقولهم: "هو كالحدث الناشئ في العبادة"؛ ذلك لأن الحدث المبتدئ هو غير المتشبع المنتهي، فالمبتدئ عظيم الحماس، قوي العمل، متصل الأمل، راغب في التكثر من الطاعات، يرى المعاصي الصغيرات، والمخالفات اليسيرات كالجبال الشاهقات، فمن ظل هكذا إلى الممات، وغالَبَ السنن وقهر العقبات، وقفز فوق الحواجز وتجاوز النوازل الملمات، كان حقيقا بتلك المقولة الجليلة، ومن أهل تلك المرتبة العظيمة: الاستقامة، وهي حقا إن تمادت إلى غايتها، واتصلت إلى الممات كانت عين الكرامة، ودلت على عناية الله بالعبد وأية عناية.
لكن مَن منا مَن لم يقارف، وتتقاذفه أمواج الحياة هنا وهنالك فيشارف، ولذلك شرعت التوبة، وطُلب الاستغفار، واحتال العبد لنفسه حتى يبلغ منازل الأبرار، والسعيد من اتعظ بغيره لا من وُعظ به غيره.
والدعاة والصالحون والمشايخ وطلبة العلم هم ملح البلد، وهم المنظور إليهم دوما وأبدا، وهم في مقام القدوة، والنظر والأسوة، فاستقامتهم استقامةٌ
لسائر الناس واعوجاجهم مُغْرٍ بالسقوط والإفلاس؛ فلله ما أعظم
التبعة عليهم، وما أشد التعلق بهم والنظر إليهم.] (1)
وإن الأمة لن ترجع إلى الله إلا حينما يقوم العلماء العاملون
والدعاة المخلصون بدورهم في:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
القطب الأعظم في الدين:
__________
(1) الكتاب القيم: "أهل الإسلام والتفلت من ظاهر الالتزام" للدكتور/ محمد بن موسى الشريف(1/59)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجهاد الدائم المفروض على المسلم، وهو أصل مهم من أصول قيام حضارة الإسلام، لا قيام لشريعة الإسلام بدونه. [وهو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطه وأهمل علمه وعمله؛ لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.
وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ إذ قد اندرس مِن هذا القطب عمله وعلمه، وانمحق بالكليلة حقيقته ورسمه، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم..] [الإحياء]
قال تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104]
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ): الأمَّة الجماعة والطائفة، كقوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) [الأعراف:38]. وأصل الأمة في كلام العرب الطائفة من الناس التي تؤمُّ قصدا واحدا؛ من نسب أو موطن أو دين، أو مجموع ذلك، ويتعيَّن ما يجمعها بالإضافة أو الوصف، كقولهم: أمة العرب، وأمة غسان، وأمة النصارى.(1/60)
وفي الآية أمر الله المؤمنين بتكميل غيرهم من أفراد الأمة، وحثهم على اتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها، تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام، والمحافظة على ما فيها من الشرائع والنواميس، وأن يكون في نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته، وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم في طِلاب الخير لهم جميعا، حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد في الحديث: "مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". [رواه مسلم]
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم
من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها(1/61)
وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ..) أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالاستعداد للجهاد بأنواع العُدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير، وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة الآمرين بالمعروف ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه.
والله تعالى يقول: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء:64] فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان. فهذا شطر. أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرئ برأيه وبتصوره، زاعما أن هذا هو الخير والمعروف والصواب!(1/62)
والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثَم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم. وفيهم الجبار الغاشم، وفيهم الحاكم المتسلط، وفيهم الهابط الذي يكره الصعود، وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد، وفيهم المنحل الذي يكره الجد، وفيهم الظالم الذي يكره العدل، وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة.. وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف، ويعرفون المنكر. ولا تفلح الأمة، ولا تفلح البشرية، إلا أن يسود الخير، وإلا أن يكون المعروف معروفا، والمنكر منكرا.. وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى.. وتطاع..
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).. وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين. وقيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته. فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية. هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير.. المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل. والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم.. عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر. والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة. والحق فيه أقوى من الباطل. والعدل فيه أنفع من الظلم.. فاعل الخير فيه يجد على الخير أعوانا. وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلانا.. ومن هنا قيمة هذا التجمع.. إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد؛ لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه. والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة؛ لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه.(1/63)
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص.. يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلاً. فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة. لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية.
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له؛ فيحيا فيه هذا التصور ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه. وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة، فقد خطب عمر ت على المنبر، وكان مما قال: إذا رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموه.. فقام أحد رعاة الإبل وقال: لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا..!!
وكان الخاصة من الصحابة - رضي الله عنهم - متكاتفين في أداء هذا الواجب، يشعر كل منهم بما يشعر الآخر من الحاجة إلى نشر لواء الإسلام وحفظه، ومقاومة كل مَن يمس شيئا من عقائده وآدابه وأحكامه ومصالح أهله، وكان سائر المسلمين تبعا لهم.
فإذا هم فعلوا ذلك كثر في الأمة الخير، وندر فيها وقوع الشر، وائتلفت قلوب أهليها، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وسعدوا فى دنياهم وآخرتهم.
وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها، واتفاق أهوائها؛ إذ لا مطمح لها إلا رفعة شأن دينها، وعزة أبنائها، وسيادتها العالم كله.
ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدّته، وكمّلوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغى السعادة والرقي، وتخلقوا بفاضل الأخلاق وحميد الصفات، حتى يكونوا مُثلا عليا تُحتذى، ويُشار إليهم بالبنان
وإن ما أودع في ديننا من هذا، وما خلّفه لنا السلف الصالح من(1/64)
الكنوز والثروة العلمية، فيه غنية لمن يريد الخير والفلاح.
عن عليّ كرم الله وجهه قال: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومن غضب لله غضب الله له. (1)
وعنه أيضًا كرم الله وجهه: أفضل الأعمال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وشنآن (2) الفاسق؛ فمَن أمر بالمعروف فقد شد ظهر المؤمن، ومَن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق.
فيا عباد الله..
فمن سعى في سد هذه الثلمة؛ إما متكفلاً بعملها، أو متقلدا لتنفيذها، مجددا
لهذه السنة الدائرة، ناهضا بأعبائها، ومتشمرا في إحيائها؛ كان مستأثرا
من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستمسكا
بقُربة تتضاءل درجات القُرب دون ذروتها..
- - -
من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدِّ شرط الله فيها:
قال تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج:40-41]
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره..
فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصر الله القوي
العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء:
__________
(1) تفسير المراغي - في ظلال القرآن - تيسير الكريم الرحمن
(2) شنآن: بغض(1/65)
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ).. المراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق. أي: مكناهم بالنصر الموعود به إن هم نصروا دين الله؛ فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر.. (أَقَامُوا الصَّلَاةَ).. فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين.. (وَآَتَوُا الزَّكَاةَ).. فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي كما قال رسول الله خ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ).. فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس.. (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ).. فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تُبقي على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه.
والكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر؛ بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام؛ فإن بذلك دوامَ نصرهم، وانتظام عقد جماعتهم،
والسلامة من اختلال أمرهم.. فإن حَادُوا عن ذلك فقد
فرّطوا في ضمان نصرهم، وأمرُهم إلى الله .
فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام
بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم. (1)
__________
(1) في ظلال القرآن - التحرير والتنوير - مفاتيح الغيب(1/66)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110]
أي أنتم خير أمة في الوجود الآن؛ لأنكم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون إيمانا صادقا يظهر أثره في نفوسكم، فيزعكم عن الشر، ويصرفكم إلى الخير، وغيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر والفساد؛ فلا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يؤمنون إيمانا صحيحا.
وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولا، وهم النبي خ وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل؛ فهم الذين كانوا أعداء فألف بين قلوبهم، واعتصموا بحبل الله جميعا، وكانوا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخاف ضعيفهم قويَّهم، ولا يهاب صغيرهم كبيرهم، وملك الإيمان قلوبهم ومشاعرهم؛ فكانوا مسخرين لأغراضه في جميع أحوالهم.
وساعة تسمع كلمة "معروف" و"منكر" فإنك تجد أن اللفظ موضوع في المعنى الصحيح، فـ "المعروف" هو ما يتعارف الناس عليه ويتفاخرون به. و"المنكر" هو الذي ينكره الناس ويخجلون منه. فمظاهر الخير يحب كل إنسان أن يعرفها الآخرون عنه، ومظاهر الشر ينكرها كل إنسان.
إن مظاهر الخير محبوبة ومحمودة حتى عند المنحرف. فاللص نفسه عندما يوجد في مجلس لا يعرفه فيه أحد، ويسمع أن فلانا قد سرق فإنه يعلن استنكاره لفعل اللص؛ إنه أمر منكر، حتى وإن كان هو يفعله! وهكذا تعرف أن "المعروف" و"المنكر" يخضعان لتقدير الفطرة. والفطرة السليمة تأتي للأمور الخيرة، وتجعلها متعارفا عليها بين الناس، وتنكر الفطرة السليمة الأمور المنكرة، حتى ممن يفعلها.(1/67)
وما فتئت هذه الأمة خير الأمم حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما تركتهما إلا باستبداد الملوك والأمراء ومَن حذا حذوهم.
وما زال الشر يزداد، والأمر يتفاقم حتى سُلبت هذه الأمة أفضل مالها من مزية في دينها ودنياها بعد الإيمان؛ وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا يرد سؤال: من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم؛ مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم؟
قال القفال: تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال؛ لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال؛ لأنه إلقاء النفس في خطر القتل. وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله؛ فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات. ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع؛ لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويُقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف، والتكذيب أنكر المنكرات.
وفائدة القتال على الدين لا ينكره منصف، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم.(1/68)
والخلاصة: إن هذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.. فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية.
وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر، مع أن الإيمان مُقدَّم على كل الطاعات؛ لأنهما سياج الإيمان وحفاظه، فكان
تقديمهما في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في
جعل سياج كل شيء مقدَّما عليه.
ومن الجائز أن يوجد إنسان له صفات الأريحية والإنسانية، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويصنع الخير، ويقدم الصدقات، ويقيم مؤسسات رعاية للمحتاجين والعاجزين سواء كانت صحية أو اقتصادية، لكنه يفعل ذلك من زاوية نفسه الإنسانية، لا من زاوية منهج الله، فيكون كل ما يفعله حابطا ولا يُعتَرفُ له بشيء لأنه لم يفعل ذلك في إطار الإيمان بالله. فالله يجازي مَن كان على الإيمان به، وأن يكون الله في بال العبد ساعة يصنع الخير. فمن صنع خيرا من أجل الشهامة والإنسانية والجاه والمركز والسمعة فإنه ينال جزاءه ممن عمل له، ومادام قد صنع ذلك من أجل أن يقال عنه ذلك فقد قيل، إنه ينال جزاء عمله من قول الناس، لكن الله يجازي في الآخرة من كان الله في باله ساعة أن عمل. لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت:33]
إن المؤمن يفعل العمل الصالح، ويعلن أنه يفعل ذلك لأنه من المسلمين، إنه لا يفعل الخير، لأنه شيوعي، أو وجودي، أو إنساني إلخ، فمهما صنع إنسان من الخير، وترك الاعتراف بالله فخيانة الكفر تفسد كل عمل. لأنه جحد وأنكر خالقه وكفر به، والذي يعمل خيرا من أجل أحدٍ فلينل من هذا الأحد جزاء هذا العمل.
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر. فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل. ولا بد(1/69)
من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر، وللفضيلة والرذيلة،
وللمعروف والمنكر؛ يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح
الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه. وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون.. ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية. ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد. ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك.
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر؛ أن يمضوا في هذا الطريق الشاق، ويحتملوا تكاليفه؛ وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها، ويواجهون هبوط الأرواح، وكلل العزائم، وثقلة المطامع..
وزادُهم هو الإيمان، وعدتُهم هي الإيمان. وسندُهم هو الله..
وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد. وكل عُدة سوى عُدة
الإيمان تُفَل، وكل سند غير سند الله ينهار!
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..) إن التعبير بكلمة (أُخْرِجَتْ) المبني لغير الفاعل، تعبير يلفت النظر. وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة، تُخرج هذه الأمة إخراجا؛ وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله.. إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى؛ حركة تُخرج على مسرح الوجود أمة. أمة ذات دور خاص. لها مقام خاص، ولها حساب خاص:(1/70)
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).. وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أُخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة. والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض. ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية. إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها. وأن يكون لديها دائما ما تعطيه. ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلُق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح.. هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها. واجبها أن تكون في الطليعة دائما، وفي مركز القيادة دائما. ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاء، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له..
وهي بتصورها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي أهل له. فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي، وبعمارتها للأرض - قياما بحق الخلافة - أهلاً له كذلك.. ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال.. لو أنها تتبعه وتلتزم به، وتدرك مقتضياته وتكاليفه.
وفي أول مقتضيات هذا المكان؛ أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد.. وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي خير أمة أخرجت للناس. لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).. كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر.(1/71)
وقد سبق في سياق الآيات (1) الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها. ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تُعرف بها في المجتمع الإنساني. فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة. وإما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة، وغير متحققة فيها صفة الإسلام .
روى ابن جرير أن عُمَر بن الخطاب ت رأى من الناس رِعَةً (2) ، فقرأ هذه الآية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).. ثم قال: مَن سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدِّ شرط الله فيها. (أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). (3)
فيا عباد الله..
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو حفاظ الدين، وسياج الفضائل والآداب، فإذا تجرأ المستهترون على إظهار فسقهم وفجورهم، ورآهم الغوغاء من
الناس قلدوهم فيه، وزال قبحه من نفوسهم، وصار عادة لهم، وزال
سلطان الدين من قلوبهم، وتُركت أحكامه وراءهم ظهريا.
- - -
قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم:
قد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضعيف الجدوى والتأثير في المأمورين والمنهيين، لشدة تعنت أولئك المدعويين وإقبالهم على المعاصي والسيئات دونما هوادة..
__________
(1) { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104]
(2) رعة: أي ما يظهر من الخُلُق، والمراد هنا أنه رأى من الناس أنهم لا يحسنون الاحتشام والكف عن سوء الأدب.
(3) تفسير المراغي - مفاتيح الغيب - تفسير الشعراوي - في ظلال القرآن(1/72)
وهنا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عصمة لأهله من عقاب الله وعذابه الذي قد يحل بأولئك بين فينة وأخرى. والذين يحتكون بهم ويتعايشون معهم لارتباط شئون الحياة ومصالح العيش بالتعامل مع أولئك العصاة، فعند مواصلة المعايشة مع أولئك العصاة فلا خوف ولا وجل على أولئك
المؤمنين الذين يخالطونهم لظروف الحياة ما داموا قائمين على
شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاههم.
ففي أخبار الهالكين في القرآن بعقوبة الاستئصال العاجل؛ يؤكد الله سبحانه وتعالى هذه السنة ويبين أنها سنة ثابتة في القرون. فأهل النهي عن السوء هم أهل النجاة، ولا يمكن أن يمسهم من العقاب مس، وكفى بذلك تمكينا وسعادة ورفعة.
والله سبحانه وتعالى لم يذكر في كتابه قوما أهلكهم إلا ويؤكد نجاة أهل الإنكار بلطف منه ورحمة رغم قوة العذاب وقسوته وفجأته. وهذا كتاب الله يذكر لنا كيف أنجى الله سبحانه الذين كانوا ينهون أهل السبت من عقوبته والعذاب البئيس:
قال تعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [الأعراف:163-166](1/73)
(وَاسْأَلْهُمْ) أي: اسأل بني إسرائيل (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب الله إياهم.
(إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) وكان الله تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم الله وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا) أي: كثيرة طافية على وجه البحر. (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أي: إذا ذهب يوم السبت (لا تَأْتِيهِمْ) أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا..
(كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)؛ ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم الله، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا لعافاهم الله،
ولما عرضهم للبلاء والشر..
تحايلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حُفرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق: معظمهم اعتدوا وتجرأوا، وأعلنوا بذلك. وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم. وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم ونهيهم لهم، وقالوا لهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) كأنهم يقولون: لا فائدة في وعظ مَن اقتحم محارم الله، ولم يُصغِ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم الله، إما بهلاك أو عذاب شديد..
فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) أي: لنُعذر فيهم.
(وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من
هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم.
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على
المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر والنهي.(1/74)
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أي: تركوا ما ذكروا به، واستمروا على غيهم واعتدائهم. (أَنْجَيْنَا) من العذاب (الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهكذا سنة الله في عباده؛ أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
(وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم الذين اعتدوا في السبت (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) أي: شديد (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
وأما الفرقة الأخرى التي قالت للناهين: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ) فاختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين، لأن الله خص الهلاك بالظالمين، وهو لم يذكر أنهم ظالمون.
فدل على أن العقوبة خاصة بالمعتدين في السبت، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقولهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) فأبدوا من غضبهم عليهم، ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم، وأن الله سيعاقبهم أشد العقوبة.
(فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ) أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، (قُلْنَا لَهُمْ) قولا قدريا: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فانقلبوا بإذن الله قردة، وأبعدهم الله من رحمته.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذه سنته فيمن نهى عن السوء وأنكر في سائر القرون وشتى الأمم؛ قال تعالى: { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } [هود:116]
يبين الله تبارك وتعالى في الآية أن عذاب الاستئصال السبب فيه أمران:(1/75)
السبب الأول: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض. (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ) والمعنى: فهلا كان. (أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ) أي: أولو فضل وخير، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يُخرجه أجوده وأفضله، فصار هذا اللفظ مثلاً في الجَوْدَة، يقال: فلان من بقية القوم، أي من خيارهم. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى، أي فهلا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى. (إِلاَّ قَلِيلاً) وهو استثناء منقطع، والتقدير: لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي.
والسبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال: قوله: (واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ) والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة.
وأراد بـ(الذين ظلموا) تاركي النهي عن المنكرات، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتبعوا
طلب الشهوات واللذات، واشتغلوا بتحصيل الرياسات!
فكل من سكت عن المنكر ورضي فإن عقوبة الاستئصال شاملة له، وإن
كان مؤمناً أو كان بمكان عند المؤمنين مع إيمانه، قال تعالى في
امرأة لوط التي كانت راضية بما يعمله قومه:
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [الأعراف:83]
قال ابن كثير: إنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتُعلِمهُم بمَن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم. ولهذا لما أُمر لوط ؛ ليسري بأهله، أُمر أن لا يُعلمها ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول: بل اتبعتهم، فلما جاء العذاب التفتت هي، فأصابها ما أصابهم.(1/76)
والأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم، ولهذا قال ههنا: (إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) أي: من الذين غُبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا.. (1)
وهذه قصة زوال دولة مغربية يرويها د. عبد الحليم عويس قائلا: بدأت دولة المرابطين بالمغرب العربية بداية طيبة قوية. كانت هذه الدولة بحق انبثاقة فكرة إسلامية عظيمة الأثر في حياة الدعوة الإسلامية.. هذه الفكرة تقوم على إبراز دور محدد قيادي للمسجد؛ فالمسجد ليس مجرد دار لأداء صلوات خمس مبتوتة الصلة بالحياة، وإنما المسجد دار تنطلق منها قيادة البشرية وتربيتها في كل مرافق الحياة.. فهو إلى جانب كونه دار عبادة هو كذلك دار علم، وهو دار قضاء، وهو مكتبة، وهو مجلس شورى.. أي أن المسجد في الحقيقة نموذج لكل الوزارات والدواوين التي تقود شئون الناس وتوجه مصالحهم، وعلى هذا الأساس قامت فكرة الأربطة التي أنشأها (المرابطون) والتي من خلالها تكونت طليعة إسلامية استطاعت أن تنشئ دولة المرابطين التي حمت المغرب الإسلامي والأندلس قرابة قرن من الزمان.
ومضت فترة القوة في هذه الدولة عندما مات أكبر شخصية مرابطة هي شخصية "يوسف بن تاشفين" على رأس المائة الخامسة، وبالتحديد سنة خمسمائة من الهجرة .
وبعد يوسف، ومع الجهود الضخمة التي بذلها خليفته وابنه "علي بن يوسف" بدأت دولة المرابطين تدخل طور الأفول .
__________
(1) عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين - تيسير الكريم الرحمن - مفاتيح الغيب - محاسن التأويل(1/77)
وكان ذلك لأن "علي بن يوسف" هذا قد انصرف عن شئون الحكم إلى حد كبير، ولم يتحرك إلا في مرات قليلة لم تكن كافية لسد الثغرات التي فُتحت على الدولة في المغرب والأندلس، وراح هذا الأمير المرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإهماله لشئون دولته فهما مغلوطا للإسلام، بل إنه وقع في خطأ كبير حين وقع تحت تأثير مجموعة كبار الفقهاء البارزين في دولته، وكان لا يزيد عن كونه لعبة صغيرة في أيديهم .
ونتيجة غفلة "علي بن يوسف" هذا، وانصراف الفقهاء إلى تكفير الناس وجمع الثروات، بدأت مظاهر التحلل تسود قطاعات كبيرة من الدولة .
كانت الخمر تباع علنا في الأسواق، وكان النبيذ يشرب دون حرج، وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام، واستولى أكابر المرابطين على إقطاعات كبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها، واستولى النساء على الأحوال، وصارت كل امرأة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور ..!!
وكان ثمة مظهر آخر من مظاهر الفساد انتشر على عهد الخلفاء الضعاف المرابطين.. هذا المظهر هو تحجب الرجال، حتى إن الرجل لا تبدو منه إلا عينه، وبروز النساء وظهورهن في الأسواق العامة سافرات، واختلاطهن بالرجال!!
لكن مفتاح المصائب الكبرى على المرابطين كانوا هم الفقهاء!! لقد ذهبوا إلى تكفير كل من يحاول تأييد القواعد والأصول الشرعية؛ لا سيما العقائد بأدلة عقلية. وقد يكونون على خطأ أو على صواب، فلسنا نعرض لآرائهم أو لآراء غيرهم، وإنما الذي نقصده أن نظرية التكفير هي دلالة إفلاس وتحجر، وليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر؛ إذ ليس الكفر مفتاحا يملكه الناس ما لم تظهر أدلته المادية التي لا تقبل الشك.. أما الخلاف على رأي فليس مجال تكفير .(1/78)
وقد ذهب هؤلاء الفقهاء في استرسالهم التكفيري هذا إلى تكفير أعظم شخصية إسلامية أنجبها القرن الخامس والسادس الهجري؛ وهي شخصية الإمام أبي حامد الغزالي المعروف بـ"حُجة الإسلام". بل إنهم ذهبوا في غلوائهم أبعد مذهب، فحرصا على امتيازاتهم التي يكتسبونها من جدلياتهم في علوم الفقه التي تمثل الفروع أفتوا بإحراق كتب الإمام الغزالي؛ لا سيما كتابه الشهير "إحياء علوم الدين "! وكانت حجتهم في ذلك اشتمال الكتاب على بعض المسائل الفلسفية الكلامية؛ مما اضطر السلطان "علي بن يوسف" الخاضع لتأثيرهم إلى إصدار أمره بوجوب إحراق كتاب "إحياء علوم الدين " في جميع أنحاء مملكته تنفيذا لفتوى الفقهاء، ثم أنذر بالوعيد الشديد، بل بالقتل واستلاب مال كل من يوجد عنده الكتاب ! !
وكان هذا الحادث أبرز ألوان الجمود والتحجر والخوف على الامتيازات الشخصية التي أظهرها الفقهاء .
وقد بلغ الحنق بالإمام الغزالي مبلغه؛ فدعا على "علي بن يوسف بن تاشفين" المرابطي أن يمزق الله ملكه؛ حين علم بالأمر !
لقد كان منهج الفقهاء الذين تصدروا شئون الدولة المرابطية آنذاك يقوم على الابتعاد عن المصدرين الرئيسيين للتشريع، وهما: القرآن والسنة، والتمسك الشديد بآراء الفقهاء؛ حتى ولو لم يعرفوا لها سندا من الكتاب والسنة! وقد بلغ الأمر بهم أن أحد الناس قال لرجل : إن رسول الله خ يقول كذا.. فرد عليه الآخر: لكني أعتقد أن الإمام مالكا يقول كذا.. ! !
وهكذا ذهبت آراء الفقهاء في نظرهم مذهب التقديس والغلو المبالغ فيه .
وقد أمات الفقهاء واجب "الحسبة "؛ وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يقوموا بتغيير نواحي التحلل التي ظهرت في الدولة، وكان بإمكانهم لتمكنهم من الحكم أن يقوموا على تغييرها، لكنهم جاروا العامة في
غرائزها، بل قاوموا المخلصين الذين حاولوا التغيير
ورموهم بالكفر والمروق .(1/79)
بقي أن نقول : إن الفقيه أبا القاسم بن حمدين زعيم الفقهاء في هذه الفوضى، وأكبر المكفرين للإمام الغزالي، بل المكفر لكل من قرأ كتاب "الإحياء"؛ كان يمثل نموذجا لكثير من الدجالين المتاجرين بالإسلام؛ والإسلام منهم براء..
ومع ألسنة النار المندلعة من نسخ كتاب "الإحياء" التي أُحرقت في مشهد علي بجامع قرطبة؛ كانت ألسنة نيران حركة التاريخ التي تقودها سنة الله التي لا تتخلف تأكل دولة المرابطين التي تركت أمرها لمجموعة من ضيقي الأفق ومرتزقة الكلمة؛ الذين رأوا المنكر فاشيا فلم يغيروه.. هؤلاء الذين لا يفهمون أصول الإسلام ولا روح الإسلام، ولا أصول الحكم في الإسلام، ولا روح الحكومة الإسلامية الحقيقية.. (1)
وكان النبي خ، وهو لا ينطق عن الهوى؛ قد حذر مرارا وتكرارا من التهاون في أمر هذه الشعيرة.. فعن أم المؤمنين عائشة ل قالت: دخل عليَّ النبي خ فعرفتُ في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلَّم أحدًا، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "يا أيها الناس! إنَّ الله يقول لكم: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أنْ تدعوا فلا أُجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم". فما زاد عليهن حتى نزل. [رواه ابن ماجه وابن حبان، وقال الألباني في صحيح الترغيب: حسن لغيره]
وعن حذيفة ت عن النبي خ قال: "والذي نفسي بيدِه لتَأمُرُنَّ بالمعروفِ ولَتَنهَوُنَّ عن المنكرِ أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يبعثَ عليكم عذابًا منه ثم تدعونَه فلا يَستجيبُ لكم". [رواه الترمذي، وقال الألباني: حسن لغيره]
في هذا الحديث يبين الرسول خ أن التخلف عن القيام بواجب الأمر بالمعروف سبب من الأسباب المؤدية إلى سخط الله وعقابه، كما يحول دون استجابة الدعاء.
__________
(1) دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية (بتصرف يسير)(1/80)
ولذلك كان الواحد من صحابة النبي خ يؤثر الموت على أن يدرك زمانا تُهمَل فيه هذه الشعيرة! قال عبد العزيز بن أبي بكرة: إن أباه تزوج امرأة فماتت، فحال إخوتها بينه وبين الصلاة عليها، فقال: أنا أحق بالصلاة عليها. قالوا: صدق صاحب رسول الله خ. ثم إنه دخل القبر فدفعوه بعنف، فغُشي عليه، فحُمل إلى أهله، فصرخ عليه عشرون من ابن وبنت، وأنا أصغرهم، فأفاق فقال: لا تصرخوا؛ فوالله ما من نفس تخرج أحب إليّ من نفسي. ففزع القوم، وقالوا: لِمَ يا أبانا؟! قال: إني أخشى أن أدرك زمانا لا أستطيع أن آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر، وما خير يومئذ!
وقال ابن عقيل الحنبلي: [من أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح؛ فهذا أشق ما تحمَّله المكلف؛ لأنه مقام الرسل! حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة.. وهو إحياء السنن وإماتة البدع.
فلو سكت المحقون ونطق المبطلون لتعود النشء على ما شاهدوه وأنكروا مالم يشاهدوا.. فمتى رام المتدين إحياء سنة أنكرها الناس وظنوها بدعة..! وقد رأينا ذلك!] ا.هـ
وقال الشيخ حمد بن عتيق /: فلو قُدِّر أن رجلا يصوم النهار ويقوم الليل ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع هذا لا يغضب لله، ولا يتمعر وجهه ولا يحمر؛ فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم دينا، وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه!
فيا عباد الله..
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ولو قلَّت جداوه أو انعدمت فهو عصمة ونجاة من عذاب الله؛ فعلى أهل الإيمان وأصحاب دعوة الحق
أن يتبنوه ويُحيوه ولو انعدمت جدواه ليمكنوا أنفسهم من
النجاة من عقاب الله الذي قد ينزل بمن حولهم من أهل
العصيان، وبالتالي يتم تمكينهم في الأرض.
- - -
لولا ينهاهم الربانيون:(1/81)
قال تعالى: { لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة:63]
(لَوْلا) تحضيض أريد منه التوبيخ، أي: هلا (يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ) أي: الزهاد منهم والعبّاد (وَالْأَحْبَارُ) أي: العلماء (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) أي: الكذب (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي: الرشوة، المفسدة أمر العالم كله.
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) من ترهبهم وتعلمهم لغير دين الله. أو من تركهم نهيهم. وهذا الذم المقول فيهم، أبلغ مما قيل في حق عامتهم. لأنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة:62]، وعبر عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)؛ كان هذا الذم أشد؛ لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء، وحرفة لازمة، هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم.
وهذا معنى قول الزمخشري: كأنهم جُعِلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل لا يُسمى صانعا، ولا كل عمل يُسمى صناعة حتى يتمكن فيه العامل ويتدرب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مُوَاقِعَ المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرَّط في الإنكار على المعصية كان أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل لها. ا.هـ
فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال، فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول، فكذلك العالِم إذا أقدم على المعصية دلَّ على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة.(1/82)
إن الذي يظلم له شهوة في أن ينتفع من الظلم، أما أنتم أيها الربانيون والأحبار فلماذا لا تتحركون لوقف ذلك؟ لا شك أنهم قد امتلأوا سرورا من هذا الإثم وذلك العدوان وأكل السحت، ومبعث سرورهم أن الواحد من هؤلاء لو كان سليما في تصرفاته وأحكامه لغار على المنهج، لكنه يقبل الانحراف؛ لأن من مصلحته أن ينحرف غيره حتى لا يلومه أحد!
أي هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فيما ذكر من المعاصي؛ أئمتُهم في التربية والسياسة، وعلماء الدين من الأحبار والرهبان، لبئس ما كانوا يصنعون من الرضا بهذه الأوزار والخطايا، وتركهم فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وهذه السمة؛ سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان؛ هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار. وبنو إسرائيل كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كما حكى عنهم القرآن الكريم.
إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن يكون عُرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر.
وإنه لصوت النذير لكل أهل دين؛ فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.(1/83)
وروى ابن أبي حاتم عن يحيي بن يعمر قال : خطب عليّ بن أبي طالب ت فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنما هلك مَن كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار. فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم. واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يُقرب أجلا.
ورُوي عن ابن عباس ب أنه قال: ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية.
يريد بذلك أنها حُجة على العلماء إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام التي تفسد نظم الحياة للفرد والمجتمع، فحق على العلماء والحكام أن يعتبروا بهذا النعي على اليهود ساسة وعلماء ومربّين فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى لهم إن نفعت الذكرى. (1)
وقال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة:78-79]
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: طردوا وأُبعدوا عن رحمة الله (عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي: بشهادتهما وإقرارهما، بأن الحجة قد قامت عليهم وعاندوها.
__________
(1) تفسير المراغي - محاسن التأويل - تفسير الشعراوي - مفاتيح الغيب(1/84)
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ): (ذَلك) إشارة إلى اللعن. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا؛ كأن سائلاً يسأل عن موجِب هذا اللعن فأجيب بأنه بسبب عصيانهم وعدوانهم. وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السببية ومع وقوعه في جَواب سؤال مقدَّر أفاد مجموع ذلك مفاد القصر، أي: ليس لعنهم إلا بسبب عصيانهم. والمقصود من الحَصْر أن لا يضلّ الناس في تعليل سبب اللعن فربما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضُّلاَّل في العناية بالسفاسف والتفريط في المهمات، لأنَّ التفطُّن لأسباب العقوبة أول درجات التّوفيق.
و(ما) في قوله: (بِمَا عَصَوْا) مصدرية، أي بعصيانهم وكونِهم معتدين، فعُدل عن التّعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفِعلين مع (ما) المصدرية ليفيد الفعلان معنى تَجدُّد العصيان واستمرار الاعتداء منهم، ولتفيد صيغة المضي أنَّ ذلك أمر قديم فيهم، وصيغة المضارع أنه متكرر الحدوث. فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى. والاعتداء هو إضرار الأنبياء. وإنما عُبِّر في جانب العصيان بالماضي لأنه تقرَّر فلم يَقبل الزيادة، وعُبِّر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنه مستمر؛ فإنهم اعتدوا على محمد بالتكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد.
وجملة (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا)، وهو أن يقال: كيف تكون أمة كلها مُتمالئة على العصيان والاعتداء؟ فقال: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ).
وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أي النّفَر القليل، فإذا لم يجدوا من يغيِّر عليهم تزايدوا فيها ففشت واتَّبَع فيها الدهماءُ بعضهم بعضا حتى تعم
ويُنسى كونها مناكرَ؛ فلا يَهتدي الناس إلى الإقلاع عنها
والتوبة منها؛ فتصيبهم لعنة الله.(1/85)
والمراد بـ (مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) تَرْكُهم التناهي. وأطلق على ترك التناهي لفظ الفِعل في قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) مع أنه ترك، لأن السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرضا به والمشاركة فيه.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيرا للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قِبَلِ أن الله تعالى أمر بالتناهي. فكان الإخلال به معصية، وهو اعتداء.
وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن
المنكر مع القدرة موجبا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة:
منها: أن مجرد السكوت فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها: ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها.
ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يُردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدروا على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلا.
ومنها: أن في ترك الإنكار للمنكر يندرس العلم، ويكثر الجهل، فإن المعصية مع تكرارها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها؛ يُظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة! وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرَّم الله حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟
ومنها: أن السكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه..
فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة، نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.(1/86)
(لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ): هذا تقبيح لسوء فعلهم وتعجب منه وذم لهم على اقتراف بعضهم للمنكرات وإصرارهم عليها، وسكوت آخرين ورضاهم بها، وفى سوق الآية إرشاد للمؤمنين وعبرة لهم، حتى لا يفعلوا فعلهم فيكونوا
مثلهم ويحل بهم من غضب الله ولعنته مثل ما حل ببني إسرائيل. (1)
وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى:
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري ت قال: قال رسول الله خ: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان".
[فالله أمرك أنْ تُغيِّر المنكر، لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى إمكانك فيها، فالدين يريدك مُصلحا لكن لا يريد أنْ تُلقي بنفسك إلى التهلكة، فلك أنْ تُغيِّر المنكر بيدكَ فتضرب وتمنع إذا كان لك ولاية على صاحب المنكر، كأن يكون ولدك أو أخاك..
فلك أن تضربه مثلاً إنْ رأيتَ سيجارة في فمه، أو أنْ تكسر له كأس الخمر إنْ شربها، أو تمزق له مثلاً ورق الكوتشينة، فإنْ لم تكُنْ لك هذه الاستطاعة فيكفي أنْ تُغيِّر بلسانك إنْ كانت لديك الكلمة الطيبة التي تداوي دون أن تجرح الآخرين، ودون أنْ يؤدي النصح إلى فتنة، فيكون ضرره أكثر من نفعه.
فإنْ لم يكن في استطاعتك هذه أيضا، فليكن تغيير المنكر بالقلب، فإنْ رأيتَ منكرا لا تملك إلا أنَّ تقول: اللهم إنَّ هذا منكر لا يرضيك.. لكن أيُعَدُّ عمل القلب تغييرا للمنكر وأنت مطالَب بأنْ تُغيِّره بيدك إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئا..؟
__________
(1) التحرير والتنوير - محاسن التأويل - تيسير الكريم الرحمن - تفسير المراغي(1/87)
قالوا: لا يحدث التغيير بالقلب إلا إذا كان القالب تابعا للقلب، فالقلب يشهد أنَّ هذا منكر لا يُرضي الله، والقالب يساند حتى لا تكون منافقا، فأنت أنكرتَ عليه الفعل، ولا استطاعة لك على أنْ تمنعه، ولا أن تنصحه، فلا أقلَّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه، وإلاَّ فكيف تُغيِّر بقلبك إنْ أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدِّه ومعاملته؟
إذن: لا يكون التغيير بالقلب إلا إذا أحسَّ صاحب المنكر أنه في عزلة، فلا تهنئه في فرح، ولا تعزيه في حزن، وإنْ كنتَ صاحب تجارة، فلا تَبِعْ له ولا تشتر منه.
وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إلا لأن الناس
يحترمونهم ويعاملونهم على هذه الحال، بل ربما زاد احترام
الناس لهم خوفا من باطلهم ومن ظلمهم.
فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف، وقد علَّمنا ربنا تبارك وتعالى هذه القضية في قوله سبحانه: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } [النساء:140]
ويقول سبحانه في آية أخرى: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام:68]
والنبي خ في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا بغير عذر في غزوة تبوك، يُعلِّمنا كيف نعزل أصحاب المنكر؛ لا بأن نعزلهم في زنزانة كما نفعل الآن، إنما بأن نعزل المجتمع عنهم؛ ليس المجتمع العام فحسب، بل عن المجتمع الخاص، وعن أقرب الناس إليهم.(1/88)
وقد تخلف عن هذه الغزوة عدة رجال اعتذروا لرسول الله خ فقَبِل علانيتهم وترك سرائرهم لله، لكن هؤلاء الثلاثة لم يجدوا لأنفسهم عذرا، ورأوا أنهم لا يستطعيون أنْ يكذبوا على رسول الله خ، ولم يحبسهم الرسول خ، إنما حبس المجتمع عنهم حتى الأقارب، فكان الواحد منهم يمشي ويتقرب من الناس ليكلمه أحد منهم؛ فلا يكلمه أحد.. وكعب بن مالك يتسوَّر على ابن عمه الحديقة، ويقول له: تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلا يجيبه.. ويصلي بجوار الرسول خ يلتمس أنْ ينظر إليه؛ فلا ينظر إليه..
ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى؛ أعلاها الشرع وتسلسل بها إلى الخصوصيات في البيت؛ فعزل هؤلاء الثلاثة عن زوجاتهم، فأمر كلا منهن ألاَّ يقربها زوجها إلى أن يحكم الله في أمرهم، حتى أن واحدة من هؤلاء جاءت لرسول الله خ وقالت: يا رسول الله! إن زوجي رجل كهدبة الثوب (يعني: ليست له رغبة في أمر النساء) فأذن لها رسول الله خ في أن تخدمه على ألاَّ يقربها.
ظل هؤلاء الثلاثة ثلاثين يوما في هذا الامتحان العام، وعشرة أيام في الامتحان الخاص.. ونجح المجتمع العام، ونجح المجتمع الخاص.. وهكذا علَّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل الجريمة، فعَزْل المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع، لذلك كان وَقْع هذه العُزلة قاسيا على هؤلاء. [تفسير الشعراوي (بتصرف يسير)]
وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم؛ فيبقى أضعف الإيمان؛ وهو تغييره بقلوبهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقا على الإسلام!
وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر كما يلوح في بادئ الأمر؛ فتعبير الرسول خ بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته.(1/89)
فإنكار المنكر بالقلب، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر.. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به.. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع (المعروف) في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة.. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير.. وهو على كل حال أضعف الإيمان. فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ولأن له ضغطا قد يكون ساحقا؛ فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان!
هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
وعن عبد الله بن مسعود ت عن النبي خ أنه قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". [رواه مسلم]
قال عبد الله بن مسعود ت: "بحسب امرئ يرى منكرا
لا يستطيع أن يغيره؛ يعلم الله من قلبه أنه له كاره".
ودلالة الكره: الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل.
إن استعلاء القلب على الهزيمة الداخلية، وبقاء قوة رفضه للباطل مهما استطال وانتفش، وقوة ضبطه للسلوك لتأكيد الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل لهو
جهاد القلب، وإنه لجهاد له أثره الواقع في حياة الناس.(1/90)
وعن العُرس بن عميرة الكندي ت أن النبي خ قال: "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها (وفي رواية: فأنكرها) كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها". [رواه أبو داود وحسنه الألباني]
قال أبو الدرداء ت: لتأمرُن بالمعروف ولتنهُن عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما؛ لا يُجل كبيركم ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغفرون فلا يغفر لكم.
وسئل حذيفة ت عن ميت الأحياء، فقال: الذي لا ينكر المنكر
بيده ولا بلسانه ولا بقلبه.
وقال بلال بن سعد: إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها فإذا أعلنت ولم تغير أضرت بالعامة.
وقال علي بن أبي طالب ت: أول ما تُغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم؛ فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم ينكر المنكر نُكِّس فجُعل أعلاه أسفله. (1)
فيا عباد الله..
إن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يُداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشى الهدى، ثم هو لا ينتصر
بيد ولا لسان؛ يكون ممن يستحق وعيد الآية..
- - -
أولئك سيرحمهم الله:
قال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:71]
__________
(1) في ظلال القرآن - إحياء علوم الدين(1/91)
إذا كان المنافقون والمنافقات (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) كما وصفهم الله عز وجل.. إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة.. فالمؤمنون والمؤمنات (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). إن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض. فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف. وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم. إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك. والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء..
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة:67]
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة:71]
إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة. طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر.
(يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).. وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون. ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفا واحدا. لا تدخل بينها عوامل الفرقة. وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها، وعن عقيدتها، هو الذي يدخل بالفرقة. ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها. السمة التي يقررها العليم الخبير!
(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).. يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله ، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض.(1/92)
(أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) وذكر حرف السين في قوله: (سَيَرْحَمُهُمُ) للتوكيد والمبالغة، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوما، يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونظيره: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً) [مريم:96]، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى) [الضحى:5]
والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها، إنما تكون في هذه الأرض أولاً، ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح.. رحمة الله في اطمئنان القلب، وفي الاتصال بالله، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث.. ورحمة الله في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء الله.
وقد وصف الله المؤمنين في هذه الآية بصفات خمس تضادّ مثلها في المنافقين:
- إنهم يأمرون بالمعروف والمنافقون يأمرون بالمنكر.
- إنهم ينهون عن المنكر والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان هما سياج الفضائل ومنع فشوّ الرذائل.
- إنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله وحضور القلب فى مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس.
- إنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم وما وُفِّقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون وإن كانوا يصلون، لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون ولكن خوفا أو رياء لا طاعة لله تعالى كما قال سبحانه: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ } [التوبة:54]
- إنهم يستمرون على الطاعة بترك ما نُهوا عنه وفعل ما أُمروا به بقدر الطاقة، وبضد ذلك المنافقون؛ فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة.(1/93)
وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار..
وإن تلك الصفات لهي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين
في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).. قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف، حكيم في تقدير النصر والعزة لها، لتصلح في الأرض، وتحرس كلمة الله بين العباد. (1)
يقول العلامة ابن باز /: قدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة؛ مع أن الصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فلأي معنى قدم هذا الواجب؟ لا شك أنه قُدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به. ولأن بتحقيقه تصلح الأمة، ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله، ويأتون كل خير ويذرون كل شر.
وبإضاعته والغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة، والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر، وتختفي الفضائل ويُهضم الحق، ويظهر صوت الباطل، وهذا أمر واقع في كل مكان وكل دولة وكل بلد وكل قرية لا يؤمر فيها بالمعروف ولا يُنهى فيها عن المنكر؛ فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات ويسود فيها الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.ا.هـ
- - -
كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه:
__________
(1) في ظلال القرآن - مفاتيح الغيب - تفسير المراغي(1/94)
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يفعل ما يأمر به ويجتنب ما ينهى عنه، والذي لا شك فيه أن الداعية إلى الله لا يستطيع أن يَنفَذ بدعوته إلى مستمعيه ما لم يكن قدوة حسنة. إن مسئولية الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تجاه أنفسهم أعظم بكثير من مسئولياتهم تجاه المجتمع. وخطورة التقصير فيما للدعاة على أنفسهم من واجبات يفوق خطورة التقصير فيما للمجتمع عليهم من حقوق. فالدعاة إلى الله ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع الذي يعيشون فيه، تبدو في حياتهم آثار الرسالة التي يدعون إليها.
وقد أنكر الله جل وعلا على أولئك الذين يعظون الناس ولا يتعظون، وينهونهم ولا ينتهون. وكذا شدد رسول الله خ النكير على هؤلاء الذين تخالف أعمالُهم أقوالَهم..
قال تعالى: { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة:44]
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) أي: بالإيمان والخير، (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وأسمى (العقل) عقلا لأنه يَعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره؛ وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه؛ فمَن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه، دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك، قد قامت عليه الحجة.
(أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه، حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول؛ لأن العقول تأباه وتدفعه. وفي هذا دليل على كمال غفلتهم واضطراب حالهم. وكون هذا أمرا قبيحا فظيعا من أحوال البشر مما لا يشك فيه عاقل .(1/95)
وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أَمر به أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها؛ فترك أحدهما
لا يكون رخصة في ترك الآخر؛ فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس
في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على
عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال
أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل؛ فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة؛ دائم لا يخص قوما دون قوم، ولا يعني جيلا دون جيل .
إن آفة رجال الدين؛ حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة؛ أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود!
والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه؛ هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها. وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم؛ لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشهدون فعلا قبيحا؛ فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشع الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .(1/96)
إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيما واقعيا لما ينطق.. عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها.. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة؛ لأنها منبثقة من حياة .
والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك؛ ليست مع هذا أمرا هينا، ولا طريقا معبدا. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه..
فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره. والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته؛ لأن قوى الشر والطغيان والإغواء
أكبر منه.. وقد يغالبها مرة ومرة ومرة، ولكن لحظة ضعف تنتابه
فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله.. فأما
وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد؛ فهو قوي قوي، أقوى
من كل قوي. قوي على شهوته وضعفه. قوي على
ضروراته واضطراراته. قوي على ذوي
القوة الذين يواجهونه. (1)
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن - التحرير والتنوير - في ظلال القرآن - محاسن التأويل(1/97)
يقول فضيلة الشيخ الشعراوي /: قول الحق سبحانه وتعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) يعطينا منهجا آخر من مناهج الدعاة. لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحمل منهج الله؛ يريد أن يُخرج مَن لا يؤمن مِن حركة الباطل التي ألفها. وإخراج غير المؤمن من حركة الباطل أمر شاق على نفسه. لأنه خروج عن الذي اعتاده. وبُعد عما ألفه. واعتراف أنه كان على باطل لذلك فهو يكون مفتوح العينين على مَن بيَّن له طريق الإيمان ليرى هل يطبق ذلك على نفسه أم لا..؟ أيطبق الناهي عن المنكر ما يقوله..؟ فإذا طبقه عرف أنه صادق في الدعوة. وإذا لم يطبقه كان ذلك عذرا ليعود إلى الباطل الذي كان يسيطر على حركة حياته..
إن الدين كلمة تُقال. وسلوك يُفعل. فإذا انفصلت الكلمة عن السلوك ضاعت الدعوة. فالله سبحانه وتعالى يقول: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف:2-3]
لماذا..؟ لأن مَن يراك تفعل ما تنهاه عنه يعرف أنك مخادع وغشاش. وما لم ترتضه أنت كسلوك لنفسك. لا يمكن أن تبشر به غيرك. لذلك نقرأ في القرآن الكريم: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب:21]
فمنهج الدين وحده لا يكفي إلا بالتطبيق. ولذلك كان رسول الله خ لا يأمر أصحابه بأمر إلا كان أسبقهم إليه، فكان المسلمون يأخذون عنه القدوة قولا وعملا، وكان عمر بن الخطاب ت حين يريد أن يقنن أمرا في الإسلام يأتي بأهله وأقاربه ويقول لهم: لقد بدا لي أن آمر بكذا وكذا، والذي نفسي بيده مَن خالف منكم لأجعلنه نكالا للمسلمين. وكان عمر بن الخطاب بهذا يغلق أبواب الفتنة؛ لأنه يعلم من أين تأتي..(1/98)
وفي الدعوة الإسلامية لابد أن يكون العلماء قدوة لينصلح أمر الناس. ففي كل علوم الدنيا القدوة ليست مطلوبة؛ إلا في الدين. فأنت إذا ذُكِرَ لك عالم كيمياء بارع، وقيل لك: إنه يتناول الخمر، أو يفعل كذا.. تقول: مالي وسلوكه؟! أنا آخذ عنه علم الكيمياء لأنه بارع في ذلك، ولكن لا شأن لي بسلوكه. وكذلك كل علماء الأرض. ما عدا عالم الدين.. فإذا كان هناك عالم يبصرك بالطريق المستقيم، وتتلقى عنه علوم دينك ثم بعد ذلك تعرف أنه يشرب الخمر أو يسرق. أتستمع له؟! أبدا.. إنه يهبط من نظرك في الحال، ولا تحب أن تسمعه، ولا تجلس في مجلسه؛ مهما كان علمه.. وستقول له: كفاك دجلا..!
وهكذا؛ فإن عالم الدين لابد أن يكون قدوة. فلا ينهى عن منكر ويفعله. أو يأمر بمعروف وهو لا ينفذه. فالناس كلهم مفتحة أعينهم لما يصنع. والإسلام قبل أن ينتشر بالمنهج العلمي انتشر بالمنهج السلوكي. وأكبر عدد من المسلمين اعتنق هذا الدين من أسوة سلوكية قادته إليه. فالذين نشروا الإسلام في الصين؛ كان أغلبهم من التجار الذين تخلقوا بأخلاق الإسلام. فجذبوا حولهم الكثيرين. فاعتنقوا الإسلام. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]
فالشرط الأول هو الدعوة إلى الله. والشرط الثاني العمل الصالح. وقوله: (إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لم ينسب الفضل لنفسه أو لذاته. ولكنه نسب الفضل إلى الإسلام.
ولكن.. أي فائدة أن نقول: إننا مسلمون؛ بينما نعمل بعمل غير المسلمين؟! (1)
وعن أسامة بن زيد ت عن النبي خ أنه قال: "يُجَاءُ بالرَّجُلِ يومَ القيامةِ فَيُلْقَى في النارِ فتَنْدَلِقُ أقْتَابُهُ في النارِ فيَدُورُ كما يَدُورُ الحمارُ
برَحَاهُ فيجتمعُ أهلُ النارِ عليهِ فيقولون: أيْ فلانُ ما شأنُكَ؟
__________
(1) تفسير الشعراوي(1/99)
أليس كنتَ تأمرُنا بالمعروفِ وتنهانا عن المنكرِ؟ قال: كنتُ
آمُرُكم بالمعروفِ ولا آتِيهِ وأنهاكم عن المنكرِ وآتِيهِ". (1)
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف:2-3]
أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به.
فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه.
وقد ناداهم بوصف الإيمان تعريضا بأن الإيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن أن يخالف فعلُه قولَه في الوعد بالخير.
واللام لتعليل المستفهَم عنه، وهو الشيء المبْهم الذي هو مدلول (ما) الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهَم يطلب تعيينه. والتقدير: تقولون ما لا تفعلون لأي سبب أو لأية علة؟!
والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مُرضِيا لله تعالى. أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر.
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد؛ فإن الآمر بما لا يأتمر به تكون الحجة عليه قائمة بلسانه. (2)
وقد ذكر الله جل وعلا عن نبيه شعيب ؛ أنه أخبر قومه أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه، وأن فعله لا يخالف قوله: { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [هود:88]
__________
(1) متفق عليه. وتندلق أقتابه: أي تخرج أمعاؤه.
(2) تيسير الكريم الرحمن - التحرير والتنوير - تفسير المراغي(1/100)
فشعيب ؛ يوضح لهم أنه لا ينهاهم عن أفعال ليفعلها هو؛ بل ينهاهم عن الذي لا يفعله؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بألا يفعل تلك الأفعال، فالحق سبحانه هو الذي أوحى له بالمنهج، وهو الذي أنزل عليه الرسالة.
وشعيب ؛ لا ينهاهم عن أفعال يفعلها هو؛ لأنه لا يستأثر لنفسه بما يرونه خيرا؛ فليس في نقص الكيل والميزان أو الشرك بالله أدنى خير، فكل تلك الأفعال هي الشر نفسه.
ويوضح لهم شعيب ؛ مهمة النبوة؛ فيقول: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ)..
فالنبوات كلها لا يرسلها الله تعالى إلا حين يطم الفساد، ويأتي النبي المُرسَل
بمنهج يدل الناس إلى ما يصلح أحوالهم؛ من خلال (افعل) و(لا تفعل).
ويكون النبي المُرسَل هو الأسوة لتطبيق المنهج؛ فلا يأمر أمرا هو
عنه بنَجْوةٍ؛ ويطبق على نفسه أولا كل ما يدعو إليه. (1)
وليت الذين نصبوا أنفسهم للعمل الإسلامي يضعون هذا المبدأ الذي
أرشد إليه شعيب ؛ نصب أعينهم؛ فلا يخالفون إلى ما ينهون
عنه ليكون لكلامهم ذلك التأثير في نفوس المدعوين!
إن على الدعاة أن يترسموا خُطا الدعوة في كل شأن من شئونهم؛ في أقوالهم وأفعالهم؛ في حياتهم الخاصة والعامة.. في أنفسهم كأفراد، وفي بيوتهم كأزواج وآباء.. وهذا ما يؤكد عليه علي بن أبي طالب ت، يقول: مَن نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه لسيرته قبل تهذيبه بلسانه، فمعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم.
وهل يجني الذين يقولون ما لا يفعلون، ويعظون ولا يتعظون، ويرشدون ولا يسترشدون؛ إلا سخرية العباد وسخط رب العباد.. يخسرون دينهم ودنياهم وذلك هو الخسران المبين.
قال الشعبي: يَطَّلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار، فيقولون لهم: ما أدخلكم النار، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله، وننهى عن الشر ونفعله.
__________
(1) تفسير الشعراوي(1/101)
إن الواجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون حريصا على إصلاح سره، كما يجب عليه أن يكون حريصا على إصلاح جهره. عليه أن يكون صريحا مع نفسه فلا يخادعها، ومع الناس فلا يرائيهم ولا ينافقهم. وليتدبر قول ابن السماك في هذا المعنى: كم مِن مذكر بالله ناسٍ لله! وكم مِن مخوف بالله جريء على الله! وكم مِن مقرب إلى الله بعيد عن الله! وكم من داعٍ إلى الله فارٍّ من الله! وكم من تالٍ لكتاب الله منسلخ عن آيات الله!
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن يخشى الله لا الناس، ويخلص له في سره وجهره، فلا يكون في ظاهره ملاكا وفي باطنه شيطانا، وليحذر أن يكون ممن عناهم الله عز وجل بقوله: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ } [النساء:108]
وعن أنس بن مالك ت قال: قال رسول الله خ: "رأيت ليلة أسري بي رجالا تُقرض شفاههم بمقاريض من النار، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون". [رواه ابن أبي الدنيا، وابن حبان واللفظ له، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب]
وعن أبي تميمة عن جندب بن عبد الله الأزدي ت عن رسول الله خ قال: "مثلُ الذي يُعلِّمُ الناسَ الخيرَ وينسى نفسَه كمثلِ السراجِ يُضيءُ للناسِ ويحرقُ نفسَه". [رواه الطبراني، وقال الألباني في صحيح الترغيب: صحيح لغيره]
وقد أحسن من قال:
يا أيها الرجلُ المُعلِّمُ غيرَه ... هلا لنفسِكَ كان ذا التعليمُ
تصفُ الدواءَ لذي السَّقامِ وذي الضَّنى ... كيما يصحَّ بهِ وأنتَ سقيمُ!
ونراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عقولَنا ... أبدًا وأنتَ من الرشادِ عديمُ
ابدأ بنفسِك فانهها عن غَيِّها ... فإذا انتهتْ عنهُ فأنت حكيمُ
فهناكَ يُسمَع ما تقولُ ويُقتدَى ... بالقولِ منكَ وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه ... عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ(1/102)
فإنْ يتركوهم وما أرادوا هَلَكوا جميعًا:
إن الفساد حينما ينتشر في الأمة ويسود بنظامه وقيمه حياة أفرادها، ويسري في شرايين الناس سريان السرطان في جسم الإنسان؛ عند ذلك تكون الأمة في أمس الحاجة إلى الإصلاح والتغيير.
إن مهمة الإصلاح التي تحتاج إليها الأمة ليست حالة عارضة تظهر عند الحاجة إليها، بل هي حالة مستمرة تلازم حياة الأمة.
والوظيفة الأساسية لإقامة منهج الله في الأرض وتبليغ شريعته، وتغليب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر؛ هي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الإمام النووي /: واعلم أن هذا الباب -أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قد ضُيِّع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيم. ا.هـ
قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63]
أي: فليحذر الذين يصدون عن سبيل رسول الله خ ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فإن الأقوال والأعمال توزن بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله، كائنا ما كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله خ أنه قال: "من عمل عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ".
وليخْشَ من خالف شريعة الرسول خ باطنًا أو ظاهرًا (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي: في قلوبهم؛ من كفر أو نفاق أو بدعة، (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: في الدنيا، بقتل، أو حَد، أو حبس، أو نحو ذلك. (1)
__________
(1) نفسير القرآن العظيم(1/103)
وقال تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال:25]
الفتنة: البلاء والاختبار، أي: اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده، بل تعمه وغيره كالفتن القومية التي تقع بين الأمم فى التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة، أو التفرق فى الدين والشريعة، والانقسام إلى الأحزاب الدينية والأحزاب السياسية، ونحو ذلك من ظهور البدع، والتكاسل فى الجهاد، وإقرار المنكر الذي يقع بين أظهرهم، والمداهنة في الأمر بالمعروف ونحو ذلك من الذنوب التي جرت سنة الله بأن تعاقَب عليها الأمم فى الدنيا قبل الآخرة.
والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره -وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة- ولا تقف في وجه الظالمين، ولا تأخذ الطريق على المفسدين؛ جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين.. فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد؛ والمنكر يشيع؛ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع؛ بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها؛ وهم ساكتون.. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله
من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون!
أخرج ابن جرير من طريق الحسن قال: لقد خُوِّفنا بهذه الآية، ونحن مع رسول الله خ وما ظننا أننا خُصصنا بها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر في الآية، قال: نزلت في عليّ وعثمان وطلحة والزبير، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد خ حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن.
ورُوي عن ابن عباس ب قال: أمر الله المؤمنين ألا يُقرُّوا
المنكر بين أظهرهم؛ فيعمهم الله بالعذاب.(1/104)
وروى أحمد والبزار وابن مردويه عن مطرِّف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله! ضيعتم الخليفة عثمان حتى قُتل، ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال: إنا قرأنا على عهد رسول الله خ وأبي بكر وعمر وعثمان: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وعلى الجملة ففتنة عثمان كانت أول الفتن التي اختلفت فيها الآراء، فاختلفت أعمال أهل الحل والعقد، وخلا الجو للمفسدين من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم، ثم أعقبتها فتنة الجمل بصفين، ثم فتنة ابن الزبير مع بني أمية، ثم قتل الحسين بكربلاء، إلى نحو ذلك من الفتن التي كان لها آثارها فى الإسلام، ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر ت أهل الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة؛ أكبرها فتن الخلافة والملك، وفتن الآراء والمذاهب الدينية والسياسية.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي: إنه تعالى شديد عقابه للأمم والأفراد إذا خالفت سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل، أو خالفت هدي دينه المزكِّي للأنفس المطهر للقلوب.
وهذا العقاب منه ما هو فى الدنيا وهو مطرد فى الأمم، وقد أصيبت به الأمة الإسلامية فى القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده، إذ قصروا في درء الفتنة الأولى فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك، ثم تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان حتى دالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها.
وقد يقع هذا العقاب للأفراد لكنهم ربما لا يشعرون به، لأنه يقع تدريجيا فلا يكاد يحسّ به، وأما العقاب الأخروي فأمره إلى الله العالم بالسر والنجوى، والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم. [تفسير المراغي - الظلال](1/105)
عن النعمان بن بشير ت عن النبى خ قال: "مَثَلُ القائمِ على حُدُودِ اللهِ والواقعِ فيها كَمَثَلِ قومٍ اسْتَهَمُوا (1) على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا على مَن فوقَهم فقالوا: لو أنا خَرَقْنَا في نصيبِنا خَرْقًا، ولم نُؤْذِ مَن فوقَنا. فإنْ يتركوهم وما أرادوا هَلَكوا جميعًا، وإنْ أخذوا على أيديهِم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا". [رواه البخاري والترمذي]
فانظر كيف بين الرسول خ في هذا الحديث الشريف أن هلاك المجتمع إنما هو نتيجة محتومة لترك أصحاب المنكر والعصاة يعيثون في الأرض فسادا، وعدم الأخذ على أيديهم. وأن المنكر قد يُرى في أول الأمر هينا وبسيطا، كالخرق في السفينة، فإن تُرك مع بساطته وعدم اتساعه فشا في المجتمع وازداد حتى يؤول في آخر المطاف إلى بلاء عظيم.
وفي هذا الحديث مثَّل النبي خ المجتمع الإنساني بركاب سفينة، ومثل النظم
والآداب التي تحفظ هذا المجتمع وتعصمه -بإذن الله- بهيكل السفينة وجوانبها.. وأصبح واضحا من التمثيل أن على كل راكب أن يحافظ على سلامة حدودها التي حدها الله بها بين الحياة والموت والنجاة والهلاك. ثم قسم خ المجتمع بالنسبة للمحافظة على هذه الحدود إلى طبقتين:
أ) طبقة المحافظين عليها والقائمين على حراستها وهم الطبقة العليا، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
ب) وطبقة المنتهكين لها الواقعين في مخالفتها وهي الطبقة السفلى أهل المنكر والمعصية.
__________
(1) اقترعوا؛ من يسكن أعلى السفينة، ومن يسكن أسفلها.(1/106)
ثم وضح خ أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة هذا المجتمع، فذكر أن الطبقة السفلى ترغب في ارتكاب جريمة إبادة عامة بغباوة وحسن نية وعاطفة حب؛ لأنه صعب عليها أن تتسبب في مضايقة العليا بمرورها بها صاعدة نازلة كلما أرادت شيئا من الماء فهداها تفكيرها الأخرق إلى أن تخرق مكانها من أسفل السفينة لتستقي منه ولا تؤذي جيرانها.
إن أصغر خرق هنا يساوي أوسع حيز لهذا المجتمع كله كما قيل، وإن السكوت على هذه الجريمة النكراء جريمة أخرى أشد نكرا، وأعظم خطرا، وإن ضرورة النجاة تفرض على أهل العقل والطبقة العليا أن يقوموا فورا بالضرب على أيدي الأسفلين الذين يريدون أن يغرقوا المجتمع كله بحمقهم وسوء عملهم.
ومما تضمنه هذا الحديث الشريف يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يساوي حياة المجتمع وسلامته، وأن أي تهاون في القيام به لا جزاء له إلا أن تهوي
السفينة بالجميع إلى القاع، وأن يصبح الكل من المهلكين المغرقين. (1)
[وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه،
وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها.
قال المهلب وغيره: في هذا الحديث تعذيب العامة بذنب الخاصة، وفيه نظر لأن التعذيب المذكور إذا وقع في الدنيا على من لا يستحقه فإنه يكفِّر من ذنوب من وقع به أو يرفع من درجته. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف] [فتح الباري]
__________
(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله(1/107)
وعن أبي بكر الصديق ت قال: يا أيها الناس! إنكم تقرأون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، (1) وإني سمعت رسول الله خ يقول: "إنَّ الناسَ إذا رأَوْا الظالمَ فلم يأخذوا على يديهِ أوشكَ أن يَعمَّهمُ اللهُ بعقابٍ مِن عندِهِ". [رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب]. ولفظ النسائي: "إنَّ القومَ إذا رأَوْا المنكرَ فلم يُغيِّروه عمَّهمُ اللهُ بعقابٍ". وفي رواية لأبي داود: "ما مِن قومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي ثم يَقدرون على أن يُغيِّروا ثم لا يُغيِّروا إلا يُوشكُ أنْ يَعمَّهمُ اللهُ منه بعقابٍ".
يقول د. سيد العفاني: [لا يعلم إلا الله -إن لم يكن الربانيون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- ما سيكون.. والوحل والحضيض الذي تعيش فيه الأمة يدمي القلوب والعيون، والمسلمون ينحدرون من هاوية إلى هاوية، ويتقهقرون من نكسة إلى نكسة، ويتهافتون من خراب إلى خراب..
ألفت الأمة الآثام؛ حتى أمست جزءًا من كيانها تتمسك به وتدافع عنه؛ حالهم مثل حال الأمم التي قال الله عز وجل فيها: { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } [النحل:63]؛ جعل القبيح في عيونهم حسنا، والمر في مذاقهم حلوا، وكرَّه لهم الاستقامة ووحي السماء؛ فهم لا يرتضون إلا ما ابتدعوا، ولا يقبلون عنه بديلا..
ومثال ذلك الواضح: كان القذر الجنسي يتم في خفاء، ثم صار يبدو على استحياء، ثم تواضع عليه الرعاع، ثم صار قانونا يُعمل به، ثم انعقدت مؤتمرات عالمية تدعو إليه وتسعى جاهدة لتعميمه على المجتمعات الإسلامية؛ لتشيع الفاحشة في الذين آمنوا.. فمن يعري هؤلاء العراة ويفضحهم إن سكت الربانيون؟
__________
(1) المائدة: 105(1/108)
ناشئة حديثة تكره الله ورسوله، وتنقم على الإسلام ووحيه، وتريد باسم العلمانية أن تعيدنا إلى جاهلية عمياء..
ومن لهؤلاء الأقزام يصدهم إلا الجبال الشم من الربانيين الذين ذاقوا حلاوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فاستعذبوا ما يلاقون ابتغاء وجه ربهم الأعلى..
يا جيل المصاحف.. أكلت مواسمنا الجنادب، واستبد بنا الحواة، وغادرتنا آخر السحب الحميمة في السماء..
يا جيل المصاحف.. يا خمير الأرض.. يا غرس الشهادة.. أنت الذي سيبدل الأوزان والأحزان؛ يزرع في العيون نخيلها، فلكم تباطأ في الرحيل عن القرى عام الرماد!!] [صلاح الأمة في علو الهمة (بتصرف)]
- - -
واصبر على ما أصابك:
قال تعالى: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان:17]
(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك؛ فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم. وأمر غيرك بتهذيب نفسه قدر استطاعتك، تزكية لها، وسعيا إلى الفلاح، كما قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها } [الشمس:9-10]
(وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي وانه الناس عن معاصى الله ومحارمه التي توبق من اكتسبها، وتلقي به في عذاب السعير.
والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الآمر وانتهاءه في نفسه؛ لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد؛ فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناسَ ونهيه إياهم.
فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى؛ إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخيرَ وبثِّه في الناس، وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه.(1/109)
ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجران للقائم بهما معاداةً من بعض الناس
أو أذى من بعض؛ فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أوشك أن يتركهما.
فلما كان الداعي إلى الحق معرَّض لإيصال الأذى إليه، وأنه لا بد أن يُبتلَى إذا أمر ونهى؛ وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس؛ أمره بالصبر على
ذلك فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ) الذي وعظ به لقمان
ابنه (مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) أي: من الأمور التي يعزم عليها،
ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم.
وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة، وختمها بالصبر؛ لأنهما عماد الاستعانة إلى رضوان الله كما قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة:45]. (1)
يقول فضيلة الشيخ الشعراوي /: [ومن كمال الإيمان أنْ تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فيقول له: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ).. فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلاة، بأنْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبالصلاة كَمُلْتَ في ذاتك، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير، وفي ذلك كمال الإيمان.
وأنت حين تأمر بالمعروف، وحين تنهي عن المنكر لا تظن أنك تتصدَّق على الآخرين، إنما تؤدي عملاً يعود نفعه عليك، فبه تجد سعة الراحة في الإيمان، وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية؛ لأنك أديتَ التكاليف في حين قصَّر غيرك وتخاذل.
ولا شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج الله راحة لك أنت أيضا، وإلا فالمجتمع كله يَشْقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج الله.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن - التحرير والتنوير - تفسير المراغي - مفاتيح الغيب - محاسن التأويل(1/110)
ومن إعزاز العلم أنك لا تنتفع به الانتفاع الكامل إلا إذا عدَّيْته للغير، فإنْ كتمته انتفع الآخرون بخيرك، وشقيتَ أنت بشرِّهم. إذن: لا تنتفع بخير غيرك
إلا حين تؤدي هذه الفريضة؛ فتأمر غيرك بالمعروف، وتنهاه عن المنكر،
وتحب لهم ما تحب لنفسك، وبذلك تنال الحظين: حظك عند الله
لأنك أديْتَ، وحظك عند الناس لأنك في مجتمع متكامل
الإيمان ينفعك ولا يضرك.] [تفسير الشعراوي]
وقال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة:24]
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا): أي: قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا (لَمَّا صَبَرُوا) أي: على العمل به، والاعتصام بأوامره (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) أي: يصدقون أشد التصديق وأبلغه. والمعنى: كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه هدىً لأمتك، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية.
ويؤخذ من فحوى الآية أن بني إسرائيل لَما نبذوا الاعتصام بالكتاب، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفقدوا الاستيقان بحق
الإيمان، فغيروا وبدلوا، سُلِبُوا ذلك المقام، وأُديل عليهم انتقاما منهم؛
وتلك سنته تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
ففي طي هذا الترغيب ترهيبٌ وأي ترهيب. (1)
فيا عباد الله..
الصبرُ مثلُ اسمِهِ مُرٌّ مَذاقتُه لكن عواقبُه أحلى من العسلِ
- - -
مآثر يزهو بها التاريخ:
" قال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ذاهبا وراجعا.
قال يحيى بن يمان: سمعت سفيان يقول: إني لأرى المنكر فلا أتكلم؛ فأبول أكدم دما.
__________
(1) محاسن التأويل(1/111)
وقال يحيى بن يمان: لقيت سفيان عند بني فزارة، فقال: تدري من أين جئتُ؟ قلتُ: لا.. قال: مررتُ بدار الصيدنانيين، فنهيتهم عن بيع الداذي، (1) وإني لأرى الشيء يجب عليّ أن آمر فيه وأنهى؛ فأبول دما! [سير أعلام النبلاء]
} - {
" علم السلطان "سليم الأول" أن الأقليات غير المسلمة الموجودة في "اسطنبول" من الأرمن والروم واليهود، بدأت تتسبب في بعض المشاكل للدولة العثمانية، وفي إثارة بعض القلاقل؛ فغضب لذلك غضبا شديدا، وأعطى قراراه بأن على هذه الأقليات غير المسلمة اعتناق الدين الإسلامي، ومن يرفض ذلك ضرب عنقه!
وبلغ هذا الخبر شيخ الإسلام "زمبيلي علي مالي أفندي"، وكان من كبار علماء عصره؛ فساءه ذلك جدا؛ ذلك لأن إكراه غير المسلمين على اعتناق الإسلام يخالف تعاليم الإسلام، الذي يرفع شعار: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة:256]. ولا يجوز أن يخالف أحد هذه القاعدة الشرعية، وإن كان السلطان نفسه.
ولكن من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان؛ الذي يرتجف أمامه الجميع؟ من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان ذي الطبع الحاد؛ فيبلغه أن ما يفعله ليس صحيحا، وأنه لا يوافق الدين الإسلامي، ويُعد حراما في شرعه؟
ليس من أحد سواه يستطيع ذلك؛ فهو الذي يشغل منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، وعليه تقع مهمة إزالة هذا المنكر الذي يوشك أن يقع.
لبس جبته وتوجه إلى قصر السلطان، واستأذن في الدخول عليه، فأذن له؛ فقال للسلطان: سمعتُ أيها السلطان أنك تريد أن تُكره جميع الأقليات غير المسلمة على اعتناق الدين الإسلامي..
كان السلطان لا يزال محتدا؛ فقال: أجل.. إن ما سمعته صحيح.. وماذا في ذلك؟!
__________
(1) الصيدناني لغة في الصيدلاني، وهو بياع الأدوية. والداذي: حَبٌّ يشبه الشعير يُطْرَح في النَّبيذِ فيَشتَد حتى يُسْكِر.(1/112)
فقال شيخ الإسلام: أيها السلطان! إن هذا مخالف للشرع؛ إذ لا إكراه في الدين، ثم إن جدكم "محمد الفاتح" عندما فتح مدينة "اسطنبول" اتبع الشرع الإسلامي؛ فلم يُكره أحدا على اعتناق الإسلام، بل أعطي للجميع حرية العقيدة؛ فعليك باتباع الشرع الحنيف، واتباع عهد جدكم "محمد الفاتح"..
قال السلطان سليم وحدته تتصاعد: يا علي أفندي..! يا علي أفندي..! لقد بدأت تتدخل في أمور الدولة.. ألا تخبرني متى سينتهي تدخلك هذا؟!
قال شيخ الإسلام: إنني أيها السلطان أقوم بوظيفتي في الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، وليس لي من غرض آخر، وإذا لم ينته
أجلي، فلن يستطيع أحد أن يسلبني روحي.
فقال السلطان: دع هذه الأمور لي يا شيخ الإسلام.
قال شيخ الإسلام: كلا أيها السلطان.. إن من واجبي أن أرعى شئون
آخرتك أيضا، وأن أجنبك كل ما يفسد حياتك الأخروية،
وإن اضطررت إلى سلوك طريق آخر.
قال السلطان: ماذا تعني؟!
قال شيخ الإسلام: سأضطر إلى إصدار فتوى بخلعك أيها السلطان؛
بسبب مخالفتك للشرع الحنيف إن أقدمت على هذا الأمر.
وأذعن السلطان "سليم" لرغبة شيخ الإسلام؛ فقد كان يحترم العلماء ويُجلهم، وبقيت الأقليات غير المسلمة حرة في عقائدها، وفي عباداتها، وفي محاكمها، ولم يمد أحد أصبع سوء إليهم. [روائع من التاريخ العثماني - نقلا عن موقع التاريخ]
} - {(1/113)
" اختير الشيخ "حسنين مخلوف" مفتيًا للديار المصرية سنة (1356هـ-1946م)، وكان الشيخ قويا في الحق، يجهر به ما دام قد استقر في يقينه صحة ما توصل إليه، فخاض حربًا ضد الشيوعية قبل قيام حركة الجيش سنة 1952م؛ وكانت بعض الأفكار الشيوعية قد تسربت إلى الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة، وخُدع بها البعض، وظنوا فيها خيرًا، فلما رأى الشيخ ذلك صدع بالحق وأعلن أن الشيوعية بعيدة كل البعد عن الإسلام. وحين طُلب منه أن يعلن أن الإسلام اشتراكي، وأن الاشتراكية نابعة من صميم الإسلام؛ أبى الشيخ الغيور وأعلن أن الإسلام لا يعرف الاشتراكية بمفهومها الغربي، لكنه يعرف العدل والمساواة والتكافل حسبما جاء في آيات الذكر الحكيم.
وجرَّت عليه هذه الفتاوى معاداة ذوي الجاه والسلطان، فحاربوا الشيخ الفقيه، وضيقوا عليه، وأوعزوا إلى الصحف أن تمتنع عن نشر ما يكتبه في مختلف القضايا، ولم يعد له متنفسا سوى مجلة الأزهر يجهر فيها بما يراه حقا. [المعجم الجامع في تراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين]
} - {
" عندما قامت الثورة في مصر عام 1952م قام الرئيس محمد نجيب متغطرسا وقال: سنساوي المرأة بالرجل في جميع الحقوق، وخرجت الصحف من الغد: إن الرئيس محمد نجيب ذكر في خطابه أنه سيساوي المرأة بالرجل.. وكان شيخ الأزهر في ذلك الوقت الخضر حسين / وهو تونسي، فعندما علم بالخبر اتصل بالرئيس محمد نجيب وقال له: إما أن تكذب الخبر، وإما سأنزل غدا بكفني إلى السوق وأدعو الناس إلى مواجهتك. فجاءه أعضاء مجلس الثورة في مكتبه في مشيخة الأزهر وقالوا له: يا شيخنا هذا الأمر صعب ولكننا نقول لك: هذا غير صحيح. قال: لا ينفع هذا الكلام؛ أريد كما أُعلن أمام الملأ أن يُكذَّب أمام الملأ، وإلا سأنزل غدا وأنا ألبس كفني، والله لن أقف حتى أنتصر في هذه المعركة أو تذهب روحي..(1/114)
ولما رأوه مُصرًّا على موقفه؛ أعلن محمد نجيب أن الخبر غير صحيح، وكيف يجوز له أن أقول بهذا القول وهو يخالف الكتاب والسنة..؟! [نماذج من الأمر بالمعروف]
} - {
" لم يكن دور الأزهر يقتصر على الدرس والتعليم وتخريج العلماء، بل امتد أثره إلى الحياة العامة الرحيبة، فكان ملاذًا للناس حين يقع بهم ظلم؛ يأخذ على يد الظالمين ويعيد الحق للمظلومين. فحين قام "مراد بك" أحد كبار المماليك في العصر العثماني بالهجوم على بيوت بعض الناس في القاهرة ومصادرة ممتلكاتهم، لجأ الناس إلى الشيخ "أحمد الدردير" سنة (1200هـ - 1785م) وكان من كبار علماء الأزهر، فقاد ثورة لاسترداد الحقوق المغتصبة، وما إن علم "إبراهيم بك"- وكان شريك مراد في حكم البلاد- حتى خشي من استفحال الثورة، فأرسل إلى "الدردير" يسترضيه ويعتذر إليه مما صنع زميله، ويخبره أنه ملتزم بردّ ما نهب أو دَفْع قيمته.
وبعد عشر سنوات من هذه الغضبة الأزهرية قاد الشيخ "عبد الله الشرقاوي" شيخ الجامع الأزهر ثورة ثانية لاسترداد الحقوق، ودفع الظلم، ومقاومة الطغيان، حين دفع إليه مجموعة من فلاحي قرى مدينة "بلبيس" بمحافظة الشرقية شكواهم من ظلم "محمد بك الألفي" ورجاله. ولم تهدأ هذه الثورة العارمة إلا بعد توقيع وثيقة تنص على عدم فرض ضريبة إلا بعد إقرارها من مندوبي الشعب، وألا تمتد يد ذي سلطان على فرد من أفراد الأمة إلا بالحق والشرعة.(1/115)
وكان شيوخ الجامع الأزهر هم حملة الأمانة وقادة التنوير وزعماء النهضة وملاذ الأمة وحصنها حين تضطرب الأمور ويدلهم الخطب، ويحتاج الناس إلى رائد لا يكذب قومه، يأخذ بيدهم إلى برِّ النجاة.. وكان الشيخ "جاد الحق على جاد الحق" واحدًا من حبات عقد الأزهر، الذي يُزيِّن جِيد مصر أمانة وشجاعة وورعًا ومسئولية، وقد تحمل تبعات الأزهر وقاده ببراعة في أجواء مضطربة تحيط بالأزهر، وسياسات تكبل أقدام الجامع العنيد، وقوانين تعوق مسيرته، ولم يكن الأزهر كما كان في القديم مؤسسة تتمتع بحرية الحركة، وتعتمد على أوقافها من الأراضي والعقارات تكفل لها الاستقلال بعيدًا عن الحكام والمتسلطين، ومن هنا كانت براعة الشيخ وتوفيق الله له في أن يحقق نتائج ملموسة في ظل السياسات المقيدة.
عُرف الشيخ في الفترة التي تولَّى فيها مشيخة الأزهر بمواقفه الجريئة، والصدع بما يعتقد أنه الحق والصواب، وإن خالف هوى الناس وأغضب السلطان؛ فقد أعلن بعد توليه المشيخة تأييد الأزهر للجهاد الأفغاني ضد المحتل الروسي، وعدَّ ما يحدث في البوسنة والهرسك حربًا صليبية جديدة تهدف إلى إبادة المسلمين، ودعا إلى الوقوف إلى جانب المسلمين والدفاع عن قضيتهم، وكان له مثل هذا الموقف مع المسلمين الشيشان في جهادهم للروس، ومع الانتفاضة الفلسطينية.
ويُذكر له موقفه الواضح من التطبيع مع إسرائيل، حتى إن كانت هناك اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، واشتد في معارضته للتطبيع في الوقت الذي نشطت فيه حركات التطبيع في بعض مؤسسات الدولة، فأفتى بعدم جواز زيارة القدس إلا بعد تحريرها، ورفض استقبال أي وفد إسرائيلي يرغب في زيارة الأزهر، وإنْ سبَّب ذلك حرجًا للمسئولين.(1/116)
وكان للشيخ رأي واضح في مقررات مؤتمر السكان الذي تم عقده في القاهرة في (ربيع الآخر 1415هـ - سبتمبر 1994م) فعارض دعوات الانحلال الأُسري والشذوذ، والخروج على الفطرة السليمة، وتعاون معه في رد تلك الدعاوى نفر من المخلصين، وكان لحضورهم هذا المؤتمر ودحضهم تلك الدعاوى أثره في إحباط ما كان يخطِّط له القائمون على المؤتمر، وتكرر منه هذا الموقف الواضح في رفضه لوثيقة مؤتمر المرأة الذي تم عقده في بكين في (جمادى الأولى 1416هـ - سبتمبر 1995م).
وقد هاله / أن يتخذ نفر من الكُتّاب من تطرف بعض الشباب ذريعة للهجوم على الإسلام ومبادئه دون وازع من ضمير أو تسلح بثقافة وعلم، فانطلق قلمه يصدع بالحق ويفضح سموم بعض الكتبة بقوله: "وقد أُفرغت الحرية من مفهومها الصحيح، حتى صارت الدعوة إلى الفساد حرية، وصار الطعن في الإسلام وصلاحيته حرية، ثم صارت المسارعة إلى توزيع الاتهامات على الناس أسبق من نتائج التحقيق التي تقوم بها الجماعة المختصة".
وحين أعلنت بعض الصحف عن مسابقة لاختيار ملكة النيل، فزع من تطرف بعض المترفين وانسياقهم وراء الهوى والضلال، وكتب مقالة في غاية القوة والبيان بعنوان: "أوقفوا هذا العبث باسم وفاء النيل"، وعدَّ هذا التصرف الطائش عودة إلى سوق النخاسة والرقيق الأبيض، وَرِدَّة إلى الجاهلية العمياء، لا يُفرَّق فيها بين الحلال والحرام. (1)
} - {
" كان جامع "الزيتونة" مصنعا لرجال أفذاذ قادوا حياة شعوبهم قبل أن يقودوا حياتهم، في وقت اضطربت فيه معالم الحياة، فكانوا منارات للهدى وعلامات لطريق السداد.
__________
(1) جاد الحق علي جاد الحق: مقال لأحمد تمام - إسلام أون لاين (نقلا عن المعجم الجامع في تراجم العلماء)(1/117)
و"محمد الطاهر بن عاشور" هو أحد أعلام هذا الجامع، ومن عظمائهم المجددين. حياته المديدة التي زادت على تسعين عامًا كانت جهادًا في طلب العلم، وجهادا في كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد التي قيدت العقل المسلم عن التفاعل مع القرآن الكريم والحياة المعاصرة.
أحدثت آراؤه نهضة في علوم الشريعة والتفسير والتربية والتعليم والإصلاح، وكان لها أثرها البالغ في استمرار "الزيتونة" في العطاء والريادة.
لم يكن "الطاهر بن عاشور" بعيدا عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت ثلاثة عقود عُرفت بمحنة التجنيس، وملخصها أن الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا في (شوال 1328 هـ - 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ مما أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال صيغة سؤال عامة لا
تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.
وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت (1352 هـ - 1933م) رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية؛ فأفتى المجلس صراحة بأنه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب.(1/118)
ومن المواقف المشهورة للطاهر بن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك عام (1381 هـ - 1961م) عندما دعا الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، فبعد أن قرأ آية الصيام، قال بعدها: "صدق الله وكذب بورقيبة"، فخمد هذا التطاول المقيت وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور. (1)
} - {
أخي لا تَلِنْ فالأُلى قُدوةٌ ... لِمِثلي ومِثلِكَ في المَأزَمِ
لهم قَدْرُهم باعتبارِ الرِّجالِ ... وسُمعتُهُم في ذُرَا الأْنجُمِ
تكلَّمْ فأنتَ الأَبيُّ الشُّجاعُ ... ولا تَتهَيَّبْ ولا تُحْجِمِ
عليكَ بِهَدْيِ الرسولِ الكريمِ ... ومِنهاجِ قرآنِكَ المُحْكَمِ
تحرَّكْ فأَنتَ العزيزُ الكريمُ ... ولو أثَّرَ القيدُ فِي المِعْصَمِ
فلا تَتَنَازَلْ ولا تَنْحَرِفْ ... ولا تتشاءَمْ ولا تَسْأَمِ
ولا تَكُ مِنْ مَعشرٍ تافهٍ ... يَقِيسُ السعَادَةَ بالدِّرْهَمِ
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
مقدمة ... 3
ثانيا: الاعتصام بالله عز وجل ... 6
واعتصموا بالله هو مولاكم ...................................... ... 7
ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ................... ... 14
كونوا أنصار الله ............................................... ... 23
الزموا الطاعة فإنها حصن المجاهد ................................ ... 27
للخطيئة أثرها في النصر والهزيمة ................................. ... 37
متى نقضتم عهد الله سلط عليكم عدوكم ....................... ... 49
وعزة الله للأواب عنوان ....................................... ... 56
ثالثا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 65
القطب الأعظم في الدين ...................................... ... 66
__________
(1) الطاهر بن عاشور: مقال لمصطفى عاشور - إسلام أون لاين (نقلا عن المعجم الجامع في تراجم العلماء)(1/119)
من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدِّ شرط الله فيها ............. ... 71
قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم ................................ ... 78
لولا ينهاهم الربانيون .......................................... ... 88
أولئك سيرحمهم الله ........................................... ... 98
كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ................................ ... 101
فإنْ يتركوهم وما أرادوا هَلَكوا جميعًا ........................... ... 110
واصبر على ما أصابك ......................................... ... 116
مآثر يزهو بها التاريخ .......................................... ... 119
ترقبوا..
الجزء الثالث من
درة اليقين
في
أسباب النصر والتمكين
قريبا
بمشيئة الله عز وجل(1/120)